" صفحة رقم 318 "
لقول الجمهور . والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة ، وهي في التقدير : فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت ، والواقعة هي القيامة ، وقد تقدم في ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( أن بعضهم قال : هي صخرة بيت المقدس .
الحاقة : ( 16 ) وانشقت السماء فهي . . . . .
( وَانشَقَّتِ السَّمَاء ( : أي انفطرت وتميز بعضها من بعض ، ( فَهِىَ يَوْمَئِذٍ إِذْ ( انشقت ، ( وَاهِيَةٌ ( : ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة ، ( أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ( ، أو منخرقة ، كما يقال : وهي السقاء انخرق . وقيل انشقاقها لنزول الملائكة ، قال تعالى : ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً ). وقيل : انشقاقها لهول يوم القيامة .
الحاقة : ( 17 ) والملك على أرجائها . . . . .
( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ( ، قال ابن عباس : على حافاتها حين تنشق ، والظاهر أن الضمير في حافاتها عائد على السماء . وقال ابن جبير والضحاك : على حافات الأرض ، ينزلون إليها يحفظون أطرافها ، وإن لم يجر لها ذكر قريب . كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفاً على حافات الأرض ، ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ، ثم ملائكة كل سماء ، فكلما ندّ أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها . ) وَالْمَلَكُ ( : اسم جنس يراد به الملائكة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين قولك : ) وَالْمَلَكُ ( ، وبين أن يقال : والملائكة ؟ قلت : الملك أعم من الملائكة . ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة ؟ انتهى . ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة ، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما ، ولذلك صح الاستثناء منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما . وأما دعواه أنه أعم منه بقوله : ألا ترى الخ ، فليس دليلاً على دعواه ، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد ، بخلاف من ملائكة ، فإن من دخلت على جمع منكر ، فعم كل جمع جمع من الملائكة ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة . لو قلت : ما في الدار من رجال ، جاز أن يكون فيها واحد ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد .
والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من ، وإنما جيء به مفرداً لأنه أخف ، ولأن قوله : ) عَلَى أَرْجَائِهَا ( يدل على الجمع ، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد ، بل في أوقات . والمراد ، والله تعالى أعلم ، أن الملائكة على أرجائها ، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات . وقال الزمخشري : يعني أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها . انتهى . والضمير في فوقهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى ، لأنه يراد به الجنس ، قال معناه الزمخشري . وقيل : يعود على الملائكة الحاملين ، أي فوق رؤوسهم . وقيل : على العالم كلهم . والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله : ) ثَمَانِيَةٌ ( أملاك ، أي ثمانية أشخاص من الملائكة ؛ وعن الضحاك : ثمانية صفوف ؛ وعن الحسن ، الله أعلم كم هم ، أثمانية صفوف أم ثمانية أشخاص ؟ وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالاً متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحاً .
الحاقة : ( 18 ) يومئذ تعرضون لا . . . . .
( يَوْمَئِذٍ ( : أي يوم إذٍ كان ما ذكر ، ( تُعْرَضُونَ ( : أي للحساب ، وتعرضون هو جواب قوله : ) فَإِذَا نُفِخَ ). فإن كانت النفخة هي الأولى ، فجاز ذلك لأنه اتسع في اليوم فجعل ظرفاً للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها ؛ وإن كانت النفخة هي الثانية ، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله : ) فَيَوْمَئِذٍ ( معطوف على فإذا ، و ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( بدل من ) فَيَوْمَئِذٍ ( ، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة . والخطاب في ) تُعْرَضُونَ ( لجميع العالم المحاسبين . وعن عبد الله : رأى موسى في القيامة عرضتان فيهما معاذير وتوقيف وخصومات ، وثالثة تتطاير فيها الصحف للإيمان والشمائل . وقرأ الجمهور : ) لاَ تَخْفَى ( بتاء التأنيث ؛ وعلي وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن مقسم عن عاصم وابن سعدان : بالياء ، ( خَافِيَةٌ ( : سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا .
قوله عز وجل : ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(8/318)
" صفحة رقم 319 "
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ ).
الحاقة : ( 19 ) فأما من أوتي . . . . .
أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض . ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب . وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب . قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : ) هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور ؟ فلا يناسب دخول النار . وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا . فالبصريون يعملون اقرؤا ، والكوفيون يعملون هاؤم ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم . وقرأ الجمهور : ) كِتَابيَهْ ( ، و ) حِسَابِيَهْ ( في موضعيهما و ) مَالِيَهْ ( و ) سُلْطَانِيَهْ ( ، وفي القارعة : ) ماهيه ( بإثبات هاء السكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف . وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في ) ماهيه ( في القارعة ؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن . وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله .
الحاقة : ( 20 ) إني ظننت أني . . . . .
( إِنّى ظَنَنتُ ( : أي أيقنت ، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً .
الحاقة : ( 21 ) فهو في عيشة . . . . .
( فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( : ذات رضا . وقال أبو عبيدة والفراء : راضية مرضية كقوله : ) مِن مَّاء دَافِقٍ ( ، أي مدفوق .
الحاقة : ( 22 ) في جنة عالية
) فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( : أي مكاناً وقدراً .
الحاقة : ( 23 ) قطوفها دانية
) قُطُوفُهَا ( : أي ما يجني منها ، ( دَانِيَةٌ ( : أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها .
الحاقة : ( 24 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( : أي يقال ، و ) هَنِيئَاً ( ، تقدم الكلام عليه في أول النساء . وقال الزمخشري : هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو هنيتم هنيئاً على المصدر . انتهى فقوله : أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين ، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك ، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً . ) بِمَا أَسْلَفْتُمْ ( : أي قدمتم من العمل الصالح ، ( فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَةِ ( : يعني أيام الدنيا . وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع : أيام الصوم ، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى . والظاهر العموم في قوله : ) بِمَا أَسْلَفْتُمْ ( : أي من الأعمال الصالحة .
الحاقة : ( 25 - 26 ) وأما من أوتي . . . . .
( يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( : لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه ، تمنى أنه لم يعطه ، وتمنى أنه لم يدر حسابه ، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه ، إذ كان عليه لا له .
الحاقة : ( 27 ) يا ليتها كانت . . . . .
( يا ليتها ( : أي الموتة التي متها في الدنيا ، ( حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( : أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث ولم أعذب ؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا ، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة ، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع ؟
الحاقة : ( 28 ) ما أغنى عني . . . . .
( مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ ( : يجوز أمن يكون نفياً محضاً ، أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه ؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه .
الحاقة : ( 29 ) هلك عني سلطانيه
) هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ( : أي حجتي ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي . وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا . وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن ، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله : ) هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ).
الحاقة : ( 30 ) خذوه فغلوه
) خُذُوهُ ( : أي يقال للزبانية ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( : أي اجعلوا في عنقه غلاًّ ،
الحاقة : ( 31 ) ثم الجحيم صلوه
) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( ، قال الزمخشري : ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر . وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( ، وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النحاة . وأما قوله : لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح ، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه : أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصاً بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة .
الحاقة : ( 32 ) ثم في سلسلة . . . . .
( ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا ( : أي قياسها ومقدار طولها ، ( سَبْعُونَ ذِرَاعاً ( : يجوز أن يراد ظاهره من العدد ، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها(8/319)
" صفحة رقم 320 "
وإن لم يبلغ هذا العدد . قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر : بذراع الملك . وقال نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعاً ، في كل باع كما بين مكة والكوفة ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح . وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هي . وقيل : بالذراع المعروف ، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله . وقال ابن عباس : لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص . ) فَاْسْلُكُوهُ ( : أي ادخلوه ، كقوله : ) فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ ( ، والظاهر أنه يدخله في السلسلة ، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطاً حتى تعمه . وقيل : في الكلام قلب ، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره ، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه ، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره ، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه . وقال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى ثم : الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة . انتهى . وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول ، وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية ، وأنه أولاً يؤخذ فيغل . ولما لم يعذب بالعجلة ، صارت له استراحة ، ثم جاء تصلية الجحيم ، فكان ذلك أبلغ في عذابه ، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلاً ، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولاً معذباً في النار ، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان ، فيجد بذلك بعض تنفس . فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب ، حيث صار لا حراك له ولا انتقال ، وأنه يضيق عليه غاية ، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية .
الحاقة : ( 33 ) إنه كان لا . . . . .
( أنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ ( : بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله ، وإنه تعليل مستأنف ، كأن قائلاً قال : لم يعذب هذا العذاب البليغ . وقيل : ) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ ( ،
الحاقة : ( 34 ) ولا يحض على . . . . .
وعطف ) وَلاَ يَحُضُّ ( على ) لاَ يُؤْمِنُ ( داخل في العلة ، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين ، إذ جعل قرين الكفر ، وهذا حكم ترك الحض ، فكيف يكون ترك الإطعام ؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين . وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه ، إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار ؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم ، وما أحسن ما قيل فيهم : على مكثريهم رزق من يعتريهم
وعند المقلين السماحة والبذل
وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر ؟ وقيل : هو منع الكفار . وقولهم : ) أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( ، يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى ، كما صرح به في قوله تعالى : ) لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ).
الحاقة : ( 35 ) فليس له اليوم . . . . .
( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ( : أي صديق ملاطف وادّ ، ( الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ). وقيل : قريب يدفع عنه .
الحاقة : ( 36 ) ولا طعام إلا . . . . .
( وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( ، قال ابن عباس : هو صديد أهل النار . وقال قتادة وابن زيد : هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه . وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار . وقيل : هو شيء يجري من أهل النار ، يدل على هذا قوله في الغاشية : ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( ، فهما شيء واحد أو متداخلان . قيل : ويجوز أن يكونا متباينين ، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها ، وله خبر ليس . وقال المهدوي : ولا يصح أن يكون هاهنا ، ولم يبين ما المانع من ذلك . وتبعه القرطبي في ذلك وقال : لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاماً غيره ، وهاهنا متعلق بما في له من معنى الفعل . انتهى . وإذا كان ثم غيره من الطعام ، وكان الأكل غير أكل آخر ، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين . وأما إن كان الضريع هو الغسلين ، كما قال بعضهم ، فلا تناقض ، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد ، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره ، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا ، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر ، وهو العامل في ههنا ، وهو عامل معنوي ، فلا يتقدم معموله عليه . فلو كان(8/320)
" صفحة رقم 321 "
العامل لفظياً جاز ، كقوله تعالى : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( ، فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن .
الحاقة : ( 37 ) لا يأكله إلا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْخَاطِئُونَ ( ، اسم فاعل من خطىء ، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك ، والمخطىء الذي يفعله غير متعمد . وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في نقل : بياء مضمومة بدلاً من الهمزة . وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع : بخلاف عنه ، بضم الطاء دون همز ، فالظاهر اسم فاعل من خطىء كقراءة من همز . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله . انتهى . فيكون اسم فاعل من خطا يخطو ، كقوله تعالى : ) طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( ، ( وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( خطا إلى المعاصي .
قوله عز وجل : ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ).
الحاقة : ( 38 - 39 ) فلا أقسم بما . . . . .
تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، وقراءة الحسن : لأقسم بجعلها لا ما دخلت على أقسم . وقيل : لا هنا نفي للقسم ، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، وعلى هذا فجوابه جواب القسم . قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد قال : إن محمداً ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال : كاهن . فردّ الله عليهم بقوله : ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( ، عام في جميع مخلوقاته . وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة . وقيل : ) وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( : الملائكة . وقيل : الأجساد والأرواح .
الحاقة : ( 40 ) إنه لقول رسول . . . . .
( إنَّهُ ( : أي إن القرآن ، ( لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قول الأكثرين ،
الحاقة : ( 41 - 42 ) وما هو بقول . . . . .
ويؤيده : ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ( وما بعده ، ونسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعامل به . وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة : هو جبريل عليه السلام ، إذ هو الرسول عن الله .
ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر ؛ ولا قول كاهن لأنه ورد بسبب الشياطين . وانتصب ) قَلِيلاً ( على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف ، أي تؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً . وكذا التقدير في : ) قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( ، والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا الله . وقال ابن عطية : ونصب ) قَلِيلاً ( بفعل مضمر يدل عليه ) تُؤْمِنُونَ ( ، وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو حق صواب . انتهى . أمّا قوله : ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح ، لأن ذلك الفعل الدال عليه ) تُؤْمِنُونَ ( إما أن تكون ما نافية أو مصدرية ، كما ذهب إليه . فإن كانت نافية ، فذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً ، فيكون التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون ، والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضربه ، على تقدير ما أضرب زيداً ما أضربه ، وإن كانت مصدرية كانت ما في موضع رفع على الفاعلية بقليلاً ، أي قليلاً إيمانكم ، ويبقى قلى لاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ؛ وإما في موضع رفع على الابتداء ، فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبله منصوب لا مرفوع . وقال الزمخشري : والقلة في معنى العدم ، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة ، والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم . انتهى . ولا يراد بقليلاً هنا النفي المحض ، كما زعم ، وذلك لا يكون إلا في أقل نحو : أقل رجل يقول ذلك إلا زيد ، وفي قل نحو : قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد . وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قوله :
قليل بها الأصوات إلا بغاتها(8/321)
" صفحة رقم 322 "
أما إذا كان منصوباً نحو : قليلا ضربت ، أو قليلاً ما ضربت ، على أن تكون ما مصدرية ، فإن ذلك لا يجور ، لأنه في : قليلاً ضربت منصوب بضربت ، ولم تستعمل العرب قليلاً إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير . وأمّا في قليلاً ما ضربت على أن تكون ما مصدرية ، فتحتاج إلى رفع قليل ، لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما ؛ والجحدري والحسن : يؤمنون ، يذكرون : بالياء فيهما ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وأبيّ : بياءين .
الحاقة : ( 43 ) تنزيل من رب . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَنزِيلَ ( بالرفع ؛ وأبو السمال : تنزيلاً بالنصب .
وقرأ الجمهور : ) وَلَوْ تَقَوَّلَ ( ، والتقول أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئاً لو يقله . وقرأ ذكوان وابنه محمد : يقول مضارع قال ، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور .
الحاقة : ( 44 ) ولو تقول علينا . . . . .
وقرىء : ولو تقول مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامه ، وهو بعض ، إن كان قرىء مرفوعاً ؛ وإن كان قرىء منصوباً بعلينا قام مقام الفاعل ، والمعنى : ولو تقول علينا متقول . ولا يكون الضمير في تقول عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لاستحالة وقوع ذلك منه ، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام . والأقاويل جمع الجمع ، وهو أقوال كبيت وأبيات ، قال الزمخشري : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول .
الحاقة : ( 45 ) لأخذنا منه باليمين
والظاهر أن قوله : ) بِالْيَمِينِ ( المراد به الجارحة . فقال الحسن : المعنى قطعناه عبرة ونكالاً ، والباء على هذا زائدة . وقيل : الأخذ على ظاهرة . قال الزمخشري : والمعنى : ولو ادعى مدع علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين على اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحفه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه .
ومعنى ) لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( : لأخذنا بيمينه ،
الحاقة : ( 46 ) ثم لقطعنا منه . . . . .
كما أن قوله تعالى ) لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( : لقطعنا وتينة . انتهى ، وهو قول للمتقدّمين حسنه الزمخشري بتكثير ألفاظه ومصاغها قالوا : المعنى لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصغار ، كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل : يا غلام خذ بيده وافعل كذا ، قاله أو قريباً منه الطبري . وقيل : اليمين هنا مجاز . فقال ابن عباس : باليمين : بالقوّة ، معناه لنلنا منه عقابه بقوّة منا . وقال مجاهد : بالقدرة . وقال السدّي : عاقبناه بالحق ومن على هذا صلة . وقال نفطويه : لقبضنا بيمينه عن التصرّف . وقيل : لنزعنا منه قوّته . وقيل : لأذللناه وأعجزناه .
( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( ، قال ابن عباس : وهو نياط القلب . وقال مجاهد : حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع . والموتون الذي قطع وتينه ، والمعنى : لو تقول علينا لأذهبنا حياته معجلاً ،
الحاقة : ( 47 ) فما منكم من . . . . .
والضمير في عنه الظاهر أنه يعود على الذي تقول ، ويجوز أن يعود على القتل ، أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه ، والخطاب في منكم للناس ، والظاهر في ) حَاجِزِينَ ( أن يكون خبراً لما على لغة الحجاز ، لأن حاجزين هو محط الفائدة ، ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد ، فلما تقدّم صار حالاً ، وفي جواز هذا نظر . أو يكون للبيان ، أو تتعلق بحاجزين ، كما تقول : ما فيك زيد راغباً ، ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما . وقال الحوفي والزمخشري : حاجزين نعت لأحد على اللفظ ، وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومنه : ) لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( ، وقوله : ) لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( ، مثل بهما الزمخشري ، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما . وفي الحديث : ( لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم ) . وإذا كان حاجزين نعتاً فمن أحد مبتدأ والخبر منكم ، ويضعف هذا القول ، لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم ، فلا يتسلط على الحجز . وإذا كان حاجزين خبراً . تسلط النفي على ه وصار المعنى : ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك .
الحاقة : ( 48 ) وإنه لتذكرة للمتقين
) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ ( : أي وإن القرآن أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الحاقة : ( 49 ) وإنا لنعلم أن . . . . .
( وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ ( : وعيد ، أي مكذبين بالقرآن أو بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الحاقة : ( 50 ) وإنه لحسرة على . . . . .
( وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ ( : أي القرآن من حيث كفروا به ، ويرون من آمن به ينعم وهم معذبون . وقال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، عاد الضمير على(8/322)
" صفحة رقم 323 "
المصدر المفهوم من قوله : ) مُّكَذّبِينَ ( ، كقوله :
إذا نهي السفيه جرى إليه
أي للسفه .
الحاقة : ( 51 - 52 ) وإنه لحق اليقين
) وإَنَّهُ ( : أي وإن القرآن ، ( لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( : وسبق الكلام على إضافة حق إلى اليقين في آخر الواقعة .(8/323)
" صفحة رقم 324 "
70
( سورة المعارج )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُأوِيهِ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ وَالَّذِينَ فِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ ( ) ) 2
المعارج : ( 1 - 2 ) سأل سائل بعذاب . . . . .
العهن : الصوف دون تقييد ، أو الأحمر ، أو المصبوغ ألواناً ، أقوال . الفصيلة ، قال ثعلب : الآباء الأدنون . وقال أبو عبيدة : الفخذ . وقيل : عشيرته الأقربون . لظى : اسم لجهنم ، أو للدركة الثانية من دركاتها ، وهو علم منقول من اللظى ، وهو اللهب ، ومنع الصرف هو للعلمية والتأنيث . والشوى جمع شواة ، وهي جلدة الرأس . وقال الأعشى(8/324)
" صفحة رقم 325 "
قالت قتيلة ما له
قد جللت سبباً شواته
والشوى : جلد الإنسان ، والشوى : قوائم الحيوان ، والشوى : كل عضو ليس بمقتل ، ومنه : رمى فأشوى ، إذا لم يصب المقتل ، والشوى : زوال المال ، والشوى : الشيء الهين اليسير . الهلع : الفزع والاضطراب السريع عند مس المكروه ، والمنع السريع عند مس الخير ، من قولهم : ناقة هلوع : سريعة السير . وقال أبو عبيدة : الهلع في اللغة أشد الحرص وأسوأ الجزع . الجزع : الخوف ، قال الشاعر :
جزعت ولم أجزع من البين مجزعاً
عزين جمع عزة ، قال أبو عبيدة : جماعات في تفرقة ، وقيل : الجمع اليسير كثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة . وقال الأصمعي : في الدار عزون : أي أصناف من الناس ، وقال عنترة : وقرن قد تركت لذي ولي
عليه الطير كالعصب العزين
وقال الداعي : أخليفة الرحمن إن عشيرتي
أمسى سوامهم عزين فلولا
وقال الكميت : ونحن وجندل باغ تركنا
كتائب جندل شتى عزينا
وقال آخر : ترانا عنده والليل داج
على أبوابه حلقاً عزينا
وقال آخر : فلما أن أبين على أصاح
ضرجن حصاة أشتاتاً عزينا
وعزة مما حذفت لامه ، فقيل : هي واو وأصله عزوة ، كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى ، فهم متفرقون . ويقال : عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره . وقيل : لامها هاء والأصل عزهة وجمعت عزة بالواو والنون ، كما جمعت سنة وأخواتها بذلك ، وتكسر العين في الجمع وتضم . وقالوا : عزى على فعل ، ولم يقولوا عزات .
( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرا(8/325)
" صفحة رقم 326 "
ً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ وَالَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَاداتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ).
هذه السورة مكية . قال الجمهور : نزلت في النضر بن الحرث حين قال : ) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الآية . وقال الربيع بن أنس : في أبى جهل . وقيل : في جماعة من قريش قالوا : ) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ ( الآية . وقيل : السائل نوح عليه السلام ، سأل العذاب على الكافرين . وقيل : السائل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، سأل الله أن يشدد وطأته على مضر الحديث ، فاستجاب الله دعوته .
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها : أنه لما ذكر ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ ( ، أخبر عن ما صدر عن بعض المكذبين بنقم الله ، وإن كان السائل نوحاً عليه السلام ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فناسب تكذيب المكذبين أن دعا عليهم رسولهم حتى يصابوا فيعرفوا صدق ما جاءهم به .
وقرأ الجمهور : ) سَأَلَ ( بالهمز : أي دعا داع ، من قولهم : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، فالباء على أصلها . وقيل : المعنى بحث باحث واستفهم . قيل : فالباء بمعنى عن . وقرأ نافع وابن عامر : سال بألف ، فيجوز أن يكون قد أبدلت همزته ألفاً ، وهو بدل على غير قياس ، وإنما قياس هذا بين بين ، ويجوز أن يكون على لغة من قال : سلت أسأل ، حكاها سيبويه . وقال الزمخشري : هي لغة قريش ، يقولون : سلت تسال وهما يتسايلان . انتهى . وينبغي أن يتثبت في قوله إنها لغة قريش . لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ : وسلوا الله من فضله ، إذ لا يجوز أن يكون من سال التي عينها واو ، إذ كان يكون ذلك وسلوا الله مثل خافوا الأمر ، فيبعد أن يجيء ذلك كله على لغة غير قريش ، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم . ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما يتسايلان بالياء ، وأظنه من الناسخ ، وإنما هو يتساولان بالواو . فإن توافقت النسخ بالياء ، فيكون التحريف من الزمخشري ؛ وعلى تقدير أنه من السؤال ، فسائل اسم فاعل منه ، وتقدم ذكر الخلاف في السائل من هو . وقيل : سال من السيلان ، ويؤيده قراءة ابن عباس : سال سايل . وقال زيد بن ثابت : في جهنم واد يسمى سايلاً وأخبر هنا عنه . قال ابن عطية : ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه . وقال الزمخشري : والسيل مصدر في معنى السايل ، كالغور بمعنى الغاير ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب ، فذهب بهم وأهلكهم . انتهى . وإذا كان السائل هم الكفار ، فسؤالهم إنما كان على أنه كذب عندهم ، فأخبر تعالى أنه واقع وعيداً لهم . وقرأ أبي وعبد الله : سال سال مثل مال بإلقاء صورة الهمزة وهي الياء من الخط تخفيفاً . قيل : والمراد سائل . انتهى . ولم يحك هل قرأ بالهمز أو بإسقاطها ألبتة . فإن قرأ بالهمز فظاهر ، وإن قرأ بحذفها فهو مثل شاك شايك ، حذفت عينه واللام جرى فيها الإعراب ، والظاهر تعلق بعذاب بسال . وقال أبو عبد الله الرازي : يتعلق بمصدر دل عليه فعله ، كأنه(8/326)
" صفحة رقم 327 "
قيل : ما سؤاله ؟ فقيل : سؤاله بعذاب ، والظاهر اتصال الكافرين بواقع فيكون متعلقاً به ، واللام للعلة ، أي نازل بهم لأجلهم ، أي لأجل كفرهم ، أو على أن اللام بمعنى على ، قاله بعض النحاة ، ويؤيده قراءة أبيّ : على الكافرين ، أو على أنه في موضع ، أي واقع كائن للكافرين . وقال قتادة والحسن : المعنى : كأن قائلاً قال : لمن هذا العذاب الواقع ؟ فقيل : للكافرين . وقال الزمخشري : أو بالفعل ، أي دعاء للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني ، وهو ثاني ما ذكر من توجيهه في الكافرين . قال هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي هو للكافرين ، وكان قد قرر أن سال ضمن معنى دعا ، فعدى تعديته كأنه قال : دعا داع بعذاب من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : ) يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ ءامِنِينَ ). انتهى . فعلى ما قرره أنه متعلق بدعا ، يعني بسال ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل أي هو للكافرين ؟ هذا لا يصح . فقد أخذ قول قتادة والحسن وأفسده ، والأجود أن يكون من الله متعلقاً بقوله : ) وَاقِعٍ ). و ) لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( : جملة اعتراض بين العامل والمعمول . وقيل : يتعلق بدافع ، أي من جهته إذا جاء وقته .
المعارج : ( 3 ) من الله ذي . . . . .
( ذِي الْمَعَارِجِ ( : المعارج لغة الدرج وهنا استعارة ، قال ابن عباس وقتادة : في الرتب والفواضل والصفات الحميدة . وقال ابن عباس أيضاً : المعارج : السموات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء . وقال الحسن : هي المراقي إلى السماء ، وقيل : المعارج : الغرف ، أي جعلها لأوليائه في الجنة
المعارج : ( 4 ) تعرج الملائكة والروح . . . . .
تعرج ، قراءة الجمهور بالتاء على التأنيث ، وعبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش بالياء . ) وَالرُّوحُ ( ، قال الجمهور ؛ هو جبريل ، خص بالذكر تشريفاً ، وأخر هنا بعد الملائكة ، وقدم في قوله : ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً ). وقال مجاهد : ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم ، لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا . وقيل : الروح ملك غير جبريل عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس . وقال قبيصة بن ذؤيب : روح الميت حين تقبض إليه ، الضمير عائد على الله تعالى ، أي إلى عرشه وحيث يهبط منه أمره تعالى . وقيل : إليه ، أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل بره وكرامته ، والظاهر أن المعنى : أنها تعرج في يوم من أيامكم هذه ، ومقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة ، قاله ابن عباس وابن إسحاق وجماعة من الحذاق منهم القاضي منذر بن سعيد . فإن كان العارج ملكاً ، فقال مجاهد : المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش ؛ ومن جعل الروح جنس أنواع الحيوان ، قال وهب : المسافة من وجه الأرض إلى منتهى العرش . وقال عكرمة والحكم : أراد مدة الدنيا ، فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي ، أي تعرج في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية . وقال ابن عباس أيضاً : هو يوم القيامة . وقيل : طوله ذلك العدد ، وهذا ظاهر ما جاء في الحديث في مانع الزكاة فإنه قال : ) فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ). وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري : قدره في رزاياه وهوله وشدته للكفار ذلك العدد . وفي الحديث : ( يخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة ) . وقال عكرمة مقدار : ما ينقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا . وقال الحسن : نحوه . وقيل : لا يراد حقيقة العدد ، إنما أريد به طول الموقف يوم القيامة وما فيه من الشدائد ، والعرب تصف أيام الشدة بالطول وأيام الفرح بالقصر . قال الشاعر يصف أيام الفرح والسرور : ويوم كظل الرمح قصر طوله
دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
والظاهر أن قوله : ) فِى يَوْمٍ ( متعلق بتعرج . وقيل : بدافع ، والجملة من قوله : ) تَعْرُجُ ( اعتراض .
المعارج : ( 5 ) فاصبر صبرا جميلا
ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب ، وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب ، وكانوا قد وعدوا به ، أمره تعالى بالصبر ، ومن جعله من السيلان فالمعنى : أنه أشرف على الوقوع ،
المعارج : ( 6 ) إنهم يرونه بعيدا
والضمير في ) يَرَوْنَهُ ( عائد على العذاب أو على اليوم ، إذا أريد به يوم القيامة ، وهذا الاستبعاد هو على سبيل الإحالة منهم .
المعارج : ( 7 ) ونراه قريبا
) وَنَرَاهُ قَرِيباً ( : أي هيناً في قدرتنا ، غير بعيد علينا ولا متعذر ، وكل ما هو(8/327)
" صفحة رقم 328 "
آت قريب ، والبعد والقرب في الإمكان لا في المسافة .
المعارج : ( 8 ) يوم تكون السماء . . . . .
( يَوْمَ تَكُونُ ( : منصوب بإضمار فعل ، أي يقع يوم تكون ، أو ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( كان كيت وكيت ، أو بقريباً ، أو بدل من ضمير نراه إذا كان عائداً على يوم القيامة . وقال الزمخشري : أو هو بدل من ) فِى يَوْمٍ ( فيمن علقه بواقع . انتهى . ولا يجوز هذا ، لأن ) فِى يَوْمٍ ( وإن كان في موضع نصب لا يبدل منه منصوب لأن مثل هذا ليس من المواضع التي تراعي في التوابع ، لأن حرف الجر فيها ليس بزائد ولا محكوم له بحكم الزائد كرب ، وإنما يجوز مراعاة المواضع في حرف الجر الزائد كقوله : يا بني لبينى لستما بيد
إلا يداً ليست لها عضد
ولذلك لا يجوز : مررت بزيد الخياط ، على مراعاة موضع بزيد ، ولا مررت بزيد وعمراً ، ولا غضبت على زيد وجعفراً ، ولا مررت بعمرو أخاك على مراعاة الموضع . فإن قلت : الحركة في يوم تكون حركة بناء لا حركة إعراب ، فهو مجرور مثل ) فِى يَوْمٍ ). قلت : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين لأنه أضيف إلى معرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين ، فيتمشى كلام الزمخشري على مذهبهم إن كان استحضره وقصده . ) كَالْمُهْلِ ( : تقدم الكلام عليه في سورة الدخان ، ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ( ، كما في القارعة ،
المعارج : ( 9 ) وتكون الجبال كالعهن
لما نسفت طارت في الجو كالصوف المنفوش إذا طيرته الريح . قال الحسن : تسير الجبال مع الرياح ، ثم تنهد ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف فتصير هباء .
المعارج : ( 10 - 11 ) ولا يسأل حميم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يَسْئَلُ ( مبيناً للفاعل ، أي لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده . وقال قتادة : لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة . وقيل : لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئاً ليأسه عن ذلك . وقيل : شفاعة . وقيل : حميماً منصوب على إسقاط عن ، أي عن حميم ، لشغله بما هو فيه . وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي : بخلاف عن ثلاثتهم مبنياً للمفعول ، أي لا يسأل إحضاره كل من المؤمن والكافر له سيما يعرف بها . وقيل : عن ذنوب حميمه ليؤخذ بها .
( يُبَصَّرُونَهُمْ ( : استئناف كلام . قال ابن عباس : في المحشر يبصر الحميم حميمه ، ثم يفرّ عنه لشغله بنفسه . وقيل : يبصرونهم في النار . وقيل : يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يبصرونهم صفة ، أي حميماً مبصرين مصرفين إياهم . انتهى . و ) حَمِيمٌ حَمِيماً ( : نكرتان في سياق النفي فيعمان ، ولذلك جمع الضمير . وقرأ قتادة : يبصرونهم مخففاً مع كسر الصاد ، أي يبصر المؤمن الكافر في النار ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد : يبصر الكافر من أضله في النار عبرة وانتقاماً وحزناً . ) يَوَدُّ الْمُجْرِمُ ( : أي الكافر ، وقد يندرج فيه المؤمن العاصي الذي يعذب . وقرأ الجمهور : ) مِنْ عَذَابِ ( مضافاً ؛ وأبو حيوة بفتحها .
المعارج : ( 12 ) وصاحبته وأخيه
) وَصَاحِبَتِهِ ( : زوجته ،
المعارج : ( 13 ) وفصيلته التي تؤويه
) وَفَصِيلَتِهِ ( : أقرباؤه الأدنون ، ( تُوِيهِ ( : تضمه انتماء إليها ، أو لياذاً بها في النوائب .
المعارج : ( 14 ) ومن في الأرض . . . . .
( ثُمَّ يُنجِيهِ ( : عطف على ) يَفْتَدِي ( : أي ينجيه بالافتداء ، أو من تقدم ذكرهم . وقرأ الزهري : تؤويه وتنجيه بضم الهاءين .
المعارج : ( 15 - 17 ) كلا إنها لظى
) كَلاَّ ( : ردع لودادتهم الافتداء وتنبيه على أنه لا ينفع . ) أَنَّهَا ( : الضمير للقصة ، و ) لَظَى نَزَّاعَةً ( : تفسير لها أو للنار الدال عليها ، ( عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ( و ) لَظَى ( بدل من الضمير ، و ) نَزَّاعَةً ( خبر إن أو خبر مبتدأ ، و ) لَظَى ( خبر إن : أي هي نزاعة ، أو بدل من ) لَظَى ( ، أو خبر بعد خبر . كل هذا ذكروه ، وذلك على قراءة الجمهور برفع نزاعة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً ترجم عنه الخبر . انتهى . ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر وليس هذا من المواضع التي يفسر فيها المفرد الضمير ، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصة ، لحملت كلامه عليه . وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم وحفص واليزيدي : في اختياره نزاعة بالنصب ، فتعين أن يكون لظى خبراً لأن ، والضمير في إنها عائد على النار الدال عليها عذاب ، وانتصب نزاعة على الحال المؤكدة أو(8/328)
" صفحة رقم 329 "
المبينة ، والعامل فيها لظى ، وإن كان عاملاً لما فيه من معنى التلظي ، كما عمل العلم في الظرف في قوله :
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
أي : المشهور بعض الاحيان ، أو على الاختصاص للتهويل ، قاله الزمخشري ، وكأنه يعني القطع . فالنصب فيها كالرفع فيها ، إذا أضمرت هو فتضمر هنا ، أعني تدعو ، أي حقيقة يخلق الله فيها الكلام كما يخلقه في الأعضاء ، قاله ابن عباس وغيره ، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم . وقال الزمخشري : وكما خلقه في الشجرة . انتهى ، فلم يترك مذهب الاعتزال . وقال الخليل : مجاز عن استدنائها منهم وما توقعه بهم من عذابها . وقال ثعلب : يهلك ، تقول العرب : دعا الله ، أي أهلكك ، وحكاه الخليل عن العرب ، قال الشاعر : ليالي يدعوني الهوى فأجيبه
وأعين من أهوى إليّ رواني
وقال آخر : ترفع للعيان وكل فج
طباه الدعى منه والخلاء
ويصف ظليماً وطباه : أي دعاه والهوى ، والدعى لا يدعوان حقيقة ، ولكنه لما كان فيهما ما يجذب صاراً داعيين مجازاً . وقيل : تدعو ، أي خزنة جهنم ، أضيف دعاؤهم إليها ، ( مَنْ أَدْبَرَ ( عن الحق وتولى ،
المعارج : ( 18 ) وجمع فأوعى
) وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( : أي وجمع المال ، فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حق الله فيه ، وهذه إشارة إلى كفار أغنياء . وقال الحكيم : كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول : سمعت الله يقول : ) وَجَمَعَ فَأَوْعَى
المعارج : ( 19 - 21 ) إن الإنسان خلق . . . . .
( إِنَّ الإنسَانَ ( جنس ، ولذلك استثنى منه ) إِلاَّ الْمُصَلّينَ ). وقيل : الإشارة إلى الكفار . وقال ثعلب : قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع ؟ فقلت : قد فسره الله تعالى ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس . انتهى .
ولما كان شدة الجزع والمنع متمكنة في الإنسان ، جعل كأنه خلق محمولاً عليهما كقوله : ) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( ، والخير المال .
المعارج : ( 22 - 23 ) إلا المصلين
) إِلاَّ الْمُصَلّينَ ( : استثناء كما قلنا من الإنسان ، ولذلك وصفهم بما وصفهم به من الصبر على المكاره والصفات الجميلة التي حاوروها . وقرأ الجمهور : ) عَلَى صَلاَتِهِمْ ( بالإفراد ؛ والحسن جمعاً ؛ وديمومتها ، قال الجمهور : المواظبة عليها . وقال ابن مسعود : صلاتها لوقتها . وقال عقبة بن عامر : يقرون فيها ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً ، ومنه المال الدائم . وقال الزمخشري : دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها ولا يشتغلون عنها بشيء ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وأدائها ويحفظونها من الإحباط باقتران المآثم ، والدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها . انتهى ، وهو جوابه لسؤاله : فإن قلت : كيف قال : ) عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ( ،
المعارج : ( 33 - 34 ) والذين هم بشهاداتهم . . . . .
ثم قال : ) عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ). وأقول : إن الديمومة على الشيء والمحافظة عليه شيء واحد ، لكنه لما كانت الصلاة هي عمود الإسلام بولغ في التوكيد فيها ، فذكرت أول خصال الإسلام المذكورة في هذه السورة وآخرها ، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني الإسلام عليها ، والصفات التي بعد هذه تقدم تفسيرها ، ومعظمها في سورة قد أفلح المؤمنون . وقرأ الجمهور : بشهادتهم على الإفراد ؛ والسلمي وأبو عمر وحفص : على الجمع .
قوله عز وجل : ) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ ).
المعارج : ( 36 ) فمال الذين كفروا . . . . .
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يصلي عند الكعبة ويقرأ(8/329)
" صفحة رقم 330 "
القرآن ، فكانوا يحتفون به حلقاً حلقاً يسمعون ويستهزؤون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة ، كما يقول محمد ، فلندخلنها قبلهم ، فنزلت . وتقدم شرح ) مُهْطِعِينَ ( في سورة إبراهيم على ه السلام ، ومعنى ) قَبْلِكَ ( : أي في الجهة التي تليك ،
المعارج : ( 37 ) عن اليمين وعن . . . . .
( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ ( : أي عن يمينك وشمالك . وقيل : نزلت في المستهزئين الخمسة .
المعارج : ( 38 ) أيطمع كل امرئ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَن يُدْخَلَ ( مبنياً للمفعول ؛ وابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن عليّ وطلحة والمفضل عن عاصم : مبنياً للفاعل .
المعارج : ( 39 ) كلا إنا خلقناهم . . . . .
( كَلاَّ ( : ردّ وردع لطماعيتهم ، إذ أظهروا ذلك ، وإن كانوا لا يعتقدون صحة البعث ، ولا أن ثم جنة ولا ناراً .
( إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ ( : أي أنشأناهم من نطفة مذرة ، فنحن قادرون على إعادتهم وبعثهم يوم القيامة ، وعلى الاستبدال بهم خيراً منهم ، قيل : بنفس الخلق ؛ ومنته عليهم بذلك يعطي الجنة ، بل بالإيمان والعمل الصالح . وقال قتادة في تفسيرها : إنما خلقت من قذر يا ابن آدم . وقال أنس : كان أبو بكر إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم ومروره في مجرى البول مرتين ، وكذلك نطفة في الرحم ، ثم علقة ، ثم مضغة إلى أن يخرج فيتلوث في نجاسته طفلاً . فلا يقلع أبو بكر حتى يقذر أحدنا نفسه ، فكأنه قيل : إذا كان خلقكم من نطفة مذرة ، فمن أين تتشرّفون وتدعون دخول الجنة قبل المؤمنين ؟ وأبهم في قوله : ) مّمَّا يَعْلَمُونَ ( ، وإن كان قد صرّح به في عدّة مواضع إحالة على تلك المواضع . ورأى مطرف بن عبد الله بن الشخير المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أوّلك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت تحمل عذرة . فمضى المهلب وترك مشيته .
المعارج : ( 40 ) فلا أقسم برب . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( ، لا نفياً وجمعهما وقوم بلام دون ألف ؛ وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري : المشرق والمغرب مفردين .
المعارج : ( 41 ) على أن نبدل . . . . .
أقسم تعالى بمخلوقاته على إيجاب قدرته ، على أن يبدل خيراً منهم ، وأنه لا يسبقه شيء إلى ما يريد .
المعارج : ( 42 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا . . . . .
( فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ ( : وعيد ، وما فيه من معنى المهادنة هو منسوخ بآية السيف . وقرأ أبو جعفر وابن محيصن : يلقوا مضارع لقى ، والجمهور : ) يُلَاقُواْ ( مضارع لاقى ؛
المعارج : ( 43 ) يوم يخرجون من . . . . .
والجمهور : ) يُخْرِجُونَ ( مبنياً للفاعل . قال ابن عطية : وروى أبو بكر عن عاصم مبنياً للمفعول ، و ) يَوْمٍ ( بدل من ) يَوْمَهُمُ ). وقرأ الجمهور : نصب بفتح النون وسكون الصاد ؛ وأبو عمران الجوني ومجاهد : بفتحهما ؛ وابن عامر وحفص : بضمهما ؛ والحسن وقتادة : بضم النون وسكون الصاد . والنصب : ما نصب للإنسان ، فهو يقصده مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم ، وغلب في الأصنام حتى قيل الأنصاب . وقال أبو عمرو : هو شبكة يقع فيها الصيد ، فيسارع إليها صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد منها . وقال مجاهد : نصب علم ، ومن قرأ بضمهما ، قال ابن زيد : أي أصنام منصوبة كانوا يعبدونها . وقال الأخفش : هو جمع نصب ، كرهن ورهن ، والأنصاب جمع الجمع . يوفضون : يسرعون . وقال أبو العالية : يستبقون إلى غايات . قال الشاعر : فوارس ذبيان تحت الحديد
كالجن يوفضن من عبقر
وقال آخر في معنى الإسراع : لأنعتنّ نعامة ميفاضا
حرجاء ظلت تطلب الاضاضا
وقال ابن عباس وقتادة : يسعون ، وقال الضحاك : ينطلقون ، وقال الحسن : يبتدرون .
المعارج : ( 44 ) خاشعة أبصارهم ترهقهم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) ذِلَّةٌ ( منوناً . ) ذَلِكَ الْيَوْمُ ( : برفع الميم مبتدأ وخبر . وقرأ عبد الرحمن بن خلاد ، عن داود بن سالم ، عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن ، عن التمار : ذلة بغير تنوين مضافاً إلى ذلك ، واليوم بخفض الميم .(8/330)
" صفحة رقم 331 "
71
( سورة نوح )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِىإِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّىأَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاٌّ رْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ( ) ) 2
نوح : ( 1 ) إنا أرسلنا نوحا . . . . .
الأطوار : الأحوال المختلفة ، قال : فإن أفاق فقد طارت عمايته
والمرء يخلق طوراً بعد أطوار(8/331)
" صفحة رقم 332 "
ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسراً : أسماء أصنام أعلام لها اتخذها قوم نوح عليه السلام آلهة .
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيراً منهم ، وكانوا قد سخروا من المؤمنين وكذبوا بما وعدوا به من العذاب ، ذكر قصة نوح وقومه معه ، وكانوا أشد تمرّداً من المشركين ، فأخذهم الله أخذ استئصال حتى أنه لم يبق لهم نسلاً على وجه الأرض ، وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة ، فحذر تعالى قريشاً أن يصيبهم عذاب يستأصلهم إن لم يؤمنوا . ونوح عليه السلام أوّل نبي أرسل ، ويقال له شيخ المرسلين ، وآدم الثاني ، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ، وهو إدريس بن برد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام . ) أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ ( : يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون تفسيرية . ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ، قال أبو عباس : عذاب النار في الآخرة . وقال الكلبي : ما حل بهم من الطوفان .
نوح : ( 4 ) يغفر لكم من . . . . .
( مّن ذُنُوبِكُمْ ( : من للتبعيض ، لأن الإيمان إنما يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده . وقيل : لابتداء الغاية . وقيل : زائدة ، وهو مذهب ، قال ابن عطية : كوفي ، وأقول : أخفشي لا كوفي ، لأنهم يشترطون أن تكون بعد من نكرة ، ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره ، والأخفش يجيز مع الواجب وغيره . وقيل : النكرة والمعرفة . وقيل : لبيان الجنس ، ورد بأنه ليس قبلها ما تبينه .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : ) وَيُؤَخّرْكُمْ ( مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ؟ وهل هذا إلا تنافض ؟ قلت : قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى : أي إلى وقت سماه الله تعالى وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف . ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد ، لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير . انتهى . وقال ابن عطية : ) وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( مما تعلقت المعتزلة به في قولهم أن للإنسان أجلين ، قالوا : لو كان واحداً محدداً لما صح التأخير ، إن كان الحد قد بلغ ، ولا المعاجلة إن كان لم يبلغ ، قال : وليس لهم في الآية تعلق ، لأن المعنى : أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم ، لكن قد سبق في الأزل أنهم ، إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير ، وإما ممن قضى له بالكفر والمعاجلة . ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله : ) إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ ( ، وجواب لو محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون ، لبادرتم إلى عبادته وتقواه وطاعتي فيما جئتكم به منه تعالى .
نوح : ( 5 - 6 ) قال رب إني . . . . .
ولما لم يجيبوه وآذوه ، شكا إلى ربه شكوى من يعلم أن الله تعالى عالم بحالة مع قومه لما أمر بالإنذار فلم يجد فيهم .
( قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( : أي جميع الأوقات من غير فتور ولا تعطيل في وقت . ولما ازدادوا إعراضاً ونفاراً عن الحق ، جعل الدعاء هو الذي زادهم ، إذ كان سبب الزيادة ، ومثله : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ).
نوح : ( 7 - 9 ) وإني كلما دعوتهم . . . . .
( وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ( : أي ليتربوا فتغفر لهم ، ذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح في إعراضهم عنه ، ( جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءاذانِهِمْ ( : الظاهر أنه حقيقة ، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه ، وتغطوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح . ويجوز أن يكون كناية عن المبالغة في إعراضهم عن ما دعاهم إليه ، فهم بمنزلة من سد سمعه ومنع بصره ، ثم كرر صفة دعائه بياناً وتوكيداً . لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ، ذكر عموم حالات الدعاء . و ) كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ ( : يدل على تكرر الدعوات ، فلم يبين حالة دعائه أولاً ، وظاهرة أن(8/332)
" صفحة رقم 333 "
يكون دعاؤه إسراراً ، لأنه يكون ألطف بهم . ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه ، فلما لم يجد له الإسرار ، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهاراً صلتاً بالدعاء إلى الله لا يحاشي أحداً ، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار . قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما . انتهى . وكثيراً كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد ، ولا نعلمه من كلام غيره ، وانتصب جهاراً بدعوتهم ، وهو أحد نوعي الدعاء ، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى .
قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً : أي مجاهراً به ، أو مصدراً في موضع الحال ، أي مجاهراً .
نوح : ( 10 ) فقلت استغفروا ربكم . . . . .
ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار ، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا ، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم ، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل ، كما قال تعالى : ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( ، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ ( ، ( وَإِنَّ لُوطاً اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُم ). قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا ، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها .
نوح : ( 11 - 12 ) يرسل السماء عليكم . . . . .
وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم ، فبدأهم في وعده بالمطر ، ثم ثنى بالأموال والبنين . و ) مُّدْرَاراً ( : من الدر ، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادراً ، فيشترك فيه المذكر والمؤنث . تقول : رجل محدامة ومطرابة ، وامرأة محدابة ومطرابة ، والسماء المطلة ، قيل : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله : إذا نزل السماء بأرض قوم البيت ،
نوح : ( 13 ) ما لكم لا . . . . .
الرجاء بمعنى الخوف ، وبمعنى الأمل . فقال أبو عبيدة وغيره : ) لاَ تَرْجُونَ ( : لا تخافون ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان ، والكلام على هذا وعيد وتخويف . وقيل : لا تأملون له توقيراً : أي تعظيماً . قال الزمخشري : والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال ما يكون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، ولله بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة ، أو لا تخافون الله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا . وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة . وعن ابن عباس : لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب منه وقر إذا ثبت واستقر . انتهى . وقيل : ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقاراً ، ويكون على هذا منهم كأنه يقول : تؤده منكم وتمكناً في النظر ، لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس . انتهى . وفي التحرير قال سعيد بن جبير : ما لكم لا ترجون لله ثواباً ولا تخافون عقاباً ، وقاله ابن جبير عن ابن عباس . وقال العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة ؛ وعن مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة . قال قطرب : هذه لغة حجازية ، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال . انتهى . ) لاَ تَرْجُونَ ( : حال ،
نوح : ( 14 ) وقد خلقكم أطوارا
) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ( : جملة حالية تحمل على الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، إذ في هذه الجملة الحالية التنبيه على تدريج الإنسان في أطوار لا يمكن أن تكون إلا من خلقه تعالى . قال ابن عباس ومجاهد من : النطفة والعلقة والمضغة . وقيل :(8/333)
" صفحة رقم 334 "
في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم . وقيل : صبياناً ثم شباباً ثم شيوخاً وضعفاء ثم أقوياء . وقيل : معنى ) أَطْوَاراً ( : أنواعاً صحيحاً وسقيماً وبصيراً وضريراً وغنياً وفقيراً .
قوله عز وجل : ) أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ).
نوح : ( 15 ) ألم تروا كيف . . . . .
لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود . وتقدم شرح ) طِبَاقاً ( في سورة الملك ،
نوح : ( 16 ) وجعل القمر فيهن . . . . .
والضمير في فيهن عائد على السموات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر ، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة . ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته وباهر مصنوعاته . ) سِرَاجاً ( يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ، ولذلك ؛ جاء هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، والضياء أقوى من النور .
نوح : ( 17 ) والله أنبتكم من . . . . .
والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها . وانتصاب نباتاً بأنبتكم مصدراً على حذف الزائد ، أي إنباتاً ، أو على إضمار فعل ، أي فنبتم نباتاً . وقال الزمخشري : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم . انتهى . ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره .
نوح : ( 18 ) ثم يعيدكم فيها . . . . .
( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ( : أي يصيركم فيها مقبورين ، ( وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ( : أي يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي ذلك واقع لا محالة .
نوح : ( 19 ) والله جعل لكم . . . . .
( بِسَاطاً ( تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه . وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة ،
نوح : ( 20 ) لتسلكوا منها سبلا . . . . .
( سُبُلاً ( : ظرفاً ، ( فِجَاجاً ( : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة الحج .
نوح : ( 21 ) قال نوح رب . . . . .
ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ، ( قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم : ) وَأَطِيعُونِ ( ، وكان قد أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه ) أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ( ، وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين . ) وَاتَّبِعُواْ ( : أي عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام . ) مَن لَّمْ يَزِدْهُ ( : أي رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سبباً في خسارتهم في الآخرة ، وكان سبب هلاكهم في الدنيا . وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافغ ، في رواية خارجة : وولده بضم الواو وسكون اللام ؛ والسلميّ والحسن أيضاً وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ، كبخل وبخل ؛ والحسن أيضاً والجحدري وقتادة وزر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام . وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت :
يا بكر آمنة المبارك بكرها
من ولد محصنة بسعد الأسعد(8/334)
" صفحة رقم 335 "
نوح : ( 22 ) ومكروا مكرا كبارا
) وَمَكَرُواْ ( : يظهر أنه معطوف على صلة من ، وجمع الضمير في ) وَمَكَرُواْ ( ، ( وَقَالُواْ ( على المعنى ؛ ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه السلام . وقرأ الجمهور : ) كُبَّاراً ( بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير . قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر : والمرء يلحقه بقنان الندى
خلق الكريم وليس بالوضاء
وقول الآخر : بيضاء تصطاد القلوب وتستبي
بالحسن قلب المسلم القراء
ويقال : حسان وطوال وجمال . وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روي عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : كباراً ، بكسر الكاف وفتح الباء . وقال ابن الأنباري : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل . انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع .
نوح : ( 23 ) وقالوا لا تذرن . . . . .
( وَقَالُواْ ( : أي كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي جميعهم بعضهم لبعض ، ( لاَ تَذَرُنَّ ( : لا تتركن ، ( ءالِهَتَكُمْ ( : أي أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصبوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ودّ وما عطف عليه ؛ وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان . قال عروة بن الزبير : كانوا بني آدم ، وكان ودّاً أكبرهم وأبرهم به . وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم ونوح عليهما السلام ، ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت . قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها . وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب . فكان ودّ لكلب بدومة الجندل ؛ وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان ؛ ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج ؛ ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد ؛ ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير ؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ؛ وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا أصنامهم بها . قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء . انتهى . وقال الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني : يريش الله في الدنيا ويبري
ولا يبري يغوث ولا يريش
وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود . سمي وداً لودهم له . انتهى . وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : وداً ، بضم الواو ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بفتحها ، قال الشاعر :(8/335)
" صفحة رقم 336 "
حياك ودّ فإنا لا يحل لنا
لهو النساء وأن الدين قد عزما
وقال آخر :
فحياك ودّ من هداك لعسه
وخوص باعلاذي فضالة هجه
قيل : أراد ذلك الصنم . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ ( بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية . وقرأ الأشهب : ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما . قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولاً ، فلذلك صرفهما . فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل . انتهى ، وهذا تخبيط . أما أولاً ، فلا يمكن أن يكونا فعولاً ، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق ؛ وأما ثانياً ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ، لأن يفعلا لم يجىء اسماً ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه . وقال ابن عطية : وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا بالصرف ، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل . انتهى . وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره ؛ والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله ) وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً ( ، وبعده ) وَنَسْراً ( ، كما قالوا في صرف ) سلاسلاً ( ، و ) قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ ( ، لمن صرف ذلك للمناسبة . وقال الزمخشري : وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات ) وُدّاً وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( ، كما قرىء : ) وَضُحَاهَا ( بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج . انتهى . وكان الزمخشري لو يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها .
نوح : ( 24 ) وقد أضلوا كثيرا . . . . .
( وَقَدْ أَضَلُّواْ ( : أي الرؤساء المتبوعون ، ( كَثِيراً ( : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال . وقال الحسن : ) وَقَدْ أَضَلُّواْ ( : أي الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى : ) رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن . ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيراً ، دعا عليهم بالضلال ، فقال : ) وَلاَ تَزِدِ ( : وهي معطوفة على ) وَقَدْ أَضَلُّواْ ( ، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيراً ، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله : ) وَقَدْ أَضَلُّواْ ( ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس ، خلافاً لمن يدعي التناسب . وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف ) وَلاَ تَزِدِ ( على ) رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( ، أي قال هذين القولين . ) إِلاَّ ضَلاَلاً ( ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته ؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه . انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال . قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال : ) وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ). وقال ابن بحر : ) إِلاَّ ضَلاَلاً ( : إلا عذاباً ، قال كقوله : ) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ). وقيل : إلا خسراناً . وقيل : إلا ضلالاً في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم .
نوح : ( 25 ) مما خطيئاتهم أغرقوا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ( جمعاً بالألف والتاء مهموزاً ؛ وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد ؛ والجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزاً ؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم ؛(8/336)
" صفحة رقم 337 "
وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه السلام قد أجيبت . وما زائدة للتوكيد ؛ ومن ، قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب . وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم . وقرأ الجمهور : ) أُغْرِقُواْ ( بالهمزة ؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ، ( فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( : أي جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّاً وعشياً ، كما قال : ) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ). قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر . انتهى . وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب .
( فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً ( : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ،
نوح : ( 26 - 27 ) وقال نوح رب . . . . .
ودعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه ) لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ ( ، قاله قتادة . وعنه أيضاً : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال : ) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ( الآية ، فقوله : ) وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضاً محمد بن كعب والربيع وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعاً في إيمانهم عاطفاً عليهم . وفي الحديث : ( أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون ) . ودياراً : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد . وعن السدّي : من سكن داراً . وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار . انتهى . والدار أيضاً من الدور ، وألفها منقلبة عن واو . ) وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر .
نوح : ( 28 ) رب اغفر لي . . . . .
ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه ، ثم للؤمنين ، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات . وقرأ الجمهور : ) والوالديّ ( ، والظاهر أنهما أبوه لملك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش . وقيل : هما آدم وحوّاء . وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال ، فأما أن يكون خص أباه الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام . وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام . وقرأ الحسن بن عليّ ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد ، يعني ساماً وحاماً . ) وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ ( ، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي ؛ وعن ابن عباس أيضاً : شريعتي ، استعار لها بيتاً ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه . وقيل : سفينته . وقيل : داره . ) وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة . والتبار : الهلاك .(8/337)
" صفحة رقم 338 "
72
( سورة الجن )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِىإِلَى الرُّشْدِ فَأامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاٌّ نَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً وَأَنَّا لاَ نَدْرِىأَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاٌّ رْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاٌّ رْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِىأَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّىأَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً ( )(8/338)
" صفحة رقم 339 "
الجن : ( 1 ) قل أوحي إلي . . . . .
الجد : لغة العظمة والجلال ، وجد في عيني : عظم وجل . وقال أبو عبيدة والأخفش : الملك والسلطان ، والجد : الحظ ، والجد : أبو الأب . الحرس : اسم جمع ، الواحد حارس ، كغيب واحده غائب ، وقد جمع على أحراس . قال الشاعر :
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر كشاهد وأشهاد ، والحارس : الحافظ للشيء يرقبه . القدد : السير المختلفة ، الواحدة قدة . قال الشاعر : القابض الباسط الهادي بطاعته
في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد
وقال الكميت : جمعت بالرأي منهم كل رافضة
إذ هم طرائق في أهوائهم قدد
تحرى الشيء : طلبه باجتهاد وتوخاه وقصده . الغدق : الكثير . اللبد ، جمع لبدة : وهو تراكم بعضه فوق بعض ، ومنه لبدة الأسد . ويقال للجراد الكثير المتراكم : لبد ، ومنه اللبد الذي يفرش ، يلبد صوفه : دخل بعضه في بعض .
( قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ).
هذه السورة مكية . ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام ، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) آخر رسول إلى الأرض ، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح ، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء ، وكان ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من القرآن هادياً إلى الرشد ، وقد سمعته العرب ، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم ، أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح ، تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان ، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان ، هذا وهم من غير جنس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت ، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس ، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً ، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وقرأ الجمهور : ) قُلْ أُوحِىَ ( رباعياً ؛ وابن أبي عبلة والعتكي ، عن أبي عمرو ، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي : وحى ثلاثياً ، يقال : وحى وأوحى بمعنى واحد . قال العجاج(8/339)
" صفحة رقم 340 "
وحى إليها القرار فاستقرت . وقرأ زيد بن عليّ وجوية ، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضاً : أحى بإبدال الواو همزة ، كما قالوا في وعد أعد . وقال الزمخشري : وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . انتهى . وليس كما ذكر ، بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً وحشواً وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو . قال الزمخشري : وقد أطلقه المازني في المكسور أيضاً ، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه . انتهى ، وهذا تكثير وتبجح . وكان يذكر هذا في ) وِعَاء أَخِيهِ ( في سورة يوسف . وعن المازني في ذلك قولان : أحدهما : القياس كما قال ، والآخر : قصر ذلك على السماع .
و ) أَنَّهُ اسْتَمَعَ ( في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ؛ أي استماع ) نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ ( ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى : ) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ ( ، وهي قصة واحدة . وقيل : قصتان ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوي ، والسورة التي استمعوها ، قال عكرمة : ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ). وقيل : سورة الرحمن . ولم تتعرض الآية ، لا هنا ولا في سورة الأحقاف ، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام . ويظهر من الحديث ( أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن ، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام ، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه . فلما أصبح ، إذا هو جاء من قبل حراء ، وفيه أتاني داعي الجن ، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم . والمرة الآخرى : كان معه ابن مسعود ، وقد استندب ( صلى الله عليه وسلم ) ) من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن ، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود ، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب ، فخط على ه خطاً وقال : لا تجاوزه . فانحدر عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم ) . الحديث . ويدل على أنهما قصتان ، اختلافهم في العدد ، فقيل : سبعة ، وقيل : تسعة ، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق . وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، وأين سبعة من اثني عشر ألفاً ؟
) فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً ( : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، ووصفوا قرآناً بقولهم ) عَجَبًا ( وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة ، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه ، وحسن مبانيه ، ودقة معانيه ، وغرابة أسلوبه ، وبلاغة مواعظه ، وكونه مبايناً لسائر الكتب . والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره .
الجن : ( 2 ) يهدي إلى الرشد . . . . .
( يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ ( : أي يدعو إلى الصواب . وقيل : إلى التوحيد والإيمان . وقرأ الجمهور : ) الرُّشْدِ ( بضم الراء وسكون الشين ؛ وعيسى : بضمهما ؛ وعنه أيضاً : فتحهما . ) يَهْدِى إِلَى ( : أي بالقرآن . ولما كان الإيمان به متضمناً الإيمان بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا : ) وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً ).
وقرأ الحرميان والأبوان : بفتح الهمزة من قوله :
الجن : ( 3 - 5 ) وأنه تعالى جد . . . . .
( وَأَنَّهُ تَعَالَى ( وما بعده ، وهي اثنتا عشرة آية آخرها ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ( ؛ وباقي السبعة : بالكسر . فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله : ) إِنَّا سَمِعْنَا ( ، فهي داخلة في معمول القول . وأما الفتح ، فقال أبو حاتم : هو على ) أَوْحَى ( ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . انتهى . وهذا لا يصح ، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت ) أَوْحَى ( ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم ، كقوله : ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ). ألا ترى أنه لا يلائم ) أُوحِىَ إِلَيْكَ ( ، ( إِنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ ( ، وكذلك باقيها ؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله : ) يَهْدِى إِلَى ( : أي وبأنه ، وكذلك باقيها ، وهذا جائز على مذهب الكوفيين ، وهو الصحيح . وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله : ) وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ((8/340)
" صفحة رقم 341 "
وقال مكي : هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن . وقال الزجاج : وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به ، لأنه معناه : صدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : فآمنا به أنه تعالى جد ربنا ؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال : فتحت أن لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض ، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو : صدقنا وشهدنا .
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه ، نحو قوله : ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( ، وتبعهما الزمخشري فقال : ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي . انتهى . ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا . وقرأ الجمهور : ) جَدُّ رَبّنَا ( ، بفتح الجيم ورفع الدال ، مضافاً إلى ربنا : أي عظمته ، قاله الجمهور . وقال أنس والحسن : غناه . وقال مجاهد : ذكره . وقال ابن عباس : قدره وأمره . وقرأ عكرمة : جد منوباً ، ربنا مرفوع الباء ، كأنه قال : عظيم هو ربنا ، فربنا بدل ، والجد في اللغة العظيم . وقرأ حميد بن قيس : جد بضم الجيم مضافاً ومعناه العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى : تعالى ربنا العظيم . وقرأ عكرمة : جداً ربنا ، بفتح الجيم والدال منوناً ، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل ، أصله ) تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا ). وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً : جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً ، ربنا رفع . قال ابن عطية : نصب جداً على الحال ، ومعناه : تعالى حقيقة ومتمكناً . وقال غيره : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : تعاليا جداً ، وربنا مرفوع بتعالى . وقرأ ابن السميفع : جدي ربنا ، أي جدواه ونفعه . وقرأ الجمهور : ) يَقُولُ سَفِيهُنَا ( : هو إبليس . وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه ، وإبليس مقدم السفهاء . والشطط : التعدي وتجاوز الجد . قال الأعشى : أينتهون ولن ينهى ذوو شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويقال : أشط في السوم إذا أبعد فيه ، أي قولا هو في نفسه شطط ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى . ) وَأَنَّا ظَنَنَّا ( الآية : أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن ، واعتقدنا أن أحداً لا يجترىء على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد ، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم . وقرأ الجمهور : ) أَن لَّن تَقُولَ ( مضارع قال ؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم : تقول مضارع تتقول ، حذفت إحدى التاءين وانتصب ) كَذِبًا ( في قراءة الجمهور بتقول ، لأن الكذب نوع من القول ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي قولا كذباً ، أي مكذوباً فيه . وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول ، لأنه هو الكذب ، فصار كقعدت جلوساً .
الجن : ( 6 ) وأنه كان رجال . . . . .
( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ ). روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه . فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك : لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئاً . قال مقاتل : أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب . والظاهر أن الضمير المرفوع في ) فَزَادوهُمْ ( عائد على ) رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ ( ، إذ هم المحدث عنهم ، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير . ) فَزَادوهُمْ ( أي الإنس ، ( رَهَقاً ( : أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارم وإعجاباً بحيث قالوا : سدنا الإنس والجن ، وفسر قوم الرهق بالإثم . وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى : لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقاً(8/341)
" صفحة رقم 342 "
قال معناه : ما لم يغش محرماً ، والمعنى : زادت الإنس الجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم الله تعالى . وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد : ) فَزَادوهُمْ ( ، أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم ، فازدروهم واحتقروهم . وقال ابن جبير : ) رَهَقاً ( : كفراً . وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ، فالمعنى : وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي ، وهذا قول غريب .
الجن : ( 7 ) وأنهم ظنوا كما . . . . .
( وَأنَّهُمْ ( : أي كفار الإنس ، ( ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ ( أيها الجن ، يخاطب به بعضهم بعضاً . وظنوا وظننتم ، كل منهما يطلب ، ( أَن لَّن يَبْعَثَ ( ، فالمسألة من باب الإعمال ، وإن هي المخففة من الثقيلة . وقيل : الضمير في وأنهم يعود على الجن ، والخطاب في ظننتم لقريش ، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن : ) أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ( : الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق ، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر . وقيل : بعث القيامة .
الجن : ( 8 ) وأنا لمسنا السماء . . . . .
( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء ( : أصل اللمس المس ، ثم استعير للتطلب ، والمعنى : طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت . الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد ، والجملة من ) مُلِئَتْ ( في موضع الحال ، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين ، فملئت في موضع المفعول الثاني . وقرأ الأعرج : مليت بالياء دون همز ، والجمهور : بالهمز ، وشديداً : صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع ، كما قال :
أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً
ولو لحظ المعنى لقال : شداداً بالجمع . والظاهر أن المراد بالحرس : الملائكة ، أي حافظين من أن تقربها الشياطين ، وشهباً جمع شهاب ، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا . قيل : ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس ، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو :
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وقوله : ) فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ( يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت .
الجن : ( 9 ) وأنا كنا نقعد . . . . .
( مَقَاعِدَ ( جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة . ) فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ ( ، الآن ظرف زمان للحال ، ويستمع مستقبل ، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال ، كما قال :
سأسعى الآن إذ بلغت اناها
فالمعنى : فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي ، ( يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ( : أي يرصده فيحرقه ، هذا لمن استمع . وأما السمع فقد انقطع ، كما قال تعالى : ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( ، والرجم كان في الجاهلية ، وذلك مذكور(8/342)
" صفحة رقم 343 "
في أشعارهم ، ويدل عليه الحديث حين رأى عليه الصلاة والسلام نجماً قد رمي به ، قال : ( ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ) ؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم . قال أوس بن حجر : وانقض كالدري يتبعه
نقع يثور بحالة طنبا
وقال عوف بن الجزع : فرد علينا العير من دون إلفه
أو الثور كالدري يتبعه الدم
وقال بشر بن أبي حازم : والعير يرهقها الغبار وجحشها
ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
قال التبريزي : وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم ، وقال معمر : قلت للزهري : أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي ؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت قوله : ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ( ؟ فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الجاحظ : القول بالرمي أصح لقوله : ) فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ( ، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت ، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق . وقال الزمخشري : تابعاً للجاحظ ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة ، فلذلك ) نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ ( : أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها . انتهى . وهذا كله يبطل قول من قال : إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو إحدى آياته . والظاهر أن رصداً على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع .
الجن : ( 10 ) وأنا لا ندري . . . . .
ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا : ) وإنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ ( ، وهو كفرهم بهذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فينزل بهم الشر ، ( أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ( ، فيؤمنون به فيرشدون . وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى ، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى .
الجن : ( 11 ) وأنا منا الصالحون . . . . .
( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ( : أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره . ) وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ( : أي دون الصالحين ، ويقع دون في مواضع موقع غير ، فكأنه قال : ومنا غير صالحين . ويجوز أن يريدوا : ومنادون ذلك في الصلاح ، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح ، ودون في موضع الصفة لمحذوف ، أي ومنا قوم دون ذلك . ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن ، حتى في الجمل ، قالوا : منا ظعن ومنا أقام ، يريدون : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، والجملة من قوله : ) كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ( تفسير للقسمة المتقدمة . قال ابن عباس وعكرمة وقتادة : أهواء مختلفة ، وقيل : فرقاً مختلفة . وقال الزمخشري : أي كنا ذوي مذاهب مختلفة ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة ، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله :
كما عسل الطريق الثعلب أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه . انتهى . وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه ، إذ حذف ذوي ومثل . وأما التقدير الثالث ، وهو(8/343)
" صفحة رقم 344 "
أن ينتصب على إسقاط في ، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة ، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ ، فلا يخرج القرآن عليه .
الجن : ( 12 ) وأنا ظننا أن . . . . .
( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ ( : أي أيقنا ، ( فِى الاْرْضِ ( : أي كائنين في الأرض ، ( وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( : أي من الأرض إلى السماء ، وفي الأرض وهرباً حالان ، أي فارين أو هاربين .
الجن : ( 13 ) وأنا لما سمعنا . . . . .
( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ( : وهو القرآن ، ( بِهِ إِنَّهُ ( : أي بالقرآن ، ( فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( : أي فهو لا يخاف . وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور : ) فَلاَ يَخَافُ ( ، وخرجت قراءتهما على النفي . وقيل : الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء ، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء ، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ ، أي فهو لا يخاف . والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة . ) بَخْساً ( ، قال ابن عباس : نقص الحسنات ، ( وَلاَ رَهَقاً ( ، قال : زيادة في السيئات ، ( وَلاَ رَهَقاً ( ، قيل : تحميل ما لا يطاق . وقال الزمخشري : أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد ، فلا يخاف جزاءهما . ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل : ) تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ). انتهى . وقرأ الجمهور : ) بَخْساً ( بسكون الخاء ؛
الجن : ( 14 - 15 ) وأنا منا المسلمون . . . . .
وابن وثاب : بفتحها . ) وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ( : أي الكافرون الجائزون عن الحق . قال مجاهد وقتادة : والبأس القاسط : الظالم ، ومنه قول الشاعر : قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
وهمو اقسطوا على النعمان
وجاء هذا التقسيم ، وإن كان قد تقدم ) وَأَنَّا مِنَّا ( ، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام . والظاهر أن ) الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ ( إلى آخر الشرطين من كلام الجن . وقال ابن عطية : الوجه أن يكون ) فَمَنْ أَسْلَمَ ( مخاطبة من الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات . وقرأ الأعرج : رشداً ، بضم الراء وسكون الشين ؛ والجمهور : بفتحهما . وقال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعيداً ، أي فأولئك تحروا رشداً ، فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه .
قوله عز وجل : ) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً ).
الجن : ( 16 ) وأن لو استقاموا . . . . .
هذا من جملة الموحى المندرج تحت ) أُوحِىَ إِلَيْكَ ( ، وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في ) اسْتَقَامُواْ ( ، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز : هو عائد على قوله : ) فَمَنْ أَسْلَمَ ( ، والطريقة : طريقة الكفر ، أي لو كفر من أسلم من الناس ) لاَسْقَيْنَاهُم ( إملاء لهم واستدراجاً واستعارة ، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير : هو عائد على القاسطين ، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق ، لأنعمنا عليهم ، نحو قوله : ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ). وقيل : الضمير في استقاموا عائد على الخلق كلهم ، وأن هي(8/344)
" صفحة رقم 345 "
المخففة من الثقيلة . ) لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( : كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش . وقال بعضهم : المال حيث الماء . وقرأ الجمهور : ) غَدَقاً ( بفتح الدال ؛ وعاصم في رواية الأعشى : بكسرها ؛ ويقال : غدقت العين تغدق غدقاً فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها .
الجن : ( 17 ) لنفتنهم فيه ومن . . . . .
( لِنَفْتِنَهُمْ ( : أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به ، أو لمنتحنهم ونستدرجهم ، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في ) اسْتَقَامُواْ ). وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو ؛ والجمهور : بكسرها . وقرأ الكوفيون : ) يَسْلُكْهُ ( بالياء ؛ وباقي السبعة : بالنون ؛ وابن جندب : بالنون من أسلك ؛ وبعض التابعين : بالياء من أسلك أيضاً ، وهما لغتان : سلك وأسلك ، قال الشاعر :
حتى إذا أسلكوهم في قائدة وقرأ الجمهور : ) صَعَداً ( بفتحتين ، وذو مصدر صعد وصف به العذاب ، أي يعلو المعذب ويغلبه ، وفسر بشاق . يقال : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقة . وقال عمر : ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح ، أي ما يشق عليّ . وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد : جبل في النار . وقال الخدري : كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت . وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من عذاب على حذف مضاف ، أي عذاب صعد . ويجوز أن يكون صعداً مفعول يسلكه ، وعذاباً مفعول من أجله . وقرأ قوم : صعداً بضمتين ؛ وابن عباس والحسن : بضم الصاد وفتح العين . قال الحسن : معناه لا راحة فيه .
الجن : ( 18 ) وأن المساجد لله . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ( ، بفتح الهمزة عطفاً على ) أَنَّهُ اسْتَمَعَ ( ، فهو من جملة الموحى . وقال الخليل : معنى الآية : ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ ( : أي لهذا السبب ، وكذلك عنده ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( ، ( فَلْيَعْبُدُواْ ( ، وكذلك ) وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ ( : أي ولأن هذه . وقرأ ابن هرمز وطلحة : وإن المساجد ، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل ، فالمعنى : فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته ، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة . وقال الحسن : كل موضع سجد فيه فهو مسجد ، كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن ، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة . وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها ، واحدها مسجد بفتح الجيم ، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان عد الجبهة والأنف واحداً وأبعد أيضاً من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ، وقال : إنه جمع مسجد وهو السجود . وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة ، فقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : المواضع كلها لله ، فاعبده حيث كنت . وقال ابن جبير : نزلت لأن الجن قالت : يا رسول الله ، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك ؟ فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ( بفتح الهمزة ، عطفاً على قراءتهم ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ( بالفتح . وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر . بكسرها على الاستئناف ؛
الجن : ( 19 ) وأنه لما قام . . . . .
وعبد الله هو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( يَدْعُوهُ ( : أي يدعو الله ) كَادُواْ ( : أي كاد الجن ، قال ابن عباس والضحاك : ينقضون عليه لاستماع القرآن . وقال الحسن وقتادة : الضمير في ) كَادُواْ ( لكفار قريش والعرب في اجتماعهم على رد أمره . وقال ابن جبير : المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون ، والضمير في ) كَادُواْ ( لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدون به في الصلاة . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل رسول الله أو النبي ؟ قلت : لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله ، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن نفسه ، جيء به على ما(8/345)
" صفحة رقم 346 "
يقتضيه التواضع والتذلل ؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبداً . ومعنى قام يدعوه : قام يعبده ، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته عليه السلام . ) كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( : أي يزدحمون عليه متراكمين ، تعجباً مما رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً ، وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره . انتهى ، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته . وقرأ الجمهور : ) لِبَداً ( بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة ، نحو : كسرة وكسر ، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ، ومنه قول عبد مناف بن ربيع : صافوا بستة أبيات وأربعة
حتى كأن عليهم جانباً لبداً
وقال ابن عباس : أعواناً . وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر : بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة ، كزبرة وزبر ؛ وعن ابن محيصن أيضاً : تسكين الباء وضم اللام لبداً . وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو : بضمتين جمع لبد ، كرهن ورهن ، أو جمع لبود ، كصبور وصبر . وقرأ الحسن والجحدري : بخلاف عنهما ، لبداً بضم اللام وشد الباء المفتوحة . قال الحسن وقتادة وابن زيد : لما قام الرسول للدعوة ، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره . انتهى . وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام ، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله منهم ، قاله الحسن . وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام .
الجن : ( 20 ) قل إنما أدعو . . . . .
وقرأ الجمهور : قال إنما أدعوا ربي : أي أعبده ، أي قال للمتظاهرين عليه : ) إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى ( : أي لم آتكم بأمر ينكر ، إنما أعبد ربي وحده ، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي . أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يعبد غيره . أو قال الجن لقومهم : ذلك حكاية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في ) كَادُواْ ). وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه : ) قُلْ ( : أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك ، وهم إما الجن وإما المشركون ، على اختلاف القولين في ضمير ) كَادُواْ ).
الجن : ( 21 ) قل إني لا . . . . .
ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم ، وجعل الضر مقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي ، إذ الغي ثمرته الضرر ، يمكن أن يكون المعنى : ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشد ، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله . قرأ الأعرج : رشداً بضمتين .
الجن : ( 22 ) قل إني لن . . . . .
ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم ، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى ، يفعل فيه ربه ما يريد ، وأنه لا يمكن أن يجبره منه أحد ، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه ، قال قريباً منه قتادة . وقال السدي : حرزاً . وقال الكلبي : مدخلاً في الأرض ، وقيل : ناصراً ، وقيل : مذهباً ومسلكاً ، ومنه قول الشاعر : يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية
عني وما من قضاء الله ملتحد
وقيل : في الكلام حذف وهو : قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك ، فقيل له : قل لن يجيرني . وقيل : هو جواب لقول وردان سيد الجن ، وقد ازدحموا عليه ، قال وردان : أنا أرحلهم عنك ، فقال : إني لن يجبرني أحد ، ذكره الماوردي .
الجن : ( 23 ) إلا بلاغا من . . . . .
( إِلاَّ بَلاَغاً ( ، قال الحسن : هو استثناء منقطع ، أي لن يجيرني أحد ، لكن إن بلغت رحمني بذلك . والإجارة للبلاغ مستعارة ، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته . وقيل على هذا المعنى : هو استثناء متصل ، أي لن يجيرني في أحد ، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله ، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى(8/346)
" صفحة رقم 347 "
البدل وهو الوجه ، لأن ما قبله نفياً ، وعلى البدل خرجه الزجاج . وقال أبو عبد الله الرازي : هذا الاستثناء منقطع ، لأنه لم يقل : ولم أجد ملتحداً بل ، قال : ) مِن دُونِهِ ( ؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله : ) مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( لأنه لا يكون من دون الله ، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه . وقال قتادة : التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، فأما الإيمان والكفر فلا أملك . انتهى ، وفيه بعد لطول الفصل بينهما . وقيل ، إلا في تقدير الانفصال : إن شرطية ولا نافية ، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه ، والتقدير : إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته ، وهذا كما تقول : إن لا قياماً قعوداً ، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً ، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله ، كما حذف في قوله : فطلقها فلست لها بكفء
وإلا يعل مفرقك الحسام
التقدير : وإن لا تطقها ، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه ، ومن لابتداء الغاية . وقال الزمخشري : تابعاً لقتادة ، أي لا أملك إلا بلاغاً من الله ، و ) قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى ( : جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه . انتهى . ) وَرِسَالَاتِهِ ( ، قيل : عطف على ) بَلاَغاً ( ، أي إلا أن أبلغ عن الله ، أو أبلغ رسالاته . الظاهر أن رسالاته عطف على الله ، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته . ) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( : أي بالشرك والكفر ، ويدل عليه قوله : ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ). وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّ لَهُ ( بكسر الهمزة . وقرأ طلحة : بفتحها ، والتقدير : فجزاؤه أن له . قال ابن خالويه : وسمعت ابن مجاهد يقول : ما قرأ به أحد وهو لحن ، لأنه بعد فاء الشرط . وسمعت ابن الأنباري يقول : هو ضراب ، ومعناه : فجزاؤه أن له نار جهنم . انتهى . وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت ، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ ، وكان ضعيفاً في النحو . وكيف يقول ما قرأ به أحد ؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به . وكيف يقول وهو لحن ؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر . وجمع ) خَالِدِينَ حِمْلاً ( على معنى من ، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله : ) يَعْصِ ( ، ( فَإِنَّ لَهُ ).
الجن : ( 24 ) حتى إذا رأوا . . . . .
( حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ ( : حتى هنا حرف ابتداء ، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ، ومع ذلك فيها معنى الغاية . قال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له ؟ قلت : بقوله ) يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( ، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ( من يوم بدر ، وإظهار الله له عليهم ، أو من يوم القيامة ، ( فَسَيَعْلَمُونَ ( حينئذ أنهم ) أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ). ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه لا يزالون على ما هم عليه ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ). قال المشركون : متى يكون هذا الموعد إنكاراً له ؟ فقيل : قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه ، فإن الله قد وعد ذلك ، وهو لا يخلف الميعاد . وأما وقته فلا أدري متى يكون ، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة . انتهى . وقوله : بم تعلق إن ؟ عنى تعلق حرف الجر ، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن درستوية ، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء ، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها ، وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح . وأما تقديره أنها تتعلق بقوله : ) يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( ، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة . وقال التبريزي : حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ، ولم يبين ما المحذوف . وقيل : المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة ، ( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ( ، أهم أم أهل الكتاب ؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم ،(8/347)
" صفحة رقم 348 "
والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون . فقوله : ) فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( هو وعيد لهم بالنار ، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله ، وهو معلق عنه لأن من استفهام . ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف . والجملة صلة لمن ، وتقديره : هو أضعف ، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً . قال مكحول : لم ينزل هذا إلا في الجن ، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس ، قال : وبلغ من تابع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليلة الجن سبعين ألفاً ، وفزعوا عند انشقاق الفجر .
الجن : ( 25 ) قل إن أدري . . . . .
ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به ، أهو قريب أم بعيد ؟ .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : ) أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً ( ، والأمد يكون قريباً وبعيداً ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : ) تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ( ؟ قلت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ( ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية ) ؟
الجن : ( 26 - 27 ) عالم الغيب فلا . . . . .
أي هو عالم الغيب . ) فَلاَ يُظْهِرُ ( : فلا يطلع ، و ) مِن رَّسُولٍ ( تبيين لمن ارتضى ، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة ، لا كل مرتضي ، وفي هذه إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل . وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط . انتهى . وقال ابن عباس : ) عَالِمُ الْغَيْبِ ( ، قال الحسن : ما غاب عن خلقه ، وقيل : الساعة . وقال ابن عباس : إلا بمعنى لكن ، فجعله استثناء منقطعاً . وقيل : إلا بمعنى ولا أي ، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب ، أو بدل من ربي . وقرىء : عالم بالنصب على المدح . وقال السدّي : علم الغيب ، فعلاً ماضياً ناصباً ، والجمهور : عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً . وقرأ الجمهور : ) فَلاَ يُظْهِرُ ( من أظهر ؛ والحسن : يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر ، ( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( : استثناء من أحداً ، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك ، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول ، ( وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ( : أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب . وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك .
وقال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، ثم ذكر استدلالاً على بطلان ما يقوله المنجم ، ثم قال باستحلال دم المنجم . وقال الواحدي : في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن . قال أبو عبد الله الرازي والواحدي : تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف ، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه ، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه ، لأن قوله : ) عَلَى غَيْبِهِ ( ليس فيه صفة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه ، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد ، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله : ) إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ( الآية : أي لا أدري وقت وقوع القيامة ، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد . و ) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى ( : استثناء منقطع ، كأنه قال : فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى من رسول ، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن .
قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والذي يدل عليه وجوه : أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وثانيها : إطباق الأمم على صحة علم التعبير ، فيخبر المعبر عن ما(8/348)
" صفحة رقم 349 "
يأتي في المستقبل ويكون صادقاً . وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها ، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك ، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال : فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة . ورابعها : أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة ، ليس هذا مختصاً بالأولياء ، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق ، وإن كان الكذب يقع منهم كثيراً . وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن ، وذلك بأطل . فقلنا : إن التأويل الصحيح ما ذكرناه . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه .
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب ، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع ، كما جاء في الحديث : ( إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة ) . وليس هذا من علم الغيب ، إذ تكلمت به الملائكة ، وتلقفها الجني ، وتلقفها منه الكاهن ؛ فالكاهن لم يعلم الغيب .
وأما تعبير المنامات ، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع ، بل على سبيل الحزر والتخمين ، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع .
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا ، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق ، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف .
وأما حكايته عن صاحب المعتبر ، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة . وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة ، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق .
وأما الكرامات ، فلا أشك في صدور شيء منها ، لكن ذلك على سبيل الندرة ، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة ؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات ، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق .
الجن : ( 28 ) ليعلم أن قد . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لِيَعْلَمَ ( مبنياً للفاعل . قال قتادة : ليعلم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا . وقال ابن جبير : ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم . وقال مجاهد : ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت ، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة . وقيل : ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود ، لأن علمه بكل شيء قد سبق . واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال : ) لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ( : يعني الأنبياء . وحد أولاً على اللفظ في قوله : ) مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( ، ثم جمع على المعنى كقوله : ) فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ ( ، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان ، وذكر العلم كذكره في قوله ) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ). انتهى . وقيل : ) لِيَعْلَمَ ( ، أي : أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا . وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه . وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم . وقيل : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه . وقيل : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع . وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ : ليعلم ، بضم الياء مبنياً للمفعول ؛ والزهري وابن أبي عبلة : بضم الياء وكسر اللام ، أي ليعلم الله ، أي من شاء أن يعلمه ، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته .
وقرأ الجمهور : ) رِسَالاتِ ( على الجمع ؛ وأبو حيوة : على الإفراد . وقرأ الجمهور : ) وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ( : وأحاط مبنياً للفاعل ، أي الله ، ( وَأَحْصَى ( : مبنياً للفاعل ، أي الله كل نصباً ؛ وابن أبي عبلة : وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً . ولما كان ليعلم مضمناً معنى علم ، صار المعنى : قد علم ذلك ، فعطف وأحاط على هذا الضمير ، والمعنى : وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع(8/349)
" صفحة رقم 350 "
لا يفوته منها شيء . ) وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً ( : أي معدوداً محصوراً ، وانتصابه على الحال من كل شيء ، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم . ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون تمييزاً . انتهى ، فيكون منقولاً من المفعول ، إذا أصله : وأحصى عدد كل شيء ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف .(8/350)
" صفحة رقم 351 "
73
( سورة المزمل )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الاٌّ رْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاٌّ رْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) ) 2
المزمل : ( 1 ) يا أيها المزمل
تزمّل في ثوبه : التف ، وزمّل : لف . قال امرؤ القيس :
كبير أناس في بجاد مزمّل
وقال ذو الرمّة(8/351)
" صفحة رقم 352 "
وكائن تخطت ناقتي من مفازة
ومن نائم عن ليلها متزمّل
تبتل إلى كذا : انقطع إليه ، ومنه هبة بتلة ، وطلقة بتلة ، والبتول وبتل الحبل . قال الليث : البتل تمييز الشيء من الشيء ، والبتول المرأة المنقطعة عن الرّجال لا شهوة لها ولا حاجة لها فيهم ، والتبتل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه قول امرىء القيس : تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
ومنه النهي عن التبتل : أي عن الانقطاع عن التزويج . ومنه قيل للراهب متبتل ، لانقطاعه عن الناس وانفراده للعبادة . والغصة : الشجي ، وهو ما ينشب بالحلق من عظم أو غيره ، وجمعها غصص ، والفعل غصصت ، فأنت غاص وغصان ، قال :
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
الكثيب : الرمل المجتمع ، وجمعه كثب وكثبان في الكثرة ، وأكثبة في القلة . قال ذو الرمّة : فقلت لها لا إن أهلي جيرة
لا كثبة الدهنا جميعاً ومالياً
المهيل : الذي يمر تحت الرجل ، وهلت عليه التراب : صببته . وقال الكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته القدم زل من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال ، وأهلت لغة في هلت . الشيب : جمع أشيب .
( عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ).
هذه السورة مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : ) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( والتي تليها ، ذكره الماوردي . وقال الجمهور : هي مكية إلا قوله تعالى : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ( الخ ، فإنه نزل بالمدينة .
وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور : أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره ، رجع إلى خديجة فقال : ( زملوني زملوني ) ، فنزلت : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ( ، وعلى هذا نزلت : ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ). قالت عائشة والنخعي وجماعة : ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملاً بكساء . وقال قتادة : كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد . فنودي على معنى : يا أيها المستعد للعبادة . وقال عكرمة : معناه المزمل للنبوة وأعبائها ، أي المشمر المجد ، فعلى هذا يكون التزمل مجازاً ، وعلى ما سبق يكون حقيقة . وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت : ما كان تزميله ؟ قالت : كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً ، نصفه عليّ وأنا نائمة ، ونصفه عليه ، إلى آخر الرواية ؛ كذب صراح ، لأن نزول ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( بمكة في أوائل مبعثة ، وتزويجه عائشة كان بالمدينة .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن في آخر ما قبلها ) عَالِمُ الْغَيْبِ ( الآيات ، فأتبعه بقوله : ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( ، إعلاماً بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ممن ارتضاه من الرسل وخصه(8/352)
" صفحة رقم 353 "
بخصائص وكفاه شر أعدائه .
وقرأ الجمهور : ) الْمُزَّمّلُ ( ، بشد الزاي وكسر الميم ، أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي . وقرأ أبي : المتزمل على الأصل ؛ وعكرمة : بتخفيف الزاي . أي المزمل جسمه أو نفسه . وقرأ بعض السلف : بتخفيف الزاي وفتح الميم ، أي الذي لف . وللزمخشري في كيفية نداء الله له بهذا الوصف كلام ضربت عن ذكره صفحاً ، فلم أذكره في كتابي . وقال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به ، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب ، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعليّ كرم الله وجهه وقد نام ولصق بجنبه التراب : ( قم أبا تراب ) ، إشعاراً بأنه ملاطف له ، فقوله : ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( فيه تأنيس وملاطفة .
المزمل : ( 2 - 3 ) قم الليل إلا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) قُمِ الَّيْلَ ( ، بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين ؛ وأبو السمال : بضمها اتباعا للحركة من القاف . وقرىء : بفتحها طلباً للتخفيف . قال ابن جني : الغرض بالحركة الهروب من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض ، وقم طلب . فقال الجمهور : هو على جهة الندب ، وقيل : كان فرضاً على الرسول خاصة ، وقيل : عليه وعلى الجميع . قال قتادة : ودام عاماً أو عامين . وقالت عائشة : ثمانية أشهر ، ثم رحمهم الله نزلت : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ( الآيات ، فخفف عنهم ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ). بين الاستثناء أن القيام المأمور به يستغرق جميع الليل ، ولذلك صح الاستثناء منه ، إذ لو كان غير مستغرق ، لم يصح الاستثناء منه ، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن ، لذلك استثى منه لراحة الجسد ؛ وهذا عند البصريين منصوب على الظرف ، وإن استغرقه الفعل ؛ وهو عند الكوفيين مفعول به . وفي قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار ، كقوله : ) مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( في قراءة من نصب ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ ).
قال وهب بن منبه : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : الثلث . وقيل : ما دون النصف ، وجوزوا في نصفه أن يكون بدلاً من الليل ومن قليلاً . فإذا كان بدلاً من الليل ، كان الاستثناء منه ، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلاً منه . والضمير في منه وعليه عائد على النصف ، فيصير المعنى : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص من نصف الليل قليلاً ، أو زد على نصف الليل ، فيكون قوله : أو انقص من نصف الليل قليًلا ، تكراراً لقوله : إلا قليلاً من نصف الليل ، وذلك تركيب غير فصيح ينزه القرآن عنه . قال الزمخشري : نصفه بدل من الليل ، وإلا قليلاً استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل . والضمير في منه وعليه للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه . انتهى . فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول ، لأنه على تقديره : قم أقل من نصف الليل كان قوله ، أو انقص من نصف الليل تكراراً . وإذا كان ) نّصْفَهُ ( بدلاً من قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( ، فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه وهو الليل ، لا جائز أن يعود على المبدل منه ، لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى البتة . وإن عاد الضمير على الليل ، فلا فائدة في الاستثناء من الليل ، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه . وقد أبطلنا قول من قال : إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه ، وأن التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه ، أي من النصف . وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليًلا ، والضمير في نصفه عائد على الليل ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وأزد عليه النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصح ، وليس المراد من الآية قطعاً .
وقال الزمخشري : وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً ، وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل . وإن شئت قلت : لما كان معنى ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ ( : إذا أبدلت النصف من الليل ، قم أقل من(8/353)
" صفحة رقم 354 "
نصف الليل ، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه قليلاً ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ، ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه . ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع . انتهى . وما أوسع خيال هذا الرجل ، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد ، والقرآن لا ينبغي ، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب ، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب . وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري ، كما ذكرنا عنه . وابن عطية أورده مورد الاحتمال ، وأبو البقاء ، وقال : أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً ، أو زد عليه ، والهاء فيهما للنصف . فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص منه قليلاً . والقليل المستثنى غير مقدر ، فالنقصان منه لا يتحصل . انتهى . وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل ، ولم يذكر غيره .
قال ابن عطية : وقد يحتمل عندي قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( أنه استثناء من القيام ، فيجعل الليل اسم جنس . ثم قال : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( ، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب . انتهى ، وهذا خلاف الظاهر . وقيل : المعنى أو نصفه ، كما تقول : أعطه درهماً درهمين ثلاثة ، تريد : أو درهمين ، أو ثلاثة . انتهى ، وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه . وقال التبريزي : الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاستثناء وارد على المأمور به ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً ، ثم جعل نصفه بدلاً من قليلاً ، فصار القليل مفسراً بالنصف من الثلثين ، وهو قليل من الكل . فقوله : ) أَوْ نَقُصُّ مِنْهُ ( : أي من المأمور به ، وهو قيام الثلث ، ( قَلِيلاً ( : أي ما دون نصفه ،
المزمل : ( 4 ) أو زد عليه . . . . .
( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين . وقال أبو عبد الله الرازي : قد أكثر الناس في تفسيره هذه الآية ، وعندي فيه وجهان ملخصان ، وذكر كلاماً طويلاً ملفقاً يوقف عليه من كتابه . وتقدّم تفسير الترتيل في آخر الإسراء .
المزمل : ( 5 ) إنا سنلقي عليك . . . . .
( قَوْلاً ثَقِيلاً ( : هو القرآن ، وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة ، كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة . قال الحسن : إن الهذ خفيف ، ولكن العمل ثقيل . وقال أبو العالية : والقرطبي : ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده . وقيل : ثقله ما كان يحل بجسمه ( صلى الله عليه وسلم ) ) حالة تلقيه الوحي ، حتى كانت ناقته تبرك به ذلك الوقت ، وحتى كادت رأسه الكريمة أن ترض فخذ زيد بن ثابت . وقيل : كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساني . قال ابن عباس : كلاماً عظيماً . وقيل : ثقيل في الميزان يوم القيامة ، وهو إشارة إلى العمل به . وقيل : كناية عن بقائه على وجه الدهر ، لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه .
المزمل : ( 6 ) إن ناشئة الليل . . . . .
( إن ناشئة الليل ( ، قال ابن عمر وأنس ابن مالك وعليّ بن الحسين : هي ما بين المغرب والعشاء . وقالت عائشة ومجاهد : هي القيام بعد اليوم ، ومن قام أول الليل قبل اليوم ، فلم يقم ناشئة الليل . وقال ابن جبير وابن زيد : هي لفظة حبشية ، نشأ الرجل : قام من الليل ، فناشئة على هذا جمع ناشىء ، أي قائم . وقال ابن جبير وابن زيد أيضاً وجماعة : ناشئة الليل : ساعاته ، لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء . وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن وأبو مجلز : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة ، وما كان قبلها فليس بناشئة . قال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل ، وقال هو وابن الزبير : الليل كله ناشئة . وقال الكسائي : ناشئة الليل أوله . وقال الزمخشري : ناشئة الليل : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض . قال الشاعر : نشأنا إلى خوص برى فيها السرى
وألصق منها مشرفات القماحد(8/354)
" صفحة رقم 355 "
أو : قيام الليل ، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعله كالعاقبة . انتهى . وقرأ الجمهور : وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدوداً . وقرأ قتادة وشبل ، عن أهل مكة : بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة . وقرأ ابن محيصن : بفتح الواو ممدوداً ، والمعنى أنها أشد مواطأة ، أي يواطىء القلب فيها اللسان ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص . ومن قرأ ) وَطْأً ( : أي أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل ، أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ، كما جاء : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) . وقال الأخفش : أشد قياماً . وقال الفراء : أثبت قراءة وقياماً . وقال الكلبي : أشد نشاطاً للمصلي لأنه في زمان راحته . وقيل : أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت فراغ ، فالعبادة تدوم . ) وَأَقْوَمُ قِيلاً ( : أي أشد استقامة على الصواب ، لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه . قال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ، لأنه زمان التفهم . وقال عكرمة : أتم نشاطاً وإخلاصاً وبركة . وحكى ابن شجرة : أعجل إجابة للدعاء . وقال زيد بن أسلم : أجدر أن يتفقه فيها القارىء .
المزمل : ( 7 ) إن لك في . . . . .
وقرأ الجمهور : ) سَبْحاً ( : أي تصرّفاً وتقلباً في المهمات ، كما يتردّد السابح في الماء . قال الشاعر : أبا حوالكم شرق البلاد وغربها
ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقيل : سبحاً سبحة ، أي نافلة . وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة : سبخاً بالخاء المنقوطة ومعناه : خفة من التكاليف ، والتسبيخ : التخفيف ، وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه ، فمعناه : انتشار الهمة وتفرّق الخاطر بالشواغل . وقيل : فراغاً وسعة لنومك وتصرّفك في حوائجك . وقيل : المعنى إن فات حزب الليل بنوم أو عذر . فليخلف بالنهار ، فإن فيه سبحاً طويلاً . قال صاحب اللوامح : وفسر ابن يعمر وعكرمة سبخاً بالخاء معجمة . وقال : نوماً ، أي تنام بالنهار لتستعين به على قيام الليل . وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها ، فلا يجاوز عنه . انتهى . وفي الحديث : ( لا تسبخي بدعائك ) ، أي لا تخففي . وقال الشاعر : فسبخ عليك الهم واعلم بأنه
إذا قدّر الرحمن شيئاً فكائن
وقال الأصمعي : يقال سبح الله عنك الحمى ، أي خففها . وقيل : السبخ : المد ، يقال : سبخي قطنك : أي مديه ، ويقال لقطع القطن سبائخ ، الواحدة سبيخة ، ومنه قول الأخطل : فأرسلوهنّ يذرين التراب كما
يذري سبائخ قطن ندف أوتار
المزمل : ( 8 ) واذكر اسم ربك . . . . .
( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ ( : أي دم على ذكره ، وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما ، وانتصب ) تَبْتِيلاً ( على أنه مصدر على غير الصدر ، وحسن ذلك كونه فاصلة . وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : رب بالخفض على البدل من ربك ؛ وباقي السبعة : بالرفع ؛ وزيد بن عليّ : بالنصب ؛
المزمل : ( 9 ) رب المشرق والمغرب . . . . .
والجمهور : المشرق والمغرب موحدين ؛ وعبد الله وأصحابه وابن عباس : بجمعهما . وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : على القسم ، يعني : خفض رب بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لا إله إلا هو ، كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد . انتهى . ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، إذ فيه إضمار الجار في القسم ، ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الله ، ولا يقاس(8/355)
" صفحة رقم 356 "
عليه . ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فلا تنفيء إلا بما وحدها ، ولا تنفي بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً ، نحو قول الشاعر : ردوا فوالله لا زرناكم أبدا
ما دام في مائنا ورد لورّاد
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها بما نحو قوله : لعمرك ما سعد بخلة آثم
ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر
) فَاتَّخِذُوهُ وَكِيلاً ( ، لأن من انفرد بالألوهية لم يتخذ وكيلاً إلا هو .
المزمل : ( 10 ) واصبر على ما . . . . .
( وَاصْبِرْ ( ، ( وَاهْجُرْهُمْ ( : قيل منسوخ بآية السيف .
المزمل : ( 11 ) وذرني والمكذبين أولي . . . . .
( وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ ( : قيل نزلت في صناديد قريش ، وقيل : في المطعمين يوم بدر ، وتقدّمت أسماؤهم في سورة الأنفال ، وتقدّم شرح مثل هذا في ) فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ). ) أُوْلِى النَّعْمَةِ ( : أي غضارة العيش وكثرة المال والولد ، والنعمة بالفتح : التنعم ، وبالكسر : الأنعام وما ينعم به ، وبالضم : المسرّة ، يقال : نعم ونعمة عين . ) وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً ( : وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم ، والقليل : موافاة آجالهم . وقيل : وقعة بدر .
المزمل : ( 12 ) إن لدينا أنكالا . . . . .
( إِنَّ لَدَيْنَا ( : أي ما يضاد نعمتهم ، ( أَنكَالاً ( : قيوداً في أرجلهم . قال الشعبي : لم تجعل في أرجلهم خوفاً من هروبهم ، ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استقلت بهم . وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأول أعرف في اللغة ، ومنه قول الخنساء : دعاك فقطعت أنكاله
وقد كن قبلك لا تقطع
) وَجَحِيماً ( : ناراً شديدة الايقاد .
المزمل : ( 13 ) وطعاما ذا غصة . . . . .
( وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ ( ، قال ابن عباس : شوك من نار يعترض في حلوقهم ، لا يخرج ولا ينزل . وقال مجاهد وغيره : شجرة الزقوم . وقيل : الضريع وشجرة الزقوم . ) يَوْمٍ ( منصوب بالعامل في الدنيا ، وقيل : بذرني ،
المزمل : ( 14 ) يوم ترجف الأرض . . . . .
( تَرْجُفُ ( : تضطرب . وقرأ الجمهور : ) تَرْجُفُ ( بفتح التاء مبنياً للفاعل ؛ وزيد بن علي : بضمها مبنياً للمفعول ، ( كَثِيباً ( : أي رملاً مجتمعاً ، ( مَّهِيلاً ( : أي رخواً ليناً . قيل : ويقال : مهيل ومهيول ، وكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، الإتمام في ذوات الياء لغة تميم ، والحذف لأكثر العرب .
المزمل : ( 15 - 16 ) إنا أرسلنا إليكم . . . . .
ولما هدد المكذبين بأهوال القيامة ، ذكرهم بحال فرعون وكيف أخذه الله تعالى ، إذ كذب موسى عليه السلام ، وأنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى فقال : ) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ ( ، والخطاب عام للأسود والأحمر . وقيل : لأهل مكة ، ( رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ( ، كما قال : ) وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآء ). وشبه إرساله إلى أهل مكة بإرسال موسى إلى فرعون على التعيين ، لأن كلاً منهما ربا في قومه واستحقروا بهما ، وكان عندهم علم بما جرى من غرق فرعون ، فناسب أن يشبه الإرسال بالإرسال . وقيل : الرسول بلام التعريف ، لأنه تقدم ذكره فأحيل عليه . كما تقول : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، لأن المضروب هو الملقى ، والوبيل : الرديء العقبى ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم لا يستمرأ لثقله ، أي لا ينزل في المريء .
قوله عز وجل : ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَار ( سقط : علم أن لن تحصوه فثاب عليكم فاقرؤوا ما نيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من ) َ ). (8/356)
" صفحة رقم 357 "
( سقط : فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )
المزمل : ( 17 ) فكيف تتقون إن . . . . .
( يَوْماً ( منصوب بتتقون ، منصوب نصب المفعول به على المجاز ، أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا ؟ والضمير في ) يَجْعَلْ ( لليوم ، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل المجاز . وقال الزمخشري : ) يَوْماً ( مفعول به ، أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً ؟ انتهى . وتتقون مضارع اتقى ، واتقى ليس بمعنى وقى حتى يفسره به ، واتقى يتعدى إلى واحد ، ووقى يتعدى إلى اثنين . قال تعالى : ) وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ، ولذلك قدره الزمخشري : تقون أنفسكم يوم القيامة ، لكنه ليس تتقون بمعنى تقون ، فلا يتعدى بعديته ، ودس في قوله : ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً الاعتزال . قال : ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي فيكف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ؟ قال : ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم ، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ؟ والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه . انتهى . وقرأ الجمهور : ) يَوْماً ( منوناً ، ( يَجْعَلْ ( بالياء ؛ والجملة من قوله : ) يَجْعَلْ ( صفة ليوم ، فإن كان الضمير في ) يَجْعَلْ ( عائداً على اليوم فواضح وهو الظاهر ؛ وإن عاد على الله ، كما قال بعضهم ، فلا بد من حذف ضمير يعود إلى اليوم ، أي يجعل فيه كقوله : ) يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ ). وقرأ زيد بن عليّ : بغير تنوين : نجعل بالنون ، فالظرف مضاف إلى الجملة ، والشيب مفعول ثان ليجعل ، أي يصير الصبيان شيوخاً ، وهو كناية عن شدة ذلك اليوم . ويقال في اليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب . قال المتنبي : والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقال قوم : ذلك حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول ، كما قد يرى الشيب في الدنيا من الهم المفرط ، كهول البحر ونحوه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الاطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة . وقال السدي : الولدان : أولاد الزنا . وقيل : أولاد المشركين ، والظاهر العموم ، أي يشيب الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدم قم فابعث بعث النار . وقيل : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق .
المزمل : ( 18 ) السماء منفطر به . . . . .
( السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( ، قال الفراء : يعني المظلة تذكر وتؤنث ، فجاء منفطر على التذكير ، ومنه قول الشاعر : فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالسماء وبالسحاب
وعلى القول بالتأنيث ، فقال أبو علي الفارسي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، وأعجاز نخل منقعر . انتهى ، يعني أنها من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماء ، واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث ، فجاء منفطر على التذكير . وقال أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيدة والكسائي ، وتبعهم القاضي منذر بن سعيد : مجازها السقف ، فجاء عليه منفطر ، ولم يقل منفطرة . وقال أبو علي أيضاً : التقدير ذات انفطار كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات رضاع ، فجرى على طريق التسبب . وقال الزمخشري : أو السماء شيء منفطر ، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر وهو شيء ، والانفطار : التصدع والانشقاق ؛ والضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم ، والباء للسبب ، أي بسبب شدة ذلك اليوم ، أو ظرفية ، أي فيه . وقال مجاهد : يعود على الله ، أي بأمره(8/357)
" صفحة رقم 358 "
وسلطانه . والظاهر أن الضمير في ) وَعْدَهُ ( عائد على اليوم ، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي أنه تعالى وعد عباده هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، فلا بد من إنجازه . ويجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، فيكون من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وإن لم يجر له ذكر قريب ، لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى .
المزمل : ( 19 ) إن هذه تذكرة . . . . .
( إِنَّ هَاذِهِ ( : أي السورة ، أو الأنكال وما عطف عليه ، والأخذ الوبيل ، أو آيات القرآن المتضمنة شدة القيامة ، ( تَذْكِرَةٌ ( : أي موعظة ، ( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( بالتقرب إليه بالطاعة ، ومفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط ، لأن من شرطية ، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلاً اتخذه إلى ربه ، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة ، بل تتضمن معنى الوعد والوعيد .
المزمل : ( 20 ) إن ربك يعلم . . . . .
( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى ( : تصلي ، كقوله : ) قُمِ الَّيْلَ ). لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها ، وهذه الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمرار استعماله من أمر قيام الليل ، إما على الوجوب ، وإما على الندب ، على الخلاف الذي سبق ؛ ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ( : أي زماناً هو أقل من ثلثي الليل ، واستعير الأدنى ، وهو الأقرب للأول ، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك . وقرأ الجمهور : ) مِن ثُلُثَىِ ( بضم اللام ؛ والحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السميفع وهشام وابن مجاهد ، عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل : بإسكانها ، وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح . وقرأ العربيان ونافع : ونصفه وثلثه ، بجرهما عطفاً على ) إِنَّ رَبَّكَ ( ؛ وباقي السبعة وزيد بن علي : بالنصب عطفاً على ) أَدْنَى ( ، لأنه منصوب على الظرف ، أي وقتاً أدنى من ثلثي الليل . فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أول السورة ، لأنه إذا قام الليل إلا قليلاً صدق عليه ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ( ، لأن الزمان الذي لم يقم فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ). وأما قوله : ) وَنِصْفَهُ ( فهو مطابق لقوله أولاً : ) نّصْفَهُ ). وأما ثلثه فإن قوله : ) أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ( قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل . وأما قوله : ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( ، فإنه إذا زاد على النصف قليلاً ، كان الوقت أقل من الثلثين ، فيكون قد طابق قوله : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ( ، ويكون قوله تعالى : ) نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ( شرحاً لمبهم ما دل عليه قوله : ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ، وعلى قراءة النصب .
قال الحسن وابن جبير : معنى تحصوه : تطيقوه ، أي قدر تعالى أنهم يقدرون الزمان على ما مر في أول السورة ، فلم يطيقوا قيامه لكثرته وشدته ، فخفف تعالى عنهم فضلاً منه ، لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات . وأما قراءة الجر ، فالمعنى أنه قيام مختلف ؛ مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من النصف ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لتعذر معرته البشر مقادير الزمان مع عذر النوم . وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، والبشر لا يحصون ذلك ، أي لا يطيقون مقادير ذلك ، فتاب عليهم ، أي رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقيام ما تيسر . وعلى القراءتين يكون علمه تعالى بذلك على حسب الوقوع منهم ، لأنهم قاموا تلك المقادير في أوقات مختلفة قاموا أدنى من الثلثين ونصفاً وثلثاً ، وقاموا أدنى من النصف وأدنى من الثلث ، فلا تنافي بين القراءتين . وقرأ الجمهور : ) وَثُلُثَهُ ( بضم اللام ؛ وابن كثير في رواية شبل : بإسكانها ؛ وطائفة : معطوف على الضمير المستكن في ) تَقُومُ ( ، وحسنة الفصل بينهما . وقوله : ) وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ( دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع ، إذ لو كان فرضاً ، لكان التركيب : والذين معك ، إلا إن اعتقد أنهم كان منهم من يقوم في بيته ، ومنهم من يقوم معه ، فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع .
( وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( : أي هو وحده تعالى العالم بمقادير الساعات . قال الزمخشري : وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير . انتهى . وهذا مذهبه ، وإنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ . لو قلت : زيد يحفظ القرآن أو يتفقه في كتاب سيبويه ، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص . وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في ) نحصوه ( ، الظاهر أنه عائد على المصدر المفهوم من يقدر ، أي أن لن تحصوا تقدير ساعات الليل والنهار ، لا تحيطوا بها على الحقيقة . وقيل : الضمير يعود على القيام المفهوم من قوله : ) بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ). قيل : فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به . وقيل : رجع بكم من ثقل إلى خف ، ومن عسر إلى عسر ، ورخص(8/358)
" صفحة رقم 359 "
لكم في ترك القيام المقدر . ) فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ ( : عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها ، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود ، أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل . وقيل : وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس . وهذا الأمر بقوله : ) فاقرؤا ( ، قال الجمهور : أمر إباحة ، وقال ابن جبير وجماعة : هو فرض لا بد منه ، ولو خمسين آية . وقال الحسن وابن سيرين : قيام الليل فرض ، ولو قدر حلب شاة . وقيل : هو أمر بقراءة القرآن بعينها ، لا كناية عن الصلاة . وإذا كان المراد : فاقرؤا في الصلاة ما تيسر ، فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ ، بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره ، وأبو حنيفة بآية ، حكاه عنه الماوردي ؛ وبثلاث . حكاه ابن العربي ؛ وعين مالك والشافعي ما تيسر ، قالا : هو فاتحة الكتاب ، لا يعدل عنها ولا يقتصر على بعضها .
( الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى ( : بيان لحكمة النسخ ، وهي تعذر القيام على المرضى ، والضاربين في الأرض للتجارة ، والمجاهدين في سبيل الله ، ( فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ( ، كرر ذلك على سبيل التوكيد . ثم أمر بعمودي الإسلام البدني والمالي ، ثم قال : ) وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( : العطف يشعر بالتغاير ، فقوله : ) وَإِذْ أَخَذْنَا ( أمر بأداء الواجب ، ( وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ ( : أمر بأداء الصدقات التي يتطوع بها . وقرأ الجمهور : ) هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ( بنصبهما ، واحتمل هو أن يكون فصلاً ، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في ) تَجِدُوهُ ). ولم يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية في إعراب هو إلا الفصل . وقال أبو البقاء : هو فصل ، أو بدل ، أو تأكيد . فقوله : أو بدل ، وهم لو كان بدلاً لطابق في النصب فكان يكون إياه . وقرأ أبو السمال وابن السميفع : هو خير وأعظم ، برفعهما على الابتداء أو الخبر . قال أبو زيد : هو لغة بني تميم ، يرفعون ما بعد الفاصلة ، يقولون : كان زيد هو العاقل بالرفع ، وهذا البيت لقيس بن ذريح وهو : نحن إلى ليلى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال أبو عمرو الجرمي : أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة . ويروى : أقدر . وقال الزمخشري : وهو فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة . انتهى . وليس ما ذكر متفقاً عليه . ومنهم من أجازه ، وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله ، والخلاف الوارد فيها كثير جداً ، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل في أحكام الفصل ، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا .(8/359)
" صفحة رقم 360 "
74
( سورة المدثر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لاٌّ يَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاٌّ خِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( )(8/360)
" صفحة رقم 361 "
المدثر : ( 1 ) يا أيها المدثر
تدثر : لبس الدثار ، وهو الثوب الذي فوق الشعار ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الأنصار شعار والناس دثار ) . النقر : الصوت ، قال الشاعر : أخفضه بالنقر لما علوته
ويرفع طرفاً غير خاف غضيض
وقال الراجز :
أنا ابن ماوية إذ جد النقر
يريد النقر ، فنقل الحركة ، فالناقور فاعول منه ، كالجاسوس مأخوذ من التجسس . عبس يعبس عبساً وعبوساً : قطب ، والعبس : ما تعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها . قال أبو النجم : كأن في أذنابهن الشوّل
من عبس الضيف قرون الإبل
بسر : قبض ما بين عينيه وأربد وجهه ، قال : صحبنا تميماً غداة الجفار
بشهباً ملومة باسره
وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر إذا وقف ، وقد أبسرنا ، وتقول العرب : وجه باسر بين البسور ، إذا تغير واسود ، لاحه البسر : غير خلقته ، قال : تقول ما لاحك يا مسافر
يا ابنة عمي لاحنى الهواجر
وقال آخر :
وتعجب هند إن رأتني شاحباً
تقول لشيء لوحته السمائم
وقال الأخفش : اللوح : شدة العطش ، لاحه العطش ولوحه غيره .
وقال الشاعر :
سقتني على لوح من الماء شربة
سقاها به الله الرهام الغواديا
ويقال : التاح ، أي عطا . القسورة : الرماة والصيادون ، قاله ابن كيسان ؛ أو الأسد ، قاله جماعة من اللغويين ، قال(8/361)
" صفحة رقم 362 "
مضمر تحدره الأبطال
كأنه القسورة الريبال
أو الرجال الشداد ، قال لبيد : إذا ما هتفنا هتفة في ندينا
أتانا الرجال الصائدون القساور
أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره ، قاله ابن الأعرابي وثعلب .
( رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية بإجماع . وفي التحرير ، قال مقاتل : إلا آية وهي : ) وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً ). ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها ) ذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ ( ، وفيه ) إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ ( ، فناسب ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ( ، وناسب ذكر يوم القيامة بعد ، وذكر بعض المكذبين في قوله : ) ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ).
قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه ، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني ، نزلت ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ). قال النخعي وقتادة وعائشة : نودي وهو في حال تدثره ، فدعى بحال من أحواله . وروي أنه كان تدثر في قطيفة . قيل : وكان يسمع من قريش ما كرهه ، فاغتم وتغطى بثوبه مفكراً ، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وقال عكرمة معناه : يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها ، كما قال في المزمل . وقرأ الجمهور : ) الْمُدَّثّرُ ( بشد الدال . وأصله المتدثر فأدغم ، وكذا هو في حرف أبي على الأصل . وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل ، أي دثر نفسه . وعن عكرمة أيضاً : فتح التاء اسم مفعول ، وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك .
المدثر : ( 2 ) قم فأنذر
) قُمْ فَأَنذِرْ ( : أي قم من مضجعك ، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء ، كما تقول : قام زيد يضرب عمراً ، أي أخذ ، وكما قال :
علام قام يشتمني لئيم
أي أخذ ، والمعنى قم قيام تصميم وجد ، ( فَأَنذِرْ ( : أي حذر عذاب الله ووقائعه ، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق .
المدثر : ( 3 ) وربك فكبر
) وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( : أي فعظم كبرياءه . وقال الزمخشري : واختص ربك بالتكبير ، وهو الوصف بالكبرياء ، وأن يقال : الله أكبر . انتهى . وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص ، قال : ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره . انتهى . وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : زيدا فاضرب ، قالوا تقديره : تنبه فاضرب زيداً ، فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة .
المدثر : ( 4 ) وثيابك فطهر
) وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات ، لأن(8/362)
" صفحة رقم 363 "
طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة ، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي ، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي . وقيل : تطهيرها : تقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر ، قال الشاعر : ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هداب الأزر
ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث : ( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار ) . وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز . فقال ابن عباس والضحاك : تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر . وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً : كنى بالثياب عن القلب ، كما قال امرؤ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر ، وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي : إني بحمد الله لا ثوب غادر
لبست ولا من خزية أتقنع
وقيل : كناية عن طهارة العمل ، المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال ابن زيد : إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا : فلان خبيث الثياب ؛ وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب ، ونحو هذا عن السدي ، ومنه قول الشاعر : لا هم إن عامر بن جهم
أو ذم حجا في ثياب دسم
أي : دنسة بالمعاصي ، وقيل : كنى عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه
وقال آخر : ثياب بني عوف طهارى نقية
وأوجههم بيض سافر غران
أي : أنفسهم . وقيل : كنى بها عن الجسم . قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً : رموها بأثواب خفاف فلا نرى
لها شبهاً إلا النعام المنفرا
أي : ركبوها فرموها بأنفسهم . وقيل : كناية عن الأهل ، قال تعالى : ) هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ( ، والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف . وقيل : وطئهن في القبل لا في الدبر ، في الطهر لا في الحيض ، حكاه ابن بحر . وقيل :(8/363)
" صفحة رقم 364 "
كناية عن الخلق ، أي وخلقك فحسن ، قاله الحسن والقرطبي ، ومنه قوله : ويحيى ما يلائم سوء خلق
ويحيى طاهر الأثواب حر
أي : حسن الأخلاق .
المدثر : ( 5 ) والرجز فاهجر
وقرأ الجمهور : والرجز بكسر الراء ، وهي لغة قريش ؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يراد بهما الأصنام والأوثان . وقيل : الكسر للبين والنقائص والفجور ، والضم لصنمين أساف ونائلة . وقال عكرمة ومجاهد والزهري : للأصنام عموماً . وقال ابن عباس : الرجز : السخط ، أي اهجر ما يؤدي إليه . وقال الحسن : كل معصية ، والمعنى في الأمر : اثبت ودم على هجره ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان بريئاً منه . وقال النخعي : الرجز : الإثم . وقال القتبي : العذاب ، أي اهجر ما يؤدي إليه .
المدثر : ( 6 ) ولا تمنن تستكثر
وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تَمْنُن ( ، بفك التضعيف ؛ والحسن وأبو السمال : بشد النون . قال ابن عباس وغيره : لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه ، كأنه من قولهم : منّ إذا أعطى . قال الضحاك : هذا خاص به ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومباح ذلك لأمته ، لكنه لا أجر لهم . وعن ابن عباس أيضاً : لا تقل دعوت فلم أجب . وعن قتادة : لا تدل بعملك . وعن ابن زيد : لا تمنن بنبوتك ، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم . وقال الحسن : تمنن على الله بجدك ، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها . وقال مجاهد : ) وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( ما حملناك من أعباء الرسالة ، أو تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين : أي ضعيف . وقيل : ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه . وقرأ الجمهور : تستكثر برفع الراء ، والجملة حالية ، أي مستكثراً . قال الزمخشري : ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع . انتهى ، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال ، أي مستكثراً . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : بجزم الراء ، ووجهه أنه بدل من تمنن ، أي لا تستكثر ، كقوله : ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( في قراءة من جزم ، بدلاً من قوله : ) يَلْقَ ( ، وكقوله : متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا
ويكون من المن الذي في قوله تعالى : ) لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( ، لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيراً ويعتد به ؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين ، أحدهما : أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً ؛ والثاني : أن يعتبر حال الوقف ، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف ، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما ، وهو المبدل . وقرأ الحسن أيضاً والأعمش : تستكثر بنصب الراء ، أي لن تحقرها . وقرأ ابن مسعود : أن تستكثر ، بإظهار أن .
المدثر : ( 7 ) ولربك فاصبر
) وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( : أي لوجه ربك أمره بالصبر ، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة ، وعلى أداء طاعة الله ، وعلى أذى الكفار . قال ابن زيد : على حرب الأحمر والأسود ، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر .
المدثر : ( 8 ) فإذا نقر في . . . . .
وقال الزمخشري : والفاء في قوله : ) فَإِذَا نُقِرَ ( للتسبب ، كأنه قيل : فاصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه .
المدثر : ( 9 ) فذلك يومئذ يوم . . . . .
وقال الزمخشري : والفاء في ) فَذَلِكَ ( للجزاء . فإن قلت : بم انتصب إذا ،(8/364)
" صفحة رقم 365 "
وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير ؟ قلت : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء ، لأن المعنى : ) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( ، عسر الأمر على الكافرين ؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور . ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك ، ويوم عسير خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . فإن قلت : فما فائدة قوله : ) غَيْرُ يَسِيرٍ ( ، وعسير مغن عنه ؟ قلت : لما قال ) عَلَى الْكَافِرِينَ ( فقصر العسر عليهم ، قال ) غَيْرُ يَسِيرٍ ( ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم . ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا . انتهى . وقال الحوفي : ) فَإِذَا ( ، إذا متعلقة بأنذر ، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة ، قال أبو البقاء : يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة . فأما يومئذ فظرف لذلك ،
المدثر : ( 10 ) على الكافرين غير . . . . .
وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير ، أي غير يسير ، أي غير سهل على الكافرين ؛ وينبغي أن لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل ، وهو ممنوع على الصحيح ؛ وقد أجازه بعضهم فيقول : أنا بزيد غير راض .
المدثر : ( 11 ) ذرني ومن خلقت . . . . .
( ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( : لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب بالوحيد ، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته . والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من ، أي خلقته منفرداً ذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله تعالى المال والولد ، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه . وقيل : حال من ضمير النصب في ذرني ، قاله مجاهد ، أي ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه ؛ أو حال من التاء في خلقت ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد ، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه . وقيل : وحيداً لا يتبين أبوه . وكان الوليد معروفاً بأنه دعي ، كما تقدم في قوله تعالى : ) عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( ، وإذا كان يدعى وحيداً ، فلا يجوز أن ينتصب على الذم ، لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيداً لا نظير له . ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً ، والعلم لا يفيد في المسمى صفة ، وأيضاً فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة .
المدثر : ( 12 ) وجعلت له مالا . . . . .
( وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ( ، قال ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار . وقيل : كان صاحب زرع وضرع وتجارة . وقال النعمان بن بشير : المال المدود هو الأرض لأنها مدت . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو الريع المستغل مشاهرة ، فهو مد في الزمان لا ينقطع . وقيل : هو مقدار معين واضطربوا في تعيينه . فما قيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ألف دينار ، وكل هذا تحكم .
المدثر : ( 13 ) وبنين شهودا
) وَبَنِينَ شُهُوداً ( : أي حضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم ، أو شهوداً : أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل ، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه ؛ واختلف في عددهم ، فذكر منهم : خالد وهشام وعمارة ، وقد أسلموا ؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس . قال مقاتل : فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك .
المدثر : ( 14 ) ومهدت له تمهيدا
) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ( : أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه . وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام . وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض ، كما يمهد الفراش .
المدثر : ( 15 ) ثم يطمع أن . . . . .
( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( : أي على ما أعطيته من المال والولد .
المدثر : ( 16 ) كلا إنه كان . . . . .
( كَلاَّ ( : أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم . وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، لأنه كان يقول : إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي . ) ثُمَّ يَطْمَعُ ( ، قال الزمخشري : استعباد لطمعه واستنكار ، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة ، ( كَلاَّ ( : قطع لرجائه وردع . انتهى . وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا . ) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً ( : تعليل للرّدع على وجه الاستئناف ، كأن قائلاً قال : لم لا يزاد ؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك ، والكافر لا يستحق المزيد ؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله : ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ( إلى آخر ما آتاه الله ، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه(8/365)
" صفحة رقم 366 "
سحر .
المدثر : ( 17 ) سأرهقه صعودا
) سَأُرْهِقُهُ ( : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر ، ( صَعُوداً ( : عقبة في جهنم ، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة ، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام .
المدثر : ( 18 ) إنه فكر وقدر
) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا : هو شعر ، فقال : والله ما هو بشعر ، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه ، قالوا : فهو كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه . وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه . وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام . ودخل إلى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل . ) إِنَّهُ فَكَّرَ ( : تعليل للوعيد في قوله : ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ). قيل : ويجوز أن يكون ) إِنَّهُ فَكَّرَ ( بدلاً من قوله : ) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً ( ، بياناً لكنه عناده وفكر ، أي في القرآن ومن أتى به ، ( وَقَدَّرَ ( : أي في نفسه ما يقول فيه .
المدثر : ( 19 - 20 ) فقتل كيف قدر
) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ، قتل : لعن ، وقيل : غلب وقهر ، وذلك من قوله :
لسهميك في أعسار قلب مقتل
أي مذلل مقهور بالحب ، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب ، وذلك إخبار بقهره وذلته ، و ) كَيْفَ قَدَّرَ ( معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب . فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً ، كأنه رآنا حين قال كذا . وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه . وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء . وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر ، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ، وهذا فيه بعد . وقولهم : قاتلهم الله ، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده ، والاستفهام في ) كَيْفَ قَدَّرَ ( في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه ، كقولهم : أي رجل زيد ؟ أي ما أعظمه .
وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما ، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل ، فدعى عليه ثانياً ،
المدثر : ( 21 ) ثم نظر
) ثُمَّ نَظَرَ ( : أي فكر ثانياً . وقيل : نظر إلى وجوه الناس ،
المدثر : ( 22 ) ثم عبس وبسر
) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( : أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول . وقيل : قطب في وجه رسول الله e
المدثر : ( 23 ) ثم أدبر واستكبر
. ) ثُمَّ أَدْبَرَ ( : رجع مدبراً ، وقيل : أدبر عن الحق ، ( وَاسْتَكْبَرَ ( ، قيل : تشارس مستكبراً ، وقيل : استكبر عن الحق ، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأن ما يقوله كذب وافتراء ، إذ لو كان ممكناً ، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه ، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل . ألا(8/366)
" صفحة رقم 367 "
ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وأسلم من فوره . وقيل : ثم نظر فيما يحتج به للقرآن ، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودام نظره في ذلك . ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( ، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله ، إذ بين ذلك تراخ وتباعد . وكان العطف في ) وَبَسَرَ ( وفي ) وَاسْتَكْبَرَ ( ، لأن البسور قريب من العبوس ، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار ، إذ الاستكبار معنى في القلب ، والإدبار حقيقة من فعل الجسم ، فهما سبب ومسبب ، فلا يعطف بثم ؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين ، وناسب العطف بالواو ؛ وكان العطف في
المدثر : ( 24 ) فقال إن هذا . . . . .
فقال بالفاء دلالة على التعقيب ، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه ، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل . ومعنى ) يُؤْثَرُ ( : يروي وينقل ، قال الشاعر : لقلت من القول ما لا يزا
ل يؤثر عني به المسند
وقيل : ) يُؤْثَرُ ( أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار ، ومعنى ) إِلاَّ سِحْرٌ ( : أي شبيه بالسحر .
المدثر : ( 25 ) إن هذا إلا . . . . .
( إِنْ هَاذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ( : تأكيد لما قبله ، أي يلتقط من أقوال الناس ، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد . ألا ترى ثناءه على القرآن ، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون ، وقصته مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى : ) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( ، وكيف ناشدة الله بالرحم أن يسكت ؟
المدثر : ( 26 ) سأصليه سقر
) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( ، قال الزمخشري : بدل من ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ). انتهى . ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة ، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما ، فتوعد على كونه عنيداً لآيات الله بإرهاق صعود ، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر ، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر .
المدثر : ( 27 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( : تعظيم لهولها وشدتها ،
المدثر : ( 28 ) لا تبقي ولا . . . . .
( لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ ( : أي لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه .
المدثر : ( 29 ) لواحة للبشر
) لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور : معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها ، والبشر جمع بشرة ، وتقول العرب : لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته . وقال الحسن وابن كيسان : لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر ، والمعنى أنها تظهر للناس ، وهم البشر ، من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزجرها ، كقوله تعالى : ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( ، وقوله : ) وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ). وقرأ الجمهور : ) لَوَّاحَةٌ ( بالرفع ، أي هي لوّاحة . وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة : لواحة بالنصب على الحال المؤكدة ، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للإبشار . وقال الزمخشري : نصباً على الاختصاص للتهويل .
المدثر : ( 30 - 31 ) عليها تسعة عشر
) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( : التمييز محذوف ، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك . ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك ؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، فأنزل الله تعالى : ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً ( أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ، وأنزل الله تعالى في أبي جهل ) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ). وقيل : التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة ، وقيل : نقيباً ، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها ، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم ، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته ، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف(8/367)
" صفحة رقم 368 "
عليها في تفسيره .
وقرأ الجمهور : ) تِسْعَةَ عَشَرَ ( مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد . وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين ، كراهة توالي الحركات . وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء ، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ، ولا يتوهم أنها حركة إعراب ، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر . وقرأ أنس أيضاً : تسعة بالضم ، أعشر بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر ، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم ، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً ، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة ، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة . وعن سليمان بن قنة ، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر ، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب . قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . قال الزمخشري : وقرىء تسعة أعشر جمع عشير ، مثل يمين وأيمن . انتهى . وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو القائل : مررت على أبيات آل محمد
فلم أر أمثالاً لها يوم حلت
وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً ( : أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم ، ( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي سبب فتنة ، وفتنة مفعول ثان لجعلنا ، أي جعلنا تلك العدّة ، وهي تسعة عشر ، سبباً لفتنة الكفار ، فليس فتنة مفعولاً من أجله ، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء . فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها . ) لِيَسْتَيْقِنَ ( : هذا مفعول من أجله ، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة . فليست الفتنة معلولة للاستيقان ، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة ) الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( ، وهم اليهود والنصارى . إنّ هذا القرآن هو من عند الله ، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة ، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء ، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى . قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد ، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً ، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين . وقيل : إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟ ويقولون هذا العدد القليل ، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك ؟ قلت : ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك ، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن المراد بقوله : ) وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر ؛ فوضع ) فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( موضع تسعة عشر ، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين . انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى ، إذ زعم أن معنى ) إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء ؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى . وقيل : ) لِيَسْتَيْقِنَ ( متعلق بفعل مضمر ، أي فعلنا ذلك ليستيقن . ) وَلاَ يَرْتَابَ ( : توكيد لقوله ) لِيَسْتَيْقِنَ ( ، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام .
و ) الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( ، قال الحسين بن(8/368)
" صفحة رقم 369 "
الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان . وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة : ) مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً ). لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضاً عن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند الله ، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله ، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة .
( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ).
الكاف في محل نصب ، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى ، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً ، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً . ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( : إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم ، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء عامرة بأنواع من الملائكة . وفي الحديث : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ) . ) وَمَا هِىَ ( : أي النار ، قاله مجاهد ، أو المخاطبة والنذارة ، أو نار الدنيا ، أو الآيات التي ذكرت ، أو العدّة التسعة عشر ، أو الجنود ، أقوال راجحها الأول وهي سقر ، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا . وقد جرى ذكر النار أيضاً في قوله : ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ الْمَلَائِكَةَ ). ) إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( : أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار .
المدثر : ( 32 ) كلا والقمر
) كَلاَّ ( ، قال الزمخشري : كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون . انتهى . ولا يسوغ هذا في حق الله تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى ، وإنما قوله : ) لّلْبَشَرِ ( عام مخصوص . وقال الزمخشري : أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير . وقيل : ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم . وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة . وقال الفراء : هي صلة للقسم ، وقدرها بعضهم بحقاً ، وبعضهم بألا الاستفتاحية ، وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام .
( وَالْقَمَرِ (
المدثر : ( 33 ) والليل إذ أدبر
) وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( : أي ولى ، ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد . أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته ، وقوام الوجود بإيجادها . وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر : إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال ؛ وابن جبير والسلمي والحسن : بخلاف عنهم ؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص : إذ ظرف زمان ماض ، أدبر رباعياً ؛ والحسن أيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر : إذا بالألف ، أدبر بالهمز ، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ ، وهو مناسب لقوله : ) إِذَا أَسْفَرَ ( ، ويقال : كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنى واحد . وقال يونس بن حبيب : دبر : انقضى ، وأدبر : تولى . وقال قتادة : دبر الليل : ولى . وقال الزمخشري : ودبر بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل . وقيل : هو من دبر(8/369)
" صفحة رقم 370 "
الليل النهار : أخلفه .
المدثر : ( 34 ) والصبح إذا أسفر
وقرأ الجمهور : أسفر رباعياً ؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل : سفر ثلاثياً ، والمعنى : طرح الظلمة عن وجهه .
المدثر : ( 35 - 36 ) إنها لإحدى الكبر
) إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( : الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار . قيل : ويحتمل أن يكون للنذارة ، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة . وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، فعاد الضمير إلى غير مذكور ، ومعنى إحدى الكبر : الدواهي الكبر ، أي لا نظير لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، والكبر : العظائم من العقوبات .
وقال الراجز : يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر
داهية الدهر وصماء الغير
والكبر جمع الكبرى ، طرحت ألف التأنيث في الجمع ، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع . وفي كتاب ابن عطية : والكبر جمع كبيرة ، ولعله من وهم الناسخ . وقرأ الجمهور : لإحدى بالهمز ، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى ، وهو بدل لازم . وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير : بحذف الهمزة ، وهو حذف لا ينقاس ، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين . والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم . وقال الزمخشري : أو تعليل لكلا ، والقسم معترض للتوكيد . انتهى .
وقرأ الجمهور : ) نَذِيراً ( ، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار ، فيكون تمييزاً : أي لإحدى الكبر إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً . كما ضمن إحدى معنى أعظم ، جاء عنه التمييز . وقال الفراء : هو مصدر نصب بإضمار فعل ، أي أنذر إنذاراً . واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر . فقال الزجاج : حال من الضمير في إنها . وقيل : حال من الضمير في إحدى ، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة ، أو ب : فأنذر في أول السورة ، أو حالاً من الكبر ، أو حالاً من ضمير الكبر ، فهو بمعزل عن الصواب . قال أبو البقاء : والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره : عظمت نذيراً . انتهى ، وهو قول لا بأس به . قال النحاس : وحذفت الهاء من نذيراً ، وإن كان للنار على معنى النسب ، يعني ذات الإنذار . وقال علي بن سليمان : أعني نذيراً . وقال الحسن : لأنذر ، إذ هي من النار . قال ابن عطية : وهذا القول يقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها ، أو من قوله : ) لإِحْدَى ). قال أبو رزين : نذير هنا هو الله تعالى ، فهو منصوب بإضمار فعل ، أي ادعوا نذيراً . وقال ابن زيد : نذير هنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فهو منصوب بفعل مضمر ، أي ناد ، أو بلغ ، أو أعلن . وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة : نذير بالرفع . فإن كان من وصف النار ، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف ، أي هي نذير . وإن كان من وصف الله أو الرسول ، فهو على إضمار هو .
المدثر : ( 37 ) لمن شاء منكم . . . . .
والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار ، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من . وقيل : الفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أي لمن شاء هو ، أي الله تعالى . وقال الحسن : هو وعيد ، نحو قوله تعالى : ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ). قال ابن عطية : هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر ، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره .
المدثر : ( 38 ) كل نفس بما . . . . .
ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى : ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ).
وقال الزمخشري : ) أَن يَتَقَدَّمَ ( في موضع الرفع بالابتداء ، و ) لِمَن شَاء ( خبر مقدم عليه ، كقولك لمن توضأ : أن يصلي ، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر . والمراد بالتقدم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه ، وهو كقوله : ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ). انتهى ، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف(8/370)
" صفحة رقم 371 "
قيل : والتقدم : الإيمان ، والتأخر : الكفر . وقال السدي : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة . وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات ، أو يتأخر عن المنهيات ، والظاهر العموم في كل نفس . وقال الضحاك : كل نفس حقيق عليها العذاب ، ولا يرتهن الله تعالى أحداً من أهل الجنة ، ورهينة بمعنى رهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث ، نحو : رجل قتيل وامرأة قتيل ، فالمعنى : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه قول الشاعر : أبعد الذي بالنعف نعف كويكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل
أي : رمس رهن ، والمعنى : أن كل نفس رهن عند الله غير مفكوك . وقيل : الهاء في رهينة للمبالغة . وقيل : على تأنيث اللفظ لا على الإنسان ، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء ، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة ، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء ، قال تعالى : ) كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ). فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء ، كما في هذه الآية . فأما الذي في البيت فأنث على معنى النفس .
المدثر : ( 39 ) إلا أصحاب اليمين
) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( ، قال ابن عباس : هم الملائكة . وقال عليّ : هم أطفال المسلمين . فعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن أصحاب اليمين في جنات . وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم ، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم . وقال الزمخشري : ) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( ، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . انتهى . وظاهر هذا أنه استثناء متصل
المدثر : ( 40 - 42 ) في جنات يتساءلون
في جنات ، أي هم ) فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( : أي يسأل بعضهم بعضاً ، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل ، أي يسألون عنهم غيرهم ، كما يقال : دعوته وتداعوته بمعناه . وعلى هذين التقديرين كيف جاء ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( بالخطاب للمجرمين ، وفي الكلام حذف ، المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً ، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم ، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم ، أو قالت لهم الملائكة : هكذا قدره بعضهم ، والأقرب أن يكون التقدير : يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل : ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ).
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق قوله : ) مَا سَلَكَكُمْ ( ؟ وهو سؤال للمجرمين ، قوله : ) يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( ؟ وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم ؟ قلت : ) مَا سَلَكَكُمْ ( ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( ، ( قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ ( ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه . انتهى ، وفيه تعسف . والأظهر أن السائلين هم المتسائلون ، وما سلككم على إضمار القول كما ذكرنا ، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير ، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار .
المدثر : ( 43 - 47 ) قالوا لم نك . . . . .
والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء ، كقولهم : ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( ، ثم قال : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ). واليقين : أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء ، أي وقت الموت . وقال ابن عطية : واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخر . وقال المفسرون : اليقين : الموت ، وذلك عندي هنا متعقب ، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي . وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت ، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى : ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ).
المدثر : ( 48 ) فما تنفعهم شفاعة . . . . .
( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( : ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم ، وإنما(8/371)
" صفحة رقم 372 "
المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع ، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب :
على لاحب لا يهتدي بمناره
أي : لا منار له فيهتدي به . وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها ، ووردت أحاديث في صحة ذلك .
المدثر : ( 49 ) فما لهم عن . . . . .
( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ ( : وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة ، ( مُعْرِضِينَ ( : أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة .
المدثر : ( 50 ) كأنهم حمر مستنفرة
ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى . وقرأ الجمهور : ) حُمُرٌ ( بضم الميم ؛ والأعمش : بإسكانها . قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم . وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : ) مُّسْتَنفِرَةٌ ( بفتح الفاء ،
المدثر : ( 51 ) فرت من قسورة
والمعنى : استنفرها : فزعها من القسورة ؛ وباقي السبعة : بكسرها ، أي نافرة نفر ، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر ، ومنه قول الشاعر : أمسك حمارك إنه مستنفر
في إصر أحمرة عهدن لعرّب
ويناسب الكسر قوله : ) فَرَّتْ ). وقال محمد بن سلام : سألت أبا سرار العتوي ، وكان أعرابياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة ؟ فقلت : إنما هو ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( ، قال : أفرّت ؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذن . قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : القسورة : الرماة . وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : الأسد . وقال ابن جبير : رجال القنص ، وهو قريب من القول الأول ، وقاله ابن عباس أيضاً . وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل ، والمعنى : فرّت من ظلمة الليل ، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش ، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها .
المدثر : ( 52 ) بل يريد كل . . . . .
( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ ( : أي من المعرضين عن عظات الله وآياته ، ( أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ( : أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها ، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لن نتبعك حتى يؤتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، ونحوه ) لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ ). وروي أن بعضهم قال : إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان ، فلتعرض تلك الصحف علينا ، فنزلت هذه الآية . وقرأ الجمهور : ) صُحُفاً ( بضم الصاد والحاء ، ( مُّنَشَّرَةً ( مشدّداً ؛ وابن جبير : بإسكانها منشرة مخففاً ، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل . شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى ، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت ، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً ، ويقال في الميت : أنشره الله فنشر هو ، أي أحياه فحيي .
المدثر : ( 53 ) كلا بل لا . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات ، ( بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ ( ، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف . وقرأ الجمهور : ) يَخَافُونَ ( بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة : بتاء الخطاب التفاتاً .
المدثر : ( 54 - 56 ) كلا إنه تذكرة
) كَلاَّ ( : ردع عن إعراضهم عن التذكرة ، ( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( : ذكر في إنه وفي ذكره ، لأن التذكرة ذكر . وقرأ نافع وسلام ويعقوب : تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال ؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج : بالياء . وروي عن أبي حيوة : يذكرون بياء الغيبة وشد الذال . وروي عن أبي جعفر : تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال . ) هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى ( : أي أهل أن يتقي ويخاف ، وأهل أن يغفر . وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسر هذه الآية فقال : ( يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل يتقى إله غيري ، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له ) . وقال الزمخشري : في قوله تعالى ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( ، يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه ، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً .(8/372)
" صفحة رقم 373 "
75
( سورة القيامة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْألُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاٌّ خِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ( ) ) 2
القيامة : ( 1 ) لا أقسم بيوم . . . . .
برق بكسر الراء : فزع ودهش ، وأصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمّة : ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت
لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق
قال الأعشى : وكنت أرى في وجه مية لمحة
فأبرق مغشياً عليّ مكانياً
وبرق بفتح الراء : شق بصره ، وهو من البريق ، أي لمع بصره من شدّة شخوصه . الوزر : ما يلجأ إليه من(8/373)
" صفحة رقم 374 "
حصن أو جبل أو غيرهما ، قال الشاعر : لعمرك ما للفتى من وزر
من الموت يدركه والكبر
النضرة : النعمة وجمال البشرة وطراوتها ، قال الشاعر : أبى لي قبر لا يزال مقابلي
وضربة فاس فوق رأسي فاقره
أي : مؤثرة . التراقي جمع ترقوة : وهي عظام الصدر ، ولكل إنسان ترقونان ، وهو موضع الحشرجة ، قال دريد بن الصمة : ورب عظيمة دافعت عنهم
وقد بلغت نفوسهم التراقي
رقي يرقى من الرقية ، وهي ما يستشفى به للمريض من الكلام المعد لذلك . تمطى : تبختر في مشيته ، وأصله من المطا وهو الظهر ، أي يلوي مطاه تبختراً . وقيل : أصله تمطط : أي تمدّد في مشيته ، ومد منكبيه ، قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظني من الظن ، وأصله تظنن ، والمطيطا : التبختر ومد اليدين في المشي ، والمطيط : الماء الخاثر في أسفل الحوض ، لأنه يتمطط فيه ، أي يمتد ؛ وعلى هذا الاشتقاق لا يكون أصله من المط لاختلاف المادتين ، إذ مادة المطا م ط و ، ومادة تمطط م ط ط . سدى : مهمل ، يقال إبل سدى : أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع ، وأسديت الشيء : أي أهملته ، وأسديت حاجتي : ضيعتها . قال الشاعر : فأقسم بالله جهد اليمين
ما خلق الله شيئاً سدى
وقال أبو بكر بن دريد في المقصورة : لم أر كالمزن سواما بهلا
تحسبها مرعية وهي سدى
) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاْخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ). (8/374)
" صفحة رقم 375 "
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أن في آخر ما قبلها قوله : ) كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ، وفيها كثير من أحوال القيامة ، فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها .
القيامة : ( 2 ) ولا أقسم بالنفس . . . . .
وتقدّم الكلام في ) لاَ أُقْسِمُ ). والخلاف في لا ، والخلاف في قراآتها في أواخر الواقعة . أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهو له .
القيامة : ( 4 ) بلى قادرين على . . . . .
و ) لاَ أُقْسِمُ ( ، قيل : لا نافية ، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة ، نص على هذا الحسن ؛ والجمهور : على أن الله أقسم بالأمرين . واللوّامة ، قال الحسن : هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله بها . وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد ، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه . وقيل : النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى . وقال ابن عباس وقتادة : هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها ، فهي على هذا ذميمة ، ويحسن نفي القسم بها . والنفس اللوّامة : اسم جنس بهذا الوصف . وقيل : هي نفس معينة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة . قال ابن عطية : وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين ، مرّة تلوم على ترك الطاعة ، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت . انتهى . والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة ، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله : ) أَيَحْسَبُ ( الآية ، وتقديره لتبعثن . وقال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : ) فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، وكان قد أنشد قول امرىء القيس : لا وأبيك ابنة العامري
لا يدعي القوم إني أفرّ
وقول غوية بن سلمى : ألا نادت أمامة باحتمالي
لتحزنني فلا بك ما أبالي
قال : فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، نحو قولك : ) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( ، لا تتركون سدى ؟ قلت : لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقسم . ألا ترى كيف لقي ) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ ( بقوله : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( ، وكذلك ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، ( إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( ؟ ثم قال الزمخشري : وجواب القسم ما دل عليه قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( ، وهو لتبعثن . انتهى ، وهو تقدير النحاس . وقول من قال جواب القسم هو : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ ). وما روي عن الحسن أن الجواب : ) بَلَى قَادِرِينَ ( ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما ، أي لا أقسم على شيء ، وأن التقدير : أسألك أيحسب الإنسان ؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها ، بل تطرح ولا يسود بها الورق ، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها . والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث . روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا محمد ، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره ؟ فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به ، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها ، فنزلت . وقيل : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أيزعم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقا(8/375)
" صفحة رقم 376 "
جديداً ؟
وقرأ الجمهور : ) نَّجْمَعَ ( بنون ، ( عِظَامَهُ ( نصباً ؛ وقتادة : بالتاء مبنياً للمفعول ، عظامه رفعاً ، والمعنى : بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض . وقوله : ) أَيَحْسَبُ ( استفهام تقرير وتوبيخ ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم . ) بَلَى ( : جواب للاستفهام المنسخب على النفي ، أي بلى نجمهعا . وذكر العظام ، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة ، لأن العظام هي قالب الخلق . وقرأ الجمهور : ) قَادِرِينَ ( بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها ؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع : قادرون ، أي نحن قادرون . ) عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ ( : وهي الأصابع ، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها ، وهذا عند البعث . وقال ابن عباس والجمهور : المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة ، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه ، أي في الدنيا فتقل منفعته بها ، وهذا القول فيه توعد ، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام . وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين . وقيل : ) قَادِرِينَ ( منصوب على خبر كان ، أي بلى كنا قادرين في الابتداء .
القيامة : ( 5 ) بل يريد الإنسان . . . . .
( بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ بَلِ ( : إضراب ، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال . والظاهر أن ) يُرِيدُ ( إخبار عن ما يريده الإنسان . وقال الزمخشري : ) بَلْ يُرِيدُ ( عطف على ) أَيَحْسَبُ ( ، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب . انتهى . وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر ، وهي متكلفة ، بل المعنى : الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة ، وهي نجمعها قادرين ، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته ؛ ومفعول ) يُرِيدُ ( محذوف يدل عليه التعليل في ) لِيَفْجُرَ ). قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي : معنى الآية : أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته . قال السدي أيضاً : ليظلم على قدر طاقته ، وعلى هذا فالضمير في ) أَمَامَهُ ( عائد على الإنسان ، وهو الظاهر . وقال ابن عباس : ما يقضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة ، وبين يديه يوم القيامة خلفه ، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة ، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه ؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان ، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته .
القيامة : ( 6 ) يسأل أيان يوم . . . . .
( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( : أي متى يوم القيامة ؟ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت .
القيامة : ( 7 ) فإذا برق البصر
وقرأ الجمهور : ) بَرِقَ ( بكسر الراء ؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو ، والحسن والجحدري : بخلاف عنهما بفتحها . قال أبو عبيدة : برق بالفتح : شق . وقال ابن إسحاق : خفت عند الموت . قال مجاهد : هذا عند الموت . وقال الحسن : هو يوم القيامة . وقرأ أبو السمال : بلق باللام عوض الراء ، أي انفتح وانفرج ، يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته ، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول : بلقه وأبلقه إذا أغلفه . وقال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك ، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه . انتهى . ويمكن أن تكون اللام بدلاً من الراء ، فهما يتعاقبان في بعض الكلام ، نحو قولهم : نثرة ونثلة ، ووجر ووجل .
القيامة : ( 8 ) وخسف القمر
وقرأ الجمهور : ) وَخَسَفَ ( مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي : مبنياً للمفعول . يقال : خسف القمر وخسفه الله ، وكذلك الشمس . قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة : الخسوف والكسوف بمعنى واحد . وقال ابن أبي أويس : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف جميعه .
القيامة : ( 9 ) وجمع الشمس والقمر
) وَجُمِعَ الشَّمْس(8/376)
" صفحة رقم 377 "
ُ وَالْقَمَرُ ( : لم تلحق علامة التأنيث ، لأن تأنيث الشمس مجان ، أو لتغليب التذكير على التأنيث . وقال الكسائي : حمل على المعنى ، والتقدير : جمع النوران أو الضياآن ، ومعنى الجمع بينهما ، قال عطاء بن يسار : يجمعان فيلقيان في النار ، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى . وقيل : يجمع بينهما في الطلوع من المغرب ، فيطلعان أسودين مكورين . وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب ، وقيل : يجتمعان ولا يتفرقان ، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر ، فكأن المعنى : يجمع حرهما . وقيل : يجمع بينهما في ذهابه الضوء ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار .
القيامة : ( 10 ) يقول الإنسان يومئذ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْمَفَرُّ ( بفتح الميم والفاء ، أي أين الفرار ؟ وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن زيد ، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري : بكسر الفاء ، وهو موضع الفرار . وقرأ الحسن : بكسر الميم وفتح الفاء ، ونسبها ابن عطية للزهري ، أي الجيد الفرار ، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ، نحو قوله :
مكر مفر مقبل مدبر معاً
القيامة : ( 11 ) كلا لا وزر
والظاهر أن قوله : ) كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( من تمام قول الإنسان . وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية عن الإنسان . ) كَلاَّ ( : ردع عن طلب المفر ، ( لاَ وَزَرَ ( : لا ملجأ ، وعبر المفسرون عنه بالجبل . قال مطرف بن الشخير : هو كان وزر فرار العرب في بلادهم ، فلذلك استعمل ؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غيره .
القيامة : ( 12 ) إلى ربك يومئذ . . . . .
( إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ( : أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر ، ( الْمُسْتَقَرُّ ( : أي الاستقرار ، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى ، يدخل من شاء الجنة ، ويدخل من شاء النار .
القيامة : ( 13 ) ينبأ الإنسان يومئذ . . . . .
( بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( ، قال عبد الله وابن عباس : بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده . وقال ابن عباس أيضاً : بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات . وقال زيد بن أسلم : بما قدم من ماله لنفسه ، وبما أخر منه للوارث . وقال النخعي ومجاهد : بأول عمله وآخره . وقال الضحاك : بما قدم من فرض وأخر من فرض ؛ والظاهر حمله على العموم ، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه .
القيامة : ( 14 ) بل الإنسان على . . . . .
( بَصِيرَةٌ ( : خبر عن الإنسان ، أي شاهد ، قاله قتادة ، والهاء للمبالغة . وقال الأخفش : هو كقولك : فلإن عبرة وحجة . وقيل : أنث لأنه أراد جوارحه ، أي جوارحه على نفسه بصيرة . وقيل : بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف ، أي عين بصيرة ، وعلى نفسه الخبر . والجملة في موضع خبر عن الإنسان ، والتقدير عين بصيرة ، وإليه ذهب الفراء وأنشد : كأن على ذي العقل عيناً بصيرة
بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهممن الخوف لا تخفى عليهم سرائره
وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور ، وهو الخبر عن الإنسان . ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً(8/377)
" صفحة رقم 378 "
عن الإنسان ؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث . وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة .
القيامة : ( 15 ) ولو ألقى معاذيره
والمعاذير عند الجمهور الأعذار ، فالمعنى : لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها . وقيل : المعاذير جمع معذرة . وقال الزمخشري : قياس معذرة معاذر ، فالمعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحو المناكير في المنكر . انتهى . وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جمع التكسير ، فهو كذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع ، بل قيل : هما جمع للمحة وذكر على قياس ، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به ، وهو مذكار وملمحة . وقال السدي والضحاك : المعاذير : الستور بلغة اليمن ، واحدها معذار ، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب . وقاله الزجاج أيضاً ، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه . وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر : ولكنها ضنت بمنزل ساعة
علينا وأطت فوقها بالمعاذر
وقيل : البصيرة : الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر ، أي وإن تستر بالستور ؛ وإذا كانت من العذر ، فمعنى ) وَلَوْ أَلْقَى ( : أي نطق بمعاذيره وقالها . وقيل : ولو رمى بأعذاره واستسلم . وقال السدي : ولو أدى بحجة وعذر . وقيل : ولو أحال بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : ) لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( ؛ والعذرة والعذرى : المعذرة ، قال الشاعر :
ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت
وقال فيها : ولا عذر لمجحود .
القيامة : ( 16 - 19 ) لا تحرك به . . . . .
( لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ ( : الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما سنذكر إن شاء الله تعالى . وقال القفال : هو خطاب للإنسان المذكور في قوله : ) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ ( ، وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله ، يعرض عليه كتابه فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً . فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة ، فقيل له : ) لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك . ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( عليك ، ( فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( بأنك فعلت تلك الأفعال . ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( : أي بيان أمره وشرح عقوبته . وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل ، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة ، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت . وقال الضحاك : السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت . وقال الشعبي : كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى . والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية . ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( : أي في صدرك ، ( وَقُرْءانَهُ ( : أي قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر(8/378)
" صفحة رقم 379 "
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقيل : وقرآنه : وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت : أي جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر : ذراعي بكرة أدماء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( : أي الملك المبلغ عنا ، ( فَأَتْبَعَ ( : أي بذهنك وفكرك ، أي فاستمع قراءته ، قاله ابن عباس . وقال أيضاً هو قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي . وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى . وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ؛ فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة . وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل . ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( ، قال قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه . وقيل : أن تبنيه أنت . وقال قتادة أيضاً : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره .
وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس : ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( : أي حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك . وقال الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك . وقيل : جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك . ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( ، قال ابن عباس : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضاً : فإذا يتلى عليكك فاتبع ما فيه . وقال قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه . وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ . ) لِتَعْجَلَ بِهِ ( : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله : ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( في صدرك وإثبات قراءته في لسانك . ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( : جعل قراءة جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفياً له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه . ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . انتهى .
وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك . ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها .
وبضدها تتميز الأشياء
ولما كان عليه الصلاة والسلام ، لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه .
القيامة : ( 20 - 21 ) كلا بل تحبون . . . . .
كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة . لما فرغ من خطابه(8/379)
" صفحة رقم 380 "
عليه الصلاة والسلام ، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك . وقرأ الجمهور : ) بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ ( بتاء الخطاب ، لكفار قريش المنكرين البعث ، و ) كَلاَّ ( : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها . وقال الزمخشري : ) كَلاَّ ( ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه . وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما .
القيامة : ( 22 - 23 ) وجوه يومئذ ناضرة
ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال : ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( ، وعبر بالوجه عن الجملة . وقرأ الجمهور : ) نَّاضِرَةٌ ( بألف ، وزيد بن علي : نضرة بغير ألف . وقرأ ابن عطية : ) وُجُوهِ ( رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله : ) يَوْمَئِذٍ ( و ) نَّاضِرَةٌ ( خبر ) وُجُوهِ ). وقوله : ) إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ ( جملة هي في موضع خبر بعد خبر . انتهى . وليس ) يَوْمَئِذٍ ( تخصيصاً للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون ) يَوْمَئِذٍ ( معمول لناضرة . وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و ) نَّاضِرَةٌ ( الخبر ، و ) نَّاضِرَةٌ ( صفة . وقيل : ) نَّاضِرَةٌ ( نعت لوجوه ، و ) إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ ( الخبر ، وهو قول سائغ . ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا . ولما كان الزمخشري من المعتزلة ، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل : وإذا نظرت إليك من ملك
والبحر دونك زدتني نعماء
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه . انتهى . وقال ابن عطية : ذهبوا ، يعني المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية . كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا : أي إلى صنعك في كذا . انتهى . والظاهر أن إلى في قوله : ) إِلَى رَبّهَا ( حرف جر يتعلق بناظرة . وقال بعض المعتزلة : إلى هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة .
القيامة : ( 24 - 25 ) ووجوه يومئذ باسرة
) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( : يجوز أن يكون ) وُجُوهِ ( مبتدأ خبره ) بَاسِرَةٌ ( وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر . والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر ، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع ) أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( : فعل هو في شدة داهية تقصم . وقال أبو عبيدة : فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار .
القيامة : ( 26 - 27 ) كلا إذا بلغت . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في ) بَلَغَتِ ( عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول حاتم : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء . وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها . وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضروا المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام(8/380)
" صفحة رقم 381 "
حقيقة . وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة وابن زيد . واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي من يرقي بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ قاله ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي . وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : ) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( الآية . ووقف حفص على ) مِنْ ( ، وابتدأ ) رَاقٍ ( ، وأدغم الجمهور . قال أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته . وكذلك قرأ : ) بَلْ رَانَ ). انتهى . وكان حفصاً قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكت لطيفاً ليشعر أنهما كلمتان . وقال سيبويه : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد ؛ والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان . ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالماً بالنحو . وأمّا ) بَلْ رَانَ ( فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في ) بَلْ رَانَ ( ، صار كالوقف القليل .
القيامة : ( 28 ) وظن أنه الفراق
) وَظَنَّ ( ، أي المريض ، ( أَنَّهُ ( : أي ما نزل به ، ( الْفِرَاقُ ( : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه . وقيل : فراق الروح الجسد .
القيامة : ( 29 ) والتفت الساق بالساق
) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( ، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد : استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها ، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها ، لأنه بين الحالين قد اختلطا به ، كما يقول : شمرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها . وقال ابن المسيب والحسن : هي حقيقة ، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن . وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك : التفافهما لشدّة المرض ، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه . وقال الضحاك : أسوق حاضريه من الإنس والملائكة ؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر ، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء . وقيل : التفافهما : موتهما أولاً ، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء . وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر .
القيامة : ( 30 ) إلى ربك يومئذ . . . . .
( إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( : المرجع والمصير ، والمساق مفعل من السوق ، فهو اسم مصدر ، إمّا إلى جنة ، وإمّا إلى نار . ) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( ، الجمهور : إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله : ) يَتَمَطَّى ). فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها . وتقدم أيضاً أنه قيل في قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( أنها نزلت في أبي جهل . وقال الزمخشري : يعني الإنسان في قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ). ألا ترى إلى قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( ، وهو معطوف على قوله : ) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( : أي لا يؤمن بالبعث ؟
القيامة : ( 31 ) فلا صدق ولا . . . . .
( فَلاَ صَدَّقَ ( بالرسول والقرآن ، ( وَلاَ صَلَّى ). ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، يعني فلا زكاة . انتهى . وكون ) فَلاَ صَدَّقَ ( معطوفاً على قوله : ) يَسْئَلُ ( فيه بعد ، ولا هنا نفت الماضي ، أي لم يصدق ولم يصل ؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه ، ومثله قوله : وأي خميس لا أتانا نهابه
وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
وقال الراجز : إن تغفر اللهم تغفر جما
وأيّ عبد لك لا ألما(8/381)
" صفحة رقم 382 "
وصدق : معناه برسالة الله . وقال يوم : هو من الصدقة ، وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب ، كقوله : ) لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ ). وحمل ) فَلاَ صَدَّقَ ( على نفي التصديق بالرسالة ، فيقتضي أن يكون ) وَلَاكِن كَذَّبَ ( تكراراً . ولزم أن يكون لكن استدراكاً بعد ) وَلاَ صَلَّى ( لا بعده ) فَلاَ صَدَّقَ ( ، لأنه كان يتساوى الحكم في ) فَلاَ صَدَّقَ ( وفي ) كَذَّبَ ( ، ولا يجوز ذلك ،
القيامة : ( 32 ) ولكن كذب وتولى
إذ لا يقع لكن بعد متوافقين . ) وتولي ( : أعرض عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكذب بما جاء به .
القيامة : ( 33 ) ثم ذهب إلى . . . . .
( ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي قومه ، ( يَتَمَطَّى ( : يبختر في مشيته .
القيامة : ( 34 - 35 ) أولى لك فأولى
روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له : ( إن الله يقول لك أولى فأولى لك ) ، فنزل القرآن على نحوها ، وقالت الخنساء : هممت بنفسي كل الهمو
م فأولى لنفسي أولى لها
وتقدم الكلام على ) أُوْلِى ( شرحاً وإعراباً في قوله تعالى : ) فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ( في سورة القتال ، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد .
القيامة : ( 36 ) أيحسب الإنسان أن . . . . .
ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا ، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها ، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور .
القيامة : ( 37 ) ألم يك نطفة . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَلَمْ يَكُ ( بياء الغيبة ؛ والحسن : بتاء الخطاب على سبيل الالتفات . وقرأ الجمهور : تمنى ، أي النطفة يمنيها الرجل ؛ وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر : بخلاف عنه بالياء ، أي يمنى هو ، أي المني ، فخلق الله منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة .
القيامة : ( 38 ) ثم كان علقة . . . . .
( فَسَوَّى ( : أي سواه شخصاً مستقلاً .
القيامة : ( 39 ) فجعل منه الزوجين . . . . .
( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ( : أي النوعين أو المزدوجين من البشر ، وفي قراءة زيد بن عليّ : الزّوجان بالألف ، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله .
القيامة : ( 40 ) أليس ذلك بقادر . . . . .
وقرأ أيضاً : يقدر مضارعاً ، والجمهور : ) بِقَادِرٍ ( اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة .
( أَلَيْسَ ذَلِكَ ( : أي الخالق المسوي ، ( بِقَادِرٍ ( ، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث . وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان : بسكون الياء من قوله : ) أَن يُحْيِىَ ( ، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف ، وقد جاء في الشعر حذفها . وقرأ الجمهور : بفتحها . وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء . قال ابن خالويه : لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي ، قالوا لسكون الياء الثانية ، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة . وأما الفراء فاحتج بهذا البيت :
تمشي بسده بينها فتعيى
يريد : فتعيي ، والله تعالى أعلم .(8/382)
" صفحة رقم 383 "
76
( سورة الدهر )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاٌّ بْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( ) ) 2
الإنسان : ( 1 ) هل أتى على . . . . .
الأمشاج : الاخلاط ، واحدها مشج بفتحتين ، أو مشج كعدل ، أو مشيج كشريف وأشراف ، قاله ابن الأعرابي ، وقال رؤبة(8/383)
" صفحة رقم 384 "
يطرحن كل معجل بساج
لم يكس جلداً من دم أمشاج
وقال الهذلي : كأن النصل والفوقين منها
خلاف الريش سيط به مشيج
وقال الشماخ : طوت أحشاء مرتجة لوقت
على مشج سلالته مهين
ويقال : مشج يمشج مشجاً إذا خلط ، ومشيج : كخليط ، وممشوج : كمخلوط . مزج الشيء بالشيء : خلطه ، وقال الشاعر : كأن سبيئة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
استطار الشيء : انتشر ، وتقول العرب : استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال ، ومنه قول الشاعر : فبانت وقد أسأرت في الفؤا
د صدعاً على نأيها مستطيرا
وقال الفراء : مستطير : مستطيل . ويقال : يوم قمطرير وقماطر واقمطرّ ، فهو مقمطر إذا كان صعباً شديداً ، وقال الزاجز : قد جعلت شبوة تزبئر
تكسو إستها لحماً وتقمطر
وقال الشاعر : ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها
وبج بها اليوم الشديد القماطر
وقال الزجاج : القمطرير : الذي يعيش حتى يجتمع ما بين عينيه ، ويقال : أقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ، فاشتقه من القطر وجعل الميم زائدة ، وقال أسد بن ناعصة : واصطليت الحروب في كل يوم
باسد الشر قمطرير الصباح
واختلف في هذا الوزن ، وأكثر النحاة لا يثبت افمعلّ في أوزان الأفعال . الزمهرير : أشد البرد ، وقال ثعلب : هو القمر بلغة طي ، وأنشد قول الراجز :(8/384)
" صفحة رقم 385 "
وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهر
القارورة : إناء رقيق صاف توضع فيه الأشربة ، قيل : ويكون من الزجاج . الزنجبيل ، قال الدينوري : نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر ، يؤكل رطباً ، وأجوده ما يحمل من بلاد الصين ، كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعاً في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به ، قال الشاعر : كأن جنباً من الزنجبيل بات
بفيها وارياً مستورا
وقال المسيب بن علس :
وكأن طعم الزنجبيل به إذا ذقته وسلافة الخمر
السلسبيل والسلسل والسلسال : ما كان من الشراب غاية في السلاسة ، قاله الزجاج . وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن . ثم ظرف مكان للبعد .
( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال مجاهد وقتادة : مدنية . وقال الحسن وعكرمة : مدنية إلا آية واحدة فإنها مكية وهي : ) وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ). وقيل : مدنية إلا من قوله : ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( الخ ، فإنه مكي ، حكاه الماوردي . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً لا تحتاج إلى شرح .
( هَلُ ( حرف استفهام ، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد ، لأن قد من خواص الفعل ، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض . وقال ابن عباس وقتادة : هي هنا بمعنى قد . قيل : لأن الأصل أهل ، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام ، ويدل على ذلك قوله : سائل فوارس يربوع لحلتها
أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم
فالمعنى : أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا ، فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور . وما تليت عند أبي بكر ، وقيل : عند عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ليتها تمت ، أي ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف . والإنسان هنا جنس بني(8/385)
" صفحة رقم 386 "
آدم ، والحين الذي مرّ عليه ، إما حين عدمه ، وإما حين كونه نطفة . وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه ، فإنه في تلك المدة لا ذكر له ، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه . وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام ، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح . وعن ابن عباس : بقي طيناً أربعين سنة ، ثم صلصالاً أربعين ، ثم حمأ مسنوناً أربعين ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، وسمي إنساناً باعتبار ما آل إليه . والجملة من ) لَمْ يَكُنِ ( في موضع الحال من الإنسان ، كأنه قيل : غير مذكور ، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين ، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً ، أي لم يكن فيه .
الإنسان : ( 2 ) إنا خلقنا الإنسان . . . . .
( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ ( : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق ) مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ( : أخلاط ، وهو وصف للنطفة . فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة . وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما . وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض . وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً . وقال ابن عباس أيضاً والكلبي : هي ألوان النطفة . وقيل : أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : ) عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ( ، أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة . وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد . ويقال أيضاً : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما . انتهى . وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً . قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه . ) نَّبْتَلِيهِ ( : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة . انتهى . وهذا معنى قول ابن عباس . وقيل : نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل . ) فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( نبتليه ، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات .
الإنسان : ( 3 ) إنا هديناه السبيل . . . . .
ولما جعله بهذه المثابة ، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل ، أي أرشده إلى الطريق ، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك ، إذ أرشدناه طريق الهدى . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة . وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم . وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً ، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة . انتهى ، وهو على طريق الإلتزام . وقرأ الجمهور : ) أَمَّا ( بكسر الهمزة فيهما ؛ وأبو السمال وأبو العاج ، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما ، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب ، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف(8/386)
" صفحة رقم 387 "
وأنشدوا : يلحقها إما شمال عرية
وإما صبا جنح العشي هبوب
وقال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً بتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره . انتهى . فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط ، ولذلك تلقاها بفاء الجواب ، فصار كقول العرب : إما صديقاً فصديق ؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في ) هَدَيْنَاهُ ). وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله : ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً . انتهى . ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً : ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة .
الإنسان : ( 4 ) إنا أعتدنا للكافرين . . . . .
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد . وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة : ) سَلَاسِلَ ( ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً . وقيل عن حمزة وأبي عمر : الوقف بالألف . وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف ، واختلف عنهم في الوقف ، وكذا عن البزي . وقرأ باقي السبعة : بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً ، وهي قراءة الأعمش ، قيل : وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء ، ثم كثر حتى جرى في كلامهم ، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا : صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف ، وقال بعض الرجاز : والصرف في الجمع أتى كثيرا
حتى ادعى قوم به التخييرا
والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة ، وفي مصحف أبي وعبد الله ، وكذا قوارير . وروى هشام عن ابن عامر : سلاسل في الوصل ، وسلاسلاً بألف دون تنوين في الوقف . وروي أن من العرب من يقول : رأيت عمراً بالألف في الوقف .
الإنسان : ( 5 - 6 ) إن الأبرار يشربون . . . . .
( مِن كَأْسٍ ( : من لابتداء الغاية ، ( كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك . وقيل : هو على التشبيه ، أي طيب رائحة وبرد كالكافور . وقال الكلبي : كافوراً اسم عين في الجنة ، وصرفت لتوافق الآي . وقرأ عبد الله : قافوراً بالقاف بدل الكاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة ، كقولهم : عربي قح وكح ، و ) عَيْناً ( بدل من ) كَافُوراً ( مفعولاً بيشربون ، أي ماء عين ، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف ، أي يشربون خمراً خمر عين ، أو نصب على الاختصاص . ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن ؛ وفي ) يَشْرَبُ بِهَا ( : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق ، والمعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل ، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء . وقيل : الباء زائدة والمعنى يشرب بها ، وقال الهذلي : شربن بماء البحر ثم ترفعت
متى لجج خضر لهن نئيج
قيل : أي شربن ماء البحر . وقرأ ابن أبي عبلة : بشربها ؛ وعباد الله هنا هم المؤمنون ، ( يُفَجّرُونَهَا ( : يثقبونها بعود(8/387)
" صفحة رقم 388 "
قصب ونحوه حيث شاءوا ، فهي تجري عند كل واحد منهم ، هكذا ورد في الأثر . وقيل : هي عين في دار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين .
الإنسان : ( 7 ) يوفون بالنذر ويخافون . . . . .
( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( في الدنيا ، وكانوا يخافون . وقال الزمخشري : ) يُوفُونَ ( جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك . انتهى . فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن ، وهو قليل أو في شعر . والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر . قال الأصم وتبعه الزمخشري : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالى عليه أوفى . وقيل : النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى ، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات .
الإنسان : ( 8 ) ويطعمون الطعام على . . . . .
( عَلَى حُبّهِ ( : أي على حب الطعام ، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة ، قاله ابن عباس ومجاهد ؛ أو على حب الله : أي لوجهه وابتغاء مرضاته ، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني . والأول أمدح ، لأن فيه الإيثار على النفس ؛ وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر . وقال الحسن بن الفضل : على حب الطعام ، أي محبين في فعلهم ذلك ، لا رياء فيه ولا تكلف . ) مِسْكِيناً ( : وهو الطواف المنكسر في السؤال ، ( وَيَتِيماً ( : هو الصبي الذي لا أب له ، ( وَأَسِيراً ( : والأسير معروف ، وهو من الكفار ، قاله قتادة . وقيل : من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء . وقال ابن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة . وقيل : ) وَأَسِيراً ( استعارة وتشبيه . وقال مجاهد وابن جبير وعطاء : هو المسجون . وقال أبو حمزة اليماني : هي الزوجة ؛ وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون . وفي الحديث : ( غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ) .
الإنسان : ( 9 ) إنما نطعمكم لوجه . . . . .
( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( : هو على إضمار القول ، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين ، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله تعالى ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وهذا هو الظاهر . وقال مجاهد : أما أنهم ما تكلموا به ، ولكن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به . ) لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء ( : أي بالأفعال ، ( وَلاَ شُكُوراً ( : أي ثناء بالأقوال ؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جداً ظاهرة الاختلاف ، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير ، يخاطبون بها ببيت النبوة ، وإشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم ، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها .
الإنسان : ( 10 ) إنا نخاف من . . . . .
( يَوْماً عَبُوساً ( : نسبة العبوس إلى اليوم مجاز . قال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران .
الإنسان : ( 11 ) فوقاهم الله شر . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَوَقَاهُمُ ( بخفة القاف ؛ وأبو جعفر : بشدها ؛ ) وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً ( : بدل عبوس الكافر ، ( وَسُرُوراً ( : فرحاً بدل حزنه ، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين .
الإنسان : ( 12 ) وجزاهم بما صبروا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَجَزَاهُمْ ( ؛ وعليّ : وجازاهم على وزن فاعل ، ( جَنَّةً وَحَرِيراً ( : بستاناً فيه كل مأكل هنيء ، ( وَحَرِيراً ( فيه ملبس بهي ، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء .
الإنسان : ( 13 - 14 ) متكئين فيها على . . . . .
( لاَ يَرَوْنَ فِيهَا ( : أي في الجنة ، ( شَمْساً ( : أي حر شمس ولا شدة برد ، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها ، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته ، أي هي معتدلة الهواء . وفي الحديث : ( هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر ) . وقيل : لا يرون فيها شمساً ولا قمراً ، والزمهرير في لغة طيء القمر .
وقرأ الجمهور : ) وَدَانِيَةً ( ، قال الزجاج : هو حال عطفاً على ) مُتَّكِئِينَ ). وقال أيضاً : ويجوز أن يكون صفة للجنة ، فالمعنى : وجزاهم جنة دانية . وقال الزمخشري : ما معناه أنها حال مطعوفة على حال وهي لا يرون ، أي غير رائين ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم . وقرأ أبو حيوة : ودانية بالرفع ، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد ، نحو قولك : قائم الزيدون ، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون ) ظِلَالُهَا ( مبتدأ ) وَدَانِيَةً ( خبر له . وقرأ الأعمش : ودانياً عليهم ، وهو كقوله : ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ). وقرأ أبيّ : ودان مرفوع ، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش . ) وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا ( ، قال قتادة ومجاهد وسفيان : إن كان الإنسان قائماً ، تناول الثمر دون كلفة ؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك ، فهذا تذليلها ، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك . فأما على قراءة الجمهور : ) وَدَانِيَةً ( بالنصب ، كان ) وَذُلّلَتْ ( معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد ، أي(8/388)
" صفحة رقم 389 "
ومذللة ، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية . ويجوز أن تكون في موضع الحال ، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت .
قوله عز وجل : ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَاؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ).
الإنسان : ( 15 - 16 ) ويطاف عليهم بآنية . . . . .
لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ، ذكر شرابهم ، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها ، والآنية جمع إناء ، وتقدم شرح الأكواب . وقرأ نافع والكسائي : قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً ؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص : بمنع صرفهما ؛ وابن كثير : بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني . وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول . انتهى . وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين : إنه بدل من حرف الإطلاق ، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر ، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم ، كما قال الراجز :
يا صاح ما هاج الدموع الذرّفن
فهذه النون بدل من الألف ، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق . ) مِن فِضَّةٍ ( : أي مخلوقة من فضة ، ومعنى ) كَانَتْ ( : أنه أوجدها تعالى من قوله : ) كُنْ فَيَكُونُ ( تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها ، ومن ذلك قوله : ) كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ). وقرأ الأعمش : قوارير من فضة بالرفع ، أي هو قرارير . وقرأ الجمهور : ) قَدَّرُوهَا ( مبنياً للفاعل ، والضمير للملائكة ، أو للطواف عليهم ، أو المنعمين ، والتقدير : على قدر الأكف ، قاله الربيع ؛ أو على قدر الري ، قاله مجاهد . وقال الزمخشري : ) قَدَّرُوهَا ( صفة لقرارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروها . وقيل : الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله : ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ ( ، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز . وعن مجاهد : لا يفيض ولا يغيض . انتهى . وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وابن عبد الخالق عن يعقوب : قدروها مبنياً للمفعول . قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله : ) مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ ( ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء . وقال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر ، تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا . انتهى .
وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا ، قال : فيه حذف على حذف ، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها ، ثم حذف على فصار قدر ريهم(8/389)
" صفحة رقم 390 "
مفعول لم يسم فاعله ، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه ، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل . انتهى . والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف وهو الذي ، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير : قدروا منها ؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور .
الإنسان : ( 17 - 18 ) ويسقون فيها كأسا . . . . .
والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل ، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء ، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات . وقال الزمخشري : تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها . انتهى . وقال قتادة : الزنجبيل اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفاً ، ويمزج لسائر أهل الجنة . وقال الكلبي : يسقى بجامين ، الأول مزاجه الكافور ، والثاني مزاجه الزنجبيل . وعيناً بدل من كأس على حذف ، أي كأس عين ، أو من زنجبيل على قول قتادة . وقيل : منصوب على الاختصاص . والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق ، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة ، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية . وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف ، جعله علماً لها ، فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل ، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً ؛ ويحسن ذلك أنه لغة بعض العرب ، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب . وقال الزمخشري : وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . انتهى . وكان قد ذكر فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسيل ، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد ، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال ، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة .
وقال بعض المعربينّ : سلسبيلاً أمر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولأمته بسؤال السبيل إليها ، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه ، ويجب طرحه من كتب التفسير . وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته ، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه . وقال قتادة : هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان . وقال عكرمة : عين سلس ماؤها . وقال مجاهد : عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ . وقال مقاتل : عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا
الإنسان : ( 19 ) ويطوف عليهم ولدان . . . . .
وتقدّم شرح ) مُّخَلَّدُونَ ( وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون . وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه ، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس . وجواب
الإنسان : ( 20 ) وإذا رأيت ثم . . . . .
( إِذَا رَأَيْتَهُمْ ( : ) نَعِيماً ( ، ومفعول فعل الشرط محذوف ، حذف اقتصاراً ، والمعنى : وإذا رميت ببصرك هناك ، وثم ظرف العامل فيه رأيت . وقيل : التقدير : وإذا رأيت ما ثم ، فحذف ما كما حذف في قوله : ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( ، أي ما بينكم . وقال الزجاج ، وتبعه الزمخشري فقال : ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ ، لأن ثم صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة . انتهى . وليس بخطأ مجمع عليه ، بل قد أجاز ذلك الكوفيون ، وثم شواهد من لسان العرب كقوله : فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، فحذف الموصول وأبقى صلته . وقال ابن عطية : وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه(8/390)
" صفحة رقم 391 "
التقدير : رأيت ما ثم حذفت ما . انتهى . وهذا فاسد ، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما ، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف ، أي ما استقر ثم . وقرأ الجمهور : ثم بفتح الثاء ؛ وحميد الأعرج : ثم بضم التاء حرف عطف ، وجواب إذا على هذا محذوف ، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً ؛ والملك الكبير قيل : النظر إلى الله تعالى . وقال السدّي : استئذان الملائكة عليهم . وقال أكثر المفسرين : الملك الكبير : اتساع مواضعهم . وقال الكلبي : كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقاله عبد الله بن عمر ، وقال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام ، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه . وقال الترمذي ، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع : هو ملك التكوين والمشيئة ، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى : ) لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا ( ، وقيل غير هذه الأقوال .
الإنسان : ( 21 - 22 ) عاليهم ثياب سندس . . . . .
وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : ) عَالِيَهُمْ ( بفتح الياء ؛ وابن عباس : بخلاف عنه ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم . وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ : بالياء مضمومة ؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم : بفتح الياء . وقرأ : عليهم حرف جر ، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً ؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً ، فثياب فاعل . ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب ؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ( ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف . وقال الزمخشري : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ( ، أو في ) حَسِبْتَهُمْ ( ، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب . ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب . انتهى . إما أن يكون حالاً من الضمير في ) حَسِبْتَهُمْ ( ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على ) وِلْدانٌ ( ، ولذلك قدر عاليهم بقوله : عالياً لهم ، أي للولدان ، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله : ) وَحُلُّواْ وَسَقَاهُمْ ( ، وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز . وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال . وقال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم . انتهى . وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب . وقرأ الجمهور : ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس .
وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة : عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، تريد من حرير ؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها ؛ ورفع استبرق بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره : وثياب استبرق ، أي من استبرق . وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : خضر برفعهما . وقرأ العربيان ونافع في رواية : خضر بالرفع صفة لثياب ، وإستبرق جر عطفاً على سندس . وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب . وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما ؛ وحمزة والكسائي : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى : ) وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ( ، وقال : ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ، فجعل الحال جمعاً ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس(8/391)
" صفحة رقم 392 "
الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح .
وقرأ ابن محيصن : ) وَإِسْتَبْرَقٍ ( ، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف . وقال الزمخشري : هنا وقرىء واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب . وقرىء : واستبرق ، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبره . انتهى . ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله : بعد وقرىء واستبرق بوصل الألف والفتح ، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف ؛ والمنقول عنه في كتب القراآت أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف . وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة . انتهى . ونقول : إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق . وتقول : برق واستبرق ، كعجب واستعجب .
ولما كان قوله : ) خُضْرٍ ( يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته . فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله : ) خُضْرٍ ). وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة ) أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ( ، وفي موضع آخر ) مّن ذَهَبٍ ( ، أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا . قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة . انتهى . فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ، وإما أن يكون بدلاً منه ، وإمّا أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور . فإن كان الأول ، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيداً ، وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف . والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف .
( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( ، طهور صفة مبالغة في الطهارة ، وهي من فعل لازم ؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها ، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس ؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة ، ولم تمس بيد وضرة ، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه . ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال : أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك . انتهى . وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي ، قالوا : لا تنقلب إلى البول ، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك . ) إِنَّ هَذَا ( : أي النعيم السرمدي ، ( كَانَ لَكُمْ جَزَاء ( : أي لأعمالكم الصالحة ، ( وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( : أي مقبولاً مثاباً . قال قتادة : لقد شكر الله سعياً قليلاً ، وهذا على إضمار يقال لهم . وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب : إن هذا بعملك الرديء ، فيزداد غماً وحزناً .
الإنسان : ( 23 - 24 ) إنا نحن نزلنا . . . . .
ولما ذكر أولاً حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع ، ذكر ما شرف به نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ، وأمره بالصبر بحكمه ، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه ، وأكد الفعل بالمصدر . ) وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( ، قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، قال : إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل الله تعالى : ) وَلاَ تُطِعِ ( الآية . والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما ، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما ، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما . ولو قال : لا تضرب زيداً وعمراً ، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً ، لا عن ضرب أحدهما . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، والكفور ، وإن كان إثماً ، فإن فيه مبالغة في الكفر . ولما كان وصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم ، صلح التغاير فحسن العطف . وقيل : الآثم عتبة ، والكفور الوليد ، لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق ؛ وكان الوليد غالباً في الكفر ، شديد الشكيمة في العتوّ .
الإنسان : ( 25 ) واذكر اسم ربك . . . . .
( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً ( : يعني صلاة الصبح ، ( وَأَصِيلاً ( : الظهر والعصر .
الإنسان : ( 26 ) ومن الليل فاسجد . . . . .
( وَمِنَ الَّيْلِ ( : المغرب(8/392)
" صفحة رقم 393 "
والعشاء . وقال ابن زيد وغيره : كان ذلك فرضاً ونسخ ، فلا فرض إلا الخمس . وقال قوم : هو محكم على وجه الندب .
الإنسان : ( 27 ) إن هؤلاء يحبون . . . . .
( إِنَّ هَؤُلآء ( : إشارة إلى الكفرة . ) يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( : يؤثرونها على الدنيا . ) وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ ( : أي أمامهم ، وهو ما يستقبلون من الزمان . ) يَوْماً ثَقِيلاً ( : استعير الثقل لليوم لشدته ، وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب حامله .
الإنسان : ( 28 ) نحن خلقناهم وشددنا . . . . .
وتقدم شرح الأسر في سورة القتال . ) وَإِذَا شِئْنَا ( : أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ، ( بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ ( ممن يطيع . وقال الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا ، كقوله : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( ، ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ). انتهى . يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن ، وهو تعالى لم يشأ ، لكنه قد توضع إذا موضع إن ، وإن موضع إذا ، كقوله : ) أفإن مت فهم الخالدون ).
الإنسان : ( 29 ) إن هذه تذكرة . . . . .
( إِنَّ هَاذِهِ ( : أي السورة ، أو آيات القرآن ، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير ، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله . وقال الزمخشري : لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة ، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة .
الإنسان : ( 30 ) وما تشاؤون إلا . . . . .
( وَمَا تَشَاءونَ ( : الطاعة ، ( إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( ، يقسرهم عليها . ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً ( بأحوالهم وما يكون منهم ، ( حَكِيماً ( حيث خلقهم مع علمه بهم . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . وقرأ العربيان وابن كثير : وما يشاءون بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم ، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل ) أَن يَشَاء اللَّهُ ( ؟ قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله ، لأن ما مع الفعل كان معه . انتهى . ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به ، كقولك : أجيئك صياح الديك ، ولا يجيزون : أجيئك أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك ؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري .
الإنسان : ( 31 ) يدخل من يشاء . . . . .
( يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ ( : وهم المؤمنون . وقرأ الجمهور : ) وَالظَّالِمِينَ ( نصباً بإضمار فعل يفسره قوله : ) أَعَدَّ لَهُمْ ( ، وتقديره : ويعذب الظالمين ، وهو من باب الاشتغال ، جملة عطف فعلية على جملة فعلية . وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة : والظالمون ، عطف جملة اسمية على فعلية ، وهو جائز حسن . وقرأ عبد الله : وللظالمين بلام الجر ، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً ، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال ، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده ، فيكون التقدير : وأعد للظالمين أعدّ لهم ، وهذا مذهب الجمهور ، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو ، فتقول : بزيد مررت به ، ويكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، ويكون من باب الاشتغال . والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر ، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً .(8/393)
" صفحة رقم 394 "
7
( سورة المرسلات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الاٌّ وَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاٌّ خِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاٌّ رْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالاٌّ وَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ) ) 2
المرسلات : ( 1 ) والمرسلات عرفا
فرجت الشيء : فتحته فانفرج ، قال الراجز :
الفارجو باب الأمير المبهم
كفت : ضم وجمع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( اكفتوا صبيانكم ) . ومنه قيل ليقبع الغرقد : كفت وكفته ، والكفات اسم لما يكفت ، كالضمام والجماع ؛ يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وقال الصمصامة بن الطرماح(8/394)
" صفحة رقم 395 "
فأنت اليوم فوق الأرض حي
وأنت غدا تضمك في كفات
وقال أبو عبيدة : الكفات : الوعاء . شمخ : ارتفع . الشرر : ما تطاير من النار متبدّداً في كل جهة ، واحده شرارة ، ولغة تميم : شرار بالألف واحده شرارة . القصر : الدار الكبيرة المشيدة ، والقصر : قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء ، واحده قصرة ؛ والقصر ، بفتح الصاد : أعناق الإبل والنخل والناس ، واحده قصرة ؛ وبكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة ، كحلقة من الحديد وحلق ، والله تعالى أعلم .
( وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ).
هذه السورة مكية . وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي : ) وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ ). ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً ، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين ، فهذا وعد منه صادق ، فأقسم على وقوعه في هذه فقال : ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ). ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها ، وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات . فقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء : ) وَالْمُرْسَلَاتِ ( : الملائكة ، أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي ، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار . وقال ابن عباس وجماعة : الأنبياء ، ومعنى عرفاً : إفضالاً من الله تعالى على عباده ، ومنه قول الشاعر :
لا يذهب العرف بين الله والناس
وانتصابه على أنه مفعول له ، أي أرسلن للإحسان والمعروف ، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل . وتقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين ، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه ، وانتصابه على الحال . وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرّياح . وقال الحسن : السحاب . وقرأ الجمهور : ) عُرْفاً ( بسكون الراء ، وعيسى : بضمها .
المرسلات : ( 2 ) فالعاصفات عصفا
) فَالْعَاصِفَاتِ ( ، قال ابن مسعود : الشديدات الهبوب . وقيل : الملائكة تعصف بأرواح الكفار ، أي تزعجها بشدّة ، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققاً في امتثال أمره . وقيل : هي الآيات المهلكة ، كالزلازل والصواعق والخسوف .
المرسلات : ( 3 ) والناشرات نشرا
) والنَّاشِراتِ ( ، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل : الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال . وقال الربيع : الملائكة تنشر الناس من قبورهم . وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : الرّياح تنشر رحمة الله ومطره . وقال أبو صالح : الأمطار تحيي الأرض بالنبات . وقال الضحاك : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب ، أي ذات النشر .
المرسلات : ( 4 ) فالفارقات فرقا
) فَالْفَارِقَاتِ ( ، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك : الملائكة تفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام . وقال قتادة والحسن وابن كيسان : آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام . وقال مجاهد أيضاً : الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده . وقيل : الرسل ، حكاه الزجاج . وقيل : السحاب الماطر تشبيهاً بالناقة الفاروق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع . وقيل : العقول تفرق بين الحق والباطل ،(8/395)
" صفحة رقم 396 "
والصحيح والفاسد .
المرسلات : ( 5 ) فالملقيات ذكرا
) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ( ، قال ابن عباس وقتادة والجمهور : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقال قطرب : الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم . وقال الرّبيع : آيات القرآن ألقيت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون ) وَالْمُرْسَلَاتِ ( إلى آخر الأوصاف : إما للملائكة ، وإما للرّياح .
المرسلات : ( 6 ) عذرا أو نذرا
فللملائكة تكون عذراً للمحققين ، أو نذراً للمبطلين ؛ وللرّياح يكون المعنى : فألقين ذكراً ، إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذاراً للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن ، أو كفرت ، قاله الزمخشري . والذي أراه أن المقسم به شيئان ، ولذلك جاء العطف بالواو في ) والنَّاشِراتِ ( ، والعطف بالواو يشعر بالتغاير ، بل هو موضوعه في لسان العرب . وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات ، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات ، وهي الخيل ؛ وكقوله : يا لهف زيابة للحارث فالصا
بح فالغانم فالآيب
فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث . فإذا تقرر هذا ، فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح ، فهي مرسلاته تعالى ، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء ، كما قلنا ، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن . والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ، ويكون ) فَالْفَارِقَاتِ ( ، ( فَالْمُلْقِيَاتِ ( من صفاتهم ، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر ، وهو ما أنزل الله ، يصح إسناده إليهم . وقرأ الجمهور : ) فَالْمُلْقِيَاتِ ( اسم فاعل خفيف ، أي نطرقه إليهم ؛ وابن عباس : مشدد من التلقية ، وهي أيضاً إيصال الكلام إلى المخاطب . يقال : لقيته الذكر فتلقاه . وقرأ أيضاً ابن عباس ، فيما ذكره المهدوي : بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول ، أي تلقته من قبل الله تعالى .
وقرأ إبراهيم التيمي والنحويان وحفص : ) عُذْراً أَوْ نُذْراً ( بسكون الذالين ؛ وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن : بخلاف ؛ والأعشى ، عن أبي بكر : بضمهما ؛ وأبو جعفر أيضاً وشيبة وزيد بن علي والحرميان وابن عامر وأبو بكر : بسكونها في عذراً وضمها في نذراً ، فالسكون على أنهما مصدران مفردان ، أو مصدران جمعان . فعذراً جمع عذير بمعنى المعذرة ، ونذراً جمع نذير بمعنى الإنذار . وانتصابهما على البدل من ) ذِكْراً ( ، كأنه قيل : فالملقيات عذراً أو نذراً ، أو على المفعول من أجله ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي عاذرين أو منذرين . ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه . وقيل : يصح انتصاب ) عُذْراً أَوْ نَذِيراً ( على المفعول به بالمصدر الذي هو ) ذِكْراً ( ، أي فالملقيات ، أي فذكروا عذراً ، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل ، إنما يراد به الحقيقة لقوله : ) أَءلْقِىَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ). والإعذار هي بقيام الحجة على الخلق ، والإنذار هو بالعذاب والنقمة .
المرسلات : ( 7 ) إنما توعدون لواقع
) إِنَّمَا تُوعَدُونَ ( : أي من الجزاء بالثواب والعقاب ، ( لَوَاقِعٌ ( : وما موصولة ، وإن كانت قد كتبت موصولة بأن . وهذه الجملة هي المقسم عليها . وقرأ الجمهور : ) أَوْ نُذْراً ( بواو التفصيل ؛ وإبراهيم التيمي : ونذراً بواو العطف .
المرسلات : ( 8 ) فإذا النجوم طمست
) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( : أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء ، أو عبر عن إلحاق ذواتها بالطمس ، وهو انتثارها وانكدارها ، أو أذهب نورها ثم انتثرت ممحوقة النور .
المرسلات : ( 9 ) وإذا السماء فرجت
) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ( : أي صار فيها فروج بانفطار . وقرأ عمرو بن ميمون : طمست ، فرجت ، بشد الميم والراء ؛ والجمهور : بخفهما .
المرسلات : ( 10 ) وإذا الجبال نسفت
) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( : أي فرقتها الرياح ، وذلك بعد التسيير وقبل كونها هباء .
المرسلات : ( 11 ) وإذا الرسل أقتت
وقرأ الجمهور : ) أُقّتَتْ ( بالهمز وشد القاف ؛ وبتخفيف القاف والهمز النخعي والحسن وعيسى وخالد . وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى أيضاً وأبو عمرو : بالواو وشد القاف . قال عيسى : وهي لغة سفلى مضر . وعبد الله والحسن وأبو جعفر : بواو واحدة وخف القاف ؛ والحسن أيضاً : وقتت(8/396)
" صفحة رقم 397 "
بواوين على وزن فوعلت ، والمعنى : جعل لها وقت منتظر فحان وجاء ، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة ، والواو في هذا كله أصل والهمزة بدل . قال الزمخشري : ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره : إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون .
المرسلات : ( 12 ) لأي يوم أجلت
) لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ ( : تعظيم لذلك اليوم ، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة . والتأجيل من الأجل ، أي ليوم عظيم أخرت ،
المرسلات : ( 13 ) ليوم الفصل
) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( : أي بين الخلائق .
المرسلات : ( 15 ) ويل يومئذ للمكذبين
) وَيْلٌ ( : تقدم الكلام فيه في أول ثاني حزب من سورة البقرة ، يومئذ : يوم إذ طمست النجوم وكان ما بعدها .
المرسلات : ( 16 ) ألم نهلك الأولين
وقرأ الجمهور : ) نُهْلِكِ الاْوَّلِينَ ( بضم النون ، وقتادة : بفتحها . قال الزمخشري : من هلكه بمعنى أهلكه . قال العجاج :
ومهمه هالك من تعرجا
وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هو من اللازم ، ومن موصول ، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً .
المرسلات : ( 17 ) ثم نتبعهم الآخرين
وقرأ الجمهور : ) نُتْبِعُهُمُ ( بضم العين على الاستئناف ، وهو وعد لأهل مكة . ويقوي الاستئناف قراءة عبد الله : ثم سنتبعهم ، بسين الاستقبال ؛ والأعرج والعباس عن أبي عمرو : بإسكانها ؛ فاحتمل أن يكون معطوفاً على ) نُهْلِكِ ( ، واحتمل أن يكون سكن تخفيفاً ، كما سكن ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( ، فهو استئناف . فعلى الاستئناف يكون الأولين الأمم التي تقدمت قريشاً أجمعاً ، ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم . وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم ، والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال ،
المرسلات : ( 18 ) كذلك نفعل بالمجرمين
ولذلك جاء ) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( ، فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب وهي الإجرام .
المرسلات : ( 20 ) ألم نخلقكم من . . . . .
ولما ذكر إفناء الأولين والآخرين ، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث ، ( مّن مَّاء مَّهِينٍ ( : أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة ،
المرسلات : ( 21 ) فجعلناه في قرار . . . . .
( فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( : وهو الرحم ،
المرسلات : ( 22 ) إلى قدر معلوم
) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( : أي عند الله تعالى ، وهو وقت الولادة .
المرسلات : ( 23 ) فقدرنا فنعم القادرون
وقرأ عليّ بن أبي طالب : فقدرنا بشد الدال من التقدير ، كما قال : ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( ؛ وباقي السبعة : بخفها من القدرة ؟
المرسلات : ( 25 - 26 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
وانتصب ) أَحْيَاء وَأَمْواتاً ( بفعل يدل عليه ما قبله ، أي يكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها . واستدل بهذا من قال : إن النباش يقطع ، لأن بطن الأرض حرز للكفن ، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : نكفتكم أحياء وأمواتاً ، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس . انتهى .
المرسلات : ( 27 ) وجعلنا فيها رواسي . . . . .
و ) رَوَاسِىَ ( : جبالاً ثابتات ، ( شَامِخَاتٍ ( : مرتفعات ، ومنه شمخ بأنفه : ارتفع ، شبه المعنى بالجرم . ) وَأَسْقَيْنَاكُم ( : جعلناه سقياً لمزراعكم ومنافعكم .
( انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ).
المرسلات : ( 29 ) انطلقوا إلى ما . . . . .
يقال للمكذبين : ) انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ( : أي من العذاب .
المرسلات : ( 30 - 31 ) انطلقوا إلى ظل . . . . .
( انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ( : أمر ، قراءة الجمهور تكراراً أو بيان للمنطلق إليه . وقرأ رويس عن يعقوب : بفتح(8/397)
" صفحة رقم 398 "
اللام على معنى الخبر ، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا ، إذ لا يمكنهم التأخير ، إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق ؛ ) ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ ( ، قال عطاء : هو دخان جهنم . وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع ، يظن الكفار أنه مغن من النار ، فيهرعون إليه فيجدونه على أسوإ وصف . وقال ابن عباس : يقال ذلك لعبدة الصليب . فالمؤمنون في ظل الله عز وجل ، وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب ، والشعب : ما تفرق من جسم واحد . ) لاَّ ظَلِيلٍ ( : نفي لمحاسن الظل ، ( وَلاَ يُغْنِى ( : أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئاً .
المرسلات : ( 32 ) إنها ترمي بشرر . . . . .
( إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ ( : الضمير في إنها لجهنم . وقرأ الجمهور : ) بِشَرَرٍ ( ، وعيسى : بشرار بألف بين الراءين ، وابن عباس وابن مقسم كذلك ، إلا أنه كسر الشين ، فاحتمل أن يكون جمع شرر ، أي بشرار من العذاب ، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها ، أي بشرار من الناس ، كما تقول : قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل ، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل ؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيره بخلافهما ، إذا كانا للتفضيل ، فلهما أحكام مذكورة في النحو . وقرأ الجمهور : ) كَالْقَصْرِ ( ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم : بفتح القاف والصاد ؛ وابن جبير أيضاً والحسن أيضاً : كالقصر ، بكسر القاف وفتح الصاد ؛ وبعض القراء : بفتح القاف وكسر الصاد ؛ وابن مسعود : بضمهما ، كأنه مقصور من القصور ، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور ، قال الراجز :
فيها عنابيل أسود ونمر
وتقدم شرح أكثر هذه القراآت في المفردات .
المرسلات : ( 33 ) كأنه جمالة صفر
وقرأ الجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ) جمالات ( بكسر الجيم وبالألف والتاء ، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل ، كقولهم : رجالات قريش ؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء : بخلاف عنهم كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، وهي جمال السفن ، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى ، ثم جمع على جمل وجمال ، ثم جمع جمال ثانياً جمع صحة فقالوا : جمالات . وقيل : الجمالات : قلوص الجسور . وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، وهارون عنه : جمالة بكسر الجيم ، لحقت جمالاً التاء لتأنيث الجمع ، كحجر وحجارة . وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحرية وابن أبي عبلة ورويس : كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم . قال ابن عباس وابن جبير : الجمالات : قلوص السفن ، وهي حباله العظام ، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام . وقال ابن عباس أيضاً : الجمالات : قطع النحاس الكبار ، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة . وقرأ الحسن : صفر ، بضم الفاء ؛ والجمهور : بإسكانها ، شبه الشرر أولاً بالقصر ، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء ؛ وثانياً بالجمال لبيان التشبيه . ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان ، وهي القصور ؟ قال الشاعر : فوقفت فيها ناقتي فكأنها
فدن لأقصى حاجة المتلوم
ومن قرأ بضم الجيم ، فالتشبيه من جهة العظم والطول . والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر ، قاله الجمهور : وقيل : صفر سود ، وقيل : سود تضرب إلى الصفرة . وقال عمران بن حطان الرقاشي : دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم
بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى(8/398)
" صفحة رقم 399 "
المرسلات : ( 35 ) هذا يوم لا . . . . .
وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية : ) لّلْمُكَذّبِينَ هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ( ، بفتح الميم ؛ والجمهور : برفعها . قال ابن عطية : لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء ، وهي في موضع رفع . وقال صاحب اللوامح : قال عيسى : هي لغة سفلى مضر ، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح ، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد ، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ . انتهى . والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه ، وإنما هذا مذهب كوفي . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف ، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم ، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم ، ورميها بالشرر في يوم لا ينطقون ، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول ، كما كانت ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ). انتهى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ظرفاً ، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر . وقال الزمخشري : ونصبه الأعمش ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وهنا نفي نطقهم . وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم ، وذلك باعتبار طول اليوم ، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت ، أو نفي نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق .
المرسلات : ( 36 ) ولا يؤذن لهم . . . . .
وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : ) وَلاَ يُؤْذَنُ ( مبنياً للمفعول . وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن ، مبنياً للفاعل ، أي الله تعالى ، ( فَيَعْتَذِرُونَ ( : عطف على ) وَلاَ يُؤْذَنُ ( داخل في حيز نفي الإذن ، أي فلا إذن فاعتذار ، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب . وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي ، والوجهان جائزان . انتهى . فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان ، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد ، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف ، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا . وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل ، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب ، وجعل دليله ذلك ، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية ، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره .
المرسلات : ( 38 ) هذا يوم الفصل . . . . .
( هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ ( للكفار ، ( وَالاْوَّلِينَ ( : قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين ، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء .
المرسلات : ( 39 ) فإن كان لكم . . . . .
( فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ ( : أي في هذا اليوم ، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه ، ( فَكِيدُونِ ( اليوم ، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ .
المرسلات : ( 41 ) إن المتقين في . . . . .
ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزراً من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين . وقرأ الجمهور : ) فِى ظِلَالٍ ( جمع ظل ؛ والأعمش : في ظلل جمع ظلة .
المرسلات : ( 43 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول ، ويدل عليه ) بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ).
المرسلات : ( 46 ) كلوا وتمتعوا قليلا . . . . .
( كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ ( : خطاب للكفار في الدنيا ، ( قَلِيلاً ( : أي زماناً قليلاً ، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت ، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم .
المرسلات : ( 48 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ ( : من قال إنها مكية ، قال هي في قريش ؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية ، قال هي في المنافقين . وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة ، فأبى وقال : ( لا خير في دين لا صلاة فيه ) . ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه . وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة ؛ وخص من أفعالها الركوع ، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود .
المرسلات : ( 49 ) ويل يومئذ للمكذبين
وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( ، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا ، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة .
المرسلات : ( 50 ) فبأي حديث بعده . . . . .
والضمير في ) بَعْدِهِ ( عائد على القرآن ، والمعنى أنه قد تضمن من(8/399)
" صفحة رقم 400 "
الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي ، فإذا كانوا مكذبين به ، فبأي حديث بعده يصدقون به ؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن . وقرأ الجمهور : ) يُؤْمِنُونَ ( بياء الغيبة ؛ ويعقوب وابن عامر في رواية : بتاء الخطاب .(8/400)
" صفحة رقم 401 "
78
( سورة النبأ )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاٌّ رْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَأاباً لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَأاباً إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً ( ) ) 2
النبأ : ( 1 ) عم يتساءلون
السبات ، قال ابن قتيبة : السبات أصله القطع والمدّ ، فالنوم قطع الأشغال الشاقة ، ومن المدّ قول الشاعر : وإن سبتته مال حبلاً كأنه
سدى وأملات من نواسج خثعما
أي : إن مدت شعرها مال والتف كالتفاف السدي بأيدي نساء ناسجات . الوهاج : المتوقد المتلالي . المعصر ، قال الفراء : السحاب الذي يجلب المطر ، ولما يجتمع مثل الجارية المعصر ، قد كادت تحيض ولما تحض ، وقال نحوه ابن قتيبة ، وقال أبو النجم العجلي(8/401)
" صفحة رقم 402 "
تمشي الهوينا مائلاً خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
الثج ، قال ثعلب : أصله شدّت الانصباب . وقال الأزهري : مطر ثجاج : شديد الانصباب ، ثج الماء وثججته ثجاً وثجوجاً : يكون لازماً بمعنى الانصباب وواقعاً بمعنى الصب . قال الشاعر في وصف الغيث :
إذا رمقت فيها رحى مرجحنه
تنعج ثجاجاً عزير الحوافل
ألفافاً جمع لف ، ثم جمع لف على ألفاف . الكواعب جمع كاعب : وهي التي برز نهدها ، ومنه كعب الزجل لبروزه ، ومنه الكعبة . قال عاصم بن قيس المنقري :
وكم من حصان قد حوينا كريمة
ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
الدهاق : الملأى ، مأخوذ من الدهق ، وهو ضغط الشيء وشده باليد كأنه لامتلأته انضغط . وقيل : الدهاق : المتتابعة ، قال الشاعر :
أتانا عامر يبغي قرانا
فأترعنا له كأساً دهاقاً
وقال آخر :
لأنت إلى الفؤاد أحب قربا
من الصادي إلى كأس دهاق
) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ).
هذه السورة مكية . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما بعث ، جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون : ما الذي أتى به ؟ ويتجادلون فيما بعث به ، فنزلت . ومناسبتها لما ذكر قبلها ظاهرة . لما ذكر ) فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ، أي بعد الحديث الذي هو القرآن ، وكانوا يتجادلون فيه ويسائلون عنه ، قال : ) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ). وقرأ الجمهور : ) عَمَّ ( ؛ وعبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى : عما بالألف ، وهو أصل عم ، والأكثر حذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر وأضيف إليها . ومن إثبات الألف قوله :
على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
وقرأ الضحاك وابن كثير في رواية : عمه بهاء السكت ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، لأن الأكثر في الوقف على ما(8/402)
" صفحة رقم 403 "
الاستفهامية هو بإلحاق هاء السكت ، إلا إذا أضيفت إليها فلا بد من الهاء في الوقف ، نحو : بحي مه . والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب ، كما تقول : أي رجل زيد ؟ وزيد ما زيد ، كأنه لما كان عديم النظير أو قليله خفيّ عليك جنسه فأخذت تستفهم عنه . ثم جرد العبارة عن تفخيم الشيء ، فجاء في القرآن ، والضمير في ) يَتَسَاءلُونَ ( لأهل مكة . ثم أخبر تعالى أنهم ) يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( ، وهو أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وما جاء به من القرآن . وقيل : الضمير لجميع العالم ، فيكون الاختلاف تصديق المؤمن وتكذيب الكافر . وقيل : المتسأل فيه البعث ، والاختلاف فيه عم متعلق بيتساءلون . ومن قرأ عمه بالهاء في الوصل فقد ذكرنا أنه يكون أجرى الوصل مجرى الوقف ، وعن النبأ متعلق بمحذوف ، أي يتساءلون عن النبأ . وأجاز الزمخشري أن يكون وقف على عمه ، ثم ابتدأ بيتسألون عن النبأ العظيم على أن يضمر لعمه يتساءلون ، وحذفت لدلالة ما بعدها عليه ، كشيء مبهم ثم يفسر . وقال ابن عطية : قال أكثر النحاة قوله ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( متعلق بيتساءلون ، الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم ؟ وقال الزجاج : الكلام تام في قوله ) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون عن النبأ ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي يقتضيه الحال ، والمجاورة اقتضاء بالحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم . وقرأ عبد الله وابن جبير : يسألون بغير تاء وشد السين ، وأصله يتساءلون بتاء الخطاب ، فأدغم التاء الثانية في السين .
النبأ : ( 4 ) كلا سيعلمون
) كَلاَّ ( : ردع للمتسائلين . وقرأ الجمهور : بياء الغيبة فيهما . وعن الضحاك : الأول بالتاء على الخطاب ، والثاني بالياء على الغيبة . وهذا التكرار توكيد في الوعيد وحذف ما يتعلق به العلم على سبيل التهويل ، أي سيعلمون ما يحل بهم .
النبأ : ( 6 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
ثم قررهم تعالى على النظر في آياته الباهرة وغرائب مخلوقاته التي ابتدعها من العدم الصرف ، وأن النظر في ذلك يفضي إلى الإيمان بما جاءت به الرسل من البعث والجزاء ، فقال : ) أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً ( ، فبدأ بما هم دائماً يباشرونه ، والمهاد : الفراش الموطأ . وقرأ الجمهور : ) مِهَاداً ( ؛ ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين : مهداً ، بفتح الميم وسكون الهاء ، ولم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة . وقال ابن خالويه : مهداً على التوحيد ، مجاهداً وعيسى الهمداني وهو الحوفي ، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية وبعض الكوفيين كناية عن عيسى الهمداني . وإذا أطلقوا عيسى ، أو قالوا عيسى البصرة ، فهو عيسى بن عمر الثقفي . وتقدم الكلام في المهاد في البقرة في أول حزب ، ( وَاذْكُرُواْ اللَّهَ ).
النبأ : ( 7 ) والجبال أوتادا
) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( : أي ثبتنا الأرض بالجبال ، كما ثبت البيت بالأوتاد . قال الأفوه : والبيت لا ينبني إلا له عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
النبأ : ( 8 ) وخلقناكم أزواجا
) أَزْواجاً ( : أي أنواعاً من اللون والصورة واللسان . وقال الزجاج وغيره : مزدوجين ، ذكراً وأنثى .
النبأ : ( 9 ) وجعلنا نومكم سباتا
) سُبَاتاً ( : سكوناً وراحة . سبت الرجل : استراح وترك الشغل ، والسبات علة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلاً ، والنوم شبيه به إلا في الضرر . وقال قتادة : النائم مسبوت لا يعقل ، كأنه ميت .
النبأ : ( 10 ) وجعلنا الليل لباسا
) لِبَاساً ( : أي يستترون به عن العيون فيما لا يحبون أن يظهر عليه .
النبأ : ( 11 ) وجعلنا النهار معاشا
) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ ( : قابل النوم بالنهار ، إذ فيه اليقظة . ) مَعَاشاً ( : وقت عيش ، وهو الحياة تتصرفون فيه في حوائجكم .
النبأ : ( 12 ) وبنينا فوقكم سبعا . . . . .
( سَبْعاً ( : أي سموات ، ( شِدَاداً ( : محكمة الخلق قوية لا تتأثر بمرور الأعصار إلا إذا أراد الله عز وجل . وقال الشاعر : فلما جئته أعلى محلي
وأجلسني على السبع الشداد
النبأ : ( 13 ) وجعلنا سراجا وهاجا
) سِرَاجاً ( : هو الشمس ، ( وَهَّاجاً ( : حاراً مضطرم الاتقاد . وقال عبد الله بن عمرو . الشمس في السماء الرابعة ، إلينا ظهرها ، ولهيبها يضطرم علواً .
النبأ : ( 14 ) وأنزلنا من المعصرات . . . . .
( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ( ، قال أبي والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وقتادة ومقاتل : هي(8/403)
" صفحة رقم 404 "
السموات . وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : السحاب القاطرة ، مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء . وقيل : السحاب التي فيها الماء ولم تمطر . وقال ابن كيسان : سميت بذلك من حيث تغيث ، فهي من العصرة ، ومنه قوله : ) وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ). والعاصر : المغيث ، فهو ثلاثي ؛ وجاء هنا من أعصر : أي دخلت في حين العصر ، فحان لها أن تعصر ، وأفعل للدخول في الشيء . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرياح لأنها تعصر السحاب ، جعل الإنزال منها لما كانت سبباً فيه . وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس أخوه وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة : بالمعصرات ، بالياء بدل من . قال ابن عطية : فهذا يقوي أنه أراد الرياح . وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يراد بالرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن يراد السحاب ، لأنه إذا كان الأنزال منها فهو بها ، كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده درهماً . ) ثَجَّاجاً ( : منصباً بكثرة ، ومنه أفضل الحج العج والثج : أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى . وقرأ الأعرج : ثجاحاً بالحاء : آخراً ، ومساجح الماء : مصابه ، والماء ينثجح في الوادي .
النبأ : ( 15 ) لنخرج به حبا . . . . .
( حَبّاً وَنَبَاتاً ( : بدأ بالحب لأنه الذي يتقوت به ، كالحنطة والشعير ، وثنى بالنبات فشمل كل ما ينبت من شجر وحشيش ودخل فيه الحب .
النبأ : ( 16 ) وجنات ألفافا
) أَلْفَافاً ( : ملتفة ، قال الزمخشري : ولا واحد له ، كالأوزاع والأخياف . وقيل : الواحد لف : قال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن علي الطوسي : جنة لف وعيش مغدق
وندامى كلهم بيض زهر
ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً . انتهى . ولا حاجة إلى هذا القول ولا إلى وجاهته ، فقد ذكر في المفردات أن مفرده لف بكسر اللام ، وأنه قول جمهور أهل اللغة .
النبأ : ( 17 ) إن يوم الفصل . . . . .
( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ( : هو يوم القيامة يفصل فيه بين الحق والباطل ، ( كَانَ مِيقَاتاً ( : أي في تقدير الله وحكمه تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده أو حداً للخلائق ينتهون إليه .
النبأ : ( 18 ) يوم ينفخ في . . . . .
( يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ( : بدل من يوم الفصل . قال الزمخشري : أو عطف بيان ، وتقدم الكلام في الصور . وقرأ أبو عياض : في الصور بفتح الواو جمع صورة ، أي يرد الله الأرواح إلى الأبدان ؛ والجمهور : بسكون الواو . و ) فَتَأْتُونَ ( من القبور إلى الموقف أمماً ، كل أمة بإمامها . وقيل : جماعات مختلفة . وذكر الزمخشري حديثاً في كيفيات قبيحة لعشرة أصناف يخلقون عليها ، وسبب خلقه من خلق على تلك الكيفية الله أعلم بصحته .
النبأ : ( 19 ) وفتحت السماء فكانت . . . . .
وقرأ الكوفيون : ) وَفُتِحَتْ ( : خف ؛ والجمهور : بالتشديد ، ( فَكَانَتْ أَبْواباً ( تنشق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدرات . وقيل : ينقطع قطعاً صغاراً حتى تكون كالألواح ، الأبواب المعهود . وقال الزمخشري : ) فُتِحَتْ فَكَانَتْ أَبْواباً ( : أي كثرت أبوابها لنزول الملائكة ، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة ، كقوله : ) وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( ، كأن كلها عيون تنفجر . وقيل : الأبواب : الطرق والمسالك ، أي تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء .
النبأ : ( 20 ) وسيرت الجبال فكانت . . . . .
( فَكَانَتْ سَرَاباً ( : أي تصير شيئاً كلا شيء لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها . انتهى . وقال ابن عطية : عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منبثاً ، ولم يرد أن الجبال تشبه الماء على بعد من الناظر إليها . وقال الواحدي : على حذف مضاف ، أي ذات أبواب .
قوله عز وجل : ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لّلطَّاغِينَ مَئَاباً لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَاء وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً جَزَاء مّن رَّبّكَ عَطَاء حِسَاباً رَّبّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَئَاباً إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ(8/404)
" صفحة رقم 405 "
يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ).
النبأ : ( 21 ) إن جهنم كانت . . . . .
( مِرْصَاداً ( : مفعال من الرصيد ، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب . وقال مقاتل : مجلساً للأعداء وممراً للأولياء ، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب ، أي ذات رصد ، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم . وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه العدو . وقال الحسن : إلا أن على النار المرصاد . فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجىء بجواز احتبس . وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر : أن جهنم ، يفتح الهمزة ؛ والجمهور : بكسرها
النبأ : ( 22 ) للطاغين مآبا
) مَئَاباً ( : مرجعاً .
النبأ : ( 23 ) لابثين فيها أحقابا
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح : لبثين ، بغير ألف بعد اللام ؛ والجمهور : بألف بعدها ، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل ، وفعل على من شأنه ذلك ، كحاذر وحذر . ) أَحْقَاباً ( : تقدم الكلام عليه في الكهف عند : ) أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً ( ، والمعنى هنا : حقباً بعد حقب ، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة ، كقول أبي تمام : لقد أخذت من دار ماوية الحقب
أنحل المغاني لليلى أم هي نهب
ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصاداً ، ويجوز أن يتعلق بمآبا . ولبثين حال من الطاغين ، وأحقاباً نصب على الظرف . وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب ، وجمعة أحقاب ، فينتصب حالاً عنهم ، يعني لبثين فيها حقبين جحدين .
النبأ : ( 24 ) لا يذوقون فيها . . . . .
وقوله : ) يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً ( تفسير له ، والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها برداً ورَوحاً ينفس عنهم حر النار ، ولا شراب يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها ) حَمِيماً وَغَسَّاقاً ). انتهى . وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه : ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً
النبأ : ( 25 ) إلا حميما وغساقا
إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبد لوم بعد الأحقاب غير الحميم ، والغاق من جنس آخر من العذاب . انتهى . وهذا الذي قاله هو قول للمتقدمين ، حكاه ابن عطية . قال : وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً ، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم . والذي يظهر أن قوله : ) لاَ يَذُوقُونَ ( كلام مستأنف وليس في موضع الحال ، و ) إِلاَّ حَمِيماً ( استثناء متصل من قوله : ) وَلاَ شَرَاباً ( ، وإن ) أَحْقَاباً ( منصوب على الظرف حملاً على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة . وقول من قال : إن الموصوفين باللبث أحقاباً هم عصاة المؤمنين ، أواخر الآي يدفعه ؛ وقول مقاتل : إن ذلك منسوخ بقوله : ) فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ( ، فاسد . والظاهر ، وهو قول الجمهور ، أن البرد هو مس الهواء القرّ ، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر . وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي : البرد هنا النوم ، والعرب تسمية بذلك لأنه يبرد سورة العطش ، ومن كلامهم : منع البرد البرد ، وقال الشاعر : فلو شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
النقاخ : الماء ، والبرد : النوم . وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل ، والذوق على هذين القولين مجاز . وقال ابن عباس : البرد : الشراب البارد المستلذ ، ومنه قول حسان بن ثابت : يسقون من ورد البريض عليهم
برداً يصفق بالرحيق السلسل(8/405)
" صفحة رقم 406 "
ومنه قول الآخر : أماني من سعدى حسان كأنما
سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
والذوق على هذا حقيقة ، والنحويون ينشدون على هذا بيت حسان . بردى ، بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث : وهو نهر في دمشق . وتقدم شرح الحميم والغساق ، وخلف القرّاء في شدة الشين وخفتها .
النبأ : ( 26 ) جزاء وفاقا
) وِفَاقاً ( : أي لأعمالهم وكفرهم ، وصف الجزاء بالمصدر لوافق ، أو على حذف مضاف ، أي ذا وفاق . وقال الفراء : هو جمع وفق . وقرأ الجمهور : بخف الفاء ؛ وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بشدها من وفقه كذا .
النبأ : ( 27 ) إنهم كانوا لا . . . . .
( لاَ يَرْجُونَ ( : لا يخافون أو لا يؤمنون ، والرجاء والأمل مفترقان ، والمعنى هنا : لا يصدقون بالحساب ، فهم لا يؤمنون ولا يخافون .
النبأ : ( 28 ) وكذبوا بآياتنا كذابا
وقرأ الجمهور : ) كِذَّاباً ( بشد الذال مصدر كذب ، وهي لغة لبعض العرب يمانية . يقولون في مصدر فعل فعالاً ، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل ، نحو تكذيب . ومن تلك اللغة قول الشاعر : لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي
وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
ومن كلام أحدهم وهو يستفتي الحلق أحب إليك أم القصار ، يريد التقصير ، يعني في الحج . وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله . وقرأ علي وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه بخف الذال . قال صاحب اللوامح علي وعيسى : البصرة ، وعوف الأعرابي : كذاباً ، كلاهما بالتخفيف ، وذلك لغة اليمن بأن يجعلوا مصدر كذب مخففاً ، كذاباً بالتخفيف مثل كتب كتاباً ، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه ، مثل أعطيته عطاء . انتهى . وقال الأعشى : فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وقال الزمخشري : هو مثل قوله : ) أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ؛ وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده . انتهى . والأظهر الإعراب الأول وما سواه تكلف ، وفي كتاب ابن عطية وكتاب اللوامح . وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز : وفي كتاب ابن خالويه عمر بن عبد العزيز والماجشون ، ثم اتفقوا كذاباً بضم الكاف وشد الذال ، فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة ، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر ، أي تكذيباً كذاباً مفرطاً في التكذيب .
النبأ : ( 29 ) وكل شيء أحصيناه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَكُلَّ شىْء ( بالنصب : وأبو السمال : بالرفع ، وانتصب ) كِتَاباً ( على أنه مصدر من معنى ) أَحْصَيْنَاهُ ( أي إحصاء ، أو يكون ) أَحْصَيْنَاهُ ( في معنى كتبناه . والتجوز إما في المصدر وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مكتوباً في اللوح وفي مصحف الحفظة . ) وَكُلَّ شىْء ( عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة اعتراض معترضة ،
النبأ : ( 30 ) فذوقوا فلن نزيدكم . . . . .
وفذوقوا مسبب عن كفرهم بالحساب ، فتكذيبهم بالآيات . وقال عبد الله بن عمر : وما نزلت في أهل النار آية أشد من هذه ، ورواه أبو بردة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
النبأ : ( 31 - 35 ) إن للمتقين مفازا
ولما ذكر شيئاً من حال أهل النار ، ذكر ما(8/406)
" صفحة رقم 407 "
لأهل الجنة فقال : ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( : أي موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة . و ) حَدَائِقَ ( بدل من ) مَفَازاً ( وفوزاً ، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف ، أي فوز حدائق ، أي بها . ) دِهَاقاً ( ، قال الجمهور : مترعة . وقال مجاهد وابن جبير : متتابعة . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ كِذباً ( بالتشديد ، أي لا يكذب بعضهم بعضاً . وقرأ الكسائي بالتخفيف ، كاللفظ الأول في قوله تعالى : ) وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( ، مصدر كذب ومصدر كاذب . قال الزمخشري : ) جَزَاء ( : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( ، كأنه قال : جازى المتقين بمفاز وعطاء نصب بجزاء نصب المفعول به ، أي جزاءهم عطاء . انتهى . وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( ، والمصدر المؤكد لا يعمل ، لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافاً .
النبأ : ( 36 ) جزاء من ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) حِسَاباً ( ، وهو صفة لعطاء ، أي كافياً من قولهم : أحسبني الشيء : أي كفاني . وقال مجاهد : معنى حساباً هنا بتقسيط على الأعمال ، أو دخول الجنة برحمة الله والدرجات فيها على قدر الأعمال ، فالحساب هنا بموازنة الأعمال . وقرأ ابن قطيب : حساباً ، بفتح الحاء وشد السين . قال ابن جني : بني فعالاً من أفعل ، كدراك من أدرك . انتهى ، فمعناه محسباً ، أي كافياً . وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهشيم : بكسر الحاء وشد السين ، وهو مصدر مثل كذاب أقيم مقام الصفة ، أي إعطاء محسباً ، أي كافياً . وقرأ ابن عباس وسراح : حسناً بالنون من الحسن ، وحكى عنه المهدوي حسباً بفتح الحاء وسكون السين والباء ، نحو قولك : حسبك كذا ، أي كافيك .
النبأ : ( 37 ) رب السماوات والأرض . . . . .
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم : رب والرحمن بالجر ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفعهما ؛ والأخوان : رب بالجر ، والرحمن بالرفع ، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك ، والرحمن صفة أو بدل من رب أو عطف بيان ، وهل يكون بدلاً من ربك فيه نظر ، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات ، والرفع على إضمار هو رب ، أو على الابتداء ، وخبره ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( ، والضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( عائد على المشركين ، قاله عطاء عن ابن عباس ، أي لا يخاطب المشركون الله . أما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم . وقيل : عائد على المؤمنين ، أي لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه . وقيل : عائد على أهل السموات والأرض . والضمير في منه عائد عليه تعالى ، والمعنى أنهم لا يملكون من الله أن يخاطبوه في شيء من الثواب . والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه .
النبأ : ( 38 ) يوم يقوم الروح . . . . .
والعامل في ) يَوْمٍ ( إما ) لاَّ يَمْلِكُونَ ). وقد تقدم الخلاف في ) الرُّوحُ ( ، أهو جبريل أم ملك أكبر الملائكة خلقة ؟ أو خلق على صورة بني آدم ، أو خلق حفظة على الملائكة ، أو أرواح بني آدم ، أو القرآن وقيامه ، مجاز يعني به ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه . والظاهر عود الضمير في ) لاَّ يَتَكَلَّمُونَ ( على ) الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ ). وقال ابن عباس : عائد على الناس ، فلا يتكلم أحد إلا بإذن منه تعالى . ونطق بالصواب . وقال عكرمة : الصواب : لا إله إلا الله ، أي قالها في الدنيا . وقال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذوناً لهم في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى : ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ). انتهى .
النبأ : ( 39 ) ذلك اليوم الحق . . . . .
( ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ( : أي كيانه ووجوده ، ( فَمَن شَاء ( : وعيد وتهديد ،
النبأ : ( 40 ) إنا أنذرناكم عذابا . . . . .
والخطاب في ) أَنذَرْنَاكُمْ ( لمن حضر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، واندرج فيه من يأتي بعدهم ، ( عَذَاباً ( : هو عذاب الآخرة لتحقق وقوعه ، وكل آت قريب . ) يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء ( : عام في المؤمن والكافر . ) مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه . وقال الزمخشري ، وقاله قبله عطاء : المرء هو الكافر لقوله : ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( ، والكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم . ومعنى ) مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( من الشر(8/407)
" صفحة رقم 408 "
لقوله : ) وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ). وقال ابن عباس وقتادة والحسن : المرء هنا المؤمن ، كأنه نظر إلى مقابله في قوله : ) وَيَقُولُ الْكَافِرُ ). وقرأ الجمهور : ) الْمَرْء ( بفتح الميم ؛ وابن أبي إسحاق بضمها ؛ وضعفها أبو حاتم ، ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة فيقولون : مرؤ ومرأ ومرء على حسب الإعراب ، وما منصوب بينظر ومعناه : ينتظر ما قدّمت يداه ، فما موصولة . ويجوز أن يكون ينظر من النظر ، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض ، وما استفهامية منصوبة تقدّمت ، وتمنيه ذلك ، أي تراباً في الدنيا ، ولم يخلق أو في ذلك اليوم . وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني تراباً ، فتعود جميعها تراباً ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله . وقيل : الكافر هنا إبليس ، إذا رأى ما حصل للمؤمنين من الثواب قال : ) الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أوّلاً . وقيل : ) تُراباً ( : أي متواضعاً لطاعة الله تعالى ، لا جباراً ولا متكبراً .(8/408)
" صفحة رقم 409 "
79
( سورة النازعات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الاٌّ يَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاٌّ عْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاٌّ خِرَةِ وَالاٍّ وْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاٌّ رْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( ) ) 2
النازعات : ( 1 - 5 ) والنازعات غرقا
أغرق في الشيء : بالغ فيه وأنهاه ، وأغرق النازع في القوس : بلغ غاية المد حتى ينتهي إلى النصل . والاستغراق : الاستيعاب ، والغرقى : قشرة البيضة . نشط البعير والإنسان ربطه وأنشطه : حله ، ومنه : وكأنما أنشط من عقال . ونشط : ذهب من قطر إلى قطر ، ولذلك قيل لبقر الوحش النواشط ، لأنهن يذهبن بسرعة من مكان إلى مكان ، ومنه قول الشاعر ، وهو هميان بن قحافة : أرى همومي تنشط المناشطا
الشام بي طوراً وطوراً واسطا(8/409)
" صفحة رقم 410 "
وكأن هذه اللفظة مأخوذة من النشاط . وقال أبو زيد : نشطت الحبل أنشطه نشطاً : عقدته أنشوطة ، وأنشطته : حللته ، وأنشطت الحبل : مددته . وقال الليث : أنشطته بأنشوطة : أي وثقته ، وأنشطت العقال : مددت أنشوطته فانحلت ، ويقال : نشط بمعنى أنشط ، والأنشوطة : عقدة يسهل إنحلالها إذا جدبت كعقدة التكة . وجف القلب وجيفاً : اضطرب من شدّة الفزع ، وكذلك وجب وجيباً . وفي كتاب لغات القرآن المروي عن ابن عباس ، واجفة : خائفة ، بلغة همدان . الحافرة ، يقال : رجع فلان في حافرته : أي في طريقه التي جاء منها ، فحفرها : أي أثر فيها بمشيه فيها ، جعل أثر قدميه حفراً ، وتوقعها العرب على أول أمر يرجع إليه من آخره ، ومنه قول الشاعر : أحافرة على صلع وشيب
معاذ الله من سفه وعار
أي : أأرجع إلى الصبا بعد الصلع والشيب ؟ الناخرة : المصوتة بالريح المجوّفة ، والنخرة بمعناها ، كطامع وطمع ، وحاذر وحذر ، قاله الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وجماعة . وقيل : النخرة : البالية المتعفنة الصائرة رميماً . نخر العود والعظم : بلي وتفتت ، فمعناه مغاير للناخرة ، وهو قول الأكثرين . وقال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة : التي لم تنخر بعد ، والنخرة : التي قد بليت . قال الراجز لفرسه : أقدم أخانهم على الأساوره
ولا تهولنك رؤوس نادره
فإنما قصرك ترب الساهره
حتى تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاماً ناخره
وقال الشاعر : وأخليتها من مخها فكأنها
قوارير في أجوافها الريح تنخر
ويروى : تصفر ونخرة الريح ، بضم النون : شدّة هبوبها ، والنخرة أيضاً : مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير ، يقال : هشم نخرته . الساهرة : وجه الأرض والفلاة ، وصفت بما يقع فيها وهو السهر للخوف . وقال أمية بن أبي الصلت : وفيها لحم ساهرة وبحر
وما فاهوا به لهم مقيم
وقال أبو بكر الهذلي : يرتدن ساهرة كأن جميمها
وعميمها أسداف ليل مظلم
والساهور كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف . وقال أمية بن أبي الصلت : وبث الخلق فيها إذ دحاها
فهم قطانها حتى التنادي(8/410)
" صفحة رقم 411 "
وقيل : دحاها : سواها ، قال زيد بن عمرو : وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما استوت شدّها
بأيد وأرسى عليها الجبالا
الطامّة : الدّاهية التي تطم على الدّواهي ، أي تعلو وتغلب . وفي أمثالهم : أجرى الوادي فطمّ على القرى ، ويقال : طمّ السيل الركية إذا دفنها ، والطم : الدّفن والعلو .
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الاْيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَةِ وَالاْوْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة ، أقسم في هذه على البعث يوم القيامة . ولما كانت الموصوفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها ، وكان لهذه الصفات تعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها ، فقال عبد الله وابن عباس ؛ ) النازعات ( : الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، و ) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ( : إغراقاً ، وهي المبالغة في الفعل ، أو غرق في جهنم ، يعني نفوس الكفار ، قاله عليّ وابن عباس . وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق . وقال السدّي وجماعة : تنزع بالموت إلى ربها ، وغرقاً : أي إغراقاً في الصدر . وقال السدي أيضاً : النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ، ولها نزع عند الموت . وقال عطاء وعكرمة : القسي أنفسها تنزع بالسهام . وقال عطاء أيضاً : الجماعات النازعات بالقسي وغيرها إغراقاً . وقال مجاهد : المنايا تنزع النفوس . وقيل : النازعات : الوحش تنزع إلى الكلأ ، حكاه يحيى بن سلام . وقيل : جعل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، قاله في الكشاف .
( وَالنَّاشِطَاتِ ( ، قال ابن عباس ومجاهد : الملائكة تنشط النفوس عند الموت ، أي تخلها وتنشط بأمر الله إلى حيث كان . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والحسن والأخفش : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، تذهب وتسير بسرعة . وقال مجاهد أيضاً : المنايا . وقال عطاء : البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر . وقال ابن عباس أيضاً : النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج . وقيل : التي تنشط للإزهاق .
( وَالسَّابِحَاتِ ( ، قال عليّ ومجاهد : الملائكة تتصرّف في الآفاق بأمر الله ، تجيء وتذهب . وقال قتادة والحسن : النجوم تسبح في الأفلاك . وقال أبو روق : الشمس والقمر والليل والنهار . وقال عطاء وجماعة : الخيل ، يقال للفرس سابح . وقيل : السحاب لأنها كالعائمة في الهواء . وقيل : الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظم المخلوقات ، فيبدي أنه تعالى أمدّ في الدنيا نوعاً من الحيوان ، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر . وقال عطاء أيضاً : السفن . وقال مجاهد أيضاً : المنايا تسبح في نفوس الحيوان .
( فَالسَّابِقَاتِ ( ، قال مجاهد : الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح ، وقاله أبو روق . وقال ابن مسعود : أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين(8/411)
" صفحة رقم 412 "
يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاء الله تعالى . وقال عطاء : الخيل ، وقيل : النجوم ، وقيل : المنايا تسبق الآمال . ) فَالْمُدَبّراتِ ( ، قال ابن عطية لا أحفظ خلافاً أنها الملائكة ، ومعناه أنها التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها ، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات . انتهى . وقيل : الملائكة الموكلون بالأحوال : جبريل للوحي ، وميكائيل للمطر ، وإسرافيل للنفخ في الصور ، وعزرائيل لقبض الأرواح . وقيل : تدبيرها : نزولها بالحلال والحرام . وقال معاذ : هي الكواكب السبعة ، وإضافة التدبير إليها مجاز ، أي يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك .
ولفق الزمخشري من هذه الأقوال أقوالاً اختارها وأدارها أولاً على ثلاثة : الملائكة أو الخيل أو النجوم . ورتب جميع الأوصاف على كل واحد من الثلاثة ، فقال : أقسم سحابة بطوائف الملائكة التي هي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها ، أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم ؛ كما رسم لهم غرقاً ، أي إغراقاً في النزع ، أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظافرها . أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها إلى آخر ما نقلناه ؛ ثم قال : من قولك : ثور ناشط ، إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريتها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه . أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط من أقصى المغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً في علم الحساب .
وقيل : النازعات : أيدي الغزاة أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام والتي تنشط الإرهاق . انتهى . والذي يظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء ، وأن المعطوف بالواو وهو مغاير لما قبله ، كما قرّرناه في المرسلات ، على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو ومن عطف الصفات بعضها على بعض . والمختار في جواب القسم أن يكون محذوفاً وتقديره : لتبعثن لدلالة ما بعده عليه ، قاله الفراء . وقال محمد بن عليّ الحكيم الترمذي : الجواب : ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى ( ، والمعنى فيما اقتصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى عليه السلام وفرعون . قال ابن الانباري : وهذا قبيح لأن الكلام قد طال .
النازعات : ( 6 - 7 ) يوم ترجف الراجفة
وقيل : اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله : ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ( ، أي ليوم كذا ، ( تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ، ولم تدخل نون التوكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل ؛ وقول أبي حاتم هو علي التقديم والتأخير ، كأنه قال : ) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ). ) وَالنَّازِعَاتِ ( ، قال ابن الأنباري : خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام . وقيل : التقدير : ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ، ( وَالنَّازِعَاتِ ( على التقديم والتأخير أيضاً وليس بشيء . وقيل : الجواب : ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( ، لأنه في تقدير قد أتاك وليس بشيء ، وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية ، وحذف الجواب هو الوجه ، ويقرب القول بحذف اللام من ) يَوْمَ تَرْجُفُ ). قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد : هما الصيحتان ، أي النفختان ، الأولى تميت كل شيء ، وفي الثانية تحيي . وقال مجاهد أيضاً : الواجفة : الزلزلة ، والرادفة : الصيحة . وقال ابن زيد : الواجفة : الأرض ، والرادفة : الساعة ، والعامل في يوم اذكر مضمرة ، أو لتبعثن المحذوف ؛ واليوم متسع تقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك اليوم المتسع ، وتتبعها حال . قيل : أو مستأنف .
النازعات : ( 8 ) قلوب يومئذ واجفة
واجفة : مضطربة ، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق ، ومنه قول قيس بن الخطيم : إن بني حجباً وأسرتهم
أكبادنا من ورائهم تجف
) قُلُوبٍ ( : مبتدأ ، ( وَاجِفَةٌ ( : صفة تعمل في ) يَوْمَئِذٍ ( ، ( أَبْصَارُهَا ( : أي أبصار أصحاب القلوب ، ( خَاشِعَةٌ ( : مبتدأ وخبر في موضع(8/412)
" صفحة رقم 413 "
خبر ) قُلُوبٍ ). وقال ابن عطية : رفع قلوب بالابتداء ، وجاز ذلك ، وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله : ) يَوْمَئِذٍ ). انتهى . ولا تتخصص الأجرام بظروف الزمان ، وإنما تخصصت بقوله : ) وَاجِفَةٌ ).
النازعات : ( 10 ) يقولون أئنا لمردودون . . . . .
( يَقُولُونَ ( : حكاية حالهم في الدنيا ، والمعنى : هم الذين يقولون . و ) الْحَافِرَةِ ( ، قال مجاهد : فاعلة بمعنى مفعولة . وقيل : على النسب ، أي ذات حفر ، والمراد القبور ، أي لمردودون أحياء في قبورنا . وقال زيد بن أسلم : الحافرة : النار . وقيل : جمع حافرة بمعنى القدم ، أي أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض . وقال ابن عباس : الحياة الثانية هي أول الأمر ، وتقول التجار : النقد في الحافرة ، أي في ابتداء السوم . وقال الشاعر : آليت لا أنساكم فاعلموا
حتى ترد الناس في الحافرة
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : في الحفرة بغير ألف ؛ والجمهور : بالألف . وقيل : هما بمعنى واحد . وقيل : هي الأرض المنبتة المتغيرة بأجساد موتاها ، من قولهم : حفرت أسنانه إذا تآكلت وتغيرت .
النازعات : ( 11 ) أئذا كنا عظاما . . . . .
وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر : ناخرة بألف ؛ وأبو رجاء والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة والسلمي وابن جبير والنخعي وقتادة وابن وثاب وأيوب وأهل مكة وشبل وباقي السبعة : بغير ألف .
النازعات : ( 12 ) قالوا تلك إذا . . . . .
( قَالُواْ تِلْكَ إِذاً ( : أي الردة إلى الحافرة إن رددنا ، ( كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ( : أي قالوا ذلك لتكذيبهم بالغيب ، أي لو كان هذا حقاً ، لكانت ردتنا خاسرة ، إذ هي إلى النار . وقال الحسن : خاسرة : كاذبة ، أي ليست بكافية ، وهذا القول منهم استهزاء . وروي أن بعض صناديد قريش قال ذلك .
النازعات : ( 13 ) فإنما هي زجرة . . . . .
( فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ( لما تقدم . ) يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ ( : تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستضعاف أمرها ، فجاء قوله : ) فَإِنَّمَا ( مراعاة لما دل عليه استبعادهم ، فكأنه قيل : ليس بصعب ما تقولون ، فإنما هي نفخة واحدة ،
النازعات : ( 14 ) فإذا هم بالساهرة
فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض . قال ابن عباس : الساهرة أرض من فضة يخلقها الله تعالى . وقال وهب بن منبه : جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس . وقال أبو العالية وسفيان : أرض قريبة من بيت المقدس . وقال ابن عباس : أرض مكة . وقال قتادة : جهنم ، لأنه لا نوم لمن فيها . رأى أن الضمائر قبلها إنما هي للكفار ففسرها بجهنم . وقيل : الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق .
النازعات : ( 15 ) هل أتاك حديث . . . . .
ولما أنكروا البعث وتمردوا ، شق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقص تعالى عليه قصة موسى عليه السلام ، وتمرد فرعون على الله عز وجل حتى ادعى الربوبية ، وما آل إليه حال موسى من النجاة ، وحال فرعون من الهلاك ، فكان ذلك مسلاة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتبشيراً بهلاك من يكذبه ، ونجاته هو من أذاهم . فقال تعالى : ) هَلُ أَتَاكَ ( ، توقيفاً له على جمع النفس لما يلقيه إليه ،
النازعات : ( 16 ) إذ ناداه ربه . . . . .
وتقدم الكلام في الوادي المقدس ، والخلاف في القراآت في ) طُوًى ).
النازعات : ( 17 ) اذهب إلى فرعون . . . . .
( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ( : تفسير للنداء ، أو على إضمار القول ،
النازعات : ( 18 ) فقل هل لك . . . . .
( فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ( : لطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم ، وتزكى : تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل ، والزكاة هنا يندرج فيها الإسلام وتوحيد الله تعالى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بخلاف تزكى وتصدى ، بشد الزاي والصاد ؛ وباقي السبعة : بخفها . وتقول العرب : هل لك في كذا ، أو هل إلى كذا ؟ فيحذفون القيد الذي تتعلق به إلى ، أي هل لك رغبة أو حاجة إلى كذا ؟ أو سبيل إلى كذا ؟ قال الشاعر : فهل لكم فيها إليّ فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما(8/413)
" صفحة رقم 414 "
النازعات : ( 19 ) وأهديك إلى ربك . . . . .
( وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى ( : هذا تفسير للتزكية ، وهي الهداية إلى توحيد الله تعالى ومعرفته ، ( فَتَخْشَى ( : أي تخافه ، لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة ، ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ). وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر ، وفي الكلام حذف ، أي فذهب وقال له ما أمره به ربه ،
النازعات : ( 20 ) فأراه الآية الكبرى
وأتبع ذلك بالمعجزة الدالة على صدقه . ) فَأَرَاهُ الاْيَةَ الْكُبْرَى ( : وهي العصا واليد ، جعلهما واحدة ، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها ، أو العصا وحدها لأنها كانت المقدمة ، والأصل واليد تبع لها ، لأنه كان يتقيها بيده . وقيل له ) ادْخُلِ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ).
النازعات : ( 21 ) فكذب وعصى
) فَكَذَّبَ ( : أي فرعون موسى عليه السلام وما أتى به من المعجز ، وجعل ذلك من باب السحر ، ( وَعَصَى ( الله تعالى بعدما علم صحة ما أتى به موسى ، وإنما أوهم أنه سحر .
النازعات : ( 22 ) ثم أدبر يسعى
) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ( ، قيل : أدبر حقيقة ، أي قام من مكانه فاراً بنفسه . وقال الجمهور : هو كناية عن إعراضه عن الإيمان . ) يَسْعَى ( : يجتهد في مكايدة موسى عليه السلام .
النازعات : ( 23 ) فحشر فنادى
) فَحَشَرَ ( : أي جمع السحرة وأرباب دولته ، ( فَنَادَى ( : أي قام فيهم خطيباً ، أو فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه .
النازعات : ( 24 ) فقال أنا ربكم . . . . .
( فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( ، قال ابن عطية : قول فرعون ذلك نهاية في المخرقة ، ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم . انتهى . وإنما قال ذلك لأن ملك مصر في زمانه كان اسماعيلياً ، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم ، وكأن أول من ملكها منهم المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله ، ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب الملعون بظهورالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن سادي ، رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً .
النازعات : ( 25 ) فأخذه الله نكال . . . . .
( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَةِ وَالاْوْلَى ( ، قال ابن عباس : الآخرة قوله : ) مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( ، والأولى قوله : ) أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ). وقيل العكس ، وكان بين قولتيه أربعون سنة . وقال الحسن وابن زيد : نكال الآخرة بالحرق ، والأولى يعني الدنيا بالغرق . وقال مجاهد : عذاب آخرة حياته وأولادها . وقال أبو زرين : الأولى كفره وعصيانه ، والآخرة قوله : ) أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ). وقال مجاهد عبارة عن أول معاصيه ، وآخرها : أي نكل بالجميع ، وانتصب نكال على المصدر والعامل فيه ) فَأَخَذَهُ ( لأنه في معناه وعلى رأي المبرد : بإضمار فعل من لفظه ، أي نكل نكال ، والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم . وقال الزمخشري : ) نَكَالَ الاْخِرَةِ ( هو مصدر مؤكد ، ك ) وَعَدَ اللَّهُ ( ، و ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ، كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى . انتهى . والمصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة .
النازعات : ( 26 ) إن في ذلك . . . . .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذ ، ( لَعِبْرَةً ( : لعظة ، ( لّمَن يَخْشَى ( : أي لمن يخاف عقوبة الله يوم القيامة وفي الدنيا .
قوله عز وجل : ) أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ).
النازعات : ( 27 ) أأنتم أشد خلقا . . . . .
الخطاب الظاهر أنه عام ، والمقصود الكفار منكر والبعث ، وقفهم على قدرته تعالى . ) أَشَدُّ خَلْقاً ( : أي أصعب إنشاء ، ( أَمِ السَّمَاء ( ، فالمسؤول عن هذا يجيب ولا بد السماء ، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثيرها .
النازعات : ( 28 ) رفع سمكها فسواها
ثم بين تعالى كيفية خلقها . ) رَفَعَ سَمْكَهَا ( : أي جعل مقدارها بها في العلوّ مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام ، والسمك : الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلى ما فوقها ، ( فَسَوَّاهَا ( : أي جعلها ملساء مستوية ، ليس فيها مرتفع ولا منخفض ، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة .
النازعات : ( 29 ) وأغطش ليلها وأخرج . . . . .
( وَأَغْطَشَ ( : أي أظلم ، ( لَيْلَهَا ). ) وَأَخْرَجَ ( : أبرز ضوء شمسها ، كقوله تعالى : ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ، وقولهم : وقت الضحى : الوقت الذي تشرق فيه الشمس . وأضيف الليل والضحى إلى السماء ، لأن الليل ظلها ، والضحى هو نور سراجها .
النازعات : ( 30 - 33 ) والأرض بعد ذلك . . . . .
( وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ( : أي بعد خلق السماء وما فعل فيها ، ( دَحَاهَا ( :(8/414)
" صفحة رقم 415 "
أي بسطها ، فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض . وقرأ الجمهور : ) والاْرْضِ ( ، ( وَالْجِبَالَ ( بنصبهما ؛ والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال : برفعهما ؛ وعيسى : برفع الأرض . وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض لأنهما يظهران منها . والجمهور : ) مَّتَاعًا ( بالنصب ، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ؛ وابن أبي عبلة : بالرفع ، أي ذلك متاع . وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا أدخل حرف العطف على أخرج ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى ) دَحَاهَا ( : بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها . والثاني : أن يكون أخرج حالاً بإضمار قد ، كقوله : ) أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ). انتهى . وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين . والأخفش : أن الماضي يقع حالاً ، ولا يحتاج إلى إضمار قد ، وهو الصحيح . ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً . انتهى . ) وَمَرْعَاهَا ( : مفعل من الرعي ، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً ، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول ، كأنه قيل : ومرعيها : أي النبات الذي يرعى . وقدم الماء على المرعى لأنه سبب في وجود المرعى ، وشمل ) وَمَرْعَاهَا ( ما يتقوت به الآدمي والحيوان غيره ، فهو في حق الآدمي استعارة ، ولهذا قيل : دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء .
النازعات : ( 34 ) فإذا جاءت الطامة . . . . .
( فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ ( ، قال ابن عباس والضحاك : القيامة . وقال ابن عباس أيضاً والحسن : النفخة الثانية .
النازعات : ( 35 ) يوم يتذكر الإنسان . . . . .
وقال القاسم : وقت سوق أهل الجنة إليها ، وأهل النار إليها ، وهو معنى قول مجاهد . ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى ( : أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا .
النازعات : ( 36 - 37 ) وبرزت الجحيم لمن . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَبُرّزَتِ ( مبني للمفعول مشدد الراء ، ( لِمَن يَرَى ( بياء الغيبة : أي لكل أحد ، فيشكر المؤمن نعمة الله . وقيل : ) لِمَن يَرَى ( هو الكافر ؛ وعائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار : مبنياً للفاعل مخففاً وبتاء ، يجوز أن يكون خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي لمن ترى من أهلها ، وأن يكون إخبار عن الجحيم ، فهي تاء التأنيث . قال تعالى : ) إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ). وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو : وبرزت مبنياً ومخففاً ، و ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ( : بدل من ) فَإِذَا ( ؛ وجواب إذا ، قال الزمخشري : فإن الأمر كذلك . وقيل : عاينوا وعلموا . ويحتمل أن يكون التقدير : انقسم الراؤون قسمين ، والأولى أن يكون الجواب : فأما وما بعده ، كما تقول : إذا جاءك بنو تميم ، فأما العاصي فأهنه ، وأما الطائع فأكرمه .
( طَغَى ( : تجاوز الحد في عصيانه ،
النازعات : ( 38 - 39 ) وآثر الحياة الدنيا
) وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( على الآخرة ، وهي مبتدأ أو فصل . والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين ، أي المأوى له ، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة . وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير . وقال الزمخشري : والمعنى فإن الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد طرفك ؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره ، تركت الإضافة . ودخول حرف التعريف في المأوى ، والطرف للتحريف لأنهما معرفان . انتهى . وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدر ضميراً محذوفاً ، كما قدره البصريون ، فرام حصول الربط بلا رابط .
النازعات : ( 40 ) وأما من خاف . . . . .
( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( : أي مقاماً بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء ؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً . قال ابن عباس : خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها . ) وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( : أي عن شهوات النفس ، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود . قال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين . وقال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه . وقال عمران الميرتليّ : فخالف هواها واعصها إن من يطع
هوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الفضيل : أفضل الأعمال خلاف الهوى ، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار . وعن ابن عباس(8/415)
" صفحة رقم 416 "
نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري ، رضي الله تعالى عنه . وعنه أيضاً : ) فَأَمَّا مَن طَغَى ( ، فهو أخ لمصعب بن عمير ، أسر فلم يشدوا وثاقه ، وأكرموه وبيتوه عندهم ؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعباً ، فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه . ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السهام . فلما رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) متشحطاً في دمه قال : ( عند الله أحتسبك ) ، وقال لأصحابه : ( لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما ، وإن شراك نعله من ذهب ) . قيل : واسم أخيه عامر . وفي الكشاف ، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أُحد ، ووقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه . انتهى .
النازعات : ( 42 - 44 ) يسألونك عن الساعة . . . . .
( يَسْأَلُونَكَ ( : أي قريش ، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة ، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك ، فنزلت هذه الآية . ) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( : متى إقامتها ؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها ؟ وقيل : أيان منتهاها ومستقرها ؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه . ) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يسأل عن الساعة كثيراً ، فلما نزلت هذه الآية . انتهى . والمعنى : في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها ؟ أي لست من ذلك في شيء ، ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ ). ) إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا ( : أي انتهاء علم وقتها ، لم يؤت علم ذلك أحداً من خلقه . وقيل : ) فِيمَ ( إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال ؟ ثم قال : ) أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( ، وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها .
( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( : أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفاً به في الخشية منها . انتهى . وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه ، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم ، ولم يخله من دسيسة الاعتزال .
النازعات : ( 45 ) إنما أنت منذر . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مُنذِرُ مَن ( بالإضافة . وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم : منذر بالتنوين . وقال الزمخشري : وقرىء منذرر بالتنوين ، وهو الأصل والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ؛ فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذر زيد أمس . انتهى . أما قوله : وهو الأصل ، يعني التنوين ، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم . وقد قررنا في هذا الكتاب ، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة ، لأن العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة هي أصل في الأسماء . وأما قوله : فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو . وخص ) مَن يَخْشَاهَا ( لأنه هو المنتفع بالإنذار .
النازعات : ( 46 ) كأنهم يوم يرونها . . . . .
( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا ( : تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا . ) لَمْ ( : لم يقيموا في الدنيا ، ( يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً ( : يوم أو بكرته ، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار . بدأ بذكر أحدهما ، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً ، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(8/416)
" صفحة رقم 417 "
80
( سورة عبس )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاٌّ عْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( ط ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاٌّ رْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( )
عبس : ( 1 - 2 ) عبس وتولى
تصدّى : تعرّض ، قال الراعي : تصدى لو ضاح كأن جبينه
سراج الدجى يجيء إليه الأساور
وأصله : تصدّد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك ، يقال : داري صدد داره : أي قبالتها . وقيل : من الصدى ، وهو العطش . وقيل : من الصدى ، وهو الصوت الذي تسمعه إذا تكلمت من بعد في خلاء كالجبل ، والمصاداة : المعارضة . السفرة : الكتبة ، الواحد سافر ، وسفرت المرأة : كشفت النقاب ، وسفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم ، قاله الفراء ، الواحد سفير ، والجمع سفراء . قال الشاعر : فما أدع السفارة بين قومي
وما أسعى بغش إن مشيت(8/417)
" صفحة رقم 418 "
القضب ، قال الخليل ، الفصفصة الرطبة ، ويقال بالسين ، فإذا يبست فهي القت . قال : والقضب اسم يقع على ما يقع من أغصان الشجرة ليتخذ منها سهام أو قسي . الغلب جمع غلباء ، يقال : حديقة غلباء : غليظة الشجر ملتفة ، واغلولب العشب : بلغ والتف بعضه ببعض ، ورجل أغلب : غليظ الرقبة ، والأصل في هذا الوصف استعماله في الرقاب ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب : يسعى بها غلب الرقاب كأنهم
بزل كسين من الشعور جلالا
الأبّ : المرعى لأنه يؤبّ ، أي يؤم وينتجع ، والأبّ والأم أخوان . قال الشاعر : جذمنا قيس ونجد دارنا
ولنا الأبّ به والمكرع
وقيل : ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيد ، وما أكله غيرهم يسمى الأب ، ومنه قول الصحابة يمدح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : له دعوة ميمونة ريحها الصبا
بها ينبت الله الحصيدة والأبا
الصاخة ، قال الخليل : صيحة تصخ الآذان صخاً ، أي تصمها لشدة وقعتها . وقيل : مأخوذة من صخه بالحجر إذا صكه . وقال الزمخشري : أصاخ لحديثه مثل أصاخ له . الغبرة : الغبار . القترة : سواد كالدخان . وقال أبو عبيدة : القتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة . وقال الفرزدق : متوّج برداء الملك يتبعه
فوج ترى فوقه الرايات والقترا
) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الاْعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ).
هذه السورة مكية . وسبب نزولها مجيء ابن أم مكتوم إليه / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد ذكر أهل الحديث وأهل التفسير قصته . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر ) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( ، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يناجيهم في أمر الإسلام : عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ، ويدعوهم إليه .
( أَن جَاءهُ ( : مفعول من أجله ، أي لأن جاءه ، ويتعلق بتولى على مختار البصريين في الأعمال ، وبعبس على مختار أهل الكوفة . وقرأ الجمهور ؛ ) عَبَسَ ( مخففاً ، ( ءانٍ ( بهمزة واحدة ؛ وزيد بن علي : بشد الباء ؛ وهو(8/418)
" صفحة رقم 419 "
والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى : أآن بهمزة ومدة بعدها ؛ وبعض القراء : بهمزتين محققتين ، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام ، وفيهما يقف على تولى . والمعنى : ألأن جاءه كاد كذا . وجاء بضمير الغائب في ) عَبَسَ وَتَوَلَّى ( إجلالاً له عليه الصلاة والسلام ، ولطفاً به أن يخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى . وجاء لفظ ) الاْعْمَى ( إشعاراً بما يناسب من الرفق به والصغو لما يقصده ، ولابن عطية هنا كلام أضربت عنه صفحاً .
عبس : ( 3 - 4 ) وما يدريك لعله . . . . .
والضمير في ) لَعَلَّهُ ( عائد على ) الاْعْمَى ( ، أي يتطهر بما يتلقن من العلم ، أو ) يُذْكَرِ ( : أي يتعظ ، ( فَتَنفَعَهُ ( ذكراك ، أي موعظتك . والظاهر مصب ) يُدْرِيكَ ( على جملة الترجي ، فالمعنى : لا تدري ما هو مترجى منه من تزك أو تذكر . وقيل : المعنى وما يطلعك على أمره وعقبى حاله .
ثم ابتدأ القول : ) لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( : أي تنمو بركته ويتطهر لله . وقال الزمخشري : وقيل : الضمير في ) لَعَلَّهُ ( للكافر ، يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يذكر فتقر به الذكرى إلى قبول الحق ، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن . انتهى . وهذا قول ينزه عنه حمل القرآن عليه . وقرأ الجمهور : ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( بشد الذال والكاف ، وأصله يتذكر فأدغم ؛ والأعرج وعاصم في رواية : أو يذكر ، بسكون الذال وضم الكاف . وقرأ الجمهور : ) فَتَنفَعَهُ ( ، برفع العين عطفاً على ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( ؛ وعاصم في المشهور ، والأعرج وأبو حيوة أبي عبلة والزعفراني : بنصبهما . قال ابن عطية : في جواب التمني ، لأن قوله : ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( في حكم قوله ) لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ). انتهى . وهذا ليس تمنياً ، إنما هو ترج وفرق بين الترجي والتمني . وقال الزمخشري : وبالنصب جواباً للعل ، كقوله : ) فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ). انتهى . والترجي عند البصريين لا جواب له ، فينصب بإضمار أن بعد الفاء . وأما الكوفيون فيقولون : ينصب في جواب الترجي ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله : ) فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( في قراءة حفص ، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع .
عبس : ( 5 ) أما من استغنى
) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ( : ظاهره من كان ذا ثروة وغنى . وقال الكلبي : عن الله . وقيل : عن الإيمان بالله . قيل : وكونه بمعنى الثروة لا يليق بمنصب النبوة ، ويدل على ذلك أنه لو كان من الثروة لكان المقابل : وأما من جاءك فقيراً حقيراً .
عبس : ( 6 ) فأنت له تصدى
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسى والأعمش وجمهور السبعة : ) تَصَدَّى ( بخف الصاد ، وأصله يتصدى فحذف ؛ والحرميان : بشدها ، أدغم التاء في الصاد ؛ وأبو جعفر : تصدى ، بضم التاء وتخفيف الصاد ، أي يصدك حرصك على إسلامه . يقال : تصدى الرجل وصديته ، وهذا المستغنى هو الوليد ، أو أمية ، أو عتبة وشيبة ، أو أمية وجميع المذكورين في سبب النزول ، أقوال . قال القرطبي : وهذا كله غلط من المفسرين ، لأنه أمية والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ، وماتا كافرين ، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر معه مفرداً ولا مع أحد . انتهى . والغلط من القرطبي ، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما ؟ وهو وهم منه ، وكلهم من قريش ، وكان ابن أم مكتوم بها : والسورة كلها مكية بالإجماع . وكيف يقول : وابن أم مكتوم بالمدينة ؟ كان أولاً بمكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية . وابن أم مكتوم هو عبد الله بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهري ، من بني عامر بن لؤي ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة ، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها .
عبس : ( 7 ) وما عليك ألا . . . . .
( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ( : تحقير لأمر الكافر وحض على الإعراض عنه وترك الاهتمام به ، أي : وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر ؟
عبس : ( 8 ) وأما من جاءك . . . . .
( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ( : أي يمشي بسرعة في أمر دينه ،
عبس : ( 9 ) وهو يخشى
) وَهُوَ يخشى ( : أي يخاف الله ، أو يخاف الكفار وأذاهم ، أو يخاف العثار والسقوط لكونه أعمى ، وقد جاء بلا قائد يقوده .
عبس : ( 10 ) فأنت عنه تلهى
) تَلَهَّى ( : تشتغل ، يقال : لها عن الشيء يلهى ، إذا اشتغل عنه . قيل : وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو . انتهى . ويمكن أن يكون منه ، لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو وتنقلب واوه ياء لكسرة ما قبلها ، نحو : شقي يشقى ، فإن كان مصدره جاء بالياء ، فيكون من مادة غير مادة اللهو . وقرأ الجمهور : ) تَلَهَّى ( ؛ والبزي عن ابن كثير : عنه وتلهى ، بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل ؛ وأبو جعفر : بضمها مبنياً للمفعول ، أي يشغلك دعاء الكافر للإسلام ؛ وطلحة : بتاءين ؛ وعنه بتاء واحدة وسكون اللام .
عبس : ( 11 ) كلا إنها تذكرة
) كَلاَّ إِنَّهَا ( : أي سورة القرآن والآيات ، ( تَذْكِرَةٌ ( : عظة ينتفع بها .
عبس : ( 12 ) فمن شاء ذكره
) فَمَن شَاء(8/419)
" صفحة رقم 420 "
ذَكَرَهُ ( : أي فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره ، أتى بالضمير مذكراً لأن التذكرة هي الذكر ، وهي جملة معترضة تتضمن الوعد والوعيد ، ( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( ، واعترضت بين تذكرة وبين صفته ، أي تذكرة : كائنة .
عبس : ( 13 ) في صحف مكرمة
) فَى صُحُفٍ ( ، قيل : اللوح المحفوظ ، وقيل : صحف الأولياء المنزلة ، وقيل : صحف المسلمين ، فيكون إخباراً بمغيب ، إذ لم يكتب القرآن في صحف زمان ، كونه عليه السلام بمكة ينزل عليه القرآن ، مكرمة عند الله ،
عبس : ( 14 - 15 ) مرفوعة مطهرة
ومرفوعة في السماء السابعة ، قاله يحيى بن سلام ، أو مرفوعة عن الشبه والتناقض ، أو مرفوعة المقدار . ) مُّطَهَّرَةٍ ( : أي منزهة عن كل دنس ، قاله الحسن . وقال أيضاً : مطهرة من أن تنزل على المشركين . وقال الزمخشري : منزهة عن أيدي الشياطين ، لا تمسها إلا أيدي ملائكة مطهرة . ) سَفَرَةٍ ( : كتبة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ . انتهى . ) بِأَيْدِى سَفَرَةٍ ( ، قال ابن عباس : هم الملائكة لأنهم كتبة . وقال أيضاً : لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه . وقال قتادة : هم القراء ، وواحد السفرة سافر . وقال وهب : هم الصحابة ، لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والعلم .
عبس : ( 17 ) قتل الإنسان ما . . . . .
( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( ، قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، غاضب أباه فأسلم ، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام ، فبعث إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه كافر برب النجم إذا هوى . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( اللهم ابعث عليه كلبك يأكله ) . فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء ، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً ، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله . فأقبل الأسد إلى الرجال ووثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ، وقال : ما قال محمد شيئاً قط إلا كان ، والآية ، وإن نزلت في مخصوص ، فالإنسان يراد به الكافر . وقتل دعاء عليه ، والقتل أعظم شدائد الدنيا . ) مَا أَكْفَرَهُ ( ، الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، إذ هو مستحيل في حق الله تعالى ، أي هو ممن يقال فيه ما أكفره . وقيل : ما استفهام توقيف ، أي : أي شيء أكفره ؟ أي جعله كافراً ، بمعنى لأي شيء يسوغ له أن يكفر .
عبس : ( 18 ) من أي شيء . . . . .
( مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ ( : استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه .
عبس : ( 19 ) من نطفة خلقه . . . . .
ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال : ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( : أي فهيأه لما يصلح له . وقال ابن عباس : أي في بطن أمه ، وعنه قدر أعضاءه ، وحسناً ودميماً وقصيراً وطويلاً وشقياً وسعيداً . وقيل : من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه .
عبس : ( 20 ) ثم السبيل يسره
) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ( : أي ثم يسر السبيل ، أي سهل . قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان ، وتيسيره له هو هبة العقل . وقال مجاهد والحسن وعطاء وابن عباس في رواية أبي صالح عنه : السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال ، أي يسر قوماً لهذا ، كقوله : ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الآية ، وقوله تعالى : ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ؛ وعن ابن عباس : يسره للخروج من بطن أمه .
عبس : ( 21 ) ثم أماته فأقبره
) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( : أي جعل له قبراً صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع . قبره : ذفنه ، وأقبره : صيره بحيث يقبر وجعل له قبراً ، والقابر : الدافن بيده . قال الأعشى : لو أسندت ميتاً إلى قبرها
عاش ولم ينقل إلى قابر
عبس : ( 22 ) ثم إذا شاء . . . . .
( ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ( : أي إذا أراد إنشاره أنشره ، والمعنى : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله ، وهو يوم القيامة . وفي كتاب اللوامح شعيب بن الحبحاب : شاء نشره ، بغير همز قبل النون ، وهما لغتان في الأحياء ؛ وفي كتاب ابن عطية : وقرأ شعيب بن أبي حمزة : شاء نشره .
عبس : ( 23 ) كلا لما يقض . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان . ) لَمَّا يَقْضِ ( : يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ، ( مَا أَمَرَهُ ( به الله تعالى ، فالضمير في يقض للإنسان . وقال ابن فورك : لله تعالى ، أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له .
عبس : ( 24 ) فلينظر الإنسان إلى . . . . .
ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان ، ذكر النعم فيما به قوام حياته ، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم . والظاهر أن الطعام هو المطعوم ، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض والإنبات ، وهذا قول الجمهور . وقال أبيّ وابن(8/420)
" صفحة رقم 421 "
عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : ) إِلَى طَعَامِهِ ( : أي إذا صار رجيعاً ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها .
عبس : ( 25 ) أنا صببنا الماء . . . . .
وقرأ الجمهور : إنا بكسر الهمزة ؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس : ) أَنَاْ ( بفتح الهمزة ؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما : أني بفتح الهمزة مما لا ؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام ، والفتح قالوا على البدل ، ورده قوم ، لأن الثاني ليس الأول . قيل : وليس كما ردوا لأن المعنى : فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه ، فترتب البدل وصح . انتهى . كأنهم جعلوه بدل كل من كل ، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال . وقراءة أبي ممالا على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا . وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب ، وصب الماء هو المطر .
عبس : ( 26 ) ثم شققنا الأرض . . . . .
والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به . وقيل : شق الأرض هو بالنبات .
عبس : ( 27 ) فأنبتنا فيها حبا
) حَبّاً ( : يشمل ما يسمى حباً من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك .
عبس : ( 28 ) وعنبا وقضبا
) وَقَضْباً ( ، قال الحسن : العلف ، وأهل مكة يسمون القت القضب . وقيل : الفصفصة ، وضعف لأنه داخل في الأب . وقيل : ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاً من النبات ، كالبقول والهليون . وقال ابن عباس : هو الرطب ، لأنه يقضب من النخل ، ولأنه ذكر العنب قبله .
عبس : ( 30 ) وحدائق غلبا
) غُلْباً ( ، قال ابن عباس : غلاظاً ، وعنه : طوالاً ؛ وعن قتادة وابن زيد : كراماً ؛
عبس : ( 31 ) وفاكهة وأبا
) وَفَاكِهَةٍ ( : ما يأكله الناس من ثمر الشجر ، كالخوخ والتين ؛ ) وَأَبّاً ( : ما تأكله البهائم من العشب . وقال الضحاك : التبن خاصة . وقال الكلبي : كل نبات سوى الفاكهة رطبها ، والأب : يابسها .
عبس : ( 33 ) فإذا جاءت الصاخة
) الصَّاخَّةُ ( : اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان ، تقول العرب : صختهم الصاخة ونابتهم النائبة ، أي الداهية . وقال أبو بكر بن العربي : الصاخة هي التي تورث الصمم ، وأنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، كقوله : أصمهم سرّهم أيام فرقتهم
فهل سمعتم بسرّ يورث الصمما
وقول الآخر :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة . انتهى .
عبس : ( 34 ) يوم يفر المرء . . . . .
( يَوْمَ يَفِرُّ ( : بدل من إذا ، وجواب إذا محذوف تقديره : اشتغل كل إنسان بنفسه ، يدل عليه :
عبس : ( 37 ) لكل امرئ منهم . . . . .
( لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( ، وفراره من شدّة الهول يوم القيامة ، كما جاء من قول الرسل : ( نفسي نفسي ) . وقيل : خوف التبعات ، لأن الملابسة تقتضي المطالبة . يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان قصرت في برنا ، والصحابة أطمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون لم تعلمنا وترشدنا . وقرأ الجمهور : ) يُغْنِيهِ ( : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء ؛ والزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميقع : يعنيه بفتح الياء والعين المهملة ، من قولهم : عناني الأمر : قصدني .
عبس : ( 38 ) وجوه يومئذ مسفرة
) مُّسْفِرَةٌ ( : مضيئة ، من أسفر الصبح : أضاء ،
عبس : ( 40 - 41 ) ووجوه يومئذ عليها . . . . .
و ) تَرْهَقُهَا ( : تغشاها ، ( قَتَرَةٌ ( : أي غبار . والأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم ، والثانية من غبار الأرض . وقيل : ) غَبَرَةٌ ( : أي من تراب الأرض ، وقترة : سواد كالدخان . وقال زيد بن أسلم : الغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والقترة : ما ارتفعت إلى السماء . وقرأ الجمهور : قترة ، بفتح التاء ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها .(8/421)
" صفحة رقم 422 "
81
( سورة التكوير )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاٍّ فُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) ) 2
التكوير : ( 1 ) إذا الشمس كورت
انكدرت النجوم : انتثرت . وقال أبو عبيدة : انصبت كما تنصب القعاب إذا كسرت . قال العجاج يصف صقراً : أبصر حرمات فلاة فانكدر
تقصي البازي إذا البازي كسر
العشار جمع عشراء ، وهي الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السنة . التعطيل : التفريغ والإهمال . الوحش : حيوان البر الذي ليس في طبعه التآنس ببني آدم . الموءودة : البنت التي تدفن حية : وأصله من النقل ، كأنها تنقل من التراب حتى تموت ، ومنه اتئد : أي توقر وأثقل ولا تخف . الكشط : التقشير ، كشطت جلد الشاة : سلخته عنها . الخنس جمع خانس ، والخنوس : الانقباض والاستخفاء . تقول خنس بين القوم وانخنس . الكنس جمع كانس وكانسه ، يقال : كنس إذا دخل الكناس ، وهو المكان الذي تأوي إليه الظباء . والخنس : تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة . عسعس ، قال الفراء : عسعس الليل وعسس ، إذا لم يبق منه القليل . وقال الخليل : عسعس الليل : أقبل وأدبر . قال المبرد : هو من الأضداد . وقال علقمة بن قرط : حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسا(8/422)
" صفحة رقم 423 "
وقال رؤبة : يا هند ما أسرع ما تعسعسا
من بعدما كان فتى فرعرعا
التنفس : خروج النسيم من الجوف ، واستعير للصبح ومعناه : امتداده حتى يصير نهاراً واضحاً . الظنين : المتهم ، فعيل بمعنى مفعول ، ظننت الرجل : اتهمته ، والظنين : البخيل ، قال الشاعر : أجود بمكنون الحديث وإنني
بسرّك عن ما سألتني لضنين
) إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها في غاية الظهور . وتكوير الشمس ، قال ابن عباس : إدخالها في العرش . وقال مجاهد وقتادة والحسن : ذهاب ضوئها . وقال الربيع بن خثيم : رمى بها ، ومنه : كورته فتكوّر . وقال أبو صالح : نكست ؛ وعن ابن عباس أيضاً : أظلمت ؛ وعن مجاهد : اضمحلت . وقيل : غوّرت ؛ وقيل : يلف بعضها ببعض ويرمى بها في البحر . وقال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة . وقال القرطبي : من كار العمامة على رأسه يكورها ، أي لأنها وجمعها ، فهي تكور ، ثم يمحي ضوءها ، ثم يرمي بها . وقال الزمخشري : فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية ؟ قلت : بل على الفاعلية ، رافعها فعل مضمر يفسره ) كُوّرَتْ ( ، لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط . انتهى . ومن طريقته أنه يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً ، ولا مشاحة في الاصطلاح . وليس ما ذكر من الإعراب مجمعاً على تحتمه عند النحاة ، بل يجوز رفع الشمس على الابتداء عند الأخفش والكوفيين ، لأنهم يجيزون أن تجيء الجملة الاسمية بعد إذا ، نحو : إذا زيد يكرمك فأكرمه .
التكوير : ( 2 ) وإذا النجوم انكدرت
) انكَدَرَتْ ( ، عن ابن عباس : تساقطت ؛ وعنه أيضاً : تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها ، من قولهم : ماء كدر : أي متغير .
التكوير : ( 3 ) وإذا الجبال سيرت
وتسيير الجبال : أي عن وجه الأرض ، أو سيرت في الجو تسيير السحاب ، كقوله : ) وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( ، وهذا قبل نسفها ، وذلك في أول هول يوم القيامة .
التكوير : ( 4 ) وإذا العشار عطلت
والعشار : أنفس ما عند العرب من المال ، وتعطيلها : تركها مسيبة مهملة ، أو عن الحلب لاشتغالهم بأنفسهم ، أو عن أن يحمل عنها الفحول ؛ وأطلق عليها عشاراً باعتبار ما سبق لها ذلك . قال القرطبي : وهذا على وجه المثل ، لأنه في القيامة لا يكون عشراء ، فالمعنى : أنه لو كان عشراء لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم . وقيل : إذا قاموا من القبور شاهدوا الوحوش والدواب محشورة وعشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم ، لم يعبؤا بها لشغلهم بأنفسهم . وقيل : العشار : السحاب ، وتعطيلها من الماء فلا تمطر . والعرب تسمي السحاب بالحامل . وقيل : العشار : الديار تعطل فلا تسكن . وقيل : العشار : الأرض التي يعشر زرعها ، تعطل فلا تزرع .
وقرأ الجمهور : ) عُطّلَتْ ( بتشديد الطاء ؛ ومضر عن اليزيدي : بتخفيفها ، كذا في كتاب ابن خالويه ، وفي كتاب اللوامح عن ابن كثير ، قال في اللوامح ، وقيل : هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت ، لأن التشديد فيه التعدي ، يقال : منه عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه ، وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها الحلى ، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت وأفعلت ، والله أعلم . انتهى . وقال امرؤ القيس :(8/423)
" صفحة رقم 424 "
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
التكوير : ( 5 ) وإذا الوحوش حشرت
) حُشِرَتْ ( : أي جمعت من كل ناحية . فقال ابن عباس : جمعت بالموت ، فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين . وعنه وعن قتادة وجماعة : يحشر كل شيء حتى الذباب . وعنه : تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض ، ثم يقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها موتي فتموت . وقيل : إذا قضى بينها ردت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته ، كالطاووس ونحوه . وقال أبيّ : في الدنيا في أول الهول تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تآنساً بهم . وقرأ الجمهور : ) حُشِرَتْ ( بخف الشين ؛ والحسن وعمرو بن ميمون : بشدها .
التكوير : ( 6 ) وإذا البحار سجرت
) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ( : تقدم أقوال العلماء في سجر البحر في الطور ، والبحر المسجور ، وفي كتاب لغات القراآت ، سجرت : جمعت ، بلغة خثعم . وقال هنا ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : ملكت وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض من الهول ، فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بخف الجيم ؛ وباقي السبعة : بشدها .
قال ابن عطية : وذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند الموت . فالشمس نفسه ، والنجوم عيناه وحواسه ، وهذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى . انتهى . وهذا مذهب الباطنية ، ومذاهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية ، وقد أشرنا إليهم في خطبة هذا الكتاب ؛ وإنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام . وكتاب الله جاء بلسان عربي مبين ، لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن ، ولا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة ولا أهل الطبائع . ولقد ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة ، وذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب الله عز وجل . وكذلك ما ذكره صاحب التحرير والتحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى الصوف ويسميها الحقائق ، وفيها ما لا يحل كتابته ، فضلاً عن أن يعتقد ، نسأل الله تعالى السلامة في ديننا وعقائدنا وما به قوام ديننا ودنيانا .
التكوير : ( 7 ) وإذا النفوس زوجت
) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ ( : أي المؤمن مع المؤمن والكافر مع الكافر ، كقوله : ) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ( ، قاله عمر وابن عباس ؛ أو نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور العين وغيرهن ، قاله مقاتل بن سليمان ؛ أو الأزواج الأجساد ، قاله عكرمة والضحاك والشعبي . وقرأ عاصم في رواية : زووجت على فوعلت ، والمفاعلة تكون بين اثنين . والجمهور : بواو مشددة .
التكوير : ( 8 - 9 ) وإذا الموؤودة سئلت
وقال الزمخشري : وأد يئد ، مقلوب من آد يؤد إذا أثقل . قال الله تعالى : ) وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ( ، لأنه إثقال بالتراب . انتهى . ولا يدعي في وأد أنه مقلوب من آد ، لأن كلاً منهما كامل التصرف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات ادعاء القلب . والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك ، أو كونه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً وكونه أكثر تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالاً من الآخر ، وهذا على ما قرروا أحكم في علم التصريف . فالأول كيثس وأيس ، والثاني كطأمن واطمأن ، والثالث كشوايع وشواع ، والرابع كلعمري ورعملي .
وقرأ الجمهور : ) الْمَوْءودَةُ ( ، بهمزة بين الواوين ، اسم مفعول . وقرأ البزي في رواية : الموؤدة ، بهمزة مضمومة على الواو ، فاحتمل أن يكون الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الواو بعد حذف الهمزة ، ثم الواو المنقول إليها الحركة . واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد ؛ فالاصل مأوودة ، فحذف إحدى الواوين على الخلاف الذي فيه المحذوف واو المد أو الواو التي هي عين ، نحو : مقوول ، حيث قالوا : مقول . وقرىء الموودة ، بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة ، أعني التسهيل بالحذف ، ونقل حركتها إلى الواو . وقرأ الأعمش : المودة ، بكسون الواو على وزن الفعلة ، وكذا وقف لحمزة بن مجاهد . ونقل القراء أن حمزة يقف عليها كالموودة لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سنة متبعة . وقرأ الجمهور : ) سُئِلَتْ ( مبنياً للمفعول ، ( بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( : كذلك وخف الياء وبتاء التأنيث فيهما ، وهذا السؤال هو لتوبيخ الفاعلين للوأد ، لأن سؤالها يؤول إلى سؤال(8/424)
" صفحة رقم 425 "
الفاعلين . وجاء قتلت بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل : قتلت . وقرأ الحسن والأعرج : سئلت ، بكسر السين ، وذلك على لغة من قال : سأل بغير همز . وقرأ أبو جعفر : بشد الياء ، لأن الموؤدة اسم جنس ، فناسب التكثير باعتبار الأشخاص . وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد : سألت مبنياً للفاعل ، قتلت بسكون اللام وضم التاء ، حكاية لكلامها حين سئلت . وعن أبيّ وابن مسعود أيضاً والربيع بن خيثم وابن يعمر : سألت مبنيا للفاعل . ) بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( : مبنياً للمفعول بتاء التأنيث فيهما إخباراً عنهما ، ولو حكي كلامها لكان قتلت بضم التاء .
وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ، ألبسها جبة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها : طيبيها ولينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر حفرة أو بئراً في الصحراء ، فيذهب بها إليها ويقول لها انظري فيها ؛ ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي بالأرض . وقيل : كانت الحامل إذا قرب وضعها حفرت حفرة فتمخضت على رأسها ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته . وقد افتخر الفرزدق ، وهو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية ، بجده صعصعة ، إذ كان منع وأد البنات فقال : ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد ولم يوئد
التكوير : ( 10 ) وإذا الصحف نشرت
) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( : صحف الأعمال كانت مطوية على الأعمال ، فنشرت يوم القيامة ليقرأ كل إنسان كتابه . وقيل : الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء ، وهي صحف غير صحف الأعمال . وقرأ أبو رجاء وقتادة والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم : نشرت بخف الشين ؛ وباقي السبعة : بشدّها .
التكوير : ( 11 - 12 ) وإذا السماء كشطت
وكشط السماء : طيها كطي السجل . وقيل : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة . وقرأ عبد الله : قشطت بالقاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان ، كقولهم : عربي قح وكح ، وتقدّمت قراءته قافوراً ، أي كافوراً . وقرأ نافع وابن عامر وحفص : ) سُعّرَتْ ( بشد العين ؛ وباقي السبعة : بخفها ، وهي قراءة عليّ . قال قتادة : سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم ، وجواب إذا وما عطفت عليه
التكوير : ( 14 ) علمت نفس ما . . . . .
( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( : ونفس تعم في الإثبات من حيث المعنى ، ما أحضرت من خير تدخل به الجنة ، أو من شر تدخل به النار . وقال ابن عطية : ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه . انتهى .
وقرئت هذه السورة عند عبد الله ، فلما بلغ القارىء ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( ، قال عبد الله : ( وانقطاع ظهراه ) .
التكوير : ( 15 - 16 ) فلا أقسم بالخنس
) بِالْخُنَّسِ ( ، قال الجمهور : الدراري السبعة : الشمس والقمر ، وزحل ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والمشتري . وقال : على الخمسة دون الشمس والقمر ، تجري الخمسة مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : تخنس في جريها التي يتعهد فيها ترى العين ، وهي جوار في السماء ، وهي تكنس في أبراجها ، أي تستتر . وقال علي أيضاً والحسن وقتادة : هي النجوم كلها لأنها تخنس وتكنس بالنهار حين تختفي . وقال الزمخشري : أي تخنس بالنهار وتكنس بالليل ، أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها . انتهى . وقال عبد الله والنخعي وجابر بن زيد وجماعة : المراد ) بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ( : بقر الوحش ، لأنها تفعل هذه الأفعال في كنائسها . وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : هي الظباء ، والخنس من صفة الأنوق لأنها يلزمها الخنس ، وكذا بقر الوحش .
التكوير : ( 17 ) والليل إذا عسعس
) عَسْعَسَ ( بلغة قريش ، وقال الحسن : أقبل ظلامه ، ويرجحه مقابلته بقوله :
التكوير : ( 18 ) والصبح إذا تنفس
) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ( ، فهما حالتان . وقال المبرد : أفسم بإقباله وإدباره وتنفسه كونه يجيء معه روح ونسيم ، فكأنه نفس له على المجاز .
التكوير : ( 19 ) إنه لقول رسول . . . . .
( إنَّهُ ( : أي إن هذا المقسم عليه ، أي إن القرآن ) لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( ؛ الجمهور : على أنه جبريل عليه السلام . وقيل : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفات المدح اللائقة به .
التكوير : ( 20 - 21 ) ذي قوة عند . . . . .
( ذِى قُوَّةٍ ( : كقوله : ) شَدِيد(8/425)
" صفحة رقم 426 "
ُ الْقُوَى ). ) عِندَ ذِى ( : الكينونة اللائقة من شرف المنزلة وعظم المكانة . وقيل : العرش متعلق بمكين مطاع . ثم إشارة إلى ) عِندَ ذِى الْعَرْشِ ( : أي إنه مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره . وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهثم وابن مقسم : ثم ، بضم الثاء : حرف عطف ، والجمهور : ) ثُمَّ ( بفتحها ، ظرف مكان للبعيد . وقال الزمخشري : وقرىء ثم تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة . انتهى . وقال صاحب اللوامح : بمعنى مطاع وأمين ، وإنما صارت ثم بمعنى الواو بعد أن مواضعتها للمهلة والتراخي عطفاً ، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معاً في حال واحدة ، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى ، ( ثَمَّ أَمِينٍ ( عند انفصاله عنهم ، حال وحيه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لجاز أن لو ورد به أثر انتهى . ) أَمِينٌ ( : مقبول القول يصدق فيما يقوله ، مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر .
التكوير : ( 22 ) وما صاحبكم بمجنون
) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( : نفى عنه ما كانوا ينسبونه إليه ويبهتونه به من الجنون .
التكوير : ( 23 - 24 ) ولقد رآه بالأفق . . . . .
( وَلَقَدْ رَءاهُ ( : أي رأى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) جبريل عليه السلام ، وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته له ستمائة جناح . وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمى ذلك الموضع أفقاً مجازاً . وقد كانت له عليه السلام ، رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه . ووصف الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، قاله قتادة وسفيان . وأيضاً فكل أفق في غاية البيان . وقيل : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة . وقال مجاهد : رآه نحو جياد ، وهو مشرق مكة . وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ، ومن السبعة النحويان وابن كثير : بظنين بالظاء ، أي بمتهم ، وهذا نظير الوصف السابق بأمين . وقيل : معناه بضعيف القوة على التبليغ من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء ، وكذا هو بالظاء في مصحف عبد الله . وقرأ عثمان وابن عباس أيضاً والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وباقي السبعة : بالضاد ، أي ببخيل يشح به لا يبلغ ما قيل له ويبخل ، كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه . قال الطبري : وبالضاد خطوط المصاحف كلها .
التكوير : ( 25 ) وما هو بقول . . . . .
( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ( : أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان .
التكوير : ( 26 - 27 ) فأين تذهبون
) فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ( : استضلال لهم ، حيث نسبوه مرة إلى الجنون ، ومرة إلى الكهانة ، ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه . وقال الزمخشري : كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق : أي تذهب ؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل . انتهى . ) ذُكِرَ ( : تذكرة وعظة ، ( لِمَن شَاء ( : بدل من ) لّلْعَالَمِينَ ( ، ثم عذق مشيئة العبيد بمشيئة الله تعالى .
التكوير : ( 28 ) لمن شاء منكم . . . . .
قال ابن عطية : ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتلبسهم بأفعال الاستقامة .
التكوير : ( 29 ) وما تشاؤون إلا . . . . .
ثم بين تعالى أن تكسب العبد على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء . انتهى . وقال الزمخشري : وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعاً . ) وَمَا تَشَاءونَ ( الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله تعالى ولطفه ، ما تشاءونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجاته . انتهى . ففسر كل من ابن عطية والزمخشري المشيئة على مذهبه . وقال الحسن : ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها .(8/426)
" صفحة رقم 427 "
82
( سورة الانفطار )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِىأَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاٌّ مْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( ) ) 2
الإنفطار : ( 3 ) وإذا البحار فجرت
) بعثرت المتاع : قلبته ظهراً لبطن ، وبعثرت الحوض وبحثرته : هدمته وجعلت أعلاه أسفله .
( إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت ، علمت نفس ما قدمت وأخرت ، يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ، كلا بل تكذبون بالدين ، وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون ، إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين ، وما هم عنها بغائبين ، وما أدراك ما يوم الدين ، ثم ما أدريك ما يوم الدين ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ).
هذه السورة مكية . وانفطارها تقدم الكلام فيه ، وانتثار الكواكب : سقوطها من مواضعها كالنظام . وقرأ الجمهور : ) فُجّرَتْ ( بتشديد الجيم ؛ ومجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري : بخفها ، وتفجيرها من امتلائها ، فتفجر من أعلاها وتفيض على ما يليها ، أو من أسفلها فيذهب الله ماءها حيث أراد . وعن مجاهد : فجرت مبنياً للفاعل مخففاً بمعنى : بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى : ) لاَّ يَبْغِيَانِ ( ، لأن البغي والفجر متقابلان .
الإنفطار : ( 4 ) وإذا القبور بعثرت
) بُعْثِرَتْ ( ، قال ابن عباس : بحثت . وقال السدي : أثيرت لبعث الأموات . وقال الفراء : أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة . وقال الزمخشري : بعثر وبحثر بمعنى واحد ، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما ، والمعنى : بحثت وأخرج موتاها . وقيل : لبراءة المبعثرة ، لأنها بعثرت أسرار المنافقين . انتهى . فظاهر قوله أنهما مركبان أن مادتهما ما ذكر ، وأن الراء ضمت إلى هذه المادة ، والأمر ليس كما يقتضيه كلامه ، لأن الراء ليست من حروف الزيادة ، بل هما مادتان مختلفتان وإن اتفقا من حيث المعنى . وأما أن إحداهما مركبة من كذا فلا ، ونظيره قولهم : دمث ودمثر وسب وسبطر .
الإنفطار : ( 5 ) علمت نفس ما . . . . .
( مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( : تقدم الكلام على شبهه في سورة القيامة .
الإنفطار : ( 6 ) يا أيها الإنسان . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مَا غَرَّكَ ( ، فما استفهامية . وقرأ ابن جبير والأعمش : ما أغرك(8/427)
" صفحة رقم 428 "
بهمز ، فاحتمل أن يكون تعجباً ، واحتمل أن تكون ما استفهامية ، وأغرك بمعنى أدخلك في الغر . وقال الزمخشري : من قولك غر الرجل فهو غار ، إذا غفل من قولك بينهم العدو وهم غارون ، وأغرة غيره : جعله غاراً . انتهى . وروي أنه عليه الصلاة والسلام قرأ : ) مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( ، فقال : جهله وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ أنه كان ظلوماً جهولاً ، وهذا يترتب في الكافر والعاصي . وقال قتادة : عدوه المسلط عليه ، وقيل : ستر الله عليه . وقيل : كرم الله ولطفه يلقن هذا الجواب ، فهذا لطف بالعاصي المؤمن . وقيل : عفوه عنه إن لم يعاقبه أول مرة . وقال الفضيل رضي الله عنه : ستره المرخى . وقال ابن السماك : يا كاتم الذنب أما تستحي
والله في الخلوة رائيكا
غرك من ربك إمهاله
وستره طول مساويكا
وقال الزمخشري : في جواب الفضيل ، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ . بالاغترار : بالستر ، وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويظن به قصاص الحشوية ، ويروون عن أئمتهم إنما قال : ) بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرني كونه الكريم . انتهى . وهو عادته في الطعن على أهل السنة .
الإنفطار : ( 7 ) الذي خلقك فسواك . . . . .
( فَسَوَّاكَ ( : جعلك سوياً في أعضائك ، ( فَعَدَلَكَ ( : صيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وطلحة والأعمش وعيسى وأبو جعفر والكوفيون : بخف الدال ؛ وباقي السبعة : بشدها . وقراءة التخفيف إما أن تكون كقراءة التشديد ، أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت ، وإما أن يكون معناه فصرفك . يقال : عدله عن الطريق : أي عدلك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق ، أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات .
الإنفطار : ( 8 ) في أي صورة . . . . .
والظاهر أن قوله : .
( في أي صُورَةٍ ( يتعلق بربك ، أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئة من حسن وطول وذكورة ، وشبه ببعض الأقارب أو مقابل ذلك . وما زائدة ، وشاء في موضع الصفة لصورة ، ولم يعطف ) رَكَّبَكَ ( بالفاء كالذي قبله ، لأنه بيان لعدلك ، وكون في أي صورة متعلقاً بربك هو قول الجمهور . وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي ركبك حاصلاً في بعض الصور . وقال بعض المتأولين : إنه يتعلق بقوله : ) فَعَدَلَكَ ( ، أي : لك في صورة ، أي صورة ؛ وأي تقتضي التعجيب والتعظيم ، فلم يجعلك في صورة خنزير أو حمار ؛ وعلى هذا تكون ما منصوبة بشاء ، كأنه قال : أي تركيب حسن شاء ركبك ، والتركيب : التأليف وجمع شيء إلى شيء . وأدغم خارجة عن نافع ركبك كلا ، كأبي عمرو في إدغامه الكبير .
الإنفطار : ( 9 ) كلا بل تكذبون . . . . .
وكلا : ردع وزجر لما دل عليه ما قبله من اغترارهم بالله تعالى ، أو لما دل عليه ما بعد كلا من تكذيبهم بيوم الجزاء والدين أو شريعة الإسلام . وقرأ الجمهور : ) بَلْ تُكَذّبُونَ ( بالتاء ، خطاباً للكفار ؛ والحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر : بياء الغيبة .
الإنفطار : ( 10 ) وإن عليكم لحافظين
) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( : استئناف إخبار ، أي عليهم من يحفظ أعمالهم ويضبطها . ويظهر أنها جملة حالية ، والواو واو الحال ، أي تكذبون بيوم الجزاء .
الإنفطار : ( 11 ) كراما كاتبين
والكاتبون : الحفظة يضبطون أعمالكم لأن تجازوا عليها ، وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء . وقرأ الجمهور : ) يَصْلَوْنَهَا ( ، مضارع صلى مخففاً ؛ وابن مقسم : مشدّداً مبنياً للمفعول .
الإنفطار : ( 12 ) يعلمون ما تفعلون
) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( ، فيكتبون ما تعلق به الجزاء . قال الحسن : يعلمون ما ظهر دون حديث النفس . وقال سفيان : إذا هم العبد بالحسنة أو السيئة ، وجد الكاتبان ريحها . وقال الحسين بن الفضل : حيث قال يعلمون ولم يقل يكتبون دل على أنه لا يكتب الجميع فيخرج عنه السهو والخطأ وما لا تبعة فيه .
الإنفطار : ( 16 ) وما هم عنها . . . . .
( وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( : أي عن الجحيم ، أي لا يمكنهم الغيبة ، كقوله : ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ). وقيل : إنهم مشاهدوها في البرزخ . لما أخبر عن صلبهم يوم القيامة ، أخبر بانتفاء غيبتهم عنها قبل الصلي ، أي يرون مقاعدهم من النار .
الإنفطار : ( 17 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ ( : تعظيم لهول ذلك اليوم .
الإنفطار : ( 19 ) يوم لا تملك . . . . .
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو : ) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ ( برفع الميم ، أي هو يوم ، وأجاز الزمخشري فيه أن يكون بدلاً مما قبله . وقرأ محبوب عن أبي عمرو : يوم لا(8/428)
" صفحة رقم 429 "
تملك على التنكير منوناً مرفوعاً فكه عن الإضافة وارتفاعه على هو يوم ، ولا تملك جملة في موضع الصفة ، والعائد محذوف ، أي لا تملك فيه . وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقي السبعة : يوم بالفتح على الظرف ، فعند البصريين هي حركة إعراب ، وعند الكوفيين يجوز أن تكون حركة بناء ، وهو على التقديرين في موضع رفع خبر المحذوف تقديره : الجزاء يوم لا تملك ، أو في موضع نصب على الظرف ، أي يدانون يوم لا تملك ، أو على أنه مفعول به ، أي اذكر يوم لا تملك . ويجوز على رأي من يجيز بناءه أن يكون في موضع رفع خبر المبتدأ محذوف تقديره : هو . ) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ( : عام كقوله : ) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ). وقال مقاتل : لنفس كافرة شيئاً من المنفعة . ) وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( ، قال قتادة : وكذلك هو اليوم ، لكنه هناك لا يدعي أحد منازعة ، ولا يمكن هو أحداً مما كان ملكه في الدنيا .(8/429)
" صفحة رقم 430 "
83
( سورة المطففين )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاٌّ بْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ) ) 2
المطففين : ( 2 - 3 ) الذين إذا اكتالوا . . . . .
التطفيف النقصان وأصله من الطفيف وهو النزل الحقير والمطفف الآخذ في وزن أو كيل طفيفاً أي شيئاً حقيراً خفياً . ران غطى وغشى كالصدإ يغشى السيف . قال الشاعر : وكم ران من ذنب على قلب فاجر
فتاب من الذنب الذي ران فانجلا
وأصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها وران الغشى على عقل المريض . قال أبو زبيد :
ثم لما رآه رانت به الخمر وأن لا يرينه بانتقاء(8/430)
" صفحة رقم 431 "
وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج . الرحيق قال الخليل أجود الخمر . وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه . قال حسان :
بردى يصفق بالرحيق السلسل
نافس في الشيء رغب فيه ونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه . التسنيم أصله الارتفاع ومنه تسنيم القبر وسنام البعير وتسنمته علوت سنامه . الغمز الإشارة بالعين والحاجب .
( وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الَّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ).
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل ، مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل أيضاً . وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا من ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ( إلى آخرها ، فهو مكي ، ثمان آيات . وقال السدي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة ، له مكيلان ، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص ، فنزلت . ويقال : أنها أول سورة أنزلت بالمدينة . وقال ابن عباس : نزل بعضها بمكة ، ونزل أمر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى ، فأصلحهم الله بهذه السورة . وقيل : نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والمناسبة بين السورتين ظاهرة . لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته .
( إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ ( : قبضوا لهم ، ( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ( ، أقبضوهم . وقال الفراء : من وعلى يعتقبان هنا ، اكتلت على الناس ، واكتلت من الناس . فإذا قال : اكتلت منك ، فكأنه قال : استوفيت منك ؛ وإذا قال : اكتلت عليك ؛ فكأنه قال : أخذت ما عليك ، والظاهر أن على متعلق باكتالوا كما قررنا . وقال الزمخشري : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم ، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون ، أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها . انتهى . وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر ، فتقول : كلت لك ووزنت لك ، ويجوز حذف اللام ، كقولك : نصحت لك ونصحتك ، وشكرت لك وشكرتك ؛ والضمير ضمير نصب ، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه ، والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون . وعن عيسى وحمزة : المكيل له والموزون له محذوف ، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو . وقال الزمخشري : ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا . وإن جعلت الضمير للمطففين ، انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر . انتهى . ولا تنافر فيه بوجه ، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد ، والحديث واقع في الفعل . غاية ما في هذا أن متعلق الاستيفاء ، وهو على الناس ، مذكور وهو في ) كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ( ، محذوف للعلم به لأنه معلوم أنهم لا يخسرون الكيل والميزان إذا كان لأنفسهم ، إنما يخسرون ذلك لغيرهم . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل لا . قيل أو اتزنوا ، كما قيل أو وزنوهم ؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء(8/431)
" صفحة رقم 432 "
والسرقة ، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً . ) يُخْسِرُونَ ( : ينقصون . انتهى . ويخسرون معدّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسره غيره .
المطففين : ( 4 - 6 ) ألا يظن أولئك . . . . .
( أَلا يَظُنُّ ( : توقيف على أمر القيامة وإنكار عليهم في فعلهم ذلك ، أي ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( ، وهو يوم القيامة ، ويوم ظرف ، العامل فيه مقدر ، أي يبعثون يوم يقوم الناس . ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون ، ويكون معنى ) لِيَوْمِ ( : أي لحساب يوم . وقال الفراء : هو بدل من يوم عظيم ، لكنه بني وقرىء ) يَوْمَ يَقُومُ ( بالجر ، وهو بدل من ) لِيَوْمِ ( ، حكاه أبو معاد . وقرأ زيد بن عليّ : يوم بالرفع ، أي ذلك يوم ، ويظن بمعنى يوقن ، أو هو على وضعه من الترجيح . وفي هذا الإنكار والتعجب ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس لله خاضعين ، ووصفه برب العالمين ، دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف .
المطففين : ( 7 - 9 ) كلا إن كتاب . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع لما كانوا عليه من التطفيف ، وهذا القيام تختلف الناس فيه بحسب أحوالهم ، وفي هذا القيام إلجام العرق للناس ، وأحوالهم فيه مختلفة ، كما ورد في الحديث . والفجار : الكفار ، وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم . ) وسجين ( ، قال الجمهور : فعيل من السجن ، كسكير ، أو في موضع ساجن ، فجاء بناء مبالغة ، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف . قال ابن مقبل : ورفقة يضربون البيض ضاحية
ضرباً تواصت به الأبطال سجينا
وقال الزمخشري : فإن قلت : ) أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ ( ، أصفة هو أم اسم ؟ قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف . انتهى . وكان قد قدم أنه كتاب جامع ، وهو ديوان الشر ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو : ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( : مسطور بين الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، والمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان . انتهى . واختلفوا في سجين إذا كان مكاناً اختلافاً مضطرباً حذفنا ذكره . والظاهر أن سجيناً هو كتاب ، ولذلك أبدل منه ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). وقال عكرمة : سجين عبارة عن الخسار والهوان ، كما تقول : بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود . وقال بعض اللغويين : سجين ، نونه بدل من لام ، وهو من السجيل ، فتلخص من أقوالهم أن سجين نونه أصلية ، أو بدل من لام . وإذا كانت أصلية ، فاشتقاقه من السجن . وقيل : هو مكان ، فيكون ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كتاب . وعني بالضمير عوده على ) كِتَابَ الْفُجَّارِ ( ، أو على ) سِجّينٍ ( على حذف ، أي هو محل ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ، و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( تفسير له على جهة البدل أو خبر مبتدأ . والضمير المقدر الذي هو عائد على ) سِجّينٍ ( ، أو كناية عن الخسار والهوان ، هل هو صفة أو علم ؟ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ ( : أي ليس ذلك مما كنت تعلم . مرقوم : أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى . قال قتادة : رقم لهم : بشر ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد . وقال ابن عباس والضحاك : مرقوم : مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة ، ومنه قول الشاعر : سأرقم في الماء القراح إليكم
على بعدكم إن كان للماء راقم
وتبين من الإعراب السابق أن ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( بدل أو خبر مبتدأ محذوف . وكان ابن عطية قد قال : إن سجيناً موضع ساجن على قول الجمهور ، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة ، من قال : ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). من قال بالقول الأول في سجين ، فكتاب مرتفع عنده على خبر إن ، والظرف الذي هو ) لَفِى سِجّينٍ ( ملغى . ومن قال في سجين بالقول الثاني ، فكتاب مرقوم على خبر ابتداء مضمر التقدير هو ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو . انتهى .(8/432)
" صفحة رقم 433 "
فقوله : والظرف الذي هو ) لَفِى سِجّينٍ ( ملغى قول لا يصح ، لأن اللام التي في ) لَفِى سِجّينٍ ( داخلة على الخبر ، وإذا كانت داخلة على الخبر ، فلا إلغاء في الجار والمجرور ، بل هو الخبر . ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في ) لَفِى سِجّينٍ ( على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر ، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً ، لأن كتاب موصوف بمرقوم فلا يعمل ، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ، ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف ، فتعين بهذا أن قوله : ) لَفِى سِجّينٍ ( هو خبر إن .
المطففين : ( 11 - 13 ) الذين يكذبون بيوم . . . . .
( الَّذِينَ يُكَذّبُونَ ( : صفة ذم ، ( كُلُّ مُعْتَدٍ ( : متجاوز الحد ، ( أَثِيمٍ ( : صفة مبالغة . وقرأ الجمهور : ) إِذَا ( ؛ والحسن : أئذا بهمزة الاستفهام . والجمهور : ) تُتْلَى ( بتاء التأنيث ؛ وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء . قيل : ونزلت في النضر بن الحرث .
المطففين : ( 14 ) كلا بل ران . . . . .
( بَلْ رَانَ ( ، قرىء بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار وقف حمزة على بل وقفاً خفيفاً يسير التبيين الإظهار . وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا ، يعني القراء ، على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من سكت حفص على بل ، ثم يقول : ) رَانَ ( ، وهذا الذي ذكره ليس كما ذكر من الإجماع . ففي كتاب اللوامح عن قالون : من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء ، نحو قوله : ) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ( ، ( بَل رَّبُّكُمْ ). وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ نافع : ) بَلْ رَانَ ( غير مدغم ، وفيه أيضاً : وقرأ نافع أيضاً بالإدغام والإمالة . وقال سيبويه : اللام مع الراء نحو : أسفل رحمه البيان والإدغام حسنان . وقال الزمخشري : وقرى بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت . انتهى . وقال سيبويه : فإذا كانت ، يعني اللام ، غير لام المعرفة ، نحو لام هل وبل ، فإن الإدغام في بعضها أحسن ، وذلك نحو : هل رأيت ؟ فإن لم تدغم فقلت : هل رأيت ؟ فهي لغة لأهل الحجاز ، وهي غريبة جائزة . انتهى . وقال الحسن والسدي : هو الذنب على الذنب . وقال الحسن : حتى يموت قلبه . وقال السدي : حتى يسود القلب . وفي الحديث نحو من هذا . فقال الكلبي : طبع على قلوبهم . وقال ابن سلام : غطى . ) مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ، قال ابن عطية : وعلق اللوم بهم فيما كسبوه ، وإن كان ذلك بخلق منه تعالى واختراع ، لأن الثواب والعقاب متعلقان بكسب العبد .
المطففين : ( 15 ) كلا إنهم عن . . . . .
والضمير في قوله : ) إنَّهُمْ ( ، فمن قال بالرؤية ، وهو قول أهل السنة ، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم ، فهم محجوبون عنه . واحتج بهذه الآية مالك على سبيله الرؤية من جهة دليل الخطاب ، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص . وقال الشافعي : لما حجب قوماً بالسخط ، دل على أن قوماً يرونه بالرضا . ومن قال بأن لا رؤية ، وهو قول المعتزلة ، قال : إنهم يحجبون عن ربهم وغفرانه . نتهى . وقال أنس بن مالك : لما حجب أعداءه فلم يروه ، تجلى لأوليائه حتى رأوه ، وقال الزمخشري : ) فَاقِرَةٌ كَلاَّ ( ردع عن الكسب الراثن على قلوبهم ، وكونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم . قال الشاعر : إذا اعتروا باب ذي عيبة رحبوا
والناس ما بين مرحوب ومحجوب
وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة : محجوبين عن رحمته . وعن ابن كيسان : عن كرامته . انتهى . وعن مجاهد : المعنى محجوبون عن كرامته ورحمته ، وعن ربهم متعلق بمحجوبون ، وهو العامل في يومئذ ، والتنوين تنوين العوض من الجملة المحذوفة ، ولم تتقدّم جملة قريبة يكون عوضاً منها ، لكنه تقدم ) يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، فهو عوض من هذه الجملة ، كأنه قيل : يوم إذ يقوم الناس .
المطففين : ( 16 ) ثم إنهم لصالوا . . . . .
ثم هم مع الحجاب عن الله هم صالوا النار ، وهذه ثمرة الحجاب .
المطففين : ( 17 ) ثم يقال هذا . . . . .
( ثُمَّ يُقَالُ ( : أي تقول لهم خزنة النار . ) هَاذَا ( ، أي العذاب وصلي النار وهذا اليوم ، ( الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ). قال ابن عطية : ) هَاذَا الَّذِى ( ، يعني الجملة مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي هو يقال . انتهى . وتقدم الكلام على نحو هذا في أول البقرة في قوله تعالى : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ ).
قوله عز وجل : ) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ(8/433)
" صفحة رقم 434 "
النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ).
المطففين : ( 18 ) كلا إن كتاب . . . . .
لما ذكر تعالى أمر كتاب الفجار ، عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق . عليون : جمع واحده عليّ ، مشتق من العلو ، وهو المبالغة ، قاله يونس وابن جني . قال أبو الفتح : وسبيله أن يقال علية ، كما قالوا للغرفة علية ، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواو والنون . وقيل : هو وصف للملائكة ، فلذلك جمع بالواو والنون . وقال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع ، ولا واحد له من لفظه ، كقوله : عشرين وثلاثين ؛ والعرب إذا جمعت جمعاً ، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية ، قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون . وقال الزجاج : أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع ، هذه قنسرون ، ورأيت قنسرين . وعليون : الملائكة ، أو المواضع العلية ، أو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء الثقلين ، أو علو في علو مضاعف ، أقوال ثلاثة للزمخشري .
وقال أبو مسلم : ) كِتَابَ الاْبْرَارِ ( : كتابة أعمالهم ، ( لَفِى عِلّيّينَ ).
المطففين : ( 20 ) كتاب مرقوم
ثم وصف عليين بأنه ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( فيه جميع أعمال الأبرار . وإذا كان مكاناً فاختلفوا في تعيينه اختلافاً مضطرباً رغبنا عن ذكره . وإعراب ) لَفِى عِلّيّينَ ( ، و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( كإعراب ) لَفِى سِجّينٍ ( ، و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). وقال ابن عطية : و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( في هذه الآية خبر إن والظرف ملغى . انتهى . هذا كما قال في ) لَفِى سِجّينٍ ( ، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله .
المطففين : ( 21 ) يشهده المقربون
والمقربون هنا ، قال ابن عباس وغيره : هم الملائكة أهل كل سماء ،
المطففين : ( 23 ) على الأرائك ينظرون
) يُنظَرُونَ ( ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : إلى ما أعد لهم من الكرامات . وقال مقاتل : إلى أهل النار . وقيل : ينظر بعضهم إلى بعض .
المطففين : ( 24 ) تعرف في وجوههم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَعْرِفُ ( بتاء الخطاب ، للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو للناظر . ) نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( ، نصباً . وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب والزعفراني : تعرف مبنياً للمفعول ، نضرة رفعاً ؛ وزيد بن عليّ : كذلك ، إلا أنه قرأ : يعرف بالياء ، إذ تأنيث نضرة مجازي ؛ والنضرة تقدّم شرحها في قوله : ) نَضْرَةً وَسُرُوراً ).
المطففين : ( 25 - 26 ) يسقون من رحيق . . . . .
( مَّخْتُومٍ ( ، الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمماً وتنظفاً بالرائحة المسكية ، كما فسره ما بعده . وقيل : تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة . وقرأ الجمهور : ) خِتَامُهُ ( : أي خلطه ومزاجه ، قاله عبد الله وعلقمة . وقال ابن عباس وابن جبير والحسن : معناه خاتمته ، أي يجد الرائحة عند خاتمة الشراب ، رائحة المسك . وقال أبو عليّ : أي إبزاره المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم . وقيل : يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك . وفي الصحاح : الختام : الطين الذي يختم به ، وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه بالمسك بدل الطين ، وقال الشاعر : كأن مشعشعاً من خمر بصرى
نمته البحث مشدود الختام
وقرأ عليّ والنخعي والضحاك وزيد بن عليّ : وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي : خاتمه ، بعد الخاء ألف وفتح التاء ، وهذه بينة المعنى ، إنه يراد بها الطبع على الرحيق . وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي : كسر التاء ، أي آخره مثل قوله : ) وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ ( ، وفيه حذف ، أي خاتم رائحته المسك ؛ أو خاتمه الذي يختم به ويقطع .
المطففين : ( 27 ) ومزاجه من تسنيم
) مِن تَسْنِيمٍ ( ، قال عبد الله وابن عباس : هو أشرف شراب الجنة ، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة . وقال الزمخشري : ) تَسْنِيمٍ ( : علم لعين بعينها ، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه .
المطففين : ( 28 ) عينا يشرب بها . . . . .
و ) عَيْناً ( نصب على المدح . وقال الزجاج : على الحال . انتهى . وقال الأخفش : يسقون عيناً ، ( يَشْرَبُ بِهَا ( : أي يشربها أو منها ، أو ضمن يشرب معنى يروى بها أقوال . ) الْمُقَرَّبُونَ ( ، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح : يشربها المقربون(8/434)
" صفحة رقم 435 "
صرفاً ويمزج للأبرار . ومذهب الجمهور : الأبرار هم أصحاب اليمين ، وأن المقرّبين هم السابقون . وقال قوم : الأبرار والمقرّبون في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكل من نعم في الجنة .
المطففين : ( 29 - 30 ) إن الذين أجرموا . . . . .
وروي أن علياً وجمعاً معه من المؤمنين مروا بجمع من كفار قريش ، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً ، فنزلت : ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ( ، قبل أن يصل عليّ رضي الله تعالى عنه إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكفار مكة هؤلاء قيل هم : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ؛ والمؤمنون : عمار ، وصهيب ، وخباب ، وبلال ، وغيرهم من فقراء المؤمنين . والظاهر أن الضمير في ) مَرُّواْ ( عائد على ) الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ( ، إذ في ذلك تناسق الضمائر لواحد . وقيل : للمؤمنين ، أي وإذا مرّ المؤمنون بالكافرين يتغامز الكافرون ، أي يشيرون بأعينهم .
المطففين : ( 31 ) وإذا انقلبوا إلى . . . . .
و ) فَكِهِينَ ( : أي متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم . وقرأ الجمهور : فاكهين بالألف ، أي أصحاب فاكهة ومزح وسرور باستخفافهم بأهل الإيمان ؛ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص : بغير ألف ،
المطففين : ( 32 ) وإذا رأوهم قالوا . . . . .
والضمير المرفوع في ) رَأَوْهُمْ ( عائد على المجرمين ، أي إذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال ، وهم محقون في نسبتهم إليه .
المطففين : ( 33 ) وما أرسلوا عليهم . . . . .
( وَمَا أُرْسِلُواْ ( على الكفار ، ( حَافِظِينَ ). وفي الإشارة إليهم بأنهم ضالون إثارة للكلام بينهم . وكان في الآية بعض موادعة ، أي إن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار ، وهذا على القول بأن هذا منسوخ بآية السيف . وقال الزمخشري : وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين ، إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ، ودعائهم إلى الإسلام ، وجدهم في ذلك .
المطففين : ( 34 ) فاليوم الذين آمنوا . . . . .
ولما تقدّم ذكر يوم القيامة قيل : ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة ، وينظرون حال من الضمير في يضحكون ، أي يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم . وقال كعب لأهل الجنة : كوى ينظرون منها إلى أهل النار . وقيل : ستر شفاف بينهم يرون منه حالهم .
المطففين : ( 36 ) هل ثوب الكفار . . . . .
( هَلْ ثُوّبَ ( : أي هل جوزي ؟ يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه ، ومنه قول الشاعر : سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمد
وهو استفهام بمعنى التقرير للمؤمنين ، أي هل جوزوا بها ؟ وقيل : ) هَلْ ثُوّبَ ( متعلق بينظرون ، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى . وقرأ الجمهور : ) هَلْ ثُوّبَ ( بإظهار لام هل ؛ والنحويان وحمزة وابن محيصن : بإدغامها في الثاء ؛ وفي قوله : ) مَا كَانُواْ ( حذف تقديره جزاء أو عقاب : ) مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ). (8/435)
" صفحة رقم 436 "
84
( سورة الانشقاق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاٌّ رْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِىأَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( ) ) 2
الإنشقاق : ( 1 - 6 ) إذا السماء انشقت
الكدح : جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده إذا خدشه ، قال ابن مقيل : وما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال آخر : ومضت بشاشة كل عيش صالح
وبقيت أكدح للحياة وأنصب
حار : رجع ، قال الشاعر : وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
الشفق : الحمرة بعد مغيب الشمس حين تأتي صلاة العشاء الآخرة . قيل : أصله من رقة الشيء ، يقال شيء شفق : أي لا يتماسك لرقته ، ومنه أشفق عليه : رق قلبه ، والشفقة : الاسم من الشفاق ، وكذلك الشفق . قال الشاعر(8/436)
" صفحة رقم 437 "
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الحرم
وسق : ضم وجمع ، ومنه الوسق : الأصواع المجموعة ، وهي ستون صاعاً ، وطعام موسوق : أي مجموع ، وإبل مستوسقة ، قال الشاعر : أن لنا قلائصاً حقائقا
مستوسقات لو يجدن سائقا
اتسق ، قال الفراء : اتساق القمر : امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر ، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع ، يقال : وسقته . فاتسق ، ويقال : أمر فلان متسق : أي مجتمع على الصلاح منتظم . طبقاً عن طبق : حال بعد حال ، والطبق : ما طابق غيره ، وأطباق الثرى : ما تطابق منه ، ومنه قيل للغطاء الطبق . قال الأعرج بن حابس : إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
وساقني طبق منه إلى طبق
وقال امرؤ القيس : ديمة هطلاء فيها وطف
طبق للأرض تجري وتذر
) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ).
هذه السورة مكية ، واتصالها بما قبلها ظاهر . قال ابن عباس : انشقت تنشق : أي تتصدع بالغمام ، وقاله الفراء والزجاج . وقيل : تنشق لهول يوم القيامة ، كقوله : ) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ). وقرأ الجمهور : بسكون تاء انشقت وما بعدها وصلاً ووقفاً . وقرأ عبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : بإشمام الكسر وقفاً بعدما لم تختلف في الوصل إسكاناً . قال صاحب اللوامح : فهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي ، وفي هذا الإشمام بيان أن هذه التاء من علامة ترتيب الفعل للإناث ، وليست مما تنقلب في الأسماء ، فصار ذلك فارقاً بين الاسم والفعل فيمن وقف على ما في الأسماء بالتاء ، وذلك لغة طيىء ؛ وقد حمل في المصاحف بعض التاءات على ذلك ، انتهى . وقال ابن خالويه : إذا السماء انشقت بكسر التاء ، عبيد عن أبي عمرو . وقال ابن عطية ، وقرأ أبو عمرو : ) وَانشَقَّتِ ( ، يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها . قال أبو حاتم : سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات ، وهي لغة . انتهى . وذلك أن الفواصل قد تجري مجرى القوافي . فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي ، تكسر في الفواصل ؛ ومثال كسرها في القوافي قول كثير عزة :(8/437)
" صفحة رقم 438 "
وما أنا بالداعي لعزة بالردى
ولا شامت أن نعل عزة زلت
وكذلك باقي القصيدة . وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف ، كقوله تعالى : ) الظُّنُونَاْ ( ، و ) الرَّسُولاَ ( في سورة الأحزاب . وحمل الوصف على حالة الوقف أيضاً موجود في الفواصل . ) وَأَذِنَتْ ( : أي استمعت وسمعت أمره ونهيه ، وفي الحديث : ( ما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن ) . وقال الشاعر : صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقال قعنب : إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا
وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الحجاف بن حكيم :
أذنت لكم لما سمعت هريركم
وأذنها : انقيادها الله تعالى حين أراد انشقاقها ، فعل المطيع إذا ورد عليه أمر المطاع أنصت وانقاد ، كقوله تعالى : ) قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). ) وَحُقَّتْ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير : وحق لها أن تسمع . وقال الضحاك : أطاعت وحق لها أن تطيع . وقال قتادة : وحق لها أن تفعل ذلك ، وهذا الفعل مبني للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، أي وحق الله تعالى عليها الاستماع . ويقال : فلان محقوق بكذا وحقيق بكذا ، والمعنى : أنه لم يكن في جرم السماء ما يمنع من تأثير القدرة في انشقاقه وتفريق أجزائه وإعدامه . قيل : ويحتمل أن يريد : وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى . وقال الزمخشري : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، ومعناه : الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك ، انتهى . وفي قوله القادر الذات دسيسة الاعتزال ، وما أولع هذا الرجل بمذهب الاعتزال ، يدسه متى أمكنه في كل ما يتكلم به .
( وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ( ، قال مجاهد : سويت . وقال الضحاك : بسطت باندكاك جبالها ، ومنه الحديث : ) فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ). ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( ، قال ابن جبير والجمهور : ألقت ما في بطنها من الأموات ، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء . وقيل : تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها . وقال الزجاج : ومن الكنوز ، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال ، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى . ) وَتَخَلَّتْ ( : أي عن ما كان فيها ، لم تتمسك منهم بشيء . وجاء تخلت : أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو . كما تقول : تكرم الكريم : بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه ، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه ، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها . وجواب إذا محذوف ، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار ، أو ما يدل عليه : ) إِنَّكَ كَادِحٌ ( ، أي لاقى كل إنسان كدحه . وقال الأخفش والمبرد : هو ملاقيه ، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه . وقيل : ) الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، على حذف الفاء تقديره : فيا أيها الإنسان . وقيل : ) وَأَذِنَتْ ( على زيادة الواو ؛ وعن الأخفش : ) إِذَا السَّمَاء ( مبتدأ ، خبره ) وَإِذَا الاْرْضُ ( على زيادة الواو ، والعامل فيها على قول الأكثرين : الجواب إما المحذوف الذي قدروه ، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب . قال ابن عطية : وقال بعض النحويين : العامل انشقت ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن إذا مضافة إلى انشقت ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده(8/438)
" صفحة رقم 439 "
الإضافة ويقوى معنى الجزاء ، انتهى . وهذا القول نحن نختاره ، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه ، والتقدير : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض . وقيل : لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به ، فليست شرطاً .
( وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا ( : أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها . والإنسان : يراد به الجنس ، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه . وقال مقاتل : المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث ، فقال أبو سلمة : والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة . فقال الأسود فأين : الأرض والسماء وما جال الناس ؟ انتهى . وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود ، وهي تعم الجنس . وقيل : المراد أبيّ بن خلف ، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والإصرار على الكفر . وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وهو غير ضائع عنده .
( إِنَّكَ كَادِحٌ ( : أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك ، أي طول حياتك إلى لقاء ربك ، وهو أجل موتك ، ( فَمُلَاقِيهِ ( : أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب . قال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه ، ولا يتعين ما قاله ، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات . وقال الجمهور : الضمير في ملاقيه عائد على ربك ، أي فملاقي جزائه ، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل .
الإنشقاق : ( 8 ) فسوف يحاسب حسابا . . . . .
( حِسَاباً يَسِيراً ( قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه . وقال الحسن : يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة . وفي الحديث : ( من حوسب عذب ) ، فقالت عائشة : ألم يقل الله تعالى ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ( ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( إنما ذلك العرض ، وأما من نوقش الحساب فيهلك ) .
الإنشقاق : ( 9 ) وينقلب إلى أهله . . . . .
( وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين ، أو إلى عشيرته المؤمنين ، فيخبرهم بخلاصه وسلامته ، أو إلى المؤمنين ، إذ هم كلهم أهل إيمان . وقرأ زيد بن علي : ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول .
الإنشقاق : ( 10 ) وأما من أوتي . . . . .
( وَرَاء ظَهْرِهِ ( : روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره ، فيأخذ كتابه بها . قال ابن عطية : وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم ، يعني عصاة المؤمنين ، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار . وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار ، وهذه الآية ترد على هذا القول ، انتهى . والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار .
الإنشقاق : ( 11 ) فسوف يدعو ثبورا
) يَدْعُو ثُبُوراً ( : يقول : واثبوراه ، والثبور : الهلاك ، وهو جامع لأنواع المكاره .
الإنشقاق : ( 12 ) ويصلى سعيرا
وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة : ) وَيَصْلَى ( بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة ؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع ، وأبان عن عاصم ، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو : بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام ، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة ، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف .
الإنشقاق : ( 13 ) إنه كان في . . . . .
( إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ( : أي فرحاً بطراً مترفاً لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته لقوله تعالى : ) لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ، بخلاف المؤمن ، فإنه حزين مكتئب يتفكر في الآخرة .
الإنشقاق : ( 14 ) إنه ظن أن . . . . .
( إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( : أي أن لن يرجع إلى الله ، وهذا تكذيب بالبعث .
الإنشقاق : ( 15 ) بلى إن ربه . . . . .
( بَلَى ( : إيجاب بعد النفي ، أي بلى ليحورن . ) إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً ( : أي لا تخفي عليه أفعاله ، فلا بد من حوره ومجازاته .
الإنشقاق : ( 16 ) فلا أقسم بالشفق
) فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( : أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها ، والشفق تقدم شرحه . وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة : هو البياض الذي يتلوه الحمرة . وروى أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رجع عن قوله هذا إلى قول الجمهور . وقال مجاهد والضحاك وابن أبي نجيح : إن الشفق هنا كأنه لما عطف عليه الليل قال ذلك . قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ،(8/439)
" صفحة رقم 440 "
انتهى . وعن مجاهد : هو الشمس ؛ وعن عكرمة : ما بقي من النهار .
الإنشقاق : ( 17 ) والليل وما وسق
) وَمَا وَسَقَ ( : ما ضم من الحيوان وغيره ، إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل . وقال ابن عباس : ) وَمَا وَسَقَ ( : أي ما غطى عليه من الظلمة . وقال مجاهد : وما ضم من خير وشر . وقال ابن جبير : وما ساق وحمل . وقال ابن بحر : وما عمل فيه ، ومنه قول الشاعر : فيوماً ترانا صالحين وتارة
تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقال ابن الفضل : لف كل أحد إلى الله ، أي سكن الخلق إليه ورجع كل إلى ما رآه لقوله : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ).
الإنشقاق : ( 19 ) لتركبن طبقا عن . . . . .
وقرأ عمر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير : بتاء الخطاب وفتح الباء . فقيل : خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي حالاً بعد حال من معالجة الكفار . وقال ابن عباس : سماء بعد سماء في الإسراء . وقيل : عدة بالنصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك . وقال الزمخشري : وقرىء ) لَتَرْكَبُنَّ ( على خطاب الإنسان ) فِى الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ). وقال ابن مسعود المعنى : لتركبن السماء في أهوال القيامة حالاً بعد حال ، تكون كالمهل وكالدهان وتنفطر وتنشق ، فالتاء للتأنيث ، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها ، والضمير الفاعل عائد على السماء . وقرأ عمر وابن عباس أيضاً : بالياء من أسفل وفتح الباء على ذكر الغائب . قال ابن عباس : يعني نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الضمير الغائب يعود على القمر ، لأنه يتغير أحوالاً من إسرار واستهلال وإبدار . وقال الزمخشري : ليركبن الإنسان . وقرأ عمر وابن عباس أيضاً وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة : بتاء الخطاب وضم الباء ، أي لتركبن أيها الإنسان . وقال الزمخشري : ولتركبن بالضم على خطاب الجنس ، لأن النداء للجنس ، فالمعنى : لتركبن الشدائد : الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال ، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم ، كما تقول : طبقة بعد طبقة . قال نحوه عكرمة . وقيل : عن تجىء بمعنى بعد . وقيل : المعنى لتركبن هذه الأحوال أمة بعد أمة . ومنه قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : وأنت لما ولدت أشرقت الأر
ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم
إذا مضى عالم بدا طبق
وقال مكحول وأبو عبيدة : المعنى لتركبن سنن من قبلكم . وقال ابن زيد : المعنى لتركبن الآخرة بعد الأولى . وقرأ عمر أيضاً : ليركبن بياء الغيبة وضم الباء . قيل : أراد به الكفار لا بيان توبيخهم بعده ، أي يركبون حالاً بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : لتركبن بكسر التاء ، وهي لغة تميم . قيل : والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقرىء بالتاء وكسر الباء على خطاب النفس ، وطبق الشيء مطابقة لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة . ويجوز أن تكون اسم جنس ، واحدة طبقة ، وهي المرتبة من قولهم : هم على طبقات . و ) عَن طَبقٍ ( في موضع الصفة لقوله : ) طَبَقاً ( ، أو في موضع الحال من الضمير في ) لَتَرْكَبُنَّ ). وعن مكحول ، كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه .
الإنشقاق : ( 20 ) فما لهم لا . . . . .
( فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( : تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل .
الإنشقاق : ( 21 ) وإذا قرئ عليهم . . . . .
( لاَ يَسْجُدُونَ ( : لا يتواضعون ويخضعون ، قاله قتادة . وقال عكرمة : لا يباشرون بجباههم المصلى . وقال محمد بن كعب : لا يصلون .
الإنشقاق : ( 22 ) بل الذين كفروا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَكْذِبُونَ ( مشدداً ؛ والضحاك وابن أبي عبلة : مخففاً وبفتح الياء .
الإنشقاق : ( 23 ) والله أعلم بما . . . . .
( بِمَا يُوعُونَ ( : بما بجمعون من الكفر والتكذيب ، كأنهم يجعلونه في أوعية وعيت العلم وأوعيت المتاع ، قال نحوه ابن زيد . وقال ابن عباس : بما تضمرون من عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )(8/440)
" صفحة رقم 441 "
والمؤمنين . وقال مجاهد : بما يكتمون من أفعالهم . وقرأ أبو رجاء : بما يعون ، من وعى يعي .
الإنشقاق : ( 25 ) إلا الذين آمنوا . . . . .
( إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون . ) غَيْرُ مَمْنُونٍ ( : غير مقطوع . وقال ابن عباس : ) مَمْنُونٍ ( : معدد عليهم ، محسوب منغص بالمن ، وتقدم الكلام على ذلك في فصلت ، والله الموفق .(8/441)
" صفحة رقم 442 "
85
( سورة البروج )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاٍّ خْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( ) ) 2
البروج : ( 1 ) والسماء ذات البروج
الأخدود : الخد في الأرض ، وهو الشق ونحوهما بناء ، ومعنى الخق والأخقوق ، ومنه :
فساحت قوائمه في أخافيق جردان
) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذَوَا الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : لما ذكر أنه تعالى أعلم بما يجمعون للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وللمؤمنين من المكر ، والخداع ، وإذاية من أسلم بأنواع من الأذى ، كالضرب ، والقتل ، والصلب ، والحرق بالشمس ، وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ؛ ذكر أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم يعذبون بالنار ، وأن أولئك الذين أعرضوا على النار كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم أو يحرموا ، وأن أولئك الذين عذبوا عباد الله ملعونون ،(8/442)
" صفحة رقم 443 "
فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون . فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب .
( ذَاتِ الْبُرُوجِ ( ، قال ابن عباس والجمهور : هي المنازل التي عرفتها العرب ، وهي اثنا عشر على ما قسمته ، وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً . وقال عكرمة والحسن ومجاهد : هي القصور . وقال الحسن ومجاهد أيضاً : هي النجوم . وقيل : عظام الكواكب ، سميت بروجاً لظهورها . وقيل : هي أبواب السماء ؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر .
البروج : ( 2 ) واليوم الموعود
) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( : هو يوم القيامة ، أي الموعود به .
البروج : ( 3 ) وشاهد ومشهود
) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( : هذان منكران ، وينبغي حملهما على العموم لقوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( ، وإن كان اللفظ لا يقتضيه ، لكن المعنى يقتضيه ، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي . فإذا لوحظ فيها معنى العموم ، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم . وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة ، كقوله : ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ( ، ولأنه إذا حمل ) وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ( على العموم دخل فيه معنيان : الكتب الإلهية ، كالتوراة والإنجيل والقرآن ، فيحسن إذ ذاك القسم به .
ولما ذكر واليوم الموعود ، وهو يوم القيامة باتفاق ، وروي ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ناسب أن يكون المقسم به من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه . إن كان ذلك من الشهادة ، وإن كان من الحضور ، فالشاهد : الخلائق الحاضرون للحساب ، والمشهود : اليوم ، كما قال تعالى : ) ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ( ، كان موعوداً به فصار مشهوداً ، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما .
وعن ابن عباس : الشاهد : الله تعالى ؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار : آدم عليه السلام وذريته ؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن : الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة ، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة ؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة : وشاهد يوم الجمعة ؛ وعن ابن المسيب : يوم التروية ؛ وعن علي أيضاً : يوم القيامة ؛ وعن النخعي : يوم الأضحى . ومشهود في هذه الأقوال يوم عرفة ؛ وعن ابن عمر : يوم الجمعة ، ومشهود يوم النحر ؛ وعن جابر : يوم الجمعة ، ومشهود الناس ؛ وعن محمد بن كعب : ابن آدم ، ومشهود الله تعالى ؛ وعن ابن جبير : عكس هذا ؛ وعن أبي مالك : عيسى ، ومشهود أمته ، وعن علي : يوم عرفة ، ومشهود يوم النحر ؛ وعن الترمذي : الحكيم الحفظة ، ومشهود عليهم : الناس ؛ وعن عبد العزيز بن يحيى : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومشهود عليه أمته ؛ وعنه : الأنبياء ، ومشهود أممهم ؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة ، ومشهود أصحابها . وقيل : هما يوم الاثنين ويوم الجمعة . وقيل : الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر . وقيل : النجم والليل والنهار . وقيل : الله والملائكة وأولو العلم ، ومشهود به الوحدانية ، و ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ). وقيل : مخلوقاته تعالى ، ومشهود به وحدانيته . وقيل : هما الحجر الأسود والحجج . وقيل : الليالي والأيام وبنو آدم . وقيل : الأنبياء ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك ، وللصوفية أقوال غير هذه . والظاهر ما قلناه أولاً ، وجواب القسم قيل محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه . وقال الزمخشري : يدل عليه ) قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ ). وقيل : الجواب مذكور فقيل : ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ ). وقال المبرد : ) إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ).
البروج : ( 4 ) قتل أصحاب الأخدود
وقيل : قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل ، وحسن حذفها كما حسن في قوله : ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ، ثم قال : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( ، أي لقد أفلح من زكاها ، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله ، وتنبيهاً لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين . وإذا كان ) قَتْلَ ( جواباً للقسم ، فهي جملة خبرية ، وقيل : دعاء ، فكون الجواب غيرها . وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد ، والجمهور بالتخفيف .
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالاً فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا ؛ ومضنها أن ناساً من الكفار خدوا أخدوداً في الأرض وسجروه ناراً وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصرّ على الإيمان أحرقوه ؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين . وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق : بعث الله على المؤمنين ريحاً فقبضت أرواحهم أو(8/443)
" صفحة رقم 444 "
نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود ، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن ، ويكون خبراً عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم . وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه .
البروج : ( 5 ) النار ذات الوقود
وقرأ الجمهور : ) النَّارِ ( بالجر ، وهو بدل اشتمال ، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف ، أي أخدود النار . وقرأ قوم النار بالرفع . قيل : وعلى معنى قتلهم ، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين ، وقتل على حقيقته . وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى : الوقود بضم الواو وهو مصدر ، والجمهور : بفتحها ، وهو ما يوقد به . وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضاً مصدر كالضم .
البروج : ( 6 ) إذ هم عليها . . . . .
والظاهر أن الضمير في ) إِذْ هُمْ ( عائد على الذين يحرقون المؤمنين ،
البروج : ( 7 ) وهم على ما . . . . .
وكذلك في ) وَهُمْ ( على قول الربيع يعود على الكافرين ، ويكون هم أيضاً عائداً عليهم ، ويكون معنى ) عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( : ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين . وقيل : أصحاب الأخدود محرق ، وتم الكلام عند قوله : ) ذَاتِ الْوَقُودِ ( ، ويكون المراد بقوله : ) وَهُمْ ( قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، وإذا العامل فيه قتل ، أي لعنوا وقعدوا على النار ، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كما قال الأعشى : تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
) شُهُودٌ ( : يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم .
البروج : ( 8 - 9 ) وما نقموا منهم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) نَقَمُواْ ( بفتح القاف ؛ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : ) هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( ، وكقول قيس الرقيات : ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون أن غضبوا
جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر : ولا عيب فيها غير شكلة عينها
كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها
وفي المنتخب : إنما قال ) إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ ( ، لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يدعوا على إيمانهم . انتهى . وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه ، حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السموات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي .
( وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ( : وعيد لهم ، أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم .
البروج : ( 10 ) إن الذين فتنوا . . . . .
والظاهر أن ) الَّذِينَ فَتَنُواْ ( عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذاباً لكفرهم ، وعذاباً لفتنتهم . وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم ، ( فَلَهُمْ ( في الآخرة ) عَذَابَ جَهَنَّمَ ( بكفرهم ، ( وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( : وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، انتهى . وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوّزه ، لأن في الآية ) ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ( ، وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحداً منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ( يقوي أن الآيات في قريش ، لأن هذا اللفظ في قريش(8/444)
" صفحة رقم 445 "
أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم . وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن ، انتهى . وكذلك قوله :
البروج : ( 11 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، المراد به العموم لا المطروحون في النار ،
البروج : ( 12 ) إن بطش ربك . . . . .
والبطش : الأخذ بقوة .
البروج : ( 13 ) إنه هو يبدئ . . . . .
( يُبْدِىء وَيُعِيدُ ( ، قال ابن زيد والضحاك : يبدىء الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر . وقال ابن عباس : عام في جميع الأشياء ، أي كلّ ما يبدأ وكل ما يعاد . وقال الطبري : يبدىء العذاب ويعيده على الكفار ؛ ونحوه عن ابن عباس قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ، ثم يعيدهم خلقاً جديداً . وقرىء : يبدأ من بدأ ثلاثياً ، حكاه أبو زيد .
البروج : ( 14 ) وهو الغفور الودود
ولما ذكر شدّة بطشه ، ذكر كونه ، غفوراً ساتراً لذنوب عباده ، ودوداً لطيفاً بهم محسناً إليهم ، وهاتان صفتا فعل . والظاهر أن الودود مبالغة في الوادّ ؛ وعن ابن عباس : المتودد إلى عباده بالمغفرة . وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد : وأركب في الروع عريانة
ذلول الجماع لقاحاً ودودا
أي : لا ولد لها تحن إليه . وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون .
البروج : ( 15 ) ذو العرش المجيد
) ذُو الْعَرْشِ ( : خص العرش بإضافة نفسه تشريفاً للعرش وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات . وقرأ الجمهور : ) ذُو ( بالواو ؛ وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك . وقال القفال : ) ذُو الْعَرْشِ ( : ذو الملك والسلطان . ويجوز أن يراد بالعرش : السرير العالي ، ويكون خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ، انتهى . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان : ) الْمَجِيدِ ( بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوّه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيباً . ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخباراً عن هو ، فيكون
البروج : ( 16 ) فعال لما يريد
) فَعَّالٌ ( خبراً . ويجوز أن يكون ) الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ ( صفتين للغفور ، و ) فَعَّالٌ ( خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه .
البروج : ( 17 ) هل أتاك حديث . . . . .
( هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ( : تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم . والجنود : الجموع المعدّة للقتال .
البروج : ( 18 ) فرعون وثمود
) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ( : بدل من ) الْجُنُودِ ( ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن . وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدّمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضاً . ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله : ألم تر أن الله أهلك تبعا
وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى
وفرعون جباراً طغى والنجاشيا
وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم .
البروج : ( 19 ) بل الذين كفروا . . . . .
( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي من قومك ، ( فِى تَكْذِيبٍ ( : حسداً لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم . ) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( : أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطاً به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعاً ، والمعنى : دنو هلاكهم .
البروج : ( 21 ) بل هو قرآن . . . . .
ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد كذبوه(8/445)
" صفحة رقم 446 "
وكذبوا ما جاء به وهو القرآن ، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال : ) بَلْ هُوَ قُرْءانٌ ( : أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ، ومجادته : شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه ، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه . وقرأ الجمهور : ) بَلْ هُوَ ( : موصوف وصفة . وقرأ ابن السميفع : ) بَلْ هُوَ ( بالإضافة ، قال ابن خالويه : سمعت ابن الأنباري يقول معناه : بل هو قرآن رب مجيد ، كما قال الشاعر :
ولكن الغني رب غفور
معناه : ولكن الغنى غنى رب غفور ، انتهى . وعلى هذا أخرجه الزمخشري . وقال ابن عطية : وقرأ اليماني : قرآن مجيد على الإضافة ، وأن يكون الله تعالى هو المجيد ، انتهى . ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ؛ فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع مجيد واحداً ، وهذا أولى لتوافق القراءتين .
البروج : ( 22 ) في لوح محفوظ
وقرأ الجمهور : ) فِى لَوْحٍ ( بفتح اللام ، ( مَّحْفُوظٍ ( بالخفض صفة للوح ، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء . وقرأ ابن يعمر وابن السميفع : بضم اللام . قال ابن خالويه : اللوح : الهواء . وقال الزمخشري : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ من وصول الشياطين إليه ، انتهى . وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه : محفوظ بالرفع صفة لقرآن ، كما قال تعالى : ) وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ، أي هو محفوظ في القلوب ، لا يلحقه خطأ ولا تبديل .(8/446)
" صفحة رقم 447 "
86
( سورة الطارق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاّرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( ) ) 2
الطارق : ( 1 ) والسماء والطارق
طرق يطرق طروقاً : أتى ليلاً ، قال امرؤ القيس :
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً
وأصله الضرب ، لأن الطارق يطرق الباب ، ومنه المطرقة : وهي المبيعة ، واتسع فيه فكل ما جاء بليل يسمى طارقاً ، ويقال : أطرق فلان : أمسك عن الكلام ، وأطرق بعينيه : رمى بهما نحو الأرض . دفق الماء يدفقه دفقاً : صبه ، وماء دافق على النسب ، ويقال : دفق الله روحه ، إذا دعا عليه بالموت . التريبة : موضع القلادة من الصدر . قال امرؤ القيس : مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسنجنجل
جمعها بما حولها فقال ترائبها ، وقال الشاعر : والزعفران على ترائبها
شرقت به اللبات والنحر
وقال أبو عبيدة : وجمع تربية تريب ، قال المثقب العبدي : ومن ذهب يبين على تريب
كلون العاج ليس بذي غصون(8/447)
" صفحة رقم 448 "
الهزل : ضدّ الجد ، وقال الكميت :
تجدّ بنا في كل يوم وتهزل
أمهلت الرجل : انتظرته ، والمهل والمهلة : السكينة ، ومهلته أيضاً تمهيلاً وتمهل في أمره : اتأد ، واستمهلت : انتظرته ، ويقال مهلاً : أي رفقاً وسكوناً . رويداً : مصدر أرود يرود ، مصغر تصغير الترخيم ، وأصله إرواداً . وقيل : هو تصغير رود ، من قوله : يمشي على رود : أي مهل ، ويستعمل مصدراً نحو : رويد عمرو بالإضافة : أي إمهال عمرو ، كقوله : ) فَضَرْبَ الرّقَابِ ( ، ونعتاً لمصدر نحو : ساروا سيراً رويداً ؛ وحالاً نحو : سار القوم رويداً ، ويكون اسم فعل ، وهذا كله موضح في علم النحو ، والله تعالى أعلم .
( وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ).
هذه السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن ، نبه هنا على حقارة الإنسان ، ثم استطرد منه إلى أن هذا القرآن قول فصل جد ، لا هزل فيه ولا باطل يأتيه . ثم أمر نبيه بإمهال هؤلاء الكفرة المكذبين ، وهي آية موادعة منسوخة بآية السيف . ) وَالسَّمَاء ( : هي المعروفة ، قاله الجمهور . وقيل : السماء هنا المطر ، ( وَالطَّارِقِ ( : هو الآتي ليلاً ، أي يظهر بالليل . وقيل : لأنه يطرق الجني ، أي يصكه ، من طرقت الباب إذا ضربته ليفتح لك . أتى بالطارق مقسماً به ، وهي صفة مشتركة بين النجم الثاقب وغيره .
الطارق : ( 3 ) النجم الثاقب
ثم فسره بقوله : ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( ، إظهاراً لفخامة ما أقسم به لما علم فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وتنبيهاً على ذلك . كما قال تعالى : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ).
وقال ابن عطية : معنى الآية : والسماء وجميع ما يطرق فيه من الأمور والمخلوقات . ثم ذكر بعد ذلك ، على جهة التنبيه ، أجل الطارقات قدراً وهو النجم الثاقب ، وكأنه قال : وما أدراك ما الطارق حتى الطارق ، انتهى . فعلى هذا يكون ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( بعضاً مما دل عليه ) وَالطَّارِقِ ( ، إذ هو اسم جنس يراد به جميع الطوارق . وعلى قول غيره : يراد به واحد مفسر بالنجم الثاقب . والنجم الثاقب عند ابن عباس : الجدي ، وعند ابن زيد : زحل . وقال هو أيضاً وغيره : الثريا ، وهو الذي تطلق عليه العرب اسم النجم . وقال علي : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد . وقال الحسن : هو اسم جنس لأنها كلها ثواقب ، أي ظاهرة الضوء . وقيل : المراد جنس النجوم التي يرمى بها ويرجم . والثاقب ، قيل : المضيء ؛ يقال : ثقب يثقب ثقوباً وثقابة : أضاء ، أي يثقب الظلام بضوئه . وقيل : المرتفع العالي ، ولذلك قيل هو زحل لأنه أرقها مكاناً . وقال الفراء : ثقب الطائر ارتفع وعلا .
الطارق : ( 4 ) إن كل نفس . . . . .
وقرأ الجمهور : إن خفيفة ، كل رفعاً لما خفيفة ، فهي عند البصريين مخففة من الثقيلة ، كل مبتدأ واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة ، وما زائدة ، وحافظ خبر المبتدأ ، وعليها متعلق به . وعند الكوفيين : إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، وكل حافظ مبتدأ وخبر ؛ والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو . وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما :(8/448)
" صفحة رقم 449 "
لما مشددة وهي بمعنى إلا ، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم . تقول العرب : أقسمت عليك لما فعلت كذا : أي إلا فعلت ، قاله الأخفش . فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون نافية ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ . وحكى هرون أنه قرىء : إن بالتشديد ، كل بالنصب ، فاللام هي الداخلة في خبر إن ، وما زائدة ، وحافظ خبر إن ، وجواب القسم هو ما دخلت عليه إن ، سواء كانت المخففة أو المشددة أو النافية ، لأن كلاًّ منها يتلقى به القسم ؛ فتلقيه بالمشددة مشهور ، وبالمخففة ) تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ( ، وبالنافية ) وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا ). وقيل : جواب القسم ) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( ، وما بينهما اعتراض ، والظاهر عموم كل نفس . وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما : ) إِن كُلُّ نَفْسٍ ( مكلفة ، ( عَلَيْهَا حَافِظٌ ( : يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها ، فيكون في الآية وعيد وزاجر وما بعد ذلك يدل عليه . وقيل : حفظة من الله يذبون عنها ، ولو وكل المرء إلى نفسه لاختطفته الغير والشياطين . وقال الكلبي والفراء : حافظ من الله يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير . وقيل : الحافظ : العقل يرشده إلى مصالحه ويكفه عن مضاره . وقيل : حافظ مهيمن ورقيب عليه ، وهو الله تعالى .
الطارق : ( 5 - 6 ) فلينظر الإنسان مم . . . . .
ولما ذكر أن كل نفس عليها حافظ ، أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل لذلك ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته . و ) مِمَّ خُلِقَ ( : استفهام ، ومن متعلقة بخلق ، والجملة في موضع نصب ب : فلينظر ، وهي معلقة . وجواب الاستفهام ما بعده وهو : ) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( ، وهو مني الرجل والمرأة لما امتزجا في الرحم واتحدا عبر عنهما بماء ، وهو مفرد ، ودافق قيل : هو بمعنى مدفوق ، وهي قراءة زيد بن عليّ . وعند الخليل وسيبويه : هو على النسب ، كلابن وتامر ، أي ذي دفق . وعن ابن عباس : بمعنى دافق لزج ، وكأنه أطلق عليه وصفه لا أنه موضوع في اللغة لذلك ، والدفق : الصب ، فعله متعد . وقال ابن عطية : والدفق : دفع الماء بعضه ببعض ، تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضاً . ويصح أن يكون الماء دافقاً ، لأن بعضه يدفع بعضاً ، فمنه دافق ومنه مدفوق ، انتهى . وركب قوله هذا على تدفق ، وتدفق لازم دفقته فتدفق ، نحو : كسرته فتكسر ، ودفق ليس في اللغة معناه ما فسر من قوله : والدفق دفع الماء بعضه ببعض ، بل المحفوظ أنه الصب .
الطارق : ( 7 ) يخرج من بين . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَخْرُجُ ( مبنياً للفاعل ، ( مِن بَيْنِ الصُّلْبِ ( : بضم الصاد وسكون اللام ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم : مبنياً للمفعول ، وهما وأهل مكة وعيسى : بضم الصاد واللام ؛ واليماني : بفتحهما . قال العجاج :
في صلب مثل العنان المؤدم
وتقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء ، وإعرابها صالب كما قال العباس :
تنقل من صالب إلى رحم
قال قتادة والحسن : معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه . وقال سفيان وقتادة أيضاً : من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وتقدم شرح الترائب في المفردات . وقال ابن عباس : موضع القلادة ؛ وعن ابن جبير : هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب . وقيل : ما بين المنكبين والصدر . وقيل : هي التراقي ؛ وعن معمر : هي عصارة القلب ومنه يكون الولد . ونقل مكي عن ابن عباس أن الترائب أطراف المرء ، رجلاه ويداه وعيناه . قال ابن عطية :(8/449)
" صفحة رقم 450 "
وفي هذه الأحوال تحكم على اللغة ، انتهى .
الطارق : ( 8 ) إنه على رجعه . . . . .
( إنَّهُ ( : الضمير يعود على الخالق الدال عليه خلق . ) عَلَى رَجْعِهِ ( ، قال ابن عباس وقتادة : الضمير في رجعه عائد على الإنسان ، أي على رده حياً بعد موته ، أي من أنشأه أولاً قادر على بعثه يوم القيامة لا يعجزه شيء . وقال الضحاك : على رده من الكبر إلى الشباب . وقال عكرمة ومجاهد : الضمير عائد على الماء ، أي على رد الماء في الإحليل أو في الصلب . وعلى هذا القول وقول الضحاك يكون العامل في ) يَوْمَ تُبْلَى ( مضمر تقديره اذكر . وعلى قول ابن عباس ، وهو الأظهر ، فقال بعض النحاة : العامل ناصر من قوله : ) وَلاَ نَاصِرٍ ( ، وهذا فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، وكذلك ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور . وقال آخرون ، ومنهم الزمخشري : العامل رجعه ورد بأن فيه فصلاً بين الموصول ومتعلقه ، وهو من تمام الصلة ، ولا يجوز . وقال الحذاق من النحاة : العامل فيه مضمر يدل عليه المصدر تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر . قال ابن عطية : وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل لقادر ، لأنه يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده . وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون المعنى لقادر ، وذلك أنه قال : ) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت .
الطارق : ( 9 ) يوم تبلى السرائر
م ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار ، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه ، انتهى . ) تُبْلَى ( قيل : تختبر ، وقيل : تعرف وتتصفح وتميز صالحها من فاسدها ، و ) السَّرَائِرُ ( : ما أكنته القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفته الجوارح من الأعمال ، والظاهر عموم السرائر . وفي الحديث : إنها التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ، وكان المذكور في الحديث هو أعظم السرائر ، وسمع الحسن من ينشد : سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
الطارق : ( 10 ) فما له من . . . . .
فقال : ما أغفله عما في السماء والطارق ، والبيت للأحوص . ولما كان الامتناع في الدنيا إما بقوة في الإنسان ، وإما بناصر خارج عن نفسه ، نفى عنه تعالى ما يمتنع به وأتى بمن الدالة على العموم في نفي القوة والناصر .
الطارق : ( 11 ) والسماء ذات الرجع
) وَالسَّمَاء ( : أقسم ثانياً بالسماء وهي المظلة . قيل : ويحتمل أن يكون السحاب . ) ذَاتِ الرَّجْعِ ( ، قال ابن عباس : الرجع : السحاب فيه المطر . وقال الحسن : ترجع بالرزق كل عام . وقال ابن زيد : الرجع مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة ، تذهب وترجع ، وقيل : الرجع : المطر ، ومنه قول الهذلي : أبيض كالرجع رسوب إذا
ما ناح في محتفل يختلي
يصف سيفاً شبهه بماء المطر في بياضه وصفائه ، وسمي رجعاً كما سمي إرباً ، قال الشاعر : ربا شمالاً يأوي لقلتها
إلا السحاب وإلا الإرب والسبل
تسمية بمصدر آب ورجع . تزعم العرب أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض إذا أرادوا التفاؤل ، وسموه رجعاً وإرباً ليرجع ويؤب . وقيل : لأن الله تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً ، قالت الخنساء :
كالرجع في الموجنة السارية
وقيل : الرجع : الملائكة ، سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد . وقيل : السحاب ، والمشهور عند أهل اللغة وقول(8/450)
" صفحة رقم 451 "
الجمهور : أن الرجع هو المطر ،
الطارق : ( 12 ) والأرض ذات الصدع
والصدع : ما تتصدع عنه الأرض من النبات ، ويناسب قول من قال : الرجع : المطر . وقال ابن زيد : ذات الانشقاق : النبات . وقال أيضاً : ذات الحرث . وقال مجاهد : الصدع : ما في الأرض من شقاق ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره ، وهي أمور فيها معتبر ، وعنه أيضاً : ذات الطرق تصدعها المشاة . وقيل : ذات الأموات لانصداعها عنهم يوم النشور .
الطارق : ( 13 - 14 ) إنه لقول فصل
والضمير في ) أَنَّهُ ( ، قالوا عائد على القرآن . ) فَصْلٌ ( أي فاصل بين الحق والباطل ، كما قيل له فرقان . وأقول : ويجوز أن يعود الضمير في ) أَنَّهُ ( على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة ، وابتلاء سرائره : أي إن ذلك القول قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه ، ويكون الضمير قد عاد على مذكور ، وهو الكلام الذي تضمن الأخبار عن البعث ، وليس من الأخبار التي فيها هزل بل هو جد كله .
الطارق : ( 15 ) إنهم يكيدون كيدا
) إنَّهُمْ ( : أي الكافرون ، ( يَكِيدُونَ ( : أي في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق ،
الطارق : ( 16 ) وأكيد كيدا
) وَأَكِيدُ ( : أي أجازيهم على كيدهم ، فسمى الجزاء كيداً على سبيل المقابلة ، نحو قوله تعالى : ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( ، ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ( ، ( اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ).
الطارق : ( 17 ) فمهل الكافرين أمهلهم . . . . .
ثم أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ) أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( : أي انتظر عقوبتهم ولا تستعجل ذلك ثم أكد أمره فقال : ) أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( : أي إمهالاً لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين ، على أن الأول مطلق ، وهذا الثاني مقيد بقوله : ) رُوَيْداً ). وقرأ ابن عباس : مهلهم ، بفتح الميم وشدّ الهاء موافقة للفظ الأمر الأول .(8/451)
" صفحة رقم 452 "
8
( سورة الأعلى )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاّعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِىأَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن(8/452)
" صفحة رقم 453 "
يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الاٌّ شْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاٍّ ولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ( )
الأعلى : ( 1 ) سبح اسم ربك . . . . .
الغثاء ، مخفف الثاء ومشدّدها : ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش ، قال الشاعر : كأن طميا المجيمر غدوة
من السيل والغثاء فلك مغزل
ورواه الفرّاء : والإغثاء على الجمع ، وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال . الحوّة : سواد يضرب إلى الخضرة ، قال ذو الرّمة : لمياء في شفتيها حوّة لعس
وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وقيل : خضرة عليها سواد ، والأحوى : الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض ، قال الشاعر : وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن
مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
وفي الصحاح : الحوة : سمرة ، وقال الأعلم : لون يضرب إلى السواد ، وقال أيضاً : الشديد الخضرة التي تضرب إلى السواد .
( سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يُحْىِ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها ) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ( ، كأن قائلاً قال : من خلقه على هذا المثال ؟ فقيل : ) سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ ). وأيضاً لما قال : ) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ( ، قيل : هو ) سَنُقْرِئُكَ ( ، أي ذلك القول الفصل .
( سَبِّحِ ( : نزّه عن النقائص ، ( اسْمَ رَبّكَ ( : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى . وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى . وقيل : معناه نزّه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع . وقال ابن عباس : المعنى صلّ باسم ربك الأعلى ، كما تقول : ابدأ باسم ربك ، وحذف حرف الجر . وقيل : لما نزل ) فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اجعلوها في ركوعكم ) . فلما نزل : ) سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( ، قال : ( اجعلوها في سجودكم ) . وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت . قالوا : ) الاْعْلَى ( يصح أن يكون صفة لربك ، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً ، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب
الأعلى : ( 2 ) الذي خلق فسوى
) الَّذِى خَلَقَ ( صفة لربك ، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره . لو قلت : رأيت غلام هند العاقل الحسنة ، لم يجز ؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند ، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول : رأيت غلام هند الحسنة العاقل . فإن لم يجعل الذي صفة لربك ، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح ، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم .
( الَّذِى خَلَقَ ( : أي كل شيء ، ( فَسَوَّى ( : أي لم يأت متفاوتاً بل متناسباً على إحكام وإتقان ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم .
الأعلى : ( 3 ) والذي قدر فهدى
وقرأ الجمهور : ) قُدِرَ ( بشد الدال ، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء . وقال الزمخشري : قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، انتهى . وقرأ الكسائي : قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة ، وهدى عام لجميع الهدايات . وقال الفرّاء : فهدى وأضل ، اكتفى بالواحدة عن الأخرى . وقال الكلبي ومقاتل : هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث . وقال مجاهد : هدى الإنسان للخير والشر ، والبهائم للمراتع . وقيل : هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص .
الأعلى : ( 5 ) فجعله غثاء أحوى
والظاهر أن أحوى صفة لغثاء . قال ابن عباس : المعنى ) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ( : أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى . وقيل : أحوى حال من المرعى ، أي أحرى المرعى أحوى ، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه ، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل ، وقال : وغيث من الوسمي حوتلاعه
تبطنته بشيظم صلتان
الأعلى : ( 6 ) سنقرئك فلا تنسى
) سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( ، قال الحسن وقتادة ومالك : هذا في معنى ) لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ ). وعده الله أن يقرئه ، وأخبره أنه لا ينسى ، وهذه آية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أنه أمّيّ ، وحفظ الله عليه الوحي ، وأمنه من نسائه . وقيل : هذا وعد بإقراء السور ، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته ، فهو نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبتت الألف في ) فَلاَ تَنسَى ( ، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي .
الأعلى : ( 7 ) إلا ما شاء . . . . .
( إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( ، الظاهر أنه استثناء مقصود . قال الحسن وقتادة وغيرهما : مما قضى الله نسخه ، وأن ترتفع تلاوته وحكمه . وقال ابن عباس : إلا ما شاء الله أن ينسيك لتسن به ، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام : ( أني لأنسى وأنسى لأسن ) . وقيل : إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه ، ثم يذكرك به بعد ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، حين سمع قراءة عباد بن بشير : ( لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا ) . وقيل : ) فَلاَ تَنسَى ( : أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل . وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح(8/453)
" صفحة رقم 454 "
استثناؤه .
وأخذ الزمخشري هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء الله ، والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي ، انتهى . وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء ، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، بل ولا في كلام فصيح . وكذلك القول بأن لا في ) فَلاَ تَنسَى ( للنهي ، والألف ثابتة لأجل الفاصلة ، وهذا قول ضعيف . ومفهوم الآية في غاية الظهور ، وقد تعسفوا في فهمها . والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه ، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله ، فإنه ينساه إما النسخ ، وإما أن يسن ، وإما على أن يتذكر . وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه ، فإن وقع نسيان ، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة .
ومناسبة ) سَنُقْرِئُكَ ( لما قبله : أنه لما أمره تعالى بالتسبيح ، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى ، استثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه . ) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ ( : أي جهرك بالقرآن ، ( وَمَا يَخْفَى ( : أي في نفسك من خوف التفلت ، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه ، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء .
الأعلى : ( 8 ) ونيسرك لليسرى
) وَنُيَسّرُكَ ( معطوف على ) سَنُقْرِئُكَ ( ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض ، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني في حفظ الوحي . وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة . وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة . ولما أخبر أنه يقرئه وييسره ، أمره بالتذكير ، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم .
الأعلى : ( 9 ) فذكر إن نفعت . . . . .
والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى ، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخاً لقريش ، أي ) إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى ( في هؤلاء الطغاة العتاه ، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى ، فهو كما قال الشاعر : لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك ؛ فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع . وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني . وقيل : إن بمعنى إذ ، كقوله : ) وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : أي إذ كنتم ؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم .
الأعلى : ( 10 ) سيذكر من يخشى
) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ( : أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف ، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه ، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق ، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له .
الأعلى : ( 11 - 12 ) ويتجنبها الأشقى
) وَيَتَجَنَّبُهَا ( : أي الذي ، ( الاْشْقَى ( : أي المبالغ في الشقاوة ، لأن الكافر بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله . ثم وصفه بما يؤول إليه حاله في الآخرة ، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى . قال الحسن : النار الكبرى : نار الآخرة ، والصغرى : نار الدنيا . وقال الفراء : الكبرى : السفلى من أطباق النار . وقيل : نار الآخرة تتفاضل ، ففيها شيء أكبر من شيء .
الأعلى : ( 13 ) ثم لا يموت . . . . .
( ثُمَّ لاَ يَمُوتُ ( : فيستريح ، ( وَلاَ يُحْىِ ( حياة هنيئة ؛ وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذاناً بتفاوت مراتب الشدة ، لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلى بالنار .
الأعلى : ( 14 ) قد أفلح من . . . . .
( قَدْ أَفْلَحَ ( : أي فاز وظفر بالبغية ، ( مَن تَزَكَّى ( : تطهر . قال ابن عباس : من الشرك ، وقال : لا إله إلا الله . وقال الحسن : من كان عمله زاكياً . وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة : من رضخ من ماله وزكاه .
الأعلى : ( 15 ) وذكر اسم ربه . . . . .
( وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ ( : أي وحده ، لم يقرنه بشيء من الأنداد ، ( فَصَلَّى ( : أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل ، والمعنى : أنه لما تذكر آمن بالله ، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة ، واحتج بقوله : ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ ( على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى ، وأنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح ، وهو احتجاج ضعيف . وقال ابن عباس : ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ ( : أي معاده وموقفه بين يدي ربه ،(8/454)
" صفحة رقم 455 "
) فَصَلَّى لَهُ ).
الأعلى : ( 16 ) بل تؤثرون الحياة . . . . .
وقرأ الجمهور : ) بَلْ تُؤْثِرُونَ ( بتاء الخطاب للكفار . وقيل : خطاب للبر والفاجر ؛ يؤثرها البر لاقتناء الثواب ، والفاجر لرغبته فيها . وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم : بياء الغيبة .
( إِنَّ هَذَا ( : أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا ، قاله ابن زيد وابن جرير ، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا . وقال ابن عباس وعكرمة والسدي : إلى معاني السورة . وقال الضحاك : إلى القرآن . وقال قتادة : إلى قوله : ) وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ).
الأعلى : ( 18 ) إن هذا لفي . . . . .
( لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى ( ، لم ينسخ إفلاح من تزكى ، والآخرة خير وأبقى في شرح من الشرائع . فهو في الأولى وفي آخر الشرائع .
الأعلى : ( 19 ) صحف إبراهيم وموسى
وقرأ الجمهور : الصحف بضم الحاء كالحرف الثاني ؛ والأعمش وهرون وعصمة ، كلاهما عن أبي عمرو : بسكونها ؛ وفي كتاب اللوامح العبقلي عن أبي عمرو : الصحف صحف بإسكان الحاء فيهما ، لغة تميم . وقرأ الجمهور : إبراهيم بألف وبياء والهاء مكسورة ؛ وأبو رجاء : بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معاً ؛ وأبو موسى الأشعري وابن الزبير : أبراهام بألف في كل القرآن ؛ ومالك بن دينار : إبراهيم بألف وفتح الهاء وبغير ياء ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكرة : إبراهيم بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن . قال ابن خالويه : وقد جاء إبراهيم ، يعني بألف وضم الهاء . وتقدم في والنجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .(8/455)
" صفحة رقم 456 "
88
( سورة الغاشية )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الاٌّ رْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاٌّ كْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( ) ) 2
الغاشية : ( 1 ) هل أتاك حديث . . . . .
الضريع ، قال أبو حنيفة وأظنه صاحب النبات ، الضريع : الشبرق ، وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحماً ولا لحماً ، ومنه قول ابن عزارة الهذلي : وحبسن في هزم الضريع فكلها
حدباء دامية اليدين حرود
وقال أبو ذؤيب : رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وصار ضريعاً بان عنه النحائص
وقال بعض اللغويين : يبيس العرفج إذا تحطم . وقال الزجاج : هو نبت كالعوسج . وقال الخليل : نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر . النمارق : الوسائد ، واحدها نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما .
وقال زهير(8/456)
" صفحة رقم 457 "
كهولاً وشباناً حساناً وجوههم
على سرر مصفوفة ونمارق
الزرابي : بسط عراض فاخرة . وقال الفراء : هي الطنافس المخملة ، وواحدها زريبة بكسر الزاي وبفتحها . سطحت الأرض : بسطت ووطئت .
( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الاْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاْكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ).
هي مكية . ولما ذكر فيما قبلها ) فَذَكّرْ ( ، وذكر النار والآخرة ، قال : ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ). والغاشية : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم القيامة ، قاله سفيان والجمهور . وقال ابن جبير ومحمد بن كعب : النار ، قال تعالى : ) وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ). وقال : ) وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( ، فهي تغشى سكانها . وهذا الاستفهام توقيف ، وفائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر . وقيل : المعنى هل كان هذا من عملك لولا ما علمناك ؟ وفي هذا تعديد النعمة . وقيل : هل بمعنى قد .
الغاشية : ( 2 ) وجوه يومئذ خاشعة
) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ( : أي يوم إذ غشيت ، والتنوين عوض من الجملة ، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضاً منها ، لكن لما تقدّم لفظ الغاشية ، وأل موصولة باسم الفاعل ، فتنحل للتي غشيت ، أي للداهية التي غشيت . فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها ، وإلى الموصول الذي هو التي . ) خَاشِعَةٌ ( : ذليلة .
الغاشية : ( 3 ) عاملة ناصبة
) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة : ) عَامِلَةٌ ( في النار ، ( نَّاصِبَةٌ ( تعبة فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا . قيل . وعملها في النار جر السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود نار وهبوطها في حدور منها . وقال ابن عباس أيضاً وزيد بن أسلم وابن جبير : عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى ، فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار ؛ والآية في القسيسين وعباد الأوثان وكل مجتهد في كفره . وقال عكرمة والسدي : عاملة ناصبة بالنصب على الذم ، والجمهور برفعهما .
الغاشية : ( 4 - 5 ) تصلى نارا حامية
وقرأ : ) تَصْلَى ( بفتح التاء ؛ وأبو رجاء وابن محيصن والأبوان : بضمها ؛ وخارجة : بضم التاء وفتح الصاد مشدّد اللام ، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء ) حَامِيَةً ( : مسعرة آنية قد انتهى حرها ، كقوله : ) وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد . وقال ابن زيد : حاضرة لهم من قولهم : آنى الشيء حضر .
الغاشية : ( 6 ) ليس لهم طعام . . . . .
والضريع ، قال ابن عباس : شجر من نار . وقال الحسين : وجماعة الزقوم . وقال ابن جبير : حجارة من نار . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعكرمة ومجاهد : شبرق النار . وقيل : العبشرق . وقيل : رطب العرفج ، وتقدم ما قيل فيه في المفردات . وقيل : واد في جهنم . والضريع ، إن كان الغسلين والزقوم ، فظاهر ولا يتنافى الحصر في ) إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( ، و ) إِلاَّ مَنْ ( ضريع . وإن كانت أغياراً مختلفة ، والجمع بأن الزقوم لطائفة ، والغسلين لطائفة ، والضريع لطائفة .
الغاشية : ( 7 ) لا يسمن ولا . . . . .
وقال الزمخشري : ) لاَّ يُسْمِنُ ( مرفوع(8/457)
" صفحة رقم 458 "
المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع ، يعني أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك ، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به ، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ، ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه ، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة ، والسمن في البدن ، انتهى . فقوله : مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع . أما جره على وصفه لضريع فيصح ، لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع . وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح ، لأن الطعام منفي ولا يسمن ، منفي فلا يصح تركيبه ، إذ يصير التقدير : ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع ، فيصير المعنى : أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير ضريع ، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو ، فمعناه أن له مالاً ينتفع به من غير مال عمرو . ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في ) إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( كان صحيحاً ، لأنه في موضع رفع على أنه بدل من اسم ليس ، أي ليس لهم طعام إلا كائن من ضريع ، إذ الإطعام من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع ، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح ، وقال الزمخشري : أو أريد أن لا طعام لهم أصلاً ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس ، لأن الطعام ما أشبع وأسمن ، وهو منهما بمعزل . كما تقول : ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد نفي الظل على التوكيد . انتهى . فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً ، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظة طعام ، إذ ليس بطعام . والظاهر الاتصال فيه . وفي قوله : ) وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( ، لأن الطعام هو ما يتطعمه الإنسان ، وهذا قدر مشترك بين المستلذ والمكروه وما لا يستلذ ولا يستكره .
الغاشية : ( 8 ) وجوه يومئذ ناعمة
) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( : صح الابتداء في هذا وفي قوله : ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل ، ناعمة لحسنها ونضارتها أو متنعمة .
الغاشية : ( 9 ) لسعيها راضية
) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( : أي لعملها في الدنيا بالطاعة ، راضية إذا كان ذلك العمل جزاؤه الجنة .
الغاشية : ( 10 ) في جنة عالية
) فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( : أي مكاناً ومكانة .
الغاشية : ( 11 ) لا تسمع فيها . . . . .
وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم . ) لاَ تُسْمِعُ ( مبنياً للمفعول ، ( لَاغِيَةً ( : رفع ، أي كلمة لاغية ، أو جماعة لاغية ، أو لغو ، فيكون مصدراً كالعاقبة ، ثلاثة أقوال ، الثالث لأبي عبيدة وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك ، إلا أنهم قرأوا بالياء لمجاز التأنيث ، والفضل والجحدري كذلك ، إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها ، أي أحد من قولك : أسمعت زيداً ؛ والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين ونافع في رواية خارجة وأبو عمرو بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : لا تسمع بتاء الخطاب عموماً ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام ، أو الفاعل الوجود . لاغية : بالنصب ،
الغاشية : ( 12 ) فيها عين جارية
) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( : عين اسم جنس ، أي عيون ، أو مخصوصة ذكرت تشريفاً لها .
الغاشية : ( 13 ) فيها سرر مرفوعة
) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( : من رفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما خوله ربه من الملك والنعيم ، أو مخبوءة من رفعت لك هذا ، أي خبأته .
الغاشية : ( 14 ) وأكواب موضوعة
) وأكواب موضوعة ( : أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء ، أو موضوعة بين أيديهم ، أو موضوعة على حافات العيون . ) ( وأكواب موضوعة ( : أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء ، أو موضوعة بين أيديهم ، أو موضوعة على حافات العيون . ) ( : أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء ، أو موضوعة بين أيديهم ، أو موضوعة على حافات العيون .
الغاشية : ( 15 ) ونمارق مصفوفة
) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( : أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها .
الغاشية : ( 16 ) وزرابي مبثوثة
) وَزَرَابِيُّ ( : متفرقة هنا وهنا في المجالس .
الغاشية : ( 17 - 20 ) أفلا ينظرون إلى . . . . .
ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء ، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم ، أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل ، وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائماً فقال : ) مَبْثُوثَةٌ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( ، وهي الجمال ، فإنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها ، من أكل لحمها ، وشرب لبنها ، والحمل عليها ، والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة ، وعيشها بأي نبات أكلته ، وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر ، وطواعيتها لمن يقودها ، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال ، وكثرة جنينها ، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها ، وهي لا شيء من الحيوان جميع هذه الخصال غيرها . وقد أبان تعالى امتنانه عليهم بقوله : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( ، الآيات . ولكونها أفضل ما عند الغرب ، جعلوها دية القتل ، ووهبوا المائة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه ، وذكرها الشعراء في مدح من وهبها ، كما قال :
أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية
وقال آخر :
الواهب المائة الهجان برمتها(8/458)
" صفحة رقم 459 "
وناسب التنبيه بالنظر إليها وإلى ما حوت من عجائب الصفات ، ما ذكر معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم ، وليدل على الاستدلال على إثبات الصانع ، وأنه ليس مختصاً بنوع دون نوع ، بل هو عام في كل موجوداته ، كما قيل : وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وقال أبو العباس : المبرد : الإبل هنا السحاب ، لأن العرب قد تسميها بذلك ، إذ تأتي إرسالاً كالإبل ، وتزجى كما تزجى الإبل ، وهي في هيئتها أحياناً تشبه الإبل والنعام ، ومنه قوله : كأن السحاب ذوين السما
ء نعام تعلق بالأجل
وقال الزمخشري : ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة ، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل كثيراً في أشعارهم ، فجوّز أن يراد بها السحاب على طريقة التشبيه والمجاز ، انتهى . وقرأ الجمهور : ) الإِبِلِ ( بكسر الباء وتخفيف اللام ؛ والأصمعي عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعليّ وابن عباس : بشد اللام . ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا : إنها السحاب ، عن قوم من أهل اللغة . وقال الحسن : خص الإبل بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن ، فقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، وقال العرب : بعيدة العهد بالفيل ، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره ولا يحلب دره . والإبل لا واحد له من لفظه وهو مؤنث ، ولذلك إذا صغر دخلته التاء فقالوا : أبيلة ، وقالوا في الجمع : آبال . وقد اشتقوا من لفظه فقالوا : تأبل الرجل ، وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا : ما آبل زيداً . وإبل اسم جاء على فعل ، ولم يحفظ سيبويه مما جاء على هذا الوزن غيره . وكيف خلقت : جملة استفهامية في موضع البدل من الإبل ، وينظرون : تعدى إلى الإبل بواسطة إلى ، وإلى كيف خلقت على سبيل التعليق ، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم : عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال ، على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف ، فحكى أنهم قالوا : انظر إلى كيف يصنع . وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت ، وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام ، لم يبق الاستفهام على حقيقته ، وقد بينا ذلك في كتابنا المسمى بالتذكرة وفي غيره .
وقرأ الجمهور : ) خُلِقَتْ ( : رفعت ، ( نُصِبَتْ ( سطحت بتاء التأنيث مبنياً للمفعول ؛ وعليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بتاء المتكلم مبنياً للفاعل ، والمفعول محذوف ، أي خلقتها ، رفعتها ، نصبتها ؛ رفعت رفعاً بعيد المدى بلا عمد ، نصبت نصباً ثابتاً لا تميل ولا تزول ؛ سطحت سطحاً حتى صارت كالمهاد للمتقلب عليها . وقرأ الجمهور : ) سُطِحَتْ ( خفيفة الطاء ؛ والحسن وهارون : بشدّها .
الغاشية : ( 21 ) فذكر إنما أنت . . . . .
ولما حضهم على النظر ، أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بتذكيرهم فقال : ) فَذَكّرْ ( ولا يهمنك كونهم لا ينظرون . ) إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ ( ، كقوله تعالى : ) إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ).
الغاشية : ( 22 ) لست عليهم بمصيطر
) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( : أي بمسلط ، كقوله : ) وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ). وقرأ الجمهور : بالصاد وكسر الطاء ، وابن عامر في رواية ، ونطبق عن قنبل ، وزرعان عن حفص : بالسين ؛ وحمزة في رواية : بإشمام الزاي ؛ وهارون : بفتح الطاء ، وهي لغة تميم . وسيطر متعد عندهم ويدل عليه فعل المطاوعة وهو تسطر ، وليس في الكلام على هذا الوزن إلا مسيطر ومهيمن ومبيطر ومبيقر ، وهي أسماء فاعلين من سيطر وهيمن وبيطر . وجاء مجيمر اسم واد ومديبر ، ويمكن أن يكون أصلهما مدبر ومجمر فصغراً .
الغاشية : ( 23 - 24 ) إلا من تولى . . . . .
وقرأ الجمهور : إلا حرف استثناء فقيل متصل ، أي فأنت مسيطر عليه . وقيل : متصل من فذكر ، أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر ، وما بينهما اعتراض . وقيل : منقطع ، وهي آية موادعة نسخت بآية(8/459)
" صفحة رقم 460 "
السيف . وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ وقتادة وزيد بن أسلم : ألا حرف تنبيه واستفتاح ، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم .
الغاشية : ( 25 - 26 ) إن إلينا إيابهم
وقرأ الجمهور : ) إِيَابَهُمْ ( بتخفيف الياء مصدر آب ؛ وأبو جعفر وشيبة : بشدّها مصدراً لفعيل من آب على وزن فيعال ، أو مصدراً كفوعل كحوقل على وزن فيعال أيضاً كحيقال ، أو مصدر الفعول كجهور على وزن فعوال كجهوار فأصله أوواب فقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ؛ واجتمع في هذا البناء والبناءين قبله واو وياء ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ، وأدغم ولم يمنع الإدغام من القلب لأن الواو والياء ليستا عينين من الفعل ، بل الياء في فيعل والواو في فعول زائدتان . وقال صاحب اللوامح ، وتبعه الزمخشري : يكون أصله إواباً مصدر أوّب ، نحو كذّب كذاباً ، ثم قيل إواباً فقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها . قال الزمخشري : كديوان في دوان ، ثم فعل به ما فعل بسيد ، يعني أنه اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الواو ، فأما كونه مصدر أوب فإنه لا يجوز ، لأنهم نصوا على أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسوراً فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة ، ومثلوا بأخرواط مصدر أخروّط ، ومثلوا أيضاً بمصدر أوب نحو أوّب إواباً ، فهذه وضعت على الإدغام ، فحصنها من الإبدال ولم تتأثر للكسر .
وأما تشبيه الزمخشري بديوان فليس بجيد لأنهم لم ينطقوا بها في الوضع مدغمة ، فلم يقولوا دوّان ، ولولا الجمع على دواوين لم يعلم أن أصل هذه الياء واو ، وأيضاً فنصوا على شذوذ ديوان فلا يقاس عليه غيره . وقال ابن عطية : ويصح أن يكون من أأوب ، فيجيء إيواباً ، سهلت الهمزة ، وكان اللازم في الإدغام يردها إواباً ، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس ، انتهى . فقوله : وكان اللازم في الإدغام بردها إواباً ليس بصحيح ، بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إياباً ، لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل . وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة ، فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إياباً .
ولما كان من مذهب الزمخشري أن تقديم المعمول يفيد الحصر ، قال معناه : أن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه تعالى ، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير ، ومعنى الوجوب : الوجوب في الحكمة ، والله أعلم .(8/460)
" صفحة رقم 461 "
89
( سورة الفجر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاٌّ وْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّىأَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّىأَهَانَنِ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاٌّ رْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( ) ) 2
الفجر : ( 1 - 4 ) والفجر
الحجر : العقل ، قال الفراء : العرب تقول : إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه حافظاً لها ، كأنه من حجرت على الرجل ، إرم : أمّة قديمة ، وقيل : اسم أبي عاد كلها ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام . وقيل : مدينة ، وعلى أنه اسم قبيلة . قال زهير : وآخرين ترى الماذيّ عدتهم
من نسج داود أو ما أورثت إرم
وقال الرقيات : مجداً تليداً بناه أوله
أدرك عاداً وقبله إرم(8/461)
" صفحة رقم 462 "
جاب : خرق وقطع ، تقول جبت البلاد أجوبها ، إذا قطعتها وجاوزتها ، قال : ولا رأيت قلوصاً قبلها حملت
ستين وسقاً ولا جابت بها بلدا
السوط : آلة للضرب معروفة . قال بعض اللغويين : وهو مصدر من ساط يسوط إذا اختلط . وقال الليث : ساطه إذا خلطه بالسوط ، ومنه قول الشاعر : أحارث أنا لو تساط دماؤنا
تزايلن حتى لا يمس دم دما
وقال أبو زيد : يقال أموالهم سويطة بينهم : أي مختلطة اللم الجمع واللف . قال أبو عبيدة : لممت ما على الخوان ، إذا أكلت جميع ما عليه بأسره . وقال الحطيئة : إذا كان لما يتبع الذم ربه
فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا
ومنه : لممت الشعث ، قال النابغة : ولست بمستبق أخاً لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
الجم : الكبير .
( وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاْوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاْرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال عليّ بن أبي طلحة : مدنية . ولما ذكر فيما قبلها ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( ، و ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( ، أتبعها بذكر الطوائف المتكبرين المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وأشار إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله : ) أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ). وأيضاً لما قال : ) إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ( ، قال هنا : ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( ، تهديداً لمن كفر وتولى . وقرأ أبو الدينار الأعرابي : والفجر ، والوتر ، ويسر بالتنوين في الثلاثة . قال ابن خالويه : هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين ، وإن كان فعلاً ، وإن كان فيه ألف ولام . قال الشاعر : أقلّي اللوم عاذل والعتابا
وقولي إن أصبت لقد أصابا(8/462)
" صفحة رقم 463 "
انتهى . وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر ، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر ، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي . وقرأ الجمهور : ) وَلَيالٍ عَشْرٍ ( بالتنوين ؛ وابن عباس : بالإضافة ، فضبطه بعضهم . ) وَلَيالٍ عَشْرٍ ( بلام دون ياء ، وبعضهم وليالي عشر بالياء ، ويريد : وليالي أيام عشر . ولما حذف الموصوف المعدود ، وهو مذكر ، جاء في عدده حذف التاء من عشر . والجمهور : ) وَالْوَتْرِ ( بفتح الواو وسكون التاء ، وهي لغة قريش . والأغر عن ابن عباس ، وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن : بخلاف عنه ؛ والأخوان : بكسر الواو ، وهي لغة تميم ، واللغتان في الفرد ، فأما في الرحل فالكسر لا غير . وحكى الأصمعي : فيه اللغتين ؛ ويونس عن أبي عمرو : بفتح الواو وكسر التاء . والجمهور : ) يَسْرِ ( بحذف الياء وصلاً ووقفاً ؛ وابن كثير : بإثباتها فيهما ؛ ونافع وابن عمرو : بخلاف عنه بياء في الوصل وبحذفها في الوقف ؛ والظاهر وقول الجمهور ، منهم علي وابن عباس وابن الزبير : أن الفجر هو المشهور ، أقسم به كما أقسم بالصبح ، ويراد به الجنس ، لا فجر يوم مخصوص . وقال ابن عباس ومجاهد ؛ من يوم النحر ؛ وعكرمة : من يوم الجمعة ؛ والضحاك : من ذي الحجة ؛ ومقاتل : من ليلة جمع ؛ وابن عباس وقتادة : من أول يوم من المحرم . وعن ابن عباس أيضاً : الفجر : النهار كله ؛ وعنه أيضاً وعن زيد بن أسلم : الفجر هو صلاة الصبح ، وقرآنها هو قرآن الفجر . وقيل : فجر العيون من الصخور وغيرها . وقال ابن الزبير والكلبي وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي وعطية العوفي : هي عشر ذي الحجة ؛ وابن عباس والضحاك : العشر الأواخر من رمضان . وقال ابن جريج : الأول منه ؛ ويمان وجماعة : الأول من المحرم ومنه يوم عاشوراء ؛ ومسروق ومجاهد : وعشر موسى عليه السلام التي أتمها الله تعالى . قيل : والأظهر قول ابن عباس للحديث المتفق على صحته . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله . قال التبريزي : اتفقوا على أنه العشر الأواخر ، يعني من رمضان ، لم يخالف فيه أحد ، فتعظيمه مناسب لتعظيم القسم . وقال الزمخشري : وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة . فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به ؟ قلت : لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر ، بعض منها أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها . فإن قلت : فهل لا عرفت بلام العهد لأنها ليال معلومة معهودة ؟ قلت : لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير ، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية ، انتهى . أما السؤالان فظاهران ، وأما الجواب عنهما فلفظ ملفق لا يعقل منه معنى فيقبل أو يرد .
والشفع والوتر : ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولاً ضجرنا من قراءتها فضلاً عن كتابتها في كتابنا هذا ، وعن عمران بن حصين ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( هي الصلوات ، منها الشفع ومنها الوتر ) . وروى أبو أيوب عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر . وروى جابر عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ) . وفي هذا الحديث تفسيره عليه الصلاة والسلام الفجر بالصبح والليالي العشر بعشر النحر ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، واختاره النحاس . وقال حديث أبي الزبير عن جابر : هو الذي صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو أصح إسناداً من حديث عمران بن حصين : ( صوم عرفة وتر لأنه تاسعها ، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها ) . وذكر ابن عطية في الشفع والوتر أربعة عشر قولاً ، والزمخشري ثلاثة أقوال ، ثم قال : وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان(8/463)
" صفحة رقم 464 "
فيه ، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه ، انتهى .
( وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( : قسم بجنس الليل ، ويسري : يذهب وينقرض ، كقوله : ) وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ ). وقال الأخفش وابن قتيبة : يسري فيه ، فيكون من باب ليلك نائم . وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : المراد ليلة جمع لأنه يسري فيها ، وجواب القسم محذوف . قال الزمخشري : وهو لنعذبن ، يدل عليه قوله : ) أَلَمْ تَرَ ( إلى قوله : ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ). وقال ابن الأنباري : الجواب : ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ). والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية ، وهو قوله : ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( ، وتقديره : لإيابهم إلينا وحسابهم علينا . وقول مقاتل :
الفجر : ( 5 ) هل في ذلك . . . . .
هل هنا في موضع تقديره : إن في ذلك قسماً لذي حجر . فهل على هذا في موضع جواب القسم ، قول لم يصدر عن تأمل ، لأن المقسم عليه على تقدير أن يكون التركيب إن في ذلك قسماً لذي حجر لم يذكر ، فيبقى قسم بلا مقسم عليه ، لأن الذي قدره من إن في ذلك قسماً لذي حجر لا يصح أن يكون مقسماً عليه ، وهل في ذلك تقرير على عظم هذه الأقسام ، أي هل فيها مقنع في القسم لذي عقل فيزدجر ويفكر في آيات الله .
الفجر : ( 6 - 7 ) ألم تر كيف . . . . .
ثم وقف المخاطب على مصارع الأمم الكافرة الماضية مقصوداً بذلك توعد قريش ، ونصب المثل لها . وعاد هو عاد بن عوص ، وأطلق ذلك على عقبه ، ثم قيل للأولين منهم عاداً الأولى وإرم ، نسبة لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة . وقال مجاهد وقتادة : هي قبيلة بعينها . وقال ابن إسحاق : إرم هو أبو عاد كلها .
وقال الجمهور : إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن . وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية . وقال ابن المسيب والمقبري : هي دمشق . وقال مجاهد أيضاً : إرم معناه القديمة . وقرأ الجمهور : بعاد مصر ، وفا إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية لأنه اسم للقبيلة ، وعاد ، وإن كان اسم القبيلة ، فقد يلحظ فيه معنى الحي فيصرف أولاً يلحظ ، فجاء على لغة من صرف هنداً ، وإرم عطف بيان أو بدل . وقرأ الحسن : بعاد غير ممنوع الصرف مضافاً إلى إرم ، فجاز أن يكون إرم وجداً ومدينة ؛ والضحاك : إرم بفتح الراء وما بعدها ممنوعي الصرف . وقرأ ابن الزبير : بعاد بالإضافة ، إرم بفتح الهمزة وكسر الراء ، وهي لغة في المدينة ، والضحاك : بعاد مصروفاً ، وبعاد غير مصروف أيضاً ، أرم بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف أرم بكسر الراء ؛ وعن ابن عباس والضحاك : أرم فعلاً ماضياً ، أي بلي ، يقال : رم العظم وأرم هو : أي بلي ، وأرمه غيره معدى بالهمزة من رم الثلاثي . وذات على هذه القراءة مكسورة التاء ؛ وابن عباس أيضاً : فعلاً ماضياً ، ذات بنصب التاء على المفعول به ، وذات بالكسر صفة لإرم ؛ وسواء كانت اسم قبيلة أو مدينة ، وإن كان يترجح كونها مدينة بقوله : ) لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ ( ، فإذا كانت قبيلة صح إضافة عاد إليها وفكها منها بدلاً أو عطف بيان ، وإن كانت مدينة فالإضافة إليها ظاهرة والفك فيها يكون على حذف مضاف ، أي بعاد أهل إرم ذات العماد .
وقرىء : ) إِرَمَ ذَاتِ ( ، بإضافة إرم إلى ذات ، والإرم : العلم ، يعني بعاد : أعلام ذات العماد . ومن قرأ : أرم فعلاً ماضياً ، ذات بالنصب ، أي جعل الله ذات العماد رميماً ، ويكون ) إِرَمَ ( بدلاً من ) فَعَلَ رَبُّكَ ( وتبييناً لفعل ، وإذا كانت ) ذَاتِ الْعِمَادِ ( صفة للقبيلة . فقال ابن عباس : هي كناية عن طول أبدانهم ، ومنه قيل : رفيع العماد ، شبهت قدودهم بالأعمدة ، ومنه قولهم : رجل عمد وعمدان أي طويل . وقال عكرمة ومقاتل : أعمدة بيوتهم التي كانوا يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود . وقال ابن زيد : أعمدة بنيانهم ، وإذا كانت صفة للمدينة ، فأعمدة الحجارة التي بنيت بها . وقيل : القصور العالية والأبراج يقال لها عماد . وحكي عن مجاهد : أرم مصدر ، أرم يأرم إذا هلك ، والمعنى : كهلاك ذات العماد ، وهذا قول غريب ، كأن معنى ) كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( : كيف أهلك عاداً كهلاك ذات العماد . وذكر المفسرون أن ذات العماد مدينة ابتناها شداد بن عاد لما سمع بذكر الجنة على أوصاف بعيد ، أو مستحيل عادة أن يبنى في الأرض مثلها ، وأن الله تعالى بعث عليها وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلها هلكوا جميعاً ، ويوقف على قصتهم في كتاب التحرير وشيء منها في الكشاف .
الفجر : ( 8 ) التي لم يخلق . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لَمْ يُخْلَقْ ( مبنياً للمفعول ، مثلها رفع ؛ وابن الزبير : مبنيا(8/464)
" صفحة رقم 465 "
ً للفاعل ، مثلها نصباً ، وعنه : نخلق بالنون والضمير في مثلها عائد على المدينة التي هي ذات العماد في البلاد ، أي في بلاد الدنيا ، أو عائد على القبيلة ، أي في عظم أجسام وقوة .
الفجر : ( 9 ) وثمود الذين جابوا . . . . .
وقرأ ابن وثاب وثمود بالتنوين . والجمهور : بمنع الصرف . ) جَابُواْ الصَّخْرَ ( : خرقوه ونحتوه ، فاتخذوا في الحجارة منها بيوتاً ، كما قال تعالى : ) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ ( بيوتاً . قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بالوادي ، وادي القرى . وقيل : جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه فعل ذي القوة والآمال .
الفجر : ( 10 ) وفرعون ذي الأوتاد
) ذِى الاْوْتَادِ ( : تقدم الكلام على ذلك في سورة ص .
الفجر : ( 11 ) الذين طغوا في . . . . .
( الَّذِينَ ( صفة لعاد وثمود وفرعون ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع على إضمارهم .
الفجر : ( 13 ) فصب عليهم ربك . . . . .
( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( : أبهم هنا وأوضح في الحاقة وفي غيرها ، ويقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، واستعمل الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب ، قال : فصب عليهم محصرات كأنها
شآبيب ليست من سحاب ولا قطر
يريد : المحدودين في قصة الإفك . وقال بعض المتأخرين في صفة الحبل : صببنا عليهم ظالمين شياطنا
فطارت بها أيد سراع وأرجل
وخص السوط فاستعير للعذاب ، لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره . وقال الزمخشري : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به .
الفجر : ( 14 ) إن ربك لبالمرصاد
والمرصاد والمرصد : المكان الذي يترتب فيه الرصد ، مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المرصاد في الآية اسم فاعل ، كأنه قال : لبالراصد ، فعبر ببناء المبالغة ، انتهى . ولو كان كما زعم ، لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها ، لا زائدة ولا غير زائدة .
الفجر : ( 15 ) فأما الإنسان إذا . . . . .
( فَأَمَّا الإِنسَانُ ( : ذكر تعالى ما كانت قريش تقوله وتستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده ، فيرون المكرم من عنده الثروة والأولاد ، والمهان ضده . ولما كان هذا غالباً عليهم وبخوا بذلك . والإنسان اسم جنس ، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : ) فَأَمَّا الإِنسَانُ ( ؟ قلت : بقوله : ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( ، كأنه قال : إن الله تعالى لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة ، وهو مرصد للعاصي ؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ، انتهى . وفيه التصريح بمذهب الاعتزال في قوله : لا يريد من الإنسان إلا الطاعة . وإذا العامل فيه فيقول : والنية فيه التأخير ، أي فيقول كذا وقت الابتداء ، وهذه الفاء لا تمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإن كانت فاء دخلت في خبر المبتدأ لأجل أما التي فيها معنى الشرط ، وبعد أما الثانية مضمر به وقع التوازن بين الجملتين تقديره : فأما إذا هو ما ابتلاه ، وفيقول خبر عن ذلك المبتدأ المضمر ، وابتلاه معناه : اختبره ، أيشكر أم يكفر إذا بسط له ؟ وأيصبر أم بجزع إذا ضيق عليه ؟ لقوله تعالى : ) وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ). وقابل ونعمه بقوله : ) فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( ، ولم يقابل ) فَأَكْرَمَهُ ( بلفظ فأهانه ، لأنه ليس من يضيق عليه الرزق ، كان ذلك إهانة له . ألا ترى إلى ناس كثير من أهل الصلاح مضيقاً عليهم الرزق كحال الإمام أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني رضي الله تعالى عنه وغيره ، وذم الله تعالى العبد في حالتيه هاتين .
أما في قوله : ) فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ ( ، فلأنه إخبار منه على أنه يستحق الكرامة ويستوجبها .
الفجر : ( 16 ) وأما إذا ما . . . . .
وأما قوله : ) أَهَانَنِ ( ، فلأنه سمى ترك التفضيل من الله تعالى إهانة وليس بإهانة ، أو يكون إذا تفضل عليه أقر بإحسان الله إليه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك تفضل الله إهانة ، لا إلى الاعتراف بقوله : ) أَكْرَمَنِ ). وقرأ ابن كثير : أكرمني وأهانني بالياء فيهما ؛ ونافع : بالياء وصلاً وحذفها وقفاً ، وخير في الوجهين أبو عمرو ، وحذفها باقي السبعة فيهما وصلاً ووقفاً ، ومن حذفها وقفاً سكن النون فيه . وقرأ الجمهور : ) فَقَدَرَ ( بخف الدال ؛ وأبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه ؛ وابن عامر : بشدها . قال الجمهور : هما بمعنى واحد بمعنى ضيق ، والتضعيف(8/465)
" صفحة رقم 466 "
فيه للمبالغة لا للتعدي ، ولا يقتضي ذلك قول الإنسان ) أَهَانَنِ ( ، لأن إعطاء ما يكفيه لا إهانة فيه .
الفجر : ( 17 - 19 ) كلا بل لا . . . . .
( كَلاَّ ( : رد على قولهم ومعتقدهم ، أي ليس إكرام الله وتقدير الرزق سببه ما ذكرتم ، بل إكرامه العبد : دّتيسيره لتقواه ، وإهانته : تيسيره للمعصية ؛ ثم أخبرهم بما هم عليه من أعمالهم السيئة . وقال الزمخشري : كلا ردع للإنسان عن قوله ، ثم قال : بل هنا شر من هذا القول ، وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدون فيها ما يلزمهم من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرة وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ويحبونه فيشحون به ، انتهى . وفي الحديث : ( أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم ) . وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمر : يكرمون ولا يحضون ، ويأكلون ويحبون بياء الغيبة فيها ؛ وباقي السبعة ، بتاء الخطاب ، وأبو جعفر وشيبة والكوفيون وابن مقسم : تحاضون بفتح التاء والألف أصله تتحاضون ، وهي قراءة الأعمش ، أي يحض بعضكم بعضاً ؛ وعبدأ الله أو علقمة وزيد بن عليّ وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي : كذلك إلا أنهم ضموا التاء ، أي تحاضون أنفسكم ، أي بعضكم بعضاً ، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى فعل أيضاً . ) عَلَى طَعَامِ ( ، يجوز أن يكون بمعنى إطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، والأولى أن يكون على حذف مضاف ، أي على بذل طعام .
( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ( ، كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد ، فيأكلون نصيبهم ويقولون : لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة ، والتراث تاؤه بدل من واو ، كالتكلة والتخمة من توكلت ووخمت . وقيل : كانوا يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة وهم عالمون بذلك يجمعون بين الحلال والحرام ويسرفون في إنفاق ما ورثوه لأنهم ما تعبوا في تحصيله ، كما شاهدنا الوراث البطالين .
الفجر : ( 21 ) كلا إذا دكت . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم . ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه في دار الدنيا . ) دَكّاً دَكّاً ( : حال كقولهم : باباً باباً ، أي مكرراً عليهم الدّك .
الفجر : ( 22 ) وجاء ربك والملك . . . . .
( وَجَاء رَبُّكَ ( ، قال القاضي منذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك ، وليس بمجيء نقلة ، وكذلك مجيء الطامّة والصاخة . وقيل : وجاء قدرته وسلطانه . وقال الزمخشري : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وسلطانه ، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه ، انتهى . والملك اسم جنس يشمل الملائكة . وروي أنه ملائكة كل سماء تكون صفاً حول الأرض في يوم القيامة . قال الزمخشري : ) صَفّاً صَفّاً ( تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس ، انتهى .
الفجر : ( 23 ) وجيء يومئذ بجهنم . . . . .
( وَجِىء بِجَهَنَّمَ ( ، كقوله تعالى : ) وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ( ، ( يَوْمَئِذٍ ( بدل من ) إِذَا ). قال الزمخشري : وعامل النصب فيهما يتذكر ، انتهى . ظاهر كلامه أن العامل في البدل هو العامل نفسه في المبدل منه ، وهو قول قد نسب إلى سيبويه ، والمشهور خلافه ، وهو أن البدل على نية تكرار العامل ، أي يتذكر ما فرط فيه . ) وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى ( : أي منفعة الذكرى ، لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر ، لو اتعظ في الدنيا لنفعه ذلك في الأخرى ، قاله الجمهور .
الفجر : ( 24 ) يقول يا ليتني . . . . .
قال الزمخشري وغيره : أو وقت حياتي في الدنيا ، كما تقول : جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا وكذا . وقال قوم : لحياتي في قبري ، يعني الذي كنت أكذب به . قال الزمخشري : وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجورين عن الطاعات مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء والبدع ، وإلا فما معنى التحسر ؟ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
الفجر : ( 25 - 26 ) فيومئذ لا يعذب . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لاَّ يُعَذّبُ وَلاَ يُوثِقُ ( : مبنيين للفاعل ، والضمير في ) عَذَابَهُ ( ، و ) وَثَاقَهُ ( عائد على الله تعالى ، أي لا يكل عذابه ولا وثاقه إلى أحد ، لأن الأمر لله وحده في ذلك ؛ أو هو من الشدّة في حيز لم يعذب قط أحد في(8/466)
" صفحة رقم 467 "
الدنيا مثله ، والأول أوضح لقوله : ) لاَّ يُعَذّبُ وَلاَ يُوثِقُ ( ، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد ، بل موضوع ، لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلاً . ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائداً على الكافر ، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه . وقيل إلى الله ، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر ، ويضعف هذا عمل لا يعذب في يومئذ ، وهو ظرف مستقبل . وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوّار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو : بفتح الذال والثاء مبنيين للمفعول ، فيجوز أن يكون الضمير فيهما مضافاً للمفعول وهو الأظهر ، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ، أو لا يحمل أحد عذاب الإنسان لقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وعذاب وضع موضع تعذيب . وفي اقتباس مثل هذا خلاف ، وهو أن يعمل ما وضع لغير المصدر ، كالعطاء والثواب والعذاب والكلام . فالبصريون لا يجيزونه ويقيسونه . وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم : وثاقه بكسر الواو ؛ والجمهور : بفتحها ، والمعذب هو الكافر على العموم . وقيل : هو أمية بن خلف . وقيل : أبيّ بن خلف . وقيل : المراد به إبليس ؛ وقام الدليل على أنه أشد من الناس عذاباً ، ويدفع القول هذا قوله : ) يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ ( ، والضمائر كلها مسوقة له .
الفجر : ( 27 ) يا أيتها النفس . . . . .
ولما ذكر تعالى شيئاً من أحوال من يعذب ، ذكر شيئاً من أحوال المؤمن فقال : ) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ ( ، وهذا النداء الظاهر إنه على لسان ملك . وقرأ الجمهور : بتاء التأنيث . وقرأ زيد بن علي : يا أيها بغير تاء ، ولا أعلم أحداً ذكر أنها تذكر ، وإن كان المنادى مؤنثاً ، إلا صاحب البديع . وهذه القراءة شاهدة بذلك ، ولذلك وجه من القياس ، وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع ؛ فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث . ) الْمُطْمَئِنَّةُ ( : الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن ، أو التي كانت مطمئنة إلى الحق لم يخالطها شك . قال ابن زيد : يقال لها ذلك عند الموت وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا . وقيل : عند البعث . وقيل : عند دخول الجنة .
الفجر : ( 28 ) ارجعي إلى ربك . . . . .
( إِلَى رَبّكَ ( : أي إلى موعد ربك . وقيل : الرب هنا الإنسان دون النفس ، أي ادخل في الأجساد ، والنفس اسم جنس . وقيل : هذا النداء هو الآن للمؤمنين . لما ذكر حال الكفار قال : يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين ، ( رَّاضِيَةٍ ( بما أوتيته ، ( مَّرْضِيَّةً ( عند الله .
الفجر : ( 29 - 30 ) فادخلي في عبادي
) فَادْخُلِى فِى عِبَادِى ( : أي في جملة عبادي الصالحين . ) وَادْخُلِى جَنَّتِى ( معهم . وقيل : النفس والروح ، والمعنى : فادخلي في أجساد عبادي . وقرأ الجمهور : ) فِى عِبَادِى ( جمعاً ؛ وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني : في عبدي على الإفراد ، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس ، فمدلوله ومدلول الجمع واحد . وقيل : هو على حذف خاطب النفس مفردة فقال : فادخلي في عبدي : أي في جسد عبدي . وتعدى فادخلي أولاً بفي ، وثانياً بغير فاء ، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعددت إليه بفي ، دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ، ومنه : ) فَادْخُلِى فِى عِبَادِى ). وإذا كان المدخول فيه ظرفاً حقيقياً ، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة في . قيل : في عثمان بن عفان . وقيل : في حمزة . وقيل : في خبيب بن عدي ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين .(8/467)
" صفحة رقم 468 "
( سورة البلد )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ( ) ) 2
البلد : ( 1 - 2 ) لا أقسم بهذا . . . . .
الكبد : الشدة والمشقة ، وأصله من كبد الرجل كبداً فهو أكبد ، إذا وجعه كبده وانتفخت ، فاستعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه المكابدة . وقال لبيد : يا عين هلا بكيت أربد إذ
قمنا وقام الخصوم في كبد
وقال أبو الأصبع : لو ابن عم لو أن الناس في كبدلظل محتجراً بالنبل يرميني
الشفة معروفة ، وأصلها شفهة ، حذفت منها الهاء ، ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت ، وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء ، وإن كان تاء التأنيث . النجد : العنق وجمعه نجود ، وبه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة ، والنجد : الطريق العالي . قال امرؤ القيس :
فريقان منهم جازع بطن نخله
وآخر منهم قاطع كبكير
الفك : تخليص الشيء من الشيء ، قال الشاعر(8/468)
" صفحة رقم 469 "
فيا رب مكروب كررت وراءه
وعان فككت الغل عنه فقدني
السغب : الجوع العام ، وقد يقال سغب الرجل إذا جاع . ترب الرجل ، إذا افتقر ولصق بالتراب ، وأترب ، إذا استغنى وصار ذا مال كالتراب ، وكذلك أثرى . أوصدت الباب وآصدته ، إذا أغلقته وأطبقته . قال الشاعر : تحن إلى أجبال مكة ناقتي
ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، وقيل : مدنية . ولما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم وحالة التقدير ، وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر ، وما آل إليه حاله وحال المؤمن ، أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيىء وما آل إليه في الآخرة . والإشارة لهذا البلد إلى مكة .
( وَأَنتَ حِلٌّ ( : جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر . وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة . وقال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال ، إحلال حرمته . وقال شرحبيل بن سعد : يعني ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ ( ، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر .
ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : ) وَأَنتَ حِلٌّ ( في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله عز وجل : ) إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( ، واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال . إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟ انتهى . وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ؛ فليست من الإخبار بالمستقبل . وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ؛ وهذا من مبادىء علم النحو . وأما قوله : وكفاك دليلاً قاطعاً الخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل ) وَأَنتَ حِلٌّ ( على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة . وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ ( على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من(8/469)
" صفحة رقم 470 "
أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإقامته فيها ، فصارت أهلاً لأن يقسم بها .
البلد : ( 3 ) ووالد وما ولد
والظاهر أن قوله : ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( ، لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد . وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان . وقال مجاهد : آدم وجميع ولده . وقيل : والصالحين من ذريته . وقيل : نوح وذريته . وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليه السلام وجميع ولده . وقيل : ووالد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما ولد إبراهيم عليه السلام . وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ) ، ولقراءة عبد الله : ) وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( ، وهو أب لهم ، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد ؟ قلت : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن ولده . أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه . فإن قلت : لم نكر ؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب . فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد ؟ قلت : فيه ما في قوله : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( : أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعاً عجيب الشأن . انتهى . وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله : ) مَا طَابَ لَكُمْ ( ، ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( ، وهو الخالق للذكر والأنثى . انتهى . وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له . جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين .
البلد : ( 4 ) لقد خلقنا الإنسان . . . . .
( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( : هذه الجملة المقسم عليها . والجمهور : على أن الإنسان اسم جنس ، وفي كبد : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره ، إما في جنة فتزول عنه المشقات ؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده . وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد : ) فِى كَبَدٍ ( معناه : منتصب القامة واقفاً ، ولم يخلق منكباً على وجهه ، وهذا امتنان عليه . وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له بالخروج ، قلب رأسه إلى قدمي أمه . وعن ابن عمر : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضراء . وقال ابن زيد : ) الإِنسَانَ ( : آدم ، ( فِى كَبَدٍ ( : في السماء ، سماها كبداً ، وهذه الأقوال ضعيفة ، والأول هو الظاهر .
البلد : ( 5 ) أيحسب أن لن . . . . .
والظاهر أن الضمير في ) أَيَحْسَبُ ( عائد على ) الإِنسَانَ ( ، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد ، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده .
البلد : ( 6 - 7 ) يقول أهلكت مالا . . . . .
يقول على سبيل الفخر : ) أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ( : أي في المكارم وما يحصل به الثناء ، أيحسب أن أعماله تخفى ، وأنه لا يراه أحد ، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء ؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء . وقيل : الضمير في ) أَيَحْسَبُ ( لبعض صناديد قريش . وقيل : هو أبو الأسد أسيد بن كلدة ، كان يبسط له الأديم العكاظي ، فيقوم عليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعاً ، ويبقى موضع قدميه . وقيل : الوليد بن المغيرة . وقيل : الحرث بن عامر بن نوفل ، وكان إذا أذنب استفتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيأمره بالكفارة ، فقال : لقد أهلكت مالاً لبداً في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ الجمهور : لبداً ، بضم اللام وفتح الباء ؛ وأبو جعفر : بشدّ الباء ؛ وعنه وعن زيد بن علي : لبداً بسكون الباء ، ومجاهد وابن أبي الزناد : بضمهما .
البلد : ( 8 ) ألم نجعل له . . . . .
ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال : ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( يبصر بهما ،
البلد : ( 9 ) ولسانا وشفتين
) وَلِسَاناً ( يفصح عما في باطنه ، ( وَشَفَتَيْنِ ( يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك .
البلد : ( 10 ) وهديناه النجدين
) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : طريق الخير والشر . وقال ابن عباس أيضاً ، وعليّ وابن المسيب(8/470)
" صفحة رقم 471 "
والضحاك : الثديين ، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه .
البلد : ( 11 ) فلا اقتحم العقبة
) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( : أي لم يشكر تلك النعم السابقة ، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل ، وهو ما صعب منه ، وكان صعوداً ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها . واقتحمها : دخلها بسرعة وضغط وشدّة ، والقحمة : الشدّة والسنة الشديدة . ويقال : قحم في الأمر قحوماً : رمى نفسه فيه من غير روية . والظاهر أن لا للنفي ، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج ، كأنه قال : وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل ، فما فعل خيراً ، أي فلم يقتحم . قال الفرّاء والزجاج : ذكر لا مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد ، كقوله تعالى : ) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( ، وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، قائماً مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن . وقيل : هو جار مجرى الدعاء ، كقوله : لا نجا ولا سلم ، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً . وقيل : هو تحضيض بألا ، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض ، وليس معها الهمزة . وقيل : العقبة : جهنم ، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال ، قاله الحسن . وقال ابن عباس ومجاهد وكعب : جبل في جهنم . وقال الزمخشري ، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج : هي بمعنى لا متكررة في المعنى ، لأن معنى ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك ؟ انتهى ،
البلد : ( 13 ) فك رقبة
ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلاً ماضياً .
وقرأ ابن كثير والنحويان : فك فعلاً ماضياً ، رقبة نصب ، أو أطعم فعلاً ماضياً ؛ وباقي السبعة : فكر مرفوعاً ، رقبة مجروراً ،
البلد : ( 14 ) أو إطعام في . . . . .
وإطعام مصدر منون معطوف على فك . وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير ، إلا أنهما قرآ : ذا مسغبة بالألف . وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً : أو إطعام في يوم ذا بالألف ، ونصب ذا على المفعول ، أي إنساناً ذا مسغبة ، ويتيماً بدل منه أو صفة . وقرأ بعض التابعين : فك رقبة بالإضافة ، أو أطعم فعلاً ماضياً . ومن قرأ فك بالرفع ، فهو تفسير لاقتحام العقبة ، والتقدير : وما أدراك ما اقتحام العقبة . ومن قرأ فعلاً ماضياً ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ، ويجيء فك بدلاً من اقتحم ، قاله ابن عطية . وفك الرقبة : تخليصها من الأسر والرق .
البلد : ( 15 ) يتيما ذا مقربة
) ذَا مَقْرَبَةٍ ( : ليجتمع صدقة وصلة ، وأو هنا للتنويع ، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع .
البلد : ( 16 ) أو مسكينا ذا . . . . .
( ذَا مَتْرَبَةٍ ( ، قال : هم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب ، لا بيوت لهم . وقال ابن عباس : هو الذي يخرج من بيته ، ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب .
البلد : ( 17 ) ثم كان من . . . . .
( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : هذا معطوف على قوله : ) فَلاَ اقتَحَمَ ( ؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة ، لا للتراخي في الزمان ، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع ، أو يكون المعنى : ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات ، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل : ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا . ) وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( : أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي ، ( وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ ( : أي بالتعاطف والتراحم ، أو بما يؤدي إلى رحمة الله .
البلد : ( 18 - 19 ) أولئك أصحاب الميمنة
والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة .
البلد : ( 20 ) عليهم نار مؤصدة
وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : ) مُّؤْصَدَةُ ( بالهمز هنا وفي الهمزة ، فيظهر أنه من آصدت قيل : ويجوز أن يكون من أوصدت ، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً . وقرأ باقي السبعة بغير همز ، فيظهر أنه من أوصدت . وقيل : يجوز أن يكون من آصدت ، وسهل الهمزة ، وقال الشاعر : قوماً تعالج قملاً أبناءهم
وسلاسلاً حلقاً وباباً مؤصدا(8/471)
" صفحة رقم 472 "
( سورة الشمس )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَالاٌّ رْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( ) ) 2
الشمس : ( 1 ) والشمس وضحاها
طحا ودحا بمعنى واحد ، أي بسط ووطأ ، ويأتي طحا بمعنى ذهب . قال علقمة :
طحا بك قلب في الحسان طروب
ويقال : ما أدري أين طحا : أي ذهب ، قاله أبو عمرو ، وفي أيمان العرب لا ، والقمر الطاحي : أي المشرق المرتفع ، ويقال : طحا يطحو طحواً ، ويطحى طحواً . التدسية : الإخفاء ، وأصله دسس فأبدل من ثالث المضاعفات حرف علة ، كما قالوا في القصص نقص ، قال الشاعر : وأنت الذي دسست عمراً فأصبحت
حلائله منه أرامل صيعا
وينشد أيضاً :
ودسست عمراً في التراب
دمدم عليه القبر : أطبقه . وقال مؤرج : الدمدمة : إهلاك باستئصال . وقال في الصحاح : دمدمت الشيء : ألزقته بالأرض وطحطحته .
( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْض(8/472)
" صفحة رقم 473 "
ِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ).
هذه السورة مكية . ولما تقدّم القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها ، أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم والسفلي ، وبما هو آلة التفكر في ذلك ، وهو النفس . وكان آخر ما قبلها مختتماً بشيء من أحوال الكفار في الآخرة ، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا ، وفي ذلك بمآلهم في الآخرة إلى النار ، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل . وتقدم الكلام على ضحى في سورة طه عند قوله : ) وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ). وقال مجاهد : هو ارتفاع الضوء وكماله . وقال مقاتل : حرها لقوله ) وَلاَ تَضْحَى ). وقال قتادة : هو النهار كله ، وهذا ليس بجيد ، لأنه قد أقسم بالنهار . والمعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلاً ، فإذا زاد فهو الضحاء ، بالمد وفتح الضاد إلى الزوال ، وقول مقاتل تفسير باللازم . وما نقل عن المبرد من أن الضحى مشتق من الضح ، وهو نور الشمس ، والألف مقلوبة من الحاء الثانية ؛ وكذلك الواو في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية ، لعله مختلق عليه ، لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا ، وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى .
الشمس : ( 2 ) والقمر إذا تلاها
) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ( ، قال الحسن والفراء : تلاها معناه تبعها دأباً في كل وقت ، لأنه يستضيء منها ، فهو يتلوها لذلك . وقال ابن زيد : يتلوها في الشهر كله ، يتلوها في النصف الأول من الشهر بالطلوع ، وفي الآخر بالغروب . وقال ابن سلام : في النصف الأول من الشهر ، وذلك لأنه يأخذ موضعها ويسير خلفها ، إذا غابت يتبعها القمر طالعاً . وقال قتادة : إنما ذلك البدر ، تغيب هي فيطلع هو . وقال الزجاج وغيره : تلاها معناه : امتلأ واستدار ، وكان لها تابعاً للمنزل من الضياء والقدر ، لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر . وقيل : من أول الشهر إلى نصفه ، في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو ؛ وفي النصف الآخر يتحاوران ، وهو أن تغرب هي فيطلع هو . وقال الزمخشري : تلاها طالعاً عند غروبها أخداً من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر .
الشمس : ( 3 ) والنهار إذا جلاها
) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ( : الظاهر أن مفعول جلاها هو الضمير عائد على الشمس ، لأنه عند انبساط النهار تنجلي الشمس في ذلك الوقت تمام الإنجلاء . وقيل : يعود على الظلمة . وقيل : على الأرض . وقيل : على الدنيا ، والذي يجلي الظلمة هو الشمس أو النهار ، فإنه وإن لم تطلع الشمس لا تبقى الظلمة ، والفاعل بجلاها ضمير النهار . قيل : ويحتمل أن يكون عائداً على الله تعالى ، كأنه قال : والنهار إذا جلى الله الشمس ، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته .
الشمس : ( 4 ) والليل إذا يغشاها
) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( : أي يغشى الشمس ، فبدخوله تغيب وتظلم الآفاق ، ونسبة ذلك إلى الليل مجاز . وقيل : الضمير عائد على الأرض ، والذي تقتضيه الفصاحة أن الضمائر كلها إلى قوله : ) يَغْشَاهَا ( عائدة على الشمس . وكما أن النهار جلاها ، كان النهار هو الذي يغشاها . ولما كانت الفواصل ترتبت على ألف وهاء المؤنث ، أتى ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( بالمضارع ، لأنه الذي ترتب فيه . ولو أتى بالماضي ، كالذي قبله وبعده ، كان يكون التركيب إذا غشيها ، فتفوت الفاصلة ، وهي مقصودة . وقال القفال ما ملخصه : هذه الأقسام بالشمس في الحقيقة بحسب أوصاف أربعة : ضوءها عند ارتفاع النهار وقت انتشار الحيوان ، وطلب المعاش ، وتلو القمر لها بأخذه الضوء ، وتكامل طلوعها وبروزها وغيبوبتها بمجيء الليل .
الشمس : ( 5 - 8 ) والسماء وما بناها
وما في قوله : ) وَمَا بَنَاهَا وَمَا طَحَاهَا وَمَا سَوَّاهَا ( ، بمعنى الذي ، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة ، واختاره الطبري ، قالوا : لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم . وقيل : مصدرية ، قاله قتادة والمبرد والزجاج ، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم .
وقال الزمخشري : جعلت مصدرية ، وليس بالوجه لقوله : ) فَأَلْهَمَهَا ( ، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا ، انتهى .
أما قوله : وليس بالوجه لقوله : ) فَأَلْهَمَهَا ( ، يعني من عود الضمير في ) فَأَلْهَمَهَا ( على الله تعالى ، فيكون قد عاد على مذكور ، وهو ما المراد به(8/473)
" صفحة رقم 474 "
الذي ، ولا يلزم ذلك لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام ؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى ، أي وبناها هو ، أي الله تعالى ، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً فقلت : عجبت مما ضرب عمراً تقديره : من ضرب عمر ؟ وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير ، وقوله : وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك ، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر ، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية ، لأنهما لا يوصف بهما ، بخلاف الذي ، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما ، فلا ينفرد به ما دون من ، وقوله : وفي كلامهم إلخ . تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية .
وقال الزمخشري : فإن قلت : الأمر في نصب إذا معضل ، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين ، وفي نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ؛ وأما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه . قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه ، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً ، كما تقول ؛ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، انتهى . أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار ، أعني أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك . وقوله : فتقع في العطف على عاملين ، ليس ما في الآية من العطف على عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب ، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : امرر بزيد قائماً وعمرو جالساً ؟ وقد أنشد سيبويه في كتابه : فليس بمعروف لنا أن نردها
صحاحاً ولا مستنكران تعقرا
فهذا من عطف مجرور ، ومرفوع على مجرور ومرفوع ، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب ، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ، وهذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : مررت بزيد أمس وعمرو اليوم ، ونحن نجيز هذا . وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل يدل على المنع . قال الخليل : في قوله عز وجل : ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( ، الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء ، انتهى . وأما قوله : إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فليس هذا الحكم مجمعاً عليه ، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : أقسم أو أحلف والله لزيد قائم . وأما قوله : والواوات العواطف نوائب عن هذه الخ ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار .
والذي نقوله : إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام ، كقوله : ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( ، ( وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( ، ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ( ، ( وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( ، وما أشبهها . فإذا ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ، لأنه فعل إنشائي . فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف(8/474)
" صفحة رقم 475 "
أقيم المقسم به مقامه ، أي : وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل . فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزماً ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره : والنجم كائناً إذا هوى ، والليل كائناً إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائناً أن يكون منصوباً بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً . وأيضاً فقد يكون القسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث ، كما لا تكون أخباراً .
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( : اسم جنس ، ويدل على ذلك ما بعده من قوله : ) فَأَلْهَمَهَا ( وما بعده ، وتسويتها : إكمال عقلها ونظرها ، ولذلك ارتبط به ) فَأَلْهَمَهَا ( ، لأن الفاء تقتضي الترتيب على ما قبلها من التسوية التي هي لا تكون إلا بالعقل . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم نكرت النفس ؟ قلت : فيه وجهان : أحدها : أن يريد نفساً خاصة من النفوس ، وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس ، انتهى . وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها ، فلا تكون إلا للجنس . ألا ترى إلى قوله : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( ، كيف تقتضي التغاير في المزكى وفي المدسى ؟ ) فَأَلْهَمَهَا ( ، قال ابن جبير : ألزمها . وقال ابن عباس : عرفها . وقال ابن زيد : بين لها . وقال الزجاج : وفقها للتقوى ، وألهمها فجورها : أي خذلها ، وقيل : عرفها وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى . وقال الزمخشري : ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامها وإعقالها ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( ، فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما . والتزكية : الإنماء ، والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
الشمس : ( 9 - 10 ) قد أفلح من . . . . .
( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( ، قال الزجاج وغيره : هذا جواب القسم ، وحذفت اللام لطول الكلام ، والتقدير : لقد أفلح . وقيل : الجواب محذوف تقديره لتبعثن . وقال الزمخشري : تقديره ليدمدمن الله عليهم ، أي على أهل مكة ، لتكذيبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً . وأما ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( فكلام تابع لقوله : ) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، انتهى . وزكاؤها : ظهورها ونماؤها بالعمل الصالح ، ودساها : أخفاها وحقرها بعمل المعاصي . والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من ، وقاله الحسن وغيره . ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى ، وعاد الضمير مؤنثاً باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث . وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل ، كان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال : ( اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ) . وقال الزمخشري : وأما قول من زعم أن الضمير في زكى ودسى لله تعالى ، وأن تأنيث الراجع إلى من لأنه في معنى النفس ، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون على الله قدراً هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه تعالى ، انتهى . فجرى على عادته في سب أهل السنة . هذا ، وقائل ذلك هو بحر العلم عبد الله بن عباس ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ( وزكها أنت خير من زكاها ) .
وقال تعالى : ) دَسَّاهَا ( في أهل الخير بالرياء وليس منهم ؛ وحين قال : ) وَتَقْوَاهَا ( أعقبه بقوله : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ). ولما قال : ) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( ، أعقبه بأهل الجنة .
الشمس : ( 11 ) كذبت ثمود بطغواها
ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه ، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم . ) بِطَغْوَاهَا ( : الباء عند الجمهور سببية ، أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها . وقال ابن عباس : الطغوى هنا العذاب ، كذبوا به حتى نزل بهم لقوله : ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ ). وقرأ الجمهور : ) بِطَغْوَاهَا ( بفتح الطاء ، وهو مصدر من الطغيان ، قلبت فيه الياء واواً فصلاً بين الاسم وبين الصفة ، قالوا فيها صرنا وحدنا ، وقالوا في الاسم تقوى وشروي . وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة : بضم الطاء ، وهو مصدر كالرجعى ، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا ، لكنهم شذوا فيه . ) إِذِ انبَعَثَ ( : أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص ، والناصب لإذ ) كَذَّبَتْ ( ،
الشمس : ( 12 ) إذ انبعث أشقاها
و ) أَشْقَاهَا ( : قدار بن سالف ، وقد يراد به الجماعة ، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عنى به جمع . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة ،(8/475)
" صفحة رقم 476 "
والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها ، انتهى . فأطلق الإضافة ، وكان ينبغي أن يقول : إلى معرفة ، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك إلا أن يكون مفرداً مذكراً ، كحاله إذا كان بمن . والظاهر أن الضمير في ) لَهُمْ ( عائد على أقرب مذكور وهو ) أَشْقَاهَا ( إذا أريد به الجماعة ، ويجوز أن يعود على ) ثَمُودُ ).
الشمس : ( 13 ) فقال لهم رسول . . . . .
( رَّسُولٍ ( : هو صالح عليه السلام . وقرأ الجمهور : ) نَاقَةُ اللَّهِ ( بنصب التاء ، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله ، لأنه قد عطف عليه ، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر ، كقولك : الأسد الأسد ، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك .
الشمس : ( 14 ) فكذبوه فعقروها فدمدم . . . . .
( فَكَذَّبُوهُ ( ، الجمهور على أنهم كانوا كافرين ، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحاً بمدة ، ثم كذبوا وعقروا ، وأسند العقر للجماعة لكونهم راضين به ومتمالئين عليه . وقرأ الجمهور : ) فَدَمْدمَ ( بميم بعد دالين ؛ وابن الزبير : قد هدم بهاء بينهما ، أي أطبق عليهم العذاب مكرراً ذلك عليهم ، ( بِذَنبِهِمْ ( : فيه تخويف من عاقبة الذنوب ، ( فَسَوَّاهَا ( ، قيل : فسوى القبيلة في الهلاك ، عاد عليها بالتأنيث كما عاد في ) بِطَغْوَاهَا ). وقيل : سوى الدمدمة ، أي سواها بينهم ، فلم يفلت منهم صغيراً ولا كبيراً .
الشمس : ( 15 ) ولا يخاف عقباها
وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر : فلا يخاف بالفاء ؛ وباقي السبعة ولا بالواو ؛ والضمير في يخاف الظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو ربهم ، أي لأدرك عليه تعالى في فعله بهم لا يسئل عما يفعل ، قاله ابن عباس والحسن ، وفيه ذم لهم وتعقبه لآثارهم . وقيل : يحتمل أن يعود على صالح ، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم ، إذ كان قد أنذرهم وحذرهم . ومن قرأ : ولا يحتمل الضمير الوجهين . وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي : الواو واو الحال ، والضمير في يخاف عائد على ) أَشْقَاهَا ( ، أي انبعث لعقرها ، وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه ، والعقبى : خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه ، وهذا فيه بعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها .(8/476)
" صفحة رقم 477 "
92
( سورة الليل )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلاٌّ خِرَةَ وَالاٍّ ولَى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاٌّ شْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الاٌّ تْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاًّحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاٌّ عْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( ) ) 2
) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ).
الليل : ( 1 ) والليل إذا يغشى
هذه السورة مكية . وقال علي بن أبي طلحة : مدنية . وقيل : فيها مدني . ولما ذكر فيما قبلها ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( ، ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما تحصل به الخيبة ، ثم حذر النار وذكر من يصلاها ومن يتجنبها ، ومفعول يغشى محذوف ، فاحتمل أن يكون النهار ، كقوله : ) وَهُوَ الَّذِى مَدَّ ( ، وأن يكون الشمس ، كقوله : ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ). وقيل : الأرض وجميع ما فيها بظلامه .
الليل : ( 2 ) والنهار إذا تجلى
وتجلى : انكشف وظهر ، إما بزوال ظلمة الليل ، وإما بنور الشمس . أقسم بالليل الذي فيه كل حيوان يأوي إلى مأواه ، وبالنهار الذي تنتشر فيه . وقال الشاعر : يجلي السرى من وجهه عن صفيحة
على السير مشراق كثير شحومها
وقرأ الجمهور : ) تَجَلَّى ( فعلاً ماضياً ، فاعله ضمير النهار . وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير : تتجلى بتاءين ، يعني الشمس . وقرىء : تجلى بضم التاء وسكون الجيم ، أي الشمس .
الليل : ( 3 ) وما خلق الذكر . . . . .
( وَمَا خَلَقَ ( : ما مصدرية أو بمعنى الذي ، والظاهر عموم الذكر والأنثى . وقيل : من بني آدم فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته . وقال ابن عباس والكلبي والحسن : هما آدم وحواء . والثابت في مصاحف الأمصار والمتواتر ) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( ، وما ثبت في الحديث من قراءة . والذكر والأنثى : نقل آخاد مخالف للسواد ، فلا يعد قرآناً . وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ : وما خلق الذكر ، بجر الذكر ، وذكرها الزمخشري عن الكسائي ، وقد خرجوه على البدل من على تقدير : والذي خلق الله ، وقد يخرج على توهم المصدر ، أي وخلق الذكر والأنثى ، كما قال الشاعر : تطوف العفاة بأبوابه
كما طاف بالبيعة الراهب(8/477)
" صفحة رقم 478 "
بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر ، رأى كطواف الراهب بالبيعة .
الليل : ( 4 ) إن سعيكم لشتى
) إِنَّ سَعْيَكُمْ ( : أي مساعيكم ، ( لَشَتَّى ( : لمتفرقة مختلفة ،
الليل : ( 5 ) فأما من أعطى . . . . .
ثم فصل هذا السعي . ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ( الآية : روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، كان يعتق ضعفة عبيده الذين أسلموا ، وينفق في رضا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ماله ، وكان الكفار بضدّه . قال عبد الله بن أبي أوفى : نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وأبي سفيان بن حرب . وقال السدّي : نزلت في أبي الدحداح الأنصاري بسبب ما كان يعلق في المسجد صدقة ، وبسبب النخلة التي اشتراها من المنافق بحائط له ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ساوم المنافق في شرائها بنخلة في الجنة ، وذلك بسبب الأيتام الذين كانت النخلة تشرف على بيتهم ، فيسقط منها الشيء فتأخذه الأيتام ، فمنعهم المنافق ، فأبى عليه المنافق ، فجاء أبو الدحداح وقال : يا رسول الله أنا أشتري النخلة التي في الجنة بهذه ، وحذف مفعولي أعطى ، إذ المقصود الثناء على المعطى دون تعرض للمعطى والعطية . وظاهره بذل المال في واجب ومندوب ومكرمة . وقال قتادة : أعطى حق الله . وقال ابن زيد : أنفق ماله في سبيل الله . ) وَاتَّقَى ( ، قال ابن عباس : اتقى الله . وقال مجاهد : واتقى البخل . وقال قتادة : واتقى ما نهي عنه .
الليل : ( 6 ) وصدق بالحسنى
) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ( ، صفة تأنيث الأحسن . فقال ابن عباس وعكرمة وجماعة : هي الحلف في الدنيا الوارد به وعد الله تعالى . وقال مجاهد والحسن وجماعة : الجنة . وقال جماعة : الثواب . وقال السلمي وغيره : لا إله إلا الله .
الليل : ( 7 ) فسنيسره لليسرى
) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ( : أي نهيئة للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة .
الليل : ( 8 - 10 ) وأما من بخل . . . . .
وقابل أعطى ببخل ، واتقى باستغنى ، لأنه زهد فيما عند الله بقوله : ) وَاسْتَغْنَى ( ، ( لِلْعُسْرَى ( ، وهي الحالة السيئة في الدنيا والآخرة . وقال الزمخشري : فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد كقوله : ) يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء ( ، إذ سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر العسرى لأن عاقبتها العسر ، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار ، أي فسنهديهما في الآخرة للطريقين . انتهى ، وفي أول كلامه دسيسة الاعتزال . وجاء ) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى ( على سبيل المقابلة لقوله : ) وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى ( ، والعسرى لا تيسير فيها ، وقد يراد بالتيسير التهيئة ، وذلك يكون في اليسرى والعسرى .
الليل : ( 11 ) وما يغني عنه . . . . .
( وَمَا يُغْنِى ( : يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية ، أي : وأي شيء يغني عنه ماله ؟ ) إِذَا تَرَدَّى ( : تفعل من الرّدى ، أي هلك ، قاله مجاهد ، وقال قتادة وأبو صالح : تردى في جهنم : أي سقط من حافاتها . وقال قوم : تردى بأكفانه ، من الردى ، وقال مالك بن الذئب : وخطا بأطراف الأسنة مضجعي
ورداً على عينيّ فضل ردائيا
وقال آخر : نصيبك مما تجمع الدهر كله
رداءان تلوي فيهما وحنوط
الليل : ( 12 ) إن علينا للهدى
) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ( : التعريف بالسبيل ومنحهم الإدراك ، كما قال تعالى : ) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ). وقال الزمخشري : إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع .
الليل : ( 13 ) وإن لنا للآخرة . . . . .
( وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى ( : أي ثواب الدارين ، لقوله تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ).
الليل : ( 14 ) فأنذرتكم نارا تلظى
وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير : تتلطى بتاءين ، والبزي بتاء مشدّدة ، والجمهور : بتاء واحدة .
الليل : ( 15 - 18 ) لا يصلاها إلا . . . . .
وقال الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ، فقيل : ) الاْشْقَى ( ، وجعل مختصاً بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له . وقال : ) الاْتْقَى ( ، وجعل مختصاً بالنجاة وكأن(8/478)
" صفحة رقم 479 "
الجنة لم تخلق إلا له . وقيل : هما أبو جهل ، أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه . ) يَتَزَكَّى ( ، من الزكاة : أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، لا يريد به رياء ولا سمعة ، أو يتفعل من الزكاة ، انتهى . وقرأ الجمهور : ) يَتَزَكَّى ( مضارع تزكى . وقرأ الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم : بإدغام التاء في الزاي ، ويتزكى في موضع الحال ، فموضعه نصب . وأجاز الزمخشري أن لا يكون له موضع من الإعراب لأنه جعله بدلاً من صلة الذي ، وهو ) يُؤْتَى ( ، قاله : وهو إعراب متكلف ،
الليل : ( 19 ) وما لأحد عنده . . . . .
وجاء ) تُجْزَى ( مبنياً للمفعول لكونه فاصلة ، وكان أصله نجزيه إياها أو نجزيها إياه .
الليل : ( 20 ) إلا ابتغاء وجه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) إِلاَّ ابْتِغَاء ( بنصب الهمزة ، وهو استثناء منقطع لأنه ليس داخلاً في ) مِن نّعْمَةٍ ). وقرأ ابن وثاب : بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع ، وهي لغة تميم ، وأنشد بالوجهين قول بشر بن أبي حازم : أضحت خلاء قفاراً لا أنيس بها
إلا الجآذر والظلمات تختلف
وقال الراجز في الرفع : وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
وقرأ ابن أبي عبلة : ) إِلاَّ ابْتِغَاء ( ، مقصوراً . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء وجه الله مفعولاً له على المعنى ، لأن معنى الكلام لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمه ، انتهى . وهذا أخذه من قول الفراء . قال الفراء : ونصب على تأويل ما أعطيك ابتغاء جزائك ، بل ابتغاء وجه الله .
الليل : ( 21 ) ولسوف يرضى
) وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( : وعد بالثواب الذي يرضاه . وقرأ الجمهور : ) يَرْضَى ( بفتح الياء ، وقرىء : بضمها ، أي يرضى فعله ، يرضاه الله ويجازيه عليه .(8/479)
" صفحة رقم 480 "
93
( سورة الضحى )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاٍّ ولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( ) ) 2
الضحى : ( 3 ) ما ودعك ربك . . . . .
سجا الليل : أدبر ، وقيل : أقبل ، ومنه : يا حبذا القمراء والليل الساج
وطرق مثل ملاء النساج
وبحر ساج : ساكن ، قال الأعشى : وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم
وبحرك ساج لا يوارى الدعامصا
وطرف ساج : غيره مضطرب بالنظر . وقال الفراء : سجا الليل : أظلم وركد . وقال ابن الأعرابي : سجا الليل : اشتد ظلامه .
( وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها ) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى ( ، وكان سيد الأتقين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ذكر تعالى هنا نعمه عليه . وقرأ الجمهور ) مَا وَدَّعَكَ ( بتشديد الدال ؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها ، أي ما تركك . واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر ، وعن اسم فاعلهما بتارك ، وعن اسم مفعولهما بمتروك ، وعن مصدرهما بالترك ، وقد سمع ودع ووذر . قال أبو الأسود : ليت شعري عن خليلي ما الذي
غاله في الحب حتى ودعه
وقال آخر : وثم ودعنا آل عمرو وعامر
فرائس أطراف المثقفة السمر(8/480)
" صفحة رقم 481 "
والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك . ) وَمَا قَلَى ( : ما أبغضك ، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى ، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في ) قَلَى ( ، وفي ) فَاوَى ( وفي ) فَهَدَى ( ، وفي ) فَأَغْنَى ( ، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب ، وهو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو بمكة ، حتى شق ذلك عليه ، فقالت أم جميل ، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك ؟ فنزلت . وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته .
الضحى : ( 4 ) وللآخرة خير لك . . . . .
( وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( : يريد الدارين ، قاله ابن إسحاق وغيره . ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها ، وعده تعالى بالنصر والظفر ، قاله ابن عطية اهتمالاً . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل قوله : ) وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( بما قبله ؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، ولا نعمة أجل منه ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته .
الضحى : ( 5 ) ولسوف يعطيك ربك . . . . .
( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( ، قال الجمهور : ذلك في الآخرة . وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار . وقال أيضاً : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم . وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره ، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر ، ولما ادخر له من الثواب . واللام في ) وَلَلاْخِرَةُ ( لام ابتداء أكدت مضمون الجملة ، وكذا في ) وَلَسَوْفَ ( على إضمار مبتدأ ، أي ولأنت سوف يعطيك .
ولما وعده هذا الموعود الجليل ، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته .
الضحى : ( 6 ) ألم يجدك يتيما . . . . .
( أَلَمْ يَجِدْكَ ( : يعلمك ، ( يَتِيماً ( : توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين ، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين ، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته . وقيل لجعفر الصادق : لم يتم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أبويه ؟ فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق . قال الزمخشري : ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة ، وأن المعنى : ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك ، انتهى . وقرأ الجمهور : ) فَاوَى ( رباعياً ؛ وأبو الأشهب العقيلي : فأوى ثلاثياً ، بمعنى رحم . تقول : أويت لفلان : أي رحمته ، ومنه قول الشاعر : أراني ولا كفران لله أنه
لنفسي قد طالبت غير منيل
الضحى : ( 7 ) ووجدك ضالا فهدى
) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ ( : لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى ، لأن الأنبياء معصومون من ذلك . قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة ، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب . وقيل : ضلاله من حليمة مرضعته . وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ،
الضحى : ( 8 ) ووجدك عائلا فأغنى
ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور : ) وَوَجَدَكَ ( ، أي وجد رهطك ، ( ضَالاًّ ( ، فهداه بك . ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو : ) وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ). وقرأ الجمهور : ) عَائِلاً ( : أي فقيراً . قال جرير : الله نزل في الكتاب فريضة
لابن السبيل وللفقير العائل
كرر لاختلاف اللفظ . وقرأ اليماني : عيّلاً ، كسيّدٍ ، بتشديد الياء المكسورة ، ومنه قول أجيحة بن الحلاج(8/481)
" صفحة رقم 482 "
وما يدري الفقير متى غناه
وما يدري الغني متى يعيل
عال : افتقر ، وأعال : كثر عياله . قال مقاتل : ) فَأَغْنَى ( رضاك بما أعطاك من الرزق . وقيل : أغناك بالقناعة والصبر . وقيل : بالكفاف .
الضحى : ( 9 ) فأما اليتيم فلا . . . . .
ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث ، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها . ) فَلاَ تَقْهَرْ ( ، قال مجاهد : لا تحتقر . وقال ابن سلام : لا تستزله . وقال سفيان : لا تظلمه بتضييع ماله . وقال الفراء : لا تمنعه حقه ، والقهر هو التسليط بما يؤذي . وقرأ الجمهور : ) تَقْهَرْ ( بالقاف ؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي : بالكاف بدل القاف ، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور .
الضحى : ( 10 ) وأما السائل فلا . . . . .
( وَأَمَّا السَّائِلَ ( : ظاهره المستعطي ، ( فَلاَ تَنْهَرْ ( : أي تزجره ، لكن أعطه أو رده رداً جميلاً . وقال قتادة : لا تغلظ عليه ، وهذه في مقابلة ) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( ؛ فالسائل ، كما قلنا : المستعطي ، وقاله الفراء وجماعة . وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما : السائل هنا : السائل عن العلم والدين ، لا سائل المال ، فيكون بإزاء ) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ).
الضحى : ( 11 ) وأما بنعمة ربك . . . . .
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ ( ، قال مجاهد والكلبي : معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به . وقال محمد بن إسحاق : هي النبوة . وقال آخرون : هي عموم في جميع النعم . وقال الزمخشري : التحديث بالنعم : شكرها وإشاعتها ، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك ، انتهى . ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة ، أمره بثلاثة : فذكر اليتيم أولاً وهي البداية ، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل ، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية ، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة ، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة ، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف ، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة ، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف ، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف ، فهما مقصدان في الخطاب .(8/482)
" صفحة رقم 483 "
94
( سورة الانشراح )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِىأَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( ) ) 2
) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ ).
الشرح : ( 1 ) ألم نشرح لك . . . . .
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة . وشرح الصدر : تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه ، قاله الجمهور . والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله تعالى وحده ، واحتمال المكاره من إذاية الكفار . وقال ابن عباس وجماعة : إشارة إلى شق جبريل عليه السلام صدره في وقت صغره ، ودخلت همزة الاستفهام على النفي ، فأفاد التقرير على هذه النعمة وصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك ، ولذلك عطف عليه الماضي وهو وضعنا وهذا نظير قوله : ) أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ ). وقرأ الجمهور : ) نَشْرَحْ ( بجزم الحاء لدخول الحازم . وقرأ أبو جعفر : بفتحها ، وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه ألم نشرحن ، فأبدل من النون ألفاً ، ثم حذفها تخفيفاً ، فيكون مثل ما أنشده أبو زيد في نوادره من قول الراجز : من أي يومي من الموت أفر
أيوم لم يقدر أم يوم قدر
وقال الشاعر : أضرب عنك الهموم طارقها
ضربك بالسيف قونس الفرس
وقال : قراءة مرذولة . وقال الزمخشري : وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور ، وقالوا : لعله بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها ، انتهى . ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله ، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره ، وهي الجزم بلن والنصب بلم عكس المعروف عند الناس . وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد ، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما : قد كان سمك الهدى ينهد قائمه
حتى أتيح له المختار فانعمدا
في كل ما هم أمضى رأيه قدماً ولم يشاور في إقدامه أحدا(8/483)
" صفحة رقم 484 "
الشرح : ( 2 ) ووضعنا عنك وزرك
بنصب يشاور ، وهذا محتمل للتخريجين ، وهو أحسن مما تقدم . ) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ( : كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس ، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك ، كما يقول القائل : رفعت عنك مشقة الزيارة ، لمن لم يصدر منه زيارة ، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه .
الشرح : ( 3 ) الذي أنقض ظهرك
وقال أهل اللغة : أنقض الحمل ظهر الناقة ، إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل ، وسمعت نقيض المرجل : أي صريره . قال عباس بن مرداس : وأنقض ظهري ما تطويت منهم
وكنت عليهم مشفقاً متحننا
وقال جميل : وحتى تداعت بالنقيض حباله
وهمت بوأي زورة أن نحطها
والنقيض : صوت الانقضاض والانفكاك .
الشرح : ( 4 ) ورفعنا لك ذكرك
) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( : هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن ، وفي تسميته نبي الله ورسول الله ، وذكره في كتب الأولين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به . وقال حسان : أغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
الشرح : ( 5 - 6 ) فإن مع العسر . . . . .
وتعديد هذه النعم عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب ، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم . وكان الكفار أيضاً يعيرون المؤمنين بالفقر ، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله : ) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( : أي مع الضيق فرجاً . ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر . ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان ، جعل كأنه معه ، وفي ذلك تبشيراً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بحصول اليسر عاجلاً . والظاهر أن التكرار للتوكيد ، كما قلنا . وقيل : تكرر اليسر باعتبار المحل ، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة . وقيل : مع كل عسر يسر ، إن من حيث أن العسر معرف بالعهد ، واليسر منكر ، فالأول غير الثاني . وفي الحديث : ( لن يغلب عسر يسرين ) . وضم سين العسر ويسراً فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى ، وسكنهما الجمهور .
الشرح : ( 7 ) فإذا فرغت فانصب
ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ووعده بتيسير ما عسره ، أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر . وقال ابن مسعود : ) فَإِذَا فَرَغْتَ ( من فرضك ، ( فَانصَبْ ( في التنفل عبادة لربك . وقال أيضاً : ) فَانصَبْ ( في قيام الليل . وقال مجاهد : قال ) فَإِذَا فَرَغْتَ ( من شغل دنياك ، ( فَانصَبْ ( في عبادة ربك . وقال ابن عباس وقتادة : ) فَإِذَا فَرَغْتَ ( من الصلاة ، ( فَانصَبْ ( في الدعاء . وقال الحسن : ) فَإِذَا فَرَغْتَ ( من الجهاد ، ( فَانصَبْ ( في العبادة . ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة . وقرأ الجمهور : ) فَرَغْتَ ( بفتح الراء ؛ وأبو السمال : بكسرها ، وهي لغة . قال الزمخشري : ليست بفصيحة . وقرأ الجمهور : ) فَانصَبْ ( بسكون الباء خفيفة ، وقوم : بشدها مفتوحة من الأنصاب . وقرأ آخرون من الإمامية : فانصب بكسر الصاد بمعنى : إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة . قال ابن عطية : وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم ، انتهى .
الشرح : ( 8 ) وإلى ربك فارغب
وقرأ الجمهور : ) فَارْغَبْ ( ، أمر من رغب ثلاثياً : أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه . وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة : فرغت ، أمر من رغب بشد الغين .(8/484)
" صفحة رقم 485 "
95
( سورة التين )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاٌّ مِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِىأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( ) ) 2
التين : ( 1 ) والتين والزيتون
التين : هو الفاكهة المعروفة ، واسم جبل ، وتأتي أقوال المفسرين فيه .
( وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال ابن عباس وقتادة : مدنية . ولما ذكر فيما قبلها من كمله الله خلقاً وخلقاً وفضله على سائر العالم ، ذكر هنا حالة من يعاديه ، وأنه يرده أسفل سافلين في الدنيا والآخرة ، وأقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق ، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة . والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم ، وفي الحديث : ( مدح التين وأنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ) ، وقال تعالى : ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء ( ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي . وقال كعب وعكرمة : أقسم تعالى بمنابتهما ، فإن التين ينبت كثيراً بدمشق ، والزيتون بإيليا ، فأقسم بالأرضين . وقال قتادة : هما جبلان بالشام ، على أحدهما دمشق وعلى الآخر بيت المقدس ، انتهى . وفي شعر النابغة ذكر التين وشرح بأنه جبل مستطيل . قال النابغة : صهب الظلال أبين التين عن عرض
يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبها
وقيل : هما مسجدان ، واضطربوا في مواضعهما اضطراباً كثيراً ضربنا عن ذلك صفحاً .
التين : ( 2 ) وطور سينين
ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام ، وهو الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه . ومعنى ) سِينِينَ ( : ذو الشجر . وقال عكرمة : حسن مبارك . وقرأ الجمهور : ) سِينِينَ ( ؛ وابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء : بفتح السين ، وهي لغة بكر وتميم . قال(8/485)
" صفحة رقم 486 "
الزمخشري : ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب ، انتهى . وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن : سيناء بكسر السين والمد ؛ وعمر أيضاً وزيد بن علي : بفتحها والمد ، وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب . وقال الأخفش : سينين : شجر واحده سينينة .
التين : ( 3 ) وهذا البلد الأمين
) وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ ( : هو مكة ، وأمين للمبالغة ، أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان ، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين ، وأمانته حفظه من دخله ولا ما فيه من طير وحيوان ، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين ، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه . ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل . كما وصف بالآمن في قوله : ) حَرَماً ءامِناً ( بمعنى ذي أمن . ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين . فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام ومولد عيسى ومنشأه ، والطور هو المكان الذي نودي عليه موسى عليه السلام ، ومكة مكان مولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين .
التين : ( 4 ) لقد خلقنا الإنسان . . . . .
( فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ، قال النخعي ومجاهد وقتادة : حسن صورته وحواسه . وقيل : انتصاب قامته . وقال أبو بكر بن طاهر : عقله وإدراكه زيناه بالتمييز . وقال عكرمة : شبابه وقوته ، والأولى العموم في كل ما هو أحسن . والإنسان هنا اسم جنس ، وأحسن صفة لمحذوف ، أي في تقويم أحسن .
التين : ( 5 - 6 ) ثم رددناه أسفل . . . . .
( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( ، قال عكرمة والضحاك والنخعي : بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئاً . أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع ، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا ، بل في الجنس من يعتريه ذلك . وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضاً : ) أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( في النار على كفره ، ثم استثنى استثناء متصلاً . وقرأ الجمهور : سافلين منكراً ؛ وعبد الله : السافلين معرفاً بالألف واللام . وأخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتفاء ألفاظه فقال : في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه ، ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية ، إذ رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً ، يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار . وأسفل من سفل من أهل الدركات . أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل ، حيث نكسناه في خلقه ، فقوس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن جلده وكان بضاً ، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين ، وتغير كل شيء فيه ، فمشيه دلف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف ، . انتهى ، وفيه تكثير . وعلى أن ذلك الرد هو إلى الهرم ، فالمعنى : ولكن الصالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم . وفي الحديث : ( إذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة ) ، وفيه أيضاً : ( أن المؤمن إذا رد لأرذل العمر كتب له ما كان يعمل في قوته ) ، وذلك أجر غير ممنون وممنوع مقطوع ، أي محسوب يمن به عليهم .
التين : ( 7 ) فما يكذبك بعد . . . . .
والخطاب في ) فَمَا يُكَذّبُكَ ( للإنسان الكافر ، قاله الجمهور ، أي ما الذي يكذبك ، أي يجعلك مكذباً بالدين تجعل لله أنداداً وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل ؟ وقال قتادة والأخفش والفراء : قال الله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : فإذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي توجب النظر فيها صحة ما قلت .
التين : ( 8 ) أليس الله بأحكم . . . . .
( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( : وعيد للكفار وإخبار بعدله تعالى .(8/486)
" صفحة رقم 487 "
96
( سورة العلق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاٌّ كْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا(8/487)
" صفحة رقم 488 "
لَمْ يَعْلَمْ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( )
العلق : ( 1 ) اقرأ باسم ربك . . . . .
السفع ، قال المبرد : الجذب بشدة ، وسفع بناصية فرسه : جدب ، قال عمرو بن معد يكرب : قوم إذا كثر الصياح رأيتهم
من بين ملجم مهره أو سافع
وقال مؤرج : معناه الأخذ بلغة قريش ، النادي والندى : المجلس ، ومنه قول الأعرابية : سيد ناديه وثمال عافيه ، وقال زهير : وفيهم مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل
الزبانية : ملائكة العذاب ، فقيل : جمع لا واحد له من لفظه ، كعباديد . وقيل : واحدهم زبنية على وزن حدرية وعفرية ، قاله أبو عبيدة . وقال الكسائي : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ثم غير للنسب ، كقولهم : أنسي وأصله زباني . قال عيسى بن عمرو الأخفش : واحدهم زابن ، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه ، ومنه قول الشاعر : ومستعجب مما يرى من أناتنا
ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وقال عتبة بن أبي سفيان : وقد زنبتنا الحرب وزبناها .
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ).
هذه السورة مكية ، وصدرها أول ما نزل من القرآن ، وذلك في غار حراء على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره . وقول جابر : أول ما نزل المدثر . وقول أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل : أول ما نزل الفاتحة لا يصح . وقال الزمخشري ، عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت ، وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم ، انتهى . ولما ذكر فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك ، ذكره هنا منبهاً على شيء من أطواره ، وذكر نعمته عليه ، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك وما يؤل إليه حاله في الآخرة .
وقرأ الجمهور : ) اقْرَأْ ( بهمزة ساكنة ؛ والأعشى ، عن أبي بكر ، عن عاصم : بحذفها ، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول : قرأ يقرا ، كسعى يسعى . فلما أمر منه قيل : اقر بحذف الألف ، كما تقول : اسع ، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة ، ومفعول اقرأ محذوف ، أي اقرأ ما يوحى إليك . وقيل : ) بِاسْمِ رَبّكَ ( هو المفعول وهو المأمور بقراءته ، كما تقول : اقرأ الحمد لله . وقيل : المعنى اقرأ في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم . وقال الأخف 5 : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم الله ، كما قالوا في قوله : ) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ ( ، أي على اسم الله . وقيل : المعنى اقرأ القرآن مبتدئاً باسم ربك . وقال الزمخشري : محل باسم ربك النصب على الحال ، أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل بسم الله ثم اقرأ ، انتهى . وهذا قاله قتادة . المعنى : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك . وقال أبو عبيدة : الباء صلة ، والمعنى اذكر ربك . وقال أيضاً : الاسم صلة ، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه . وجاء باسم ربك ، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك . وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس ، أي ليس لك رب غيره . ثم جاء بصفة الخالق ، وهو المنشىء للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أرباً . أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها ، ولم يذكر متعلق الخلق أولاً ، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق ، فاقتصر أو حذف ، إذ معناه خلق كل شيء .
ثم ذكر خلق الإنسان ، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه ، وهو أشرف . قال الزمخشري : أشرف ما على الأرض ، وفيه دسيسة أن الملك أشرف . وقال : ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان ، كما قال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ( ؛ فقيل : الذي خلق مبهماً ،
العلق : ( 2 ) خلق الإنسان من . . . . .
ثم فسره بقوله : خلق تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته ، انتهى . والإنسان هنا اسم جنس ، والعلق جمع علقة ، فلذلك جاء من علق ، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به ، ولم يذكر أصلهم آدم ، لأنه ليس متقرراً عند الكفار فيسبق الفرع ، وترك أصل الخلقة تقريباً لأفهامهم .
العلق : ( 3 - 5 ) اقرأ وربك الأكرم
ثم جاء الأمر ثانياً تأنيساً له ، كأنه قيل : امض لما أمرت به ، وربك ليس مثل هذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص . والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم ، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى ، ويحلم على الجاني ، ويقبل التوبة ، ويتجاوز عن السيئة . وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال : ) الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( ، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو . وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به . ولبعضهم في الأقلام : ورواقم رقش كمثل أراقم
قطف الخطانيا له أقصى المدى
سود القوائم ما يجد مسيرها
إلا إذا لعبت بها بيض المدى(8/488)
" صفحة رقم 489 "
انتهى . من كلام الزمخشري . ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى : الأكرم ، والرشيد ، وفخر السعداء ، وسعيد السعداء ، والشيخ الرشيد ، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها . يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال ، ومفعولا علم محذوفان ، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى . وقدر بعضهم ) الَّذِى عَلَّمَكُمُ ( الخط ، ( بِالْقَلَمِ ( : وهي قراءة تعزى لابن الزبير ، وهي عندي على سبيل التفسير ، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف . والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم . وقال الضحاك : إدريس ، وقيل : آدم لأنه أول من كتب . والإنسان في قوله : ) عَلَّمَ الإِنسَانَ ( ، الظاهر أنه اسم الجنس ، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها . وقيل : الرسول عليه الصلاة والسلام .
العلق : ( 6 ) كلا إن الإنسان . . . . .
( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ( : نزلت بعد مدة في أبي جهل ، ناصب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) العداوة ، ونهاه عن الصلاة في المسجد ؛ فروي أنه قال : لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه . فيروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رد عليه وانتهره وتوعده ، فقال أبو جهل : أيتوعدني محمد والله ما بالوادي أعظم نادياً مني . ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة ، فكف عنه . ) كَلاَّ ( : ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه ، ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ( : أي يجاوز الحد ،
العلق : ( 7 ) أن رآه استغنى
) أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( : الفاعل ضمير الإنسان ، وضمير المفعول عائد عليه أيضاً ، ورأى هنا من رؤية القلب ، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول : رأيتني صديقك ، وفقد وعدم بخلاف غيرها ، فلا يجوز : زيد ضربه ، وهما ضميرا زيد . وقرأ الجمهور : ) أَن رَّءاهُ ( بألف بعد الهمزة ، وهي لام الفعل ؛ وقيل : بخلاف عنه بحذف الألف ، وهي رواية ابن مجاهد عنه ، قال : وهو غلط لا يجوز ، وينبغي أن لا يغلطه ، بل يتطلب له وجهاً ، وقد حذفت الألف في نحو من هذا ، قال :
وصاني العجاج فيما وصني
يريد : وصاني ، فحذف الألف ، وهي لام الفعل ، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم : أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة ، وهو حذف لا ينقاس ؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله ، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها .
العلق : ( 8 ) إن إلى ربك . . . . .
( إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى ( : أي الرجوع ، مصدر على وزن فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وفيه وعيد للطاغي المستغني ، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه .
العلق : ( 9 - 10 ) أرأيت الذي ينهى
) أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( : تقدم أنه أبو جهل . قال ابن عطية : ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل ، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، انتهى . وفي الكشاف ، وقال الحسن : هو أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة . وقال التبريزي : المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر . قيل : هي أول جماعة أقيمت في الإسلام ، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين ، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر ، فقال له : صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً ، وأنشأ أبو طالب يقول : إن علياً وجعفراً ثقتي
عند ملم الزمان والكرب
والله لا أخذل النبي ولا
يخذله من يكون من حسبي
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
أخي لأمّي من بينهم وأبي
ففرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك . والخطاب في ) أَرَأَيْتَ ( الظاهر أنه للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكذا ) أَرَأَيْتَ ( الثاني ، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم . وقيل : ) أَرَأَيْتَ ( خطاب للكافر التفت إلى الكافر
العلق : ( 11 - 14 ) أرأيت إن كان . . . . .
فقال : أرأيت يا كافر ، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمراً بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك ؟ والضمير في ) إِن كَانَ ( ، وفي ) أَن كَذَّبَ ( عائد على الناهي . قال الزمخشري : ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، وكان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب(8/489)
" صفحة رقم 490 "
للحق والتولي عن الدّين الصحيح ، كما نقول نحن .
( أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة ، فيجازيه على حسب ذلك ، وهدا وعيد ، انتهى . وقال ابن عطية : الضمير في ) إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى ( عائد على المصلي ، وقاله الفراء وغيره . قال الفراء : المعنى ) أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( ، وهو على الهدى وأمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الذكر ، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله ؟ فهذا تقرير وتوبيخ ، انتهى . وقال : من جعل الضمير في ) إِن كَانَ ( عائداً على المصلي ، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى ، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر أن : الصلاة والدعاء إلى الله تعالى ، ولأنه كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يوجد إلا في أمرين : إصلاح نفسه بفعل الصلاة ، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى . وقال ابن عطية : ) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( : إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها ، يجاء بها في نسق . ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصاراً واقتضاباً ، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها ، وألم يعلم دال عليها مغن .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما متعلق ) أَرَأَيْتَ ( ؟ قلت : ) الَّذِى يَنْهَى ( مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين . فإن قلت : فأين جواب الشرط ؟ قلت : هو محذوف تقديره : ) إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ( ، ( أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : فكيف صح أن يكون ) أَلَمْ يَعْلَم ( جواباً للشرط ؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني ؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه ؟ فإن قلت : فما ) أَرَأَيْتَ ( الثانية وتوسطها بين مفعولي ) أَرَأَيْتَ ( ؟ قلت : هي زائدة مكررة للتوكيد ، انتهى .
وقد تكلمنا على أحكام ) أَرَأَيْتَ ( بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام ، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل . وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه ، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد ، والموصول هو الآخر ، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية ، كقوله : ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ ( ، ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ( ، ( أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ تَخْلُقُونَهُ أَم ( ، وهو كثير في القرآن ، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون ، ويجعل مفعول ) أَرَأَيْتَ ( الأولى هو الموصول ، وجاء بعده ) أَرَأَيْتَ ( ، وهي تطلب مفعولين ، وأرأيت الثانية كذلك ؛ فمفعول ) أَرَأَيْتَ ( الثانية والثالثة محذوف يعود على ) الَّذِى يَنْهَى ( فيهما ، أو على ) عَبْداً ( في الثانية ، وعلى ) الَّذِى يَنْهَى ( في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير ، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب ، فنقول : حذف المفعول الثاني لأرأيت ، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه . حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه . وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول ، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر . وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع ، لأن الجمل لا يصح إضمارها ، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع . وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء ، فلا أعلم أحداً أجازه ، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر .
العلق : ( 15 ) كلا لئن لم . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله . ) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ( عن ما هو فيه ، وعيد شديد ) لَنَسْفَعاً ( : أي لنأخذن ، ( بِالنَّاصِيَةِ ( : وعبر بها عن جميع الشخص ، أي سحباً إلى النار لقوله : ) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ( ، واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة ، إذ علم أنها ناصية الناهي . وقرأ الجمهور : بالنون الخفيفة ، وكتبت بالألف باعتبار الوقف ، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفاً ، وكثر ذلك حتى صارت روياً ، فكتبت ألفاً كقوله :
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
وقال آخر :
بحسبه الجاهل ما لم يعلما(8/490)
" صفحة رقم 491 "
ومحبوب وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : بالنون الشديدة . وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس ، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد . وقال التبريزي : قيل : أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد ، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة .
العلق : ( 16 ) ناصية كاذبة خاطئة
وقرأ الجمهور : ) نَاصِيَةٍ خَاطِئَةٍ ( ، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة . قال الزمخشري : لأنها وصفت فاستقبلت بفائدة ، انتهى . وليس شرطاً في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافاً لمن شرط ذلك من غيرهم ، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضاً خلافاً لزاعمه . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي : بنصب الثلاثة على الشتم ؛ والكسائي في رواية : برفعها ، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة ، وصفها بالكذب والخطأ مجازاً ، والحقيقة صاحبها ، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال : ناصية كاذب خاطىء ، لأنها هي المحدث عنها في قوله : ) لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ).
العلق : ( 17 ) فليدع ناديه
) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ( : إشارة إلى قول أبي جهل : وما بالوادي أكبر نادياً مني ، والمراد أهل النادي . وقال جرير :
لهم مجلس صهب السبال أذلة
أي أهل مجلس ، ولذلك وصف بقوله : صهب السبال أذلة ، وهو أمر تعجبي ، أي لا يقدره الله على ذلك ، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عياناً .
العلق : ( 18 ) سندع الزبانية
وقرأ الجمهور : ) سَنَدْعُ ( بالنون مبنياً للفاعل ، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن أبي عبلة : سيدعى مبنياً للمفعول الزبانيه رفع .
العلق : ( 19 ) كلا لا تطعه . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع لأبي جهل ، ورد عليه في : ) لاَ تُطِعْهُ ( : أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه . ) وَاسْجُدْ ( : أمر له بالسجود ، والمعنى : دم على صلاتك ، وعبر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى ، ( وَاقْتَرِب ( : وتقرب إلى ربك . وثبت في الصحيحين سجود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( ، وفي هذه السورة ، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه .(8/491)
" صفحة رقم 492 "
97
( سورة القدر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( ) ) 2
) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).
القدر : ( 1 ) إنا أنزلناه في . . . . .
هذه السورة مدنية في قول الأكثر . وحكى الماوردي عكسية . وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة . وفي الحديث : ( أن أربعة عبدوا الله تعالى ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين : أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع ) ، فعجب الصحابة من ذلك ، فقرأ : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( السورة ، فسروا بذلك . ومناسبتها لما قبلها ظاهر . لما قال : ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( ، فكأنه قال : اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا ، ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( ، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى ، وهو ضمير القرآن . قال ابن عباس وغيره : أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نجمه على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في عشرين سنة . وقال الشعبي وغيره : إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر . وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان . وقيل المعنى : إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها . ولما كانت السورة من القرآن ، جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً ، فليست ليلة القدر ظرفاً للنزول ، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه : لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن . وقول عائشة : لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن . وقال الزمخشري : عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصاً به ، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وسميت ليلة القدر ، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله ، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما . وقال الزهري : معناه ليلة القدر العظيم والشرف ، وعظم الشأن من قولك : رجل له قدر . وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ، وترده عظيماً عند الله تعالى . وقيل : سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر . وقيل : لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، لأمة ذات قدر . وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر . وقيل : لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين . وقال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : ) وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( ، أي ضيق . وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافاً متعارضاً جداً ، وبعضهم قال : رفعت ، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع ، وأن العشر الأخير تكون فيه ، وأنها في أوتاره ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة ) . وفي الصحيح : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
القدر : ( 2 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( : تفخيم لشأنها ، أي(8/492)
" صفحة رقم 493 "
لم تبلغ درايتك غاية فضلها ، ثم بين له ذلك . قال سفيان بن عيينة : ما كان في القرآن ) وَمَا أَدْرَاكَ ( ، فقد أعلمه ، وما قال : وما يدريك ، فإنه لم يعلمه . قيل : وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها .
القدر : ( 3 ) ليلة القدر خير . . . . .
والظاهر أن ) أَلْفِ شَهْرٍ ( يراد به حقيقة العدد ، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام . والحسن : في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور ، والمراد : ) خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( عار من ليلة القدر ، وعلى هذا أكثر المفسرين . وقال أبو العالية : ) خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( : رمضان لا يكون فيها ليلة القدر . وقيل : المعنى خير من الدهر كله ، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها ، قال تعالى : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ( ، يعني جميع الدهر . وعوتب الحسن بن عليّ على تسليمه الأمر لمعاوية فقال : إن الله تعالى أرى في المنام نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بني أمية ينزون على مقبرة نزو القردة ، فاهتم لذلك ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وهي خير من مدة ملوك بني أمية ، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان . قال القاسم بن الفضل الجذامي : فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً . وخرج قريباً من معناه الترمذي وقال : حديث غريب ، انتهى . وقيل : آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان ، ولا يعارض هذا تملك بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه ، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم . وذكر أيضاً في تخصيص هذه المدة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي . وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر ، فأعطوا ليلة ، إن أحيوها ، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد . وقال أبو بكر الوراق : ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة ، فصار ألف شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما .
القدر : ( 4 ) تنزل الملائكة والروح . . . . .
( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ( : تقدم الخلاف في الروح ، أهو جبريل ، أم رحمة ينزل بها ، أم ملك غيره ، أم أشرف الملائكة ، أم جند من غيرهم ، أم حفظة على غيرهم من الملائكة ؟ والتنزل إما إلى الأرض ، وإما إلى سماء الدنيا . ) بِإِذْنِ رَبّهِمْ ( : متعلق بتنزل ) مّن كُلّ أَمْرٍ ( : متعلق بتنزل ومن للسبب ، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل .
القدر : ( 5 ) سلام هي حتى . . . . .
( وَسَلَامٌ ( : مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي ، أي هي سلام إلى أول يومها ، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء ، وهذا على قول من قال : إن تنزلهم التقدير : الأمور لهم . وقال أبو حاتم : من بمعنى الباء ، أي بكل أمر ؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي : من كل امرىء ، أي من أجل كل إنسان . وقيل : يراد بكل امرىء الملائكة ، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة . وأنكر هذا القول أبو حاتم . ) سَلَامٌ هِىَ ( : أي هي سلام ، جعلها سلاماً لكثرة السلام فيها . قيل : لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة . وقال منصور والشعبي : سلام بمعنى التحية ، أي تسلم الملائكة على المؤمنين . ومن قال : تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة ، جعل الكلام تاماً عند قوله : ) بِإِذْنِ رَبّهِمْ ). وقال : ) مّن كُلّ أَمْرٍ ( متعلق بقوله : ) سَلَامٌ هِىَ ( ، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام . وقال مجاهد : لا يصيب أحداً فيها داء . وقال صاحب اللوامح : وقيل معناه هي سلام من كل أمر ، وأمري سالمة أو مسلمة منه ، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر . كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول ، انتهى .
وعن ابن عباس : تم الكلام عند قوله : ) سَلَامٌ ( ، ولفظة ) هِىَ ( إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر ، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة ، انتهى . ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس ، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى . وقرأ الجمهور : ) مَطْلِعَ ( بفتح اللام ؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو : بخلاف عنه بكسرها ، فقيل : هما مصدران في لغة بني تميم . وقيل : المصدر بالفتح ، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز .(8/493)
" صفحة رقم 494 "
98
( سورة البينة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ( ) ) 2
) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَةُ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ).
البينة : ( 1 ) لم يكن الذين . . . . .
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية ، قاله ابن عطية . وفي كتاب التحرير : مدنية ، وهو قول الجمهور . وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية ، واختاره يحيى بن سلام . ولما ذكر إنزال القرآن ، وفي السورة التي قبلها ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( ، ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها ، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك . وقرأ بعض القراء : والمشركون رفعاً عطفاً على ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ). والجمهور : بالجر عطفاً على ) أَهْلِ الْكِتَابِ ( ، وأهل الكتاب واليهود والنصارى ، والمشركون عبدة الأوثان من العرب . وقال ابن عباس : أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينة وحولها .
قال مجاهد وغيره : لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة . وقال الفراء وغيره : لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة ، فتفرقوا عند ذلك . وقال الزمخشري : كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث : لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فحكى الله ما كانوا يقولونه . وقال ابن عطية : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أنه يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ، انتهى . وقيل : لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة . والظاهر أن المعنى : لم يكونوا منفكين ، أي منفصلاً بعضهم من بعض ، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه ، هذا من اعتقاده في شريعته ، وهذا من اعتقاده في أصنامه ، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم(8/494)
" صفحة رقم 495 "
واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة .
وقيل : معنى منفكين : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وأن ينفصل فلا يلتئم ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، انتهى . ومنفكين اسم فاعل من انفك ، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر . وقال بعض النحاة : هي الناقصة ، ويقدر منفكين : عارفين أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو نحو هذا ، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، نص على ذلك أصحابنا ، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو ، وقالوا في قوله : حين ليس مجير ، أي في الدنيا ، فحذف الخبر أنه ضرورة ، والبينة : الحجة الجليلة .
البينة : ( 2 - 3 ) رسول من الله . . . . .
وقرأ الجمهور : ) رَّسُولٍ ( بالرفع بدلاً من ) الْبَيّنَةُ ( ، وأبيّ وعبد الله : بالنصب حالاً من البينة . ) يَتْلُو صُحُفاً ( : أي قراطيس ، ( مُّطَهَّرَةٍ ( من الباطل . ) فِيهَا كُتُبٌ ( : مكتوبات ، ( قَيّمَةٌ ( : مستقيمة ناطقة بالحق .
البينة : ( 4 ) وما تفرق الذين . . . . .
( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( : أي من المشركين ، وانفصل بعضهم من بعض فقال : كل ما يدل عنده على صحة قوله . ) إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَةُ ( : وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها . وقال الزمخشري : كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أيضاً : أفرد أهل الكتاب ، يعني في قوله : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( بعد جمعهم والمشركين ، قيل : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه ، كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف . والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقاً ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر . وقال : ليس به ومنهم من عرف وعاند . وقال ابن عطية : ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته ، فلما جاء من العرب حسدوه ، انتهى .
البينة : ( 5 ) وما أمروا إلا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مُخْلِصِينَ ( بكسر اللام ، والدين منصوب به ؛ والحسن : بفتحها ، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم . وانتصب ) الدّينِ ( ، إما على المصدر من ) لِيَعْبُدُواْ ( ، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين ، وإما على إسقاط في ، أي في الدين ، والمعنى : وما أمروا ، أي في كتابيهما ، بما أمروا به إلا ليعبدوا . ) حُنَفَاء ( : أي مستقيمي الطريقة . وقال محمد بن الأشعب الطالقاني : القيمة هنا : الكتب التي جرى ذكرها ، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة ، كانت الألف واللام في القيمة للعهد ، كقوله تعالى : ) كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ). وقرأ عبد الله : وذلك الدين القيمة ، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة ، أو أنث ، على أن عنى بالدين الملة ، كقوله : ما هذه الصوت ؟ يريد : ما هذه الصيحة :
البينة : ( 6 ) إن الذين كفروا . . . . .
وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء ، والبرية : جميع الخلق . وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع : البرئة بالهمز من برأ ، بمعنى خلق . والجمهور : بشد الياء ، فاحتمل أن يكون أصله الهمز ، ثم سهل بالإبدال وأدغم ، واحتمل أن يكون من البراء ، وهو التراب . قال ابن عطية : وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ ، وهو اشتقاق غير مرضي ، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا ، وهو التراب ، فلا يجعله خطأ ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ ، وغير الهمز من البرا ؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو : أو ننساها أو ننسها ، فهو اشتقاق مرضي . وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية ، وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته ، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به ، وشر البرية ظاهره العموم . وقيل : ) شَرُّ الْبَرِيَّةِ ( : الذين عاصروا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم هو شر من هؤلاء ، كفرعون وعاقر ناقة صالح .
البينة : ( 7 ) إن الذين آمنوا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ( مقابل ) شَرُّ الْبَرِيَّةِ ( ؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد : خيار البرية جمع خير ، كجيد وجياد . وبقية السورة واضحة ، وتقدم شرح ذلك إفراداً وتركيباً .(8/495)
" صفحة رقم 496 "
99
( سورة الزلزلة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا زُلْزِلَتِ الاٌّ رْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ( ) ) 2
الزلزلة : ( 1 ) إذا زلزلت الأرض . . . . .
الذرّة : النملة صغيرة حمراء رقيقة ، ويقال : إنها أصغر ما تكون إذا مضى لها حول . وقال امرؤ القيس : ومن القاصرات الطرف لودب محول
من الذّر فوق الأتب منها لأثرا
وقيل : الذرّ : ما يرى في شعاع الشمس من الهباء .
( إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ).
هذه السورة مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، مدنية في قول قتادة ومقاتل ، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة . ولما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار ، وجزاء المؤمنين ، فكأن قائلاً قال : متى ذلك ؟ فقال : ) إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ). قيل : والعامل فيها مضمر ، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره : تحشرون . وقيل : اذكر . وقال الزمخشري : تحدث ، انتهى . وأضيف الزلزال إلى الأرض ، إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها ، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل ؛ والفرق بين أكرمت زيداً كرامة وكرامته واضح . وقرأ الجمهور : ) زِلْزَالَهَا ( بكسر الزاي ؛ والجحدري وعيسى : بفتحها . قال ابن عطية : وهو مصدر كالوسواس . وقال الزمخشري : المكسور مصدر ، والمفتوح اسم ، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف ، انتهى . أما قوله : والمفتوح اسم ، فجعله غيره مصدراً جاء على فعلال بالفتح . ثم قيل : قد يجيء بمعنى اسم الفاعل ، فتقول : فضفاض في معنى مفضفض ، وصلصال : في معنى مصلصل . وأما قوله : وليس في الأبنية الخ ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف ، قالوا : ناقة بها خزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف .
الزلزلة : ( 2 ) وأخرجت الأرض أثقالها
) وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( : جعل ما في بطنها أثقالاً . وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد : أثقالها : كنوزها وموتاها . ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال ، لا يوم القيامة ، وقائل ذلك يقول : هو الزلزال يكون في الدنيا ، وهو من أشراط الساعة ، وزلزال : يوم القيامة ، كقوله(8/496)
" صفحة رقم 497 "
) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ، فلا يرد عليه بذلك ، إذ قد أخذ الزلزال عاماً باعتبار وقتيه . ففي الأول أخرجت كنوزها ، وفي الثاني أخرجت موتاها ، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها . وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله ) تُلْقِىَ الاْرْضِ ( أمثال الأسطوان من الذهب والفضة . وقال ابن عباس : موتاها ، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية ، فهو زلزال يوم القيامة ، لا الزلزال الذي هو من الأشراط .
الزلزلة : ( 3 ) وقال الإنسان ما . . . . .
( أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ( : يعني معنى التعجب لما يرى من الهول ، والظاهر عموم الإنسان . وقيل : ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة ، والمؤمن ، وإن كان مؤمناً بالبعث ، فإنه استهول المرأى . وفي الحديث : ( ليس الخبر كالعيان ) . قال الجمهور : الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن .
الزلزلة : ( 4 ) يومئذ تحدث أخبارها
) يَوْمَئِذٍ ( : أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث ، ويومئذ بدل من إذا ، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه ، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل . ) تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا ( : الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً ، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد ، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما . ويشهد له ما جاء في الحديث : ( بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة ) ، وما جاء في الترمذي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قرأ هذه الآية ثم قال : ( أتدرون ما أخبارها ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : ( إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا ، قال فهذه أخبارها ) . هذا حديث حسن صحيح غريب .
قال الطبري : وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان ، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال ، فيعلم لم زلزلت ، ولم لفظت الأموات ، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه . وقال يحيى بن سلام : تحدث بما أخرجت من أثقالها ، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة . وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة : يا رب هذا ما استودعتني ) . وعن ابن مسعود : تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها ، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك جواباً لهم عند سؤالهم . وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف ، أي تحدث الناس ، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة .
الزلزلة : ( 5 ) بأن ربك أوحى . . . . .
( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( : أي بسبب إيحاء الله ، فالباء متعلقة بتحدث . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها ، كما تقول : نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين . انتهى ، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه . وقال أيضاً : ويجوز أن يكون ) بِأَنَّ رَبَّكَ ( بدلاً من ) أَخْبَارَهَا ( ، كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها ، لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا ، انتهى .
وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر ، وتارة يتعدى بنفسه ، وحرف الجر ليس بزائد ، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب . فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم ، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب ، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام ، بنصب الرجال وخفض الكرام . وكذلك لا يجوز أن تقول : استغفرت من الذنب العظيم ، بجر الذنب ونصب العظيم ، وكذلك في اخترت . فلو كان حرف الجر زائداً ، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو ، تقول : ما رأيت من رجل عاقلاً ، لأن من زائدة ، ومن رجل عاقل على اللفظ . ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من ، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر . وعدى أوحى باللام لا بإلى ، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل . قال العجاج يصف الأرض : أوحى لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت(8/497)
" صفحة رقم 498 "
فعداها باللام . وقيل : الموحى إليه محذوف ، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال . واللام في لها للسبب ، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها . وإذا كان الإيحاء إليها ، احتمل أن يكون وحي إلهام ، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة .
الزلزلة : ( 6 ) يومئذ يصدر الناس . . . . .
( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ( : انتصب يومئذ بيصدر ، والصدر يكون عن ورد . وقال الجمهور : هو كونهم في الأرض مدفونين ، والصدر قيامهم للبعث ، و ) أَشْتَاتاً ( : جمع شت ، أي فرقاً مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض ، ( لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ). وقال النقاش : الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، ووردهم هو ورد المحشر . فعلى الأول المعنى : ليرى عمله ويقف عليه ، وعلى قول النقاش : ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار . والظاهر تعلق ) لّيُرَوْاْ ( بقوله ) يُصْدِرَ ). وقيل : بأوحى لها وما بينهما اعتراض . وقال ابن عباس : أشتاتاً : متفرقين على قدر أعمالهم ، أهل الأيمان على حدة ، وأهل كل دين على حدة . وقال الزمخشري : أشتاتاً : بيض الوجوه آمنين ، وسود الوجوه فزعين ، انتهى . ويحتمل أن يكون أشتاتاً ، أي كل واحد وحده ، لا ناصر له ولا عاضد ، كقوله تعالى : ) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ).
وقرأ الجمهور : ) لّيُرَوْاْ ( بضم الياء ؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية : بفتحها ،
الزلزلة : ( 7 - 8 ) فمن يعمل مثقال . . . . .
والظاهر تخصيص العامل ، أي ) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً ( من السعداء ، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة ، وتعميم ) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً ( من الفريقين ، لأنه تقسم جاء بعد قوله : ) يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ). وقال ابن عباس : قال هذه الأعمال في الآخرة ، فيرى الخير كله من كان مؤمناً ، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه ، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها ، وما عمل من شر أو خير رآه . ونبه بقوله : ) مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ( على أن ما فوق الذرة يراه قليلاً كان أو كثيراً ، وهذا يسمى مفهوم الخطاب ، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد ، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم ، كقوله : ) فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ). والظاهر انتصاب خيراً وشراً على التمييز ، لأن مثقال ذرة مقدار . وقيل : بدل من مثقال . وقرأ الجمهور : بفتح الياء فيهما ، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب . وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه : بضمها ؛ وهشام وأبو بكر : بسكون الهاء فيهما ؛ وأبو عمرو : بضمهما مشبعتين ؛ وباقي السبعة : بإشباع الأولى وسكون الثانية ، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه ، وحكاها الكسائي أيضاً عن بني كلاب وبني عقيل ، وهذه الرؤية رؤية بصر . وقال النقاش : ليست برؤية بصر ، وإنما المعنى يصيبه ويناله . وقرأ عكرمة : يراه بالألف فيهما ، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة ، حكاها الأخفش ؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية ، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر ، توهم أن من شرطية لا موصولة ، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم ، والله تعالى أعلم .(8/498)
" صفحة رقم 499 "
100
( سورة العاديات )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( ) ) 2
العاديات : ( 1 ) والعاديات ضبحا
العاديات : الجاريات بسرعة ، وهو وصف ، ويأتي في التفسير الخلاف في الموصوف ، الضبح : تصويت جهير عند العدو الشديد ، ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح ، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح . وعن ابن عباس : ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب . قيل : ولا يصح عن ابن عباس ، لأن الإبل تضبح ، والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب والقوس ، كما استعملت العرب لها الضبح . أنشد أبو حنيفة في صفة قوس : حنانة من نشم أو تألب
تضبح في الكف ضباح الثعلب
وقال أهل اللغة : أصله للثعلب ، فاستعير للخيل ، وهو من ضبحته النار : غيرت لونه ولم تبالغ فيه ، وانضبح لونه : تغير إلى السواد قليلاً . وقال أبو عبيدة : الضبح والضبع بمعنى العدو الشديد ، وكذا قال المبرد : م الضبح من إضباعها في السير . القدح : الصك ، وقيل : الاستخراج ، ومنه قدحت العين : أخرجت منها الفاسد ، والقداح والقداحة والمقدحة : ما تورى به النار . أغار على العدو : قصده لنهب أو قتل أو أسر . النقع : الغبار . قال الشاعر : يخرجن من مستطار النقع دامية
كأن آذانها أطراق أقلام
وقال ابن رواحة : عدمت بنيتي إن لم تروها
تثير النقع من كنفي كداء(8/499)
" صفحة رقم 500 "
وقال أبو عبيدة : النقع : رفع الصوت ، ومنه قول لبيد : فمتى ينقع صراخ صادق
تحلبوها ذات حرس وزجل
الكنود : الكفور للنعمة ، قال الشاعر : كنود لنعماء الرجال ومن يكن
كنوداً لنعماء الرجال يبعد
وعن ابن عباس : الكنود ، بلسان كندة وحضرموت : العاصي ؛ وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ؛ وبلسان كنانة : البخيل السيىء الملكة ، وقاله مقاتل . وقال الكلبي مثله إلا أنه قال : وبلسان بني مالك : البخيل ، ولم يذكر وحضرموت ، ويقال : كند النعمة كنوداً . وقال أبو زبيد في البخيل : إن تفتني فلم أطب عنك نفسا
غير أني أمنى بدهر كنود
حصل الشيء : جمعه ، وقيل : ميزه من غيره ، ومنه قيل للمنحل : المحصل ، وحصل الشيء : ظهر واستبان .
( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ).
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، مدنية في قول ابن عباس وأنس وقتادة . لما ذكر فيما قبلها ما يقتضي تهديداً ووعيداً بيوم القيامة ، بتعنيف لمن لا يستعد لذلك اليوم ، ومن آثر أمر دنياه على أمر آخرته . والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل ، تعدو في سبيل الله وتضبح حالة عدوها ، وقال عنترة : والخيل تكدح حين تضبح
في حياض الموت ضبحا
وقال أبو عبد الله وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير : العاديات : الإبل . أقسم بها حين تعدو من عرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج . وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين ، فرس للزبير وفرس للمقداد ، وبهذا حج عليّ رضي الله عنه ابن عباس حين تماريا ، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي الله تعالى عنهما . وقالت صفية بنت عبد المطلب : فلا والعاديات غداة جمع
بأيديها إذا سطع الغبار
وانتصب ضبحاً على إضمار فعل ، أي يضبحن ضبحاً ؛ أو على أنه في موضع الحال ، أي ضابحات ؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد ، فهو منصوب بالعاديات . وقال الزمخشري : أو بالعاديات كأنه قيل : والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو ، انتهى . وإذا كان الضبح مع العدو ، فلا يكون معنى ) وَالْعَادِيَاتِ ( معنى الضابحات ، فلا ينبغي أن يفسر به .
العاديات : ( 2 ) فالموريات قدحا
) فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ( ، والإيراء : إخراج النار ، أي تقدح(8/500)
" صفحة رقم 501 "
بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضاً . ويقال : قدح فأورى ، وقدح فأصلد . وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل : نار الحباحب . قال الشاعر : تقدّ السلوقي المضاعف نسجة
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
وقيل : ) فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ( مجاز ، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب ، قاله قتادة . وقال تعالى : ) كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ). ويقال : حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب . وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم : الموريات : الجماعة التي تمكر في الحرب ، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل : والله لا يكون ذلك ، ولأورين لك . وعن ابن عباس أيضاً : التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها . وعنه أيضاً : جماعة الغزاة تكثر النار إرهاباً . وقال عكرمة : ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ، وتظهر من الحجج والدلائل ، وإظهار الحق وإبطال الباطل .
العاديات : ( 3 ) فالمغيرات صبحا
) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ( : أي تغير على العدو في الصبح ، ومن قال هي الإبل ، قال العرب تقول : أغار إذا عدى جرياً ، أي من مزدلفة إلى منى ، أو في بدر ؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة ، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب . والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار ، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر ، وإن لم يكن فيها إلا فرسان ، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر ، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله ، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها .
العاديات : ( 4 - 5 ) فأثرن به نقعا
) فَأَثَرْنَ ( : معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل ، لأنه في معنى الفعل ، إذ تقديره : فاللاتي عدون فأغرن فأثرن . وقال الزمخشري : معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، انتهى . وتقول أصحابنا : هو معطوف على الاسم ، لأنه في معنى الفعل . وقرأ الجمهور : ) فَأَثَرْنَ ( ، ( فَوَسَطْنَ ( ، بتخفيف الثاء والسين ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بشدّهما ؛ وعليّ وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى : بشدّ السين . وقال الزمخشري : وقرأ أبو حيوة : فأثرن بالتشديد ، بمعنى : فأظهرن به غباراً ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار ، أو قلب ثورن إلى وثرن ، وقلب الواو همزة . وقرىء : فوسطن بالتشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتوكيد ، كقوله : ) فَأْتُواْ بِهِ ( ، وهي مبالغة في وسطن ، انتهى . أما قوله : أو قلب ، فتمحل بارد . وأما أن التشديد للتعدية ، فقد نقلوا أن وسط مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد ، وأنهما لغتان ، والضمير في به عائد في الأول على الصبح ، أي هيجن في ذلك الوقت غباراً ، وفي به الثاني على الصبح . قيل : أو على النقع ، أي وسطن النقع الجمع ، فيكون وسطه بمعنى توسطه . وقال علي وعبد الله : ) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ( : أي الإبل ، وجمعاً اسم للمزدلفة ، وليس بجمع من الناس . وقال بشر بن أبي حازم : فوسطن جمعهم وأفلت حاجب
تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وقيل : الضمير في به معاً يعود على العدو الدال عليه ) وَالْعَادِيَاتِ ( أيضاً . وقيل : يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى ، وإن لم يجر له ذكر ، لدلالة والعاديات وما بعدها عليه . وقيل : المراد بالنقع هنا الصياح ، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات ، وليست أل فيه للعهد ، والمقسم عليه : ) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ).
العاديات : ( 6 ) إن الإنسان لربه . . . . .
وفي الحديث : ( الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده ) . وقال ابن عباس والحسن : هو الجحود لنعمة الله تعالى . وعن الحسن أيضاً : هو اللائم لربه ، يعد السيئات وينسى الحسنات . وقال الفضيل : هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ،(8/501)
" صفحة رقم 502 "
ويعامل الله على عقد عوض . وقال عطاء : هو الذي لا يغطى في النائبات مع قومه . وقيل : البخيل . وقال ابن قتيبة : أرض كنود : لا تنبت شيئاً .
العاديات : ( 7 ) وإنه على ذلك . . . . .
والظاهر عود الضمير في ) وَأَنَّهُ ( على ذلك ) لَشَهِيدٌ ( ، أي يشهد على كنوده ، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره ، وقاله الحسن ومحمد بن كعب . وقال ابن عباس وقتادة : هو عائد على الله تعالى ، أي وربه شاهد عليه ، وهو على سبيل الوعيد . وقال التبريزي : هو عائد على الله تعالى ، وربه شاهد عليه هو الأصح ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين ، ويكون ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي ، انتهى . ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى . والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود . وأيضاً فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلهما لمختلفين ، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد .
العاديات : ( 8 ) وإنه لحب الخير . . . . .
( وَإنَّهُ ( : أي وإن الإنسان ، ( لِحُبّ الْخَيْرِ ( : أي المال ، ، لشديد ( : أي قوي في حبه . وقيل : لبخيل بالمال ضابط له ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدد . وقال طرفة : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
وقال قتادة : الخير من حيث وقع في القرآن هو المال . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه ، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك . فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور . وقال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير . فلما تقدم الحب قال لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ، ولرءوس الآي كقوله تعالى : ) ( : أي قوي في حبه . وقيل : لبخيل بالمال ضابط له ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدد . وقال طرفة : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
وقال قتادة : الخير من حيث وقع في القرآن هو المال . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه ، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك . فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور . وقال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير . فلما تقدم الحب قال لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ، ولرءوس الآي كقوله تعالى : ) فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ( ، والعصوف : للريح لا للأيام ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح ، انتهى . وقال غيره ما معناه : لأنه ليس أصله ذلك التركيب ، بل اللام في ) لِحُبّ ( لام العلة ، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل ؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف متقاعس . تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقاً له ضابطاً . قال الزمخشري : أو أراد : وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض .
العاديات : ( 9 ) أفلا يعلم إذا . . . . .
( أَفَلاَ يَعْلَمُ ( : توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان ، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف ، أي أفلا يعلم مآ له ؟ ) إِذَا بُعْثِرَ ( ، وقال الحوفي : إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم . انتهى ، وليس بمتضح لأن المعنى : أفلا يعلم الآن ؟ وقرأ الجمهور : بعثر بالعين مبنياً للمفعول . وقرأ عبد الله : بالحاء . وقرأ الأسود بن زيد : بحث . وقرأ نضر بن عاصم : بحثر على بنائه للفاعل .
العاديات : ( 10 ) وحصل ما في . . . . .
وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان : وحصل مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول . وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً : وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد ، والمعنى جمع ما في المصحف ، أي أظهر محصلاً مجموعاً . وقيل : ميز وكشف ليقع الجزاء عليه .
العاديات : ( 11 ) إن ربهم بهم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) ءانٍ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( باللام : هو استئناف إخبار ، والعامل في ) بِهِمُ ( ، وفي ) يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( ، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم . وقرأ أبو السمال والحجاج : بفتح الهمزة وإسقاط اللام . ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن ، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية ، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام ، فإنه قال : يجزيهم إذا بعثر ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل في قراءة الجمهور ، وسدت مسد المعمول في إن ، وفي خبرها اللام ظاهر ، إذ هي في موضع نصب بيعلم . وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره : كما قلنا يجزيهم إذا بعثر .(8/502)
" صفحة رقم 503 "
101
( سورة القارعة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ( ) ) 2
القارعة : ( 1 - 2 ) القارعة
الفراش ، قال الفراء : هو الهمج الطائر من بعوض وغيره ، ومنه الجراد . ويقال : هو أطيش من فراشة . قال : وقد كان أقوام رددت قلوبهم عليهم ، وكانوا كالفراش من الجهل . وقيل : فراشة الحلم نفشت الصوف والقطن : فرقت ما كان ملبداً من أجزائه .
( الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر وقت بعثرت القبور ، وذلك هو وقت الساعة . وقال الجمهور : ) الْقَارِعَةُ ( : القيامة نفسها ، لأنها تقرع القلوب بهولها . وقيل : صيحة النفخة في الصور ، لأنها تقرع الأسماع وفي ضمن ذلك القلوب . وقال الضحاك : هي النار ذات التغيظ والزفير . وقرأ الجمهور : ) الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ( بالرفع ، فما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ ، والقارعة خبره ، وتقدم تقرير ذلك في ) الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ). وقيل ذلك في قوله : ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ). وقال الزجاج : هو تحذير ، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب ، قال الشاعر :
أخو النجدة السلاح السلاح
وقرأ عيسى : بالنصب ، وتخريجه على أنه منصوب بإضمار فعل ، أي اذكروا القارعة ، وما زائدة للتوكيد(8/503)
" صفحة رقم 504 "
والقارعة تأكيد لفظي للأولى .
القارعة : ( 4 ) يوم يكون الناس . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَوْمٍ ( بالنصب ، وهو ظرف ، العامل فيه ، قال ابن عطية : القارعة . فإن كان عنى بالقارعة اللفظ الأول ، فلا يجوز للفصل بين العامل ، وهو في صلة أل ، والمعمول بالخبر ؛ وكذا لو صار القارعة علماً للقيامة لا يجوز أيضاً ، وإن كان عنى اللفظ الثاني أو الثالث ، فلا يلتئم معنى الظرف معه . وقال الزمخشري : الظرف نصب بمضمر دل عليه القارعة ، أي تقرع يوم يكون الناس . وقال الحوفي : تأتي يوم يكون . وقيل : اذكر يوم . وقرأ زيد بن عليّ : يوم يكون مرفوع الميم ، أي وقتها . ) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ، قال قتادة : هو الطير الذي يتساقط في النار . وقال الفراء : غوغاء الجراد ، وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض يركب بعضه بعضاً من الهول . وقيل : الفراش طير دقيق يقصد النار ، ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق . شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام ، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حتى تدعوهم إلى ناحية المحشر ، كالفراش المتطاير إلى النار . قال جرير : إن الفرزدق ما علمت وقومه
مثل الفراش عشين نار المصطلي
القارعة : ( 5 ) وتكون الجبال كالعهن . . . . .
وقرن بين الناس والجبال تنبيهاً على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالعهن المنفوش ؛ فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها ؟
القارعة : ( 6 - 7 ) فأما من ثقلت . . . . .
وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في الأعراف ، وعيشة راضية في إلحاقة .
القارعة : ( 9 ) فأمه هاوية
) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( : الهاوية دركة من دركات النار ، وأمه معناه مأواه ، كما قيل للأرض أم الناس لأنها تؤويهم ، وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب : فنحن بنوها وهي أمنا . وقال قتادة وأبو صالح وغيره : فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوساً . وقيل : هو تفاؤل بشر ، وإذا دعوا بالهلكة قالوا هوت أمه ، لأنه إذا هوى ، أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلاً وحزناً . قال الشاعر : هوت أمه ما نبعث الصبح غاديا
وماذا يرد الليل حين يؤون
وقرأ الجمهور : ) فَأُمُّهُ ( بضم الهمزة ، وطلحة بكسرها . قال ابن خالويه : وحكى ابن دريد أنها لغة . وأما النحويون فإنهم يقولون : لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء ، انتهى .
القارعة : ( 10 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ ( : هي ضمير يعود على هاوية إن كانت كما قيل دركة من دركات النار معروفة بهذا الاسم ، وإن كانت غير ذلك مما قيل فهي ضمير الداهية التي دل عليها قوله : ) مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( ، والهاء فيما هيه هاء السكت ، وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة ، وأثبتها الجمهور :
القارعة : ( 11 ) نار حامية
) نَّارٍ ( : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي نار ، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه .(8/504)
" صفحة رقم 505 "
102
( سورة التكاثر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ( ) ) 2
) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ).
التكاثر : ( 1 - 2 ) ألهاكم التكاثر
هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين . وقال البخاري : مدنية . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة . وسبب نزولها أنه فيما روى الكلبي ومقاتل : كان بين بني سهم وبين بني عبد مناف لحاء ، فتعادّوا الأشراف الأحياء أيهم أكثر ، فكثرهم بنو عبد مناف . ثم تعادوا الأموات ، فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية . وقال قتادة : نزلت في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان . وقال ابن زيد : نزلت في بطن من الأنصار .
( أَلْهَاكُمُ ( : شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات . عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم ، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم . قيل : ) حَتَّى زُرْتُمُ ( : أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها ، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم . وسمع بعض الأعراب ) حَتَّى زُرْتُمُ ( فقال : بعث القوم للقيامة ، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم . وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي . وقيل : هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) نهى عن زيارة القبور ، ثم قال : ( فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر ) . قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام ، وتلوينها شرفاً ، وبيان النواويس عليه . وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى ، والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك ، وما يضيع فيها من الأموال ، والتعجب من ذلك ، ولرأى ما لم يخطر ببال ؟
وأما التباهي بالزيارة ، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور . زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلاناً بكذا ، والشيخ فلاناً بكذا ؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد ، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفاراً ، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه ، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم . وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون هذا فتح(8/505)
" صفحة رقم 506 "
هذا من العلم اللدني علم الخضر ، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيراً من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلباً للمال والجاه وتقبيل اليد ؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته .
وقرأ الجمهور : ألهاكم على الخبر ؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمروان الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة : بالمد على الاستفهام ، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب ، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضاً والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية : أألهاكم بهمزتين ، ومعنى الاستفهام : التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم ؛
التكاثر : ( 3 - 4 ) كلا سوف تعلمون
والجمهور : على أن التكرير توكيد . قال الزمخشري : والتكرير تأكيد للرع والإنذار ؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك لا تفعل ، والمعنى : سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِى الْقُبُورِ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( في البعث : غاير بينهما بحسب التعلق ، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان . وقال الضحاك : الزجر الأول ووعيده للكافرين ، والثاني للمؤمنين .
التكاثر : ( 5 ) كلا لو تعلمون . . . . .
( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ ( : أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه ، ( عِلْمَ الْيَقِينِ ( : أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين ، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو ) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ ). وقيل : اليقين هنا الموت . وقال قتادة : البعث ، لأنه إذا جاء زال الشك .
التكاثر : ( 6 ) لترون الجحيم
ثم قال : ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( : والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود ، كما قال تعالى : ) وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( ، ولا تكون رؤية عند الدخول ، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك : ) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ).
التكاثر : ( 7 ) ثم لترونها عين . . . . .
( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( : تأكيد للجملة التي قبلها ، وزاد التوكيد بقوله : ) عَيْنَ الْيَقِينِ ( نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى . وعن ابن عباس : هو خطاب للمشركين ، فالرؤية رؤية دخول . وقرأ ابن عامر والكسائي : لترون بضم التاء ؛ وباقي السبعة : بالفتح ، وعليّ وابن كثير في رواية ، وعاصم في رواية : بفتحها في ) لَتَرَوُنَّ ( ، وضمها في ) لَتَرَوُنَّهَا ( ، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة : بضمها . وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همز الواوين ، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت ، وكان القياس أن لا تهمز ، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها . لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا ، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة ، فهمز هذه أولى .
التكاثر : ( 8 ) ثم لتسألن يومئذ . . . . .
( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ( : الظاهر العموم في النعيم ، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب ، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف ، والكافر سؤال توبيخ وتقريع . وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد : هو الأمن والصحة . وعن ابن عباس : البدن والحواس فيم استعملها . وعن ابن جبير : كل ما يتلذذ به . وفي الحديث : ( بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم ) .(8/506)
" صفحة رقم 507 "
103
( سورة العصر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( ) ) 2
) وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ).
العصر : ( 1 ) والعصر
هذه السورة مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور ، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل . لما قال فيما قبلها : ) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ ( ، ووقع التهديد بتكرار ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( بين حال المؤمن والكافر .
( وَالْعَصْرِ ( ، قال ابن عباس : هو الدهر ، يقال فيه عصر وعصر وعصر ؛ أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب . وقال قتادة : العصر : العشي ، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة . وقيل : العصر : اليوم والليلة ، ومنه قول حميد بن ثور : ولن يلبث العصران يوم وليلة
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقيل : العصر بكرة ، والعصر عشية ، وهما الأبردان ، فعلى هذا والقول قبله يكون القسم بواحد منهما غير معين . وقال مقاتل : العصر : الصلاة الوسطى ، أقسم بها . وبهذا القول بدأ الزمخشري قال : لفضلها بدليل قوله تعالى ) حَافِظُواْ عَلَى ( ، صلاة العصر ، في مصحف حفصة ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) ، لأن التنكيف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم وتحاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ، انتهى . وقرأ سلام : والعصر بكسر الصاد ، والصبر بكسر الباء . قال ابن عطية : وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة . وروي عن أبي عمرو : بالصبر بكسر الباء إشماماً ، وهذا أيضاً لا يكون إلا في الوقف ، انتهى . وفي الكامل للهزلي : والعصر ، والصبر ، والفجر ، والوتر ، بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها هارون وابن موسى عن أبي عمرو ؛ والباقون : بالإسكان كالجماعة ، انتهى .
العصر : ( 2 - 3 ) إن الإنسان لفي . . . . .
وقال ابن خالويه : ) وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( ، بنقل الحركة عن أبي عمرو . وقال صاحب اللوامح عيسى : البصرة بالصبر ، بنقل حركة الهاء إلى الياء لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف ، ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين ، وذلك لغة شائعة ، وليست شاذة بل مستفيضة ، وذلك دلالة على الإعراب ، وانفصال عن التقاء الساكنين ، ومادته حق الموقوف عليه من السكون ، انتهى . وقد أنشدنا في الدلالة على هذا في شرح التسهيل عدّة أبيات ، كقول الراجز : أنا جرير كنيتي أبو عمر
أضرب بالسيف وسعد في القصر(8/507)
" صفحة رقم 508 "
يريد : أبو عمر . والعصر والإنسان اسم جنس يعم ، ولذلك صح الاستثناء منه ، والخسر : الخسران ، كالكفر والكفران ، وأي خسران أعظم ممن خسر الدنيا والآخرة ؟ وقرأ ابن هرمز وزيد بن عليّ وهارون عن أبي بكر عن عاصم : خسر بضم السين ، والجمهور بالسكون . ومن باع آخرته بدنياه فهو في غاية الخسران ، بخلاف المؤمن ، فإنه اشترى الآخرة بالدنيا ، فربح وسعد . ) وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ ( : أي بالأمر الثابت من الذين عملوا به وتواصوا به ، ( وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( في طاعة الله تعالى ، وعن المعاصي .(8/508)
" صفحة رقم 509 "
104
( سورة الهمزة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاٌّ فْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ( ) ) 2
الهمزة : ( 1 ) ويل لكل همزة . . . . .
الحطمة : أصله الوصف من قولهم رجل حطمة : أي أكول . قال الراجز :
قد لفها الليل بسوّاق الحطم
وقال آخر : إنا حطمناه بالقضيب مصعبا
يوم كسرنا أنفه ليغضبا
) وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ).
هذه السورة مكية . لما قال فيما قبلها : ) إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( ، بين حال الخاسر فقال : ) وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ ( ، ونزلت في الأخنس بن شريق ، أو العاصي بن وائل ، أو جميل بن معمر ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف ، أقوال . ويمكن أن تكون نزلت في الجميع ، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف . وقال السهيلي : هو أمية بن خلف الجمحي ، كان يهمز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويعينه ذكره ابن إسحاق . وإنما ذكرته ، وإن كان اللفظ عاماً ، لأن الله سبحانه وتعالى تابع في أوصافه والخبر عنه حتى فهم أنه يشير إلى شخص بعينه ، وكذلك قوله في سورة ن : ) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ). تابع في الصفات حتى علم أنه يريد إنساناً بعينه . وتقدم الكلام في الهمزة في سورة ن ، وفي اللمز في سورة براءة ، وفعله من أبنية المبالغة ، كنومة وعيبة وسحرة وضحكة ، وقال زياد الأعجم : تدلى بودّي إذا لاقيتني كذبا
وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه(8/509)
" صفحة رقم 510 "
وقرأ الجمهور : بفتح الميم فيهما ؛ والباقون : بسكونها ، وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك منه ، ويشتم ويهمز ويلمز .
الهمزة : ( 2 ) الذي جمع مالا . . . . .
( الَّذِى ( : بدل ، أو نصب على الذم . وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والأخوان : جمع مشدد الميم ؛ وباقي السبعة : بالتخفيف ، والجمهور : ) وَعَدَّدَهُ ( بشد الدال الأولى : أي أحصاه وحافظ عليه . وقيل : جعله عدة لطوارق الدهر ؛ والحسن والكلبي : بتخفيفهما ، أي جمع المال وضبط عدده . وقيل : وعدداً من عشيرته . وقيل : وعدده على ترك الإدغام ، كقوله :
إني أجود لأقوام وإن ضننوا
الهمزة : ( 3 ) يحسب أن ماله . . . . .
( أَخْلَدَهُ ( : أي أبقاه حياً ، إذ به قوام حياته وحفظه مدّة عمره . قال الزمخشري : أي طوّل المال أمله ومناه الأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت . قيل : وكان للأخنس أربعة آلاف دينار . وقيل : عشرة آلاف دينار .
الهمزة : ( 4 ) كلا لينبذن في . . . . .
( كَلاَّ ( ردع له عن حسبانه . وقرأ الجمهور : ) لَيُنبَذَنَّ ( فيه ضمير الواحد ؛ وعليّ والحسن : بخلاف عنه ؛ وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو : ولينبذان ، بألف ضمير اثنين : الهمزة وماله . وعن الحسن أيضاً : لينبذن بضم الذال ، أي هو وأنصاره . وعن أبي عمرو : لينبذنه . وقرأ الجمهور :
الهمزة : ( 5 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ( ؛ وزيد بن عليّ : في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة ، وهي النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها . قال الضحاك : الحطمة : الدرك الرابع من النار . وقال الكلبي : الطبقة السادسة من جهنم ؛ وحكى عنه القشيري أنها الدركة الثانية ؛ وعنه أيضاً : الباب الثاني . وقال الواحدي : باب من أبواب جهنم ، انتهى .
الهمزة : ( 6 ) نار الله الموقدة
) نَارُ اللَّهِ ( : أي هي ، أي الحطمة .
الهمزة : ( 7 ) التي تطلع على . . . . .
( الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَةِ ( : ذكرت الأفئدة لأنها ألطف ما في البدن وأشدّه تألماً بأدنى شيء من الأذى ؛ واطلاع النار عليها هو أنها تعلوها وتشتمل عليها ، وهي تعلو الكفار في جميع أبدانهم ، لكن نبه على الأشرف لأنها مقر العقائد .
الهمزة : ( 9 ) في عمد ممددة
وقرأ الأخوان وأبو بكر : في عمد بضمتين جمع عمود ؛ وهارون عن أبي عمرو : بضم العين وسكون الميم ؛ وباقي السبعة : بفتحها ، وهو اسم جمع ، الواحد عمود . وقال الفرّاء : جمع عمود ، كما قالوا : أديم وأدم . وقال أبو عبيدة : جمع عماد . قال ابن زيد : في عمد حديد مغلولين بها . وقال أبو صالح : هذه النار هي قبورهم ، والظاهر أنها نار الآخرة ، إذ يئسوا من الخروج بإطباق الأبواب عليهم وتمدد العمد ، كل ذلك إيذاناً بالخلود إلى غير نهاية . وقال قتادة : كنا نحدّث أنها عمد يعذبون بها في النار . وقال أبو صالح : هي القيود ، والله تعالى أعلم .(8/510)
" صفحة رقم 511 "
106
( سورة الفيل )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ( ) ) 2
الفيل : ( 1 ) ألم تر كيف . . . . .
الفيل أكبر ما رأيناه من وحوش البر يجلب إلى ملك مصر ، ولم تره بالأندلس بلادنا ، ويجمع في القلة على أفيال ، وفي الكثرة على فيول وفيلة . الأبابيل : الجماعات تجيء شيئاً بعد شيء . قال الشاعر : كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقال الأعشى : طريق وخبار رواء أصوله
عليه أبابيل من الطير تنعب
قال أبو عبيدة والفراء : لا واحد له من لفظه ، فيكون مثل عبابيد وبيادير . وقيل : واحده إبول مثل عجول ، وقيل : ابيل مثل سكين ، وقيل : وذكر الرقاشي ، وكان ثقة ، أنه سمع في واحده إبالة ؛ وحكى الفراء : أبالة مخففاً .
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة ، أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا . والظاهر أن الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يذكر نعمته عليه ، إذ كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد عليه السلام ، وإرهاصاً بنبوّته ، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول ، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ومعنى ) أَلَمْ تَرَ ( : ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك ؟ إذ هو أمر منقول نقل التواتر ، فكأنه قيل : قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه ، ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل .
وقصة الفيل ذكرها أهل السير والتفسير مطولة ومختصرة ، وتطالع في كتبهم . وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده . والظاهر أنه فيل واحد ، وهو قول الأكثرين . وقال الضحاك : ثمانية فيلة ، وقيل : اثنا عشر فيلاً ، وقيل : ألف فيل ، وهذه أقوال متكاذبة . وكان العسكر ستين ألفاً ، لم يرجع(8/511)
" صفحة رقم 512 "
أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا . وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريباً منها فيبرك ، ويوجهونه نحو اليمن والشام فيسرع . وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ السلمي : ألم تر بسكون ، وهو جزم بعد جزم . ونقل عن صاحب اللوامح ترأ بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل ، وهي لغة لتيم ، وتر معلقة ، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به ؛ وكيف معمول لفعل . وفي خطابه تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقوله : ) فَعَلَ رَبُّكَ ( تشريف له ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإشادة من ذكره ، كأنه قال : ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش أساف ونائلة وغيرهما .
الفيل : ( 2 - 3 ) ألم يجعل كيدهم . . . . .
( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ ( ، يقال : ضلل كيدهم ، إذا جعله ضالاً ضائعاً . وقيل لامرىء القيس الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أي ضيعه . وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه ، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيراً جاءت من جهة البحر ، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء . وقيل : خضراء على قدر الخطاف .
الفيل : ( 4 ) ترميهم بحجارة من . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم ( بالتاء ، والطير اسم جمع بهذه القراءة ، وقوله :
كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد
وتذكر كقراءة أبي حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحة في رواية عنه : يرميهم . وقيل : الضمير عائد على ) رَبَّكَ ). ) بِحِجَارَةٍ ( ؛ كان كل طائر في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص ، مكتوب في كل حجر اسم مرميه ، ينزل على رأسه ويخرج من دبره . ومرض أبرهة ، فتقطع أنملة أنملة ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت أبو مكسوم وزيره ، وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي وأخبره بما جرى للقوم ، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك . وتقدم شرح سجيل في سورة هود ،
الفيل : ( 5 ) فجعلهم كعصف مأكول
والعصف في سورة الرحمن . شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل ، أي وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود والتبن الذي أكلته الدواب وراثته . وجاء على آداب القرآن نحو قوله : ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ( ، أو الذي أكل حبه فبقي فارغاً ، فنسبه أنه أكل مجاز ، إذ المأكول حبه لا هو . وقرأ الجمهور : ) مَّأْكُولِ ( : بسكون الهمزة وهو الأصل ، لأن صيغة مفعول من فعل . وقرأ أبو الدرداء ، فيما نقل ابن خالويه : بفتح الهمزة اتباعاً لحركة الميم وهو شاذ ، وهذا كما اتبعوه في قولهم : محموم بفتح الحاء لحركة الميم . قال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشاً وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم ، فكان ذلك نعمة من الله تعالى عليهم . وقيل : هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة والسلام .(8/512)
" صفحة رقم 513 "
106
( سورة قريش )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِىأَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ ( ) ) 2
قريش : ( 1 - 2 ) لإيلاف قريش
قريش : علم اسم قبيلة ، وهم بنو النضر بن كنانة ، فمن كان من بني النضر فهو من قريش دون بني كنانة . وقيل : هم بنو فهر بن مالك بن النضر ، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي . قال القرطبي : والقول الأول أصح وأثبت ، وسموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق ، والتقريش : التجمع والالئتام ، ومنه قول الشاعر : إخوة قرشوا الذنوب علينا
في حديث من دهرهم وقديم
كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً ، ومنه قوله : أبونا قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر
وقال الفراء : التقرش : التكسب ، وقد قرش يقرش قرشاً ، إذا كسب وجمع ، ومنه سميت قريش . وقيل : كانوا يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها ، والقرش : التفتيش ، ومنه قول الشاعر : أيها الناطق المقرش عنا
عند عمرو وهل لذاك بقاء
وسأل معاوية بن عباس : بم سميت قريش قريشاً ؟ فقال : بدابة في البحر أقوى دوابه يقال لها القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، ومنه قول تبع :
وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حيّ قريش
يأكلون البلاد أكلاً كميشا
ولهم آخر الزمان نبي
يكثر القتل فيهم والخموشا(8/513)
" صفحة رقم 514 "
وفي الكشاف : دابة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار . فإن كان قريش من مزيد فيه فهو تصغير ترخيم ، وإن كان من ثلاثي مجرد فهو تصغير على أصل التصغير . الشتاء والصيف فصلان معروفان من فصول السنة الأربعة ، وهمزة الشتاء مبدلة من واو ، قالوا : شتا يشتو ، وقالوا : شتوة ، والشتاء مفرد وليس بجمع شتوة .
( لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول الضحاك وابن السائب . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، ولا سيما أن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم ، وهو قول الأخفش ، أو بإضمار فعلنا ذلك لإيلاف قريش ، وهو مروي عن الأخفش حتى تطمئن في بلدها . فذكر ذلك للامتنان عليهم ، إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في البلاد والأقاليم ، ولم تجتمع لهم كلمة . قال الزمخشري : وهذا بمنزلة التضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل . وعن عمر : أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب ، وقرأ في الأوليين : والتين ، والمعنى أنه أهلك أهل الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيبوهم زيادة تهيب ، ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم ، انتهى .
قال الحوفي : ورد هذا القول جماعة ، وقالوا : لو كان كذا لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر ؛ وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على غير ما قال ، يعني الأخفش والكسائي والفراء ، تتعلق بأعجبوا مضمرة ، أي اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله هو الذي أطعمهم وآمنهم لا آسفهم ، أي فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة أبيهم حيث قال : ) وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( ، وآمنهم بدعوته حيث قال : ) رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( ، ولا تشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا . وقال الخليل بن أحمد : تتعلق بقوله : ) فَلْيَعْبُدُواْ ( ، والمعنى لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة . ) فَلْيَعْبُدُواْ ( : أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة . قال الزمخشري : فإن قلت : فلم دخلت الفاء ؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط ، لأن المعنى : إما لا فليعبدوا لإيلافهم على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، انتهى . وقرأ الجمهور : ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( ، مصدر آلف رباعياً ؛ وابن عامر : لالاف على وزن فعال ، مصدر ألف ثلاثياً . يقال : ألف الرجل الأمر إلفاً وإلافاً ، وآلفه غيره إياه إيلافاً ، وقد يأتي ألف متعدياً لواحد كإلف ، قال الشاعر : من المؤلفات الرمل أدماء حرة
شعاع الضحى في متنها يتوضح
ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدراً للرباعي . وروي عن أبي بكر ، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين ، فيهما الثانية ساكنة ، وهذا شاذ ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين ، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه ، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر . وروى محمد بن داود النقار عن عاصم : إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها ، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية ، وأنه قرأ كالجماعة . وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري : لإلف قريش ؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم . قال الشاعر :(8/514)
" صفحة رقم 515 "
زعمتم أن إخوتكم قريشا
لهم إلف وليس لكم إلاف
جمع بين مصدري ألف الثلاثي . وعن أبي جعفر وابن عامر : إلا فهم على وزن فعال . وعن أبي جعفر وابن كثير : إلفهم على وزن فعل ، وبذلك قرأ عكرمة . وعن أبي جعفر أيضاً : ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع ، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفاً على غير قياس . وعن عكرمة : ليألف قريش ؛ وعنه أيضاً : لتألف قريش على الأمر ، وعنه وعن هلال بن فتيان : بفتح لام الأمر ، وأجمعوا هنا على صرف قريش ، راعوا فيه معنى الحي ، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية . قال الشاعر :
وكفى قريش المعضلات وسادها
جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف ، وكينونة هذه للإحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن . وقرأ الجمهور : ) رِحْلَةَ ( بكسر الراء ؛ وأبو السمال : بضمها ، فبالكسر مصدر ، وبالضم الجهة التي يرحل إليها ، والجمهور على أنهما رحلتان . فقيل : إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح ، ومنه قول الشاعر : سفرين بينهما له ولغيره
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال ابن عباس : رحلة إلى اليمن ، ورحلة إلى بصرى . وقال : يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم . وقال الزمخشري : وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خميص
انتهى ، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة ، ومثله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد : بطني الواديين ، أنشده أصحابنا على الضرورة . وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل . قال ابن عطية : وهذا قول مردود . انتهى ، ولا ينبغي أن يرد ، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم : بنو عبد مناف هاشم ، كان يؤلف ملك الشام ، أخذ منه خيلاً ، فأمن به في تجارته إلى الشام ، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة ؛ والمطلب إلى اليمن ؛ ونوفل إلى فارس . فكان هؤلاء يسمون المجبرين ، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم . قال الأزهري : الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة ، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع ، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها ، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم : يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف(8/515)
" صفحة رقم 516 "
الآخذون العهد من آفاقها
والراحلون لرحلة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائش
والقائلون هلمّ للأضياف
والخالطون غنيهم لفقيرهم
حتى يصير فقيرهم كالكافي
فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر ، وإيلافهم بدل من ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( ، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به ، وهو رحلة ، أي لأن ألفوا رحلة تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً بعظيم النعمة فيه .
قريش : ( 3 ) فليعبدوا رب هذا . . . . .
( هَاذَا الْبَيْتِ ( : هو الكعبة ، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها ،
قريش : ( 4 ) الذي أطعمهم من . . . . .
ومن هنا للتعليل ، أي لأجل الجوع . كانوا قطاناً ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام . قال تعالى : ) يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء ). ) الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن ( : فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا ، فيقال : هؤلاء قطان بيت الله ، فلا يتعرض إليهم أحد ، وغيرهم خائفون . وقال ابن عباس والضحاك : ) الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن ( : معناه من الجذام ، فلا ترى بمكة مجذوماً . قال الزمخشري : والتنكير في جوع وخوف لشدتهما ، يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم ، وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم . وقرأ الجمهور : ) مّنْ خوْفٍ ( ، بإظهار النون عند الخاء ، والمسيبي عن نافع : بإخفائها ، وكذلك مع العين ، نحو من على ، وهي لغة حكاها سيبويه . وقال ابن الأسلت يخاطب قريشاً : فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق
غداة أبي مكسوم هادي الكتائب
كثيبة بالسهل تمشي ورحلة
على العادقات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود المليك بين ساق وحاجب
فولوا سراعاً هاربين ولم يؤب
إلى أهله ملجيش غير عصائب(8/516)
" صفحة رقم 517 "
10
( سورة الماعون )
2 ( ) أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( ) ) 2
الماعون : ( 1 - 2 ) أرأيت الذي يكذب . . . . .
سها عن كذا يسهو سهوراً : لها عنه وتركه عن غفلة . الماعون : فاعول من المعن ، وهو الشيء القليل . تقول العرب : ما له معن ، أي شيء قليل ، وقاله قطرب . وقيل : أصله معونة والألف عوض من الهاء ، فوزنه مفعل في الأصل على مكرم ، فتكون الميم زائدة ، ووزنه بعد زيادة الألف عوضاً ما فعل . وقيل : هو اسم مفعول من أعان يعين ، جاء على زنة مفعول ، قلب فصارت عينه مكان الفاء فصار موعون ، ثم قلبت الواو ألفاً ، كما قالوا في بوب باب فصار ماعون ، فوزنه على هذا مفعول . وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد : الماعون في الجاهلية : كل ما فيه منفعة حتى الفاس والدلو والقدر والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل أو كثير ، وأنشدوا بيت الأعشى : بأجود منه بماعونه
إذا ما سماءهم لم تغم
وقالوا : المراد به في الإسلام الطاعة ، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى عز وجل .
( أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة . قال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق . ولما عدد تعالى نعمه على قريش ، وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، اتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه . ونزلت في أبي جهل ، أو الوليد بن المغيرة ، أو العاصي بن وائل ، أو عمر بن عائذ ، أو رجلين من المنافقين ، أو أبي سفيان بن حرب ، كان ينحر في كل أسبوع جزوراً ، فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصا ، أقوال آخرها لابن جريج .
والظاهر أن ) أَرَأَيْتَ ( هي التي بمعنى أخبرني ، فتتعدى لاثنين ، أحدهما الذي ، والآخر محذوف ، فقدره الحوفي : أليس مستحقاً عذاب الله ، وقدره الزمخشري : من هو ، ويدل على أنها بمعنى أخبرني . قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب ، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية . قال الحوفي : ويجوز أن تكون من رؤية البصر ، فلا يكون في الكلام حذف ، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة . والدين : الجزاء بالثواب والعقاب . وقال الزمخشري : والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء ؟ هو الذي ) يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( : أي يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة أو أذى ،
الماعون : ( 3 ) ولا يحض على . . . . .
( وَلاَ يَحُضُّ ( : أي ولا يبعث أهله على(8/517)
" صفحة رقم 518 "
بذل الطعام للمسكين . جعل علم التكذيب بالجزاء ، منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، انتهى . وقرأ الجمهور : ) يَدُعُّ ( بضم الدال وشد العين ؛ وعليّ والحسن وأبو رجاء واليماني : بفتح الدال وخف العين ، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه وبجفوه . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يَحُضُّ ( مضارع حض ؛ وزيد بن علي : يحاض مضارع حاضضت . وقال ابن عباس : ) بِالدّينِ ( : بحكم الله . وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن . وقال إبراهيم ابن عرفة : ) يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( : يدفعه عن حقه . وقال مجاهد : يدفعه عن حقه ولا يطعمه ، وفي قوله : ) وَلاَ يَحُضُّ ( إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره ، وهذا من باب الأولى ، لأنه إذا لم يحض غيره بخلاً ، فلان يترك هو ذلك فعلاً أولى وأحرى ، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه .
الماعون : ( 4 ) فويل للمصلين
ولما ذكر أولاً عمود الكفر ، وهو التكذيب بالدين ، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق ، وهو عبادته بالصلاة ، فقال : ) فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ). والظاهر أن المصلين هم غير المذكور . وقيل : هو داع اليتيم غير الحاض ، وأن كلاً من الأوصاف الذميمة ناشىء عن التكذيب بالدين ، فالمصلون هنا ، والله أعلم ، هم المنافقون ، ثبت لهم الصلاة ، وهي الهيئات التي يفعلونها .
الماعون : ( 5 ) الذين هم عن . . . . .
ثم قال : ) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( ، نظراً إلى أنهم لا يوقعونها ، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى . وفي الحديث عن صلاتهم ساهون : ( يؤخرونها عن وقتها تهاوناً بها ) . قال مجاهد : تأخير ترك وإهمال . وقال إبراهيم : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتاً . وقال قتادة : هو الترك لها ، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل . وقال قطرب : هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى . وقال ابن عباس : المنافقون يتركون الصلاة سراً ويفعلونها علانية ، ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( ، ويدل على أنها في المنافقين قوله تعالى : ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ ( ، وقاله ابن وهب عن مالك . قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين . وقال عطاء : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم .
وقال الزمخشري : بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن ) فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ ( في موضع رفع ، قال : وطريقة أخرى أن يكون ) فَذَلِكَ ( عطفاً على ) الَّذِى يُكَذّبُ ( ، إما عطف ذات على ذات ، أو عطف صفة على صفة ، ويكون جواب ) أَرَأَيْتَ ( محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، كأن قال : أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء ، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ، أنعم ما يصنع ؟ ثم قال : ) فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( : أي إذا علم أنه مسيء ، ( فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم . فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير ) الَّذِى يُكَذّبُ ( ، وهو واحد ؟ قلت : معناه الجمع ، لأن المراد به الجنس ، انتهى . فجعل فذلك في موضع نصب عطفاً على المفعول ، وهو تركيب غريب ، كقولك : أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا ، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء ، وعلى تقدير النصب يكون التقدير : أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا . فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح ، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا ، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا ، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا . وأما قوله : إما عطف ذات على ذات فلا يصح ، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب ، فليسا بذاتين ، لأن المشار إليه بقوله : ) فَذَلِكَ ( هو واحد . وأما قوله : ويكون جواب ) أَرَأَيْتَ ( محذوفاً ، فلا يسمى جواباً ، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت . وأما قوله : أنعم ما يصنع ، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس ، لأنهما إنشاء ، والاستفهام لا يدخل إلى على الخبر . وأما وضعه المصلين موضع الضمير ، وأن المصلين جمع ، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع ، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب ، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة . وتقدّم الكلام في الرياء في سورة البقرة .
الماعون : ( 6 ) الذين هم يراؤون
وقرأ الجمهور :(8/518)
" صفحة رقم 519 "
يراءون مضارع رأى ، على وزن فاعل ؛ وابن أبي إسحاق والأشهب : مهموزة مقصورة مشدّدة الهمزة ؛ وعن ابن أبي إسحاق : بغير شد في الهمزة . فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية ، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى : أرى ، فقالوا : راأى ، فجاء المضارع بأرى كيصلى ، وجاء الجمع يروّون كيصلون ، وتوجيه الثانية أن استثقل التضعيف في الهمزة فخففها ، أو حذف الألف من يراءون حذفاً لا لسبب .
الماعون : ( 7 ) ويمنعون الماعون
) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( ، قال ابن المسيب وابن شهاب : الماعون ، بلغة قريش : المال . وقال الفرّاء عن بعض العرب : الماعون : الماء . وقال ابن مسعود وابن عباس وابن الحنفية والحسن والضحاك وابن زيد : ما يتعاطاه الناس بينهم ، كالفأس والدلو والآنية . وفي الحديث : ( سئل ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال : الماء والملح والنار ) . وفي بعض الطرق : الإبرة والخمير . وقال عليّ وابن عمر وابن عباس أيضاً : الماعون : الزكاة ، ومنه قول الراعي : أخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا
حق الزكاة منزلاً تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا
ما عونهم ويضيعوا التهليلا
يعني بالماعون : الزكاة ، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن ، وهو الشيء القليل ، فسميت الزكاة ماعوناً لأنها قليل من كثير ، وكذلك الصدقة غيرها . وقال ابن عباس : هو العارية . وقال محمد بن كعب والكلبي : هو المعروف كله . وقال عبد الله بن عمر : منع الحق . وقيل : الماء والكلأ .(8/519)
" صفحة رقم 520 "
108
( سورة الكوثر )
2 ( ) إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاٌّ بْتَرُ ( ) ) 2
الكوثر : ( 1 ) إنا أعطيناك الكوثر
انحر : أمر من النحر ، وهو ضرب النحر للإبل بما يفيت الروح من محدود . الأبتر : الذي لا عقب له ، والبتر : القطع ، بترت الشيء : قطعته ، وبتر بالكسر فهو أبتر : انقطع ذنبه . وخطب زياد خطبته البتراء ، لأنه لم يحمد فيها الله تعالى ، ولا صلى على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ورجل أباتر ، بضم الهمزة : الذي يقطع رحمه ، ومنه قول الشاعر : لئيم بدت في أنفه خنزوانة
على قطع ذي القربى أجذ أباتر
والبترية : قوم من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد ولقبه الأبتر ، والله تعالى أعلم .
( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ ).
هذه السورة مكية في المشهور ، وقول الجمهور : مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة . ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة ، قابل في هذه السورة البخل ب ) إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( ، والسهو في الصلاة بقوله : ) فَصْلٌ ( ، والرياء بقوله : ) لِرَبّكِ ( ، ومنع الزكاة بقوله : ) وَانْحَرْ ( ، أراد به التصدّق بلحم الأضاحي ، فقابل أربعاً بأربع . ونزلت في العاصي بن وائل ، كان يسمي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالأبتر ، وكان يقول : دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه .
وقرأ الجمهور : ) أَعْطَيْنَاكَ ( بالعين ؛ والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني : أنطيناك بالنون ، وهي قراءة مروية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال التبريزي : هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش . ومن كلامه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة ) . ومن كلامه أيضاً ، عليه الصلاة والسلام : ( وأنطوا النيحة ) . وقال الأعشى : جيادك خير جياد الملوك
تصان الحلال وتنطى السعيرا
قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي : أبدل من العين نوناً ؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن ، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك ، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة ، فلا يقول الأصل العين ، ثم أبدلت النون منها .
وذكر في التحرير : في الكوثر ستة وعشرين قولاً ، والصحيح هو ما فسره به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ( هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج ) . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم ، واقتطعنا منه ،(8/520)
" صفحة رقم 521 "
قال : ( أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ) انتهى . قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها .
وقال ابن عباس : الكوثر : الخير الكثير . وقيل لابن جبير : إن ناساً يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وقال الحسن : الكوثر : القرآن . وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب : كثرة الأصحاب والأتباع . وقال هلال بن يساف : هو التوحيد . وقال جعفر الصادق : نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه . وقال عكرمة : النبوّة . وقال الحسن بن الفضل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع . وقال ابن كيسان : الإيثار . وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل ، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها . والكوثر فوعل من الكثرة ، وهو المفرط الكثرة . قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر . وقال الشاعر : وأنت كثير يا ابن مروان طيب
وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
الكوثر : ( 2 ) فصل لربك وانحر
) فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ ( : الظاهر أن فصل أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل . والنحر : نحر الهدى والنسك والضحايا ، قاله الجمهور ؛ ولم يكن في ذلك الوقت جهاد فأمر بهذين . قال أنس : كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقاله قتادة . وقال ابن جبير : نزلت وقت صلح الحديبية . قيل له : صل وانحر الهدى ، فعلى هذا الآية من المدني . وفي قوله : ) لِرَبّكِ ( ، تنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية ، ونحرهم للأصنام . وعن علي ، رضي الله تعالى عنه : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة . وقيل : ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك . وعن عطية وعكرمة : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر بمنى . وقال الضحاك : استو بين السجدتين جالساً حتى يبد ونحرك . وقال أبو الأحوص : استقبل القبلة بنحرك .
الكوثر : ( 3 ) إن شانئك هو . . . . .
( إِنَّ شَانِئَكَ ( : أي مبغضك ، تقدم أنه العاصي بن وائل . وقيل : أبو جهل . وقال ابن عباس : لما مات إبراهيم ابن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى : ) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ ). وقال شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط . وقال قتادة : الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل . وقرأ الجمهور : ) شَانِئَكَ ( بالألف ؛ وابن عباس : شينك بغير ألف . فقيل : مقصور من شاني ، كما قالوا : برر وبر في بارر وبار . ويجوز أن يكون بناء على فعل ، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال ؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين . وقد قالوا : حذر أموراً ومزقون عرضي ، فلا يستوحش من كونه مضافاً للمفعول ، وهو مبتدأ ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلاً ، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به ، لا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فجميع المؤمنين أولاده ، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر ، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر . يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكره ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعلى آله وشرف وكرم .(8/521)
" صفحة رقم 522 "
109
( سورة الكافرون )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ( ) ) 2
) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ).
الكافرون : ( 1 ) قل يا أيها . . . . .
هذه مكية في قول الجمهور . وروي عن قتادة أنها مدنية . وذكروا من أسباب نزولها أنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام : دع ما أنت فيه ونحن نموّلك ونزوجك من شئت من كرائمنا ، ونملكك علينا ؛ وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا ونحن نعبد إلهك حتى نشترك ، فحيث كان الخير نلناه جميعاً . ولما كان أكثر شانئه قريشاً ، وطلبوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة ، أنزل الله تعالى هذه السورة تبرياً منهم وإخباراً لا شك فيه أن ذلك لا يكون . وفي قوله : ) قُلْ ( دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله ، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم ، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم . والكافرون ناس مخصوصون ، وهم الذين قالوا له تلك المقالة : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، وأبو جهل ، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم ، ووافى على الكفر تصديقاً للإخبار في قوله :
الكافرون : ( 2 - 5 ) لا أعبد ما . . . . .
( وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ). وللمفسرين في هذه الجمل أقوال :
أحدها : أنها للتوكيد . فقوله : ) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( توكيداً لقوله : ) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( ، وقوله : ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ثانياً تأكيد لقوله : ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( أولاً . والتوكيد في لسان العرب كثير جداً ، وحكوا من ذلك نظماً ونثراً ما لا يكاد يحصر . وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار ، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبداً .
والثاني : أنه ليس للتوكيد ، واختلفوا . فقال الأخفش : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ، فزال التوكيد ، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير .
وقال أبو مسلم : ما في الأوليين بمعنى الذي ، والمقصود المعبود . وما في الأخريين مصدرية ، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين . وقال ابن عطية : لما كان قوله : ) لاَ أَعْبُدُ ( محتملاً أن يراد به الآن ، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه ، جاء البيان بقوله : ) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( أبداً وما حييت . ثم جاء قوله : ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون به أبداً ، كالذي كشف الغيب . فهذا كما قيل لنوح عليه السلام : ) وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ). أما أن هذا في معينين ، وقوم نوح عموا بذلك ، فهذا معنى الترديد الذي في السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته ، انتهى .
وقال الزمخشري : ) لاَ أَعْبُدُ ( ، أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه(8/522)
" صفحة رقم 523 "
ما أطلب منكم من عبادة إلهي .
( وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ؟ ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته . فإن قلت : فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم ؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت ، انتهى . أما حصره في قوله : لأن لا لا تدخل ، وفي قوله : ما لا تدخل ، فليس بصيح ، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم . وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال ، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو ؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال : وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل . وقال : وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل ، فذكر الغالب فيهما .
وأما قوله : في قوله ) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال ؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً .
وأما قوله : ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ، فعابدون قد أعمله فيما أعبد ، فلا يفسر بالماضي . وأما قوله ، وهو لم يكن إلى آخره ، فسوء أدب منه على منصب النبوة ، وهو أيضاً غير صحيح ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يزل موحداً لله عز وجل منزهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله ، مجتنباً لأصنامهم بحج بيت الله ، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وهذه عبادة لله تعالى ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات ، قال تعالى : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ). قال المفسرون : معناه ليعرفون . فسمى الله تعالى المعرفة به عباده .
والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً : نفى عبادته في المستقبل ، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل ، قيل : ثم عطف عليه ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( نفياً للمستقبل على سبيل المقابلة ؛ ثم قال : ) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( نفياً للحال ، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال ؛ ثم عطف عليه ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( نفياً للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يعبد ما يعبدون ، لا حالاً ولا مستقبلاً ، وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر . ولما قال : ) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( ، فأطلق ما على الأصنام ، قابل الكلام بما في قوله : ) مَا أَعْبُدُ ( ، وإن كانت يراد بها الله تعالى ، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد ، وهذا على مذهب من يقول : إن ما لا تقع على آحاد من يعلم . أما من جوّز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل . وقيل : ما مصدرية في قوله : ) مَا أَعْبُدُ ). وقيل : فيها جميعها . وقال الزمخشري : المراد الصفة ، كأنه قيل : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق .
الكافرون : ( 6 ) لكم دينكم ولي . . . . .
( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ( : أي لكم شرككم ولي توحيدي ، وهذا غاية في التبرؤ . ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه . ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله : ) لَكُمْ دِينَكُمْ ( على سبيل المهادنة ، وهي منسوخة بآية السيف . وقرأ سلام : ديني بياء وصلاً ووقفاً ، وحذفها القراء السبعة ، والله تعالى أعلم .(8/523)
" صفحة رقم 524 "
110
( سورة النصر )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابَا ( ) ) 2
) إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا ).
النصر : ( 1 ) إذا جاء نصر . . . . .
هذه مدنية ، نزلت منصرفه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من غزوة خيبر ، وعاش بعد نزولها سنتين . وقال ابن عمر : نزلت في أوسط أيام التشريق بمنى في حجة الوداع ، وعاش بعدها ثمانين يوماً أو نحوها ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولما كان في قوله : ) لَكُمْ دِينَكُمْ ( موادعة ، جاء في هذه بما يدل على تخويفهم وتهديدهم ، وأنه آن مجيء نصر الله ، وفتح مكة ، واضمحلال ملة الأصنام ، وإظهار دين الله تعالى .
قال الزمخشري : ) إِذَا ( منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل ، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة ، انتهى . وكذا قال الحوفي ، ولا يصح إعمال ) فسيح ( في ) قَبْلِكُمْ إِذَا ( لأجل الفاء ، لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط ، فلا تعمل فيه ، بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح المنصور في علم العربية ، وقد استدللنا على ذلك في شرح التسهيل وغيره ، وإن كان المشهور غيره . والنصر : الإعانة والإظهار على العدو ، والفتح : فتح البلاد . ومتعلق النصر والفتح محذوف ، فالظاهر أنه نصر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنين على أعدائهم ، وفتح مكة وغيرها عليهم ، كالطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن . وقيل : نصره ( صلى الله عليه وسلم ) ) على قريش وفتح مكة ، وكان فتحها لعشر مضين من رمضان ، سنة ثمان ، ومعه عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار .
النصر : ( 2 ) ورأيت الناس يدخلون . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَدْخُلُونَ ( مبنياً للفاعل ؛ وابن كثير في رواية : مبنياً للمفعول . ) فِى دِينِ اللَّهِ ( : في ملة الإسلام الذي لا دين له يضاف غيرها . ) أَفْوَاجاً ( أي جماعات كثيرة ، كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً بعد واحد ، واثنين اثنين .
قال الحسن : لما فتح عليه الصلاة والسلام مكة ، أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما الظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل . وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين . منهم من قدم ، ومنهم من قدّم وافده . قال ابن عطية : والمراد ، والله أعلم ، العرب عبدة الأوثان . وأما نصارى بني ثعلب فما أراهم أسلموا قط في حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لكن أعطوا الجزية . وقال مقاتل وعكرمة : المراد بالناس أهل اليمن ، وفد منهم سبعمائة رجل . وقال الجمهور : وفود العرب ، وكان دخولهم بين فتح مكة وموته ( صلى الله عليه وسلم ) ) . و ) أَفْوَاجاً ( : جمع فوج . قال الحوفي : وقياس جمعه أفوج ، ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدّل إلى أفواج ، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح . فكما أن قياس فعل صحيحها أن يجمع على أفعل لا على أفعال ، فكذلك هذا ؛ والأمر في هذا المعتل بالعكس .(8/524)
" صفحة رقم 525 "
القياس فيه أفعال ، كحوض وأحواض ، وشذ فيه أفعل ، كثوب وأثوب ، وهو حال . ويدخلون حال أو مفعول ثان إن كان ) أَرَأَيْتَ ( بمعنى علمت المتعدية لاثنين . وقال الزمخشري : إما على الحال على أن أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت ، انتهى . ولا نعلم رأيت جاءت بمعنى عرفت ، فنحتاج في ذلك إلى استثبات .
النصر : ( 3 ) فسبح بحمد ربك . . . . .
( فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( : أي ملتبساً بحمده على هذه النعم التي خولكها ، من نصرك على الأعداء وفتحك البلاد وإسلام الناس ؛ وأي نعمة أعظم من هذه ، إذ كل حسنة يعملها المسلمون فهي في ميزانه .
وعن عائشة : كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) يكثر قبل موته أن يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ) . قال الزمخشري : والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته ، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) ، انتهى . وقد علم هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) من هذه السورة دنو أجله ، وحين قرأها عليه الصلاة والسلام استبشر الصحابة وبكى العباس ، فقال : ( وما يبكيك يا عم ؟ ) قال : نعيت إليك نفسك ، فقال : ( إنها لكما تقول ) ، فعاش بعدها سنتين . ) إِنَّهُ كَانَ تَوبَا ( : فيه ترجئة عظيمة للمستغفرين .(8/525)
" صفحة رقم 526 "
111
( سورة المسد )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ( ) ) 2
المسد : ( 1 ) تبت يدا أبي . . . . .
الحطب معروف ، ويقال : فلان يحطب على فلان إذا وشى عليه . الجيد : العنق . المسد : الحبل من ليف ، وقال أبو الفتح : ليف المقل ، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد ، انتهى . وقد يكون من جلود الإبل ومن أوبارها . قال الراجز :
ومسد أمر من أيانق
ورجل ممسود الخلق : أي مجدوله شديده .
( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين الله تعالى ، أتبع بذكر من لم يدخل في الدين ، وخسر ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان . وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر ، وهنا قال ابن عباس : خابت ، وقتادة : خسرت ، وابن جبير : هلكت ، وعطاء : ضلت ، ويمان بن رياب : صفرت من كل خير ، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى . وقالوا فيما حكى إشابة : أم تابة : أي هالكة من الهرم والتعجيز . وإسناد الهلاك إلى اليدين ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، وهو في الحقيقة للنفس ، كقوله : ) ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ). وقيل : أخذ بيديه حجراً ليرمي به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأسند التب إليهما . والظاهر أن التب دعاء ، وتب : إخبار بحصول ذلك ، كما قال الشاعر : جزاني جزاه الله شرّ جزائه
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
ويدل عليه قراءة عبد الله : وقد تب . روي أنه لما نزل : ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( ، قال : ( يا صفية بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني لكما من الله شيئاً ، سلاني من مالي ما شتئما ) . ثم صعد الصفا ، فنادى بطون قريش : ( يا بني فلان يا بني فلان ) . وروي أنه صاح بأعلى صوته : ( يا صباحاه ) . فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : ( أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( فإني نذير لكم بين يدي(8/526)
" صفحة رقم 527 "
عذاب شديد ) . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ، ونزلت هذه السورة . وأبو لهب اسمه عبد العزى ، ابن عم المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ ابن محيصن وابن كثير : أبي لهب بسكون الهاء ، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب ، لأنها فاصلة ، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة . قال الزمخشري : وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس مالك بالضم . انتهى ، يعني : سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس ، ويعني في قول الشاعر : وإني لمهد من ثنائي فقاصد
به لابن عمي الصدق شمس بن مالك
فأما في لهب ، فالمشهور في كنيته فتح الهاء ، وأما شمس بن مالك ، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام ، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع ، كما جاء أذناب خيل شمس . قيل : وكنى بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه ، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية ، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم ؛ أو لأن مآله إلى النار ، فوافقت حالته كنيته ، كما يقال للشرير : أبو الشر ، وللخير أبو الخير ؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية ، فعدل إلى الأنقص ؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم .
المسد : ( 2 ) ما أغنى عنه . . . . .
والظاهر أن ما في ) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ( نفي ، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه ، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته ، وما كسب من نسلها ومنافعها ، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به . ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب ، أي : أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار ؟ والمعنى : أين الغني الذي لماله ولكسبه ؟ والظاهر أن ما في قوله : ) وَمَا كَسَبَ ( موصولة ، وأجيز أن تكون مصدرية . وإذا كانت ما في ) مَا أَغْنَى ( استفهاماً ، فيجوز أن تكون ما في ) وَمَا كَسَبَ ( استفهاماً أيضاً ، أي : وأي شيء كسب ؟ أي لم يكسب شيئاً . وعن ابن عباس : ) وَمَا كَسَبَ ( ولده .
وفي الحديث : ( ولد الرجل من كسبه ) . وعن الضحاك : ) وَمَا كَسَبَ ( هو عمله الخبيث في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وعن قتادة : وعمله الذي ظن أنه منه على شيء . وروي عنه أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً ، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي . وقرأ عبد الله : وما اكتسب بتاء الافتعال .
المسد : ( 3 - 4 ) سيصلى نارا ذات . . . . .
وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره ، وهو أيضاً سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ، ومريئته ؛ وعنه أيضاً : ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها . وقرأ أيضاً : حمالة للحطب ، بالتنوين في حمالة ، وبلام الجر في الحطب . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : سيصلى بضم الياء وسكون الصاد ؛ وأبو قلابة : حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافاً ، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية ؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم : حمالة بالنصب .
وقرأ الجمهور : ) سَيَصْلَى ( بفتح الياء وسكون الصاد ، ( وَامْرَأَتُهُ ( على التكبير ، ( حَمَّالَةَ ( على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً ، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة . وارتفع ) وَامْرَأَتُهُ ( عطفاً على الضمير المستكن في ) سَيَصْلَى ( ، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته ، ( وحمالة ( في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لامرأته ، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة ، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل . وفي قراءة النصب ، انتصب على الذم . وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون ) لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ ( مبتدأ ، وحمالة ، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء . والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه لتعقرهم ، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب ، قاله ابن عباس . فحمالة معرفة ، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان ، وأن يكون بدلاً . قيل : وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق(8/527)
" صفحة رقم 528 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة ، ويقال للمشاء بها : يحمل الحطب بين الناس ، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر . قال الشاعر : من البيض لم يصطد على ظهر لامه
ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر . وقال الراجز :
إن بني الأرزم حمالو الحطب
هم الوشاة في الرضا وفي الغضب
وقال ابن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : يحطب على ظهره . قال تعالى : ) وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ). وقيل : الحطب جمع حاطب ، كحارس وحرس ، أي يحمل الجناة على الجنايات ،
المسد : ( 5 ) في جيدها حبل . . . . .
والظاهر أن الحبل من مسد . وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان : استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم . وقال قتادة : قلادة من ودع . وقال ابن المسيب : قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد . قال ابن عطية : وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، انتهى . وقال الحسن : إنما كانت خرزاً . وقال الزمخشري : والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطابون تحسيساً لحالها وتحقيراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة . ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي
أم ما تعير من حمالة الحطب
غرساء شاذخة في المجد سامية
كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
ويحتمل أن يكون المعنى : إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع ، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه ، انتهى .
ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في المسجد وبيدها فهر ، فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلن ؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فروي أن أبا بكر ، رضي الله تعالى عنه ، قال لها : هل تري معي أحداً ؟ فقالت : أتهزأ بي ؟ لا أرى غيرك . وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول :
مذمماً أبينا
ودينه قلينا
وأمره عصينا فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها ) . وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال .(8/528)
" صفحة رقم 529 "
112
( سورة الإخلاص )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( ) ) 2
) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ).
الإخلاص : ( 1 ) قل هو الله . . . . .
الصمد : فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج ويستقل بها ، قال : ألا بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد
وقال آخر : علوته بحسام ثم قلت له
خذها خزيت فأنت السيد الصمد
الكفو : النظير .
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ).
هذه السورة مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة ، مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك .
ولما تقدم فيما قبلها عداوة أقرب الناس إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو عمه أبو لهب ، وما كان يقاسي من عباد الأصنام الذين اتخذوا مع الله آلهة ، جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد ، رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من المذاهب المخالفة للتوحيد .
وعن ابن عباس ، أن اليهود قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه ، فنزلت . وعن أبي العالية ، قال قادة الأحزاب : انسب لنا ربك ، فنزلت . فإن صح هذاالسبب ، كان هو ضميراً عائداً على الرب ، أي ) قُلْ هُوَ اللَّهُ ( أي ربي الله ، ويكون مبتدأ وخبراً ، وأحد خبر ثان . وقال الزمخشري : وأحد يدل من قوله : ) اللَّهِ ( ، أو على هو أحد ، انتهى . وإن لم يصح السبب ، فهو ضمير الأمر ، والشان مبتدأ ، والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو ، وأحد بمعنى واحد ، أي فرد من جميع جهات الوحدانية ، أي في ذاته وصفاته لا يتجزأ . وهمزة أحد هذا بدل من واو ، وإبدال الهمزة مفتوحة من الواو قليل ، من ذلك امرأة إناة ، يريدون وناة ، لأنه من الوني وهو الفتور ، كما أن أحداً من الوحدة . وقال ثعلب : بين واحد وأحد فرق ، الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان ، والأحد لا يدخله . يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ، لأن الله خصوصية له الأحد ، وزيد تكون منه حالات ، انتهى . وما ذكر من أن أحداً لا يدخله ما ذكر منقوض بالعدد . وقرأ أبان بن عثمان ، وزيد بن علي ، ونصر بن عاصم ، وابن سيرين ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وأبو عمرو في رواية يونس ، ومحبوب ،(8/529)
" صفحة رقم 530 "
والأصمعي ، واللؤلؤي ، وعبيد ، وهارون عنه : ) أَحَدٌ اللَّهِ ( بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجد في الشعر نحو قوله :
ولا ذاكراً الله إلا قليلاً
ونحو قوله :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
الإخلاص : ( 2 ) الله الصمد
) اللَّهُ الصَّمَدُ ( : مبتدأ وخبر ، والأفصح أن تكون هذه جملاً مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف ، كما تقول : زيد العالم زيد الشجاع . وقيل : الصمد صفة ، والخبر في الجملة بعده ، وتقدم شرح الصمد في المفردات . وقال الشعبي ، ويمان بن رياب : هو الذي لا يأكل ولا يشرب . وقال أبيّ بن كعب : يفسره ما بعده ، وهو قوله : ) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ). وقال الحسن : الصمد : المصمت الذي لا جوف له ، ومنه قوله : شهاب حروب لا تزال جياده
عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
وفي كتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة . وقال ابن الأنباري : لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هو السيد الذي ليس فوقه أحد ، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم .
الإخلاص : ( 3 - 4 ) لم يلد ولم . . . . .
قال الزمخشري : ) لَمْ يَلِدْ ( ، لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، ودل على هذا المعنى بقوله : ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ). ) وَلَمْ يُولَدْ ( : لأن كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أول لوجوده ، وليس بجسم ولم يكافئه أحد . يقال له كفو ، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء ، وبضم الكاف مع ضم الفاء . وقرأ حمزة وحفص : بضم الكاف وإسكان الفاء ، وهمز حمزة ، وأبدلها حفص واواً . وباقي السبعة : بضمهما والهمز ، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع ، وفي رواية عن نافع أيضاً كفا من غير همز ، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة . وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد ، كما قال النابغة :
لا تعذفني بركن لا كفاء له
الأعلم لا كفاء له : لا مثيل له . وقال مكي سيبويه : يختار أن يكون الظرف خبراً إذا قدمه ، وقد خطأه المبرد بهذه الآية ، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبراً ، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم ، إنما أجاز أن يكون خبراً وأن لا يكون خبراً . ويجوز أن يكون حالاً من النكرة وهي أحد . لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال ، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره ، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول ، انتهى . وخرجه ابن عطية أيضاً على الحال .
وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدماً في أفصح الكلام وأعربه ؟ قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه ، انتهى .
وهذه الجملة ليست من هذا الباب ، وذلك أن قوله : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( ليس الجار والمجرور فيه تاماً ، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبراً لكان ، بل هو متعلق بكفواً وقدم عليه . فالتقدير : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافئه ، فهو في معنى المفعول متعلق بكفواً . وتقدم على كفواً للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى . وتوسط الخبر ، وإن كان الأصل(8/530)
" صفحة رقم 531 "
التأخر ، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك . وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفواً حال من أحد ، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبراً ، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه .
وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً ، ويصلح أن يكون غير خبر . قال سيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً ، ويصلح أن يكون غير خبر . قال سيبويه : وتقول : ما كان فيها أحد خير منك ، وما كان أحد مثلك فيها ، وليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم . أجريت الصفة على الاسم ، فإن جعلته على : فيها زيد قائم ، نصبت فتقول : ما كان فيها أحد خيراً منك ، وما كان أحد خيراً منك فيها ، إلا أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الملغى كان أحسن . وإذا أردت أن يكون مستقراً ، فكلما قدمته كان أحسن ، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير . قال تعالى : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ). وقال الشاعر :
ما دام فيهن فصيل حياً
انتهى . وما نقلناه ملخصاً . وهو بألفاظ سيبويه ، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبراً . ومعنى قوله : مستقراً ، أي خبراً للمبتدأ ولكان . فإن قلت : فقد مثل بالآية الكريمة . قلت : هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام هو في قوله :
ما دام فيهن فصيل حياً
أجرى فضلة لا خبراً . كما أن له في الآية أجرى فضلة ، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً ، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله : ولم يكن له أحد ، بل لو تأخر كفواً وارتفع على الصفة وجعل له خبراً ، لم ينعقد منه كلام ، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو ، وله متعلق به ، والمعنى : ولم يكن له أحد مكافئه . وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة ، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن ، وقد تكلم العلماء على ذلك ، وليس هذا موضعه ، والله الموفق .(8/531)
" صفحة رقم 532 "
113
( سورة الفلق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( ) ) 2
الفلق : ( 1 ) قل أعوذ برب . . . . .
الفلق : فعل بمعنى مفعول ، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى . وقب الليل : أظلم ؛ والشمس : غابت ، والعذاب : حل . قال الشاعر : وقب العذاب عليهم فكأنهم
لحقتهم نار السموم فأحصدوا
النفث : شبه النفخ دون تفل بريق ، قاله ابن عطية : وقيل : نفخ بريق معه ، قاله الزمخشري . وقال صاحب اللوامح : شبه النفخ من الفم في الرقبة ولا ريق معه ، فإذا كان بريق فهو التفل . قال الشاعر : فإن أبرأ فلم أنفث عليه
وإن يفقد فحق له الفقود
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ).
هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر . ورواية كريب عن ابن عباس مدنية ، في قول ابن عباس في رواية صالح وقتادة وجماعة . قيل : وهو الصحيح . وسبب نزول المعوّذتين قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو جف ، والجف قشر الطلع فيه مشاطة رأسه عليه الصلاة والسلام وأسنان مشطه ، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر ، فأنزلت عليه المعوّذتان ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في نفسه خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فقام فكأنما نشط من عقال . ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها ، شرح ما يستعاذ منه بالله من الشرّ الذي في العالم ومراتب مخلوقاته . والفلق : الصبح ، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد ، وفي المثل : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح ، وقال الشاعر : يا ليلة لم أنمها بت مرتقبا
أرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق(8/532)
" صفحة رقم 533 "
وقال الشاعر يصف الثور الوحشي : حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق
هاديه في أخريات الليل منتصب
وقيل : الفلق : كلما يفلقه الله تعالى ، كالأرض والنبات والجبال عن العيون ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك . وقال ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين : الفلق : جب في جهنم ، ورواه أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا : لما اطمأن من الأرض الفلق ، وجمعه فلقان . وقيل : واد في جهنم . وقال بعض الصحابة : بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حره .
الفلق : ( 2 ) من شر ما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مِن شَرّ مَا خَلَقَ ( ، بإضافة شر إلى ما ، وما عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد ، كالإحراق بالنار ، والإغراق بالبحر ، والقتل بالسم . وقرأ عمرو بن فايد : من شر بالتنوين . وقال ابن عطية : وقرأ عمرو بن عبيد ، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر : من شر بالتنوين ، ما خلق على النفي ، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل ، الله خالق كل شيء ، ولهذه القراءة وجه غير النفي ، فلا ينبغي أن ترد ، وهو أن يكون ) مَا خَلَقَ ( بدلاً من ) شَرُّ ( على تقدير محذوف ، أي من شرّ شر ما خلق ، فحذف لدلالة شر الأول عليه ، أطلق أولاً ثم عمّ ثانياً .
الفلق : ( 3 ) ومن شر غاسق . . . . .
والغاسق : الليل ، ووقب : أظلم ودخل على الناس ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال : والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه . من قوله تعالى : ) أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ ( ، ومنه : غسقت العين : امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً ، ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء ، انتهى . وقال الزجاج : هو الليل لأنه أبرد من النهار ، والغاسق : البارد ، استعيذ من شره لأنه فيه تنبث الشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك . قال الشاعر : يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا
إذ جئتنا طارقاً والليل قد غسقا
وقال محمد بن كعب : النهار دخل في الليل . وقال ابن شهاب : المراد بالغاسق : الشمس إذا غربت . وقال القتبي وغيره : هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف . وفي الحديث : ( نظر ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى القمر فقال : يا عائشة ، نعوذ بالله من هذا ، فإنه الفاسق إذا وقب ) . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الغاسق النجم ) . وقال ابن زيد عن العرب : الغاسق : الثريا إذا سقطت ، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك . وقيل : الحية إذا لدغت ، والغاسق سم نابها لأنه يسيل منه .
الفلق : ( 4 - 5 ) ومن شر النفاثات . . . . .
والنفاثات : النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر ، يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين . وقرأ الجمهور : ) النَّفَّاثَاتِ ( ؛ والحسن : بضم النون ، وابن عمر والحسن أيضاً وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات ؛ والحسن أيضاً وأبو الربيع : النفثات بغير ألف ، نحو الخدرات . والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك .
وسبب نزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله : ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله : ) إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( ، تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد ، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ، وعرضهنّ محاسنهن ، كأنهن يسحرنهم بذلك ، انتهى .
وقال ابن عطية : وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذي بذلك ، وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحرا المغرب . وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان ، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع ، انتهى .
وقيل : الغاسق والحاسد بالطرف ، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوباً إليه ، وكذا كل ما فسر به(8/533)
" صفحة رقم 534 "
الغاسق . وكذلك الحاسد ، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه . أما إذا لم يظهر الحسد ، فإنما يتأذى به هو لا المحسود ، لاغتمامه بنعمة غيره . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره ، انتهى . وعم أولاً فقال : ) مِن شَرّ مَا خَلَقَ ( ، ثم خص هذه لخفاء شرها ، إذ يجيء من حيث لا يعلم ، وقالوا : شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر ، ونكر غاسق وحاسد وعرف النفاثات ، لأن كل نفاثة شريرة ، وكل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر . ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات ، ومنه : لا حسد إلا في اثنتين ، ومنه قول أبي تمام :
وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقال آخر :
إن الغلا حسن في مثلها الحسد
وقول المنظور إليه للحاسد ، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة ، لأنها خمس آيات ، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها .(8/534)
" صفحة رقم 535 "
114
( سورة الناس )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( ) ) 2
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ).
الناس : ( 1 - 3 ) قل أعوذ برب . . . . .
تقدّم أنها نزلت مع ما قبلها . والخلاف أهي مدنية أم مكية ؟ وأضيف الرب إلى الناس ، لأن الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم ، استعاذوا بربهم مالكهم وإلههم ، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر . والظاهر أن ) مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ ( صفتان . وقال الزمخشري : هما عطفا بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس ، ثم زيد بياناً بإله الناس لأنه قد يقال لغيره : رب الناس ، كقوله : ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ). وقد يقال : ملك الناس ، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان ، انتهى . وعطف البيان المشهور أنه يكون بالجوامد ، وظاهر قوله أنهما عطفا بيان لواحد ، ولا أنقل عن النحاة شيئاً في عطف البيان ، هل يجوز أن يتكرر لمعطوف عليه واحد أم لا يجوز ؟ .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة ؟ قلت : لأن عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار ، انتهى .
الناس : ( 4 - 6 ) من شر الوسواس . . . . .
والوسواس ، قالوا : اسم من أسماء الشيطان ؟ والوسواس أيضاً : ما يوسوس به شهوات النفس ، وهو الهوى المنهى عنه . والخناس : الراجع على عقبه ، المستتر أحياناً ، وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد الله تعالى تأخر . وأما الشهوات فتخنس بالإيمان وبلمة الملك وبالحياء ، فهذان المعنيان يندرجان في الوسواس ، ويكون معنى ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( : من الشياطين ونفوس الناس ، أو يكون الوسواس أريد به الشيطان ، والمغري : المزين من قرناء السوء ، فيكون ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( ، تبييناً لذلك الوسواس . قال تعالى : ) عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ). وقال قتادة : إن من الإنس شياطين ، ومن الجن شياطين ، فنعوذ بالله منهم . وقال أبو ذر لرجل : هل تعوذت من شياطين الإنس ؟
وقال الزمخشري : ) الْوَسْوَاسِ ( اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ؛ وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال ، والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه ؛ أو أريد ذو الوسواس . وقد تكلمنا معه في دعواه أن الزلزال بالفتح اسم وبالكسر مصدر في ) إِذَا زُلْزِلَتِ ( ، ويجوز في الذي الجر على الصفة ، والرفع والنصب على الشتم ، ومن في ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( للتبعيض ، أي كائناً من الجنة والناس ، فهي في موضع الحال أي ذلك الموسوس هو بعض الجنة وبعض الناس . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من متعلقاً بيوسوس ، ومعناه ابتداء الغاية ، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ، انتهى .
ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة ، أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب والملك والإله ، وإن اتحد المطلوب ، وفي(8/535)
" صفحة رقم 536 "
الاستعاذة من ثلاث : الغاسق والنفاثات والحاسد بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه . كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا آوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ : قل هو الله أحد والمعوذتين ، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثاً ، ( صلى الله عليه وسلم ) وشرّف ومجد وكرّم ، وعلى آله وصحبه ذوي الكرم وسلم تسليماً كثيراً.(8/536)