" صفحة رقم 500 "
جعلت هم توكيداً للهاء والميم ، يعني في أصابهم ، وهو ضمير رفع ، وفي هذا نظر ، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل ، وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع ، والانتصار : أن يقتصر على ما حده الله له ولا يتعدى . وقال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فتجترىء عليهم الفساق ، ومن انتصر غير متعد فهو مطيع محمود . وقال مقاتل ، وهشام عن عروة : الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص . وقال ابن عباس : تعدى المشركون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعلى أصحابه ، وأخرجوهم من مكة ، فأذن الله لهم بالخروج في الأرض ، ونصرهم على من بغى عليهم . وقال الكيا الطبري : ظاهره أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله ولرسوله وإقامة الصلاة ؟ فهذا على ما ذكره النخعي ، وهذا فيمن تعدى وأصر ، والمأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً مقلعاً . وقد قال عقيب هذه الآية ) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ( الآية ، فيقتضي إباحة الانتصار . وقد عقبه بقوله : ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ( ، وهذا محمول على القرآن عند غير المصر . فأما المصر على البغي ، فالأفضل الانتصار منه بدليل الآية قبلها . وقال ابن بحر : المعنى تناصروا عليه فأزالوه عنهم . وقال أبو بكر بن العربي نحواً من قول الكيا . قال الجمهور : إذا بغى مؤمن على مؤمن ، فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه ، بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه . وقالت فرقة : له ذلك .
( وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( : هذا بيان للانتصار ، أي لا يتعدى فيما يجازي به من بغى عليه . قال ابن أبي نجييج ، والسدي : إذا شتم ، فله أن يرد مثل ما شتم به دون أن يتعدى ، وسمى القصاص سيئة على سبيل المقابلة ، أو لأنها تسوء من اقتص منه ، كما ساءت الحيض . وظاهر قوله : مثلها المماثلة مطلقاً في كل الأحوال ، لا فيما خصه الدليل . والفقهاء أدخلوا التخصيص في صور كثيرة بناء على القياس . قال مجاهد ، والسدي : إذا قال له أخزاك الله فليقل أخزاك الله ، وإذا قذفه قذفاً يوجب الحد ، بل الحد الذي أمره الله به . ) فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ ( : أي بينه وبين خصمه بالعفو ، ( فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ( : عدة مبهمة لا يقاس عظمها ، إذ هي على الله . ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( : أي الخائنين ، وإذا كان لا يحبه وقد ندب إلى العفو عنه ، فالعفو الذي يحبه الله أولى أن يعفي عنه ، أو لا يحب الظالمين من تجاوز واعتدى من المجني عليهم ، إذا انتصروا خصوصاً في حالة الحرب والتهاب الحمية ، فربما يظلم وهو لا يشعر . وفي الحديث : ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم ، قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله ؟ فيقولون : نحن عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله ) . واللام في ) وَلَمَنِ انتَصَرَ ( لام توكيد . قال الحوفي : وفيها معنى القسم . وقال ابن عطية : لام التقاء القسم يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم ، فالقسم قبلها محذوف ، ومن شرطية ، وحمل ) انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ( على لفظ من ، وفأولئك على معنى من ، والفاء جواب الشرط ، وظلمه مصدر مضاف إلى المفعول . قال الزمخشري : ويفسره قراءة من قرأ : بعد ما ظلم ما عليهم من سبيل ، قيل : أي من طريق إلى الحرج ؛ وقيل : من سبيل للمعاقب ، ولا المعاقب والعاتب ، وهذه مبالغة في إباحة الانتصار . ) إِنَّمَا السَّبِيلُ ( : أي سبيل الإثم والحرج ، ( عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ ( : أي يبتذلون بالظلم ، ( وَيَبْغُونَ فِى الاْرْضِ ( : أي يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون . وقيل : ويظلمون الناس : أي يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد واللسان . والبغي بغير الحق ، فهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيهاً على شدته وسوء حال صاحبه . انتهى . ) وَلَمَن صَبَرَ ( : أي على الظلم والأذى ، ( وَغَفَرَ ( ، ولم ينتصر . واللام في ولمن يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف ، ومن شرطية ، وجواب القسم قوله : ) إِنَّ ذالِكَ ( ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه . ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء ، ومن موصولة مبتدأ ، والجملة المؤكدة بأن في موضع الخبر . وقال الحوفي : من رفع بالابتداء وأضمر الخبر ، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء ، كما قال الشاعر : من يفعل الحسنات الله يشكرها(7/500)
" صفحة رقم 501 "
أي : فالله يشكرها . انتهى ، وهذا ليس بجيد ، لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند سيبويه . والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف ، أي إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه : ) لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( ، إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ( ، لم يكن في عزم الأمور حذف ، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ ، كان هو الرابط ، ولا يحتاج إلى تقدير منه ، وكان في ) عَزْمِ الاْمُورِ ( ، أي أنه لمن ذوي عزم الأمور . وسب رجل آخر في مجلس الحسن ، فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ، ثم قام فتلا الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها ، لم هذه ضيعها الجاهلون . والجملة من قوله : ) إِنَّمَا السَّبِيلُ ( اعتراض بين قوله : ) وَلَمَنِ انتَصَرَ ( ، وقوله : ) وَمِنْ صَبَرَ ).
) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ ( : أي من ناصر يتولاه من بعده ، أي من بعد إضلاله ، وهذا تحقير لأمر الكفرة . ) وَتَرَى الظَّالِمِينَ ( : الخطاب للرسول ، والمعنى : وترى حالهم وما هم فيه من الحيرة ، ( لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ ( ، يقولون : ) هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ ( : هل سبيل إلى الردّ للدنيا ؟ وذلك من فظيع ما اطلعوا عليه ، وسوء ما يحل بهم . ) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( : أي على النار ، دل عليها ذكر العذاب ، ( خاشِعِينَ ( متضائلين صاغرين مما يحلقهم ، ( مَّنَ الذُّلّ وِقْراً سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلّ ( متعلق ) يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ ). قال ابن عباس : ذليل . انتهى . قيل : ووصف بالخفاء لأن نظرهم ضعيف ولحظهم نهاية ، قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير وقيل : يحشرون عمياً . ولما كان نظرهم بعيون قلوبهم ، جعله طرفاً خفياً ، أي لا يبدو نظرهم ، وهذا التأويل فيه تكلف . وقال السدي ، وقتادة : المعنى يسارقون النظر لما كانوا فيه من الهمّ وسوء الحال ، لا يستطيعون النظر بجميع العين ، وإنما ينظرون من بعضها ، فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدراً ، أي من نظر خفي . وقال الزمخشري : ) مِن طَرْفٍ خَفِىّ ( ، أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصور ينظر إلى السيف ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره ، ولا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينه منها ، كما يفعل في نظره إلى المتحاب .
( وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِير ( سقط : الآية كاملة ) ٍ ). (7/501)
" صفحة رقم 502 "
( سقط : لتهدي إلى صراط مستقيم ، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلا الله تصير الأمور )
الظاهر أن ) وَقَالَ ( ماض لفظاً ومعنى ، أي ) وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( في الحياة الدنيا ، ويكون يوم القيامة معمولاً لخسروا ، ويحتمل أن يكون معنى ) وَقَالَ ( : ويقول ، ويوم القيامة معمول لو يقولوا ، أي ويقولوا في ذلك اليوم لما عاينوا ما حل بالكفار وأهليهم . الظاهر أنهم الذين كانوا أهليهم في الدنيا ، فإن كانوا معهم في النار فقد خسروهم ، أي لا ينتفعون بهم ؛ وإن كانوا في الجنة لكونهم كانوا في الجنة لكونهم كانوا مؤمنين ، كآسية امرأة فرعون ، فهم لا ينتفعون بهم أيضاً . وقيل : أهلوهم ما كان أعد لهم من الحور لو كانوا آمنوا ، والظاهر أن قوله : ) أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ ( من كلام المؤمنين ؛ وقيل : استئناف إخبار من الله تعالى .
( مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( ، قيل : هو يوم ورود الموت ، والظاهر أنه يوم القيامة . و ) مِنَ اللَّهِ ( متعلق بمحذوف يدل عليه ما مر ، أي لا يرد ذلك اليوم من ما حكم الله به فيه . وقال الزمخشري : ) مِنَ اللَّهِ ( : من صلة للأمرد . انتهى ، وليس الجيد ، إذ لو كان من صلته لكان معمولاً له ، فكان يكون معرباً منوناً . وقيل : ) مِنَ اللَّهِ ( يتعلق بقوله : ) يَأْتِىَ ( ، من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده . ) مَالَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ ( تلجأون إليه ، فتتخلصون من العذاب ، ومالكم من إنكار شيء من أعمالكم التي توردكم النار ، والنكير مصدر أنكر على غير قياس . قيل : ويحتمل أن يكون اسم فاعل للمبالغة ، وفيه بعد ، لأن نكر معناه لم يميز . ) فَإِنْ أَعْرَضُواْ ( الآية : تسلية للرسول وتأنيس له ، وإزالة لهمه بهم . والإنسان : يراد به الجنس ، ولذلك جاء : ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ ). وجاء جواب الشرط ) فَإِنَّ الإنسَانَ ( ولم يأت فإنه ، ولا فأنهم ، ليدل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال : ) إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ، ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ).
ولما ذكر أنه يكفر النعم ، أتبع ذلك بأن له ملك العالم العلوي والسفلي ، وأنه يفعل ما يريد ، ونبه على عظيم قدرته ، وأن الكائنات ناشئة عن إرادته ، فذكر أنه يهب لبعض إناثاً ، ولبعض ذكوراً ، ولبعض الصنفين ، ويعقم بعضاً فلا يولد له . وقال إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء ، ثم عمت . فلوط أبو بنات لم يولد له ذكور ، وإبراهيم ضده ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليهما ولد له الصنفان ، ويحي عقيم . انتهى . وذكر أيضاً مع لوط شعيب ، ومع يحي عيسى ، وقدم تعالى هبة البنات تأنيساً لهن وتشريفاً لهن ، ليهتم بصونهن والإحسان إليهن . وفي الحديث : ( من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار ) . وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، لأن الله تعالى بدأ بالإناث . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم ؟ ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث ؟ قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى . وكفران الإنسان : نسيانه الرحمة السابقة عنده .
ثم ذكره بذكر ملكه ومشيئته ، وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث ، لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه ، لا ما يشاء الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللائي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم أوجب التقديم . والبلاء : الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ، ذكر البلاء وآخر الذكور . فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيره ، وهم أحق بالتقديم بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفريقين ، الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم . ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير ، وعرفان تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتضى آخر فقال : ) ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ( ، كما قال : ) إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن(7/502)
" صفحة رقم 503 "
ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( ، ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ). انتهى . وقيل : بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر ، لتنقله من الغم إلى الفرح . وقيل : ليعلم أنه لا اعتراض على الله فيرضى . فإذا وهب له الذكر ، علم أنه زيادة وفضل من الله وإحسان إليه . وقيل : قدمها تنبيهاً على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم ، كانت عناية الله أكثر . وقال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاماً ، ثم تلد جارية . وقال محمد بن الحنيفة : أن تلد توأماً ، غلاماً وجارية . وقال أبو بكر بن العربي : أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً . قال علماؤنا : يعني آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ، ذكراً وأنثى ؛ تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر . انتهى .
ولما ذكر الهبة في الإناث ، والهبة في الذكور ، اكتفى عن ذكرها في قوله : ) أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ). ولما كان العقم ليس بمحمود قال : ) وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً ( ، وهو قسيم لمن يولد له . ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده ، لم يذكره تعالى . قالوا : وكانت الخلقة مستمرة ، ذكراً وأنثى ، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى ، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه ، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم . فلما جن عليه الليل ، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار ، وأنكرت خادمه حاله فسألته ، فقال : بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه ، فقالت له : ما هو ؟ فقال : شخص له ذكر وفرج ، كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم ، فرضوا بها . وجاء الإسلام على ذلك ، وقضى بذلك علي ، كرم الله وجهه ، إنه عليم بمصالح العباد ، قدير على تكوين ما يشاء .
كان من الكفار خوض في معنى تكليم الله موسى ، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم ، فنزلت . وقيل : كانت قريش تقول : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً ، كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال لهم الرسول عليه السلام : ( لم ينظر موسى إلى الله ) ، فنزلت : ) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ ( ، بياناً لصورة تكليم الله عباده أي ما ينبغي ولا يمكن لبشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام . قال مجاهد : أو النفث في القلب . وقال النقاش : أو وحي في المنام . وقال النخعي : كان في الأنبياء من يخط له في الأرض ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزاً ، كموسى عليه السلام ، وهذا معنى ) مِن وَرَاء حِجَابٍ ( : أي من خفاء عن المتكلم ، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في المشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكاً يشافهه بوحى الله تعالى ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه :
إما على طريق الوحي ، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده . وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره ، قال عبيد بن الأبرص : وأوحى إلى الله أن قد تأمروا
بابن أبي أوفى فقمت على رجل
أي : ألهمنى وقذف في قلبي .
وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي . وقوله : ) مِن وَرَاء حِجَابٍ ( مثل ، أي : كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه ، وهو من وراء حجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم الله موسى ويكلم الملائكة .
وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيوحي الملك إليه ، كما كلم الأنبياء غير موسى . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية الله تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن الله .
وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي ، وخص الأول باسم الوحي هنا ، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة ، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى . وقيل : ) وَحْياً ( كما أوحى إلى الرسل بواسطة(7/503)
" صفحة رقم 504 "
الملائكة ، أو ) يُرْسِلَ رَسُولاً ( : أي نبياً ، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم ، حكاه الزمخشري ، وترك تفسير ) أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ( ، ومعناه في هذا القول : كما كلم محمداً وموسى ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ الجمهور : ) حِجَابٍ ( ، مفرداً ؛ وابن أبي عبلة : حجب جمعاً . وقرأ الجمهور : بنصب الفعلين عطف ، أو يرسل على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، وهذا المضمر معطوف على وحياً ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب ، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن الله ما يشاء ، ولا يجوز أن يعطف ) أَوْ يُرْسِلَ ( على ) أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ ( لفساد المعنى . وقال الزمخشري : ووحياً ، وأن يرسل ، مصدران واقعان موقع الحال ، لأن أن يرسل في معنى إرسالاً ، ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضاً ، كقوله : ) وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( ، والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً . انتهى . أما وقوع المصدر موقع الحال ، فلا ينقاس ، وإنما قالته العرب . وكذلك لا يجوز : جاء زيد بكاء ، تريد باكياً ، وقاس منه المبرد ما كان منه نوعاً للفعل ، نحو : جاء زيد مشياً أو سرعة ، ومنع سيبويه أن يقع أن والفعل المقدر بالمصدر موقع الحال ، فلا يجوز ، نحو : جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكاً ، فجعله وحياً مصدراً في موضع الحال مما لا ينقاس ، وأن يرسل في معنى إرسالاً الواقع موقع مرسلاً ممنوع بنص سيبويه . وقرأ نافع وأهل المدينة : أو يرسل رسولاً فيوحي بالرفع فيهما ، فخرج على إضمار هو يرسل ، أو على ما يتعلق به من وراء ، إذ تقديره : أو يسمع من وراء حجاب ، ووحياً مصدر في موضع الحال ، عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه ، أو يرسل والتقدير : إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً ، وإسناد التكلم إلى الله بكونه أرسل رسولاً مجاز ، كما تقول : نادى الملك في الناس بكذا ، وإنما نادى الريح ، الدائر في الأسواق ، نزل ما كان بواسطة منزلة ما كان بغير واسطة . قال ابن عطية : وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكلم ، وأن الحالف الرسل ، كانت إذا حلف أن لا يكلم إنساناً فأرسل إليه ، وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه . انتهى . ) إِنَّهُ عَلِىٌّ ( : أي عليٌّ عن صفات المخلوقين ، ( حَكِيمٌ ( : تجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة ، يكلم بواسطة وبغير واسطة .
( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا ( : أي مثل ذلك الإيحاء الفصل أوحينا إليك ، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث : النفث في الروع ، والمنام ، وتكليم الله له حقيقة ليلة الإسراء ، وإرسال رسول إليه ، وهو جبريل . وقيل : كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ). قال ابن عباس : النبوة . وقال السدي : الوحي ؛ وقال قتادة : رحمة ؛ وقال الكلبي : كتاباً ؛ وقال الربيع : جبريل ؛ وقيل : القرآن ؛ وسمى ما أوحى إليه روحاً ، لأن به الحياة من الجهل . وقال مالك بن دينار : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع القلوب ، كما أن العشب ربيع الأرض . ) مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( : توقيف على عظم المنة ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) أعلم الناس بها ، وعطف ولا الإيمان على ما الكتاب ، وإنما معناه : الإيمان الذي يدركه السمع ، لأن لنا أشياء من الإيمان لا تعلم إلا بالوحي . أما توحيد الله وبراءته عن النقائص ، ومعرفة صفاته العلا ، فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عالمون ذلك ، معصومون أن يقع منهم زلل في شيء من ذلك ، سابق لهم علم ذلك قبل أن يوحي إليهم . وقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( ، إذ هي بعض ما يتناوله الإيمان .
ومن طالع سير الأنبياء من نشأتهم إلى مبعثهم ، تحقق عنده أنهم معصومون من كل نقيصة ، موحدون لله منذ نشؤوا . قال الله تعالى في حق يحي عليه السلام : ) وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ). قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث . وعن أبي العالية : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان . وقال القاضي : ) وَلاَ الإِيمَانُ ( : الفرائض والأحكام . قال : وكان قبل مؤمناً بتوحيد الله ، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيماناً . وقال القشيري : يجوز إطلاق الإيمان على تفاصيل الشرع . وقال الحسين بن الفضل : هو على حذف مضاف ،(7/504)
" صفحة رقم 505 "
أي ولا أهل الإيمان من الذي يؤمن أبو طالب أو العباس أو غيرهما . وقال علي بن عيسى : إذ كنت في المهد . وقيل : ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك . وقيل : أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الإيمان ولا الكتاب ، فتكون أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم . ما الكتاب : جملة استفهامية مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب بتدري ، وهي معلقة .
( وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً ( : يحتمل أن يعود إلى قوله : ) رُوحاً ( ، وإلى ) كِتَابٌ ( ، وإلى ) الاْيْمَانَ ( ، وهو أقرب مذكور . وقال ابن عطية : عائد على الكتاب . انتهى . وقيل : يعود إلى الكتاب والإيمان معاً لأن مقصدهما واحد ، فهو نظير : ) وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ). وقرأ الجمهور : ) لَتَهْدِى ( ، مضارع هدى مبنياً للفاعل ؛ وحوشب : مبنياً للمفعول ، إجابة سؤاله عليه الصلاة والسلام : ) اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ). وقرأ ابن السميقع : لتهدي بضم التاء وكسر الدال ؛ وعن الجحدري مثلها ومثل قراءة حوشب . ) صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ، قال علي : هو القرآن ؛ وقيل : الإسلام . ) أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( : أخبر بالمضارع ، والمراد به الديمومة ، كقوله : زيد يعطي ويمنع ، أي من شأنه ذلك ، ولا يراد به حقيقة المستقبل ، أي ترد جميع أمور الخلق إليه تعالى يوم القيامة فيقضي بينهم بالعدل ، وخص ذلك بيوم القيامة ، لأنه لا يمكن لأحد أن يدعي فيه لنفسه شيئاً ، قاله الفراء .
((7/505)
" صفحة رقم 3 "
43
( سورة الزخرف )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِىأُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالاٌّ نْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم(8/3)
" صفحة رقم 4 "
لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَاؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِىأُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاٌّ نْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِىأَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّ خِرِينَ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً(8/4)
" صفحة رقم 5 "
لِّبَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً فِى الاٌّ رْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الاٌّ خِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاٌّ نْفُسُ وَتَلَذُّ الاٌّ عْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِىأُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الاٌّ رْضِ إِلَاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } )
الزخرف : ( 1 - 5 ) حم
يعشو : يعرض ، ويعش : يعمى . وقال ابن قتيبة : لم نر أحداً حكى : عشوت عن الشيء : أعرضت عنه ، وإنما يقال : تعاشيت عن كذا وتعاميت ، إذا تغافلت عنه . وتقول : عشوت إلى النار ، إذا استدللت عليها ببصر ضعيف . وقيل : عشى يعشى ، إذا حصلت الآفة في بصره . وعشا يعشو : نظر المعشى ولا آفة به ، كما قال : عرج لمن به الآفة ، وعرج لمن مشى مشيه العرجان من غير عرج . قال الحطيئة :(8/5)
" صفحة رقم 6 "
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد حير نارٍ عندها خير موقد
أي : تنظر إليها نظر المعشى ، لما يضعف بصر من عظيم الوقود به ، ومنه قول حاتم :
أعشو إذا ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر
الصحفة ، قال الجوهري : هي القصعة ، وقال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ، ثم القصعة تليها تسع العشرة ، ثم الصحفة تسع الخمسة ، ثم المكيلة تسع الرجلين والثلاثة . والصحيفة : الكتاب ، والجمع : صحف وصحائف . الكوب ، قال قطرب : الإبريق لا عروة له . وقال الأخفش : الإبريق لا خرطوم له ، وقيل : كالإبريق ، إلا أنه لا أذن له ولا مقبض . قال أبو منصور الجواليقي : إنما كان بغير عروة ليشرب الشارب من أين شاء ، لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات . انتهى . وقال عدي :
متكئاً تصفق أبوابه
يسعى عليه العبد بالكوب
أبرم ، قال الفراء : أبرم الأمر : بالغ في إحكامه ، وأبرم القاتل ، إذا أدهم ، وهو القتل الثاني ؛ والأول يقال له سجيل ، كما قال زهير :
من سجيل وبرم
انتهى . والإبرام : أن يجمع خيطين ، ثم يفتلهما فتلاً متقناً ؛ والبريم : خيط فيه لونان .
( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاْوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الاْوَّلِينَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِى خَلَقَ الازْواجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ ).
هذه السورة مكية ، وقال مقاتل : إلا قوله : ) وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ). وقال ابن عطية : بإجماع أهل العلم . ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ ( ، أي صيرناه ، أو سميناه ؛ وهو جواب القسم ، وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد ، ونظيره قول أبي تمام :
وثناياك أنها أغريض(8/6)
" صفحة رقم 7 "
وقيل : والكتاب أريد به الكتب المنزلة ، والضمير في جعلناه يعود على القرآن ، وإن لم يتقدم له صريح الذكر لدلالة المعنى عليه . وقال الزمخشري : جعلناه ، بمعنى صيرناه ، معدى إلى مفعولين ، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد ، كقوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ). ) وَقُرْءانًا عَرَبِيّاً ( : حال . ولعل : مستعارة لمعنى الإرداة ، لتلاحظ معناها ومعنى الترجي ، أي خلقناه عربياً غير عجمي . أراد أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا : ) لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ ). انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في كون القرآن مخلوقاً . ) أُمُّ الْكِتَابِ ( : اللوح المحفوظ ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب ، وهذا فيه تشريف للقرآن ، وترفيع بكونه . لديه علياً : على جميع الكتب ، وعالياً عن وجوه الفساد . حكيماً : أي حاكماً على سائر الكتب ، أو محكماً بكونه في غاية البلاغة والفصاحة وصحة المعاني . قال قتادة وعكرمة والسدي : اللوح المحفوظ : القرآن فيه بأجمعه منسوخ ، ومنه كان جبريل ينزل . وقيل : أم الكتاب : الآيات المحكمات ، لقوله : ) هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ( ، ومعناه : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم . وقرأ الجمهور : في أم ، بضم الهمزة ، والإخوان بكسرها ، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق ، ولم يعزها للإخوان عقلة منه . يقال : ضرب عن كذا ، وأضرب عنه ، إذا أعرض عنه . والذكر ، قال الضحاك وأبو صالح : القرآن ، أي افترائي عنكم القرآن . وقولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، إذا أدارها ونحاها ، وقال الشاعر : اضرب عنك الهموم طارقها
ضربك بالسيف قونس الفرس
وقيل : الذكر : الدعاء إلى الله والتخويف من عقابه . قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكاراً ؟ لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب وخلقه قرآناً عربياً لتعقلوه وتعملوا بموجبه . انتهى . وتقدم الكلام معه في تقديره فعلاً بين الهمزة والفاء في نحو : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( ؟ ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ؟ وبينها وبين الواو في نحو : ) أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ ( ؟ كما وأن المذهب الصحيح قول سيبويه والنحويين : أن الفاء والواو منوي بهما التقديم لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، وأن الهمزة تقدمت لكون الاستفهام له صدر الكلام ، ولا خلاف بين الهمزة والحرف ، وقد رددنا عليه قوله : وقال ابن عباس ومجاهد : المعنى : أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم وعفواً عن إجرامكم ؟ أن كنتم أو من أجل أن كنتم قوماً مسرفين ؟ أي هذا لا يصلح . ونحا قتادة إلى أن المعنى صفحاً ، أي معفوا عنه ، أي نتركه . ثم لا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره ، ولا تنبهون عليه . وهذا المعنى نظير قول الشاعر : ثم الصبا صفحاً بساكن ذي الفضا
وبصدع قلبي أن يهب هبوبها
وقول كثير :
صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلة فمن مل منها ذلك الوصل ملت
وقال ابن عباس : المعنى : أفحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به ؟ وقال الكلبي : أن نترككم هملاً بلا أمر ولا نهي ؟ وقال مجاهد أيضاً : أن لا نعاقبكم بالتكذيب ؟ وقيل : أن نترك الإنزال للقرآن من أجل تكذبيهم ؟ وقرأ حسان بن عبد الرحمن الضبغي ، والسميط بن عمير ، وشميل بن عذرة : بضم الصاد ، والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان ،(8/7)
" صفحة رقم 8 "
كالسد والسد . وانتصاب صفحاً على أنه مصدر من معنى أفنضرب ، لأن معناه : أفنصفح ؟ أو مصدر في موضع الحال ، أي صافحين ، قالهما الحوفي ، وتبعه أبو البقاء . وقال الزمخشري : وصفحاً على وجهين : إما مصدر من صفح عنه ، إذا أعرض منتصباً على أنه مفعول له على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم ؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه . وصفح وجهه على معنى : أفننحيه عنكم جانباً ؟ فينصب على الظرف ، كما تقول : ضعه جانباً ، وامش جانباً . وتعضده قراءة من قرأ صفحاً بالضم . وفي هذه القراءة وجه آخر ، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ، وينتصب على الحال ، أي صافحين معرضين . وقال ابن عطية : صفحاً ، انتصابه كانتصاب صنع الله . انتهى . يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، فيكون العامل فيه محذوفاً ، ولا يظهر هذا الذي قاله ، فليس انتصابه انتصاب صنع الله . وقرأ نافع والإخوان : بكسر الهمزة ، وإسرافهم كان متحققاً . فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق ، أو على المتحقق الذي أنبهم زمانه ؟ قال الزمخشري : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك ، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه ، استجهالاً له . وقرأ الجمهور : أن بفتح الهمزة ، أي من أجل أن كنتم . قال الشاعر : أتجزع أن بان الخليط المودع وقرأ زيد بن علي : إذ كنتم ، بذال مكان النون ،
الزخرف : ( 6 - 8 ) وكم أرسلنا من . . . . .
لما ذكر خطاباً لقريش ، ( أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ ( ؟ وكان هذا الإنكار دليلاً على تكذيبهم للرسول ، وإنكاراً لما جاء به . آنسه تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة من استهزائهم بالرسل ، وأنه تعالى أهلك من كان أشد بطشاً من قريش ، أي أكثر عدَداً وعُدداً وجلداً . ) وَمَضَى مَثَلُ الاْوَّلِينَ ( : أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة . قال معناه قتادة : وهي العقوبة التي سارت سير المثل ، وقيل : مثل الأولين في الكفر والتكذيب ، وقريش سلكت مسلكها ، وكان مقبلاً عليهم بالخطاب في قوله : ) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ( ؟ فأعرض عنهم إلى إخبار الغائب في قوله : ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ).
الزخرف : ( 9 ) ولئن سألتهم من . . . . .
( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ( : احتجاج على قريش بما يوجب التناقض ، وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله ، ثم هم يتخذون أصناماً آلهة من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم . قال ابن عطية : ومقتضى الجواب أن يقولوا خلقهن الله ،
الزخرف : ( 10 - 13 ) الذي جعل لكم . . . . .
فلما ذكر تعالى المعنى ، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم ، ليكون ذلك توطئة لما عدد من أوصافه الذي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش . انتهى . وقال الزمخشري : لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه ، وليسندنه إليه . انتهى . والظاهر أن : ) خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( نفس المحكى من كلامهم ، ولا يدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله ، أن لا يقولوا في سؤال آخر : ) خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ).
و ) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ( : من كلام الله ، خطاباً لهم بتذكير نعمه السابقة . وكرر الفعل في الجواب في قوله : ) خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( ، مبالغة في التوكيد . وفي غير ما سؤال ، اقتصروا على ذكر اسم الله ، إذ هو العلم الجامع للصفات العلا ، وجاء الجواب مطابقاً للسؤال من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ، لأن من مبتدأ . فلو طابق في اللفظ ، كان بالاسم مبتدأ ، ولم يكن بالفعل . ) لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( : أي إلى مقاصدكم في السفر ، أو تهتدون بالنظر والاعتبار . بقدر : أي بقضاء وحتم في الأزل ، أو بكفاية ، لا كثيراً فيفسد ، ولا قليلاً فلا يجدي . ) فَأَنشَرْنَا ( : أحيينا به . ) بَلْدَةً مَّيْتاً ( : ذكر على معنى القطر ، وبلدة اسم جنس . وقرأ أبو جعفر وعيسى : ميتاً بالتشديد . وقرأ الجمهور : تخرجون : مبنياً للمفعول ؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن جبير المصبح ، وعيسى ، وابن عامر ، والإخوان : مبنياً للفاعل . و ) الاْزْواجَ ( : الأنواع من كل شيء . قيل : وكل ما سوى الله فهو زوج ، كفوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وقدام ، وخلف ، وماض ، ومستقبل ، وذوات ، وصفات ، وصيف ، وشتاء ، وربيع ، وخريف ؛ وكونها أزواجاً تدل على أنها ممكنة الوجود ، ويدل على أن محدثها فرد ، وهو الله المنزه عن الضد والمقابل(8/8)
" صفحة رقم 9 "
والمعارض . انتهى .
( وَالاْنْعَامُ ( : المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا الإبل . ما : موصولة والعائد محذوف ، أي ما يركبونه . وركب بالنسبة للعلل ، ويتعدى بنفسه على المتعدي بوساطة في ، إذ التقدير ما يركبونه . واللام في لتستووا : الظاهر أنها لام كي . وقال الحوفي : ومن أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا . وقال ابن عطية : لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعمال أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وهو من القلة بحيث ينبغي أن لا يقاس عليه . فالفصيح المستعمل : اضرب ، وقيل : لتضرب ، بل نص النحويون على أنها لغة رديئة قليلة ، إذ لا تكاد تحفظ إلا قراءة شاذة ؛ فبذلك فلتفرحوا بالتاء للخطاب . وما آثر المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافاكم ، مع احتمال أن الراوي روى بالمعنى ، وقول الشاعر : لتقم أنت يا ابن خير قريش
كي تقضي حوائج المسلمينا
وزعم الزجاج أنها لغة جيدة ، وذلك خلاف ما زعم النحويون . والضمير في ظهوره عائد على ما ، كأنه قال : على ظهور ما تركبون ، قاله أبو عبيدة ؛ فلذلك حسن الجمع ، لأن مآلها لفظ ومعنى . فمن جمع ، فباعتبار المعنى ؛ ومن أفرد فباعتبار اللفظ ، ويعني : ) مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ ). وقال الفراء نحواً منه ، قال : أضاف الظهور ، ( ثُمَّ تَذْكُرُواْ ( ، أي في قلوبكم ، ( نِعْمَةَ رَبّكُمْ ( ، معترفين بها مستعظمين لها . لا يريد الذكر باللسان بل بالقلب ، ولذلك قابله بقوله : ) وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا ( ، أي تنزهوا الله بصريح القول . وجاء في الحديث : ( أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، إلى قوله المنقلبون ، وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً ، وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : ) بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( إلى رحيم ، ويقال عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ) . والقرن : الغالب الضابط المطيق للشيء ، يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه . قال ابن هرمة : وأقرنت ما حملتني ولقلما
يطاق احتمال الصديا دعد الهجر
وحقيقة أقرنه : وجده ، قرينته وما يقرن به : لأن الصعب لا يكون قرينة للضعف . قال الشاعر : وابن اللبون إذا ما لذ في قرن
لم يستطع صولة البذل القناعيس
والقرن : الحبل الذي يقرن به . وقال أبو عبيد : فلان مقرن لفلان ، أي ضابط له ، والمعنى : أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك ، وإنما الله الذي سخرها . وأنشد قطرب لعمرو بن معد يكرب : لقد علم القبائل ما عقيل
لنا في النائبات بمقرنينا
وقرىء : لمقترنين ، اسم فاعل من اقترن .
الزخرف : ( 14 ) وإنا إلى ربنا . . . . .
( وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ ( : أي راجعون ، وهو إقرار بالرجوع إلى الله ،(8/9)
" صفحة رقم 10 "
وبالبعث ، لأن الراكب في مظنة الهلاك بالغرق إذا ركب الفلك ، وبعثور الدابة ، إذ ركوبها أمر فيه خطر ، ولا تؤمن السلامة فيه . فقوله هذا تذكير بأنه مستشعر الصيرورة إلى الله ، ومستعد للقائه ، فهو لا يترك ذلك من قلبه ولا لسانه . ) وَجَعَلُواْ لَهُ ( : أي وجعل كفار قريش والعرب له ، أي لله . من عباده : أي ممن هم عبيد الله . جزءاً ، قال مجاهد : نصيباً وحظاً ، وهو قول العرب : الملائكة بنات الله . وقال قتادة جزءاً ، أي نداً ، وذلك هو الأصنام وفرعون ومن عبد من دون الله . وقيل : الجزء : الإناث . قال بعض اللغويين : يقال أجزأت المرأة ، إذا ولدت أنثى . قال الشاعر : إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب
قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا
قيل : هذا البيت مصنوع ، وكذا قوله :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
الزخرف : ( 15 ) وجعلوا له من . . . . .
ولما تقدم أنهم معترفون بأنه تعالى هو خالق العالم ، أنكر عليهم جعلهم لله جزءاً ، وقد اعترفوا بأنه هو الخالق ، فكيف وصفوه بصفة المخلوق ؟ ) إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ( نعمة خالقه . ) مُّبِينٌ ( : مظهر لجحوده . والمراد بالإنسان : من جعل لله جزءاً ، وغيرهم من الكفرة . قال ابن عطية : ومبين في هذا الموضع غير متعد . انتهى . وليس يتعين ما ذكر ، بل يجوز أن يكون معناه ظاهراً لكفران النعم ومظهراً لجحوده ، كما قلنا .
الزخرف : ( 16 - 17 ) أم اتخذ مما . . . . .
( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ( ؟ استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم ؟ كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه حين أنتم تسود وجوهكم عند التبشير بهن وتئدونهن ؟ ) وَأَصْفَاكُم ( : جعل لكم صفوة ما هو محبوب ، وذلك البنون . وقوله : ) مِمَّا يَخْلُقُ ( ، تنبيه على استحالة الولد ، ذكراً كان أو أنثى ، وإن فرض اتخاذ الولد ، فكيف يختار له الأدنى ويخصكم بالأعلى ؟ وقدم البنات ، لأنه المنكر عليهم لنسبتهن إلى الله ، وعرف البنين دون البنات تشريفاً لهم على البنات . ) وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ ( : تقدم تفسير نظيرها في سورة النحل .
الزخرف : ( 18 ) أو من ينشأ . . . . .
( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ ( : أي ينتقل في عمره حالاً فحالاً في الحلية ، وهو الحلي الذي لا يليق إلا بالإناث دون الفحول ، لنزينهن بذلك لأزواجهن ، وهو إن خاصم ، لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل ، أظهر بهذا لحقوقهن وشفوف البنين عليهن . وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كالمرأة ، وأن يكون مخشوشناً . والفحل من الرجال أبى أن يكون متصفاً بصفات النساء ، والظاهر أنه أراد بمن ينشؤ في الحلية : النساء . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ويدل عليه قوله : ) وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( : أي لا يظهر حجة ، ولا يقيم دليلاً ، ولا يكشف عما في نفسه كشفاً واضحاً . ويقال : قلما تجد امرأة لا تفسد الكلام ، وتخلط المعاني ، حتى ذكر عن بعض الناس أنه قال : إذا دخلنا على فلانة ، لا تخرج حتى نعلم أن عقلها امرأة . وقال ابن زيد : المراد بمن ينشؤ في الحلية : الأصنام ، وكانوا يتخذون كثيراً منها من الذهب والفضة ، ويجعلون الحلي على كثيرة منها ، ويبعد هذا القول قوله : ) وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( ، إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإنه كقوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره
أي : لا منار له فيهتدى به . ومن : في موضع نصب ، أي وجعلوا من ينشأ . ويجوز أن يكون في موضع رفع على(8/10)
" صفحة رقم 11 "
الابتداء ، أي من ينشأ جعلوه لله . وقرأ الجمهور : ينشأ مبنياً للفاعل ، والجحدري في قول : مبنياً للمفعول مخففاً ، وابن عباس وزيد بن علي والحسن ومجاهد والجحدري : في رواية ، والإخوان وحفص والمفضل وإبان وابن مقسم وهارون ، عن أبي عمرو : مبنياً للمفعول مشدداً ، والحسن : في رواية يناشؤ على وزن يفاعل مبنياً للمفعول ، والمناشأة بمعنى الإنشاء ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء . ) وَفِى الْخِصَامِ ( : متعلق بمحذوف تفسيره غير مبين ، أي وهو لا يبين في الخصام . ومن أجاز أما زيداً ، غير ضارب بأعمال المضاف إليه في غير أجاز أن يتعلق بمبين ، أجرى غير مجرى لا . وبتقديم معمول أما بعد لا مختلف فيه ، وقد ذكر ذلك في النحو .
( وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ).
الزخرف : ( 19 ) وجعلوا الملائكة الذين . . . . .
لم يكفهم أن جعلوا لله ولداً ، وجعلوه إناثاً ، وجعلوهم من الملائكة ، وهذا من جهلهم بالله وصفاته ، واستخفافهم بالملائكة ، حيث نسبوا إليهم الأنوثة . وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والابنان ، ونافع : عند الرحمن ، ظرفاً ، وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة لقوله : ) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ). وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعلقمة ، وباقي السبعة : عباد الرحمن ، جمع عبد لقوله : ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ). وقرأ الأعمش : عباد الرحمن ، جمعاً . وبالنصب ، حكاها ابن خالويه ، قال : وهي في مصحف ابن مسعود كذلك ، والنصب على إضمار فعل ، أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن ، وأنشؤوا عباد الرحمن إناثاً . وقرأ أبيّ عبد الرحمن : مفرداً ، ومعناه الجمع ، لأنه اسم جنس . وقرأ الجمهور : وأشهدوا ، بهمزة الاستفهام داخلة على شهدوا ، ماضياً مبنياً للفاعل ، أي أحضروا خلقهم ، وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدي . وقيل : سألهم الرسول عليه السلام : ( ما يدريكم أنهم إناث ) ؟ فقالوا : سمعنا ذلك من آبائنا ، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله تعالى : ) سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ( عنها ، أي في الآخرة . وقرأ نافع : بهمزة داخلة على أشهدوا ، رباعياً مبنياً للمفعول بلا مد بين الهمزتين . والمسبى عنه : بمدة بينهما ؛ وعليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وفي رواية أبي عمرو ، ونافع : بتسهيل الثانية بلا مد ؛ وجماعة : كذلك بمد بينهما . وعن عليّ والمفضل ، عن عاصم : تحقيقهما بلا مد ؛ والزهري وناس : أشهدوا بغير استفهام ، مبنياً للمفعول رباعياً ، فقيل : المعنى على الاستفهام ، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها . وقيل : الجملة صفة للإناث ، أي إناثاً مشهداً منهم خلقهم ، وهم لم يدعوا أنهم شهدوا خلقهم ، لكن لما ادّعوا لجراءتهم أنهم إناث ، صاروا كأنهم ادعوا ذلك وإشهادهم خلقهم . وقرأ الجمهور : إناثاً ، وزيد بن عليّ : أنثاً ، جمع جمع . قيل : ومعنى وجعلوا : سموا ، وقالوا : والأحسن أن يكون المعنى : وصيروا اعتقادهم الملائكة إناثاً ، وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم ، والمعنى : إظهار فساد عقولهم ، وأن دعاويهم مجردة من الحجة ، وهذا نظير الآية الطاعنة على أهل التنجيم والطبائع : ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ). وقرأ(8/11)
" صفحة رقم 12 "
الجمهور : ستكتب ، بالتاء من فوق مبنياً للمفعول . شهادتهم : بالرفع مفرداً ؛ والزبيري كذلك ، إلا أنه بالياء ؛ والحسن كذلك ، إلا أنه بالتاء ، وجمع شهادتهم ؛ وابن عباس ، وزيد بن عليّ ، وأبو جفعر ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجحدري ، والأعرج : بالنون مبنياً للفاعل ، شهادتهم على الإفراد . وقرأ فرقة : سيكتب بالياء مبنياً للفاعل ، أي الله ؛ شهادتهم : بفتح التاء . والمعنى : أنه ستكتب شهادتهم على الملائكة بأنوثتهم . ويسألون : وهذا وعيد .
الزخرف : ( 20 ) وقالوا لو شاء . . . . .
( وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( : الضمير للملائكة . قال قتادة ومقاتل : في آخرين . وقال مجاهد : الأوثان علقوا انتفاء العبادة على المشيئة ، لكن العبادة وجدت لما انتفت المشيئة ، فالمعنى : أنه شاء العبادة ، ووقع ما شاء ، وقد جعلوا إمهال الله لهم وإحسانه إليهم ، وهم يعبدون غيره ، دليلاً على أنه يرضى ذلك ديناً . وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في أواخر الأنعام ، وفي الكلام حذف ، أي فنحن لا نؤاخذ بذلك ، إذ هو وفق مشيئة الله ، ولهذا قال : ) مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ( ، أي بما ترتب على عبادتهم من العقاب ، ( إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( : أي يكذبون . وقيل : الإشارة بذلك إلى ادعائهم أن الملائكة إناث . وقال الزمخشري : هما كفرتان مضمومتان إلى الكفرات الثلاث ، وهم : عبادتهم الملائكة من دون الله ، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئه ، كما يقول إخوانهم المجبرة . انتهى . جعل أهل السنة أخوات للكفرة عباد الملائكة ، ثم أورد سؤالاً وجواباً جارياً على ما اختاره من مذهب الاعتزال ، يوقف على ذلك في كتابه ،
الزخرف : ( 21 - 25 ) أم آتيناهم كتابا . . . . .
ولما نفى عنهم ، علم ترك عقابهم على عبادة غير الله ، أي ليس يدل على ذلك عقل . نفى أيضاً أن يدل على ذلك سمع ، فقال : ) قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ( من قبل نزول القرآن ، أو من قبل إنذار الرسل ، يدل على تجويز عبادتهم غير الله ، وأنه لا يترتب على ذلك . ثم أخبر تعالى أنهم في ذلك مقلدون لآبائهم ، ولا دليل لهم من عقل ولا نقل . ومعنى : ) عَلَى أُمَّةٍ ( : أي طريقة ودين وعادة ، فقد سلكنا مسلكهم ، ونحن مهتدون في اتباع آثارهم ؛ ومنه قول قيس بن الحطيم : كنا على أمّة آبائنا
ويقتدى بالأول الآخر
وقرأ الجمهور : أمّة ، بضم الهمزة . وقال مجاهد ، وقطرب : على ملة . وقال الجوهري : والأمّة : الطريقة ، والذي يقال : فلان لا أمّة له : أي لا دين ولا نحلة . قال الشاعر : وهل يستوي ذو أمّة وكفور وتقدّم الكلام في أمّة في قوله : ) وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ). وقرأ عمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة ، والجحدري : بكسر الهمزة ، وهي الطريقة الحسنة لغة في الأمّة بالضم ، قاله الجوهري . وقرأ ابن عباس : أمّة ، بفتح الهمزة ، أي على قصد وحال ، والخلاف في الحرف الثاني كهو في الأول . وحكى مقاتل : إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة بن أبي ربيعة من قريش ، أي كما قال من قبلهم أيضاً ، يسلي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك . والمترف : المنعم ، أبطرتهم النعمة ، فآثروا الشهوات ، وكرهوا مشاق التكاليف . وقرأ الجمهور : قل على الأمر ؛ وابن عامر وحفص : قال على الخبر . وقرأ الجمهور : جئتكم ، بتاء المتكلم ؛ وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن مقسم ، والزعفراني ، وأبو شيخ الهنائي ، وخالد : جئناكم ، بنون المتكلمين . والظاهر أن الضمير في قال ، أو في قل ، للرسول ، أي : قل يا محمد لقومك : أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم ؟ وهذا تجهيل لهم ، حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل . ) قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ ( ، أنت والرسل قبلك . غلب الخطاب على الغيبة . ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ(8/12)
" صفحة رقم 13 "
بالقحط والقتل والسبي والجلاء . ) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ( من كذبك . وقال ابن عطية في قال : ضمير يعود على النذير ، وباقي الآية يدل على أن قل في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير . ولو : في هذا الموضع ، كأنها شرطية بمعنى : إن ، كان معنى الآية : أو إن جئتكم بأبين وأوضح مما كان عليه آباؤكم ، يصحبكم لجاجكم وتقليدكم ، فأجاب الكفار حينئذ من الأمم المكذبة بأنبيائها ، كما كذبت بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر هو ما قدمناه .
الزخرف : ( 26 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
( وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ ( : وذكر العرب بحال جدّهم الأعلى ، ونهيه عن عبادة غير الله ، وإفراده بالتوحيد والعبادة هزؤاً لهم ، ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم ، إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته ، وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يقلد أباه في عبادة الأصنام ، فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين ، وترجعوا إلى النظر واتباع الحق . وقرأ الجمهور : برآء ، مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما ، يقال : نحن البراء منك ، وهي لغة العالية . وقرأ الزعفراني والقورصي ، عن أبي جعفر وابن المناذري ، عن نافع : بضم الباء ؛ والأعمش : برىء ، وهي لغة نجد وشيخيه ، ويجمع ويؤنث ، وهذا نحو : طويل وطوال ، وكريم وكرام . وقرأ الاعم 5 : إني ، بنون مشددة دون نون الوقاية ؛ والجمهور : إنني ، بنونين ، الأولى مشددة .
الزخرف : ( 27 - 28 ) إلا الذي فطرني . . . . .
والظاهر أن قوله : ) إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى ( استثناء منقطع ، إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم . وقيل : كانوا يشركون أصنامهم معه تعالى في العبادة ، فيكون استثناء متصلاً . وعلى الوجهين ، فالذي في موضع نصب ، وإذا كان استثناء متصلاً ، كانت ما شاملة من يعلم ومن لا يعلم . وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجروراً بدلاً من المجرور بمن ، كأنه قال : إنني براء مما تعبدون ، إلا من الذي . وأن تكون إلا صفة بمعنى : غير ، على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ). انتهى . ووجه البدل لا يجوز ، لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام . ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له ؟ وإنني بريء ، جملة موجبة ، فلا يصلح أن يفرغ العامل فيها للذي هو بريء لما بعد إلا . وعن الزمخشري : كون بريء ، فيه معنى الانتفاء ، ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا . وأما تقديره ما نكرة موصوفة ، فلم يبقها موصولة ، لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة . وهذه المسألة فيها خلاف . من النحويين من قال : توصف بها النكرة والمعرفة ، فعلى هذا تبقى ما موصولة ، ويكون إلا في موضع الصفة للمعرفة ، وجعله فطرني في صلة الذي . تنبيه على أنه لا يعبد ولا يستحق العبادة إلا الخالق للعباد .
( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( : أي يديم هدايتي ، وفي مكان آخر : ) الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( ، فهو هاديه في المستقبل . والحال والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم ، وقيل على الله . والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهي قوله : ) إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى ). وقال قتادة ومجاهد والسدي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، لأن اللفظ يتضمنها . وقال ابن زيد : كلمة الإسلام لقوله : ) وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ( ، ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ ( ، ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ). وقرأ حميد بن قيس : كلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام . وقرىء : في عقبه ، بسكون القاف ، أي في ذريته . وقرىء : في عاقبه ، أي من عقبه ، أي خلقه . فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده . لعلهم : أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم .
الزخرف : ( 29 ) بل متعت هؤلاء . . . . .
وقرأ الجمهور : بل متعت ، بتاء المتكلم ، والإشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه السلام من العرب . لما قال : ) فِى عَقِبِهِ ( ، قال تعالى : لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم في كفرهم ، فليسوا ممن تعقب كلمة التوحيد فيهم . وقرأ قتادة والأعمش : بل متعت ، بتاء الخطاب ، ورواها يعقوب عن نافع . قال صاحب اللوامح : وهي من مناجاة إبراهيم عليه السلام ربه تعالى . والظاهر أنه من مناجاة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي : قال يا رب بل متعت . وقرأ الأعمش : متعنا ، بنون العظمة ، وهي تعضد قراءة الجمهور .
( حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ ( ، وهو القرآن ؛ ) وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( ، هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه من قرأ : بل متعت ، بفتح التاء ؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى(8/13)
" صفحة رقم 14 "
عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد . وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله . فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع ،
الزخرف : ( 30 - 31 ) ولما جاءهم الحق . . . . .
ثم أردفه قوله : ) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ ( ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه ؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته . فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد ) حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه .
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : ) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ( ، جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها ، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة ، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أهل زمانه بقولهم : ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم . انتهى ، وهو حسن لكن فيه إسهاب . والضمير في : وقالوا ، لقريش ، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولاً ، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى ، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم . فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ، ناقضوا فيما يخص محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالوا : لم كان محمداً ، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم ؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال . وقرىء : على رجل ، بسكون الجيم . من القريتين : أي من إحدى القريتين . وقيل : من رجل القريتين ، وهما مكة والطائف . قال ابن عباس : والذي من مكة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي . وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة ، وكنانة بن عبد ياليل . وقال قتادة : الوليد بن المغيرة ، وعروة بن مسعود الثقفي . قال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه ، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش ، وكان يقول : لو كان ما يقول محمد حقاً لنزل عليّ أو على ابن مسعود ، يعني عروة بن مسعود ، وكان يكنى أبا مسعود .
الزخرف : ( 32 ) أهم يقسمون رحمة . . . . .
( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ ( ؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم ، كأنه قيل : على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها . ثم في إضافته في قوله : ) رَحْمَةِ رَبّكَ ( ، تشريف له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك . ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم ، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى . وإذا كان هو الذي تولى ذلك ، وفاوت بينهم ، وذلك في الأمر الفاني ، فكيف لا يتولى الأمر الخطير ، وهو إرسال من يشاء ، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك ، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم . وقرأ الجمهور : معيشتهم ، على الإفراد ؛ وعبد الله ، والأعمش ، وابن عباس ، وسفيان : معائشهم ، على الجمع . والجمهور : سخرياً ، بضم السين ؛ وعمرو بن ميمون ، وابن محيصن ؛ وابن أبي ليلى ، وأبو رجاء ، والوليد بن مسلم ، وابن عامر : بكسرها ، وهو من التسخير ، بمعنى : الاستعباد والاستخدام ، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم . ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه ، ما أطاق ذلك وضاع وهلك . ويبعد أن يكون سخرياً هنا من الهزء ، وقد قال بعضهم : أي يهزأ الغني بالفقير . وفي قوله : ) نَحْنُ قَسَمْنَا ( ، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا ، وهون على التوكل على الله . وقال مقاتل : فاضلنا بينهم ، فمن رئيس ومرؤوس . وقال قتادة : تلقى ضعيف القوة ، قليل الحيلة ، غني اللسان ، وهو مبسوط له ؛ وتلقى شديد الحيلة ، بسيط اللسان ، وهو مقتر عليه . وقال الشافعي ، رحمه الله(8/14)
" صفحة رقم 15 "
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس الفقير وطيب عيش الأحمق
ورحمة ربك : قيل النبوة ، وقيل : الهداية والإيمان . وقال قتادة والسدي : الجنة خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا ، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها .
( وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يالَيْتَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ ).
الزخرف : ( 33 - 35 ) ولولا أن يكون . . . . .
بين تعالى أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله ، أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر ، إذا رأوا الكافر في سعة ، ويصيروا أمة واحدة في الكفر . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ، ولكن تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن . قال ابن عطية : واللام في : لمن يكفر ، لام الملك ، وفي : لبيوتهم ، لام تخصيص . كما تقول : هذا الكساء لزيد لدابته ، أي هو لدابته جلس ولزيد ملك ، انتهى . ولا يصح ما قاله ، لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل ، فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى . أما أن يختلف المدلول ، فلا واللام في كليهما للتخصيص . وقال الزمخشري : لبيوتهم بدل اشتمال من قوله : ) لِمَن يَكْفُرُ ( ، ويجوز أن تكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوباً لقميصه . انتهى ، ولا أدري ما أراد بقوله : ويجوز إلى آخره . وقرأ الجمهور : سقفاً ، بضمتين ؛ وأبو رجاء : بضم وسكون ، وهما جمع سقف ، لغة تميم ، كرهن ورهن ؛ وابن كثير وأبو عمرو : بفتح السين والسكون على الإفراد . وقال الفراء : جمع سقيفة ، وقرىء بفتحتين ، كأنه لغة في سقف ؛ وقرىء : سقوفاً ، جمعاً على فعول نحو : كعب وكعوب . وقرأ الجمهور : ومعارج جمع معرج ، وطلحة : ومعاريج جمع معراج ، وهي المصاعد إلى العلالي عليها ، أي يعلون السطوح ، كما قال : ) فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ). وقرأ الجمهور : وسرراً ، بضم السين ؛ وقرىء بفتحها ، وهي لغة لبعض تميم وبعض كلب ، وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسماً باتفاق وصفة نحو : ثوب جديد ، وثياب جدد ، باختلاف بين النحاة . وهذه الأسماء معاطيف على قوله : ) سُقُفاً مّن فِضَّةٍ ( ، فلا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة . وقال الزمخشري : سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً ، كلها من فضة . انتهى ، كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه وزخرفاً . قال الزمخشري : وجعلنا لهم زخرفاً ، ويجوز أن يكون الأصل : سقفاً من فضة وزخرف ، يعني : بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، فنصب عطفاً على محل من فضة . انتهى . والزخرف : الذهب هنا ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي . وفي الحديث : ( إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان ) . قال ابن عطية : الحسن أحمر ، والشهوات تتبعه . انتهى . قال بعض شعرائنا :(8/15)
" صفحة رقم 16 "
وصبغت درعك من دماء كماتهم
لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
وقال ابن زيد : الزخرف : أثاث البيت ، وما يتخذ له من السرور والنمارق . وقال الحسن : النقوش ، وقيل : التزاويق ، كالنقش . وقرأ الجمهور : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم : هي مخففة من الثقيلة ، واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي ، وما : زائدة ، ومتاع : خبر كل . وقرأ الحسن ، وطلحة ، والأعمش ، وعيسى ، وعاصم ، وحمزة : لما ، بتشديد الميم ، وإن : نافية ، ولما : بمعنى إلا . وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة : لما ، بكسر اللام ، وخرّجوه على أن ما موصولة ، والعائد محذوف تقديره : للذي هو متاع كقوله : ) تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ ). وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة ، وكل : مبتدأ وخبره في المجرور ، أي : وإن كل ذلك لكائن ، أو لمستقر الذي هو متاع ، ومن حيث هي المخففة من الثقيلة ، كان الإتيان باللام هو الوجه ، فكان يكون التركيب لكما متاع ، لكنه قد تحذف هذه اللام إذا دل المعنى على أن إن هي المخففة من الثقيلة ، فلا يجر إلى ذكر اللام الفارقة ، ومن ذلك قول الشاعر : ونحن أباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن
يريد : لكانت ، ولكنه حذف لأنه لا يتوهم في إن أن تكون نافية ، لأن صدر البيت يدل على المدح ، وتعين إن لكونها المخففة من الثقيلة . ) وَالاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( : أي ونعيم الآخرة ، وفيه تحريض على التقوى .
الزخرف : ( 36 - 37 ) ومن يعش عن . . . . .
وقرأ : ومن يعش ، بضم الشين ، أي يتعام ويتجاهل عن ذكره ، وهو يعرف الحق . وقيل : يقل نظره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في : ) ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ). والذكر هنا ، يجوز أن يراد به القرآن ، واحتمل أن يكون مصدراً أضيف إلى المفعول ، أي يعش عن أن يذكر الرحمن . وقال ابن عطية : أي فيما ذكر عباده ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل . انتهى ، كأنه يريد بالذكر : التذكير . وقرأ يحيى بن سلام البصري : ومن يعش ، بفتح الشين ، أي يعم عن ذكر الرحمن ، وهو القرآن ، كقوله : ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ). وقرأ زيد بن علي : يعشو بالواو . وقال الزمخشري : على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وحق هذا القارىء أن يرفع نقيض . انتهى . ولا يتعين ما قاله ، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن تكون من شرطية ، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديراً . وقد ذكر الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب ، ويحذفون حروف العلة للجازم . والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر ، لا في الكلام . والوجه الثاني : أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط ، وإذا كان ذلك مسموعاً في الذي ، وهو لم يكن اسم شرط قط ، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولاً وشرطاً . قال الشاعر :
ولا تحفرن بئراً تريد أخاً بها
فإنك فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً تصبه على رغم عواقب ما صنع
أنشدهما ابن الأعرابي ، وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو : أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره ، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر ، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسبباً عن الصلة بشروطه(8/16)
" صفحة رقم 17 "
المذكورة في علم النحو ، وهذا لا ينفيه البصريون . وقرأ الجمهور : نقيض ، بالنون ؛ وعلي ، والسلمي ، والأعمش ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بخلاف عنه ؛ وحماد عن عاصم ، وعصمة عن الأعمش ، وعن عاصم ، والعليمي عن أبي بكر : بالياء ، أي يقبض الرحمن ؛ وابن عباس : يقبض مبنياً للمفعول . ) لَهُ شَيْطَاناً ( : بالرفع ، أي ييسر له شيطان ويعدله ، وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح . كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات . وقال الزمخشري : يخذله ، ويحل بينه وبين الشياطين ، كقوله : ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ( ) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ ). انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . والظاهر أن ضمير النصب في ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ ( عائد على من ، على المعنى أعاد أولاً على اللفظ في إفراد الضمير ، ثم أعاد على المعنى . والضمير في يصدونهم عائد على شيطان وإن كان مفرداً ، لأنه مبهم في جنسه ، ولكل عاش شيطان قرين ، فجاز أن يعود الضمير مجموعاً . وقال ابن عطية : والضمير في قوله : وإنهم ، عائد على الشيطان ، وفي : ليصدونهم ، عائد على الكفار . انتهى . والأولى ما ذكرناه لتناسق الضمائر في وإنهم ، وفي ليصدونهم ، وفي ويحسبون ، لمدلول واحد ، كأن الكلام : وأن العشاة ليصدونهم الشياطين عن السبيل ، أي سبيل الهدى والفوز ، ويحسبون : أي الكفار .
الزخرف : ( 38 ) حتى إذا جاءنا . . . . .
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وقتادة ، والزهري ، والجحدري ، وأبو بكر ، والحرميان : حتى إذا جاآنا ، على التثنية ، أي العاشي والقرين إعادة على لفظ من والشيطان ، وإن كان من حيث المعنى صالحاً للجمع . وقرأ الأعمش ، والأعرج ، وعيسى ، وابن محيصن ، والإخوان : جاءنا على الإفراد ، والضمير عائد على لفظ من أعاد أولاً على اللفظ ، ثم جمع على المعنى ، ثم أفرد على اللفظ ؛ ونظير ذلك : ) وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ( : أفرد أولاً ثم جمع في قوله : ) خَالِدِينَ ( ، ثم أفرد في قوله : ) لَهُ رِزْقاً ). روى أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال ، أي الكافر للشيطان : ) قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ). تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصدّه عن سبيل الله ، أو تمنى ذلك في الآخرة ، وهو الظاهر ، لأنه جواب إذا التي للاستقبال ، أي مشرقي الشمس : مشرقها في أقصر يوم من السنة ، ومشرقها في أطول يوم من السنة ، قاله ابن السائب ، أو بعد المشرق ، أو المغرب غلب المشرق فثناهما ، كما قالوا : العمران في أبي بكر وعمر ، والقمران في الشمس والقمر ، والموصلان في الجزيرة والموصل ، والزهدمان في زهدم وكردم ، والعجاجان في رؤبة والعجاج ، والأبوان في الأب والأم ، وهذا اختيار الفراء والزجاج ، ولم يذكره الزمخشري . قال : فإن قلت : فما بعد المشرقين ؟ قلت : تباعدهما ، والأصل بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق ، فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية ؛ أضاف البعد إليهما . انتهى . وقيل : بعد المشرقين من المغربين ، واكتفى بذكر المشرقين . وكأنه في هذا القول يريد مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما . ) فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( : مبالغة منه في ذم قرينه ، إذا كان سبب إيراده النار . والمخصوص بالذم محذوف ، أي فبئس القرين أنت .
الزخرف : ( 39 ) ولن ينفعكم اليوم . . . . .
( وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ ( : حكاية حال يقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمراره مدته ، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب . ألا ترى إلى قول الخنساء : ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس ، فنفى الله عنهم الانتفاع بالتأسي ؛ وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل(8/17)
" صفحة رقم 18 "
خير ؛ وهذا لا يكون إلا على تقدير أن يكون الفاعل ينفعكم أنكم ومعمولاها ، أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب إن لن يخفف عنكم اشتراككم في العذاب . وإذا كان الفاعل غير أن ، وهو ضمير ، يعود على ما يفهم من الكلام قبله ، أي يتمنى مباعدة القرين والتبرؤ منه ، ويكون أنكم تعليلاً ، أي لاشتراككم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، وهو الكفر . وقال مقاتل المعنى : ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، لأنكم وقرناءكم مشتركون في العذاب ، كما اشتركتم في الكفران في الدنيا . وعلى كون الفاعل غير أن ، وهي قراءة الجمهور ، لا يتضمن الكلام نفي التأسي . وقرىء : إنكم بالكسر ، فدل على إضمار الفاعل ، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل . واليوم وإذ ظرفان ، فاليوم ظرف حال ، وإذ ظرف ماض . أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه ، أو لتجوز في المستقبل ، كقوله : ) فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ ( ، وقول الشاعر :
سأشقى الآن إذ بلغت مناها
وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل ، فقال الزمخشري : وإذ بدل من اليوم . انتهى . وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم ، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ونظيره :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي تبين أني ولد كريمة . انتهى . ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفاً لما مضى من الزمان . فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، وتخريجها على البدل ، أخذه الزمخشري من ابن جني . قال في مساءلته أبا علي : راجعته فيها مراراً ، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله وعلمه ، فيكون إذ بدلاً من اليوم ، حتى كأنها مستقبلة ، أو كأن اليوم ماض . وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، فحذف المضاف للعلم به . وقيل : إذ للتعليل حرفاً بمعنى إن . وقال الحوفي : اليوم ظرف متعلق بينفعكم ، ولا يجوز تعلق إذ به ، لأنهما ظرفا زمان ، يعني متغايرين في المعنى تغايراً لا يمكن أن يجتمعا ، قال : فلا يصح أن يكون بدلاً من الأخير ، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضى . قال : ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى ، كأنه قال : ولن ينفعكم اجتماعكم ، ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك . وقيل : الفاعل محذوف تقديره ظلمكم ، أو جحدكم ، وهو العامل في إذ ، لا ضمير الفاعل
الزخرف : ( 40 - 42 ) أفأنت تسمع الصم . . . . .
لما ذكر تعالى حال الكفار وما يقال لهم . وكانت قريش تسمع ذلك ، فلا تزداد إلا عتواً واعتراضاً ، وكان هو / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يجتهد في تحصيل الإيمان لهم . خاطبة تعالى تسلية له باستفهام تعجيب ، أي أن هؤلاء صم ، فلا يمكنك إسماعهم ، عميٌ حيارى ، فلا يمكنك أن تهديهم ، وإنما ذلك راجع إليه تعالى . ولما كانت حواسهم لن ينتفعوا بها الانتفاع الذي يجري خلاصهم من عذاب الله ، جعلوا صماً عمياً حيارى ، ويزيد بهم قريشاً ، فهم جامعو الأوصاف الثلاثة ، ولذلك عاد الضمير عليهم في قوله : ) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ( ، ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله : ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ( الآية . والمعنى : أن قبضناك قبل نصرك عليهم ، فإنا منهم منتقمون في الآخرة كقوله : ) أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ، ( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ ( من العذاب النازل بهم كيوم بدر ، ( فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ( : أي هم في قبضتنا ، لا يفوتوننا ، وهذا قول الجمهور . وقال الحسن(8/18)
" صفحة رقم 19 "
وقتادة : المتوعد هم الأمة ، أكرم الله تعالى نبيه عن أن ينتقم منهم في حياته ، كما انتقم من أمم الأنبياء في حياتهم ، فوقعت النقمة منهم بعد موته عليه السلام في العين الحادثة في صدر الإسلام ، مع الخوارج وغيرهم . وقرىء : نرينك بالنون الخفيفة .
الزخرف : ( 43 - 44 ) فاستمسك بالذي أوحي . . . . .
ولما ردد تعالى بين حياته وموته ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أمره بأن يستمسك بما أوحاه إليه . وقرأ الجمهور : أوحى مبنياً للمفعول ، وبعض قراء الشام : بإسكان الياء ، والضحاك : مبنياً للفاعل ، وأنه ، أي وإن ما أوحينا إليك ، ( لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( : أي شرف ، حيث نزل عليهم وبلسانهم ، جعل تبعاً لهم . والقوم على هذا قريش ثم العرب ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد . كان عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ، فإذا قالوا له : لمن يكون الأمر بعدك ؟ سكت ، حتى نزلت هذه الآية . فكان إذا سئل عن ذلك قال : ( لقريش ) ، فكانت العرب لا تقبل حتى قبلته الأنصار . وقال الحسن : القوم هنا أمّته ، والمعنى : وإنه لتذكرة وموعظة . قيل : وهذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن الجميل ، ولو لم يكن ذلك مرغوباً فيه ، ما امتن به تعالى على رسوله فقال : ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ). وقال إبراهيم عليه السلام : ) وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ). والذكر الجميل قائم مقام الحياة ، بل هو أفضل من الحياة ، لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في الحي ، وأثر الذكر الجميل يحصل في كل مكان ، وفي كل زمان . انتهى . وقال ابن دريد : وإنما المراد حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
وقال الآخر : إنما الدنيا محاسنها
طيب ما يبقى من الخبر
وذكر أن هلاون ، ملك التتر ، سأل أصحابه : من الملك ؟ فقالوا : أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعت لك الملوك . فقال : لا الملك هذا ، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن ، هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة ، قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم خمس مرات ؟ يريد محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ( ، قال الحسن عن شكر هذه النعمة . وقال مقاتل : المراد من كذب به يسأل سؤال توبيخ .
الزخرف : ( 45 ) واسأل من أرسلنا . . . . .
( وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ( ، قيل : هو على ظاهره ، وأن جبريل عليه السلام قال له ليلة الإسراء ، حين أم بالأنبياء : ) وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا ( ، فلم يسألهم ، إذ كان أثبت يقيناً ، ولم يكن في شك . وروي ذلك عن ابن عباس ، وابن جبير ، والزهري ، وابن زيد ، وفي الأثر أن ميكال قال لجبريل : هل سأل محمد عن ذلك ؟ فقال : هو أعظم يقيناً وأوثق إيماناً من أن يسأله ذلك . وقال ابن عباس أيضاً ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وعطاء : أرادوا سأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، إذ يستحيل سؤال الرسل أنفسهم ، وليسوا مجتمعين في الدنيا . قال الفراء : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم ، فكأنه سأل الرسل ، والسؤال الواقع مجاز عن النظر ، حيث لا(8/19)
" صفحة رقم 20 "
يصلح لحقيقته ، كثير منه مساءلة الشعراء الديار والأطلال ، ومنه : سيد الأرض من شق نهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً . فالسؤال هنا مجاز عن النظر في أديانهم : هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء ؟ والذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات ، فقيل له : اسأل أيها الناظر أتباع الرسل ، أجاءت رسلهم بعبادة غير الله ؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ، ولا يمكن أن يأتوا به . وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : واسألني ، واسألنا عن من أرسلنا ، وعلق واسأل ، فارتفع من ، وهو اسم استفهام على الابتداء ، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض ، كان سؤاله : من أرسلت يا رب قبلي من رسلك ؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد ؟ ثم ساق السؤال فحكى المعنى ، فرد الخطاب إلى محمد في قوله : ) مِن قَبْلِكَ ). ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَيْهِ فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءهُم بِئَايَاتِنَا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ يأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ ).
الزخرف : ( 46 - 47 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين : أحدهما : أنه لما تقدم طعن قريش على الرسول ، واختيارهم أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أي في الجاه والمال ؛ وذكر أن مثل ذلك سبقهم إليه فرعون في قوله : ) أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( ؟ إلى آخر الآية ، أتبعه بالملك والمال ، ففرعون قدوتهم في ذلك ، ومع ذلك ، فصار فرعون مقهوراً مع موسى منتقماً منه ، فكذلك قريش . والوجه الثاني : أنه لما قال : ) وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا ( الآية ، ذكر وقته موسى وعيسى ، وهما أكبر إتباعاً ممن سبقهم من الأنبياء ، وكل جاء بالدعاء إلى الله وإفراده بالعبادة ، فلم يكن فيما جاء أبداً إباحة اتخاذ آلهة من دون الله ، كما اتخذت قريش ، فناسب ذكر قصتهما للآية التي قبلها . وآيات موسى هي المعجزات التي أتى بها . وخص الملائكة بالذكر ، وهم الأشراف لأن غيرهم من الناس تبع .
( فَلَمَّا جَاءهُم بِئَايَاتِنَا ( ، قبله كلام محذوف تقديره : فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله . ) فَلَمَّا جَاءهُم بِئَايَاتِنَا ( ، وهي انقلاب العصا ثعباناً وعودها عصاً ، وإخراج اليد البيضاء نيرة ، وعودها إلى لونها الأول ، ( إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( ، أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا ، بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء ، كما كانت قريش تضحك . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة ؟ قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم . انتهى . ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل ، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ ، بل المذاهب فيها ثلاثة : مذهب أنها حرف ، فلا تحتاج إلى عامل ، ومذهب أنها ظرف مكان ، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملاً فيها نحو : خرجت فإذا زيد قائم ، فقائم ناصب لإذا ، كأن التقدير : خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم ؛ ومذهب أنها ظرف زمان ، والعامل فيه الخبر أيضاً ، كأنه قال : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم ، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر ، أو ذكر اسم منصوب على الحال ، كانت إذا خبراً للمبتدأ . فإن كان المبتدأ جثة ، وقلنا إذا ظرف(8/20)
" صفحة رقم 21 "
مكان ، كان الأمر واضحاً ؛ وإن قلنا ظرف زمان ، كان الكلام على حذف ، أي ففي الزمان حضور زيد . وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة ، لم ينطق به ولا في موضع واحد . ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق ، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا . تقول : خرجت فإذا الأسد ، والمعنى : ففاجأني الأسد ، وليس المعنى : ففاجأت الأسد .
الزخرف : ( 48 ) وما نريهم من . . . . .
( وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ( ، قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع ، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات ؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها ، وهذه صفة كل واحدة منهما ، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات . قلت : أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء ، واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته ، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلاً . فإن قلت : فهو كلام متناقض ، لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة ، قلت : الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير ، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجال الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا ، وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة : من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدري أين طرفاها . انتهى ، وهو كلام طويل ، ملخصه : أن الوصف بالأكبرية مجاز ، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها . وقال ابن عطية : عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه ، وذلك أن آية عرضها موسى ، هي العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر ، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر : على أنها تعفو الكلوم وإنما
يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
وذهب الطبري إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات . انتهى . وقيل : كانت من كبار الآيات ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ؛ فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة ، أي من أختها السابقة عليها ، ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى ، لأنه لم يسبقها شيء ، فتكون أكبر منه . وقيل : الأولى تقتضي علماً ، والثانية تقتضي علماً منضماً إلى علم الأولى ، فيزداد الرجوح . وكنى بأختها : مناسبتها ، تقول : هذه الذرة أخت هذه ، أي مناسبتها .(8/21)
" صفحة رقم 22 "
) وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ ( : ) بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ ( و ) الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ( ، وذلك عقاب لهم ، وآيات لموسى ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( عن كفرهم . قال الزمخشري : لعلهم يرجعون ، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان . فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان . قلت : إرادته فعل غيره ، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، والإداريين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع ، لأن الإرادة لم تكن قسراً ولم يختاروه . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقال ابن عطية : لعلهم ، ترجّ بحسب معتقد البشر وظنهم .
الزخرف : ( 49 - 50 ) وقالوا يا أيها . . . . .
( وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ( : أي في كشف العذاب . قال الجمهور : هو خطاب تعظيم ، لأن السحر كان علم زمانهم ، أو لأنهم استصحبوا له ما كانوا يدعون به أولاً ، ويكون قولهم : ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( : إخبار مطابق مقصود ، وقيل : بل خطاب استهزاء وانتقاص ، ويكون قولهم : ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( ، أي على زعمك ، وقوله : و ) إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( : إخبار مطابق على شرط دعائه ، وكشف العذاب وعهد معزوم على نكثه . ألا ترى : ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( ؟ وعلى القول الأول يكون قوله : ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( جارياً على أكثر عادة الناس ، إذا مسه الضر تضرع ودعا ، وإذا كشف عنه رجع إلى عادته الأولى ، كقوله : ) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( ، ثم إذا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه . وقوله : ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( ، محتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة ، وفي الكلام حذف ، أي فدعا موسى ، فكشف ) فَلَمَّا كَشَفْنَا ). وقرأ أبو حيوة : ينكثون ، بكسر الكاف .
الزخرف : ( 51 ) ونادى فرعون في . . . . .
( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ ( : جعل القوم محلاً للنداء ، والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه ، فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط . ويجوز أن يكون أمر بالنداء ، فأسند إليه . وسبب ندائه ذلك ، أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى ورفع العذاب ، خاف ميل القوم إليه ، فنادى : ) قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( ، أراد أن يبين فضله على موسى بملك مصر ، وهي من إسكندرية إلى أسوان . ) وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ ( : أي الخلجان التي تجري من النيل ، وأعظمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس . والواو في ) وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ ( واو الحال ، وتجري خبر . وهذه والأنهار صفة ، أو عطف بيان . وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر ، وتجري حال . من تحتي : أي من تحت قهري وملكي . وقال قتادة : كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره . وقيل : كان له سرير عظيم ، وقطع من نيل مصر قطعة قسمها أنهاراً تجري من تحت ذلك السرير . وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة ، يسيرون تحت لوائه . ومن فسرها بالأموال ، يعرفها من تحت يده . ومن فسرها بالخيل فقيل : كما سمى الفرس بحراً يسمي نهراً . وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية .
( أَفلاَ تُبْصِرُونَ ( عظمتي وقدرتي وعجز موسى ؟ وقرأ مهدي بن الصفير : يبصرون ، بياء الغيبة ؛ ذكره في الكامل للهذلي ، والسباعي ، عن يعقوب ، ذكره ابن خالويه . قال الزمخشري : وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوى الربوبية همة من تعاظم بملك مصر ؟ وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها ، لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير حتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته . وكسر نون ) أَفلاَ تُبْصِرُونَ ( ، عيسى . وعن الرشيد ، أنه لما قرأها قال : لأولينها أحسن عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه . وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها ، فلما شارفها ووقع عليها قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : ) أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( ؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ،
الزخرف : ( 52 ) أم أنا خير . . . . .
فثنى عنانه . ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ ( : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ، أي بل أنا خير . وهو إذا استفهم أهو خير ممن هو ضعيف ؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم ، وهو الملك المتحكم فيهم ، قالوا له : بلا شك أنت خير . وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل ، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر ، كقول الشاعر :(8/22)
" صفحة رقم 23 "
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أم أنت في العين أملح
وقال سيبويه : أم هذه المعادلة : أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى . وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ، لأن المعنى : أفلا تبصرون ؟ أم تبصرون ؟ إلا أنه وضع قوله : ) أَنَا خَيْرٌ ( موضع ) تُبْصِرُونَ ( ، لأنهم إذا قالوا : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب . انتهى . وهذا القول متكلف جداً ، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق ، وإن كان السابق جملة فعلية ، كان المعادل جملة فعلية ، أو جملة اسمية ، يتقدر منها فعلية كقوله ) أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ؟ لأن معناه : أم صمتم ؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية ، لأن قوله : ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ ( ؟ ليس مقابلاً لقوله : ) أَفلاَ تُبْصِرُونَ ( ؟ وإن كان السابق اسماً ، كان المعادل اسماً ، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم ، نحو قوله :
أمخدج اليدين أم أتمت
فأتمت معادل للاسم ، فالتقدير : أم متماً ؟ وقيل : حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه ، إذ التقدير : تبصرون ، فحذف تبصرون ، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا ، نحو : أيقوم زيد أم لا ؟ تقديره : أم لا يقوم ؟ وأزيد عندك أم لا ، أي أم لا هو عندك . فأما حذفه دون لا ، فليس من كلامهم . وقد جاء حذف أم والمعادل ، وهو قليل . قال الشاعر : دعاني إليها القلب إني لأمرها
سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد أم غيّ . وحكى الفراء أنه قرأ : أما أنا خير ، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير . ) وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( : الجمهور ، أنه كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة . ومن ذهب إلى أن الله كان أجابه في سؤاله : ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى ( ، فلم يبق لها أثر جعل انتفاء الإبانة بأنه لا يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي ، لأنه لا قدرة له على إيضاح المعنى لأجل كلامه . وقيل : عابه بما كان عليه موسى من الخسة أيام كان عند فرعون ، فنسب إلى ما عهده مبالغة في التعيير . وقول فرعون : ) وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( ، كذب بحت . ألا ترى إلى مناظرته له وردّه عليه وإفحامه بالحجة ؟ والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، كلهم بلغاء . وقرأ الباقر : يبين ، بفتح الياء ، من بان إذا ظهر .
الزخرف : ( 53 ) فلولا ألقي عليه . . . . .
( فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ ( ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلاً ، سوروه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب ، علامة لسودده . قال فرعون :(8/23)
" صفحة رقم 24 "
هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقاً ؟ وكان ذلك دليلاً على إلقاء مقاليد الملك إليه ، لما وصف نفسه بالعزة والملك ، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد . فاعترض فقال : إن كان صادقاً ، فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره ؟ وقرأ الضحاك : ) فَلَوْلاَ أُلْقِىَ ( مبنياً للفاعل ، أي الله ؛ أساورة نصباً ؛ والجمهور : أساورة رفعاً ، وأبي وعبد الله : أساوير ، والمفرد إسوار بمعنى سوار ، والهاء عوض من الياء ، كهي في زنادقة ، هي عوض من ياء زناديق المقابلة لياء زنديق ، وهذه مقابلة لألف أسوار . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والأعرج ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وحفص : أسورة ، جمع سوار ، نحو : خمار وأخمرة . وقرأ الأعمش : أساور . ورويت عن أبي ، وعن أبي عمرو ، ( أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( : أي يحمونه ويقيمون حجته . قال ابن عباس : يعينونه على من خالفه . وقال السدي : يقارن بعضهم بعضاً . وقال مجاهد : يمشون معه . وقال قتادة : متتابعين .
الزخرف : ( 54 ) فاستخف قومه فأطاعوه . . . . .
( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ( : أي استجهلهم لخفة أحلامهم ، قاله ابن الاعرابي . وقال غيره : حملهم على أن يخفوا لما يريد منهم ، فأجابوه لفسقهم .
الزخرف : ( 55 ) فلما آسفونا انتقمنا . . . . .
( فَلَمَّا ءاسَفُونَا ( : منقول بالهمزة من أسف ، إذا غضب ؛ والمعنى : فلما عملوا الأعمال الخبيثة الموجبة لأن لا يحلم عنهم . وعن ابن عباس : أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل . وعنه أيضاً : أغضبونا . وعن علي : أسخطونا . وقيل : خالفوا . وقال القشيري وغيره : الغضب من الله ، إما إرادة العقوبة ، فهو من صفات الذات ؛ أو العقوبة ، فيكون من صفات الفعل .
الزخرف : ( 56 ) فجعلناهم سلفا ومثلا . . . . .
وقرأ الجمهور : سلفاً . قال ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وقتادة : أي متقدمين إلى النار ، وهو مصدر سلف يسلف سلفاً ، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون ، والجمع أسلاف وسلاف . وقيل هو جمع سالف ، كحارس وحرس ، وحقيقته أنه اسم جمع ، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع المكسرة . وقال طفيل يرثي قومه : مضوا سلفاً قصد السبيل عليهم
صروف المنايا والرجال تقلب
قال الفراء والزجاج : سلفاً ليتعظ بهم الكفار المعاصرون للرسول . وقرأ أبو عبد الله وأصحابه ، وسعيد بن عياض ، والأعمش ، وطلحة ، والأعرج ، وحمزة ، والكسائي : وسلفاً بضم السين واللام ، جمع سليف ، وهو الفريق . سمع القاسم بن معن العرب تقول : مضى سليف من الناس . وقرأ علي ، ومجاهد ، والأعرج أيضاً : وسلفاً ، بضم السين واللام ، جمع سلفة ، وهي الأمة والقطيعة . والسلف في غير هذا : ولد القبح ، والجمع سلفان . ) وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ ( : أي حديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل ، يحدث به الآخرون من الكفار ، يقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون .
( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِى إِسْراءيلَ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الاْرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْواب(8/24)
" صفحة رقم 25 "
ٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ ).
الزخرف : ( 57 ) ولما ضرب ابن . . . . .
لما ذكر تعالى طرفاً من قصة موسى عليه السلام ، ذكر طرفاً من قصة عيسى عليه السلام . وعن ابن عباس وغيره : لما نزل ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( ، ونزل كيف خلق من غير فحل ، قالت قريش : ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده ، كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلاً . وقيل : ضرب المثل بعيسى ، هو ما جرى بين الزبعري وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ). وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعري قال : فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار ، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم . وقيل : المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد عيسى قالوا : آلهتنا خير من عيسى ، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة . وضرب مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعري ، إن صحت قصته ، وأن يكون الكفار . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والنخعي ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وعامر ، ونافع ، والكسائي : يصدون ، بضم الصاد ، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل . وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعكرمة ، وباقي السبعة : بكسرها ، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل . وروي : ضم الصاد ، عن علي ، وأنكرها ابن عباس ، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها . وقرأ الكسائي ، والفراء : هما لغتان بمعنى : مثل يعرشون ويعرشون .
الزخرف : ( 58 - 59 ) وقالوا أآلهتنا خير . . . . .
( وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ( : خفف الكوفيون الهمزتين ، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين . وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر : بهمزة واحدة على مثال الخبر ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها ، واحتمل أن يكون خبراً محضاً . حكوا أن آلهتهم خير ، ثم عنّ لهم أن يستفهموا ، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام ، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى . ) مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ( : أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة ، لا لتمييز الحق واتباعه . وانتصب جدلاً على أنه مفعول من أجله ، وقيل : مصدر في موضع الحال . وقرأ ابن مقسم : إلا جدالاً ؛ بكسر الجيم . وألف خصمون : شديدو الخصومة واللجاج ؛ وفعل من أبنية المبالغة نحو : هدى . والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى ، لتتناسق الضمائر في قوله : ) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ ). وقال قتادة : يعود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ( بالنبوة وشرفناه بالرسالة . ) وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً ( أي خبرة عجيبة ، كالمثل ) لّبَنِى إِسْراءيلَ ( ، إذ خلق من غير أب ، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والأسقام كلها ، ما لم يجعل لغيره في زمانه . وقيل : المنعم عليه هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الزخرف : ( 60 ) ولو نشاء لجعلنا . . . . .
( وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الاْرْضِ ( ، قال بعض النحويين : من تكون للبدل ، أي لجعلنا بدلكم ملائكة ، وجعل من ذلكم قوله تعالى : ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ ( ، أي بدل الآخرة ، وقول الشاعر : أخذوا المخاض من الفصيل غلية
ظلماً ويكتب للأمير أفالا
أي بدل الفصيل ، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية ، ويتأولون ما ورد ما يوهم ذلك . قال ابن عطية : لجعلنا بدلاً منكم . وقال الزمخشري : ولو نشاء ، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر ، لجعلنا منكم : لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض ، كما يخلفكم أولادكم ؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك . انتهى ، وهو تخريج حسن .(8/25)
" صفحة رقم 26 "
ونحو من هذا التخريج قول من قال : لجعلنا من الأنس ملائكة ، وإن لم تجر العادة بذلك . والجواهر جنس واحد ، والاختلاف بالأوصاف . ) يَخْلُفُونَ ( ، قال السدي : يكونون خلفاءكم . وقال قتادة : يخلف بعضهم بعضاً . وقال مجاهد : في عمارة الأرض . وقيل : في الرسالة بدلاً من رسلكم .
الزخرف : ( 61 - 63 ) وإنه لعلم للساعة . . . . .
والظاهر أن الضمير في : ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ ( يعود على عيسى ، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه . وقال ابن عباس : ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد : أي وإن خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها ، إذ خروجه شرط من أشراطها ، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان . وقال الحسن ، وقتادة أيضاً ، وابن جبير : يعود على القرآن على معنى أن يدل إنزاله على قرب الساعة ، أو أنه به تعلم الساعة وأهوالها . وقالت فرقة : يعود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ هو آخر الأنبياء ، تميزت الساعة به نوعاً وقدراً من التمييز ، ونفى التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه . وقرأ الجمهور : لعلم ، مصدر علم . قال الزمخشري : أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى العلم شرطاً لحصول العلم به . وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو مالك الغفاري ، وزيد بن علي ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، ومالك بن دينار ، والأعمش ، والكلبي . قال ابن عطية ، وأبو نصرة : لعلم ، بفتح العين واللام ، أي لعلامة . وقرأ عكرمة به . قال ابن خالويه ، وأبو نصرة : للعلم ، معرفاً بفتحتين .
( فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا ( : أي لا تشكون فيها ، ( وَاتَّبِعُونِ هَاذَا ( : أي هداي أو شرعي . وقيل : أي قل لهم يا محمد : واتبعوني هذا ، أي الذي أدعوكم له ، أو هذا القرآن ؛ كان الضمير في قال القرآن ، ثم حذرهم من إغواء الشيطان ، ونبه على عداوته ) بِالْبَيِّنَاتِ ( : أي المعجزات ، أو بآيات الإنجيل الواضحات . ) بِالْحِكْمَةِ ( : أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع . قال السدي : بالحكمة : النبوة . وقال أيضاً : قضايا يحكم بها العقل . وذكر القشيري والماوردي : الإنجيل . وقال الضحاك : الموعظة . ) وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ( : وهو أمر الديانات ، لأن اختلافهم يكون فيها ، وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات . فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه ، وبين لهم في غيره ما احتاجوا إليه . وقيل : بعض ما يختلفون فيه من أحكام التوراة . وقال أبو عبيدة : بعض بمعنى كل ، ورده الناس عليه . وقال مقاتل : هو كقوله : ) وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ ( ، أي في الإنجيل : لحم الإبل ، والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت . وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة . وقيل : مما سألتم من أحكام التوراة . وقال قتادة : ولأبين لكم اختلاف القرون الذين تحزبوا في أمر عيسى في قوله : ) قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ ( ، وهم قومه المبعوث إليهم ، أي من تلقائهم ومن أنفسهم ، بان شرهم
الزخرف : ( 65 ) فاختلف الأحزاب من . . . . .
ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم . وتقدم الخلاف في اختلافهم في سورة مريم في قوله : ) فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ).
) هَلْ يَنظُرُونَ ( : الضمير لقريش ، و ) أَن تَأْتِيهُمُ ( : بدل من الساعة ، أي إتيانها إياهم .
الزخرف : ( 66 - 67 ) هل ينظرون إلا . . . . .
( الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ ( : قيل نزلت في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط . والتنوين في يومئذ عوض عن الجملة المحذوفة ، أي يوم إذ تأتيهم الساعة ، ويومئذ منصوب بعد ، والمعنى : أنه ينقطع كل خلة وتنقلب الأخلة المتقين ، فإنها لا تزداد إلا قوّة . وقيل : ) إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( : إلا المجتنبين أخلاء السوء ، وذلك أن أخلاء السوء كل منهم يرى أن الضرر دخل عليه من خليله ، كما أن المتقين يرى كل منهم النفع دخل عليهم من خليله .
الزخرف : ( 68 - 71 ) يا عباد لا . . . . .
وقرىء : يا عبادي ، بالياء ، وهو الأصل ، ويا عباد بحذفها ، وهو الأكثر ، وكلاهما في السبعة . وعن المعتمر بن سليمان : سمع أن الناس حين يبعثون ، ليس منهم أحد إلا يفزغ فينادي منادٍ ) الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ( ، فيرجوها الناس كلهم ، فيتبعها ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، قال : فييأس منها الكفار . وقرأ الجمهور : لا خوف ، مرفوع منون ؛ وابن محيصن : بالرفع من غير تنوين ؛ والحسن ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وابن يعمر : بفتحها من غير تنوين ، و ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( صفة ليا عبادي .
( تُحْبَرُونَ ( : تسرون سروراً يظهر حباره ، أي أثره على وجوهكم ، لقوله تعالى : ) تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ). وقال الزجاج : يكرمون إكراماً يبالغ فيه ، والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل وأمال أبو الحرث عن الكسائي . ) بِصِحَافٍ ((8/26)
" صفحة رقم 27 "
ذكره ابن خالويه . والضمير في : ) فِيهَا ( ، عائد على الجنة . ) مَا تَشْتَهِى الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( : هذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، أو مستلذة في العيون . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عباس ، وحفص : ما تشتهيه بالضمير العائد على ما ، والجمهور وباقي السبعة : بحذف الهاء . وفي مصحف عبد الله : ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، بالهاء فيهما .
الزخرف : ( 72 - 73 ) وتلك الجنة التي . . . . .
و ) تِلْكَ الْجَنَّةُ ( : مبتدأ وخبر . و ) الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( : صفة ، أو ) الْجَنَّةِ ( صفة ، و ) الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( ، و ) بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( الخبر ، وما قبله صفتان . فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف ، وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها ، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة . ولما ذكر ما يتضمن الأكل والشرب ، ذكر الفاكهة . ) مّنْهَا تَأْكُلُونَ ( : من للتبعيض ، أي لا تأكلون إلا بعضها ، وما يخلف المأكول باق في الشجر ، كما جاء في الحديث .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ).
الزخرف : ( 74 ) إن المجرمين في . . . . .
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ، وما يقال لهم من لذائذ البشارة ، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة ، وما يجاوبون به عند سؤالهم . وقرأ عبد الله : وهم فيها ، أي في جهنم ؛ والجمهور : وهم فيه أي في العذاب . وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالداً لا يرى ولا يرى .
الزخرف : ( 75 ) لا يفتر عنهم . . . . .
( لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ( : أي لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى ، إذا سكنت قليلاً ونقص حرها . والمبلس : الساكت اليائس من الخير .
الزخرف : ( 76 ) وما ظلمناهم ولكن . . . . .
( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ( : أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه . ) وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ ( : أي الواضعين الكفر موضع الإيمان ، فظلموا بذلك أنفسهم . وقرأ الجمهور : والظالمين ، على أن هم فصل . وقرأ عبد الله ، وأبو زيد النحويان : الظالمون بالرفع ، على أنهم خبرهم ، وهم مبتدأ . وذكر أبو عمرو الجرمي : أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، ويرفعون ما بعده على الخبر . وقال أبو زيد : سمعتهم يقرأون : ) تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ( يعني : يرفع خير وأعظم . وقال قيس بن دريج : نحن إلى ليلى وأنت تركنها
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال سيبويه : إن رؤبة كان يقول : أظن زيداً هو خير منك ، يعني بالرفع .
الزخرف : ( 77 ) ونادوا يا مالك . . . . .
( وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ ( : تقدم أنهم مبلسون ، أي ساكتون ، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة ، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم . وقرأ الجمهور : يا مالك . وقرأ عبد الله ، وعليّ ، وابن وثاب ، والأعمش : يا مال ، بالترخيم ، على لغة من ينتظر الحرف . وقرأ أبو السرار(8/27)
" صفحة رقم 28 "
الغنوي : يا مال ، بالبناء على الضم ، جعل اسماً على حياله . واللام في : ) لِيَقْضِ ( لام الطلب والرغبة . والمعنى : يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا ، كقوله : ) فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ( ، أي أماته . ) قَالَ ( : أي مالك ، ( إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ( : أي مقيمون في النار لا تبرحون . وقال ابن عباس : يجيبهم بعد مضي ألف سنة ، وقال نوف : بعد مائة ، وقيل : ثمانين ، وقال عبد الله بن عمرو : أربعين .
الزخرف : ( 78 ) لقد جئناكم بالحق . . . . .
( لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ ( : يظهر أنه من كلام الله تعالى . وقيل : من كلام بعض الملائكة ، كما يقول أحد خدم الرئيس : أعلمناكم وفعلنا بكم . قيل : ويحتمل أن يكون ) لَقَدْ جِئْنَاكُم ( من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى : انظروا كيف يكون حالكم .
الزخرف : ( 79 ) أم أبرموا أمرا . . . . .
( أَمْ أَبْرَمُواْ ( : والضمير لقريش ، أي بل أحكموا أمراً من كيدهم للرسول ومكرهم ، ( فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ( كيدنا ، كما أبرموا كيدهم ، كقوله : ) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ ( ،
الزخرف : ( 80 ) أم يحسبون أنا . . . . .
وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول ، فقال تعالى : ) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ( ، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال . ) وَنَجْواهُم ( : وهي ما تكلموا به فيما بينهم . ) بَلَى ( : أي نسمعها ، ( رُسُلُنَا ( ، وهم الحفظة .
الزخرف : ( 81 ) قل إن كان . . . . .
( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ ( ، كما تقولون ، ( فَأَنَاْ أَوَّلُ ( من يعبده على ذلك ، ولكن ليس له شيء من ذلك . وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال : إن كان للرحمن ولد ، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه ، وحجة واضحة يبذلونها ، فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه . وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالاً مثلها . فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها . ثم قال الزمخشري : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر . ثم ذكر كلاماً يستحق عليه التأديب ، بل السيف ، نزهت كتابي عن ذكره . ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد ، في زعمكم ، فأنا أول العابدين ، الموحدين لله ، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه . وقيل : إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد ، إذ اشتد أنفه فهو عبد وعابد . وقرأ بعضهم : عبدين ، وقيل : هي إن النافية ، أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد .
وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : أن الملائكة بنات الله ، فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني ؟ فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له . انتهى . أما القول : إن كان لله ولد في زعمكم ، فهو قول مجاهد ، وأما القول : فأنا أول الآنفين ، فهو قول جماعة ، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحداً منهم ، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني : العبدين ، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين : العبدين ، بإسكان الباء ، تخفيف العبدين بكسرها . وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين : أنه الآنفين انتهى . وقال ابن عرفة : يقال : عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال : عابد . والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ثم قال : كقول مجاهد . وقال الفرزدق : أولئك آبائي فجئني بمثلهم
واعبد أن أهجوا كليباً بدارمي
أي : آنف وأستنكف . وقال آخر :(8/28)
" صفحة رقم 29 "
متى ما يشا ذو الود يصرم خليله
ويعبد عليه لا محالة ظالما
وأما القول بأن إن نافية ، فمروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وقتادة ، وابن زيد ، وزهير بن محمد ، وقال مكي : لا يجوز أن تكون إن بمعنى ما النافية ، لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت ، وهذا مجال . انتهى . ولا يلزم منه محال ، لأن كان قد تستعمل فيما يدوم ولا يزول ، كقولك : ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ، أي لم يزل ، فالمعنى : ما كان وما يكون . وقال أبو حاتم : العبد ، بكسر الباء : الشديد الغضب . وقال أبو عبيدة : معناه أول الجاحدين . والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني . وقرأ ولد بفتحتين . عبد الله ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بضم الواو وسكون اللام .
الزخرف : ( 82 ) سبحان رب السماوات . . . . .
ثم قال : ) سُبْحَانَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( : أي من نسبة الولد إليه ، والمعنى : إزالة العلم يجب أن يكون واجب الوجود ، وما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي . والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه ، فيتولد منه شخص مثله ، ولا يكون إلا فيما هو قابل ذاته للتجزي ، وهذا محال في حقه تعالى ، فامتنع إثبات الولد .
الزخرف : ( 83 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا . . . . .
ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال : ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ ( ، أي في باطلهم ، ( وَيَلْعَبُواْ ( ، أي في دنياهم . وظاهر هذين الأمرين مهادنة وترك ، وذلك مما نسخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : ) حَتَّى يُلَاقُواْ ( ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، وعبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : يلقوا ، مضارع لقي . ) يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( : يوم القيامة . وقال عكرمة وغيره : يوم بدر ، وأضاف اليوم إليهم ، لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم .
الزخرف : ( 84 - 86 ) وهو الذي في . . . . .
وقرأ الجمهور : إلاه فيهما . وقرأ عمر . وعبد الله ، وأبي ، وعلي ، والحكم بن أبي العالي ، وبلال بن أبي بردة ، وابن يعمر ، وجابر ، وابن زيد ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو الشيخ الهنائي ، وحميد ، وابن مقسم ، وابن السميفع : الله فيهما . ومعنى إلاه : معبود به ، يتعلق الجار والمجرور ، والمعنى : أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض ، والعائد على الموصول محذوف تقديره : هو إلاه ، كما حذف في قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً ، وحسنه طوله بالعطف عليه ، كما حسن في قائل لك شيئاً طوله بالمعول . ومن قرأ : الله ، ضمنه أيضاً معنى المعبود ، كما ضمن العلم في نحو قولهم : هو حاتم في طيىء ، أي جواد في طيىء . ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور . والمعنى : أنه فيهما بالإلهية والربوبية ، إذ يستحيل حمله على الاستقرار . وفي قوله : ) وَفِى الاْرْضِ ( ، نفى لآلهتهم التي كانت تعبد في الأرض .
( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( : أي علم تعيين وقت قيامها ، وهو الذي استأثر به تعالى . وقرأ الجمهور : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ ونافع ، وعاصم ، والعدنيان : بتاء الخطاب ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعول . وقرىء : بفتح تاء الخطاب مبنياً للفاعل . وقرأ الجمهور : بياء الغيبة وشد الدال ، وعنه بتاء الخطاب وشد الدال ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم التي يدعون الشفاعة عند الله . قال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيراً والملائكة ، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق ، وهم يعلمونه في أحوالهم ، فالاستثناء على هذا متصل . وقال مجاهد وغيره : من المشفوع فيهم ؟ كأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق ، وهو يعلمه ، أي بالتوحيد ، قالوا : فالاستثناء على هذا منفصل ، كأنه قال : لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء . وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلاً ، لأنه يكون المستثنى منه محذوفاً ، كأنه قال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد ، إلا فيمن شهد بالحق ، فهو استثناء من المفعول المحذوف ، كما قال الشاعر : نجا سالم والنفس منه بشدقه
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزار(8/29)
" صفحة رقم 30 "
أي : ولم ينج إلا جفن سيف ، فهو استثناء من المشفوع فيهم الجائز فيه الحذف ، وهو متصل . فإن جعلته مستثنى من ) الَّذِينَ يَدْعُونَ ( ، فيكون منفصلاً ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم ، ويعني بهم الأصنام والأوثان ، الشفاعة . كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله . ولكن ) مَن شَهِدَ بِالْحَقّ ( ، وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما شهد به ، هو الذي يملك الشفاعة ، وإن أدرجت الملائكة في ) الَّذِينَ يَدْعُونَ ( ، كان استثناء متصلاً .
الزخرف : ( 87 ) ولئن سألتهم من . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ، بياء الغيبة ، مناسباً لقوله : ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ( ، أي كيف يصرفون عن عبادة من أقروا أنه موجد العالم . وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب . وقرأ الجمهور : وقيله ، بالنصب . فعن الأخفش : أنه معطوف على سرهم ونجواهم ، وعنه أيضاً : على وقال قيله ، وعن الزجاج ، على محل الساعة في قوله : ) وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ). وقيل : معطوف على مفعول يكتبون المحذوف ، أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم . وقيل : معطوف على مفعول يعلمون ، أي يعلمون الحق .
الزخرف : ( 88 - 89 ) وقيله يا رب . . . . .
( وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ ( : وهو قول لا يكاد يعقل ، وقيل : منصوب على إضمار فعل ، أي ويعلم قيله . وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وعاصم ، والأعمش ، وحمزة ، وقيله ، بالخفض ، وخرج على أنه عطف على الساعة ، أو على أنها واو القسم ، والجواب محذوف ، أي : لينصرن ، أو لأفعلن بهم ما أشاء . وقرأ الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، ومسلم بن جندب : وقيله بالرفع ، وخرج على أنه معطوف على علم الساعة ، على حذف مضاف ، أي وعلم قيله حذف ، وأقيم المضاف إليه مقامه . وروي هذا عن الكسائي ، وعلى الابتداء ، وخبره : يا رب إلى لا يؤمنون ، أو على أن الخبر محذوف تقديره مسموع ، أو متقبل ، فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بو قيله . وقرأ أبو قلابة : يا رب ، بفتح الباء ؛ أراد : يا ربا ، كما تقول : يا غلام . ويتخرج على جواز الأخفش : يا قوم ، بالفتح وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها . وقال الزمخشري : والذي قالوه يعني من العطف ليس بقوي في المعنى ، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ، ومع تنافر النظم ، وأقوى من ذلك . والوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك ، ويكون قوله : ) إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( ، جواب القسم ، كأنه قال : وأقسم بقيله ، أو وقيله يا رب قسمي . ) إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( ، وإقسام الله بقيله ، رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه . انتهى ، وهو مخالف لظاهر الكلام ، إذ يظهر أن قوله : يا رب إلى لا يؤمنون ، متعلق بقيله ، ومن كلامه عليه السلام : وإذا كان أن هؤلاء جواب القسم ، كان من إخبار الله عنهم وكلامه ، والضمير في وقيله للرسول ، وهو المخاطب بقوله : ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ( ، أي أعرض عنهم وتاركهم ، ( وَقُلْ سَلَامٌ ( ، أي الأمر سلام ، فسوف يعلمون وعيد لهم وتهديد وموادعة ، وهي منسوخة بآية السيف . وقرأ الجمهور : يعلمون ، بياء الغيبة ، كما في : فاصفح عنهم . وقرأ أبو جعفر ، والحسن ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بتاء الخطاب . وقال السدي : وقل سلام ، أي خيراً بدلاً من شرهم . وقال مقاتل : أورد عليهم معروفاً . وحكى الماوردي : قل ما تسلم به من شرهم .(8/30)
" صفحة رقم 31 "
44
( سورة الدخان )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّىءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالاٌّ رْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الاٌّ يَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاٍّ وْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِأابَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(8/31)
" صفحة رقم 32 "
إِنَّ شَجَرت الزَّقُّومِ طَعَامُ الاٌّ ثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاٍّ ولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ( )
الدخان : ( 2 - 3 ) والكتاب المبين
الدخان : معروف ، وقال أبو عبيدة : والدخان : الجدب . قال القتبي : سمي دخاناً ليبس الأرض منه ، حتى يرتفع منها كالدخان ، وقياس جمعه في القلة : أدخنة ، وفي الكثرة : دخنان ، نحو : غراب وأغربة وغربان . وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا : دواخن ، كأنه جمع داخنة تقديراً ، كما شذوا في عثان قالوا : عواثن . رها البحر ، يرهو رهواً : سكن . يقال جاءت الخيل رهواً : أي ساكنة . قال الشاعر : والخيل تمزع رهواً في أعنتها
كالطير ينجو من الشرنوب ذي البرد
ويقال : افعل ذلك رهواً : أي ساكناً على هينتك . وقال ابن الأعرابي : رها في السير . قال القطامي في نعت الركاب : يمشين رهواً فلا الإعجاز خاذلة
ولا الصدور على الإعجاز تتكل
وقال الليث : عيش راه : وارع خافض . وقال غيره : الرهو والرهوة : المكان المرتفع والمنخفض يجتمع فيه الماء ، وهو من الأضداد ؛ والجمع : رها . والرهو : المرأة الواسعة الهن ، حكاه النضر بن شميل . والرهو : ضرب من الطير ، يقال هو الكركي . وقال أبو عبيدة : رها الرجل يرهو رهواً : فتح بين رجليه . المهل : دردي الزيت وعكره . عتله : ساقه يعنف ودفع وإهانة . والمعتل : الجافي الغليظ .
( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ(8/32)
" صفحة رقم 33 "
إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنّى وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ).
هذه السورة مكية ، قيل : إلا قوله : ) إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ). ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها : ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( ، فذكر يوماً غير معين ، ولا موصوفاً . فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم ، بوصف وصفه فقال : ) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( ، وأن العذاب يأتيهم من قبلك ، ويحل بهم من الجدب والقحط ، ويكون العذاب في الدنيا ، وإن كان العذاب في الآخرة ، فيكون يومهم الذي يوعدون يوم القيامة . والظاهر أن الكتاب المبين هو القرآن ، أقسم به تعالى . ويكون الضمير في أنزلناه عائداً عليه . قيل : ويجوز أن يراد به الكتب الإلهية المنزلة ، وأن يراد به اللوح المحفوظ ، وجواب القسم . وقال الزمخشري وغيره : قوله : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( ، على أن الكتاب هو القرآن ، ويكون قد عظمه تعالى بالإقسام به . وقال ابن عطية : لا يحسن وقوع القسم عليه ، أي على إنا أنزلناه ، وهو اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ، ويكون الذي وقع عليه القسم ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ). انتهى . قال قتادة ، وابن زيد ، والحسن : الليلة المباركة : ليلة القدر . وقالوا : كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان ؛ التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ، والزبور في نحو ذلك ، والقرآن في آخره ، في ليلة القدر ؛ ويعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر . وقيل : أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ، ومن هناك كان جبريل يتلقاه . وقال عكرمة وغيره : هي ليلة النصف من شعبان ، وقد أوردوا فيها أحاديث . وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا يصح فيها شيء ، ولا في نسخ الآجال فيها .
إنا كنا منذرين : أي مخوفين . قال الزمخشري : فإن قلت : ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( ، ما موقع هاتين الجملتين ؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ( ، كأنه قيل : أنزلناه ، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب . وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً ، لأن إنزال القرآن من الأمور المحكمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ، والمباركة : الكثيرة الخير ، لما ينتج الله فيها من الأمور التي تتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده ، لكفى به بركة . انتهى .
الدخان : ( 4 ) فيها يفرق كل . . . . .
وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : يفرق ، بفتح الياء وضم الراء ، كل : بالنصب ، أي يفرق الله . وقرأ زيد بن علي ، فيما ذكر الزمخشري : نفرق بالنون ، كل بالنصب ؛ وفيما ذكر أبو على الأهوازي : عينه بفتح الياء وكسر الراء ، ونصب كل ، ورفع حكيم ، على أنه الفاعل بيفرق . وقرأ الحسن : وزائدة عن الأعمش بالتشديد مبنياً للمفعول ، أو معنى يفرق : يفصل من غيره ويلخص . ووصف أمر بحكيم ، أي أمر ذي حكمة ؛ وقد أبهم تعالى هذا الأمر .
وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد : في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق والآجال وغير ذلك ، ويكتب ذلك إلى مثلها من العام المقبل . وقال هلال بن أساف : كان يقال : انتظر والقضاء في رمضان . وقال عكرمة : لفضل الملائكة في ليلة النصف من شعبان .
الدخان : ( 5 - 6 ) أمرا من عندنا . . . . .
وجوزوا في أمراً أن يكون مفعولاً به بمنذرين لقوله : ) لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ). أو على الاختصاص ، جعل كل أمر حكيم جزلاً فخماً ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة(8/33)
" صفحة رقم 34 "
وفخامة نفسه بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، كائناً من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، كذا قال الزمخشري . وقال : وفي قراءة زيد بن علي : ) أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا ( ، على هو أمراً ، وهي نصب على الاختصاص ومقبولاً له ، والعامل أنزلنا ، أو منذرين ، أو يفرق ، ومصدراً من معنى يفرق ، أي فرقاً من عندنا ، أو من أمرنا محذوفاً وحالاً ، قيل : من كل ، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر ، لأنه وصف بحكيم ، فحسنت الحال منه ، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه ، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب ، ولا يجوز . وقيل : من ضمير الفاعل في أنزلناه ، أي أمرني . وقيل : من ضمير المفعول في أنزلناه ، أي في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل . والظاهر أن من عندنا صفة لأمراً ، وقيل : يتعلق بيفرق .
( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( : لما ذكر إنزال القرآن ، ذكر المرسل ، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد . فالجملة المؤكدة مستأنفة . وقيل : يجوز أن يكون بدلاً من ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ). وجوزوا في رحمة أن يكون مصدراً ، أي رحمنا رحمة ، وأن يكون مفعولاً له بأنزلناه ، أو ليفرق ، أو لأمراً من عندنا . وأن يكون مفعولاً بمرسلين ؛ والرحمة توصف بالإرسال ، كما وصفت به في قوله : ) وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ). والمعنى على هذا : أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا . وقرأ زيد بن علي ، والحسن : رحمة ، بالرفع : أي تلك رحمة من ربك ، التفاتاً من مضمر إلى ظاهر ، إذ لو روعي ما قبله ، لكان رحمة منا ، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر ، إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين .
الدخان : ( 7 - 8 ) رب السماوات والأرض . . . . .
وقرأ ابن محيصن ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والكوفيون : ) رَبّ السَّمَاوَاتِ ( ، بالخفض بدلاً من ربك ؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر ، وشيبة : بالرفع على القطع ، أي هو رب . وقرأ الجمهور : ) رَبُّكُمْ وَرَبُّ ( ، برفعهما ؛ وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، والحسن ، وأبو موسى عيسى بن سليمان ، وصالح الناقط ، كلاهما عن الكسائي : بالجر ؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي : ربكم ورب ، بالنصب على المدح ، وهم يخالفون بين الإعراب ، الرفع والنصب ، إذا طالت النعوت . وقوله : ) إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( ، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم ، وأنه أنزل الكتب ، وأرسل الرسل رحمة منه ، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان .
الدخان : ( 9 ) بل هم في . . . . .
ولذلك جاء : ) بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ ( ، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون . فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن .
الدخان : ( 10 - 15 ) فارتقب يوم تأتي . . . . .
( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ). قال علي بن طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد الخدري ، وزيد بن علي ، والحسن : هو دخان يجيء يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين ، حتى تكون مصقلة حنيذة . وقال ابن مسعود ، وأبو العالية ، والنخعي : هو الدخان الذي رأته قريش . قيل لعبد الله : إن قاصاً عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ أنفاس الناس ، فقال : من علم علماً فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم . ألا وسأحدثكم أن قريشاً لما استعصت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، دعا عليهم فقال : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) ، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف ، والعلهز . والعلهز : الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل . وفيه أيضاً : حتى أكلوا العظام . وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان . فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه ، وناشده الله والرحم ، وواعدوه ، إن دعا لهم وكشف عنهم ، أن يؤمنوا . فلما كشف عنهم ، رجعوا إلى شركهم . وفيه : فرحمهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبعث إليهم بصدقة ومال . وفيه : فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عز وجل : ) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا(8/34)
" صفحة رقم 35 "
مُنتَقِمُونَ ( ، قال : يعني يوم بدر . وقال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم . وقال عبد الرحمن الأعرج : ) يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء ( ، هو يوم فتح مكة ، لما حجبت السماء الغبرة . وفي حديث حذيفة : أول الآيات خروج الدجال ، والدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن ؛ وفيه قلت : يا نبي الله ، وما الدخان على هذه الآية : ) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( ؟ وذكر بقية الحديث ، واختصرناه بدخان مبين ، أي ظاهر . لا شك أنه دخان ) يَغْشَى النَّاسَ ( : يشملهم . فإن كان هو الذي رأته قريش ، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة ، وقد مضى كما قال ابن مسعود ؛ وإن كان من أشراط الساعة ، أو يوم القيامة ، فالناس عام فيمن أدركه وقت الأشراط ، وعام بالناس يوم القيامة . ) هَاذَا عَذَابٌ ( إلى ) مُؤْمِنُونَ ( في موضع نصب بفعل القول محذوفاً ، وهو في موضع الحال ، أي يقولون . ويجوز أن يكون إخباراً من الله ، كأنه تعجب منه ، كما قال في قصة الذبيح : ) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ ).
) إِنَّا مْؤْمِنُونَ ( : وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب ، والإيمان واجب ، كشف العذاب أو لم يكشف . ) أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى ( : أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم ما هو أعظم ؟ وأدخل في باب الادكار من كشف الدخان ؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الآيات والبينات ، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا ، وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاسا غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون . وقرأ زر بن حبيش : معلم ، بكسر اللام . ) إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً ( : إخبار عن إقامة الحجة عليهم ، ومبالغة في الإملاء لهم . ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر . وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة : وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب ، كان ظاهراً ؛ وإن كان الدخان قبل يوم القيامة ، فإذا أتت السماء بالعذاب ، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب ، إنا مؤمنون . فيكشف عنهم ، قيل : بعد أربعين يوماً ؛ فحين يكشفه عنهم يرتدون .
الدخان : ( 16 ) يوم نبطش البطشة . . . . .
ويوم البطشة الكبرى على هذا : هو يوم القيامة ، كقوله : ) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ). وكونه يوم القيامة ، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة . وكونه يوم بدر ، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد . وانتصب يوم نبطش ، قيل : بذكراهم ، وقيل : بننتقم الدال عليه منتقمون ، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل ، وقيل : بمنتقمون . ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها . وقرأ الجمهور : نبطش ، بفتح النون وكسر الطاء ؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها ؛ والحسن أيضاً ، وأبو رجاء ، وطلحة : بضم النون وكسر الطاء ، بمعنى : نسلط عليهم من يبطش بهم . والبطشة على هذه القراءة ليس منصوباً بنبطش ، بل بمقدر ، أي نبطش ذلك المسلط البطشة ، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة ، فينتصب بنبطش .
الدخان : ( 17 ) ولقد فتنا قبلهم . . . . .
( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ( : هذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله . وقرىء : فتنا ، بتشديد التاء ، للمبالغة في الفعل ، أو التكثير ، متعلقة ) وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( : أي كريم عند الله وعند المؤمنين ، قاله الفراء ؛ أو كريم في نفسه ، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس ، قاله أبو سليمان ؛ أو كريم حسن الخلق ، قاله مقاتل .
الدخان : ( 18 ) أن أدوا إلي . . . . .
( أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ ( يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول ، وهو رسول كريم ، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع ، فإنها توصل بالأمر . قال ابن عباس : أن أدوا إليّ الطاعة يا عباد الله : أي اتبعوني على ما أدعوكم إليه من الإيمان . وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل ، كم قال : فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . فعلى ابن عباس : عباد الله : منادى ، ومفعول أدوا محذوف ؛ وعلى قول مجاهد ومن ذكر معه : عباد الله : مفعول أدوا . ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( : أي غير متهم ، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته .
الدخان : ( 19 ) وأن لا تعلوا . . . . .
( وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ ( : أي لا تستكبروا على عبادة الله ، قاله يحيي بن سلام . قال ابن جريح : لا تعظموا على الله . قيل : والفرق بينهما أن التعظيم تطاول المقتدر ، والاستكبار ترفع المحتقر ، ذكره الماوردي ، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة . ) وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ( : أي بحجة واضحة في(8/35)
" صفحة رقم 36 "
نفسها ، وموضحة صدق دعواي . وقرأ الجمهور : إني ، بكسر الهمزة ، على سبيل الإخبار ؛ وقرأت فرقة : بفتح الهمزة . والمعنى : لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم ، فهذا توبيخ لهم ، كما تقول : أتغضب إن قال لك الحق ؟
الدخان : ( 20 - 22 ) وإني عذت بربي . . . . .
( وَإِنّى عُذْتُ ( : أي استجرت ) بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ( : كانوا قد توعدوه بالقتل ، فاستعاذ من ذلك . وقرىء : عدت ، بالإدغام . قال قتادة وغيره : الرجم هنا بالحجارة . وقال ابن عباس ، وأبو صالح : بالشتم ؛ وقول قتادة أظهر ، لأنه قد وقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب ؛ وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله : ) فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ).
) فَدَعَا رَبَّهُ ( : أني مغلوب فانتصر ، ( إِنَّ هَؤُلآء ( : لفظ تحقير لهم . وقرأ الجمهور : أن هؤلاء ، بفتح الهمزة ، أي بأن هؤلاء . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والحسن في رواية ، وزيد بن علي : بكسرها .
الدخان : ( 23 ) فأسر بعبادي ليلا . . . . .
( فَأَسْرِ بِعِبَادِى ( : في الكلام حذف ، أي فانتقم منهم ، فقال له الله : أسر بعبادي ، وهم بنوا إسرائيل ومن آمن به من القبط . وقال الزمخشري : فيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي ، وأن يكون جواباً بالشرط محذوف ؛ كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول ، فأسر بعبادي . انتهى . وكثيراً ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه ، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح ؛ كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو ، على خلاف في ذلك . ) إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ ( : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، فتنجون ويغرق المتبعون .
الدخان : ( 24 ) واترك البحر رهوا . . . . .
( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ( : قال ابن عباس : ساكناً كما أجراه . وقال مجاهد وعكرمة : يبساً من قوله : ) فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً ). وقال الضحاك : دمثاً ليناً . وقال عكرمة : جدداً . وقال ابن زيد : سهلاً . وقال مجاهد أيضاً : منفرداً . قال قتادة : أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ، لما قطعه ، حتى يلتئم ؛ وخاف أن يتبعه فرعون ، فقيل : لمه هذا ؟ ) إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ( : أي فيه ، لأنهم إذا رأوه ساكناً على حالته حين دخل فيه موسى وبنوا إسرائيل ، أو مفتوحاً طريقاً يبساً ، دخلوا فيه ، فيطبقه الله عليهم .
الدخان : ( 25 - 28 ) كم تركوا من . . . . .
( كَمْ تَرَكُواْ ( : أي كثيراً تركوا . ) مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( : تقدم تفسيرهما في الشعراء . وقرأ الجمهور : ) وَمَقَامٍ ( ، بفتح الميم . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : أراد المقام . وقرأ ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، ونافع : في رواية خارجة بضمها . قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها . ) وَنَعْمَةٍ ( ، بفتح النون : نضارة العيش ولذاذة الحياة . وقرأ أبو رجاء : ) وَنَعْمَةٍ ( ، بالنصب ، عطفاً على كم ) كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ ). قرأ الجمهور : بألف ، أي طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ، كلابن ، وتامر ، وأبو رجاء ، والحسن : بغير ألف . والفكه يستعمل كثيراً في المستخف المستهزىء ، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمة التي كانوا فيها . وقال الجوهري : فكه الرجل ، بالكسر ، فهو فكه إذا كان مزاجاً ، والفكه أيضاً الأشر . وقال القشيري : فاكهين : لاهين كذلك . وقال الزجاج : والمعنى : الأمر كذلك ، فيوقف على كذلك ؛ والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ؛ وقيل : الكاف في موضع نصب ، أي يفعل فعلاً كذلك ، لمن يريد إهلاكه . وقال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني . وقال الحوفي : أهلكنا إهلاكاً ، وانتقمنا انتقاماً كذلك . وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، ( وَأَوْرَثَنَا قَوْماً ءاخَرِينَ ( ليسوا منهم ، وهم بنوا إسرائيل . كانوا مستعبدين في يد القبط ، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم . وقال قتادة ، وقال الحسن : إن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ، ولا ملكوها قط ؛ إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشأم . انتهى . ولا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها كثير ، وكلام الله صدق . قال تعالى في سورة الشعراء : ) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( وقيل : قوماً آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل .
الدخان : ( 29 ) فما بكت عليهم . . . . .
( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ ( : استعارة لتحقير أمرهم ، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء . ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . وقال زيد بن مفرغ :(8/36)
" صفحة رقم 37 "
الريح تبكي شجوه
والبرق يلمع في غمامه
وقال جرير : فالشمس طالعة ليست بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقال النابغة : بكى حادث الجولان من فقد ربه
وحوران منه خاشع متضائل
وقال جرير : لما أتى الزهو تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
ويقول في التحقير : مات فلان ، فما خشعت الجبال . ونسبة هذه الأشياء لما لا يعقل ولا يصير ذلك منه حقيقة ، عبارة عن تأثر الناس له ، أو عن عدمه . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الملائكة وأهل الأرض ، وهم المؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين . روي ذلك عن الحسن . وما روي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : إن المؤمن إذا مات ، بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحاً ، وبكى عليه السماء موضع صعود عمله . قالوا : فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله تمثيل . ) وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ( : أي مؤخرين عن العذاب لما حان وقت هلاكهم ، بل عجل الله لهم ذلك في الدنيا .
( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ إِنَّ هَؤُلاَء لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الاْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ ءامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مّن رَّبّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ).
الدخان : ( 30 ) ولقد نجينا بني . . . . .
لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه ، ذكر إحسانه لبني إسرائيل ؛ فبدأ بدفع الضرر عنهم ، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب . ثم ذكر اتصال النفع لهم ، من اختيارهم على العالمين ، وإيتائهم الآيات والعذاب المهين : قتل أبنائهم ، واستخدامهم في الأعمال الشاقة . وقرأ عبد الله : ) مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( : وهو من إضافة الموصوف إلى صفته ، كبقلة(8/37)
" صفحة رقم 38 "
الحمقاء .
الدخان : ( 31 ) من فرعون إنه . . . . .
و ) مِن فِرْعَوْنَ ( : بدل ) مّنَ الْعَذَابِ ( ، على حذف مضاف ، أي من عذاب فرعون . أولاً حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة . وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي كائناً وصادراً من فرعون . وقرأ ابن عباس : ) مِن فِرْعَوْنَ ( ، من : استفهام مبتدأ ، وفرعون خبره . لما وصف فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون ؟ على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته ؟ ثم عرف حاله في ذلك بقوله : ) إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ( : أي مرتفعاً على العالم ، أو متكبراً مسرفاً من المسرفين .
الدخان : ( 32 ) ولقد اخترناهم على . . . . .
( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ ( : أي اصطفيناهم وشرفناهم . ) عَلَى عِلْمٍ ( علم مصدر لم يذكر فاعله ، فقيل : على علم منهم ، وفضل فيهم ، فاخترناهم للنبوات والرسالات . وقيل : على علم منا ، أي عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا . وقيل : على علم منا بما يصدر من العدل والإحسان والعلم والإيمان ، بأنهم يزيفون ، وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال . وقيل : اخترناهم بهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم ، وخصصناهم بذلك دون العالم . ) عَلَى الْعَالَمِينَ ( : أي عالمي زمانهم ، لأن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مفضلة عليهم . وقيل : على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم ، وهذا خاص بهم ليس لغيرهم . وكان الاختيار من هذه الجهة ، لأن أمة محمد أفضل . وعلى ، في قوله : ) عَلَى عِلْمٍ ( ، ليس معناها معنى على في قوله : ) عَلَى الْعَالَمِينَ ( ، ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ، كقوله : ويوماً على ظهر الكتيب تعذرت
عليّ وآلت حلفة لم يحلل
فعلى علم : حال ، إما من الفاعل ، أو من المفعول . وعلى ظهر : حال من الفاعل في تعذرت ، والعامل في ذي الحال .
الدخان : ( 33 ) وآتيناهم من الآيات . . . . .
( وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ ( : أي المعجزات الظاهرة في قوم فرعون ، وما ابتلوا به ؛ وفي بني إسرائيل مما أنعم به عليهم من تظليل الغمام والمنّ والسلوى ، وغير ذلك مما لم يظهرها لغيرهم . ) مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ ( : أي اختبار بالنعم ظاهر ، أو الابتلاء بالنعم كقوله : ) وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ ).
الدخان : ( 34 - 35 ) إن هؤلاء ليقولون
) إِنَّ هَؤُلآء ( : يعني قريشاً ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم . ) لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى ( : أي ما الموتة إلا محصورة في موتتنا الأولى . وكان قد قال تعالى : ) وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( ، فذكر موتتين ، أولى وثانية ، فأنكروا هم أن يكون لهم موتة ثانية . والمعنى : ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا . فيتضمن قولهم هذا إنكار البعث ، ثم صرحوا بما تضمنه قولهم ، فقالوا : ) وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ( : أي بمبعوثين بحياة دائمة يقع فيها حساب وثواب وعقاب ؛ وكان قولهم ذلك في معنى قولهم : ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ).
الدخان : ( 36 ) فأتوا بآبائنا إن . . . . .
( فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا ( : خطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث ، أي إن صدقتم فيما تقولون ، فأحيوا لنا من مات من أبنائنا ، بسؤالكم ربكم ، حتى يكون ذلك دليلاً على البعث في الآخرة . قيل : طلبوا من الرسول أن يدعوا الله فيحيى لهم قصي بن كلاب ، ليشاوروه في صحة النبوة والبعث ، إذ كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل .
الدخان : ( 37 ) أهم خير أم . . . . .
( أَهُمْ ( : أي قريش ، ( خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ( ؟ الظاهر أن تبعاً هو شخص معروف ، وقع التفاضل بين قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام . وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك العرب ، كما يطلق كسرى على من ملك الفرس ، وقيصر على من ملك الروم ؛ قيل : واسمه أسعد الحميري ، وكنى أبا كرب ؛ وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل أن يبعث بسبعمائة سنة . وروي أنه لما آمن بالمدينة ، كتب كتاباً ونظم شعراً . أما الشعر فهو : شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت وزيراً له وابن عم
وأما الكتاب ، فروى ابن اسحاق وغيره أنه كان فيه : أما بعد : فإني آمنت بك ، وبكتابك الذي أنزل عليك ، وأنا على(8/38)
" صفحة رقم 39 "
دينك وسنتك ، وآمنت بربك ورب كل شيء ، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام ، فإن أدركتك فيها ونعمت ، وإن لم أدركك ، فاشفع لي ، ولا تنسني يوم القيامة ، فإني من أمتك الأولين ، وتابعتك قبل مجيئك ، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام . ثم ختم الكتاب ونقش عليه : لله الأمر من قبل ومن بعد . وكتب عنوانه : إلى محمد بن عبد الله ، نبي الله ورسوله ، خاتم النبيين ، ورسول رب العالمين ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، من تبع الأول . ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب ، خالد بن زيد ، فلم يزل عنده حتى بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر ، حتى أدّوه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وعن ابن عباس : كان تبع نبياً ، وعنه لما أقبل تبع من الشرق ، بعد أن حير الحيرة وسمرقند ، قصد المدينة ، وكان قد خلف بها حين سافر ، فقتل غيلة ، فأجمع على خرابها واستئصال أهلها . فجمعوا له الأنصار ، وخرجوا لقتاله ، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل . فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام ، إذ جاءه كعب وأسد ، ابنا عم من قريظة جيران ، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد ، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد ، ومولده بمكة ، فثناه قولهما عما كان يريد . ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما وأكرمهما . وانصرفوا عن المدينة ، ومعهم نفر من اليهود ، فقال له في الطريق نفر من هذيل : يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة ، وأرادت هذيل هلاكه ، لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك . فذكر ذلك للحبرين ، فقالوا : ما نعلم الله بيتاً في الأرض غير هذا ، فاتخذه مسجداً ، وانسك عنده ، واحلق رأسك ، وما أراد القوم إلا هلاكك . فأكرمه وكساه ، وهو أول من كسا البيت ؛ وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم ، وسمر أعينهم وصلبهم .
وقال قوم : ليس المراد بتبع رجلاً واحداً ، إنما المراد ملوك اليمن ، وكانوا يسمون التتابعة . والذي يظهر أنه أراد واحداً من هؤلاء ، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به . وفي الحديث : ( لا تسبوا تبعاً فإنه كان مؤمناً ) ، فهذا يدل على أنه واحد بعينه . قال الجوهري : التتابعة ملوك اليمن ، والتبع : الظل ، والتبع : ضرب من الطير . وقال أبو القاسم السهيلي : تبع لكل ملك اليمن ، والشحر حضرموت ، وملك اليمن وحده لا يسمى تبعاً ، قاله المسعودي . والخيرية الواقعة فيها التفاضل ، وكلا الصنفين لا خير فهم ، هي بالنسبة للقوة والمنعة ، كما قال : ) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( ؟ بعد ذكر آل فرعون في تفسير ابن عباس : أهم أشد أم قوم تبع ؟ وإضافة قوم إلى تبع دليل على أنه لم يكن مذهبهم . ) أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( : إخبار عما فعل تعالى بهم ، وتنبيه على أن علة الإهلاك هي الإجرام ، وفي ذلك وعيد لقريش ، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسل لإجرامهم ،
الدخان : ( 38 - 41 ) وما خلقنا السماوات . . . . .
ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث ، وهو خلق العالم بالحق . وقرأ الجمهور : ) وَمَا بَيْنَهُمَا ( من الجنسين ، وعبيد بن عميس : وما بينهن لاعبين . قال مقاتل : عابثين .
( مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( : أي بالعدل ، يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب . ) وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( أنه تعالى خلق ذلك ، فهم لا يخافون عقاباً ولا يرجون ثواباً . وقرىء : ميقاتهم ، بالنصب ، على أنه اسم إن ، والخبر يوم الفصل ، أي : إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم ، ( يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ( يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئاً من إغناء ، أي قليلاً منه : ) وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( : جمع ، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم ، فعاد على المعنى ، لا على اللفظ .
الدخان : ( 42 ) إلا من رحم . . . . .
( إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ ( ، قال الكسائي : من رحم : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين . قيل : ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً ، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون بدلاً من مولى المرفوع ، ويكون يغني بمعنى ينفع . وقال الزمخشري : ) مَن رَّحِمَ اللَّهُ ( ، في محل الرفع على البدل من الواو في ) يُنصَرُونَ ( ، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله(8/39)
" صفحة رقم 40 "
وقاله الحوفي قبله . ) إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( : لا ينصر من عصاه ، الرحيم لمن أطاعه ومن عفا عنه .
الدخان : ( 43 - 46 ) إن شجرة الزقوم
) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ( : قرىء بكسر الشين ، وتقدم الكلام فيها في سورة الصافات . ) طَعَامُ الاْثِيمِ ( : صفة مبالغة ، وهو الكثير الآثام ، ويقال له : أثوم ، صفة مبالغة أيضاً ، وفسر بالمشرك . وقال يحيى بن سلام : المكتسب للإثم . وعن ابن زيدان : الأثيم هنا هو أبو جهل ، وقيل : الوليد . ) كَالْمُهْلِ ( : هو دردي الزيت ، أو مذاب الفضة ، أو مذاب النحاس ، أو عكر القطران ، أو الصديد ؛ أولها لابن عمر وابن عباس ، وآخرها لابن عباس . وقال الحسن : كالمهل ، بفتح الميم : لغة فيه . وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : المهل : ما أذيب من ذهب ، أو فضة ، أو حديد ، أو رصاص . وقرأ مجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والابنان ، وحفص : يغلي ، بالياء ، أي الطعام . وعمرو بن ميمون ، وأبو رزين ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، وطلحة ، والحسن : في رواية ، وباقي السبعة : تغلي بالتاء ، أي الشجرة . ) كَغَلْىِ ( : وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه .
الدخان : ( 47 - 49 ) خذوه فاعتلوه إلى . . . . .
( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ( ، يقال للزبانية : خذوه فاعتلوه ، أي سوقوه بعنف وجذب . وقال الأعمش : معنى اتعلوه : اقصفوه كما يقصف الحطب إلى سواء الجحيم . قال ابن عباس : وسطها . وقال الحسن : معظمها . وقرأ الجمهور : فاعتلوه ، بكسر التاء ، وزيد بن علي ، والابنان ، ونافع : بضمها ؛ والخلاف عن الحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبي عمرو .
( ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ( : وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الحميم ، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم ، فتارة اعتبرت الحقيقة ، وتارة اعتبرت الاستعارة ، لأنه أذم من الحميم ، فقد صب ما تولد عنه من الآلام والعذاب ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ، ولفظة العذاب أهول وأهيب . ) ذُقْ ( : أي العذاب ، ( إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( ، وهذا على سبيل التهكم والهزء لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه . وعن قتادة ، أنه لما نزلت : ) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( ، قال أبو جهل : أتهددني يا محمد ؟ وإن ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، فنزلت هذه الآية ، وفي آخرها : ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( ، أي على قولك ، وهذا كما قال جرير : ألم تكن في رسوم قد رسمت بها
من كان موعظة يا زهرة اليمن
يقولها لشاعر سمى نفسه به في قوله : أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها
إني الأعز وإني زهرة اليمن
فجاء به جرير على جهة الهزء . وقرىء : إنك ، بكسر الهمزة .
الدخان : ( 50 ) إن هذا ما . . . . .
وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر ، والكسائي بفتحها . ) إِنَّ هَذَا ( : أي الأمر ، أو العذاب ، ( مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ( : أي تشكون .
الدخان : ( 51 - 53 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار أعقبه بحال المؤمنين فقال : ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ ). وقرأ عبد الله بن عمر ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، ونافع ، وابن عامر : في مقام ، بضم الميم ؛ وأبو رجاء ، وعيسى ، ويحيى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بفتحها ؛ ووصف المقام بالأمين ، أي يؤمن فيه من الغير ، فكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون فيه ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : الأمين ، من قولك : أمن الرجل أمانة ، فهو أمين ، وهو ضد الخائن ؛ فوصف به المكان استعارة ، لأن المكان المخيف كان يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره . وتقدم شرح السندس والإستبرق . وقرأ ابن محيصن : ) وَإِسْتَبْرَقٍ ( ، جعله فعلاً ماضياً . ) مُّتَقَابِلِينَ ( : وصف لمجالس أهل الجنة ، لا يستدبر بعضهم بعضاً في المجالس .
الدخان : ( 54 - 56 ) كذلك وزوجناهم بحور . . . . .
( كَذالِكَ ( : أي الأمر كذلك . وقرأ الجمهور : ) بِحُورٍ ( ، وعكرمة : بغير تنوين ، لأن العين تقسمن إلى حور وغير حور ، فهؤلاء من حور العين ، لا من شهلن مثلاً . ) فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا ( : أي الخدم(8/40)
" صفحة رقم 41 "
والمتصرفين عليهم ، ( بِكلّ فَاكِهَةٍ ( أرادوا إحضارها لديهم ، ( ءامِنِينَ ( من الأمراض والتخم .
( لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ). وقرأ عبيد بن عمير : لا يذاقون ، مبنياً للمفعول . ) إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى ( : هذا استثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا ، وذلك تنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي ، وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : ) إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى ( موضع ذلك ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فإنهم يذوقونها . وقال ابن عطية : قدر قوم إلاّ بسوى ، وضعف ذلك الطبري وقدرها ببعد ، وليس تضعيفه بصحيح ، بل يصح المعنى بسوى ويتسق . وأما معنى الآية ، فتبين أنه نفى عنهم ذوق الموت ، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا . وقرأ أبو حيوة : ) وَوَقَاهُمْ ( ، مشدداً بالقاف ،
الدخان : ( 58 - 59 ) فإنما يسرناه بلسانك . . . . .
والضمير في ) يَسَّرْنَاهُ ( عائد على القرآن ؛ و ) بِلَسَانِكَ ( : بلغتك ، وهي لغة لعرب . ) فَارْتَقِبْ ( النصر الذي وعدناك ) إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ( فيما يظنون الدوائر عليك وفيها وعد له عليه السلام ووعيد لهم ومتاركة منسوخة بآيات السيف .(8/41)
" صفحة رقم 42 "
45
( سورة الجاثية )
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لاّيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَءاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِأابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الاٌّ رْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ ( ) ) 2
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ءايَاتٌ لّقَوْمٍ ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بلا خلاف ، وذكر الماوردي : ) إِلاَّ قَلِيلٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ ( الآية ، فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب . قال ابن عباس ، وقتادة ، وقال النحاس ، والمهدوي ، عن ابن عباس : نزلت في عمر : شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فنزلت . ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح . قال : ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ ( ، وقال : ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( ،
الجاثية : ( 2 ) تنزيل الكتاب من . . . . .
وتقدم الكلام على ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( ، أول الزمر . وقال أبو عبد الله(8/42)
" صفحة رقم 43 "
الرازي : وقوله : ) العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ، يجوز جعله صفة لله ، فيكون ذلك حقيقة ؛ ) وَأَنْ جَعَلْنَاهُ ( صفة للكتاب ، كان ذلك مجازاً ؛ والحقيقة أولى من المجاز ، مع أن زيادة القرب توجب الرجحان . انتهى . وهذا الذي ردّد في قوله : ) وَأَنْ جَعَلْنَاهُ ( صفة للكتاب لا يجوز . لو كان صفة للكتاب لوليه ، فكان يكون التركيب : تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله ، لأن من الله ، إما أن يكون متعلقاً بتنزيل ، وتنزيل خبر لحم ، أو لمبتدأ محذوف ، فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف ، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل ؛ أو في موضع الخبر ، وتنزيل مبتدأ ، فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضاً ، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل ، والتركيب الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها .
الجاثية : ( 3 - 4 ) إن في السماوات . . . . .
( إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، احتمل أن يريد : في خلق السموات ، كقوله : ) وَفِى خَلْقِكُمْ ( ، والظاهر أنه لا يراد التخصيص بالخلق ، بل في السموات والأرض على الإطلاق والعموم ، أي في أي شيء نظرت منهما من خلق وغيره ، من تسخير وتنوير وغيرهما ، ( لاَيَاتٍ ( : لم يأت بالآيات مفصلة ، بل أتى بها مجملة ، إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع . وجعلها ) لِلْمُؤْمِنِينَ ( ، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق . ) وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ( ، أي في غير جنسكم ، وهو معطوف على : ) وَفِى خَلْقِكُمْ ). ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، أجاز في ) وَمَا يَبُثُّ ( أن يكون معطوفاً على الضمير ) فِى خَلَقَكُمْ ( ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، والأخفش ؛ وهو الصحيح ، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين . وقال الزمخشري : يقبح العطف عليه ، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، قال : وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد . انتهى . وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام ، وقال : ) لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( : وهم الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين .
الجاثية : ( 5 ) واختلاف الليل والنهار . . . . .
( وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( : تقدم الكلام على نظيره في سورة البقرة . وقرأ الجمهور : آيات ، جمعاً بالرفع فيهما ؛ والأعمش ، والجحدري ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب : بالنصب فيهما ؛ وزيد بن علي ؛ برفعهما على التوحيد . وقرأ أبي ، وعبد الله : لآيات فيهما ، كالأولى . فأما : ) لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ ( رفعاً ونصباً ، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش ، ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو ، وهي مسألة فيها أربعة مذاهب ، ذكرناها في ( كتاب التذييل والتكميل لشرح التسهيل ) . فأما ما يخص هذه الآية ، فمن نصب آيات بالواو عطفت ، واختلاف على المجرور بفي قبله وهو : ) وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ ( ، وعطف آيات على آيات ، ومن رفع فكذلك ، والعاملان أولاهما إن وفي ، وثانيهما الابتداء وفي . وقال الزمخشري : أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر ، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات ، وإذا رفعت والعاملان الابتداء ، وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح ، لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل ؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش ، أضمر حرف الجر فقدر . وفي اختلاف ، فالعمل للحرف مضمراً ، ونابت الواو مناب عامل واحد ؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله : وفي اختلاف ، مصرحاً وحسن حذف في تقدمها في قوله : ) وَفِى خَلْقِكُمْ ( ؛ وخرج أيضاً النصب في آيات على التوكيد لآيات المتقدمة ، ولإضمار حرف في وقرىء واختلاف بالرفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضاً . وقرأ : واختلاف الليل والنهار آية بالرفع في اختلاف ، وفي آية موحدة ؛ وكذلك ) وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ). وقرأ زيد بن علي ، وطلحة ، وعيسى : ) وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ).
وقال الزمخشري : والمعنى أن المنصفين من العباد ، إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بد لها من صانع ، فآمنوا بالله وأقروا . فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس . فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت ، كاختلاف الليل والنهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم . وقال أبو عبد الله الرازي : ذكر في البقرة ثمانية دلائل ، وهنا ستة ؛ لم يذكر الفلك والسحاب ، والسبب في ذلك أن مدار الحركة للفلك والسحاب على الرياح المختلفة ، فذكر الرياح ؛ وهناك جعل مقطع الثمانية واحداً ، وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة : يؤمنون ، يوقنون ، يعقلون .(8/43)
" صفحة رقم 44 "
قال : وأظن سبب هذا الترتيب : ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ، فافهموا هذه الدلائل ؛ فإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين ، فلا أقل أن تكونوا من العاقلين ، فاجتهدوا . وقال هناك : ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ( ، وهنا : ) فِي السَّمَاوَاتِ ( ، فدل على أن الخلق غير المخلوق ، وهو الصحيح عند أصحابنا ، ولا تفارق بين أن يقال : في السموات ، وفي خلق السموات . انتهى ، وفيه تلخيص وتقدم وتأخير .
الجاثية : ( 6 ) تلك آيات الله . . . . .
( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ( : أي تلك الآيات ، وهي الدلائل المذكورة ؛ ) نَتْلُوهَا ( : أي نسردها عليك ملتبسة بالحق ، ونتلوها في موضع الحال ، أي متلوة . قال الزمخشري : والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه ، وهذا بعلى شيخاً . انتهى ، وليس نحوه ، لأن في وهذا حرف تنبيه . وقيل : العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه ، أي تنبه . وأما تلك ، فليس فيها حرف تنبيه عاملاً بما فيه من معنى التنبيه ، لأن الحرف قد يعمل في الحال : تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه . وقيل : العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى ، أي انظر إليه في حال شيخه ، فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه ، إن كان هناك . وقال ابن عطية : نتلوها ، فيه حذف مضاف ، أي نتلو شأنها وشرح العبرة بها . ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذه المعاني ، فلا يكون في نتلوها حذف مضاف . انتهى . ونتلوها معناه : يأمر الملك أن نتلوها . وقرىء : يتلوها ، بياء الغيبة ، عائداً على الله ؛ وبالحق : بالصدق ، لأن صحتها معلومة بالدلائل العقلية .
( فَبِأَىّ حَدِيثٍ ( الآية ، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد ؛ ) بَعْدِ اللَّهِ ( : أي بعد حديث الله ، وهو كتابه وكلامه ، كقوله : ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ( ؛ وقال : فبأي حديث بعده يؤمنون ( ؛ أي بعد حديث الله وكلامه . وقال الضحاك : بعد توحيد الله . وقال الزمخشري : بعد الله وآياته ، أي بعد آيات الله ، كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة ؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل ، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في : أعجبني زيد كرمه ، بغير واو على البدل ؛ وهذا قلب لحقائق النحو . وإنما المعنى في : أعجبني زيد وكرمه ، أن ذات زيد أعجبته ، وأعجبه كرمه ؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد ، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحرميان ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية : يؤمنون ، بالياء من تحت ؛ والأعمش ، وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وطلحة : توقنون بالتاء من فوق ، والقاف من الإيقان .
( ( ؛ أي بعد حديث الله وكلامه . وقال الضحاك : بعد توحيد الله . وقال الزمخشري : بعد الله وآياته ، أي بعد آيات الله ، كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة ؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل ، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في : أعجبني زيد كرمه ، بغير واو على البدل ؛ وهذا قلب لحقائق النحو . وإنما المعنى في : أعجبني زيد وكرمه ، أن ذات زيد أعجبته ، وأعجبه كرمه ؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد ، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحرميان ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية : يؤمنون ، بالياء من تحت ؛ والأعمش ، وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وطلحة : توقنون بالتاء من فوق ، والقاف من الإيقان .
الجاثية : ( 7 - 11 ) ويل لكل أفاك . . . . .
( وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ، قيل : نزلت في أبي جهل ؛ وقيل : في النضير بن الحارث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن . والآية عامة فيمن كان مضاراً لدين الله ؛ وأفاك أثيم ، صفتا مبالغة ؛ وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها . وقرأ الجمهور : علم ؛ وقتادة ومطر الوراق : بضم العين وشد اللام ؛ مبنياً للمفعول ، أي عرف . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : ثم ، في قوله : ) ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً ( ؟ قلت : كمعناه في قول القائل :
يرى غمرات الموت ثم يزورها
وذلك بأن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائبها بنفسه ويطلب الفرار منها ، وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها ، فأمر مستبعد . فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدم عليها ، بعدما رآها وعاينها ، شيء يستبعد في العادة والطباع ، وكذلك آيات الله الواضحة القاطعة بالحق ، من تليت عليه وسمعها ، كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها . ) اتَّخَذَهَا هُزُواً ( ، ولم يقل : اتخذه ، إشعاراً بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه . وقال الزمخشري : ويحتمل ) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءايَاتِنَا شَيْئاً ( ، يمكن أن يتشبث به المعاند ويجعله محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة ، افترضه واتخذ آيات الله هزواً(8/44)
" صفحة رقم 45 "
وذلك نحو افترص ابن الزبعري قوله عز وجل : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( ، ومغالطته رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقوله : خصمتك ؛ ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء ، لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية : نفسي بشيء من الدنيا معلقة
الله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة . انتهى . وعتبة جارية كان أبو العتاهية يهواها وينتسب بها . والإشارة بأولئك إلى كل أفاك ، لشموله الأفاكين . حمل أولاً على لفظ كل ، وأفرد على المعنى فجمع ، كقوله : ) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ). ) مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ( : أي من قدامهم ، والوراء : ما توارى من خلف وأمام . ) وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً ( من الأموال في متاجرهم ، ( وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ( من الأوثان . ) هَاذَا ( ، أي القرآن ، ( هُدًى ( ، أي بالغ في الهداية ، كقولك : هذا رجل ، أي كامل في الرجولية . قرأ طلحة ، وابن محيصن ، وأهل مكة ، وابن كثير ، وحفص : ) أَلِيمٌ ( ، بالرفع نعتاً لعذاب ؛ والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالجر نعتاً لرجز .
الجاثية : ( 12 - 13 ) الله الذي سخر . . . . .
( اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ ( الآية : آية اعتبار في تسخير هذا المخلوق العظيم ، والسفن الجارية فيه بهذا المخلوق الحقير ، وهو الإنسان . ) بِأَمْرِهِ ( : أي بقدرته . أناب الأمر مناب القدرة ، كأنه يأمر السفن أن تجري . ) مِن فَضْلِهِ ( بالتجارة وبالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، واستخراج اللحم الطري . ) مَا فِي السَّمَاوَاتِ ( من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء ، والأملاك الموكلة بهذا كله . ) وَمَا فِى الاْرْضِ ( من البهائم والمياه والجبال والنبات . وقرأ الجمهور : ) مِنْهُ ( ، وابن عباس : بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على المصدر . قال أبو حاتم : نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم . وحكاها أبو الفتح ، عن ابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، والجحدري ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وحكاها أيضاً عن هؤلاء الأربعة صاحب اللوامح ، وحكاها ابن خالويه ، عن ابن عباس ، وعبيد بن عمير . وقرأ سلمة بن محارب كذلك ، إلا أنه ضم التاء ، أي هو منه ، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون ، وهاء الكناية عائد على الله ، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك ، أو هو منه . والمعنى ، على قراءة الجمهور : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة عنده ، إذ هو موجدها بقدرته وحكمته ، ثم سخرها لخلقه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي جميعاً منه ، وأن يكون : وما في الأرض ، مبتدأ ، ومنه خبره . انتهى . ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش ، لأن جميعاً إذ ذاك حال ، والعامل فيها معنوي ، وهو الجار والمجرور ؛ فهو نظير : زيد قائماً في الدار ، ولا يجوز على مذهب الجمهور .
الجاثية : ( 14 - 17 ) قل للذين آمنوا . . . . .
( قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ ( : نزلت في صدر الإسلام . أمر المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار ، وأن لا يعاقبوهم بذنب ، بل يصبرون لهم ، قاله السدّي ومحمد بن كعب ، قيل : وهي محكمة ، والأكثر على أنها منسوخة بآية السيف . يغفروا ، في جزمه أوجه للنحاة ، تقدّمت في : ) قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ( في سورة إبراهيم . ) لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( : أي وقائعه بأعدائه ونقمته منهم . وقال مجاهد : وقيل أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك . وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز . قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نسخ حكمها . وتقدم قول ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب ؛ قيل : سبه رجل من الكفار ، فهم أن يبطش به ، وقرأ الجمهور : ليجزي الله ، وزيد بن عليّ ، وأبو عبد الرحمن ، والأعمش ، وأبو علية ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالنون ؛ وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول . وقد روي ذلك عن عاصم ، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول ، على أن يقام المجرور ، وهو بما ، وينصب المفعول به الصريح ، وهو قوماً ؛ ونظيره : ضرب بسوط زيداً ؛ ولا يجير ذلك الجمهور . وخرجت هذه القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر ، أي وليجزي الجزاء قوماً . وهذا أيضاً لا يجوز عند(8/45)
" صفحة رقم 46 "
الجمهور ، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً ، فيكون جملتان ، إحداهما : ليجزي الجزاء قوماً ، والأخرى : يجزيه قوماً ؛ وقوماً هنا يعني به الغافرين ، ونكره على معنى التعظيم لشأنهم ، كأنه قيل : قوماً ، أي قوم من شأنهم التجاوز عن السيئات والصفح عن المؤذيات وتحمل الوحشة . وقيل : هم الذين لا يرجون أيام الله ، أي بما كانوا يكسبون من الإثم ، كأنه قيل : لم تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن .
( مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً ( كهؤلاء الغافرين ، ( وَمَنْ أَسَاء ( كهؤلاء الكفار ، وأتى باللام في فلنفسه ، لأن المحاب والحظوظ تستعمل فيها على الدالة على العلو والقهر ، كما تقول : الأمور لزيد متأتية وعلى عمرو مستصعبة . والكتاب : التوراة ، والحكم : القضاء ، وفصل الأمور لأن الملك كان فيهم . قيل : والحكم : الفقه . ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي ، كما اتسع على لسان موسى من الطيبات المستلذات الحلال ، وبذلك تتم النعمة ، وذلك المن والسلوى وطيبات الشام ، إذ هي الأرض المباركة . بينات : أي دلائل واضحة من الأمر ، أي من الوحي الذي فصلت به الأمور . وعن ابن عباس : من الأمر ، أي من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب . وقيل معجزات موسى . ) فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ( : تقدم تفسيره في الشورى .
( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الاْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن ).
الجاثية : ( 18 - 22 ) ثم جعلناك على . . . . .
لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال : ) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الاْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ). قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض . وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق . وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء . وقال ابن زيد : الدّين ، لأنه طريق إلى النجاة . والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر : وفي الشرائع من جيلان مقتص
رث الثياب خفي الشخص منسرب(8/46)
" صفحة رقم 47 "
فشريعة الدّين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ؛ أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمراً . ) أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ، قيل : جهال قريظة والنضير . وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : رجع إلى دين آبائك . ) هَاذَا بَصَائِرُ ( : أي هذا القرآن ؛ جعل ما نافية من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحاً وحياة . وقرىء : هذى ، أي هذه الآيات . ) أَمْ حَسِبَ ( : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام إنكار . وقال الكلبي : نزلت في عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة . قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقاً ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة ؛ كما هو أفضل في الدنيا . واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر ؛ ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى . وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضاً ؛ وأعربوا سواء : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ . والجملة خبر مستأنف ؛ واحتمل الضمير في ) مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ( أن يعود على ) الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ ( ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء . قال أبو الدرداء : يبعث الناس على ما ماتوا عليه . وقال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً .
وقال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية ؛ ويظهر لي أن قوله : ) سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ( داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضاً أجود . انتهى . ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة . وقال الزمخشري : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً ؛ فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً ؟ كما تقول : ظننت زيد أبوه منطلق . انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل . وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه ( البسيط في النحو ) : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلاً ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلاً ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة ؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي . انتهى .
وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد ، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز ؛ لأنها بمعنى التصيير . لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني . وقرأ زيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستوياً ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو(8/47)
" صفحة رقم 48 "
والعدم . وجوز في انتصاب سواء وجهين : أحدهما : أن يكون منصوباً على الحال ، وكالذين المفعول الثاني ، والعكس . وقرأ الأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً ، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان ، والعامل ، إما أن نجعلهم ، وإما سواء ، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم ، والمفعول الثاني سواء ، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء . وقال الزمخشري : ومن قرأ ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله : وخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر ؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط .
وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر . فإنه لم يكن معرباً ، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف ، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالرفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، والأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب ؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا . ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين . وعن تميم الداري ، رضي الله عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : ) سَاء مَا يَحْكُمُونَ ). وعن الربيع بن خيثم ، أنه كان يردّدها ليلة أجمع ، وكذلك الفضيل بن عياض ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ وقال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون .
( سَاء مَا يَحْكُمُونَ ( : هو كقوله : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ ( ، وتقدم إعرابه في البقرة . وقال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم . ) بِالْحَقّ ( : بأن خلقها حق ، واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع . ) ولتجزي ( : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل ، فكان الخلق معللاً بالجزاء . وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، ( بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ ). وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازي كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر . انتهى .
الجاثية : ( 23 ) أفرأيت من اتخذ . . . . .
( أَفَرَأَيْتَ ( الآية ، قال مقاتل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي ، وأفرأيت : هو بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو : ) مَنِ اتَّخَذَ ( ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى ، يدل عليه قوله بعد : ) فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ( ، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه . ) مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( : أي هو مطواع لهوى نفسه ، يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده ، كما يعبد الرجل إلهه . قال ابن جبير ، إشارة إلى الأصنام : إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، فلهذا يقال : الهوى إله معبود . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر : آلهة ، بتاء التأنيث ، بدل من هاء الضمير . وعن الأعرج أنه قرأ : آلهة على الجمع . قال ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده ، ثم يرى غيره فيهواه ، فيلقى الأول ، فكذلك قوله : ) إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الآية . وإن نزلت في هوى الكفر ، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة . قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلاّ ذمه . وقال وهب : إذا شككت في خبر أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وفي الحديث : ( والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) . ومن حكمه الشعر قول عنترة ، وهو جاهلي :(8/48)
" صفحة رقم 49 "
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد
لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد ، رحمه الله تعالى : فخالف هواها واعصها إن من يطع
هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوج تردهو
ترم به في مصرع أي مصرع
) وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ( : أي من الله تعالى سابق ، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ، ويعرض عنه عناداً ، فيكون كقوله : ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ). وقال الزمخشري : صرفه عن الهداية واللطف ، وخذ له عن علم ، عالماً بأن ذلك لا يجدي عليه ، وأنه ممن لا لطف به ، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقرأ الجمهور : ) غِشَاوَةً ( : بكسر الغين ؛ وعبد الله ، والأعمش : بفتحها ، وهي لغة ربيعة . والحسن ، وعكرمة ، وعبد الله أيضاً : بضمها ، وهي لغة عكلية . والأعمش ، وطلحة ، وأبو حنيفة ، ومسعود بن صالح ، وحمزة ، والكسائي ، غشوة ، بفتح الغين وسكون الشين . وابن مصرف ، والأعمش أيضاً : كذلك ، إلا أنهما كسرا العين ، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة . وقرأ الجمهور : ) تَذَكَّرُونَ ( ، بشد الذال ؛ والجحدري يخففها ، والأعمش : بتاءين .
الجاثية : ( 24 - 26 ) وقالوا ما هي . . . . .
( وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( : هي مقالة بعض قريش إنكاراً للبعث . والظاهر أن قولهم : ) نَمُوتُ وَنَحْيَا ( حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير ، أي تموت طائفة وتحيا طائفة . وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت . وقيل : نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا ، ونحيا : أي في وقت وجودنا ، وهذا قريب من الأول قبله ، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين . وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء . وقرأ زيد بن علي : ونحيا ، بضم النون . ) وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( : أي طول الزمان ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين بالله ، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند الله ، وإن كانوا لا يعرفون الله ولا يقرون به ، وهم الدهرية ، فنسبوا ذلك إلى الدهر . وقرأ عبد الله : إلا دهر ، وتأويله : إلا دهر يمر . كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر ، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر ، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين . قال ابن دريد في مقصورته : يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد
فإن اروادك والعتبي سواء
و ) مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ ( ، ليست حجة حقيقة ، أي حجتهم عندهم ، أو لأنهم أدلوا بها ، كما يدلي المحتج بحجته ، وساقوها مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم ؛ أو لأنه في نحو قولهم :
تحية بينهم ضرب وجيع
أي : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة البتة . وقرأ الجمهور : حجتهم بالنصب ؛ والحسن ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وابن عامر ، فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم ، فيما روى هارون وحسين ، عن أبي بكر عنه : حجتهم ، أي ما تكون حجتهم ، لأن إذا للاستقبال ، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما ، لم تدخل الفاء ، بخلاف أدوات الشرط ، فلا بد من الفاء . تقول : إن تزرنا فما جفوتنا ، أي فما تجفونا . وفي كون الجواب منفياً بما ، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها ، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها .
( ائْتُواْ ( : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين ، إذ هم قائلون بمقالته ، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث ، وهم الأنبياء ، وغلب الخطاب على الغيبة . وقال ابن(8/49)
" صفحة رقم 50 "
عطية : إئتوا ، من حيث المخاطبة له ؛ والمراد : هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم ؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم . انتهى . ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر ، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم ، ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي ، وهو المميت لا الدهر ، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث ، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا ، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم .
( وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ).
الجاثية : ( 27 - 29 ) ولله ملك السماوات . . . . .
العامل في ) وَيَوْمَ تَقُومُ ( : يخسر ، و ) يَوْمَئِذٍ ( : بدل من يوم ، قاله الزمخشري ، وحكاه ابن عطية عن فرقة . والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة ، ولم تتقدم جملة إلا قوله : ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ( ، فيصير التقدير : ويوم تقوم يوم إذ تقوم إذ تقوم الساعة يخسر ؛ ولا مزيد فائدة في قوله : يوم إذ تقوم الساعة ، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة . فإن كان بدلاً توكيدياً ، وهو قليل ، جاز ذلك ، وإلا فلا يجوز أن يكون بدلاً . وقالت فرقة العامل : في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك ، قالوا : وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض ، لأن ذلك يتبدل ، فكأنه قال : ) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، والملك يوم القيامة ، فحذفه لدلالة ما قبله عليه ؛ ويومئذ منصوب بيخسر ، وهي جملة فيها استئناف ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض . و ) الْمُبْطِلُونَ ( : الداخلون في الباطل . ) جَاثِيَةً ( : باركة على الركب مستوفرة ، وهي هيئة المذنب الخائف . وقرىء : جاذية ، بالذال ؛ والجذو أشد استيفازاً من الجثو ، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه . وعن ابن عباس : جاثية : مجتمعة . وعن قتادة : جماعات ، من الجثوة : وهي الجماعة ، يجمع على جثى ، قال الشاعر : ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
وعن مورج السدوسي : جاثية : خاضعة ، بلغة قريش . وعن عكرمة : جاثية : متميزة . وقرأ يعقوب : ) كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى ( ، بنصب كل أمة على البدل ، بدل النكرة الموصوفة من النكرة ؛ والظاهر عموم كل أمة من مؤمن وكافر . قال الضحاك : وذلك عند الحساب . وقال يحيى بن سلام : ذلك خاص بالكفار ، تدعى إلى كتابها المنزل عليها ، فتحاكم إليه ، هل وافقته أو خالفته ؟ أو الذي كتبته الحفظة ، وهو صحائف أعمالها ، أو اللوح المحفوظ ، أو المعنى إلى ما يسبق لها فيه ، أي إلى حسابها ،(8/50)
" صفحة رقم 51 "
أقوال . وأفراد كتابها اكتفاء باسم الجنس لقوله : ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ ( ، ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ( ، ( هَاذَا كِتَابُنَا ( ، هو الذي دعيت إليه كل أمة ، وصحت إضافته إليه تعالى لأنه مالكه والآمر بكتبه وإليهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه . والإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فلذلك صحت إضافته إليهم وإليه تعالى .
( يَنطِقُ عَلَيْكُم ( : يشهد بالحق من غير زيادة ولا نقصان . ) إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ ( : أي الملائكة ، أي نجعلها تنسخ ، أي تكتب . وحقيقة النسخ نقل خط من أصل ينظم فيه ، فأعمال العباد كأنها الأصل . وقال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم . وعن ابن عباس : يجعل الله الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ، ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك ، فبعيد أيضاً ، فذلك هو الاستنساخ . وكان يقول ابن عباس : ألستم عرباً ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ؟
الجاثية : ( 30 - 31 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
ثم بين حال المؤمن بأنه يدخله في رحمته ، وهو الثواب الذي أعد له ، وأن ذلك هو الظفر بالبغية ؛ وبين الكافر بأنه يوبخ ويقال له : ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى ( عن اتباعها والإيمان بها وكنتم أصحاب جرائم ؟ والفاء في : أفلم ينوي بها التقديم ؛ وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدراً الكلام ، والتقدير : فيقال له ألم . وقال الزمخشري : والمعنى ألم يأتكم رسلي ؟ فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه . انتهى . وقد تقدم الكلام معه في زعمه أن بين الفاء والواو ، إذا تقدمها همزة الاستفهام معطوفاً عليه محذوفاً ، ورددنا عليه ذلك .
الجاثية : ( 32 ) وإذا قيل إن . . . . .
وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد : ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ ( ، بفتح الهمزة ، وذلك على لغة سليم ؛ والجمهور : إن بكسرها . وقرأ الجمهور : ) وَالسَّاعَةُ ( بالرفع على الابتداء ، ومن زعم أن لاسم إن موضعاً جوز العطف عليه هنا ، أو زعم أن لأن واسمها موضعاً جوز العطف عليه ، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا . قال أبو علي : ذكره في الحجة ، وتبعه الزمخشري فقال : وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها ، والصحيح المنع ؛ وحمزة : بالنصب عطفاً على الله ، وهي مروية عن الأعمش ، وأبي عمرو ، وعيسى ، وأبي حيوة ، والعبسي ، والمفضل . ) إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ( ، تقول : ضربت ضرباً ، فإن نفيت ، لم تدخل إلا ، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد ، فلا تقول : ما ضربت إلا ضرباً ، ولا ما قمت إلا قياماً . فأما الآية ، فتأول على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصاً لا مؤكداً ، وتقديره : إلا ظناً ضعيفاً ، أو على تضمين نظن معنى نعتقد ، ويكون ظناً مفعولاً به . وقد تأول ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها ، وقال : التقدير إن نحن إلا نظن ظناً . وحكى هذا عن المبرد ، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب :
ليس الطيب إلا المسك
قال المبرد : ليس إلا الطيب المسك . انتهى . واحتاج إلى هذا التقدير كون المسك مرفوعاً بعد إلا وأنت إذا قلت : ما كان زيد إلا فاضلاً نصبت ، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس ، احتاج أن يزحزح إلا عن موضعها ، ويجعل في ليس ضمير الشأن ، ويرفع إلا الطيب المسك على الابتداء والخبر ، فيصير كالملفوظ به ، في نحو : ما كان إلا زيد قائم . ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما ، فلم يعملوها إلا باقية مكانها ، وليس غير عامله . وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في نحو ليس الطيب إلا المسك ، ولا تميمي إلا وهو يرفع . في ذلك حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ، ذكرناها فيما كتبناه من علم النحو . ونظير ) إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ( قول الأعشى :
وجدّ به الشيب أثقاله
وما اغتره الشيب إلا اغتراراً
أي اغتراراً بيناً . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى ) إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ( ؟ قلت ؛ أصله نظن ظناً ، ومعناه إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفى ما سوى الظن توكيداً بقوله : ) وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ). انتهى . وهذا الكلام ممن لا(8/51)
" صفحة رقم 52 "
شعور له بالقاعدة النحوية ، من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره ، إلا المصدر المؤكد فإنه لا يكون فيه . وقدّره بعضهم : إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً ، قال : وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام : ما ضربت إلا ضرباً ، فاهتدى إلى هذه القاعدة النحوية ، وأخطأ في التخريج ، وهو محكي عن المبرد ، ولعله لا يصح . وقولهم : إن نظن ، دليل على أن الكفار قد أخبروا بأنهم ظنوا البعث واقعاً ، ودل قولهم قبل قوله : ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( ، على أنهم منكرون البعث ، فهم ، والله أعلم ، فرقتان ، أو اضطربوا ، فتارة أنكروا ، وتارة ظنوا ، وقالوا : ) إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ( على سبيل الهزء .
الجاثية : ( 33 - 36 ) وبدا لهم سيئات . . . . .
( وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ( : أي قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات ؛ وأطلق على العقوبة سيئة ، كما قال : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ). ) وَحَاقَ بِهِم ( أي أحاط ، ولا يستعمل حاق إلا في المكروه . ) نَنسَاكُمْ ( : نترككم في العذاب ، أو نجعلكم كالشيء المنسي الملقى غير المبالى بهم . ) كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ ( : أي لقاء جزاء الله على أعمالكم ، ولم تخطروه على بال بعد ما ذكرتم به وتقدم إليكم بوقوعه . وأضاف اللقاء لليوم توسعاً كقوله : ) بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ). وقرأ الجمهور : ) لاَ يَخْرُجُونَ ( ، مبنياً للمفعول ؛ والحسن ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : مبنياً للفاعل . ) مِنْهَا ( : أي من النار . ) وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( أي بطلب مراجعة إلى عمل صالح . وتقدم الكلام في الاستعتاب . وقرأ الجمهور : ) رَبّ ( ، بالجر في الثلاثة على الصفة ، وابن محيصن : بالرفع فيهما على إضمار هو .(8/52)
" صفحة رقم 53 "
46
( سورة الأحقاف )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاٌّ رْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَاذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِىإِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَأامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىأَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِىأَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِىإِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِىأَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا(8/53)
" صفحة رقم 54 "
يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِىأُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاٌّ حْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَاكِنِّىأَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِىإِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاٌّ رْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْىِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } )
الأحقاف : ( 2 - 3 ) تنزيل الكتاب من . . . . .
الحقف : رمل مستطيل مرتفع فيه اعوجاج وانحناء ، ومنه احقوقف الشيء : اعوج . قال امرؤ القيس :(8/54)
" صفحة رقم 55 "
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
عنى بالأمر : إذا لم تعرف جهته ، ويجوز فيه الإدغام فتقول : عي ، كما قلت في حيي : حي . قال الشاعر :
عيوا بأمرهم كما
عيت ببيضتها الحمامه
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ ).
هذه السورة مكية . وعن ابن عباس وقتادة ، أن : ) قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ). و ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ ( ، الآيتين مدنيتان . ومناسبة أولها لما قبلها ، أن في آخر ما قبلها : ) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ هُزُواً ( ، وقلتم : إنه عليه الصلاة والسلام اختلقها ، فقال تعالى : ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ). وهاتان الصفتان هما آخر تلك ، وهما أول هذه . ) وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ( : أي موعد لفساد هذه البنية . قال ابن عباس : هو القيامة ؛ وقال غيره : أي أجل كل ملخوق . ) عَن مَّا أَنْذِرُواْ ( : يحتمل أن تكون ما مصدرية ، وأن تكون بمعنى الذي .
الأحقاف : ( 4 ) قل أرأيتم ما . . . . .
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ ( : معناه أخبروني عن الذين تدعون من دون الله ، وهي الأصنام . ) أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ ( : استفهام توبيخ ، ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون . وماذا خلقوا : جملة استفهامية يطلبها أرأيتم ، لأن مفعولها الثاني يكون استفهاماً ، ويطلبها أروني على سبيل التعليق ، فهذا من باب الإعمال ، أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني . ويمكن أن يكون أروني توكيداً لأرأيتم ، بمعنى أخبروني ، وأروني : أخبروني ، كأنهما بمعنى واحد .
وقال ابن عطية : يحتمل أرأيتم وجهين : أحدهما : أن تكون متعدية ، وما مفعولة بها ؛ ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى ، وتكون ما استفهاماً على معنى التوبيخ ، وتدعون معناه : تعبدون . انتهى . وكون أرأيتم لا تتعدى ، وأنها منبهة ، فيه شيء ؛ قاله الأخفش في قوله : ) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ). والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم ، كما هو في قوله : ) قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ ( في سورة فاطر ؛ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها . وقد أمضى الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام ، فيطالع هناك : و ) مّنَ الاْرْضِ ( ، تفسير للمبهم في : ) مَاذَا خَلَقُواْ ). والظاهر أنه يريد من أجزاء الأرض ، أي خلق ذلك إنما هو لله ، أو يكون على حذف مضاف ،(8/55)
" صفحة رقم 56 "
أي من العالي على الأرض ، أي على وجهها من حيوان أو غيره . ثم وقفهم على عبارتهم فقال : ) أَمْ لَهُمْ ( : أي : بل .
( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا ( : أي من قبل هذا الكتاب ، وهو القرآن ، يعني أن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وبإبطال الشرك ، وكل كتب الله المنزلة ناطقة بذلك ؛ فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله . ) أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ ( ، أي بقية من علم ، أي من علوم الأولين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أو على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب . والأثارة تستعمل في بقية الشرف ؛ يقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وفي غير ذلك قال الراعي : وذات أثارة أكلت علينا
نباتاً في أكمته قفارا
أي : بقية من شحم . وقرأ الجمهور : أو أثارة ، وهو مصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء ، كأنها أثرة . وقال الحسن : المعنى : من علم استخرجتموه فتثيرونه . وقال مجاهد : المعنى : هل من أحد يأثر علماً في ذلك ؟ وقال القرطبي : هو الإسناد ، ومنه قول الأعشى : إن الذي فيه تماريتما
بين للسامع والآثر
أي : وللمستدعين غيره ؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه : فما خلفت به ذاكراً ولا آثراً . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقتادة : المعنى : أو خاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، فكأنها قد آثر الله بها من هي عنده . وقال ابن عباس : المراد بالأثارة : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر تفسيره . الأثارة بالخط يقتضي تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء ليس له وجه إذاية وقف أحد إليه . وقيل : إن صح تفسير ابن عباس الإثارة بالخط في التراب ، كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم . وقرأ علي ، وابن عباس : بخلاف عنهما ، وزيد بن علي ، وعكرمة ، وقتادة ، والحسن ، والسلمي ، والأعمش ، وعمرو بن ميمون : أو أثرة بغير ألف ، وهي واحدة ، جمعها أثر ؛ كقترة وقتر ؛ وعلي ، والسلمي ، وقتادة أيضاً : بإسكان الثاء ، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم بخبر واحد وأثر واحد يشهد بصحة قولكم . وعن الكسائي : ضم الهمزة وإسكان الثاء . وقال ابن خالويه ، وقال الكسائي على لغة أخرى : إثرة وأثرة يعني بكسر الهمزة وضمها .
الأحقاف : ( 5 ) ومن أضل ممن . . . . .
( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ( يعبد الأصنام ، وهي جماد لا قدرة لها على استجابة دعائهم ما دامت الدنيا ، أي لا يستجيبون لهم أبداً ، ولذلك غياً انتفاء استجابتهم بقوله : ) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( ، ومع ذلك لا شعور لهم بعبادتهم إياهم ، وهم في الآخرة أعداء لهم ، فليس لهم في الدنيا بهم نفع ، وهم عليهم في الآخرة ضرر ، كما قال تعالى : ) سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ). وجاء ) اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ ( ، لأنهم يسندون إليهم ما يسند لأولي العلم من الاستجابة والغفلة ؛ وكأن ) مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ ( يراد به من عبد من دون الله من إنس وجن وغيرهما ، وغلب من يعقل ، وحمل أولاً على لفظ من لا يستجيب ، ثم على المعنى في : وهم من ما بعده . والظاهر عود الضمير أولاً على لفظ ) مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ ( ، ثم على المعنى في : وهم على معنى من في : ) مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ ( ، كما فسرناه . وقيل : يعود على معنى من في : ) وَمَنْ أَضَلُّ ( ، أي والكفار عن ضلالهم(8/56)
" صفحة رقم 57 "
بأنهم يدعون من لا يستجيب . ) غَافِلُونَ ( : لا يتأملون ما عليهم في دعائهم من هذه صفته .
الأحقاف : ( 7 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ ( : جمع بينة ، وهي الحجة الواضحة . واللام في ) لِلْحَقّ ( ، لام العلة ، أي لأجل الحق . وأتى بالظاهرين بدل المضمرين في ) قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ ( ، ولم يأت التركيب : قالوا لها ، تنبيهاً على الوصفين : وصف المتلو عليهم بالكفر ، ووصف المتلو عليهم بالحق ، ولو جاء بهما الوصفين ، لم يكن في ذلك دليل على الوصفين من حيث اللفظ ، وإن كان من سمى الآيات سحراً هو كافر ، والآيات في نفسها حق ، ففي ذكرهما ظاهرين ، يستحيل على القائلين بالكفر ، وعلى المتلو بالحق . وفي قوله : ) لَمَّا جَاءهُمْ ( تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يتلى عليهم ، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً ، ووصفوه بمبين ، أي ظاهر ، إنه سحر لا شبهة فيه .
الأحقاف : ( 8 ) أم يقولون افتراه . . . . .
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( : أي بل يقولون افتراه ، أي بل أيقولون اختلقه ؟ انتقلوا من قولهم : ) هَاذَا سَاحِرٌ ( إلى هذه المقالة الأخرى . والضمير في افتراه عائد إلى الحق ، والمراد به الآيات . ) قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ( ، على سبيل الفرض ، فالله حسبي في ذلك ، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه ، ولا يمهلني ؛ ) فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ ( عقوبة الله بي شيئاً . فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه ؟ يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صم ؛ ومثله : ) قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ( ؟ ) وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ). ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا أملك لكم من الله شيئاً ) . ثم استسلم إلى الله واستنصر به فقال : ) هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ( : أي تندفعون فيه من الباطل ، ومراده الحق ، وتسميته تارة سحراً وتارة فرية . والضمير في فيه يحتمل أن يعود على ما ، أو على القرآن ، وبه في موضع الفاعل يكفي على أصح الأقوال . ) شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( : شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه ، وشهيد عليكم بالتكذيب . ) وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( : عدة لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر ، وإشعار بحلمه تعالى عليهم ، إذ لم يعاجلهم بالعقاب ، إذ كان ما تقدم تهديداً لهم في أن يعاجلهم على كفرهم .
الأحقاف : ( 9 - 10 ) قل ما كنت . . . . .
( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ ( : أي جاء قبلي غيري ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والبدع والبديع : من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول عدي بن زيد ، أنشده قطرب : فما أنا بدع من حوادث تعتري
رجالاً عرت من بعد بؤسي فأسعد
والبدع والبديع : كالخف والخفيف ، والبدعة : ما اخترع مما لم يكن موجوداً ، وأبدع الشاعر : جاء بالبديع ، وشيء بدع ، بالكسر : أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر : أي بديع ، وقوم إبداع ، عن الأخفش . وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بفتح الدال ، جمع بدعة ، وهو على حذف مضاف ، أي ذا بدع . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ولحم زيم . انتهى . وهذا الذي أجازه ، إن لم ينقل استعماله عن العرب ، لم نجزه ، لأن فعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى . قال سيبويه : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع ، وهو قوم عدي ، وقد استدرك ، واستدراكه صحيح . وأما قيم ، فأصله قيام وقيم ، مقصور منه ، ولذلك اعتلت الواو فيه ، إذ لو لم يكن مقصوراً لصحت ، كما صحت في حول وعوض . وأما قول العرب : مكان سوى ، وماء روى ، ورجل رضى ، وماء صرى ، وسبى طيبه ، فمتأولة عند البصريين لا يثبتون بها فعلاً في الصفات . وعن مجاهد ، وأبي حيوة : بدعا ، بفتح الباء وكسر الدال ، كحذر . .
( وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ ( : أي فيما يستقبل من الزمان ، أي لا أعلم مالي بالغيب ، فأفعاله تعالى ، وما يقدر لي ولكم من قضاياه ، لا أعلمها . وعن الحسن وجماعة : وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب ؟ وعن الكلبي ، قال له أصحابه ، وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا ؟ فقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأنزل بمكة ؟(8/57)
" صفحة رقم 58 "
أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت ورأيتها ، يعني فى منامه ، ذات نخل وشجر ؟ وقال ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة : معناه في الآخرة ، وكان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة ، وبأن الكافرين في نار جهنم ؛ وهذا القول ليس بظاهر ، بل قد أعلم سبحانه من أول الرسالة حال الكافر وحال المؤمن . وقيل : ) مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ ( من الأوامر والنواهي ، وما يلزم الشريعة . وقيل : نزلت في أمر كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب .
( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ( : استسلام وتبرؤ من علم المغيبات ، ووقوف مع النذارة إلا من عذاب الله . وقرأ الجمهور : ما يفعل بضم الياء مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : بفتحها . والظاهر أن ما استفهامية ، وأدري معلقة ؛ فجملة الاستفهام موصولة منصوبة . انتهى . والفصيح المشهور أن دَرَى يتعدى بالباء ، ولذلك حين عدي بهمزة النقل يتعدى بالباء ، نحو قوله : ) وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ( ، فجعل ما استفهامية هو الأولى والأجود ، وكثيراً ما علقت في القرآن نحو : ) وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ ( ، ويفعل مثبت غير منفي ، لكنه قد انسحب عليه النفي ، لاشتماله على ما ويفعل ؛ فلذلك قال : ) وَلاَ بِكُمْ ). ولولا اعتبار النفي ، لكان التركيب ) مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ ). ألا ترى زيادة من في قوله : ) أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ ( ؟ لانسحاب قوله : ) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( على يود وعلى متعلق يود ، وهو أن ينزل ، فاذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل . وقرأ ابن عمير : ما يوحي ، بكسر الحاء ، أي الله عز وجل .
( قُلْ أَرَءيْتُمْ ( : مفعولاً أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما ، والتقدير : أرأيتم حالكم إن كان كذا ؟ ألستم ظالمين ؟ فالأول حالكم ، والثاني ألستم ظالمين ، وجواب الشرط محذوف ؛ أي فقد ظلمتم ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً . وقال الزمخشري : جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به ، ألستم ظالمين ؟ ويدل على هذا المحذوف قوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ). انتهى . وجملة الاستفهام لا تكون جواباً للشرط إلا بالفاء . فإن كانت الأداة الهمزة ، تقدمت الفاء نحو : إن تزرنا ، أفما نحسن إليك ؟ أو غيرها تقدمت الفاء نحو : إن تزرنا ، فهل ترى إلا خيراً ؟ فقول الزمخشري : ألستم ظالمين ؟ بغير فاء ، لا يجوز أن يكون جواب الشرط . وقال ابن عطية : وأرأيتم يحتمل أن تكون منبهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولاً . ويحتمل أن تكون الجملة : كان وما عملت فيه ، تسد مسد مفعوليها . انتهى . وهذا خلاف ما قرره محققو النحاة في أرأيتم . وقيل : جواب الشرط .
( قُلْ أَرَءيْتُمْ ( : أي فقد آمن محمد به ، أو الشاهد ، واستكبرتم أنتم عن الإيمان . وقال الحسن : تقديره فمن أضل منكم . وقيل : فمن المحق منا ومنكم ، ومن المبطل ؟ وقيل : إنما تهلكون ، والضمير في به عائد على ما عاد عليه اسم كان ، وهو القرآن . وقال الشعبي : يعود على الرسول ، والشاهد عبد لله بن سلام ، قاله الجمهور ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن سيرين ؛ والآية مدنية . وعن عبد الله بن سلام : نزلت في آيات من كتاب الله ، نزلت في ) وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ). وقال مسروق : الشاهد موسى عليه السلام ، لا ابن سلام ، لأنه أسلم بالمدينة ، والسورة مكية ، والخطاب في ) وَكَفَرْتُمْ بِهِ ( لقريش . وقال الشعبي : الشاهد من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوارة ، لأن ابن سلام أسلم قبل وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعامين ، والسورة مكية . وقال سعد بن أبي وقاص ، ومجاهد ، وفرقة : الآية مكية ، والشاهد عبد الله بن سلام ، وهي من الآيات التي تضمنت غيباً أبرزه الوجود ، وعبد الله بن سلام مذكور في الصحيح ، وفيه بهت لليهود لعنهم الله .
ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ، ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها ، اجتمع بأحبار اليهود وقص(8/58)
" صفحة رقم 59 "
عليهم أحلامه ، فعلموا أنه صاحب دولة ، وعموا ، فأصحبوه عبد الله بن سلام ، فقرأ علوم التوراة وفقهها مدة ، زعموا وأفرطوا في كذبهم ، إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزة التي في القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام ، وعبد الله هذا لم تعلم له إقامة بمكة ولا تردد إليها . فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله . وناهيك من طائفة ، ما ذم في القرآن طائفة مثلها .
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ).
الأحقاف : ( 11 - 12 ) وقال الذين كفروا . . . . .
قال قتادة : هي مقالة كفار قريش للذين آمنوا : أي لأجل الذين آمنوا : واللام للتبليغ . ثم انتقلوا إلى الغيبة في قولهم : ) مَّا سَبَقُونَا ( ، ولو لم ينتقلوا لكان الكلام ما سبقتم إليه . ولما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة من المؤمنين ، أي قالوا : ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( : أولئك الذين بلغنا إيمانهم يريدون عماراً وصهيباً وبلالاً ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الكلبي والزجاج : هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة . قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة ، أي لو كان هذا الدين خيراً ، ما سبقنا إليه الرعاة . وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم . وقال أبو المتوكل : أسلم أبو ذر ، ثم أسلمت غفار ، فقالت قريش ذلك . وقيل : أسلمت أمة لعمر ، فكان يضربها ، حتى يفتر ويقول : لولا أني فترت لزدتك ضرباً فقال كفار قريش : لو كان ما يدعو إليه محمد حقاً ، ما سبقتنا إليه فلانة . والظاهر أن اسم كان هو القرآن ، وعليه يعود به ويؤيده ، ومن قبله كتاب موسى . وقيل : به عائد على الرسول ، والعامل في إذ محذوف ، أي ) وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ( ، ظهر عنادهم . وقوله : ) فَسَيَقُولُونَ ( ، مسبب عن ذلك الجواب المحذوف ، لأن هذا القول هو ناشىء عن العناد ، ويمتنع أن يعمل في : إذ فسيقولون ، لحيلولة الفاء ، وليعاند زمان إذ وزمان سيقولون . ) إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ، كما قالوا : ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ، وقدمه بمرور الأعصار عليه .
ولما طعنوا في صحة القرآن ، قيل لهم : إنه أنزل الله من قبله التوراة على موسى ، وأنتم لا تنازعون في ذلك ، فلا ينازع في إنزال القرآن . ) إِمَاماً ( أي يهتدى به ، إن فيه البشارة بمبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإرساله ، فليزم اتباعه والإيمان به ؛ وانتصب إماماً على الحال ، والعامل فيه العامل في : ) وَمِن قَبْلِهِ ( ، أي وكتاب موسى كان من قبل القرآن في حال كونه إماماً . وقرأ الكلبي : كتاب موسى ، نصب وفتح ميم من على أنها موصولة ، تقديره : وآتينا الذي قبله كتاب موسى . وقيل : انتصب إماماً بمحذوف ، أي أنزلناه إماماً ، أي قدوة يؤتم به ، ( وَرَحْمَةً ( لمن عمل به ؛ وهذا إشارة إلى القرآن . ) كِتَابٌ مُّصَدّقٌ ( له ، أي لكتاب موسى ، وهي التوراة التي تضمنت خبره وخبر من جاء به ، وهو الرسول . فجاء هو مصدقاً لتلك الأخبار ، أو مصدقاً للكتب الإلهية . ولساناً : حال من الضمير في مصدق ، والعامل فيه مصدق ، أو من كتاب ، إذ قد وصف العامل فيه اسم الإشارة . أو لساناً : حال موطئة ، والحال في الحقيقة هو عربياً ، أو على حذف ، أي ذا الشأن عربي ، فيكون مفعولاً بمصدق ؛ أي هذا القرآن مصدق من جاء به وهو الرسول ،(8/59)
" صفحة رقم 60 "
وذلك بإعجازه وأحواله البارعة . وقيل : انتصب على إسقاط الخافص ، أي بلسان عربي . وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وابن عامر ، ونافع ، وابن كثير : لتنذر ، بتاء الخطاب للرسول ؛ والأعمش ، وابن كثيراً أيضاً ، وباقي السبعة : بياء الغيبة ، أي لينذرنا القرآن والذين ظلموا الكفار عباد الأصنام ، حيث وضعوا العبادة في غير من يستحقه .
( وَبُشْرَى ( ، قيل : معطوف على مصدق ، فهو في موضع رفع ، أو على إضمار هو . وقيل : منصوب بفعل محذوف معطوف على لينذر ، أي ويبشر بشرى . وقيل : منصوب على إسقاط الخافض ، أي ولبشرى . وقال الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء : وبشرى في محل النصب ، معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له . انتهى . وهذا لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين ، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون المحل بحق الأصالة ، وأن يكون للموضع محرز . والمحل هنا ليس بحق الأصالة ، لأن الأصل هو الجر في المفعول له ، وإنما النصب ناشىء عن إسقاط الخافض ، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة في النحو ، وصل إليه الفعل فنصبه .
الأحقاف : ( 13 ) إن الذين قالوا . . . . .
ولما عبر عن الكفار بالذين ظلموا ، عبر عن المؤمنين بالمحسنين ، ليقابل بلفظ الإحسان لفظ الظلم .
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( : تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة فصلت .
الأحقاف : ( 14 - 16 ) أولئك أصحاب الجنة . . . . .
ولما ذكر : ) جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ، قال : ) وَوَصَّيْنَا ( ، إذ كان بر الوالدين ثانياً أفضل الأعمال ، إذ في الصحيح : أي الأعمال أفضل ؟ فقال الصلاة على ميقاتها قال : ثم أي ؟ قال : ثم بر الوالدين ، وإن كان عقوقهما ثاني أكبر الكبائر ، إذ قال عليه الصلاة والسلام : ( ألا أنبئكم ؟ بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين ) ، والوارد في برهما كثير . وقرأ الجمهور : حسناً ، بضم الحاء وإسكان السين ؛ وعلي ، والسلمي ، وعيسى : بفتحهما ؛ وعن عيسى : بضمهما ؛ والكوفيون : إحساناً ، فقيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا . وقيل : التقدير : إيصاء ذا حسن ، أو ذا إحسان . ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان ، فيكون مفعولاً له ، أي ووصيناه بهما لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله تعالى . وقيل : النصب على المصدر على تضمين وصينا معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً . وقال ابن عطية : ونصب هذا يعني إحساناً على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ؛ والباء متعلقة بوصينا ، أو بقوله : إحساناً . انتهى . ولا يصح أن يتعلق بإحساناً ، لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل ، فلا يتقدم معموله عليه ، ولأن أحسن لا يتعدى بالباء ، إنما يتعدى باللام ؛ تقول : أحسنت لزيد ، ولا تقول : أحسنت بزيد ، على معنى أن الإحسان يصل إليه . وتقدم الكلام ) عَلَى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( في سورة العنكبوت ، وانجر هنا بالكلام على ذلك مزيداً للفائدة .
( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ( : لبس الكره في أول علوقها ، بل في ثاني استمرار الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه . انتهى . ولا يلحقها كره إذ ذاك ، فهذا احتمال بعيد . وقال مجاهد ، والحسن ، وقتادة : المعنى حملته مشقة ، ووضعته مشقة . وقرأ الجمهور : بضم الكاف ؛ وشيبة ، وأبو جعفر ، والأعرج ، والحرميان ، وأبو عمرو : بالفتح ؛ وبهما معاً : أبو رجاء ، ومجاهد ، وعيسى ؛ والضم والفتح لغتان بمعنى واحد ، كالعقر والعقر . وقالت فرقة : بالضم المشقة ، وبالفتح الغلبة والقهر ، وضعفوا قراءة الفتح . وقال بعضهم : لو كان بالفتح ، لرمت به عن نفسها إذ معناه : القهر والغلبة . انتهى . وهذا ليس بشيء ، إذ قراءة الفتح في السبعة المتواترة . وقال أبو حاتم : القراءة بفتح الكاف لا تحسن ، لأن الكره بالفتح ، النصب والغلبة . انتهى . وكان أبو حاتم يطعن في بعض القرآن بما لا علم له به جسارة منه ، عفا الله عنه ،(8/60)
" صفحة رقم 61 "
وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل ، أي حملته ذات كره ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي حملاً ذاكره .
( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( : أي ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ؛ إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام . فإن زادت مدة الحمل ، نقصت مدة الرضاع . فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، كنص القرآن . وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدر زمن الحمل ، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة . وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك ؛ وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه . قال ابن سينا في الشفاء : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة ، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ، ولدت ولداً نبتت أسنانه . وحكي عن أرسطا طاليس أنه قال : إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان ، فربما وضعت لسبعة أشهر ، ولثمانية ، وقل ما يعيش الولد في الثامن ، إلا في بلاد معينة مثل مصر . انتهى . وعبر عن الرضاع بالفصال ، لما كان الرضاع يلي الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهي به ويتم ، سمي به . وقرأ الجمهور : وفصاله ، وهو مصدر فاصل ، كأنه من اثنين : فاصل أمه وفاصلته . وقرأ أبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والجحدري : وفصله ، قيل : والفصل والفصال مصدران ، كالفطم والفطام . وهنا لطيفة : ذكر تعالى الأم في ثلاثة مراتب في قوله : بوالديه وحمله وإرضاعه المعبر عنه بالفصال ، وذكر الولد في واحدة في قوله : بوالديه ؛ فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البر للأم والربع للأب في قول الرجل : ( يا رسول الله ، من أبر ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أباك ) .
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ( في الكلام حذف تكون حتى غاية له ، تقديره : فعاش بعد ذلك ، أو استمرت حياته ؛ وتقدم الكلام في ) بَلَغَ أَشُدَّهُ ( في سورة يوسف . والظاهر ضعف قول من قال : بلوغ الأشد أربعون ، لعطف ) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ). والعطف يقتضي التغاير ، إلا إن ادعى أن ذلك توكيد لبلوغ الأشد فيمكن ؛ والتأسيس أولى من التأكيد ؛ وبلوغ الأربعين اكتمال العقل لظهور الفلاح . قيل : ولم يبعث نبي إلا بعد الأربعين . وفي الحديث : أن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول : يأتي وجه لا يفلح . ) قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ( : وتقدم الكلام على هذا في سورة النمل . ) وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى ( : سأل أن يجعل ذريته موقعاً للصلاح ومظنة له ، كأنه قال : هب لي الصلاح في ذريتي ، فأوقعه فيهم ، أو ضمن : وأصلح لي معنى : وألطف بي في ذريتي ، لأن أصلح يقتدي بنفسه لقوله : ) وَأَصْلَحْنَا لَهُ ( ، فلذلك احتج قوله : ) لِى فِى ذُرّيَّتِى ( إلى التأويل . قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وتتناول من بعده ، وهو مشكل ، لأنها نزلت بمكة ، وأبوه أسلم عام الفتح . ولقوله : ) أُوْلَائكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ( : فلم يقصد بذلك أبو بكر ولا غيره . والمراد بالإنسان الجنس ، ولذلك أشار يقوله : ) أُوْلَائِكَ ( جمعاً . وقرأ الجمهور : يتقبل مبنياً للمفعول ، أحسن رفعاً ، وكذا ويتجاوز ؛ وزيد بن علي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وأبو جعفر ، والأعمش : بخلاف عنه . وحمزة ، والكسائي ، وحفص : نتقبل أحسن نصباً ، ونتجاوز بالنون فيهما ؛ والحسن ، والأعمش ، وعيسى : بالياء فيهما مفتوحة ونصب أحسن .
( فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ( ، قيل : في بمعنى مع ؛ وقيل : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، يريد في جملة من أكرم منهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة . وانتصب ) وَعْدَ الصّدْقِ ( على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأن قوله : ) أُوْلَائكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ ( ، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز ، لما ذكر الإنسان البار بوالديه وما آل إليه من الخير ، ذكر العاق بوالديه
الأحقاف : ( 17 - 18 ) والذي قال لوالديه . . . . .
وما آل إليه من الشر . والمراد بالذي : الجنس ، ولذلك جاء الخبر مجموعاً في قوله : ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ). وقال الحسن : هو الكافر العاق بوالديه المنكر البعث . وقول مروان بن الحكم ، واتبعه قتادة : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قول خطأ ناشىء عن جور ، حين دعا مروان ، وهو أمير المدينة ، إلى مبايعة يزيد ، فقال عبد الرحمن : جعلتموها هرقلية ؟ كلما مات هرقل ولى ابنه ، وكلما مات قيصر ولى ابنه ؟ فقال مروان : خذوه ، فدخل(8/61)
" صفحة رقم 62 "
بيت أخته عائشة رضي الله عنها ، وقد أنكرت ذلك عائشة فقالت ، وهي المصدوقة : لم ينزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي ؛ وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته . وصدت مروان وقالت : ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله . ويدل على فساد هذا القول أنه قال تعالى : ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ( ، وهذه صفات الكفار أهل النار ، وكان عبد الرحمن من أفاضل الصحابة وسراتهم وأبطالهم ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره .
( أُفّ لَّكُمَا ( : تقدم الكلام على أف مدلولاً ولغات وقراءة في سورة الإسراء ، واللام في لكما للبيان ، أي لكما ، أعني : التأفيف . وقرأ الجمهور : ) أَتَعِدَانِنِى ( ، بنونين ، الأولى مكسورة ؛ والحسن ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وفي رواية ؛ وهشام : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية . وقرأ نافع في رواية ، وجماعة : بنون واحدة . وقرأ الحسن ، . وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه ؛ وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، وهارون بن موسى ، عن الجحدري ، وسام ، عن هشام : بفتح النون الأولى ، كأنهم فروا من الكسرتين ، والياء إلى الفتح طلباً للتخفيف ففتحوا ، كما فر من أدغم ومن حذف . وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط . ) أَنْ أَخْرِجْ ( : أي أخرج من قبري للبعث والحساب . وقرأ الجمهور : أن أخرج ، مبنياً للمفعول ؛ والحسن ، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن مصرف ، والضحاك : مبنياً للفاعل .
( وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى ( : أي مضت ، ولم يخرج منهم أحد ولا بعث . وقال أبو سليمان الدمشقي : ) وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى ( مكذبة بالبعث . ) وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ ( ، يقال : استغثت الله واستغثت بالله ، والاستعمالان في لسان العرب . وقد رددنا على ابن مالك إنكار تعديته بالباء ، وذكرنا شواهد على ذلك في الأنفال ، أي يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : ) وَيْلَكَ ( ، دعاء عليه بالثبور ؛ والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك . وقيل : ويلك لمن يحقر ويحرك لأمر يستعجل إليه . وقرأ الأعرج ، وعمرو بن فائدة : ) إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ ( ، بفتح الهمزة ، أي : آمن بأن وعد الله حق ، والجمهور بكسرها ، ( فَيَقُولُ مَا هَاذَا ( : أي ما هذا الذي يقول ؟ أي من الوعد بالبعث من القبور ، إلا شيء سطره الأولون في كتبهم ، ولا حقيقة له . قال ابن عطية : وظاهر الفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنفى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها .
وقوله : ) أُوْلَائِكَ ( ، ظاهره أنه إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : ) وَالَّذِى قَالَ ( ، ويحتمل أن تكون الآية في مشار إليه ، ويكون قوله في أولئك بمعنى صنف هذا المذكور وجنسه هم : ) الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ( أي قول الله أنه يعذبهم ) فِى أُمَمٍ ( ، أي جملة : ) أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ ( ، يقتضي أن الجنس يموتون قرناً بعد قرن كالإنس . وقال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت . وقرأ العباس ، عن أبي عمرو : أنهم كانوا ، بفتح الهمزة ، والجمهور بالكسر .
الأحقاف : ( 19 ) ولكل درجات مما . . . . .
( وَلِكُلّ ( : أي من المحسن والمسيء ، ( دَرَجَاتٌ ( غلب درجات ، إذ الجنة درجات والنار دركات ، والمعنى : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منها . قال ابن زيد : درجات المحسنين تذهب علواً ، ودرجات المسيئين تذهب سفلاً . انتهى . والمعلل محذوف تقديره : وليوفيهم أعمالهم قدر جزائهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات . وقرأ الجمهور : وليوفيهم بالياء ، أي الله تعالى ؛ والأعمش ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والإخوان ، وابن ذكوان ، ونافع : بخلاف عنه بالنون ؛ والسلمي : بالتاء من فوق ، أي ولنوفيهم الدرجات ، أسند التوفية إليها مجازاً .
( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُم ( سقط : الآية إلى آخرها ) ْ ). (8/62)
" صفحة رقم 63 "
( سقط : وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا يستهزئون )
الأحقاف : ( 20 ) ويوم يعرض الذين . . . . .
( وَيَوْمَ يُعْرَضُ ( : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به . والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا . ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها . انتهى . ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر . وإذا كان المعنى صحيحاً واضحاً مع عدم القلب ، فأي ضرورة ندعو إليه ؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض ، وعرض الحوض على الناقة ، كل منهم صحيح ؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض . وقرأ الجمهور : أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : ) فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ). وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية . وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء . والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية .
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها ، والأخذ بالتقشف ، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به . وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ ، وعزة نفسه الفاضلة عنها . أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش ؟ ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصلائق ، ولكن استبقي حسناني ؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال : ) أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ ). والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض . قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا . فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : ) فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ( ؛ ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب . وقرىء : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله : ) بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( : أي تترفعون عن الإيمان ؛ ) وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ( : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب ، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب .
الأحقاف : ( 21 ) واذكر أخا عاد . . . . .
ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال . وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك ، أهل مكة ، هوداً عليه السلام ، ( إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ ( عاداً عذبهم الله ) بِالاْحْقَافِ ). قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة . وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت . وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن . وقيل : بين مهرة وعدن . وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني . وقال ابن عباس : هي جبل بالشام . قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( ، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هوداً عليه السلام . والجملة من قوله : ) وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ ( : وهو جمع نذير ، ( مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( ، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في : ) النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ( ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى ) وَمِنْ خَلْفِهِ ( : أي من بعد(8/63)
" صفحة رقم 64 "
إنذاره ؛ ويحتمل أن يكون اعتراضاً بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا . والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم .
الأحقاف : ( 22 ) قالوا أجئتنا لتأفكنا . . . . .
( قَالُواْ أَجِئْتَنَا ( : استفهام تقرير ، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة . ) لِتَأْفِكَنَا ( : لتصرفنا ، قاله الضحاك ؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب . ألا ترى إلى قوله : بل هو ما استعجلتم به ؟
الأحقاف : ( 23 - 24 ) قال إنما العلم . . . . .
( قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ ( : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إليّ ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم . ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : ) وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة . وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياماً ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا . والضمير في ) رَأَوْهُ ( الظاهر أنه عائد على ما في قوله : ) بِمَا تَعِدُنَا ( ، وهو العذاب ، وانتصب عارضاً على الحال من المفعول . وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم ، الذي فسره قوله : ) عَارِضاً ).
وقال الزمخشري : ) فَلَمَّا رَأَوْهُ ( ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهماً ، قد وضح أمره بقوله : ) عَارِضاً ( ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلاً لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلاً زيد ، وبئس غلاماً عمرو . وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحداً ذهب إليه ، وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه . والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر : يا من رأى عارضاً أرقت له
بين ذراعي وجبهة الأسد
وقال الأعشى : يا من رأى عارضاً قد بث أرمقه
كأنها البرق في حافاتها الشعل
) مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ( : هو جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل . الاسم شاذ نحو : ناد وأندية ، وجائز وأجوزة . والجائز : الخشبة الممتدة في أعلى السقف ، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف ، فلذلك نعت بهما النكرة . ) بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم ( : أي قال لهم هو ذلك ، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به ، أضرب عن قولهم : ) عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( ، وأخبر بأن العذاب فاجأهم ، ثم قال : ) رِيحٌ ( : أي هي ريح بدل من هو . وقرأ : ما استعجلتم ، بضم التاء وكسر الجيم ، وتقدمت قصص في الريح ، فأغنى عن ذكرها هنا .
الأحقاف : ( 25 ) تدمر كل شيء . . . . .
( تُدَمّرُ ( : أي تهلك ، والدمار : الهلاك ، وتقدم ذكره . وقرأ زيد بن عليّ : تدمر ، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم . وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل ، أي يهلك كل شيء ، وكل شيء عام مخصوص ، أي من نفوسهم وأموالهم ، أو من أمرت بتدميره . وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده . وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى . وقرأ الجمهور : لا ترى بتاء الخطاب ، إلا مساكنهم ، بالنصب ؛ وعبد الله ، ومجاهد ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، وطلحة ، وعيسى ، والحسن ، وعمرو بن ميمون : بخلاف عنهما ؛ وعاصم ، وحمزة : لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع . وأبو رجاء ، ومالك بن دينار : بخلاف عنهما .(8/64)
" صفحة رقم 65 "
والجحدري ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، والسلمي : بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع ، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر ، وبعضهم يجيزه في الكلام . وقال ذو الرمة : كأنه جمل همّ وما بقيت
إلا النخيرة والألواح والعصب
وقال آخر : فما بقيت إلا الضلوع الجراشع وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد . وروي هذا عن الأعمش ، ونصر بن عاصم . وقرىء : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفرداً منصوباً ، واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيراً لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد .
الأحقاف : ( 26 ) ولقد مكناهم فيما . . . . .
ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشاً على سبيل الموعظة فقال : ) وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ ( ، وإن نافية ، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ؛ ولم يكن النفي بلفظ ما ، كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى . وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكما فيه طغيتم . وقيل : إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله :
يرجى المرء ما إن لا يراه
وتعرض دون أدناه الخطوب
أي مكناهم في مثل الذي مكناكم ، فيه ، وكونها نافية هو الوجه ، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله : ) كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً ( ، وقوله : ) هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( ، وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار . ثم عدد نعمه عليهم ، وأنها لم تغن عنهم شيئاً ، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل . وقيل : ما استفهام بمعنى التقرير ، وهو بعيد كقوله : ) تَذَرُ مِن شَىْء ( ، إذ يصير التقدير : أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء ، فتكون من زيدت في الموجب ، وهو لا يجوز على الصحيح ، والعامل في إذ أغنى . ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت : أكرمت زيداً لإحسانه إليّ ، أو إذ أحسن إليّ . استويا في الوقت ، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل ، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك ، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه .
( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الاْيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ( سقط : سقط إلى آخر الآية ) ). (8/65)
" صفحة رقم 66 "
( سقط : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون )
الأحقاف : ( 27 ) ولقد أهلكنا ما . . . . .
( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَى ( : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم ، والذي حولهم من القرى : مأرب ، وحجر ، ثمود ، وسدوم . ويريد من أهل القرى : ) وَصَرَّفْنَا الاْيَاتِ ( ، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى ، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان ، فلم يرجعوا .
الأحقاف : ( 28 ) فلولا نصرهم الذين . . . . .
( فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ( : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك ؟ ) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ ( : أي اتخذوهم ، ( مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ( : أي في حال التقرب وجعلتهم شفعاء . ) ءالِهَةً ( : وهو المفعول الثاني لا تخذوا ، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول . وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه . وقال الزمخشري : وقرباناً حال ، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه ، لفساد المعنى . انتهى . ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى ، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب . وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله .
( بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ( : أي غابوا عن نصرتهم . وقرأ الجمهور : إفكهم ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف ؛ وابن عباس في رواية : بفتح الهمزة . والإفك مصدر إن . وقرأ ابن عباس أيضاً ، وابن الزبير ، والصباح بن العلاء الأنصاري ، وأبو عياض ، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان ابن مرة ، ومجاهد : إفكهم ، بثلاث فتحات : أي صرفهم ؛ وأبو عياض ، وعكرمة أيضاً : كذلك ، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ؛ وابن الزبير أيضاً ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه : آفكهم بالمد ، فاحتمل أن يكون فاعل . فالهمزة أصلية ، وأن يكون أفعل ، فالهمزة للتعدية ، أي جعلهم يأفكون ، ويكون أفعل بمعنى المجرد . وعن الفراء أنه قرىء : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الأفك ؛ وابن عباس ، فيما روى قطرب ، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من آفك ، أي صارفهم ، والإشارة بذلك على من قرأ : إفكهم مصدراً إلى اتخاذ الأصنام آلهة ، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم . وقال الزمخشري : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء . انتهى . وعلى قراءة من جعله فعلاً معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ، وكذلك قراءة اسم الفاعل ، أي صارفهم عن الحق . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي وافتراؤهم ، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي يفترونه ).
) ).
الأحقاف : ( 29 - 32 ) وإذ صرفنا إليك . . . . .
( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ ( : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة . والجن توصف أيضاً بذلك ، كما قال تعالى : ) قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ ). وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه . والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد . وإن هوداً عليه السلام كان من العرب ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها . وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم . وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به .
( وَإِذْ صَرَفْنَا ( : وجّهنا إليك . وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال . ) نَفَراً مّنَ الْجِنّ ( ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار . قال ابن عباس : كانوا سبعة ، منهم زوبعة . والذي يجمع اختلاف الروايات ، أن قصة الجن كانت مرتين .
إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير . فروى أن الجن كانت تسترق(8/66)
" صفحة رقم 67 "
السمع ؛ فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث . وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي ؛ فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر ؛ فأنبأه الله باستماعهم .
( الثَّالِثَةَ الاْخْرَى ( : أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : ( إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني ) ، قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري . فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون ، خط لي خطاً وقال : ( لا تخرج منه حتى أعود إليك ) ، ثم افتتح القرآن . وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : ( هل رأيت شيئاً ) ؟ قلت : نعم ، رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، فقال : ( أولئك جن نصيبين ) . وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك . وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : ( إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق ) . وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك .
( فَلَمَّا حَضَرُوهُ ( : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب . ) قَالُواْ أَنصِتُواْ ( : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم . وقرأ الجمهور : ) فَلَمَّا قُضِىَ ( : مبنياً للمفعول ؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنياً للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه . وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد . ) وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم . انتهى . وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالهما ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما .
( مِن بَعْدِ مُوسَى ( : أي من بعد كتاب موسى . قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى ، وهذا لا يصح عن ابن عباس . كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته ؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به . ويجوز أن يكونوا قالوا : ) مِن بَعْدِ مُوسَى ( تنبيهاً لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة ، ( مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق . ) يَهْدِى إِلَى الْحَقّ ( : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل . ) وَإِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( : غابر بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار . ) أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ ( : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، ( ياقَوْمَنَا أَجِيبُواْ ( : يعود على الله .
( يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( : من للتبعيض ، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم ، قال معناه الزمخشري . وقيل : من زائدة ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، فلا يبقى معه تبعة . ) وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب ، وكذا قال ابن عباس : لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها . وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار ، وإليه كان يذهب أبو حنيفة . ) فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ ( : أي بفائت من عقابه ، إذ لا منجا منه ، ولا مهرب ، كقوله : ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ). وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم .
الأحقاف : ( 33 - 34 ) أو لم يروا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَلَمْ يَعْىَ ( ، مضارع عيي ، على وزن فعل ، بكسر العين ؛ والحسن : ولم يعي ، بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة ، كما قالوا في بقي : بقا ، وهي لغة لطيىء . ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين ، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين ، فجاء يعني . فلما دخل الجازم ، حذف الياء ، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين ، فسكنت الياء وبقي يعي . وقرأ الجمهور : ) بِقَادِرٍ ( : اسم فاعل ، والباء زائدة في خبر أن ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي . وقد أجاز الزجاج : ما ظننت أن أحداً بقائم ،(8/67)
" صفحة رقم 68 "
قياساً على هذا ، والصحيح قصر ذلك على السماع ، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر ؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقرراً لإحياء الموتى لا لرؤيتهم ؟ وقرأ الجحدري ، وزيد بن علي ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى ، والأعرج : بخلاف عنه ؛ ويعقوب : يقدر مضارعاً .
( أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ ( : أي يقال لهم ، والإشارة بهذا إلى العذاب . أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون ، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ). ) قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا ( ، تصديق حيث لا ينفع . وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم ، يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك : ) فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
الأحقاف : ( 35 ) فاصبر كما صبر . . . . .
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله . فلا تستعجل أنت واصبر ، ولا تخف إلا الله . وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل ، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة . فتكون من للتبعيض ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان ، أي الذين هم الرسل ، ويكون الرسل كلهم أولى العزم ؛ وأولو العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل ؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل ، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي ، وللبيان قول ابن زيد . وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام ، لأنه قال عقب ذكرهم : ) فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ). وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر نفسه على الذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل ، ويوسف صبر على السجن والبئر ، وأيوب على البلاء . وزاد غيره : وموسى قال قومه : ) إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ( ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر ، فاعبروها ولا تعمروها .
( وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ( : أي لكفار قريش بالعذاب ، أي لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا ، كأنهم ) لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً ). وقرأ أبي : من النهار ؛ وقرأ الجمهور : من نهار . وقرأ الجمهور : بلاغ ، بالرفع ، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها ، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم ، كما قال تعالى : ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ( ، فبلاغ خبر مبتدأ محذوف . قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع ، أي هذا بلاغ ، أي تبليغ وإنذار . وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم ؛ ويقف على فلا تستعجل ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، إذ ظاهر قوله : لهم ، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم ، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى : بلاغاً بالنصب ، فاحتمل أن يراد : بلاغاً في القرآن ، أي بلغوا بلاغاً ، أو بلغنا بلاغاً . وقرأ الحسن أيضاً : بلاغ بالجر ، نعتاً لنهار . وقرأ أبو مجلز ، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر ، للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعاً ونصباً على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع . وعن أبي مجلز أيضاً : بلغ فعلاً ماضياً . وقرأ الجمهور : يهلك ، بضم الياء وفتح اللام ، وابن محيصن ، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام ؛ وعنه أيضاً : بفتح الياء واللام ، وماضيه هلك بكسر اللام ، وهي لغة . وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها . وقرأ زيد بن ثابت : يهلك ، بضم الياء وكسر اللام . ) إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( : بالنصب ، وفي هذه الآية وعيد وإنذار .(8/68)
" صفحة رقم 69 "
4
( سورة محمد )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاٌّ نْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِىأَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا(8/69)
" صفحة رقم 70 "
لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاٌّ مْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاٌّ مْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ؤإِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هَآ أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم } )
محمد : ( 1 - 2 ) الذين كفروا وصدوا . . . . .
البال : الفكر ، تقول : خطر في بالي كذا ، ولا يثني ولا يجمع ، وشذ قولهم : بالات في جمعه . تعس الرجل ، بفتح العين ، تعساً : ضد تنعش ، وأتعسه الله . قال مجمع بن هلال : تقول وقد أفردتها من حليلها
تعست كما أتعستني يا مجمع
وقال قوم ، منهم عمرو بن شميل ، وأبو الهيثم : تعس ، بكسر العين . وعن أبي عبيدة : تعسه الله وأتعسه : في باب فعلت(8/70)
" صفحة رقم 71 "
وأفعلت . وقال ابن السكيت : التعس : أن يجر على الوجه ، والنكس : أن يجر على الرأس . وقال هو أيضاً ، وثعلب : التعس : الهلاك . وقال الأعشى : بذات لوث عفرناة إذا عثرت
فالتعس أولى لها من أن أقول لعا
آسن : الماء تغير ريحه ، يأسن ويأسن ؛ ذكره ثعلب في الفصيح ، والمصدر : أسون وأسن ؛ بكسر السين . يأسن ، بفتحها ، لغة أسنا ، قاله اليزيدي . وأسن الرجل ، بالكسر لا غير : إذا دخل البئر ، فأصابته ريح من ريح البئر ، فغشي عليه ، أو دار رأسه . قال الشاعر : قد أترك القرن مصفراً أنامله
يميد في الريح ميداً الأسن
الأشراط : العلامات ، واحدها شرط ، بسكون الراء وبفتحها . قال أبو الأسود : فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا
فقد جعلت أشراط أوله تبدو
وأشرط الرجل نفسه : ألزمها أموراً . قال أوس بن حجر : فأشرط فيها نفسه وهو معصم
فألقى بأسباب له وتوكلا
العسل : معروف ، وعسل بن ذكوان رجل نحوي قديم . المعي : مقصور ، وألفه منقلبة عن ياء ، يدل عليه تثنيته معيان ، بقلب الألف ياء . والمعي : ما في البطن من الحوايا . القفل : معروف ، وأصله اليبس والصلابة . والقفل والقفيل : ما يبس من الشجر . والقفيل أيضاً : نبت ، والقفيل : السوط ؛ وأقفله الصوم : أيبسه ، قاله الجوهري . آيفاً وآنفاً : هما اسما فاعل ، ولم يستعمل فعلهما ، والذي استعمل ائتنف ، وهما بمعنى مبتديا ، وتفسيرهما بالساعة تفسير معنى . وقال الزجاج : هو من استأنفت الشيء ، إذا ابتدأته . فأولى لهم ، قال صاحب الصحاح : قول العرب أولى لك : تهديد وتوعيد ، ومنه قول الشاعر : فأولى ثم أولى ثم أولى
وهل للدار يحلب من مرد
انتهى . واختلفوا ، أهو اسم أو فعل ؟ فذهب الأصمعي إلى أنه بمعنى قاربه ما يهلكه ، أي نزل به ، وأنشد : تعادى بين هاديتين منها
وأولى أن يزيد على الثلاث
أي : قارب أن يزيد . قال ثعلب : لم يقل أحد في أولى أحسن مما قال الأصمعي . وقال المبرد : يقال لمن هم(8/71)
" صفحة رقم 72 "
بالعطب ، كما روي أن أعرابياً كان يوالي رمي الصيد فينفلت منه فيقول : أولى لك رمي صيداً فقاربه ثم أفلت منه ، وقال : فلو كان أولى يطعم القوم صيدهم ولكن أولى يترك القوم جوّعا
والأكثرون على أنه اسم ، فقيل : هو مشتق من الولي ، وهو القرب ، كما قال الشاعر :
تكلفني ليلى وقد شط وليها
وعادت عواد بيننا وخطوب
وقال الجرجاني : هو ما حول من الويل ، فهو أفعل منه ، لكن فيه قلب . الضغن والضغينة : الحقد . قال عمرو بن كلثوم :
فإن الضغن بعد الضغن يغشو
عليك ويخرج الداء الدفينا
وقد ضغن بالكسر ، وتضاغن القوم وأضغنوا : بطنوا الأحقاد . وقد ضغن عليه ، وأضغنت الصبي : أخذته تحت حضنك ، وأنشد الأحمر :
كأنه مضغن صبيا
وقال ابن مقبل :
ما اضطغنت سلاحي عند معركها
وفرس ضاغن : لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب . وأصل الكلمة من الضغن ، وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء . وقال بشر :
كذات الضغن تمشي في الزقاق
وأنشد الليث :
إن فتاتي من صليات القنا
ما زادها التثقيف إلا ضغنا
والحقد في القلب يشبه به . وقال قطرب :
والليث أضغن العداوة
قال الشاعر : قل لابن هند ما أردت بمنطق
نشأ الصديق وشيد الأضغانا(8/72)
" صفحة رقم 73 "
لحنت له : بفتح الحاء ، ألحن لحناً : قلت له قولاً يفهمه عنك ويخفى عن غيره ؛ ولحنه هو بالكسر : فهمه ؛ وألحنه : فهمه ؛ وألحنته أنا إياه ولاحنت الناس : فاطنتهم . وقال الشاعر : منطق صائب ويلحن أحيا
نا وخير الحديث ما كان لحنا
وقال القتال الكلابي : ولقد وميت لكم لكيما تفهموا
ولحنت لحناً ليس بالمرتاب
وقيل : لحن القول : الذهاب عن الصواب ، مأخوذ من اللحن في الإعراب . وتره : نقصه ، مأخوذ من الدخل . وقيل من الوتر ، وهو الفرد .
( الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ ).
هذه السورة مدنية عند الأكثر . وقال الضحاك ، وابن جبير ، والسدي : مكية . وقال ابن عطية : مدنية بإجماع ، وليس كما قال ، وعن ابن عباس ، وقتادة : أنها مدنية ، إلا آية منها نزلت بعد حجة ، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت ، وهي : ) وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ ( الآية . ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جداً .
( الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( : أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه ، وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال ابن عباس : وهم المطعمون يوم بدر . وقال مقاتل : كانوا اثني عشر رجلاً من أهل الشرك ، يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر ، وقيل : هم أهل الكتاب ، صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام . وقال الضحاك : ) عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( : عن بيت الله ، يمنع قاصديه ، وهو عام في كل من كفر وصد . ) أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( : أي أتلفها ، حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع ، بل ضرر محض . وقيل : نزلت هذه الآية ببدر ، وأن الإشارة بقوله : ) أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر . وقيل : المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية ، من صلة رحم وفك عان ونحو ذلك ؛ واللفظ يعم جميع ذلك .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( : هم الأنصار . وقال مقاتل : ناس من قريش . وقيل : مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : هو عام ؛ وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين ، فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن . ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ ( : تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به ، تعظيم لشأن الرسول ، وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به . وأكد ذلك بالجملة الأعتراضية التي هي : ) وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ ). وقيل : ) وَهُوَ الْحَقُّ ( : ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ . وقرأ الجمهور(8/73)
" صفحة رقم 74 "
نزل مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي ، وابن مقسم : نزل مبنياً للفاعل ؛ والأعمش : أنزل معدى بالهمزة مبنياً للمفعول . وقرىء : نزل ثلاثياً . ) كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( : أي حالهم ، قاله قتادة ؛ وشأنهم ، قاله مجاهد ؛ وأمرهم ، قاله ابن عباس . وحقيقة لقظ البال أنها بمعنى الفكر ، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب . فإذا صلح ذلك ، فقد صلحت حاله ، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم ، وغير ذلك من الحال تابع .
محمد : ( 3 ) ذلك بأن الذين . . . . .
( ذالِكَ ( : إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم ، وبالمؤمنين من تكفير سيآتهم وإصلاح حالهم . وذلك مبتدأ وما بعده الخبر ، أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك ، أي كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً . انتهى . ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار . والباطل : ما لا ينتفع به . وقال مجاهد : الشيطان وكل ما يأمر به ؛ والحق : هو الرسول والشرع ، وهذا الكلام تسميه علماء البيان : التفسير . ) كَذالِكَ يَضْرِبُ ( : قال ابن عطية : الإشارة إلى اتباع المذكورين من الفريقين ، أي كما اتبعوا هذين السبيلين ، كذلك يبين أمر كل فرقة ، ويجعل لها ضربها من القول وصفها ؛ وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع . وقال الزمخشري : كذلك ، أي مثل ذلك الضرب . ) يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( لأجل الناس ليعتبروا بهم . فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ؛ أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئآت مثلاً لفوز المؤمنين .
محمد : ( 4 ) فإذا لقيتم الذين . . . . .
( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي في أي زمان لقيمتوهم ، فاقتلوهم . وفي قوله : ) فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( ، أي في أي مكان ، فعم في الزمان وفي المكان . وقال الزمخشري : لقيتم ، من اللقاء ، وهو الحرب . انتهى . ) فَضَرْبَ الرّقَابِ ( : هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر ، وهم مطرد فيه ، وهو منصوب بفعل محذوف فيه ، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل : هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر ؛ وقيل : هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه ، ومثاله : ضرباً زيداً ، كما قال الشاعر : على حين ألهى الناس جل أمورهم
فندلاً زريق المال ندل الثعالب
وهذا هو الصحيح ، ويدل على ذلك قوله : ) فَضَرْبَ الرّقَابِ ( ، وهو إضافة المصدر للمفعول ، ولو لم يكن معمولاً له ، ما جازت إضافته إليه . وضرب الرقاب عبارة عن القتل ؛ ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، عبر بذلك عن القتل ، ولا يراد خصوصية الرقاب ، فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن تضرب الرقاب ، وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء . ويقال : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه ، إذا قتله ، كما عبر بقوله : ) بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم ( عن سائر الأفعال ، لما كان أكثر الكسب منسوباً إلى الأيدي . قال الزمخشري : وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه . وقد زاد في هذه في قوله : ) فَوْقَ الاعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ). انتهى . ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين ، وأنهم من الكفار بحيث هم متمسكون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم . ) حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ ( : أي أكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للضرب ، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى ، ( فَإِمَّا مَنًّا ( بالإطلاق ، ( وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ( : أي أثقالها وآلاتها . ومنه قول عمرو بن معدي كرب :(8/74)
" صفحة رقم 75 "
وأعددت للحرب أوزارها
رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
أنشده ابن عطية لعمرو هذا ، وأنشده الزمخشري للأعشى . وقيل : الأوزار هنا : الآثام ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين ، وهذه الغاية . قال مجاهد : حتى ينزل عيسى بن مريم . وقال قتادة : حتى يسلم الجميع : وقيل : حتى تقتلوهم . وقال ابن عطية : وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضيع أوزارها ، فجاء هذه ، كما تقول : أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد أنك تفعله دائماً . وقال الزمخشري : وسميت ، يعني آلات الحرب من السلاح والكراع ، أوزارها ، لأنه لما لم يكن لها بد من جرها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ؛ فإذا انقضت ، فكأنها وضعتها . وقيل : أوزارها : آثامها ، يعني حتى يترك أهل الحرب ، وهم المشركون ، شركهم ومعاصيهم ، بأن يسلموا . والظاهر أن ضرب الرقاب ، وهو القتل مغياً بشد الوثاق وقت حصول الإثخان ، وأن قوله : ) فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ( ، أي بعد الشذ ، ( وَإِمَّا فِدَاء ( ، حالتان للمأسور ، إما أن يمن عليه بالإطلاق ، كما منّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بإطلاق ثمامة بن أثال الحنفي ، وإما أن يفدى ، كما روي عنه عليه السلام أنه فودي منه رجلان من الكفار برجل مسلم .
وهذه الآية معارض ظاهرها لقوله تعالى : ) فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ). فذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي ، والضحاك ، ومجاهد ، إلى أنها منسوخة بقوله : ) فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( الآية ، وأن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن يسلم . وروي نحوه عن أبي بكر الصديق ، وذهب ابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، والحسن ، إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك ، والمنّ والفداء ثابت . وقال الحسن : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل الكتاب فيهم المنّ والفداء وعباد الأوثان ، ليس فيهم إلا القتل ، فخصصوا من المشركين أهل الكتاب ، وخصص من الكفار عبدة الأوثان . وأما مذهب الأئمة اليوم : فمذهب أبي حنيفة أن الإمام يخير في القتل والاسترقاق ؛ ومذهب الشافعي أنه مخير في القتل والاسترقاق والفداء والمن ؛ ومذهب مالك أنه مخير في واحد من هذه الأربعة ، وفي ضرب الجزية . والظاهر أن قوله : ) وَإِمَّا فِدَاء ( ، يجوز فداؤه بالمال وبمن أسر من المسلمين . وقال الحسن : لا يفدى بالمال . وقرأ السلمي : فشدوا ، بكسر الشين ، والجمهور : بالضم . والوثاق : بفتح الواو ، وفيه لغة الوثاق ، وهو اسم لما يوثق به ، وانتصب مناً وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما ، أي فإما تمنون مناً ، وإما تفدون فداء ، وهو فعل يجب إضماره ، لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة ، فعامله مما يجب إضماره ، ونحوه قول الشاعر : لأجهدنّ فإما درء واقعة
تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
أي : فإما أدرأ درأ واقعة ، وإما أبلغ بلوغ السؤل . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا مفعولين ، أي أدوهم منا واقبلوا ، وليس إعراب نحوي . وقرأ ابن كثير في رواية شبل : وإما فدى بالقصر . قال أبو حاتم : لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته ، وهذا ليس بشيء ، فقد حكى الفراء فيه أربع لغات : فداء لك بالمد والإغراء ، وفدى لك بالكسر بياء(8/75)
" صفحة رقم 76 "
والتنوين ، وفدى لك بالقصر ، وفداء لك . والظاهر من قوله : ) فَإِمَّا مَنًّا ( : المن بالإطلاق ، كما منّ الرسول عليه الصلاة والسلام على ثمامة ، وعلى أبي عروة الحجبي . وفي كتاب الزمخشري : كما منّ على أبي عروة الحجبي ، وأثال الحنفي ، فغير الكنية والاسم ، ولعل ذلك من الناسخ ، لا في أضل التصنيف . وقيل : يجوز أن يراد بالمنّ : أي يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا ، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وكونهم من أهل الذمة .
والظاهر أن قوله : ) حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ( غاية لقوله : ) فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ ( ، لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان . فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين ، إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة ، فيجوز ، لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها . إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك ، ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار ، ويجوز أن يكون المغيا محذوفاً يدل عليه المعنى ، التقدير : الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها ، أي لا يبقى شوكة لهم . أو كما قال ابن عطية : إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة ، أي اصنعوا ذلك دائماً . وقال الزمخشري : فإن قلت : حتى بم تعلقت ؟ قلت : لا يخلو من أن تتعلق إما بالضرب والشد ، أو بالمنّ والفداء . فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله : أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى بن مريم ؛ وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد . فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، إلى أن تناول المن والفداء ، يعني : بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا ، أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة ، وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين . وقد رواه الطحاوي مذهباً لأبي حنيفة ؛ والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره ، خيفة أن يعودوا حدباً للمسلمين . ) ذالِكَ ( أي الأمر ذلك إذا فعلوا .
( ذالِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ( : أي لا أنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك ، من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق ، أو موت جارف . ) وَلَاكِن لّيَبْلُوَ ( : أي ولكن : أمركم بالقتال ليبلو بعضكم ، وهم المؤمنون ، أي يختبرهم ببعض ، وهم الكافرون ، بأن يجاهدوا ويصبروا ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب . وقرأ الجمهور : قاتلوا ، بفتح القاف والتاء ، بغير ألف ؛ وقتادة ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحفص : قتلوا مبنياً للمفعول ، والتاء خفيفة ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، والجحدري أيضاً : كذلك . وقرأ علي : ) فَلَن يُضِلَّ ( مبنياً للمفعول ؛ ) أَعْمَالَهُمْ ( : رفع . وقرىء : يضل ، بفتح الياء ، من ضل أعمالهم : رفع .
محمد : ( 5 ) سيهديهم ويصلح بالهم
) سَيَهْدِيهِمْ ( : أي إلى طريق الجنة . وقال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطؤون ، لأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا ، لا يستبدلوا عليها .
محمد : ( 6 ) ويدخلهم الجنة عرفها . . . . .
وروى عياض عن أبي عمرو : ) وَيُدْخِلُهُمُ ( ، و ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( ، و ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ( ، بسكون لام الكلمة . ) عَرَّفَهَا لَهُمْ ( ، عن مقاتل : أن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله . وقال أبو سعيد الخدري ، ومجاهد ، وقتادة : معناه بينها لهم ، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها . وفي الحديث لأحدكم بمنزلة في الجنة أعرف منه بمنزلة في الدنيا . وقيل : سماها لهم ورسمها كل منزل بصاحبه ، وهذا نحو من التعريف . يقال : عرف الدار وأرفها : أي حددها ، فجنة كل أحد مفرزة عن غيرها . والعرف والأرف : الحدود . وقيل : شرفها لهم ورفعها وعلاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها . وقال مؤرج وغيره : طيبها ، مأخوذ من العرف ، ومنه : طعام معرف : أي مطيب ، أي وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل .
محمد : ( 7 ) يا أيها الذين . . . . .
( إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ ( : أي دينه ، ( يَنصُرْكُمُ ( : أي على أعدائكم ، بخلق القوة فيكم ، وغير ذلك من المعارف . ) وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ( : أي في مواطن الحرب ، أو على محجة الإسلام . وقرأ الجمهور : ) وَيُثَبّتْ ( : مشدداً ، والمفضل عن عاصم : مخففاً .
محمد : ( 8 ) والذين كفروا فتعسا . . . . .
( فَتَعْساً لَّهُمْ ( : قال ابن عباس : بعد الهم ؛ وابن جريج ، والسدي : حزناً لهم ؛ والحسن : شتماً ؛ وابن زيد : شقاء ؛ والضحاك : رغماً ؛ وحكى النقاش : قبحاً . ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( : مبتدأ ، والفاء داخلة في(8/76)
" صفحة رقم 77 "
خبر المبتدأ وتقديره : فتعسهم الله تعساً . فتعساً : منصوب بفعل مضمر ، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله : ) وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ). ويجوز أن يكون الذين منصوباً على إضمار فعل يفسره قوله : ) فَتَعْساً لَّهُمْ ( ، كما تقول : زيداً جدعاً له . وقال الزمخشري : فإن قلت : على م عطف قوله : وأضل أعمالهم ؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعساً ، لأن المعنى : فقال تعساً لهم ، أو فقضى تعساً لهم ؛ وتعساً لهم نقيض لعى له . انتهى . وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى ، لأن فيه دلالة على ما حذف . وقال ابن عباس : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار . انتهى . وفي قوله : ) فَتَعْساً لَّهُمْ ( : أي هلاكاً بأداة تقوية لقلوب المؤمنين ، إذ جعل لهم التثبيت ، وللكفار الهلاك والعثرة .
محمد : ( 9 - 10 ) ذلك بأنهم كرهوا . . . . .
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ( : يشمل ما أنزل من القرآن في بيان التوحيد ، وذكر البعث والفرائض والحدود ، وغير ذلك مما تضمنه القرآن . ) فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( : أي جعلها من الأعمال التي لا تزكوا ولا يعتد بها . ) دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( : أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها . تلك العاقبة والتدميرة التي يدل عليها دمّر والهلكة ، لأن التدمير يدل عليها ، أو السنة ، لقوله عز وجل : ) سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ ). والوجه الأول هو الراجح ، لأن العاقبة منطوق بها ، فعاد الضمير على الملفوظ به ، وما بعده مقول القول . ) ذَلِكَ بِأَنَّ ( : ابتداء وخبر ، والإشارة بذلك إلى النصر في اختيار جماعة ، وإلى الهلاك ، كما قال : ) وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( ،
محمد : ( 11 ) ذلك بأن الله . . . . .
قال ذلك الهلاك الذي جعل للكفار بأيدي المؤمنين بسبب ) إِنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُمُ ( : أي ناصرهم ومؤيدهم ، وأن الكافرين لا ناصر لهم ، إذ اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر ، وتركوا عبادة من ينفع ويضر ، وهو الله تعالى .
قال قتادة : نزلت هذه الآية يوم أُحُد ، ومنها انتزع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رده على أبي سفيان حين قال : ( قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ) ، حين قال المشركون : إن لنا عزى ، ولا عزى لكم .
( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاْنْعَامُ ).
محمد : ( 12 ) إن الله يدخل . . . . .
( يَتَمَتَّعُونَ ( : أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل ، ( وَيَأْكُلُونَ ( ، غافلين غير مفكرين في العاقبة ، ( كَمَا تَأْكُلُ الاْنْعَامُ ( في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح . والكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير المصدر ، كما يقول سيبويه ، أي يأكلونه ، أي الأكل مشبهاً أكل الأنعام . والمعنى : أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر ، كما يقال للجاهل : يعيش كما يعيش البهيمة ، لا يريد التشبيه في مطلق العيش ، ولكن في لازمه . ) وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ( : أي موضع إقامة .
محمد : ( 13 ) وكأين من قرية . . . . .
ثم ضرب تعالى مثلاً لمكة والقرى المهلكة على عظمها ، كقرية عاد وغيرهم ، والمراد أهلها ، وأسند الإخراج إليها مجازاً . والمعنى : كانوا سبب خروجك ، وذلك وقت هجرته عليه السلام إلى المدينة . وكما جاء في حديث ورقة بن نوفل : يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك ، قال : أو مخرجي هم . وقال ابن عطية : ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ(8/77)
" صفحة رقم 78 "
وقال : ) أَهْلَكْنَاهُمْ ( ، حملاً على المعنى . انتهى . وظاهر هذا الكلام لا يصح ، لأن الضمير في أهلكناهم ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج ، بل إلى أهل القرية في قوله : ) وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ ( ، وهو صحيح ، لكن ظاهر قوله حملاً على اللفظ وحملاً على المعنى : أي أن يكون في مدلول واحد ، وكان يبقى كأين مفلتاً غير محدث عنه بشيء ، إلا أن وقت إهلاكهم كأنه قال : فهم لا ينصرون إذ ذاك . وقال ابن عباس : لما أخرج من مكة إلى الغار ، التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إليّ ، فلو أن المشركين لم يخرجوني ، لم أخرج منك ، فأعدي الأعداء من عدا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله . وقيل : بدخول الجاهلية قال : فأنزل الله تعالى ، ( وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ ( الآية ؛ وقد تقدّم أول السورة عن ابن عباس خلاف هذا القول .
محمد : ( 14 ) أفمن كان على . . . . .
( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ ( : استفهام توقيف وتقرير على كل شيء متفق عليه ، وهي معادلة بين هذين الفريقين . قال قتادة : والإشارة إلى الرسول وإلى كفار قريش . انتهى . واللفظ عام لأهل الصنفين . ومعنى على بينة : واضحة ، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات . ) كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ ( : وهو الشرك والكفر بالله وعبادة غيره . ) وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي شهوات أنفسهم ممن لا يكون له بينة ، فعبدوا غير خالقهم . والضمير في واتبعوا عائد على معنى من ، وقرىء أمن كان بغير فاء .
محمد : ( 15 ) مثل الجنة التي . . . . .
( مَّثَلُ الْجَنَّةِ ( : أي صفة الجنة ، وهو مرفوع بالابتداء . قال الزمخشري : قال النضر بن شميل : كأنه قال : صفة الجنة ، وهو ما تسمعون . انتهى . فما تسمعون الخبر ، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة ، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة . وقال سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، وقدر الخبر المحذوف متقدماً ، ثم فسر ذلك الذي يتلى . وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه قيل : مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف . وكان ابن عطية قد قال قبل هذا : ويظهر أن القصد بالتمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه . فههنا كذا ، فكأنه يتصور عند ذلك اتباعاً على هذه الصورة ، وذلك هو مثل الجنة . قال : وعلى هذه التأويلات ، يعني قول النضر وقول سيبويه ، وما قاله هو يكون قبل قوله : ) كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ ( حذف تقديره : أساكن ؟ أو أهؤلاء ؟ إشارة إلى المتقين . قيل : ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية ، كأنه قال : مثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف ، ( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ ). ويجيء قوله : ) فِيهَا أَنْهَارٌ ( في موضع الحال على هذا التأويل . انتهى . ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . قال : ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبر من هو خالد في النار . وقوله : ) فِيهَا أَنْهَارٌ ( ، في حكم الصلة ، كالتكرير لها . ألا ترى إلى سر قوله : التي فيها أنهار ؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي : فيها أنهار ، كأن قائلاً قال : وما مثلها ؟ فقيل : فيها أنهار .
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : ما معنى قوله : ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ ( ؟ قال : ) كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ ). قلت : هو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه النفي والإنكار ، لانطوائهم تحت كلام مصدر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في مسلكه ، وهو قوله : ) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ ( ، فكأنه قيل : مثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار . فإن قلت : لم على من حرف الإنكار ؟ وما فائدة التعرية ؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من سوى بين المستمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم ، ونظيره قول القائل : أفرح أن أرزأ الكرام وأن
أورث ذوداً شصائصاً نبلا
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريته من حرف الإنكار ، لانطوائه تحت حكم من قال : أتفرح(8/78)
" صفحة رقم 79 "
بموت أخيك ، وبوراثة إبله ؟ والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أزن به ، فكأنه قال : نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام ، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله ، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار . انتهى . وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب : ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ ( مبتدأ ، واختلفوا في الخبر ، فقيل : هو مذكور ، وهو : ) كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ ). وقيل : محذوف ، فقيل : مقدر قبله ، وهو قول سيبويه . وقيل : بعده ، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير . ولما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال ، بين الفرق بينهما فيما يؤولان إليه . وكما قدم من على بينة ، على من اتبع هواه ، قدّم حاله على حاله .
وقرأ ابن كثير وأهل مكة : آسن ، على وزن فاعل ، من أسن ، بفتح السين ؛ وقرىء : غير ياسن بالياء . قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمز . ) لَّمْ يَتَغَيَّرْ ( ، وغيره . و ) لَذَّةٍ ( : تأنيث لذ ، وهو اللذيذ ، ومصدر نعت به ، فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر ، وقرىء بالرفع صفة لأنهار ، وبالنصب : أي لأجل لذة ، فهو مفعول له . ) مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ( قال ابن عباس : لم يخرج من بطون النحل . قيل : فيخالطه الشمع وغيره ، ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير ، وهو مما يذكر ويؤنث . وعن كعب : أن النيل ودجلة والفرات وجيحان ، تكون هذه الأنهار في الجنة . واختلف في تعيين كل ، فهو منها لماذا يكون ينزل ، وبدىء من هذه الأنهار بالماء ، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات ، ثم باللبن ، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر ، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به ، ثم بالعسل ، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم ، فهو متأخر في الهيئة .
( وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( ، وقيل : المبتدأ محذوف ، أي أنواع من كل الثمرات ، وقدره بعضهم بقوله : زوجان . ) وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ ( : لأن المغفرة قبل دخول الجنة ، أو على حذف ، أي بنعيم مغفرة ، إذ المغفرة سبب التنعيم . ) وَسُقُواْ ( : عائد على معنى من ، وهو خالد على اللفظ ؛
محمد : ( 16 - 17 ) ومنهم من يستمع . . . . .
وكذا : ) أَخْرِجُواْ ( : على معنى من يستمع . كان المنافقون يحضرون عند الرسول ويستمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا ، ( قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( ، وهم السامعون كلام الرسول حقيقة الواعون له : ) مَاذَا قَالَ ءانِفاً ( ؟ أي الساعة ، وذلك على سبيل الهزء والاستخفاف ، أي لم نفهم ما يقول ، ولم ندر ما نفع ذلك . وممن سألوه : ابن مسعود . وآنفاً : حال ؛ أي مبتدأ ، أي : ما القول الذي ائتنفه قبل انفصاله عنه ؟ وقرأ الجمهور : آنفاً ، على وزن فاعل ؛ وابن كثير : على وزن فعل . وقال الزمخشري : وآنفاً نصب على الظرف . انتهى . وقال ذلك لأنه فسره بالساعة . وقال ابن عطية ، والمفسرون يقولون : آنفاً ، معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى . انتهى . والصحيح أنه ليس بظرف ، ولا نعلم أحداً من النحاة عده في الظروف . والضمير في ) زَادَهُمْ ( عائد على الله ، كما أظهره قوله : ) طَبَعَ اللَّهُ ( ، إذ هو مقابلهم ، وكما هو في : ) وَأَتَاهُمُ ( ؛ والزيادة في هذا المعنى تكون بزيادة التفهيم والأدلة ، أو بورود الشرع بالأمر والنهي والإخبار ، فيزيد المهدي لزيادة علم ذلك والإيمان به . قيل : ويحتمل أن يعود على قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يعجب به المؤمن ويحمد الله على إيمانه ويزيد نصرة في دينه . وقيل : يعود على قول الرسول ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ ( : أي أعطاهم ، أي جعلهم متقين له ؛ فتقواهم مصدر مضاف للفاعل .
( أَن تَأْتِيهُمُ ( : بدل اشتمال من الساعة ،
محمد : ( 18 ) فهل ينظرون إلا . . . . .
والضمير للمنافقين ؛ أي الأمر الواقع في نفسه انتظار الساعة ، وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك ؛ لأن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل . وقرأ أبو جعفر الرواسي عن أهل مكة : ) ءانٍ تَأْتِهِم ( على الشرط ، وجوابه : ) فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ( ، وهذا غير مشكوك فيه ، لأنها آتية لا محالة . لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك ، ومعناه : إن شككتم في إثباتها فقد جاء أعلامها ؛ فالشك راجع إلى المخاطبين الشاكين . وقال الزمخشري : فإن قلت : فما جزاء الشرط ؟ قلت : قولهم : ) فَأَنَّى لَهُمْ ( ، ومعناه : أن تأتيهم الساعة ، فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم ؟ إذا جاءتهم الساعة يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذ لقوله : ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى ). فإن قلت : بم يتصل قوله ، وقد جاء أشراطها على القراءتين ؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه . وقرأ الجعفي ، وهرون ، عن أبي عمرو : ) بَغْتَةً ( ، بفتح الغين(8/79)
" صفحة رقم 80 "
وشد التاء . قال صاحب اللوامح : وهي صفة ، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات ، بل في الأسماء نحو : الحرية ، وهو اسم جماعة ، والسرية اسم مكان . انتهى . وكذا قال أبو العباس بن الحاج ، من أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين ، في ( كتاب المصادر ) على أبي عمرو : أن يكون الصواب بغتة ، بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم . انتهى . وهذا على عادته في تغليظ الرواية .
( فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ( : أي علاماتها ، فينبغي الاستعداد لها . ومن أشراط الساعة مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ هو خاتم الأنبياء . وروي عنه أنه قال : ( أنا من أشراط الساعة ) . وقال : ( بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان ) . وقيل : منها الدخان وانشقاق القمر . وعن الكلبي : كثرة المال ، والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام . ) فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( : الظاهر أن المعنى : فكيف لهم الذكرى والعمل بها إذا جاءتهم الساعة ؟ أي قد فاتها ذلك . قيل : ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفاً ، أي : فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما كانوا يخبرون به فيكذبون به بتواصله بالعذاب ؟
محمد : ( 19 ) فاعلم أنه لا . . . . .
ثم أضرب عن ذكر المنافقين وقال : ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلائَ اللَّهِ ( ، والمعنى : دم على عملك بتوحيد . واحتج بهذا على قول من قال : أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار . وفي الآية ما يدل على التواضع وهضم النفس ، إذ أمره بالاستغفار ، ومع غيره بالاستغفار لهم .
( مُتَقَلَّبَكُمْ ( : متصرفكم في حياتكم الدنيا . ) وَمَثْوَاكُمْ ( : إقامتكم في قبوركم وفي آخرتكم . وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ومثواكم : إقامتكم في الأرض . وقال الطبري وغيره : متقلبكم : تصرفكم في يقظتكم ، ومثواكم : منامكم . وقيل : متقلبكم في معائشكم ومتاجركم ، ومثواكم حيث تستفزون من منازلكم . وقيل : متقلبكم بالتاء ، وابن عباس بالنون .
( وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ ).
محمد : ( 20 ) ويقول الذين آمنوا . . . . .
كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ . والله تعالى قد جعل ذلك باباً ومضروبة لا يتعدى . فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو ، وفضح أمر المنافقين . والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم ، ولذلك قال بعد ) رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ). وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ، ويتمنونه بألسنتهم ، ويقولون : ) لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ ( في معنى الجهاد . ) فَإِذَا أُنزِلَتْ ( ، وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه ، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم ، كقوله : ) فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ). انتهى ؛ وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و ) لَوْلاَ ( : بمعنى هلا ؛ وعن أبي مالك : لا زائدة ، والتقدير : لو نزلت ، وهذا ليس بشيء . وقرىء : فإذا نزلت . وقرأ زيد بن علي : سورة محكمة ، بنصبهما ، ومرفوع نزلت بضم ، وسورة نصب على الحال . وقرأ هو وابن عمر : ) وَذَكَرَ ( مبنياً للفاعل ، أي الله . ) فِيهَا الْقِتَالُ ( ونصب . الجمهور : برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وبناء وذكر للمفعول ، والقتال رفع به(8/80)
" صفحة رقم 81 "
وإحكامها كونها لا تنسخ . قال قتادة : كل سورة فيها القتال ، فهي محكمة من القرآن ، لا بخصوصية هذه الآية ، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . وقيل : محكمة بالحلال والحرام . وقيل : محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز ، نحو قوله : ) عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( ، ( فِى جَنبِ اللَّهِ ( ، ( فَضَرْبَ الرّقَابِ ).
) رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ( : أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً . ) نَظَرَ الْمَغْشِىّ عَلَيْهِ ( : أي نظراً كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت . وقيل : يفعلون ذلك ، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة . وقيل : من خشية الفضيحة ، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم . وأولى لهم : تقدم شرحه في المفردات . وقال قتادة : كأنه قال : العقاب أولى لهم . وقيل : وهم المكروه ، وأولى وزنها أفعل أو أقلع على الاختلاف ، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات . فعلى قول الجمهور : إنه اسم يكون مبتدأ ، والخبر لهم . وقيل : أولى مبتدأ ، ولهم من صلته وطاعة خبر ؛ وكأن اللام بمعنى الباء ، كأنه قيل : فأولى بهم طاعة . ولم يتعرض الزمخشري لإعرابه ، وإنما قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه . وعلى قول الأصمعي : أنه فعل يكون فاعله مضمراً يدل عليه المعنى . وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال : قارب لهم هو ، أي الهلاك . قال ابن عطية : والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار ، لما معها من القوة ، فيقول ، على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان . وهذه الآية من هذا الباب . ومنه قوله : ) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ). وقول الصديق للحسن رضي الله عنهما : أولى لك انتهى .
محمد : ( 21 ) طاعة وقول معروف . . . . .
والأكثرون على أن : ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ( كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين ، إما الخبر وتقديره : أمثل ، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل ؛ وإما المبتدأ وتقديره : الأمر أو أمرنا طاعة ، أي الأمر المرضي لله طاعة . وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا طاعة ، ويشهد له قراءة أبيّ يقولون : ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ( ، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة . وقال قتادة : الواقف على : ) فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ ( ابتداء وخبر ، والمعنى : أن ذلك منهم على جهة الخديعة . وقيل : طاعة صفة لسورة ، أي فهي طاعة ، أي مطاعة . وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف . ) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ( : أي جد ، والعزم : لم الجد ، وهو لأصحاب الأمر . واستعير للأمر ، كما قال تعالى : ) لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ). وقال الشاعر : قد جدت بهم الحرب فجدوا والظاهر أن جواب إذاً قوله : ) فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ ( ، كما تقول : إذا كان الشتاء ، فلو جئتني لكسوتك . وقيل : الجواب محذوف تقديره : فإذا عزم الأمر هو أو نحوه ، قاله قتادة . ومن حمل ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ( ، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدّرناه ) عَزَمَ الاْمْرُ ( ، فاقفوا وتقاضوا ، وقدره أبو البقاء فأصدّق ، ( فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ ( فيما زعموا من حرصهم على الجهاد ، أو في إيمانهم ، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم ، أو في قلوبهم ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ).
محمد : ( 22 - 23 ) فهل عسيتم إن . . . . .
( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ( : التفات اللذين في قلوبهم مرض ، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم ، وعسى تقدّم الخلاف في لغتها . وفي القراءة فيها ، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة ، واتصال الضمير بها لغة الحجاز ، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير . وقال أبو عبد الله الرازي : وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب ، وأنها لا يتصل بها ضمير قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم ، وعسى أنا أقوم ، فدون ما ذكر تطويل الذي فيه . انتهى . ولا أعلم أحداً من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط ، وهو أن توليتم .
وقرأ الجمهور : ) إِن تَوَلَّيْتُمْ ( ، ومعناه إن(8/81)
" صفحة رقم 82 "
أعرضتم عن الإسلام . وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن ؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول . وقال كعب ، ومحمد بن كعب ، وأبو العالية ، والكلبي : إن توليتم ، أي أمور الناس من الولاية ؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنياً للمفعول . وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن توليتم ) ؛ بضم التاء والواو وكسر اللام ، وبها قرأ علي وأويس ، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل . وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات ، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم . وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم ؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال .
( وَأَنْ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم . ويدل على ذلك ) أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ). فالآيات كلها في المنافقين . وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوباً إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين ، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم . هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا ؟ وقرأ الجمهور : ) تقطعوا ( ، بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو ، في رواية ، وسلام ، ويعقوب ، وأبان ، وعصمة : بالتخفيف ، مضارع قطع ؛ والحسن : وتقطعوا ، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر ، أي أرحامكم ، لأن تقطع لازم . ) بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى المرضى القلوب ، ( فَأَصَمَّهُمْ ( عن سماع الموعظة ، ( وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( عن طريق الهدى . وقال الزمخشري : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه ، وخذلهم حتى عموا . انتهى . وهو على طريق الاعتزال . وجاء التركيب : فأصمهم ، ولم يأت فأصم آذانهم ؛ وجاء : وأعمى أبصارهم ، ولم يأت وأعمامهم . قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الإبصار ، فالعين لها مدخل في الرؤية ، والأذن لها مدخل في السمع . انتهى . ولهذا جاء : ) وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( ، ( وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ ( ، ولم يأت : وعلى آذانهم ، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان . وحين ذكر الأذن ، نسبت إليه الوقر ، وهو دون الصمم ، كما قال : ) وفي آذاننا وقر ).
محمد : ( 24 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . .
( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ( : أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، وهو استفهام توبيخي وتوقيفي على محاربهم . ) أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( : استعارة للذين منهم الإيمان ، وأم منقطعة بمعنى بل ، والهمزة للتقرير ، ولا يستحيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر ، ولم يحتج إلى تعريف القلوب ، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر . ولا حاجة إلى تقدير صفة محذوف ، أي أم على قلوب أقفالها قاسية . وأضاف الأقفال إليها ، أي الأقفال المختصة ، أو هي أقفال الكفر التي استغلقت ، فلا تفتح . وقرىء : إقفالها ، بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، وأقفلها بالجمع على أفعل .
محمد : ( 25 ) إن الذين ارتدوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ( قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود ، وكانوا عرفوا أمر الرسول من التوراة ، وتبين لهم بهذا الوجه ؛ فلما باشروا أمره حسدوه ، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم ماتت قلوبهم . والآية تتناول كل من دخل في ضمن لفظها .
وتقدم الكلام على ) سَوَّلَ ( في سورة يوسف . وقال الزمخشري : سول لهم ركوب العظائم ، من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً . انتهى . وقال أبو علي الفارسي : بمعنى ولا هم من السول ، وهو الاسترخاء والتدلي . وقال غيره : سولهم : رجاهم . وقال ابن بحر : أعطاهم سؤلهم . وقول الزمخشري ، وقد اشتقه إلى آخره ، ليس بجيد ، لأنه توهم أن السول أصله الهمزة . واختلفت المادتان ، أو عين سول واو ، وعين السؤل همزة ؛ والسول له مادتان : إحداهما الهمز ، من سأل يسأل ؛ والثانية الواو ، من سال يسال . فإذا كان(8/82)
" صفحة رقم 83 "
هكذا ، فسول يجوز أن يكون من ذوات الهمز . وقال صاحب اللوامح : والتسويل أصله من الإرخاء ، ومنه : ) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ). والسول : استرخاء البطن . وقرأ زيد بن علي : ) سَوَّلَ لَهُمْ ( : أي كيده على تقدير حذف مضاف . وقرأ الجمهور : ) وَأَمْلَى لَهُمْ ( مبنياً للفاعل ، والظاهر أنه يعود على الشيطان ، وقاله الحسن ، وجعل وعده الكاذب بالبقاء ، كالإبقاء . والإبقاء هو البقاء ملاوة من الدهر يمد لهم في الآمال والأماني . قيل : ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميراً يعود على الله ، وهو الأرجح ، لأن حقيقة الإملاء إنما هو من الله . وقرأ ابن سيرين ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو عمرو ، وعيسى : وأملى مبنياً للمفعول ، أي امهلوا ومدوا في عمرهم . وقرأ مجاهد ، وابن هرمز ، والأعمش ، وسلام ، ويعقوب : وأملي بهمزة المتكلم مضارع أملى ، أي وأنا أنظرهم ، كقوله : ) أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ ( ، ويجوز أن يكون ماضياً سكنت منه الياء ، كما تقول في يعي بسكون الياء .
محمد : ( 26 ) ذلك بأنهم قالوا . . . . .
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ). وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعينون المنافقين في أمر الرسول ، والخلاف عليه بنصره ومؤازرته ، وذلك قوله : ) سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ ). وقيل : الضمير في قالوا للمنافقين ؛ والذين كرهوا مانزل الله : هم قريظة والنضير ؛ وبعض الأمر : قول المنافقين لهم : ) لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ( ، قاله ابن عباس . وقيل : بعض الأمر : التكذيب بالرسول ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه . وقيل : هو قول الفريقين ، اليهود والمنافقين ، للمشركين : سنطيعكم في التكافؤ على عداوة الرسول والقعود عن الجهاد معه ، وتعين في بعض الأمر في بعض ما يأسرون به ، أو في بعض الأمر الذي يهمكم . وقرأ الجمهور : أسرارهم ، بفتح الهمزة ، وكانت أسرارهم كثيرة . وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بكسرها : وهو مصدر ؛ قالوا ذلك سراً فيما بينهم ، وأفشاه الله عليهم . وقال أبو عبد الله الرازي : الأظهر أن يقال : والله يعلم أسرارهم ، ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه السلام ، فإنهم كانوا معاندين مكابرين ، وكانوا يعرفون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كما يعرفون أبناءهم . انتهى .
محمد : ( 27 ) فكيف إذا توفتهم . . . . .
( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ( : تقدم شرح : ) الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( ، ومبلغهم لأجل القتال . وتقدم قول المرتدين ، وما يلحقهم في ذلك من جزائهم على طواعية الكاذبين ما أنزل الله . وتقدم : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( ؛ فجاء هذا الاستفهام الذي معناه التوقيف عقب هذه الأشياء . فقال الطبري : فكيف علمه بها ، أي بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة ؟ وقيل : فكيف يكون حالهم مع الله فيما ارتكبوه من ذلك القول ؟ وقرأ الأعمش : توفاهم ، بألف بدل التاء ، فاحتمل أن يكون ماضياً ومضارعاً حذفت منه التاء ، والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت . وقال ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصيته إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره . والملائكة : ملك الموت والمصرفون معه . وقيل : هو وقت القتال نصرة للرسول ؛ يضرب وجوههم أن يثبتوا ؛ وأدبارهم : انهزموا . والملائكة : النصر . والظاهر أن يضربون حال من الملائكة ؛ وقيل : حال من الضمير في توفاهم ، وهو ضعيف .
محمد : ( 28 ) ذلك بأنهم اتبعوا . . . . .
( ذالِكَ ( : أي ذلك الضرب للوجوه والأدبار ؛ ) بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ( : وهو الكفر ، أو كتمان بعث الرسول ، أو تسويل الشيطان ، أقوال . والمتبع الشيء هو مقبل بوجهه عليه ، فناسب ضرب الملائكة وجهه . ) وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ ( : وهو الإيمان بالله واتباع دينه . والكافر للشيء متول عنه ، فناسب ضرب الملائكة دبره ؛ ففي ذلك مقابلة أمرين بأمرين .
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئا ( سقط : إلى آخر الآية ) ً ((8/83)
" صفحة رقم 84 "
( سقط : في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )
محمد : ( 29 ) أم حسب الذين . . . . .
إخراج أضغانهم ، وهو حقودها : إبرازها للرسول والمؤمنين ؛ والظاهر أنها من رؤية البصر لعطف العرفان عليه ، وهو معرفة القلب . واتصل الضمير في أريناكهم ، وهو الأفصح ، وإن كان يجوز الانفصال . وفي هاتين الجملتين تقريب لشهرتهم ، لكنه لم يعينهم بأسمائهم ، إبقاء عليهم وعلى قراباتهم ، واكتفاء منهم بما يتظاهرون به من اتباع الشرع ، وإن أبطنوا خلافه .
محمد : ( 30 ) ولو نشاء لأريناكهم . . . . .
( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( : كانوا يصطلحون فيما بينهم من ألفاظ يخاطبون بها الرسول ، مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح ، وكانوا أيضاً يصدر منهم الكلام يشعر بالاتباع ، وهم بخلاف ذلك ، كقولهم عند النصر : ) إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ( ، وغير ذلك ، كقولهم : ) لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ( ، وقوله : ) إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ). والظاهر الإراءة والمعرفة بالسيماء ، وجود المعرفة في المستقبل بلحن القول . واللام في : ) وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ ( ، لام جواب القسم المحذوف . ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( : خطاب عام يشمل المؤمن والكافر ؛ وقيل : خطاب للمؤمنين فقط .
محمد : ( 31 ) ولنبلونكم حتى نعلم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ( ، ونبلو : بالنون والواو ؛ وأبو بكر : بالياء فيهن وأويس ، ونبلو : بإسكان الواو وبالنون ؛ والأعمش : بإسكانها وبالياء ، وذلك على القطع ، إعلاماً بأن ابتلاءه دائم . ومعنى : ) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ( : أي نعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود ، وبأن مسكهم الذي يتعلق به ثوابهم .
محمد : ( 32 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : ناس من بني إسرائيل ، وتبين هداهم : معرفتهم بالرسول من التوراة ، أو منافقون كأن الإيمان قد داخل قلوبهم ثم نافقوا ؛ والمطعمون : سفرة بدر ؛ وتبين الهدى : وجوده عند الداعي إليه ، أو مشاعة في كل كافر ؛ وتبين الهدى من حيث كان في نفسه ، أقوال . ) وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( : أي التي كانوا يرجون بها انتفاع ، وأعمالهم التي كانوا يكيدون بها الرسول ودين الإسلام .
محمد : ( 33 ) يا أيها الذين . . . . .
( يا أيها الذين آمنوا ( : قيل نزلت في بني إسرائيل ، أسلموا وقالوا لرسول الله : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، كأنهم منوا بذلك ، فنزلت فيهم هذه الآية . وقوله : ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ( ، فعلى هذا يكون : ) وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( بالمن بالإسلام . وعن ابن عباس : بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشرك والنفاق ؛ وعن حذيفة : بالكبائر ، وقيل : بالعجب ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب . وعن مقاتل : بعصيانكم للرسول . وقيل : أعمالكم : صدقاتكم بالمن والأذى .
محمد : ( 34 - 35 ) إن الذين كفروا . . . . .
( وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ( : عام في الموجب لانتفاء الغفران ، وهو وفاتهم على الكفر . وقيل : هم أهل القليب . وقيل : نزلت بسبب عدي بن حاتم ، رضي الله عنه ، سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن أبيه قال : وكانت له أفعال بر ، فما حاله ؟ فقال : ( في النار ) ، فبكى عدي وولى ، فدعاه فقال له : ( أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار ) ، فنزلت .
( فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( : وهو الصلح . وقرأ الجمهور : وتدعوا ، مضارع دعا ؛ والسلمي : بتشديد الدال ، أي تفتروا ؛ والجمهور : إلى السلم ، بفتح السين ؛ والحسن ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وعيسى ، وطلحة ، وحمزة ، وأبو بكر : بكسرها . وتقدم الكلام على السلام في البقرة في قوله : ) ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً ( وقال الزمخشري : وقرىء : ولا تدعوا من ادعى القوم ، وتداعوا إذا ادعوا ، نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموا . انتهى . والتلاوة بغير لا ، وكان يجب أن يأتي بلفظ التلاوة فيقول : وقرىء : وتدعوا معطوف على تهنوا ، فهو مجزوم ، ويجوز أن يكون مجزوماً بإضمار إن . ) وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( : أي الأعليون ، وهذه الجملة حالية ؛ وكذا : ) وَاللَّهُ مَعَكُمْ ). ويجوز أن يكونا(8/84)
" صفحة رقم 85 "
جملتي استئناف ، أخبر أولاً بقوله : ) أَنتُمْ الاْعْلَوْنَ ( ، فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها ، وهي كون الله تعالى معهم . ) وَلَن يَتِرَكُمْ ( ، قال ابن عباس : ولن يظلمكم ؛ وقيل : لن يعريكم من ثواب أعمالكم ؛ وقيل : ولين ينقصكم . وقال الزمخشري ، وقال أبو عبيد : ) وَلَن يَتِرَكُمْ ( : من وترت الرجل ، إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم أو قريب ؛ قال : أو ذهبت بماله ؛ قال : أو حربته ، وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد . فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) ، أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً .
محمد : ( 36 ) إنما الحياة الدنيا . . . . .
( إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( : وهو تحقير لأثر الدنيا ، أي فلا تهنوا في الجهاد . وأخبر عنها بذلك ، باعتبار ما يختص بها من ذلك ؛ وأما ما فيها من الطاعة وأمر الآخرة فليس بذلك . ) يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ( : أي ثواب أعمالكم من الإيمان والتقوى ، ( وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ). قال سفيان بن عيينة : أي كثيراً من أموالكم ، إنما يسألكم ربع العشر ، فطيبوا أنفسكم . وقيل : لا حاجة إليها ، بل يرجع ثواب إنفاقكم إليكم . وقيل : إنما يسألكم أمواله ، لأنه هو المالك لها حقيقة ، وهو المنعم بإعطائها . وقيل : الضمير في يسألكم للرسول ، أي لا يسألكم أجراً على تبليغ الرسالة ، كما قال : ) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ).
محمد : ( 37 ) إن يسألكموها فيحفكم . . . . .
( ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا جَمِيعاً فَيُحْفِكُمْ ( : أي يبالغ في الإلحاح . ) تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( : أي تطعنون على الرسول وتضيق صدوركم كذلك ، وتخفون دين يذهب بأموالكم . وقرأ الجمهور : ويخرج أضغانكم جزماً على جواب الشرط ، والفعل مسند إلى الله ، أو إلى الرسول ، أو إلى البخل . وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو : ويخرج ، بالرفع على الاستئناف بمعنى : وهو يخرج . وحكاها أبو حاتم ، عن عيسى ؛ وفي اللوامح عن عبد الوارث ، عن أبي عمرو : وتخرج ، بالتاء وفتحها وضم الراء والجيم ؛ أضغانكم : بالرفع ، بمعنى : وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم ، رفع بفعله . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن محيصن ، وأيوب بن المتوكل ، واليماني : وتخرج ، بتاء التأنيث مفتوحة ؛ أضغانكم : رفع به ؛ ويعقوب : ونخرج ، بالنون ؛ أضغانكم : رفعاً ، وهي مروية عن عيسى ، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن ، فالواو عاطفة على مصدر متوهم ، أي يكف بخلكم وإخراج أضغانكم . وهذا الذي خيف أن يعتري المؤمنين ، هو الذي تقرب به محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف ، وتوصل به إلى قتله حين قاله له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال .
محمد : ( 38 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
( هَا أَنتُمْ هَاؤُلاء ( : كررها التنبيه توكيداً ، وتقدم الكلام على هذا التركيب في سورة آل عمران . وقال الزمخشري : هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون ، أي أنتم الذين تدعون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا : وما وصفنا فقيل : تدعون لتنفقوا في سبيل الله . انتهى . وكون هؤلاء موصولاً إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق ، أو من الاستفهامية باختلاف . ) فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( ، قيل : للغزو ، وقيل : الزكاة ، واللفظ أعم . ) وَمَن يَبْخَلْ ( : أي بالصدقة وما أوجب الله عليه ؛ ) فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ( : أي لا يتعدى ضرره لغيره . وبخل يتعدى بعلى وبعن . يقال : بخلت عليه وعنه ، وصليت عليه(8/85)
" صفحة رقم 86 "
وعنه ؛ وكأنهما إذا عديا بعن ضمناً معنى الإمساك ، كأنه قيل : أمسكت عنه بالبخل .
( وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( : أي الغني مطلقاً ، إذ يستحيل عليه الحاجات . وأنتم الفقراء مطلقاً ، لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا ، وإلى الثواب في الآخرة . ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ( : عطف على : ) وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ ( ، أي وإن تتولوا ، أي عن الإيمان والتقوى . ) يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( : أي يخلق قوماً غيركم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كما قال : ) وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ). وتعيين أولئك القوم ، وأنهم الأنصار ، أو التابعون ، أو أهل اليمن ، أو كندة والنخع ، أو العجم ، أو فارس والروم ، أو الملائكة ، أقوال . والخطاب لقريش ، أو لأهل المدينة ، قولان . وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن هذا ، وكان سلمان إلى جنبه ، فوضع يده على فخذه وقال : ( قوم هذا والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس ) . وإن صح هذا الحديث ، وجب المصير في تعيين ما انبهم من قوله : ) قَوْماً غَيْرَكُمْ ( إلى تعيين الرسول . ) ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( : أي في الخلاف والتولي والبخل .(8/86)
" صفحة رقم 87 "
48
( سورة الفتح )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هُوَ الَّذِىأَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا(8/87)
" صفحة رقم 88 "
تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ الَّذِىأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } )
الفتح : ( 1 - 3 ) إنا فتحنا لك . . . . .
ظفر بالشيء : غلب عليه ، وأظفره : غلبه . المعرة : المكروه والمشقة اللاصقة ، مأخوذ من العر والعرة ، وهو الجرب الصعب اللازم . قال الشاعر :
كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع(8/88)
" صفحة رقم 89 "
الشطء : الفراخ ، أشطأ الزرع : أفرخ ، والشجرة : أخرجت غصونها . آزر : ساوى طولاً . قال الشاعر : بمحنية قد آزر الضال نبتها
بجر جيوش غانمين وخيب
أي ساوى نبتها الضال طولاً ، وهو شجر ، ووزنه أفعل لقولهم في المضارع : يوزر .
( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ).
هذه السورة مدنية ، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، ولعل بعضاً منها نزل ، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الحديبية ، سنة ست من الهجرة ، فهي تعد في المدني . ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ( الآية ، وهي خطاب لكفار قريش ، أخبر رسوله بالفتح العظيم ، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال ، وآمن كل من كان بها ، وصارت مكة دار إيمان . ولما قفل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من صلح الحديبية ، تكلم المنافقون وقالوا : لو كان محمد نبياً ودينه حق ، ما صد عن البيت ، ولكان فتح مكة . فأكذبهم الله تعالى ، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه ، إشعاراً بأنه من عند الله ، لا بكثرة عدد ولا عدد ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بأنه مبين ، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد . والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة . وقال الكلبي ، وجماعة : وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال : ) أَضْغَانَكُمْ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ ( الآية ، بين أنه فتح لهم مكة ، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ؛ ولو بخلوا ، لضاع عليهم ذلك ، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم . وأيضاً لما قال : ) وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ( ، بين برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعليين . وأيضاً لما قال : ) فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( ، كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن ، ولادعوا إلى صلح ، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين . وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي ، وإن كان لم يقع ، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه ، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري . وقال الجمهور : هو فتح الحديبية ؛ وقاله : السدي ، والشعبي ، والزهري . قال ابن عطية : وهو الصحيح . انتهى . ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام . وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم . وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى(8/89)
" صفحة رقم 90 "
سألوه الصلح . قال الشعبي : بلغ الهدى محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس ، وأطعموا كل خيبر .
وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم ، وتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف . وقال موسى بن عقبة : قال رجل منصرفهم من الحديبية : ما هذا الفتح ؟ لقد صدونا عن البيت . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح ، ويسألونكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، ورأوا منكم ما كرهوا ) . وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ، ولم ينفد ماؤها بعد .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون فتحاً ، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية ؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً . انتهى . وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان ، وهو الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية . وقال مجاهد : هو فتح خيبر . وفي حديث مجمع بن جارية : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا ، إذ الناس يهزون الأباعر ، فقيل : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قال : فخرجنا نرجف ، فوجدنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس ، قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ). قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح ) . فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية . وقال الضحاك : الفتح : حصول المقصود بغير قتال ، وكان الصلح من الفتح ، وفتح مكة بغير قتال ، فتناول الفتحين : الحديبية ومكة . وقيل : فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه . وقيل : قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل ، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة ، وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ؛ كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً ، بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح . انتهى . وقال ابن عطية : المراد هنا : أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك ، فكأنها صيرورة ، ولهذا قال عليه السلام : ( لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إلييّمن الدنيا ) . انتهى . ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، ولو جاز بحال لجاز : ليقوم زيد ، في معنى : ليقومّن زيد . انتهى . أما الكسر ، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي ، وأما النصب فله أن يقول : ليس هذا نصباً ، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون ، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف ، وبعد هذا ، فهذا القول ليس بشيء ، إذ لا يحفظ من لسانهم : والله ليقوم ، ولا بالله ليخرج زيد ، بكسر اللام وحذف النون ، وبقاء الفعل مفتوحاً . ) وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ( ، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك ، وبفتح مكة والطائف وخيبر ) نَصْراً عَزِيزاً ( ، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصراً فيه عز ومنعة . وأسندت العزة إليه مجازاً ، والعزيز حقيقة هو المنصور ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأعيد لفظ الله في : ) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً ( ، لما بعد عن ما عطف عليه ، إذ في الجملتين قبله(8/90)
" صفحة رقم 91 "
ضمير يعود على الله ، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك . ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر يشترك في إطلاقها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وغيره بقوله تعالى : ) وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( ، وقوله : ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( ؛ وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه ، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر ، واشتركت الخمسة في الخطاب له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، تأنيساً له وتعظيماً لشأنه . ولم يأت بالاسم الظاهر ، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر .
الفتح : ( 4 ) هو الذي أنزل . . . . .
( هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ ( : وهي الطمأنينة والسكون ؛ قيل : بسبب الصلح والأمن ، فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة بعد القتال ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم . وقيل : السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الشرائع ، ليزدادوا إيماناً بها إلى إيمانهم ، وهو التوحيد ؛ روي معناه عن ابن عباس . وقيل : الوقار والعظمة لله ولرسوله . وقيل : الرحمة ليتراحموا ، وقاله ابن عباس . ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى ، ينصر من شاء ، وعلى أي وجه شاء ، ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين .
الفتح : ( 5 - 6 ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات . . . . .
( لّيُدْخِلَ ( : هذه اللام تتعلق ، قيل : بإنا فتحنا لك . وقيل : بقوله : ) لِيَزْدَادُواْ ). فإن قيل : ) وَيُعَذّبَ ( عطف عليه ، والازدياد لا يكون سبباً لتعذيب الكفار ، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن ، كأنه قيل : بسبب ازديادكم في الأيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا . وقيل : بقوله : ) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ ( : أي بالمؤمنين . وهذه الأقوال فيها بعد . وقال الزمخشري : ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، يسلط بعضها على بعض ، كما يقتضيه علمه وحكمته . ومن قضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ، وإن وعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكرون ، فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ، ويعذب الكافرين والمنافقين ، لما غاظهم من ذلك وكرهوه . انتهى . ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلق به اللام ؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام ، وذلك أنه قال : ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي يتلك الجنود من شاء ، فيقبل الخير من قضى له بالخير ، والشر من قضى له بالشر . ) لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ( جنات ، ويعذب الكفار . فاللام تتعلق بيبتلي هذه ، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر . ) وَيُكَفّرْ ( : معطوف على ليدخل ، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع . وكان التبشير بدخول الجنة أهم ، فبدىء به . ولما كان المنافقون أكثر ضرراً على المسلمين من المشركين ، بدىء بذكرهم في التعذيب .
( الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْء ( : الظاهر أنه مصدر أضيف إلى ما يسوء المؤمنين ، وهو أن المشركين يستأصلونهم ولا ينصرون ، ويدل عليه : ) عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء ( ، و ) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ). وقيل : ) ظَنَّ السَّوْء ( : ما يسوء المشركين من إيصال الهموم إليهم ، بسبب علو كلمة الله ، وتسليط رسوله قتلاً وأسراً ونهباً .
الفتح : ( 7 ) ولله جنود السماوات . . . . .
ثم أخبر أنهم يستعلي عليهم السوء ويحيط بهم ، فاحتمل أن يكون خبراً حقيقة ، واحتمل أن يكون هو وما بعده دعاء عليهم . وتقدم الكلام على هذه الجملة في سورة براءة . وقيل : ) ظَنَّ السَّوْء ( يشمل ظنونهم الفاسد من الشرك ، كما قال : ) إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( ، ومن انتفاء رؤية الله تعالى الأشياء وعلمه بها كما قال : ) وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً ( بطلان خلق العالم ، كما قال : ) ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ). وقيل : السوء هنا كما تقول : هذا فعل سوء . وقرأ الحسن : السوء فيهما بضم السين .
( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( : لما تقدم تعذيب الكفار والانتقام منهم ، ناسب ذكر العزة . ولما وعد تعالى بمغيبات ، ناسب ذكر العلم ، وقرن باللفظتين ذكر جنود السموات والأرض ؛ فمنها السكينة التي للمؤمنين والنقمة للمنافقين والمشركين ، ومن جنود الله الملائكة في السماء ، والغزاة في سبيل الله في الأرض .
الفتح : ( 9 ) لتؤمنوا بالله ورسوله . . . . .
وقرأ(8/91)
" صفحة رقم 92 "
الجمهور : ) لّتُؤْمِنُواْ ( ، وما عطف عليه بتاء الخطاب ؛ وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ؛ والجحدري : بفتح التاء وضم الزاي خفيف ؛ وهو أيضاً ، وجعفر بن محمد كذلك ، إلا أنهم كسروا الزاي ؛ وابن عباس ، واليماني : بزاءين من العزة ؛ وتقدم الكلام في وعزّروه في الأعراف . والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى ، وتفريق الضمائر يجعلها للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبعضها لله تعالى ، حيث يليق قول الضحاك . ) بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( ، قال ابن عباس : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر .
الفتح : ( 10 ) إن الذين يبايعونك . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ( : هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة ، حين أخذ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأهبة لقتال قريش ، حين أرجف بقتل عثمان بن عفان ، فقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمراً لا محارباً ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، بايعهم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا على الموت . وقال ابن عمر ، وجابر : على أن لا نفر . والمبايعة : مفاعلة من البيع ، ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ ( ، وبقي اسم البيعة بعد على معاهدة الخلفاء والملوك . ) إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( أي صفقتهم ، إنما يمضيها ويمنح الثمن الله عز وجل . وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : إنما يبايعون لله ، أي لأجل الله ولوجهه ؛ والمفعول محذوف ، أي إنما يبايعونك لله .
( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ). قال الجمهور : اليد هما النعمة ، أي نعمة الله في هذه المبايعة ، لما يستقبل من محاسنها ، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك . وقيل : قوة الله فوق قواهم في نصرك ونصرهم . وقال الزمخشري : لما قال : ) إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( ، أكد تأكيداً على طريقة التخييل فقال : ) يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( ، يريد أن يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) التي تعلو يدي المبايعين ، هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام . وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( ، و ) مِنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ( ، فلا يعود ضرر نكثه إلا على نفسه . انتهى . وقرأ زيد بن علي : ينكث ، بكسر الكاف . وقال جابر بن عبد الله : ما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، زكان منافقاً ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم فحرم . وقرأ الجمهور : ) عَلَيْهِ اللَّهَ ( : بنصب الهاء . وقرىء : بما عهد ثلاثياً . وقرأ الحميدي : ) فَسَيُؤْتِيهِ ( ؛ بالياء ؛ والحرميان ، وابن عامر ، وزيد بن علي : بالنون . ) أَجْراً عَظِيماً ( : وهي الجنة ، وأو في لغة تهامه ، قوله عز وجل :
) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاْعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ ).
الفتح : ( 11 ) سيقول لك المخلفون . . . . .
قال مجاهد وغيره : ودخل كلام بعضهم في بعض . ) الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاْعْرَابِ ( : هم جهينة ، ومزينة ، وغفار ، وأشجع ، والديل ، وأسلم . استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً ، ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ؛ وأحرم هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً ، ورأى(8/92)
" صفحة رقم 93 "
أولئك الأعراب أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة ، وهو الأحابيش ؛ ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم ، فقعدوا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتخلفوا وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله عز وجل في هذه الآية ، وأعلم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك .
( شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ( : وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم ، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم ، وبدؤا بذكر الأموال ، لأن بها قوام العيشذ ؛ وعطفوا الأهل ، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال . وقرىء : شغلتنا ، بتشديد الغين ، حكاه الكسائي ، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان ، عن قتيبة . ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول كان معصية ، سألوا أن يستغفر لهم . ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( : الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار ، لأن قولهم : شغلتنا ، كذب ؛ وطلب الاستغفار : خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون . وقال الطبري : هو راجع إلى قولهم : فاستغفر لنا ، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم .
( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ ( : أي من يمنعكم من قضاء الله ؟ ) إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً ( : من قتل أو هزيمة ، ( أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ( ، من ظفر وغنيمة ؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم ، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى . وقرأ الجمهور : ضراً ، بفتح الضاد ؛ والإخوان : بضمها ، وهما لغتان .
الفتح : ( 12 ) بل ظننتم أن . . . . .
ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم ، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم . وتقدم الكلام على أهل ، وكيف جمع بالواو والنون في قوله : ) مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ). وقرأ عبد الله : إلى أهلهم ، بغير ياء ؛ وزين ، قراءة الجمهور مبنياً للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى . وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازاً . وقرىء : وزين مبنياً للفاعل . ) وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء ( : احتمل أن يكون هو الظن السابق ، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا ، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم . ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف ، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) بُوراً ( : هلكى ، والظاهر أنه مصدر كالهلك ، ولذلك وصف به المفرد المذكر ، كقول ابن الزبعري : يا رسول المليك إن لساني
راتق ما فتقت إذ أنا بور
والمؤنث ، حكى أبو عبيدة : امرأة بور ، والمثنى والمجموع . وقيل : يجوز أن يكون جمع بائر ، كحائل ، وحول هذا في المعتل ، وباذل وبذل في الصحيح ، وفسر بوراً : بفاسدين هلكى . وقال ابن بحر : أشرار . واحتمل وكنتم ، أي يكون المعنى : وصرتم بذلك الظن ، وأن يكون وكنتم على بابها ، أي وكنتم في الأصل قوماً فاسدين ، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن .
الفتح : ( 13 ) ومن لم يؤمن . . . . .
ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور ، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال : ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( ، فهو كافر جزاؤه السعير .
الفتح : ( 14 ) ولله ملك السماوات . . . . .
ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر ، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار ، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة . وقال الزمخشري : ) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر . ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ، رحمته سابقة لرحمته ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة . انتهى . وهو على مذهب الاعتزال .
الفتح : ( 15 ) سيقول المخلفون إذا . . . . .
( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ( : روي أن الله تعالى أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يغزو خيبر ، ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر ، وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة ، وكان كذلك . ) يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ ( : معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة(8/93)
" صفحة رقم 94 "
خيبر ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر ، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئاً ، قاله مجاهد وقتادة ، وعليه عامة أهل التأويل . وقال ابن زيد : ) كَلاَمَ اللَّهِ ( : قوله تعالى : ) قُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا ( ، وهذا لا يصح ، لأن هذه الآية نزلت مرجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من تبوك في آخر عمره . وهذه السورة نزلت عام الحديبية ، وأيضاً فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام ، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب . وقرأ الجمهور : كلام الله ، بألف ؛ والإخوان : كلم الله ، جمع كلمة ، وأمره تعالى أن يقول لهم : ) لَّن تَتَّبِعُونَا ( ، وأتى بصيغة لن ، وهي للمبالغة في النفي ، أي لا يتم لكم ذلك ، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط . ) كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ( : يريد وعده قبل اختصاصهم بها . ) بَلْ تَحْسُدُونَنَا ( : أي يعز عليكم أن نصيب مغنماً معكم ، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون . وقرأ أبو حيوة : بكسر السين ، ثم رد عليهم تعالى كلامهم هذا فقال : ) بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( من أمور الدنيا ، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها ، كقوله : ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ). والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد . والثاني ، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه .
الفتح : ( 16 ) قل للمخلفين من . . . . .
( قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاْعْرَابِ ( : أمر تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يقول لهم ذلك ، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكونوا أهلاً لذلك الأمر . وأبهم تعالى في قوله : ) إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ). فقال عكرمة ، وابن جبير ، وقتادة : هم هوازن ومن حارب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حنين . وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم عام تبوك ، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة . وقال الزهري ، والكلبي : أهل الردة ، وبنو حنيفة باليمامة . وعن رافع بن خديج : إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه ، إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم أريدوا بها . وقال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي ليلى : هم الفرس . وقال الحسن : فارس والروم . وقال أبو هريرة : قوم لم يأتوا بعد . وظاهر الآية يرد هذا القول . والذي أقوله : إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها ، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا ، بل أخبر بذلك مبهماً دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته ، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف ، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر ، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء .
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية ، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام . ومذهب أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه : أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب ، ولا من المرتدين ، وليس إلا الإسلام أو القتل ؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس . ومذهب الشافعي ، رحمه الله تعالى : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس ، دون مشركي العجم والعرب . وقال الزمخشري : وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق ، رضي الله تعالى عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولكن بعد وفاته . انتهى . وهذا ليس بصحيح ، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة ، وحضروا حرب هوازن معر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وحضروا معه في سفرة تبوك . ولا يتم قول الزمخشري : إلا على قول من عين أنهم أهل الردة . وقرأ الجمهور : أو يسلمون ، مرفوعاً ؛ وأبي ، وزيد بن علي : بحذف النون منصوباً بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي ، وبها في قول الجرمي والكسائي ، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين . فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم ، أي يكون قتال أو إسلام ، أي أحد هذين ، ومثله في النصب قول امرىء القيس : فقلت له لا تبك عينك إنما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا(8/94)
" صفحة رقم 95 "
والرفع على العطف على تقاتلونهم ، أو على القطع ، أي أو هم يسلمون دون قتال . ) فَإِن تُطِيعُواْ ( : أي فيما تدعون إليه . ) كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ ( : أي في زمان الخروج مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، في زمان الحديبية . ) يُعَذّبُكُم ( : يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .
الفتح : ( 17 ) ليس على الأعمى . . . . .
( لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( : نفي الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو ، ومع ارتفاع الحرج ، فجائز لهم الغزو ، وأجرهم فيه مضاعف ، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر . وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان أعمى ، في بعض حروب القادسية ، وكان رضي الله عنه يمسك الراية ، فلو حضر المسلمون ، فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو . وقرأ الجمهور : يدخله ويعذبه ، بالياء ؛ والحسن ، وقتادة ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وابن عامر ، ونافع : بالنون ، قوله عز وجل :
) لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ).
الفتح : ( 18 ) لقد رضي الله . . . . .
لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه . والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ، ولذا سميت : بيعة الرضوان ؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين . وقال ابن أبي أوفى : وثلاثمائة .
وأصل هذه البيعة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين نزل الحديبية ، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ، يعلمهم أنه جاء معتمراً ، لا يريد قتالاً . فلما أتاهم وكلمهم ، عقروا جمله وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، وبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأراد بعث عمر . فقال : قد علمت فظاظتي ، وهم يبغضوني ، وليس هناك من بني عدي من يحميني ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم ، عثمان بن عفان . فبعثه ، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت ، معظماً لحرمته . وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه ، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره ، فقالت له قريش : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه . فقال : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من العسكر : قتل عثمان ، فحمى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنون وقالو : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم . فنادى منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : البيعة البيعة ، فنزل روح القدس ، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق . وقال الشعبي : أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي ، والعامل في إذ رضي . والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم ، فهو صفة فعل ، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت ، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك ، أو حالاً من المفعول ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان تحتها جالساً في أصلها . قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه ، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره . بايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : ( أنتم اليوم خير أهل الأرض ) . وكانت الشجرة سمرة .(8/95)
" صفحة رقم 96 "
قال بكير بن الأشجع : يوم فتح مكة . قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها ، فبلغ عمر ، فأمر بقطعها . وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة . وفي الحديث عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان ) .
( فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ ( ، قال قتادة ، وابن جريج : من الرضا بالبيعة أن لا يفروا . وقال الفراء : من الصدق والوفاء . وقال الطبري ، ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته ، والحب في الدين والحرص عليه . وقيل : من الهم والانصراف عن المشركين ، والأنفة من ذلك ، على نحو ما خاطب به عمر وغيره ؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب . والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى ، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول ، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم . وقال مقاتل : فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، ( فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ( حتى بايعوا . قال ابن عطية : وهذا فيه مذمة للصحابة ، رضي الله تعالى عنهم . انتهى .
( وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ( قال قتادة ، وابن أبي ليلى : فتح خيبر ، وكان عقب انصرافهم من مكة . وقال الحسن : فتح هجر ، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناً طويلاً . وقيل : فتح مكة والقرب أمر نسبي ، لكن فتح خيبر كان أقرب . وقرأ الحسن ، ونوح القارىء : وآتاهم ، أي أعطاهم ؛ والجمهور : وأثابهم من الثواب .
الفتح : ( 19 ) ومغانم كثيرة يأخذونها . . . . .
( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ( : أي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً : ذات عقار وأموال ، فقسمها عليهم . وقيل : مغانم هجر . وقيل : مغانم فارس والروم . وقرأ الجمهور : يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم ، وما قبله من ضمير الغيبة . وقرأ الأعمش ، وطلحة ، ورويس عن يعقوب ، ودلبة عن يونس عن ورش ، وأبو دحية ، وسقلاب عن نافع ، والأنطاكي عن أبي جعفر : بالتاء على الخطاب . كما جاء بعد
الفتح : ( 20 ) وعدكم الله مغانم . . . . .
( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ( بالخطاب . وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه ، وتكون إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين .
ولقد اتسع نطاق الإسلام ، وفتح المسلمون فتوحاً لا تحصى ، وغنموا مغانم لا تعد ، وذلك في شرق البلاد وغربها ، حتى في بلاد الهند ، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا . وقدم علينا حاجاً أحد ملوك غانة من بلاد التكرور ، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان ، وأسلموا ، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه . وقيل : الخطاب لأهل البيعة ، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة . وقال زيد بن أسلم وابنه : المغانم الكثيرة مغانم خيبر ؛ ) فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ ( : الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم وابنه . وقال مجاهد : مغانم خيبر .
( وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ ( : أي أهل مكة بالصلح . وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ، ومن كان معهم : إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر ، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم ، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين . وقال ابن عباس أيضاً : أسد وغطفان حلفاء خيبر . وقال الطبري : كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى الحديبية وإلى خيبر . ) وَلِتَكُونَ ( : أي هذه الكفة آية للمؤمنين ، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء حق ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة ، فيكون الضمير في ولتكون عائداً على هذه ، وهي مغانم خيبر ، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم ، أي ليشكروه ولتكون ، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون ، أو يتأخر ، أو يقدر ما يتعلق به متأخراً ، أي فعل ذلك . ) وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( : أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه . وقيل : بصيرة واتقاناً .
الفتح : ( 21 ) وأخرى لم تقدروا . . . . .
( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل : بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون . وقال الضحاك ، وابن زيد ، وابن اسحاق : خيبر . وقال قتادة ، والحسن : مكة ، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد . وفي قوله : ) لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( دلالة على تقدم محاولة لها ، وفوات درك المطلوب في الحال ، كما كان في مكة . وقال الزمخشري : هي مغانم هوازن في غزوة حنين . وقال : ) لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( ، لما كان فيها من الجولة ، وجوز الزمخشري في : ) وَأُخْرَى ( ، أن تكون مجرورة(8/96)
" صفحة رقم 97 "
بإضمار رب ، وهذا فيه غرابة ، لأن رب لم تأت في القرآن جارة ، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب ، فكيف يؤتى بها مضمرة ؟ وإنما يظهر أن ) وَأُخْرَى ( مرفوع بالابتداء ، فقد وصفت بالجملة بعدها ، وقد أحاط هو الخبر . ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى ) قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( : أي وقضى الله أخرى . وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى ) قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك ، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها .
الفتح : ( 22 ) ولو قاتلكم الذين . . . . .
( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ ( : هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى : ) وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ ( ، أهم مشركو مكة ، أو ناصروا أهل خيبر ، أو اليهود ؟ ) لَوَلَّوُاْ الاْدْبَارَ ( : أي لغلبوا وانهزموا .
الفتح : ( 23 ) سنة الله التي . . . . .
( سُنَّةَ اللَّهِ ( : في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، أي سن الله عليه أنبياءه سنة ، وهو قوله : ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ).
الفتح : ( 24 ) وهو الذي كف . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ ( : أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة ، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة . وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها ، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل ، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فلما أحس بهم المسلمون ، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد ، وسماه حينئذ سيف الله ، في جملة من الناس ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة ، وأسروا منهم جملة ، وسيقوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فمنّ عليهم وأطلقهم . وقال قتادة : كان ذلك بالحديبية عند معسكر ، وهو ببطن مكة . وعن أنس : هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته ، فأخذناهم فاستحياهم . وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) دعا عليهم ، فأخذ الله أبصارهم ، فقال لهم : ( هل جئتم في عهد ؟ وهل جعل لكم أحد أماناً ) ؟ قالوا : اللهم لا ، فخلي سبيلهم . وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح ، وبه استشهد أبو حنيفة ، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية ، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . انتهى . وقرأ الجمهور : بما تعملون ، على الخطاب ؛ وأبو عمرو : بالياء ، وهو تهديد للكفار .
الفتح : ( 25 ) هم الذين كفروا . . . . .
( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : يعني أهل مكة . قال ابن خالوية : يقال الهدي والهدى والهداء ، ثلاث لغات . انتهى . وقرأ الجمهور : الهدي ، بسكون الدال ، وهي لغة قريش ؛ وابن هرمز ، والحسن ، وعصمة عن عاصم ، واللؤلؤي ، وخارجة عن أبي عمرو : والهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم ؛ ومعكوفاً : حال ، أي محبوساً . عكفت الرجل عن حاجته : حبسته عنها . وأنكر أبو عليّ تعدية عكف ، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما . وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم ، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم . وقرأ الجعفي ، عن أبي عمرو : والهدي ، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام : أي وعن نحر الهدي . وقرأ : بالرفع على إضمار وصد الهدي ، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة ، قاله مقاتل . وقيل : بسبعين ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت البدنة عن عشرة ، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم .
( أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( ، قال الشافعي : الحرم ، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم ، لا حيث أحصر . وقال الفراء : حيث يحل نحره ، و ) أَن يَبْلُغَ ( : يحتمل أن يتعلق بالصد ، أي وصدوا الهدى ، وذلك على أن يكون بدل اشتمال ، أي وصدوا بلوغ الهدي محله ، أو على أنه مفعول من أجله ، أي كراهة أن يبلغ محله . ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً ، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله ، فيكون مفعولاً من أجله ، ويكون الحبس من المسلمين . أو محبوساً عن أن يبلغ محله ، فيكون الحبس من المشركين ، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين ، غير متميزين عنهم ، ولا معروفي الأماكن ؛ فقال تعالى : ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، ما كف أيديكم عنهم ؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون : ) لَوْ تَزَيَّلُواْ ( ، كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون : ) لَعَذَّبْنَا ( ، هو الجواب . انتهى . وقوله : لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح ، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية . فالمعنى في الأولى : ولولا وطء قوم مؤمنين ، والمعنى في(8/97)
" صفحة رقم 98 "
الثانية : لو تميزوا من الكفار ؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة . و ) ءانٍ ( : بدل اشتمال من رجال وما بعده . وقيل : بدل من الضمير في ) لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ( ، أي لم تعلموا وطأتهم ، أي أنه وطء مؤمنين . وهذا فيه بعد . والوطء : الدوس ، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره . قال الشاعر : ووطئتنا وطأ على حنق
وطء المقيد ثابت الهرم
وفي الحديث : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) . و ) لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ( : صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر ؛ والمعنى : لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون . وقال ابن زيد : المعرة : المأثم . وقال ابن إسحاق : الدية . وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب . وقال الطبري : هي الكفارة . وقال القاضي منذر بن سعيد : المعرة : أن يعنفهم الكفار ، ويقولون قتلوا أهل دينهم . وقيل : الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن . ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال : فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون ؟ قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير . انتهى .
( بِغَيْرِ عِلْمٍ ( : أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحداً لكان من غير قصد ، كقول النملة عن جند سليمان : ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ). وبغير علم متعلق بأن تطؤهم . وقيل : متعلق بقوله : ) فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ ( من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم . وقرأ الجمهور : لو تزيلوا ؛ وابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وأبو حيوة ، وابن عون : لو تزايلوا ، على وزن تفاعلوا ، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى ، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة ، وانتفاء العذاب . ) لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ( : وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو ، ومعنى تزيلوا : لو ذهبوا عن مكة ، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم ، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار ، أي لو افترق بعضهم من بعض .
الفتح : ( 26 ) إذ جعل الذين . . . . .
( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ( : إذ معمول لعذبنا ، أو لو صدوكم ، أو لا ذكر مضمرة . والحمية : الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية ، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ، قال المتلمس : إلا أنني منهم وعرضي عرضهم
كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما
وقال الزهري : حميتهم : أنفتهم عن الإقرار لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو . وقال ابن بحر : حميتهم : عصبيتهم لآلهتهم ، والأنفة : أن يعبدوا وغيرها . وقيل : قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبداً ؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وإنما ذلك محض تعصب لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غوين وإن ترشد غزية أرشد
وحمية : بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان ، فتوقروا وحلموا ؛ و ) كَلِمَةَ التَّقْوَى ( : لا إله إلا الله . روي(8/98)
" صفحة رقم 99 "
ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبه قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن ميمون ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد . وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . وقال علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما : لا إله إلا الله ، والله أكبر . وقال أبو هريرة ، وعطاء الخراساني : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي كلمة أهل التقوى . وقال المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها . وقيل : قولهم سمعاً وطاعة . والظاهر أن الضمير في : ) وَكَانُواْ ( عائد على المؤمنين ، والمفضل عليهم محذوف ، أي ) أَحَقَّ بِهَا ( من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : من اليهود والنصارى ، وهذه الأحقية هي في الدنيا . وقيل : أحق بها في علم الله تعالى . وقيل : ) وَأَهْلُهَا ( في الآخرة بالثواب . وقيل : الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله ، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق .
( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً ( ، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم ، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية ، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم ، وعلو كلمة الإسلام ؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة ، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف .
وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية ، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن . باين بين الفاعلين ، إذ فاعل جعل هو الكفار ، وفاعل أنزل هو الله تعالى ؛ وبين المفعولين ، إذ تلك حمية ، وهذه سكينة ؛ وبين الإضافتين ، أضاف الحمية إلى الجاهلية ، وأضاف السكينة إلى الله تعالى . وبين الفعل جعل وأنزل ؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، والسكينة كالمحفوظ في خزانة الرحمة فأنزلها . والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية ، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى . والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة ، تقول : أكرمني فأكرمته ، فدلت على المجازاة للمقابلة ، ولذلك جعل فأنزل . ولما كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح ، وكان المؤمنون عازمين على القتال ، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر ، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وباسم الله ، قال تعالى : ) عَلَى رَسُولِهِ ). ولما سكن هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) للصلح ، سكن المؤمنون ، فقال : ) وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ). ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ، ألزموا تلك الكلمة ، قال تعالى : ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( ، وفيه تلخيص ، وهو كلام حسن . قوله عز وجل :
) لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ ).
الفتح : ( 27 ) لقد صدق الله . . . . .
رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل خروجه إلي الحديبية . وقال مجاهد : كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا . فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حق . فلما تأخر ذلك ، قال عبد الله أبيّ ، وعبد الله بن نفيل ، ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام . فنزلت . وروي أن رؤياه كانت : أن ملكاً جاءه فقال له : ) لَتَدْخُلُنَّ ). ومعنى(8/99)
" صفحة رقم 100 "
) صَدَقَ اللَّهُ ( : لم يكذبه ، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح . وصدق يتعدى إلى اثنين ، الثاني بنفسه وبحرف الجر . تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقته في الحديث ؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر . وقال الزمخشري : فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى : ) صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ). انتهى . فدل كلامه على أن أصله حرف الجر . وبالحق متعلق بمحذوف ، أي صدقاً ملتبساً بالحق . ) لَتَدْخُلُنَّ ( : اللام جواب قسم محذوف ، ويبعد قول من جعله جواب بالحق ؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق ، وتعليقه على المشيئة ، قيل : لأنه حكاية قول الملك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله ابن كيسان . وقيل : هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى ، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع ، حيث قال تعالى : ) وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ). وقال ثعلب : استثنى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون . وقال الحسن بن الفضل : كأن الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى . وقال أبو عبيدة : وقوم إن بمعنى إذ ، كما قيل في قوله : ) وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ بِكُمْ ). وقيل : هو تعليق في قوله : ) اللَّهُ ءامِنِينَ ( ، لا لأجل إعلامه بالدخول ، فالتعليق مقدم على موضعه . وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقاً على واجب ، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى ، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول . و ) ءامِنِينَ ( : حال مقارنة للدخول . ومحلقين ومقصرين : حال مقدرة ؛ ولا تخافون : بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج .
ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف ، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ( : أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ، ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل . انتهى . ولم يكن فتح مكة في العالم القابل ، إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام ، لأن الفتح إنما كان ثمان من الهجرة . ) فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ ( : أي من قبل ذلك ، أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول . فتحاً قريباً ، قال كثير من الصحابة : هذا الفتح القريب هو بيعة الرضوان . وقال مجاهد وابن إسحاق : هو فتح الحديبية . وقال ابن زيد : خيبر ، وضعف قول من قال إنه فتح مكة ، لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك .
الفتح : ( 28 ) هو الذي أرسل . . . . .
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ( : فيه تأكيد لصدق رؤياه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى : ) لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( ، وتقدم الكلام على معظم هذه الآية . ) وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( على أن ما وعده كائن . وعن الحسن : شهيداً على نفسه أنه سيظهر دينك .
الفتح : ( 29 ) محمد رسول الله . . . . .
والظاهر أن قوله : ) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ( مبتدأ وخبر . وقيل : رسوله الله صفة . وقال الزمخشري : عطف بيان ، ( وَالَّذِينَ ( معطوف ، والخبر عنه وعنهم أشداء . وأجاز الزمخشري أن يكون محمد خبر مبتدأ محذوف ، أي هو محمد ، لتقدم قوله : ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ). وقرأ ابن عامر في رواية : رسوله الله بالنصب على المدح ، والذين معه هم من شهد الحديبية ، قاله ابن عباس . وقال الجمهور : جميع أصحابه أشداء ، جمع شديد ، كقوله : ) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ). ) رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( ، كقوله : ) أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ، وكقوله : ) وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( ، وقوله : ) بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ). وقرأ الحسن : أشداء رحماء بنصبهما . قيل : على المدح ، وقيل : على الحال ، والعامل فيهما العامل في معه ، ويكون الخبر عن المتبدأ المتقدم : تراهم . وقرأ يحيى بن يعمر : أشدا ، بالقصر ، وهي شاذة ، لأن قصر الممدود إنما يكون في الشعر ، نحو قوله : لا بد من صنعا وإن طال السفر وفي قوله : ) تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ( دليل على كثرة ذلك منهم . وقرأ عمرو بن عبيد : ورضواناً ، بضم الراء . وقرىء : سيمياهم ، بزيادة ياء والمد ، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر ، قال الشاعر :(8/100)
" صفحة رقم 101 "
غلام رماه الله بالحسن يافعا
له سيمياء لا تشق على البصر
وهذه السيما ، قال مالك بن أنس : كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب . وقال ابن عباس ، وخالد الحنفي ، وعطية : وعد لهم بأن يجعل لهم نوراً يوم القيامة من أثر السجود . وقال ابن عباس أيضاً : السمت : الحسن وخشوع يبدو على الوجه . وقال الحسن ، ومعمر بن عطية : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجه من السهر . وقال عطاء ، والربيع بن أنس : حسن يعتري وجوه المصلين . وقال منصور : سألت مجاهداً : هذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهي أقسى قلباً من الحجارة . وقال ابن جبير : ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود . وقال الزمخشري : المراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود . وقوله : ) مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( يفسرها : أي من التأثير الذي يؤثره السجود . وكان كل من العليين ، علي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن العباس أبي الملوك ، يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير . انتهى . وقرأ ابن هرمز : إثر ، بكسر الهمزة وسكون الثاء ، والجمهور بفتحهما . وقرأ قتادة : من آثار السجود ، بالجمع .
( ذالِكَ ( : أي ذلك الوصف من كونهم أشداء رحماء مبتغين سيماهم في وجوههم صفتهم في التوراة . قال مجاهد والفراء : هو مثل واحد ، أي ذلك صفتهم في التوراة والإنجيل ، فيوقف على الإنجيل . وقال ابن عباس : هما مثلان ، فيوقف على ذلك في التوراة ؛ وكزرع : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم كزرع ، أو هم كزرع . وقال الضحاك : المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم الكلام ، ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع ، فعلى هذا يكون كزرع خبر ومثلهم . وقال قتادة : مثل أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قوم ينتبون نباتاً كالزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : ) كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ( ، كقوله : ) وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء ). وقال ابن عطية : وقوله : كزرع ، هو على كلا الأقوال ، وفي أي كتاب أنزل ، فرض مثل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء ، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل . انتهى . وقال ابن زيد : شطأه : فراخه وأولاده . وقال الزجاج : نباته . وقال قطرب : شتول السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الفراء . وقال الكسائي والأخفش : طرفه ، قال الشاعر : أخرج الشطء على وجه الثرى
ومن الأشجار أفنان الثمر
وقرأ الجمهور : شطأه ، بإسكان الطاء والهمزة ؛ وابن كثير ، وابن ذكوان : بفتحهما ؛ وكذلك : وبالمدّ ، أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي ؛ وبألف بدل الهمزة ، زيد بن علي ؛ فاحتمل أن يكون مقصوراً ، وأن يكون أصله الهمز ، فنقل الحركة(8/101)
" صفحة رقم 102 "
وأبدل الهمزة ألفاً . كما قالوا في المرأة والكمأة : المراة والكماة ، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين ، وهو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه . وقرأ أبو جعفر : شطه ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء . ورويت عن شيبة ، ونافع ، والجحدري ، وعن الجحدري أيضاً : شطوه بإسكان الطاء وواو بعدها . وقال أبو الفتح : هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشط إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وقال صاحب اللوامح : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فراخه ، وهو في الحنطة والشعير وغيرهما . وقرأ ابن ذكوان : فأزره ثلاثياً ؛ وباقي السبعة : فآزره ، على وزن أفعله . وقرىء : فازّره ، بتشديد الزاي . وقول مجاهد وغيره : آزره فاعله خطأ ، لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر ، على وزن يكرم ؛ والضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع ، لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل ، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى ، وكذلك أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كانوا أقلة ضعفاء ، فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين . وقال الحسن : آزره : قواه وشدّ أزره . وقال السدي : صار مثل الأصل في الطول . ) فَاسْتَغْلَظَ ( : صار من الرقة إلى الغلظ . ) فَاسْتَوَى ( : أي تم نباته . ) عَلَى سُوقِهِ ( : جمع ساق ، كناية عن أصوله . وقرأ ابن كثير : على سؤقه بالهمز . قيل : وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو الذي قبلها ضمة ، ومنه قول الشاعر : أحب المؤقدين إليّ مؤسي ) يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ( : جملة في موضع الحال ؛ وإذا أعجب الزراع ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ، ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل . و ) لِيَغِيظَ ( : متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة ) لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ). وقال الزمخشري : فإن قلت : ليغيظ بهم الكفار تعليل لماذا ؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به . ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك . ومعنى : ) مِنْهُمْ ( : للبيان ، كقوله تعالى : ) فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ). وقال ابن عطية : وقوله منهم ، لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مدح الجميع . وقال ابن جرير : منهم يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظة . والأجر العظيم : الجنة . وذكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة ، فقرأ مالك هذه الآية وقال : من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقد أصابته هذه الآية ، والله الموفق .(8/102)
" صفحة رقم 103 "
49
( سورة الحجرات )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَائِكَ هُمُ الرَاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاٌّ لْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ قَالَتِ الاٌّ عْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّه(8/103)
" صفحة رقم 104 "
غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلايمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( )
الحجرات : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
التنابز بالألقاب : التداعي بها ، تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ، ويقال : النبز والنزب لقب السوء . اللقب : هو ما يدعى به الشخص من لفظ غير اسمه وغير كنيته ، وهو قسمان : قبيح ، وهو ما يكرهه الشخص لكونه تقصيراً به وذماً ؛ وحسن ، وهو بخلاف ذلك ، كالصديق لأبي بكر ، والفاروق لعمر ، وأسد الله لحمزة ، رضي الله تعالى عنهم . تجسس الأمر : تطلبه وبحث عن خفيه ، تفعل من الجس ، ومنه الجاسوس : وهو الباحث عن العورات ليعلم بها ؛ ويقال لمشاعر الإنسان : الحواس ، بالحاء والجيم . الشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة . فالشعب يجمع القبائل ؛ والقبيلة تجمع العمائر ؛ والعمارة تجمع البطون ؛ والبطن يجمع الأفخاذ ؛ والفخذ يجمع الفصائل . خزيمة شعب ؛ وكنانة قبيلة ؛ وقريش عمارة ؛ وقصي بطن ؛ وهاشم فخذ ؛ والعباس فصيلة . وسميت الشعوب ، لأن القبائل تشعبت منها . وروي عن ابن عباس : الشعوب : البطون ، هذا غير ما تمالأ عليه أهل اللغة ، ويأتي خلاف في ذلك عند قوله : ) وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً ). القبيلة دون الشعب ، شبهت بقبائل الرأس لأنها قطع تقابلت . ألت يألت : بضم اللام وكسرها ألتاً ، ولات يليت وألات يليت ، رباعياً ، ثلاث لغات حكاها أبو عبيدة ، والمعنى نقص . وقال رؤبة : وليلة ذات ندى سريت
ولم يلتني عن سراها ليت
أي : لم يمنعني ولم يحسبني . وقال الحطيئة : أبلغ سراة بني سعد مغلظة
جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
) وَأَجْراً عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ ( سقط : إلى آخر الآية ) ). (8/104)
" صفحة رقم 105 "
هذه السورة مدنية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، ثم قال : ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه ، فقال تعالى : ) عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ).
وكانت عادة العرب ، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء ، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك . قال قتادة : فربما قال قوم : ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا . وقال الحسن : ذبح قوم ضحايا قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئاً بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك . فقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا ، وقدمت فيه إذ قلت فيه .
وقرأ الجمهور : لا تقدموا ، فاحتمل أن يكون متعدياً ، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم ، فلم يقصد لشيء معين ، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع . واحتمل أن يكون لازماً بمعنى تقدم ، كما تقول : وجه بمعنى توجه ، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف ، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء ، أو بما يحبون . ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم . لا تقدموا ، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم ، وحذفت التاء تخفيفاً ، إذ أصله لا تتقدموا . وقرأ بعض المكيين : تقدموا بشد التاء ، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها ، كقراءة البزي . وقرىء : لا تقدموا ، مضارع قدم ، بكسر الدال ، من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليها ، والمكان المسامت وجه الرجل قريباً منه . قيل : فيه بين يدي المجلوس إليه توسعاً ، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار ، وهي في قوله : ) بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ ( ، مجاز من مجاز التمثيل . وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها ؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة ؛ والمعنى : لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل ، أو مقتدين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا ، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه الله على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم . ولما نهى أمر بالتقوى ، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه . ) إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ( لأقوالكم ، ( عَلِيمٌ ( بنياتكم وأفعالكم .
الحجرات : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
ثم ناداهم ثانياً ، تحريكاً لما يلقيه إليهم ، واستعباداً لما يتجدد من الأحكام ، وتطرية للإنصات . ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت . ) لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ ( : أي إذا نطق ونطقتم ، ( وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ ( إذا كلمتموه ، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل ، ولا يكون الكلام مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كالكلام مع غيره . ولما نزلت ، قال أبو بكر رضي الله عنه : لاأكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله . وعن عمر رضي الله عنه ، أنه كان يكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كأخي السرار ، لا يسمعه حتى يستفهمه . وكان أبو بكر ، إذا قدم على الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم ، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء ، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفراً ، والمخاطبون مؤمنون . ) كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ( : أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام ، فلم ينهوا إلا(8/105)
" صفحة رقم 106 "
عن جهر مخصوص . وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبحضرة العالم ، وفي المساجد .
وعن ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جهير الصوت ، وحديثه في انقطاعه في بيته أياماً بسبب ذلك مشهور ، وأنه قال : يا رسول الله ، لما أنزلت ، خفت أن يحبط عملي ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنك من أهل الجنة ) . وقال له مرة : ( أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً ) ؟ فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة ، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة . ) أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ( : إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافاً ، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة ؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على عادته ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وغض الصوت عنده ، أن لو فعل ذلك ، كأنه قال : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . وأن تحبط مفعول له ، والعامل فيه ولا تجهروا ، على مذهب البصريين في الاختيار ، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار ، ومع ذلك ، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر . وقرأ عبد الله وزيد بن علي : فتحبط بالفاء ، وهو مسبب عن ما قبله .
الحجرات : ( 3 ) إن الذين يغضون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ ( ، قيل : نزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله تعالى عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار . ) امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( : أي جربت ودربت للتقوى ، فهي مضطلعة بها ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأن تحقيق الشيء باختباره ، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها . وقيل : أخلصها للتقوى من قولهم : امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه ، فخلص إبريزه من خبثه . وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة ، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده ، جائياً بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم . وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بغض أصواتهم ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء .
الحجرات : ( 4 ) إن الذين ينادونك . . . . .
( إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ ( : نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم . وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) راقد ، فجعلوا ينادونه بجملتهم : يا محمد ، أخرج إلينا . فاستيقظ فخرج ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ويلك ذلك الله تعالى ) . فاجتمع الناس في المسجد فقالوا : نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا ، نشاعرك ونفاخرك ؛ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ) . فقال الزبرقان لشاب منهم : فخروا ذكر فضل قومك ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدداً ومالاً وسلاحاً ، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعل هو أحسن من فعلنا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيبه : ( قم فأجبه ) ، فقال : ( الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه ، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله ، فمن قالها منع نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً ، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات ) . وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك ، فقال : نحن الكرام فلا حي يعادلنا
فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم النفس عند القحط كلهم
من السيف إذا لم يؤنس الفزع(8/106)
" صفحة رقم 107 "
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فدعا حسان بن ثابت ، فقال له : ( أعدلي قولك فأسمعه ) ، فأجابه : إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد شرعوا سنة للناس تتبع
يوصي بها كل من كانت سريرته
تقوى الإله فكل الخير يطلع
ثم قال حسان في أبيات : نصرنا رسول الله والدين عنوة
على رغم غاب من معد وحاضر
بضرب كأنواع المخاض مشاشة
وطعن كأفواه اللقاح المصادر
وسل أحداً يوم استقلت جموعهم
بضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى
إذا طاب ورد الموت بين العساكر
فنضرب هاماً بالذراعين ننتمي
إلى حسب من جذع غسان زاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرما
على الناس بالحقين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطىء الحصا وأمواتنا من خير أهل المقابر
قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر ، وقد قلت شعراً فاسمعه ، وقال :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس في كل غارة
تكون بنجد أو بأرض التهائم
وإن لنا المرباع في كل معشر
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لحسان : ( قم فأجبه ) ، فقام وقال :
بني درام لا تفخروا إن فخركم
يصير وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم
لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه ) . فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان ، ثم رجع حسان إلى شعره فقال :
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا الله نداً وأسلموا
ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت قد مالت القنا
على هامكم بالمرهفات الصوارم(8/107)
" صفحة رقم 108 "
فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما يضرك ما كان قبل هذا ) ، ثم أعطاهم وكساهم .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه . والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان . وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد . والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص . انتهى . وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما . وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً . قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً . وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضاً .
والحجرات : منازل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكانت تسعة . والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها . وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة . وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو . والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة . وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجمعت إجلالاً له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم . انتهى . وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : ) أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ). والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : ) وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل . وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل .
وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطاً للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى . ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش . ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب . كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه .
الحجرات : ( 5 ) ولو أنهم صبروا . . . . .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ( ، قال الزمخشري : ) أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ( في موضع الرفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم . انتهى ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ ، لا في موضع فاعل . ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف ، كما زعم الزمخشري . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا ، أي(8/108)
" صفحة رقم 109 "
لكان هو ، أي صبرهم خيراً لهم . وقال الزمخشري : في كان ، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو . انتهى ، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر ، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل ، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيراً لهم في الثواب عند الله ، وفي انبساط نفس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقضائه لحوائجهم . وقد قيل : إنهم جاءوا في أسارى ، فأعتق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) النصف وفادى على النصف ، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء . وقيل : لكان صبرهم أحسن لأدبهم . ) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا .
الحجرات : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ ( الآية ، حدث الحرث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت . فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قال لسروات قومه : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقت لي وقتاً إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الخلف ، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه . فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحرث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحرث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى الحرث ، فاستقبل الحرث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحرث ، إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية .
وفاسق وبنبأ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم . وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة . وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبا ما يترتب على كلامه . فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت ، كف عن مجيئهم بما يريه . ) ءانٍ ( : مفعول له ، أي كراهة أن يصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، ( سُوءا بِجَهَالَةٍ ( حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، ( فَتُصْبِحُواْ ( : فتصيروا ، ( عَلَى مَا فَعَلْتُمْ ( : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، ( نَادِمِينَ ( : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع . ومفهوم ) إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ ( : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل . وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( التثبت من الله والعجلة من الشيطان ) . وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول . انتهى . وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق . والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقاً ، فالاحتياط لازم .
الحجرات : ( 7 - 8 ) واعلموا أن فيكم . . . . .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ( : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيد بالنصيحة . ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة ، لأن الله تعالى لا يترك نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعتمد على خبر الفاسق ، بل بين له ذلك . والظاهر أن قوله : ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ( كلام تام ، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلا تخبروه بما لا يصح ، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك .
ثم أخبر تعالى أن رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه ) لَعَنِتُّمْ ( :(8/109)
" صفحة رقم 110 "
أي لشق عليكم . وقال مقاتل : لأتمتم . وقال الزمخشري : والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أن فيكم رسول الله ، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره ، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك ) لَعَنِتُّمْ ( : أي لوقعتم في الجهد والهلاك .
وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الإيقاع ببني المصطلق ، وتصديق قول الوليد ، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصونون ، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ ( : أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . انتهى ، وفيه تكثير . ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً ، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب . وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . وقيل : يطيعكم دون أطاعكم ، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه ، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولاً عليه بدليل قوله في كثير من الأمر ، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك . انتهى ، وهو ملتقط من كلام الزمخشري .
وقال الزمخشري أيضاً : ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية ، كما سبق وكل ذي لب ، وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره . وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا . انتهى ، وهي على طريق الاعتزال . وعن الحسن : حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه ، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب . انتهى . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ ( : التفات من الخطاب إلى الغيبة . ) فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ( ، قال ابن عطية : مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، هذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل . وقال الحوفي : فضلاً نصب على الحال . انتهى ، ولا يظهر هذا الذي قاله . وقال أبو البقاء : مفعول له ، أو مصدر في معنى ما تقدم . وقال الزمخشري : فضلاً مفعول له ، أو مصدر من غير فعله . فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل ؟ قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه ، تقدست أسماؤه ، وصار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى .
والجملة التي هي ) أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ ( اعتراض ، أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من الله . وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً ، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام . ) وَاللَّهُ عَلِيمٌ ( بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ، ( حَكِيمٌ ( حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم . انتهى . أما توجيهه كون فضلاً مفعولاً من أجله ، فهو على طريق الاعتزال . وأما تقديره أو كان ذلك فضلاً ، فليس من مواضع إضمار كان ، ولذلك شرط مذكور في النحو .
( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْر ( سقط : إلى آخر الآية ) ِ ). (8/110)
" صفحة رقم 111 "
( سقط : الآية كاملة )
الحجرات : ( 9 ) وإن طائفتان من . . . . .
سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبيّ بن سلول على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في موضعه ، وتعصب بعضهم لعبد الله ، ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي ، فتجالد الحيان ، قيل : بالحديد ، وقيل : بالجريد والنعال والأيدي ، فنزلت ، فقرأها عليهم ، فاصطلحوا . وقال السدّي : وكانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ، وكان لها زوج من غيرهم ، فوقع بينهم شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه ، فوقع قتال ، فنزلت الآية بسببه . وقرأ الجمهور : ) اقْتَتَلُواْ ( جمعاً ، حملاً على المعنى ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس . وقرأ ابن أبي عبلة : اقتتلتا ، على لفظ التثنية ؛ وزيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير : اقتتلتا على التثنية ، مراعى بالطائفتين . الفريقان اقتتلوا ، وكل واحد من الطائفتين باغ ؛ فالواجب السعي بينهما بالصلح ، فإن لم تصطلحا وأقامتا على البغي قوتلتا ، أو لشبهة دخلت عليهما ، وكل منهما يعتقد أنه على الحق ؛ فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، فإن لجا ، فكالباغيتين ؛ ) فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا ( ، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي . ولم تتعرض الآية من أحكام التي تبغي لشيء إلا لقتالها ، وإلى الإصلاح إن فاءت . والبغي هنا : طلب العلو بغير الحق ، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هو لمن له الأمر من الملوك وولاتهم . وقرأ الجمهور : ) حَتَّى تَفِىء ( ، مضارع فاء بفتح الهمزة ؛ والزهري : حتى تفي ، بغير همزة وفتح الياء ، وهذا شاذ ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز ، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفي شذوذاً .
الحجرات : ( 10 ) إنما المؤمنون إخوة . . . . .
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( : أي إخوة في الدين . وفي الحديث : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ) . وقرأ الجمهور : ) بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( مثنى ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق إثنان ، فإذا كان الإصلاح لازماً بين اثنين ، فهو ألزم بين أكثر من اثنين . وقيل : المراد بالأخوين : الأوس والخزرج . وقرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود ، والحسن : بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وثابت البناني ، وحماد بن سلمة ، وابن سيرين : بين إخوانكم جمعاً ، بالألف والنون ، والحسن أيضاً ، وابن عامر في رواية ، وزيد بن عليّ ، ويعقوب : بين إخوتكم جمعاً ، على وزن غلمة . وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، ويغلب الأخوان في الصداقة ، والإخوة في النسب ، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر ، ومنه ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( ، وقوله : ) أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ).
الحجرات : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ( : هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمّة ، لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها . وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل ، كان يمشي بالنميمة ، وقد أسلم ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاهم ، فنزلت . وقوم مرادف رجال ، كما قال تعالى : ) الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء ( ، ولذلك قابله هنا بقوله : ) وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء ( ، وفي قول زهير : وما أدري وسوف إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
وقال الزمخشري : وهو في الأصل جمع قائم ، كصوم وزور في جميع صائم وزائر . انتهى وليس فعل من أبنية الجموع(8/111)
" صفحة رقم 112 "
إلا على مذهب أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب . وقال أيضاً الزمخشري : وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث ، لأنهن توابع لرجالهن . انتهى . وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ، ليس مختصاً بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل . فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناساً فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة . ) عَسَى أَن يَكُونُواْ ( : أي المسخور منهم ، ( خَيْراً مّنْهُمْ ( : أي من الساخرين بهم . وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيراً من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى . وعن ابن مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلباً .
( وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء ( : روي أن عائشة وحفصة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب . وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت قصيرة . وعن أنس : كان نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعيرن أم سلمة بالقصر . وقالت صفية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد ؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامّة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز .
( وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( : ضم الميم في تلمزوا ، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو . وقال أبو عمرو : هي عربية ؛ والجمهور ؛ بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضاً ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى . ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه . ففي الحديث : ( اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ) . وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه .
( وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ ( : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهياً ، وأما إذا كان حسناً ، فلا ينهى عنه . وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك . وفي الحديث : ( كنوا أولادكم ) . قال عطاء : مخافة الألقاب . وعن عمر : ( أشيعوا الكنى فإنها سنة ) . انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد . فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي : يا أهل أندلس ما عندكم أدب
بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم
والشيخ عندكم يدعى بتلقيب
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه . قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا(8/112)
" صفحة رقم 113 "
أذى . قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور . وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك . وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك ، فقال له مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب .
( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه . وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان . انتهى . وقال الزمخشري : نحو قول الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزغة اعتزالية . وقال الزمخشري : الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق . ) وَمَن لَّمْ يَتُبْ ( : أي عن هذه الأشياء ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( : تشديد وحكم بظلم من لم يتب .
الحجرات : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
( اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ ( : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله . والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد . فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء . فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب . وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز . تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو . وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى . وقيل : الاثم متعلق بتكلم الظان . أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الحزم سوء الظن ) . وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . وفي الحديث : ( أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجماً ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر .
( وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ( ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه . وفي الحديث : ( سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقاً ؟ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إذا قلت باطلاً فذلك البهتان ) ، وفي الصحيحين فقد بهته . وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس . وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها ، إلا أنها قصيرة . فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه ) . وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل(8/113)
" صفحة رقم 114 "
وعرض المسلم مثل دمه في التحريم ) . وفي الحديث المستفيض : ( فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم ) . ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً . انتهى . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل . انتهى . وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر .
وقال تعالى : ) مَيْتًا ( ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت . انتهى . وروي في الحديث : ( ما صام من أكل لحوم الناس ) . وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة . وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا . وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي . وانتصب ميتاً على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجاً ، وقيام زيد مسرعاً . فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع . وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو . ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلون . وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ( ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا التقدير يعطف قوله : ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم .
وقال الزمخشري : ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين . انتهى ، وفيه أيضاً عجرفة العجم . والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً ، وأجرى على قواعد العربية . وقى ل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر .
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية . جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن ؛ ثم نهى ثانياً عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علماً بقوله : ) وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( ؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب . وضمير النصف في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء ؛ ورواها الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه . فأما قوله : ) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبإلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد(8/114)
" صفحة رقم 115 "
والظاهر عطف ) عَبْدُ اللَّهِ ( على ما قبله من الأمر والنهي . قوله عز وجل :
) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ( سقط : إلى آخر الآية ) ٌ ).
الحجرات : ( 13 ) يا أيها الناس . . . . .
قيل : غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، فنزلت . وعن ابن عباس ، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا ابن فلانة ؛ فوبخه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال له : ( إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى ) . ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً . ) مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( : أي من آدم وحواء ، أو كل أحد منكم من أب وأم ، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه ، فلا وجه للتفاخر . ) وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ( : وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت . وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وقيل : الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان . وقال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : الشعب : النسب الأبعد ، والقبيلة : الأقرب ، قال الشاعر : قبائل من شعوب ليس فيهم
كريم قد يعدّ ولا نجيب
وقيل : الشعوب : الموالي ، والقبائل : العرب . وقال أبو روق : الشعوب : الذين ينسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل : الذين ينسبون إلى آبائهم . انتهى . وواحد الشعوب شعب ، بفتح الشين . وشعب : بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين ، والنسب إلى الشعوب شعوبية ، بفتح الشين ، وهم الأمم التي ليست بعرب . وقيل : هم الذين يفضلون العجم على العرب ، وكان أبو عبيدة خارجياً شعوبياً ، وله كتاب في مناقب العرب ، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة . وقرأ الجمهور : ) لِتَعَارَفُواْ ( ، مضارع تعارف ، محذوف التاء ؛ والأعمش : بتاءين ؛ ومجاهد ، وابن كثير في رواية ، وابن محيصن : بإدغام التاء في التاء ؛ وابن عباس ، وأبان عن عاصم : لتعرفوا ، مضارع عرف ؛ والمعنى : أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر ، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب ، فلا ينتمي إلى غير آبائه ، لا التفاخر بالآباء والأجداد ، ودعوى التفاضل ، وهي التقوى . وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة : ( إنما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله ) ، ثم قرأ الآية . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام ، وبالبلاد ، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع ، وأكثره بالأنساب : وأعجب شيء إلى عاقل
فروع عن المجد مستأخره(8/115)
" صفحة رقم 116 "
إذا سئلوا ما لهم من علا
أشاروا إلى أعظم ناخره
ومن ذلك : افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم ، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم ، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح . وقرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ؛ وابن عباس : بفتحها ، وكان قرأ : لتعرفوا ، مضارع عرف ، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا ، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر ، وهو أجود من حيث المعنى . وأما إن كانت لام كي ، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى . فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً ، أي لتعرفوا الحق ، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي .
الحجرات : ( 14 ) قالت الأعراب آمنا . . . . .
( قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا ( ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، قبيلة تجاور المدينة ، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا . وقيل : مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( ، أكذبهم الله في دعوى الإيمان ، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه ، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم ، وهذا في أعراب مخصوصين . فقد قال الله تعالى : ) وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( الآية .
( وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( ، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم ، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً ، ولم يواطىء أقوالكم ما في قلوبكم ، فلذلك قال : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( : وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار ، وتبين أن قوله : ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً ، لأنك إذا نفيت بلم ، جاز أن يكون النفي قد انقطع ، ولذلك يجوز أن تقول : لم يقم زيد وقد قام ، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار . فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار ، لم يجز أن تقول : وقد قام ، لتكاذب الخبرين . وأما لما ، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار ، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب . والظاهر أن قوله : ) لَّمّاً يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب . وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة ؛ قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( هو تكذيب دعواهم ، وقوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله : ) قُولُواْ ). انتهى .
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا : ) قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( غير مقيد بحال ، وأن ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ ( إخبار غير قيد في قولهم . وقال الزمخشري : وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد . انتهى ، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما ، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار ، ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لقد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل . فإذا نفي ما دل على التوقع ، فكيف يتوهم أنه يقع بعد : ) وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( بالإيمان والأعمال ؟ وهذا فتح لباب التوبة . وقرأ الجمهور : ) لاَ يَلِتْكُمْ ( ، من لات يليت ، وهي لغة الحجاز . والحسن والأعرج وأبو عمرو : ولا يألتكم ، من ألت ، وهي لغة غطفان وأسد .
الحجرات : ( 15 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( ، ثم تقتضي التراخي ، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان ، فقيل : من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان ، أي ثم أقول لم يرتابوا . وقيل : قد يخلص الإيمان ، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه ، فنفي ذلك ، فحصل التراخي ، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة ، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( : أي في قولهم آمنا ، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم ، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال . وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية ، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا ، وهم كاذبون في ذلك .
الحجرات : ( 16 ) قل أتعلمون الله . . . . .
( قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ( ، هي منقولة من : علمت به ، أي شعرت به ، ولذلك تعدّت إلى واحد(8/116)
" صفحة رقم 117 "
بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف ، وفي ذلك تجهيل لهم ، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى . ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض .
الحجرات : ( 17 ) يمنون عليك أن . . . . .
ويقال : منّ عليهم بيد أسداها إليه ، أي أنعم عليه . المنة : النعمة التي لا يطلب لها ثواب ، ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً ، أي يعتدون عليك أن أسلموا ، فإن أسلموا في موضع المفعول ، ولذلك تعدى إليه في قوله : ) قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ ). ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله ، أي يتفضلون عليك بإسلامهم . ) أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( بزعمكم ، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين ، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ). وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ ، إذ هداكم ، جعلا إذ مكان إن ، وكلاهما تعليل ، وجواب الشرط محذوف ، أي ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ، فهو المانّ عليكم .
الحجرات : ( 18 ) إن الله يعلم . . . . .
وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم : يعلمون ، بياء الغيبة ، والجمهور : بتاء الخطاب .(8/117)
" صفحة رقم 118 "
50
( سورة ق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قوَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاٌّ رْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِىأَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاٌّ رْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وَكَم(8/118)
" صفحة رقم 119 "
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاٌّ رْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( )
ق : ( 1 ) ق والقرآن المجيد
بسقت النخلة بسوقاً : طالت ، قال الشاعر : لنا خمر وليست خمر كرم
ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا
وفات ثمارها أيدي الجناة
وبسق فلان على أصحابه : أي علاهم ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة : يا ابن الذين بمجدهم
بسقت على قيس فزاره
ويقال : بسقت الشاة : ولدت ، وأبسقت الناقة : وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج فهي مبسق ، ونوق مباسق . حاد عن الشيء : مال عنه ، حيوداً وحيدة وحيدودة . الوريد : عرق كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال . وقال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين . وقال الأثرم : هو نهر الجسد ، هو في القلب : الوتين ، وفي الظهر : الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا ، وفي الخنصر : الأسلم . وقال الزمخشري : والوريدان عرقان مكتنفان بصحفتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين ، يردان من الرأس إليه ، سمي وريداً لأن الروح ترده . قال : كان وريديه رشا صلب ) ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ(8/119)
" صفحة رقم 120 "
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاْيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين . وقال صاحب التحرير : قال ابن عباس ، وقتادة : مكية إلا آية ، وهي قوله تعالى : ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا ، لم يكن إيمانهم حقاً ، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ ). وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث ، فلذلك أعقبه به . وق حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، فأطرحت نقلها في كتابي هذا .
( وَالْقُرْءانِ ( مقسم به و ) الْمَجِيدِ ( صفته ، وهو الشريف على غيره من الكتب ، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده ، وتقديره : أنك جئتهم منذراً بالبعث ، فلم يقبلوا .
ق : ( 2 ) بل عجبوا أن . . . . .
( بَلْ عَجِبُواْ ( ، وقيل : ما ردوا أمرك بحجة . وقال الأخفش ، والمبرد ، والزجاج : تقديره لتبعثن . وقيل : الجواب مذكور ، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ؛ وعن ابن كيسان ، والأخفش : ما يلفظ من قول ؛ وعن نحاة الكوفة : بل عجبوا ، والمعنى : لقد عجبوا . وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي . وقيل : ما يبدل القول لديّ ، وهذه كلها أقوال ضعيفة . وقرأ الجمهور : قاف بسكون الفاء ، ويفتحها عيسى ، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال ؛ وبالضم : هارون وابن السميفع والحسن أيضاً ؛ فيما نقل ابن خالويه . والأصل في حروف المعجم ، إذا لم تركب مع عامل ، أن تكون موقوفة . فمن فتح قاف ، عدل إلى الحركات ؛ ومن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ؛ ومن ضم ، فكما ضم قط ومنذ وحيث .
( بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه ، فكان المناسب أن لا يعجبوا ، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى ، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء . والضمير في ) بَلْ عَجِبُواْ ( عائد على الكفار ، ويكون قوله : ) فَقَالَ الْكَافِرُونَ ( تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب ، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر ، فلذلك عجبوا . وقيل : الضمير عائد على الناس ، قيل : لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله ، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن ، ومن خذل ضل وكفر ؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم : ) هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ ( ، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر . وقيل : إلى ما تضمنه الإنذار ، وهو الإخبار بالبعث . وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى المرجع . انتهى ، وفيه بعد .
ق : ( 3 ) أئذا متنا وكنا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أئذأ ( بالاستفهام ، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما . وقرأ الأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن وثاب ، والأعمش ، وابن عتبة عن ابن عامر : إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر ، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة ، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا ، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا . وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء ، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية ، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة . وأما في قراءة الاستفهام ، فالظرف منصوب بمضمر ، أي : أنبعث إذا متنا ؟ وإليه الإشارة بقوله ذلك ، أي البعث .
( ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ، أي مستبعد في الأوهام والفكر . وقال الزمخشري : وإذا منصوب بمضمر معناه : أحين نموت ونبلى نرجع ؟ انتهى . وأخذه من قول ابن جني ، قال ابن جني : ويحتمل أن يكون المعنى : أئذا متنا بعد رجعنا ، فدل رجع بعيد على هذا الفعل ، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع ، وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث . انتهى . وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع ، وأنه من كلام الله تعالى ، لا من كلامهم ، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب .
ق : ( 4 ) قد علمنا ما . . . . .
( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ مِنْهُمْ ( : أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم ، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور ، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع ، لأن من كان عالماً بذلك(8/120)
" صفحة رقم 121 "
كان قادراً على رجعهم . وقال السدي : أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، وهذا يتضمن الوعيد . ) وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( : أي حافظ لما فيه جامع ، لا يفوت منه شيء ، أو محفوظ من البلى والتغير . وقيل : هو عبارة عن العلم والإحصاء . وفي الخبر الثابت أن الأرض تأكل ابن آدم الأعجب الذنب ، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم .
ق : ( 5 ) بل كذبوا بالحق . . . . .
( بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( : وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها ، أي ما أجادوا والنظر ، بل كذبوا . وقيل : لم يكذبوا المنذر ، بل كذبوا ، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية . وقال الزمخشري : بل كذبوا : إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات . انتهى . وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول ، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم ، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم : ما أجادوا النظر ، ( بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ ( ، والحق : القرآن ، أو البعث ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو الإسلام ، أقوال . وقرأ الجمهور : ) لَمَّا جَاءهُمْ ( : أي لم يفكروا فيه ، بل بأول ما جاءهم كذبوا ؛ والجحدري : لما جاءهم ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، وما مصدرية ، واللام لام الجر ، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه . ) فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ، قال الضحاك ، وابن زيد : مختلط : مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن . قال قتادة : مختلف . وقال الحسن : ملتبس . وقال أبو هريرة : فاسد . ومرجت أمانات الناس : فسدت ، ومرج الدين : اختلط . قال أبو واقد : ومرج الدين فأعددت له
مسرف الحارك محبوك الكند
وقال ابن عباس : المريج : الأمر المنكر ، وعنه أيضاً مختلط ، وقال الشاعر : فجالت والتمست لها حشاها
فخر كأنه خوط مريج
والأصل فيه الاضطراب والقلق . مرج الخاتم في أصبعي ، إذا قلق من الهزال . ويجوز أن يكون الأمر المريج ، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم ، ثم العجب منهم ، ثم استعباد البعث الذي أنذر به ، ثم التكذيب لما جاء به .
ق : ( 6 ) أفلم ينظروا إلى . . . . .
( أَفَلَمْ يَنظُرُواْ ( حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي ، ( كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ( مرتفعة من غير عمد ، ( وَزَيَّنَّاهَا ( بالنيرين وبالنجوم ، ( وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( : أي من فتوق وسقوف ، بل هي سليمة من كل خلل .
ق : ( 7 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
( وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( : بسطناها ، ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ ( ، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ ، ( مِن كُلّ زَوْجٍ ( : أي نوع ، ( بَهِيجٍ ( : أي حسن المنظر بهيج ، أي يسر من نظر إليه .
ق : ( 8 ) تبصرة وذكرى لكل . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ( بالنصب ، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما ، أي بصر وذكر . وقيل : مفعول من أجله . وقرأ زيد بن علي : تبصرة بالرفع ، وذكر معطوف عليه ، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة ، والمعنى : يتبصر بذلك ويتذكر ، ( كُلٌّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( : أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه .
ق : ( 9 ) ونزلنا من السماء . . . . .
( مَاء مُّبَارَكاً ( : أي كثير المنفعة ، ( وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( : أي الحب الحصيد ، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، كما يقوله البصريون ، والحصيد : كل ما يحصد مما له حب ، كالبر والشعير .
ق : ( 10 ) والنخل باسقات لها . . . . .
( بَاسِقَاتٍ ( : أي طوالاً في العلو ، وهو منصوب على الحال ، وهي حال مقدرة ، لأنها حالة الإنبات ، لم تكن طوالاً . وباسقات جمع . ) وَالنَّخْلَ ( اسم جنس ، فيجوز أن يذكر ، نحو قوله : ) نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( ، وأن يؤنث نحو قوله تعالى : ) نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ، وأن يجمع باعتبار إفراده ، ومنه باسقات ، وقوله : ) وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ). والجمهور : باسقات بالسين . وروى قطبة بن مالك ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أنه قرأ : باصقات بالصاد ، وهي(8/121)
" صفحة رقم 122 "
لغة لبني العنبر ، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها ، أو فصل بحرف أو حرفين ، خاء أو عين أو قاف أو طاء . ) لَّهَا طَلْعٌ ( : تقدم شرحه عند ) مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ).
) نَّضِيدٌ ( : أي منضود بعضه فوق بعض ، بريد كثرة الطلع وتراكمه ، أي كثرة ما فيه من الثمر . وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان ، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد .
ق : ( 11 ) رزقا للعباد وأحيينا . . . . .
و ) رِزْقاً ( نصب على المصدر ، لأن معنى : وأنبتنا رزقنا ، أو على أنه مفعول له . وقرأ الجمهور : ) مَيْتًا ( بالتخفيف ؛ وأبو جعفر ، وخالد : بالتثقيل ، والإشارة في ذلك إلى الإحياء ، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم ، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت ، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث .
وذكر تعالى في السماء ثلاثة : البناء والتزين ونفي الفروج ، وفي الأرض ثلاثة : المد وإلقاء الرواسي والإنبات . قابل المد بالبناء ، لأن المد وضع والبناء رفع . وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب ، لارتكاز كل واحد منهما . والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج ، فلا شق فيها . ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله ، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة ، وعلى ما اختلط من جنسين ، فبعض الثمار فاكهة لا قوت ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت .
ق : ( 12 - 14 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
ولما ذكر تعالى قوله : ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( ، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، تسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وطلحة ، ونافع : الأيكة بلام التعريف ؛ والجمهور : ليكة . ) كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ( : أي كلهم ، أي جميعهم كذب ؛ وحمل على لفظ كل ، فأفرد الضمير في كذب . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد به كل واحد منهم . انتهى . والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف . وأجاز محمد بن الوليد ، وهو من قدماء نحاة مصر ، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية ، ويبنى على الضم ، كما يبنى قبل وبعد ، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين ، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير ، وهو علي بن سليمان . ) فَحَقَّ وَعِيدِ ( : أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم ، وفي ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول .
قوله عز وجل : ) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ).
ق : ( 15 ) أفعيينا بالخلق الأول . . . . .
( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( : وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج ، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى : ) وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ ). وقرأ الجمهور : أفعيينا ، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة ، ماضي عيي ، كرضي . وقرأ ابن أبي عبلة ، والوليد بن مسلم ، والقورصبي عن أبي جعفر ، والسمسار عن شيبة ، وأبو بحر عن نافع : بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية ، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل . وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراآت له : أفعينا بتشديد الياء . ابن أبي عبلة ، وفكرت في توجيه هذه القراءة ، إذ لم يذكر أحد توجيهها ، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي ، فقال : عي في عيي ، وحي في حيي . فلما أدغم ، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولم يفك الإدغام فقال : عيناً ، وهي لغة لبعض بكر بن وائل ، يقولون في رددت ورددنا : ردت وردنا ، فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة . فلو كان نا ضمير نصب ، لاجتمعت العرب على الإدغام ، نحو : ردّنا زيد . وقال الحسن : الخلق الأول آدم عليه السلام ، والمعنى : أعجزنا عن الخلق الأول ، فنعجز عن الخلق الثاني ، وهذا توقيف للكفار ، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم . ) بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ ( : أي خلط وشبهة وحيرة ، ومنه قول علي : يا جار إنه لملبوس عليك ،(8/122)
" صفحة رقم 123 "
اعرف الحق تعرف أهله . ) مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( : أي من البعث من القبور .
ق : ( 16 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( : هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث ، والإنسان إسم جنس . وقيل : آدم . ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ ( : قرب علم به وبأحواله ، لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي بعلمه ، وهو منزه عن الأمكنة . و ) حَبْلِ الْوَرِيدِ ( : مثل في فرط القرب ، كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، ومقعد الإزار . قال ذو الرمة :
والموت أدنى لي من الوريد
والحبل : العرق الذي شبه بواحد الحبال ، وإضافته إلى الوريد للبيان ، كقولهم : بعير سانية . أو يراد حبل العاتق ، فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ، والعامل في إذ أقرب . وقيل : اذكر ، قيل : ويحسن تقدير اذكر ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس ، والقرب بالقدرة والملك .
ق : ( 17 ) إذ يتلقى المتلقيان . . . . .
فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر ، وتعين وروده عند السامع . فمنها : ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ ( ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها : النفخ في الصور ، ومنها : مجيء كل نفس معها سائق وشهيد . والمتلقيان : الملكان الموكلان بكل إنسان ؛ ملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئآت . وقال الحسن : الحفظة أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل . وقعيدة : مفرد ، فاحتمل أن يكون معناه : مقاعد ، كما تقول : جليس وخليط : أي مجالس ومخالط ، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، كعليم . قال الكوفيون : مفرد أقيم مقام اثنين ، والاجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي عن اليمين قعيد ، كما قال الشاعر : رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
على أحسن الوجهين فيه ، أي كنت منه برياً ، ووالدي برياً . ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد ، وعن الشمال ، فأخر قعيد عن موضعه . ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع ، فلا يحتاج إلى تقدير .
ق : ( 18 ) ما يلفظ من . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ ( ، وظاهر ما يلفظ العموم . قال مجاهد ، وأبو الحوراء : يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقال الحسن ، وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك . وقيل : هو مخصوص ، أي من قول خير أو شر . وقال : معناه عكرمة ، وما خرج عن هذا لا يكتب . واختلفوا في تعيين قعود الملكين ، ولا يصح فيه شيء . ) رَقِيبٌ ( : ملك يرقب . ) عَتِيدٌ ( : حاضر ، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد ، فأحرى على العمل . وقال الحسن : فإذا مات ، طويت صحيفته . وقيل : له يوم القيامة اقرأ كتابك .
ق : ( 19 ) وجاءت سكرة الموت . . . . .
( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ( : هو معطوف على ) إِذْ يَتَلَقَّى ( ، وسكرة الموت : ما يعتري الإنسان عند نزاعه ، والباء في ) بِالْحَقّ ( للتعدية ، أي جاءت سكرة الموت الحق ، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ، من سعادة الميت أو شقاوته ، أو للحال ، أي ملتبسه بالحق . وقرأ ابن مسعود : سكران جمعاً . ) ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( : أي تميل . تقول : أعيش كذا وأعيش كذا ، فمتى فكر في قرب الموت ، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن . ومن الحيد : الحذر من الموت ، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت . وقال الزمخشري : الخطاب للفاجر . تحيد : تنفر وتهرب .
ق : ( 20 ) ونفخ في الصور . . . . .
( ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ( ، هو على حذف : أي وقت ذلك يوم الوعيد . والإشارة إلى مصدر نفخ ، وأضاف اليوم إلى الوعيد ، وإن كان يوم الوعد والوعيد معاً على سبيل التخويف .
ق : ( 21 ) وجاءت كل نفس . . . . .
وقرأ الجمهور : معها ؛ وطلحة : بالحاء مثقلة ، أدغم العين في(8/123)
" صفحة رقم 124 "
الهاء ، فانقلبتا حاء ؛ كما قالوا : ذهب محم ، يريد معهم ، ( سَائِقٌ ( : جاث على السير ، ( وَشَهِيدٌ ( : يشهد عليه . قال عثمان بن عفان ، ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان ، أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظه يشهد عليه . وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد النبي . وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشوراً ، والظاهر أن قوله : ) سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( اسما جنس ، فالسائق : ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد . وقال ابن عباس ، والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان . قال ابن عطية : وهذا يبعد عن ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله : كل نفس يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره وشره . ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) . وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد العمل . وقال أبو مسلم : السائق شيطان ، وهو قول ضعيف . وقال الزمخشري : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله ؛ أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : كأنه قيل : ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو ، لأنه لو نعت كل نفس ، لما نعت إلا بالنكرة ، فهو نكرة على كل حال ، فلا يمكن أن يتعرف كل ، وهو مضاف إلى نكرة .
قوله عز وجل : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) .
ق : ( 22 ) لقد كنت في . . . . .
قرأ الجمهور : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ ( ، بفتح التاء ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك ؛ والجحدري : بكسرها على مخاطبة النفس . وقرأ الجمهور : ) عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ( ، بفتح التاء والكاف ، حملاً على لفظ كل من التذكير ؛ والجحدري ، وطلحة بن مصرّف : عنك غطاءك فبصرك ، بالكسر مراعاة للنفس أيضاً ، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عن طلحة وحده . قال صاحب اللوامح : ولم أجد عنه في ) لَّقَدْ كُنتَ ). فإن كسر ، فإن الجميع شرع واحد ؛ وإن فتح ) لَّقَدْ كُنتَ ( ، فحمل على كل أنه مذكر . ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس ، وهو مؤنث ، وإن كان كان كذلك ، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى ، مثل قوله : ) فَلَهُ أَجْرُهُ ( ، ثم قال : ) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ). انتهى .
قال ابن عباس ، وصالح بن كيسان ، والضحاك : يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد ، إذا حصل بين يدي الرحمن ، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا ، ويتغافل عن النظر فيها : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا ( : أي من عاقبة الكفر . فلما كشف الغطاء عنك ، احتدّ بصرك : أي بصيرتك ؛ وهذا(8/124)
" صفحة رقم 125 "
كما تقول : فلان حديد الذهن . وقال مجاهد : هو بصر العين ، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة . وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله ، وهو في كتاب ابن عطية . وكنى بالغطاء عن الغفلة ، كأنها غطت جميعه أو عينيه ، فهو لا يبصر . فإذا كان في القيامة ، زالت عنه الغفلة ، فأبصر ما كان لم يبصره من الحق .
ق : ( 23 ) وقال قرينه هذا . . . . .
( وَقَالَ قَرِينُهُ ( : أي من زبانية جهنم ، ( هَاذَا ( : العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر ، ( عَتِيدٌ ( : حاضر ، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل . وقال قتادة : قرينه : الملك الموكل بسوقه ، أي هذا الكافر الذي أسوقه لديّ حاضر . وقال الزهراوي : وقيل قرينه : شيطانه ، وهذا ضعيف ، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله : ) رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف . ولفظ القرين اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، ومماشي الإنسان في طريقة قرين . وقيل : قرينه هنا : عمله قلباً وجوارحاً . وقال الزمخشري : وقال قرينه : هو الشيطان الذي قيض له في قوله ) نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ، يشهد له قوله تعالى : ) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ، ( هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ( ، هذا شيء لدي ، وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه ، وآخر يشهد عليه ، وشيطاناً مقروناً به يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي . انتهى ، وهذا قول مجاهد . وقال الحسن ، وقتادة أيضاً : الملك الشهيد عليه . وقال الحسن أيضاً : هو كاتب سيئاته ، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة ، والظرف صلتها . وعتيد ، قال الزمخشري : بدل أو خير بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف . انتهى . وقرأ الجمهور : عتيد بالرفع ؛ وعبد الله : بالنصب على الحال ، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة .
ق : ( 24 - 26 ) ألقيا في جهنم . . . . .
( أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( : الخطاب من الله للملكين : السائق والشهيد . وقيل : للملكين من ملائكة العذاب ، فعلى هذا الألف ضمير الاثنين . وقال مجاهد وجماعة : هو قول إما للسائق ، وإما للذي هو من الزبانية ، وعلى أنه خطاب للواحد . وقال المبرد معناه : ألق ألق ، فثنى . وقال الفراء : هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين . وقيل : الألف بدل من النون الخفيفة ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذه أقوال مرغوب عنها ، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد . وقرأ الحسن : ألقين بنون التوكيد الخفيفة ، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف . ) كُلَّ كَفَّارٍ ( : أي يكفر النعمة والمنعم ؛ ) عَتِيدٌ ( ، قال قتادة : منحرف عن الطاعة . وقال الحسن : جاحد متمرد . وقال السدي : المساق من العند ، وهو عظم يعرض في الحلق . وقال ابن بحر : المعجب بما فيه .
( مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ ( ، قال قتادة ومجاهد وعكرمة : يعني الزكاة . وقيل : بخيل . وقيل : مانع بني أخيه من الإيمان ، كالوليد بن المغيرة ، كان يقول لهم : من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت ، والأحسن عموم الخير في المال وغيره . ) مُرِيبٍ ( ، قال الحسن : شاك في الله أو في البعث . وقيل : متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار ، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار ، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره ، وهو فألقياه . والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل ، ويكون فألقياه توكيداً . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة ، فجاز وصفه بهذه المعرفة . انتهى . وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة .
ق : ( 27 ) قال قرينه ربنا . . . . .
( قَالَ قرِينُهُ ( : لم تأت هذه الجملة بالواو ، بخلاف ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( قبله ، لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون ، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه ، فكأن الكافر قال ربي هو أطغاني ، ( قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ). وأما ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( فعطف لدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين . وقول قرينه : ما قال له ، ومعنى ما أطغيته : تنزيه لنفسه من أنه أثر فيه ، ( وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( : أي من نفسه لا مني ، فهو الذي استحب العمى على الهدى ، كقوله : ) وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن(8/125)
" صفحة رقم 126 "
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ، وكذب القرين ، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه .
ق : ( 28 ) قال لا تختصموا . . . . .
( قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( : استئناف أيضاً مثل قال قرينه ، كأن قائلاً قال : ما قال الله تعالى ؟ فقيل : ) لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( أي في دار الجزاء وموقف الحساب . ) وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ( لمن عصاني ، فلم أترك لكم حجة .
ق : ( 29 ) ما يبدل القول . . . . .
( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ( : أي عندي ، فما أمضيته لا يمكن تبديله . وقال الفراء : ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور . وقدمت : يجوز أن يكون بمعنى تقدمت ، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ، أو يكون قدم المتعدية ، وبالوعيد هو المفعول ، والباء زائدة ، والتقديم كان في الدنيا ، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة ، فاختلف الزمانان . فلا تكون الجملة من قوله : ) وَقَدْ قَدَّمْتُ ( حالاً إلا على تأويل ، أي وقد صح عندكم أني قدمت ، وصحة ذلك في الآخرة ، فاتفق زمان النهي عن الاختصام ، وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة . ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( : تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران ، والمعنى : لا أعذب من لا يستحق العذاب .
ق : ( 30 ) يوم نقول لجهنم . . . . .
وقرأ يوم يقول ، بياء الغيبة الأعرج ، وشيبة ، ونافع ، وأبو بكر ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالنون ؛ وعبد الله ، والحسن ، والأعمش أيضاً : يقال مبنياً للمفعول وانتصاب يوم بظلام ، أو بأذكر ، أو بأنذر كذلك . قال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول ، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول . انتهى ، وهذا بعيد جداً ، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة ، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته . و ) هَلِ امْتَلاَتِ ( : تقرير وتوقيف ، لا سؤال استفهام حقيقة ، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم . قيل : وهذا السؤال والجواب منها حقيقة . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي نقول لخزنة جهنم ، قاله الرماني . وقيل : السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى ، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا ، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى . فقولها : ) مِن مَّزِيدٍ ( ، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها . وقال الحسن ، وعمرو ، وواصل : كانت ملأى وقت السؤال ، فلا تزداد على امتلائها ، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أو اسم مفعول .
ق : ( 31 - 33 ) وأزلفت الجنة للمتقين . . . . .
( غَيْرَ بَعِيدٍ ( : مكاناً غير بعيد ، وهو تأكيد لأزلفت ، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار . فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان ، فأعربت بإعرابه . وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة . قال : وتذكيره يعني بعيد ، لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث . انتهى . وكونه على وزن المصدر ، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث . وقال الزمخشري أيضاً : أو على حذف الموصوف ، أي شيئاً غير بعيد . انتهى . وكأنه يعني إزلافاً غير بعيد ، هذا إشارة للثواب .
وقرأ الجمهور : ) مَّا تُوعَدُونَ ( ؛ خطاب للمؤمنين ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به ، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل . و ) لِكُلّ أَوَّابٍ ( : هو البدل من المتقين . ) مَّنْ خَشِىَ ( : بدل بعد بدل تابع ) لِكُلّ ( ، قاله الزمخشري . وإنما جعله تابعاً ) لِكُلّ ( ، لا بدلاً من ) لّلْمُتَّقِينَ ( ، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد . قال : ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف أواب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ ، لأن من لا يوصف به ، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي . انتهى . يعني بقوله : في حكم أو أب : أن يجعل من صفته ، وهذا حكم صحيح . وأما قوله : ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي ، فالحصر ليس بصحيح ، قد وصفت العرب بما فيه أل ، وهو موصول ، نحو القائم والمضروب ، ووصفت بذو الطائية ، وذات في المؤنث . ومن كلامهم : بالفضل ذو فضلكم الله به ، والكرامة ذات أكرمك الله به ، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم ، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي ، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك . وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف ، تقديره : يقال لهم ادخلوها ، لأن من في معنى الجمع ، وأن تكون شرطية ، والجواب الفعل المحذوف ، أي فيقال : وأن يكون منادى ، كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب . وقال(8/126)
" صفحة رقم 127 "
ابن عطية : يحتمل أن تكون من نعتاً . انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن من لا ينعت بها ، وبالغيب حال من المفعول ، أي وهو غائب عنه ، وإنما أدركه بالعلم الضروري ، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع . ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي ، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه . وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد ، فيكون حالاً من الفاعل . وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي ، حيث علم أنه واسع الرحمة ، وهو مع ذلك يخشاه .
ق : ( 34 ) ادخلوها بسلام ذلك . . . . .
( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( : أي سالمين من العذاب ، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته . ) ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ ( : كقوله : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( : أي مقدرين الخلود ، وهو معادل لقوله في الكفار : ) ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ).
ق : ( 35 ) لهم ما يشاؤون . . . . .
( لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا ( : أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرمات ، كقوله تعالى : ) وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ). ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( : زيادة ، أو شيء مزيد على ما تشاءون ، ونحوه : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ، وكما جاء في الحديث : ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه ) ، ومزيد مبهم ، فقيل : مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها . وقيل : أزواج من حور الجنة . وقيل : تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه .
قوله عز وجل : ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ).
ق : ( 36 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
أي كثيراً . ) أَهْلَكْنَا ( : أي قبل قريش . ) هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( ، لكثرة قوتهم وأموالهم . وقرأ الجمهور : ) فَنَقَّبُواْ ( ، بفتح القاف مشددة ، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم ، أي دخلوا البلاد من أنقابها . والمعنى : طافوا في البلاد . وقيل : نقروا وبحثوا ، والتنقيب : التنقير والبحث . قال امرؤ القيس في معنى التطواف : وقد نقبت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي : وقد طوفت . وقال الحارث بن خالدة : نقبوا في البلاد من الموت
وجالوا في الأرض كل مجال
وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم ، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه . ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش ، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم ؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس ، وابن يعمر ، وأبي العالية ، ونصر بن يسار ، وأبي حيوة ، والأصمعي عن أبي عمرو : بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة ، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا . وقرىء : بكسر القاف خفيفة ، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم ، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد ، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى . ويحتمل أن يكون ) هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( على إضمار القول ، أي يقولون هل من محيص من الهلاك ؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول ، أي لا محيص(8/127)
" صفحة رقم 128 "
من الموت ، فيكون توفيقاً وتقريراً .
ق : ( 37 ) إن في ذلك . . . . .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ) : أي في إهلاك تلك القرون ، ( لِذِكْرِى ( : لتذكرة واتعاظاً ، ( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( : أي واع ، والمعنى : لمن له عقل وعبر عنه بمحله ، ومن له قلب لا يعي ، كمن لا قلب له . وقرأ الجمهور : ) أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ( ، مبنياً للفاعل ، والسمع نصب به ، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه ، و ) شَهِيدٌ ( : من الشهادة ، وهو الحضور . وقال قتادة : لمن كان له ، قيل : من أهل الكتاب ، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة ، فشهيد من الشهادة . وقرأ السلمي ، وطلحة ، والسدي ، وأبو البر هثيم : أو ألقى مبنياً ، للمفعول ، السمع : رفع به ، أي السمع منه ، أي من الذي له قلب . وقيل : المعنى : أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه ، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن . وذكر لعاصم أنها قراءة السدي ، فمقته وقال : أليس يقول يلقون السمع ؟
ق : ( 38 ) ولقد خلقنا السماوات . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم : إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض ، ( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( : يوم السبت ، واستلقى على العرش ، وقيل : التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود . ) وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( : احتمل أن تكون جملة حالية ، واحتمل أن تكون استئنافاً ؛ واللغوب : الإعياء . وقرأ الجمهور : بضم اللام ، وعلي ، والسلمي ، وطلحة ، ويعقوب ، بفتحها ، وهما مصدران ، الأول مقيس وهو الضم ، وأما الفتح فغير مقيس ، كالقبول والولوع ، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه ، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة .
ق : ( 39 - 40 ) فاصبر على ما . . . . .
( فَاصْبِرْ ( ، قيل : منسوخ بآية السيف ، ( عَلَى مَا يَقُولُونَ ( : أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم ، ( وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( ، أي فصلّ ، ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( ، هي صلاة الصبح ، ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( : هي صلاة العصر ، قاله قتادة وابن زيد والجمهور . وقال ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر . ) وَمِنَ الَّيْلِ ( : صلاة العشاءين ، ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( : ركعتان قبل المغرب . وفي صحيح مسلم ، عن أنس ما معناه : أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب . وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي . وقال بعض التابعين : كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة . وقال ابن زيد : هي العشاء فقط . وقال مجاهد : هي صلاة الليل . ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ، قال أبو الأحوص : هو التسبيح في أدبار الصلوات . وقال عمر ، وعليّ ، وأبو هريرة ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والأوزاعي : هما ركعتان بعد المغرب . وقال ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء . وقال ابن عباس ، ومجاهد أيضاً ، وابن زيد : النوافل بعد الفرائض . وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء ، يقرأ في الأولى : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ، وفي الثانية : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ). وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وطلحة ، وشبل ، وحمزة ، والحرميان : وإدبار بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، تقول : أدبرت الصلاة ، انقضت ونمت . وقال الزمخشري وغيره : معناه ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم . وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة : بفتحها ، جمع دبر ، كطنب وأطناب ، أي وفي أدبار السجود : أي أعقابه . قال أوس بن حجر : على دبر الشهر الحرام فأرضنا
وما حولها جدب سنون تلمع
ق : ( 41 ) واستمع يوم يناد . . . . .
( وَاسْتَمِعْ ( : أمر بالاستماع ، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع ، والمستمع له محذوف تقديره : واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لمعاذ : ( يا معاذ اسمع ما أقول لك ) ، ثم حدثه بعد ذلك . وانتصب ) يَوْمٍ ( بما دل عليه ذلك . ) يَوْمُ الْخُرُوجِ ( : أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . وقيل : مفعول استمع محذوف تقديره : نداء المنادي . وقيل تقديره : نداء الكافر بالويل والثبور . وقيل : لا يحتاج إلى مفعول ، إذ حذف اقتصاراً ، والمعنى : كن مستمعاً ، ولا تكن غافلاً معرضاً . وقيل معنى واستمع : وانتظر(8/128)
" صفحة رقم 129 "
والخطاب لكل سامع . وقيل : للرسول ، أي ارتقبه ، فإن فيه تبين صحة ما قلته ، كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، فيوم منتصب على أنه مفعول به . وقرأ ابن كثير : المنادى بالياء وصلاً ووقفاً ، ونافع ، وأبو عمرو ؛ بحذف الياء وقفاً ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، وباقي السبعة : بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف ، ومن أثبتها فعلى الأصل ، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفاً نصباً ، والتاء هاء ، ويشدّد المخفف ، ويحذف الحرف في القوافي . والمنادي في الحديث : ( أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى ) . ) مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق . قيل : والمنادي إسرافيل ، ينفخ في الصور وينادي . وقيل : المنادي جبريل . وقال كعب ، وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس ، قال كعب : قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب الزمخشري : باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض . انتهى ، ولا يصح ذلك إلا بوحي .
ق : ( 42 ) يوم يسمعون الصيحة . . . . .
( يَوْمَ يَسْمَعُونَ ( : بدل من ) يَوْمٍ يُنَادِى ( ، و ) الصَّيْحَةَ ( : صيحة المنادي . قيل : يسمعون من تحت أقدامهم . وقيل : من تحت شعورهم ، وهي النفخة الثانية ، و ) بِالْحَقّ ( متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر . ) ذالِكَ ( : أي يوم النداء والسماع ، ( يَوْمُ الْخُرُوجِ ( من القبور ، وقيل : الإشارة بذلك إلى النداء ، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر ، أو يكون على حذف ، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج ، أو وقت النداء يوم الخروج .
ق : ( 44 ) يوم تشقق الأرض . . . . .
وقرأ نافع ، وابن عامر : تشقق بشدّ الشين ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها . وقرىء : تشقق بضم التاء ، مضارع شققت على البناء للمفعول ، وتنشق مضارع انشقت . وقرأ زيد بن علي : تشقق بفك الإدغام ، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه ، ويوم بدل من يوم الثاني . وقيل : منصوب بالمصدر ، وهو الخروج . وقيل : المصير ، وانتصب ) سِرَاعاً ( على الحال من الضمير في عنهم ، والعامل تشقق . وقيل : محذوف تقديره يخرجون ، فهو حال من الواو في يخرجون ، قاله الحوفي . ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في ) يَوْمَ تَشَقَّقُ ). ) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( : فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة ، وهو علينا ، أي يسير علينا ، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة . وقال الزمخشري : ) عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ، تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال : ) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ). انتهى ، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص ، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ).
ق : ( 45 ) نحن أعلم بما . . . . .
( نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ( : هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم ، وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( : بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان ، قاله الطبري . وقيل : التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم . ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( : لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر ، إذ لا تنفع فيه الذكرى ، كما قال : ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، وختمت بقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ ( ، افتتحت ب ) ق وَالْقُرْءانِ ). (8/129)
" صفحة رقم 130 "
51
( سورة الذاريات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْألُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاٌّ رْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِىأَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُم(8/130)
" صفحة رقم 131 "
كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاٌّ رْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ } )
الذاريات : ( 1 - 4 ) والذاريات ذروا
الحبك : الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء القائم إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره قال الشاعر : مكلل بأصول النجم ينسجه
ريح خريق لضاحي مائه حبك
والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق ، وواحدها حبيكة ، كطريقة وطرق ، أو حباك ، كمثال ومثل ، قال الراجز : كأنما حللها الحوّاك
طنفسة في وشيها حباك
ويقال : حباك للظفيرة التي يشد بها خطار القصب بكرة ، وهي مستطيلة تصنع في ترحيب الغراسات المصطفة . وقال ابن الأعرابي : حبكت الشيء : أحكمته وأحسنت عمله . قال الفراء : الحبك : تكسر كل شيء . وقال غيره : المحبوك : الشديد الخلق من فرس وغيره . قال امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه
لاحق الأطلين محبوك ممر
الهجود : النوم . السمن : معروف ، وهو امتلاء الجسد بالشحم واللحم . يقال : سمن سمناً فهو سمين ، شذوا في المصدر واسم الفاعل ، والقياس سمن وسمن . وقالوا : سامن ، إذا حدث له السمن . الذنوب : الدلو العظيمة ، قال الراجز : إنا إذا نازلنا غريب
له ذنوب ولنا ذنوب
وإن أبيتم فلنا القليب
وأنشده الزمخشري : لنا ذنوب ولكم ذنوب(8/131)
" صفحة رقم 132 "
ويطلق ، ويراد به الحظ والنصيب ، قال علقمة بن عبدة :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
فحق لشاس من نداك ذنوب
ونسبه الزمخشري لعمرو بن شاس ، وهو وهم في ديوان علقمة . وكان الحارث بن أبي شمر الغساني أسر شاساً أخا علقمة ، فدخل إليه علقمة ، فمدحه بالقصيدة التي فيها هذا البيت ، فلما وصل إلى هذا البيت في الإنشاد قال الحرث : نعم وأذنبه ، وقال حسان :
لا يبعدن ربيعة بن مكرم
وسقى الغوادي قبره بذنوب
وقال آخر :
لعمرك والمنايا طارقات
لكل بني أب منها ذنوب
) وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال فذكر بالقرآن من يخاف وعيد . وقال أول هذه بعد القسم : ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ).
) وَالذرِيَاتِ ( : الرياح : . ) فَالْحَامِلَاتِ ( السحاب . ) فَالْجَارِيَاتِ ( الفلك . ) فَالْمُقَسّمَاتِ ( : الملائكة ، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر ، وقد سأله ابن الكواء ، قاله ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ) فَالْحَامِلَاتِ ( هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم . وقيل : الحوامل من جميع الحيوان . وقيل : الجاريات : السحاب بالرياح . وقيل : الجواري من الكواكب ، وأدغم أبو عمرو وحمزة ) وَالذرِيَاتِ ( في ذال ) ذَرْواً ( ، وذروها : تفريقها للمطر أو للتراب . وقرىء : بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر . ومعنى ) يُسْراً ( : جرياً ذا يسر ، أي سهولة . فيسراً مصدر وصف به على تقدير محذوف ، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال . ) أمْراً ( تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، فأمراً مفعول به . وقيل : مصدر منصوب على الحال ، أي مأموره ، ومفعول المقسمات محذوف . وقال مجاهد : يتولى أمر العباد جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . وجاء في الملائكة : فالمقسمات على معنى الجماعات . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشىء(8/132)
" صفحة رقم 133 "
السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح . انتهى . فإذا كان المدلول متغايراً ، فتكون أقساماً متعاقبة . وإذا كان غير متغاير ، فهو قسم واحد ، وهو من عطف الصفات ، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء ، فأقلت السحاب ، فجرت في الجو باسطة للسحاب ، فقسمت المطر . فهذا كقوله : يا لهف زيابة للحارث الص
ابح فالغانم فالآيب
أي : الذي صبح العدو فغنم منهم ، فآب إلى قومه سالماً غانماً . والجملة المقسم عليها ، وهي جواب القسم ، هي
الذاريات : ( 5 ) إنما توعدون لصادق
) إِنَّمَا تُوعَدُونَ ( ، وما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي توعدونه . ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي أنه وعدكم أو وعيدكم ، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد ، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ، ولأن المقصود التخويف والتهويل . ومعنى صدقة : تحقق وقوعه ، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر . وقال تعالى : ) ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( : أي مصدوق فيه . وقيل : ) لَصَادِقٌ ( ، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر ، ولا حاجة إلى هذا التقدير . وقال مجاهد : الأظهر أن الآية في الكفار ، وأنه وعيد محض .
الذاريات : ( 6 ) وإن الدين لواقع
) وَإِنَّ الدّينَ ( : أي الجزاء ، ( لَوَاقِعٌ ( : أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن .
الذاريات : ( 7 ) والسماء ذات الحبك
والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي السماء السابعة . وقيل : السحاب الذي يظل الأرض .
( ذَاتِ الْحُبُكِ ( : أي ذات الخلق المستوي الجيد ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع . وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : ) ذَاتِ الْحُبُكِ ( : أي الزينة بالنجوم . وقال الضحاك : ذات الطرائق ، يعني من المجرة التي في السماء . وقال ابن زيد : ذات الشدة ، لقوله : ) سَبْعاً شِدَاداً ). وقيل : ذات الصفاقة . وقرأ الجمهور : الحبك بضمتين ؛ وابن عباس ، والحسن : بخلاف عنه ، وأبو مالك الغفاري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو السمال ، ونعيم عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعكرمة : بفتحها ، جمع حبكة ، مثل : طرفة وطرف . وأبو مالك الغفاري ، والحسن : بخلاف عنه ، بكسر الحاء والباء ؛ وأبو مالك الغفاري ، والحسن أيضاً ، وأبو حيوة : بكسر الحاء وإسكان الباء ، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع ، لأن فعلاً ليس من أبنية الجموع ، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين ؛ وابن عباس أيضاً ، وأبو مالك : بفتحهما . قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة ، مثل عقبة وعقب . انتهى . والحسن أيضاً : الحبك بكسر الحاء وفتح الباء ، وقرأ أيضاً كالجمهور ، فصارت قراءته خمساً : الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك . وقرأ أبو مالك أيضاً : الحبك بكسر الحاء وضم الباء ، وذكرها ابن عطية عن الحسن ، فتصير له ست قراءات . وقال صاحب اللوامح ، وهو عديم النظير في العربية : في أبنيتها وأوزانها ، ولا أدري ما رواه . انتهى . وقال ابن عطية : هي قراءة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرها ، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء . انتهى .
وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات ، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة ، ولم يعتد باللام الساكنة ، لأن الساكن حاجز غير حصين . وجواب القسم :
الذاريات : ( 8 ) إنكم لفي قول . . . . .
( إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر ، كما أن جواب القسم السابق يشملهما ، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكتابه وكافراً . وقال ابن زيد : خطاب للكفرة ، فيقولون : ساحر(8/133)
" صفحة رقم 134 "
شاعر كاهن مجنون ، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما يكون متناقضاً مختلفاً . وقيل : اختلافهم في الحشر ، منهم من ينفيه ، ومنهم من يشك فيه . وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم .
الذاريات : ( 9 ) يؤفك عنه من . . . . .
( يُؤْفَكُ ( : أي يصرف عنه ، أي عن القرآن والرسول ، قاله الحسن وقتادة . ) مَنْ أُفِكَ ( : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون ، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ومنهم جاحد . ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك . وقيل : المأفوك عنه محذوف ، وعن هنا للسبب ، والضمير عائد على ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة ، حكاه الزهراوي والزمخشري ، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار ، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر ، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنياً للفاعل ، أي من أفك الناس عنه ، وهم قريش . وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب . وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما ، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً .
الذاريات : ( 10 ) قتل الخراصون
) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( : أي قتل الله الخراصين ، وهم المقدرون ما لا يصح .
الذاريات : ( 11 ) الذين هم في . . . . .
( فِى غَمْرَةٍ ( : في جهل يغمرهم ، ( سَاهُونَ ( : غافلون عن ما أمروا به .
الذاريات : ( 12 ) يسألون أيان يوم . . . . .
( أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( : أي متى وقت الجزاء ؟ سؤال تكذيب واستهزاء ، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله : ) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( ، ( أيان يَوْمِ الدّينِ ( ، فيكون الظرف محلاً للمصدر ،
الذاريات : ( 13 ) يوم هم على . . . . .
وانتصب يوم هم بمضمر تقديره : هو كائن ، أي الجزاء ، قاله الزجاج ، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو يومهم ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن ، وهي الجملة الإسمية . ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني . ) يَوْمَ هُم ( بالرفع ، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء ، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى : ) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ). وقال بعض النحاة : يومهم بدل من ) يَوْمِ الدّينِ ( ، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى ، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء . ولو حكى لفظ قولهم ، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون .
الذاريات : ( 14 ) ذوقوا فتنتكم هذا . . . . .
( ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( : أي يقال لهم ذوقوا . ) هَاذَا الَّذِى ( : مبتدأ وخبر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم ، أي ذوقوا هذا العذاب . انتهى ، وفيه بعد ، والاستقلال خير من البدل . ومعنى تفتنون : تعذبون في النار .
الذاريات : ( 15 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، وانتصب آخذين على الحال ، أي قابليه راضين به ، وذلك في الجنة . وقال ابن عباس :
الذاريات : ( 16 ) آخذين ما آتاهم . . . . .
( ءاخِذِينَ ( : أي في دنياهم ، ( مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( من أوامره ونواهيه وشرعه ، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة .
الذاريات : ( 17 ) كانوا قليلا من . . . . .
والظاهر أن ) قَلِيلاً ( ظرف ، وهو في الأصل صفة ، أي كانوا في قليل من الليل . وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، وما زائدة في كلا الإعرابين . وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير . وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها . وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً . وقال الضحاك : ) كَانُواْ قَلِيلاً ( ، أي في عددهم ، وثم خبر كان ، ثم ابتدأ ) مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( ، فما نافية ، وقليلاً وقف حسن ، وهذا القول فيه تفكيك للكلام ، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله ، وذلك لا يجوز عند البصريين ، ولو كان ظرفاً أو مجروراً . وقد أجاز ذلك بعضهم ، وجاء في الشعر قوله :(8/134)
" صفحة رقم 135 "
إذا هي قامت حاسراً مشمعلة
يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع
فقدم رأسها على ما تقنع ، وهو منفي بما ، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً ، أي كانوا قليلاً هجوعهم ، وهو إعراب سهل حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : ) كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ ( من الوقت الذي يهجعون فيه ، وفيه تكلف . ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات ، وسكون الأنفس من مشاق النهار .
الذاريات : ( 18 ) وبالأسحار هم يستغفرون
) وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار ، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي ، والأسحار مظنة الاستغفار . وقال ابن عمرو الضحاك : يستغفرون : يصلون . وقال الحسن : يدعون في طلب المغفرة ، والظاهر أن قيام الليل
الذاريات : ( 19 ) وفي أموالهم حق . . . . .
وهذا الحق في المال هو من المندوبات ، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب . وقال القاضي منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وضعف بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل : كان فرضاً ، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئاً بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال . والسائل : الذي يستعطي ، والمحروم : لغة الممنوع من الشيء ، قال علقمة : ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة
أنى توجه والمحروم محروم
وأما في الآية ، فالذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه . وقيل : الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان . وقال ابن عباس : المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته . وقيل : الذي ماتت ماشيته . وقال عمر بن عبد العزيز : هو الكلب . وقيل : الذي لا ينمي له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب . وقيل غير ذلك ، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه .
الذاريات : ( 20 ) وفي الأرض آيات . . . . .
( وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها ، وفيها الفجاج للسلاك ، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة ، وتلقح بأنواع النبات ، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال . وقرأ قتادة : آية على الإفراد ، ( لّلْمُوقِنِينَ ( : وهم الذين نظروا النظر الصحيح ، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل ، فأيقنوا لم يدخلهم ريب .
الذاريات : ( 21 ) وفي أنفسكم أفلا . . . . .
( وَفِى أَنفُسِكُمْ ( حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال ، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس ، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع ، وغير ذلك مما لا ينحصر .
الذاريات : ( 22 ) وفي السماء رزقكم . . . . .
( وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( ، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير : المطر والثلج ، لأنه سبب الأقوات ، وكل عين دائمة من الثلج . وقال مجاهد أيض وواصل الأحدب : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء ، ( وَمَا تُوعَدُونَ ( : الجنة ، أو هي النار ، أو أمر الساعة ، أو من خير وشر ، أو من ثواب وعقاب ، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين . وقرأ ابن محيصن : أرزاقكم على الجمع ،
الذاريات : ( 23 ) فورب السماء والأرض . . . . .
والضمير في إنه عائد على القرآن ، أو إلى الدين الذي في قوله : ) وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( ، أو إلى اليوم المذكور في قوله : ) أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( ، أو إلى الرزق ، أو إلى الله ، أو إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أقوال منقولة . والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء ، وكونهم في ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، و ) قُتِل(8/135)
" صفحة رقم 136 "
الْخَرصُونَ ( ، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف ، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعم 5 : بخلاف عن ثلاثتهم . مثل بالرفع : صفة لقوله : ) لَحَقُّ ( ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بالنصب ، وقيل : هي فتحة بناء ، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع . ولما أضيف إلى غير متمكن بنى ، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد ، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون . وقال المازني : بنى مثل ، لأنه ركب مع ما ، فصار شيئاً واحداً ، ومثله : ويحما وهيما وابنما ، قال حميد بن ثور : ألا هيما مما لقيت وهيما
وويحاً لمن لم يلق منهن ويحما
قال : فلولا البناء لكان منوناً ، وقال الشاعر : فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما انتهى هذا التخريج . وابنما ليس ابنا بني مع ما ، بل هذا من باب زيادة الميم فيه ، واتباع ما في الآخر ، إذ جعل في الميم الإعراب . تقول : هذا ابنم ، ورئت ابنما ، ومررت بابنم ، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما ، كما قال : الفتحة في ابنما حركة إعراب ، وهو منصوب على التمييز ، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز :
أثور ما أصيدكم أو ثورين
أم تيكم الجماء ذات القرنين
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنه لحق حقاً مثل ما أنكم ، فحركته حركة إعراب . وقيل : انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في ) لَحَقُّ ). وقيل : حال من لحق ، وإن كان نكرة ، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه . والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . ويقول الناس : هذا حق ، كما أنك ههنا وهذا حق ، كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية . وما زائدة بنص الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : ذا حق كأنك ههنا ، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى ، فينصبونه على الظرف ، ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف ، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو . ومن كلام بعض الأعراب : من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين .
قوله عز وجل ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ(8/136)
" صفحة رقم 137 "
الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ).
الذاريات : ( 24 ) هل أتاك حديث . . . . .
( هَلُ أَتَاكَ ( : تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب ، فتقرره هل سمع ذلك أم لا ، فكأنك تقتضي أن يقول لا . ويستطعمك الحديث ، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما عرفه بالوحي ، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء . وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، هزماً للعرب ، إذ كان أباهم الأعلى ، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط ، إذ كذبوه ، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما يجري عليه من قومه . ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى ، كقوله تعالى في الملائكة : ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ، قاله الحسن ، فهي صفة سابقة فيهم ، أو لإكرام إبراهيم إياهم ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا . وقيل : لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة . وقرأ عكرمة : المكرمين بالتشديد ، وأطلق عليهم ضيف ، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم ، أو لحسبانه لذلك . وتقدم ذكر عددهم في سورة هود .
الذاريات : ( 25 ) إذ دخلوا عليه . . . . .
وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم ، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل ، أو بإضمار اذكر ، وهذه أقوال منقولة . وقرأ الجمهور : قالوا سلاماً ، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به .
( قَالَ سَلَامٌ ( بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : عليكم سلام . قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى ، إذ سلاماً دعاء . وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع . وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا ، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ؛ وقولاً معناه سلاماً ، وهذا قول مجاهد . وقرأ ابن وثاب ، والنخعي ، وابن جبير ، وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين . وقرىء : سلاماً قالوا سلماً ، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه . ) قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان . وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم . وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم . وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون . وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف .
الذاريات : ( 26 ) فراغ إلى أهله . . . . .
( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي مضى أثناء حديثه ، مخفياً مضيه مستعجلاً ؛ ) فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة . وكونه عطف ، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا ، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه . وقال في سورة هود : ) فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( ، وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم . وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل . وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .
الذاريات : ( 27 ) فقربه إليهم قال . . . . .
( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ( : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل ؛ فإن في ذلك تأنيساً للأكل ، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس . حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله . وقيل : الهمزة في ألا(8/137)
" صفحة رقم 138 "
للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : ) أَلا تَأْكُلُونَ ). وفي الحديث : ( إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو ؟ قال : أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً ) .
الذاريات : ( 28 ) فأوجس منهم خيفة . . . . .
( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ( : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن . وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه . ) بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( : أي سيكون عليماً ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء . وعن الحسن : عليم نبي ؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة . وقال مجاهد : هو إسماعيل . وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة .
الذاريات : ( 29 ) فأقبلت امرأته في . . . . .
( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ ( : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم . وقيل : ) فَأَقْبَلَتِ ( ، أي شرعت في الصياح . قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء . والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة . قال الشاعر : فألحقنا بالهاديات ودونه
حواجرها في صرة لم تزيل
وقال قتادة وعكرمة : الرنة . قيل : قالت أوّه بصياح وتعجب . وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظراً إلى الملائكة . وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة . ) فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ( : أي لطمته ، قاله ابن عباس ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهو له ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء . وقال السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن . ) وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( : أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد ؟ تعجبت من ذلك .
الذاريات : ( 30 ) قالوا كذلك قال . . . . .
( قَالُواْ كَذَلِكِ ( : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، ( قَالَ رَبُّكِ ( : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد . وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة . ) إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ ( : أي ذو الحكمة . ) الْعَلِيمُ ( بالمصالح .
ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلاً ،
الذاريات : ( 31 - 32 ) قال فما خطبكم . . . . .
قال ) فَمَا خَطْبُكُمْ ( إلى : ) قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره .
الذاريات : ( 33 ) لنرسل عليهم حجارة . . . . .
( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ( : أي لنهلكهم بها ، ( حِجَارَةً مّن طِينٍ ( : وهو السجيل ، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة .
الذاريات : ( 34 ) مسومة عند ربك . . . . .
( مُّسَوَّمَةً ( : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه . وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب . وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، ( لِلْمُسْرِفِينَ ( : وهم المجاوزون الحد في الكفر .
الذاريات : ( 35 - 37 ) فأخرجنا من كان . . . . .
( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا ( : في القرية التي حل العذاب بأهلها . ) غَيْرَ بَيْتٍ ( : هو بيت لوط عليه السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ، وقيل : ثلاثة عشر نفساً . وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا قال الزمخشري ، وهما معتزليان .
( وَتَرَكْنَا فِيهَا ( : أي في القرية ، ( ءايَةً ( : علامة . قال ابن جريج : حجراً كبيراً جدًّا منضوداً . وقيل : ماء أسود منتن . ويجوز أن يكون فيها عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ،(8/138)
" صفحة رقم 139 "
بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة .
الذاريات : ( 38 ) وفي موسى إذ . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَفِى مُوسَى ( معطوف على ) وَتَرَكْنَا فِيهَا ( : أي في قصة موسى . وقال الزمخشري وابن عطية : ) وَفِى مُوسَى ( يكون عطفاً على ) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ). ) وَفِى مُوسَى ( ، وهذا بعيد جدًّا ، ينزه القرآن عن مثله . وقال الزمخشري أيضاً : أو على قوله ، ( وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً ( ، على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله : علفتها تبناً وماء بارداً انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار ) وَتَرَكْنَا ( ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور ) وَتَرَكْنَا ).
الذاريات : ( 39 ) فتولى بركنه وقال . . . . .
( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ( : أي ازور وأعرض ، كما قال : ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ ). وقيل : بقوته وسلطانه . وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه . وقال قتادة : بقومه . ) وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حقاً . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال : ) إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ، و ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحا
عدلت بهم طهية والحشايا
ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو ، إذ يكون قالهما ، وأبهم على السامع ، فأو للإبهام .
الذاريات : ( 40 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .
( هُوَ مُلِيمٌ ( : أي أتى من المعاصي ما يلام عليه .
الذاريات : ( 41 ) وفي عاد إذ . . . . .
( الْعَقِيمَ ( التي لا خير فيها ، من الشتاء مطر ، أو لقاح شجر . وفي الصحيح : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . فقول من ذهب إلى أنها الصبا ، أو الجنوب ، أو النكباء ، وهي ريح بين ريحين ، نكبت عن سمت القبلة ، فسميت نكباء ، ليس بصحيح ، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنها الدبور .
الذاريات : ( 42 ) ما تذر من . . . . .
( مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ ( : وهو عام مخصوص ، كقوله : ) تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( : أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد . ) إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( : جملة حالية ، والرميم تقدّم تفسيره في يس ، وهنا قال السدّي : التراب ، وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب . روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه من بينهم وتهلكه .
الذاريات : ( 43 ) وفي ثمود إذ . . . . .
( تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ ( ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظاً ووجود . وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب . فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود .
الذاريات : ( 44 ) فعتوا عن أمر . . . . .
وقرأ الجمهور : الصاعقة ؛ وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما ، والكسائي : الصعقة ، وهي الصيحة هنا . وقرأ الحسن : الصاعقة ؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي . ) وَهُمْ يَنظُرُونَ ( : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله الطبري : وكانت نهاراً . وقال مجاهد : ) وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب .
الذاريات : ( 45 ) فما استطاعوا من . . . . .
( فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ ( ، لقوله : ) فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ، ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة . ) وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ ( ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به . وقيل : ) مِن قِيَامٍ ( ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة .
الذاريات : ( 46 ) وقوم نوح من . . . . .
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ) وَقَوْمِ ( بالجر عطفاً على ما تقدم ، أي وفي قوم نوح ، وهي قراءة عبد الله . وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب . قيل : عطفاً على الضمير في ) فَأَخَذَتْهُمُ ( ؛ وقيل : عطفاً على ) فَنَبَذْنَاهُمْ ( ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم . وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه .(8/139)
" صفحة رقم 140 "
وقيل : باذكر مضمرة . وروى عبد الوارث ، ومحبوب ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم .
قوله عز وجل : ) وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ).
الذاريات : ( 47 ) والسماء بنيناها بأيد . . . . .
أي : وبنينا السماء ، فهو من باب الاشتغال ، وكذا وفرشنا الأرض . وقرأ أبو السمال ، ومجاهد ، وابن مقسم : برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء . ) بِأَيْدٍ ( : أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهو كقوله : ) دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ ). ) وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( : أي بناءها ، فالجملة حالية ، أي بنيناها موسعوها ، كقوله : جاء زيد وإنه لمسرع ، أي مسرعاً ، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة . وقال ابن زيد قريباً من هذا وهو : أن الوسع راجع إلى السماء . وقيل : لموسعون قوة وقدرة ، أي لقادرون من الوسع ، وهو الطاقة . وقال الحسن : أوسع الرزق بالمطر والماء .
الذاريات : ( 48 - 49 ) والأرض فرشناها فنعم . . . . .
( فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( ، و ) خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( ، قال مجاهد : إشارة إلى المتضادات والمتقابلات ، كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه ، كالتسخين والتبريد . ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له . وقال ابن زيد وغيره : ) مِن كُلّ شَىْء ( : أي من الحيوان ، ( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( : ذكراً وأنثى . وقيل : المراد بالشيء الجنس ، وما يكون تحت الجنس نوعان : فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر ، مثل النامي والجامد . ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه . ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( : أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين ، تعالى أن يكون له زوج . أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح . وقرأ أبي : تتذكرون ، بتاءين وتخفيف الذال . وقيل : إرادة أن تتذكروا ، فتعرفوا الخالق وتعبدوه .
الذاريات : ( 50 ) ففروا إلى الله . . . . .
( فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( : أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب . وأمر حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء . وينظر إلى هذا المعنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ) ، قاله ابن عطية ، وهو تفسير حسن . وقال الزمخشري : إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً . وكرر ) إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا ترى إلى قوله : ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( ؟ والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى الله . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقد رددنا عليه في تفسير ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ( في موضع هذه الآية .
الذاريات : ( 52 ) كذلك ما أتى . . . . .
( كَذالِكَ ( : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم ، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم ، وهو التكذيب . ) سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( : أو للتفصيل ، أي قال بعض ساحر ، وقال بعض مجنون ، وقال بعض كلاهما ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر ، بل قالوا به جنة ، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل ؟
الذاريات : ( 53 ) أتواصوا به بل . . . . .
( أَتَوَاصَوْاْ بِهِ ( : أي بذلك القول ، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء ، مع افتراق أزمانهم ، ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( : أي لم يتواصوا به ، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد ، بل جمعتهم علة واحدة ، وهي كونهم طغاة ، فهم مستعلون في الأرض ، مفسدون فيها(8/140)
" صفحة رقم 141 "
عاتون .
الذاريات : ( 54 ) فتول عنهم فما . . . . .
( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا . ) فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( : إذ قد بلغت ونصحت .
الذاريات : ( 55 ) وذكر فإن الذكرى . . . . .
( وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( : تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن ، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف . وعن عليّ ، كرم الله وجهه : لما نزل ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع ، وأن الوحي قد انقطع ، نزلت ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، فسروا بذلك . ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : أي ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( الطائعين ، قاله زيد بن أسلم وسفيان ، ويؤيده رواية ابن عباس ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) :
الذاريات : ( 56 ) وما خلقت الجن . . . . .
( وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين ) . وقال علي وابن عباس : ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبادة . فعبر بقوله : ) لِيَعْبُدُونِ ( ، إذ العبادة هي مضمن الأمر ، فعلى هذا الجن والإنس عام . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمه ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة ، نحو : العبادة ، كما تقول : هذا مخلوق لكذا ، وإن لم يصدر منه الذي خلق له ، كما تقول : القلم مبري لأن يكتب به ، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به ، وقال الزمخشري : إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم ، لكانوا كلهم عباداً . قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال مجاهد : ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : ليعرفون . وقال ابن زيد : لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة . وقال الربيع بن أنس : إلا للعبادة ، قال : وهو ظاهر اللفظ . وقيل : إلا ليذلوا لقضائي . وقال الكلبي : إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء ، والكافر في الشدة . وقال عكرمة : ليطيعون ، فأثيب العابد ، وأعاقب الجاحد . وقال مجاهد أيضاً : إلا للأمر والنهي .
الذاريات : ( 57 - 58 ) ما أريد منهم . . . . .
( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ ( : أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم . ) وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( : أي أن يطعموا خلقي ، فهو على حذف مضاف ، فالإضافة إلى الضمير تجوز ، قاله ابن عباس . وقيل : ) أَن يُطْعِمُونِ ( : أن ينفعون ، فذكر جزأ من المنافع وجعله دالاً على الجميع . وقال الزمخشري : يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم ؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحاً ، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضاً ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب ، أو محتش ، أو مستق ، أو طابخ ، أو خابز ، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق . فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أن انا وحدي . انتهى ، وهو تكثير وخطابة . وقرأ ابن محيصن : ) الرَّزَّاقُ ( ، كما قرأ : ) وَفِى السَّمَاء ( : اسم فاعل ، وهي قراءة حميد . وقرأ الأعمش ، وابن وثاب : ) الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( بالجر ، صفة للقوة على معنى الاقتدار ، قاله الزمخشري ، أو كأنه قال : ذو الأيد ، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضب خرب .
الذاريات : ( 59 ) فإن للذين ظلموا . . . . .
( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ذنوباً : أي حظاً ونصيباً ، ( مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ( : من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم . وقال الجوهري : الذنوب : الدلو الملأى ماء ، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد ، وفي الكثير ذنائب . والذنوب : الفرس الطويل الذنب ، والذنوب : النصيب ، والذنوب : لحم أسفل المتن . وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب : أي طويل الشر لا ينقضي .
الذاريات : ( 60 ) فويل للذين كفروا . . . . .
( فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ( ، قيل : يوم بدر . وقيل : يوم القيامة ) الَّذِى يُوعَدُونَ ( : أي به ، أو يوعدونه .(8/141)
" صفحة رقم 142 "
52
( سورة الطور )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِىأَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُوا(8/142)
" صفحة رقم 143 "
ْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( )
الطور : ( 1 ) والطور
الرق ، بالفتح والكسر : جلد رقيق يكتب فيه ، وجمعه رموق . والرق بالكسر : المملوك . مار الشيء : ذهب وجاء . وقال الأخفش : وأبو عبيدة : تكفأ ، وأنشد الأعشى : كأن مشيتها من بين جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويروى : مرو السحابة . الدع : الدفع في الضيق بشدّة وإهانة . السموم : الريح الحارة التي تدخل المسام ، ويقال : سم يومنا فهو مسموم ، والجمع سمائم . وقال ثعلب : شدّة الحر ، أو شدّة البرد في النهار . وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار ، وقد يكون بالليل ؛ والحرور بالليل ، وقد يكون بالنهار . وقد يستعمل السموم في لفح البرد ، وهو في لفح الحر والشمس أكثر . المنون : الدهر ، وريبه : حوادثه . وقيل : اسم للموت . المسيطر : المتسلط . وحكى أبو عبيدة : سطرت عليّ ، إذا اتخذتني خولاً ، ولم يأت في كلام العرب اسم على مفيعل إلا خمسة : مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر . فالمحيمر اسم جبل ، والبواقي أسماء فاعلين ، والله تعالى أعلم .
( وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، إذ في آخر تلك : ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ( ، وقال هنا : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ).
الطور : الجبل ، والظاهر أنه اسم جنس ، لا جبل معين ، وفي الشأم جبل يسمى الطور ، وهو طور سيناء . فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال . قيل : وهو الذي كلم الله عليه موسى ، عليه الصلاة والسلام .
الطور : ( 2 ) وكتاب مسطور
والكتاب المسطور : القرآن ، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ ، أو التوراة ، أو هي الإنجيل والزبور ، أو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل ، أقوال آخرها للفراء ، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين ، إنما تورد على الاحتمال .
الطور : ( 3 ) في رق منشور
وقرأ أبو السمال : في رِق ، بكسر الراء ، ( مَّنْشُورٍ ( : أي مبسوط . وقيل : مفتوح لا ختم عليه . وقيل : منشور لائح . وعن ابن عباس : منشور ما بين المشرق والمغرب .
الطور : ( 4 ) والبيت المعمور
) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( ، قال علي وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء(8/143)
" صفحة رقم 144 "
مسامت الكعبة يقال له الضراح ، والضريح أيضاً ، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء ، قال جبريل : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك . وسأل ابن الكوا علياً ، رضي الله تعالى عنه فقال : بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح . وقال الحسن : البيت المعمور : الكعبة ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز من الناس أتمه الله بالملائكة .
الطور : ( 5 ) والسقف المرفوع
) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( : السماء ، قال ابن عباس : هو العرش ، وهو سقف الجنة .
الطور : ( 6 ) والبحر المسجور
) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( ، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخف 5 : هو البحر الموقد ناراً . وروي أن البحر هو جهنم . وقال قتادة : البحر المسجور : المملوء ، وهذا معروف من اللغة ، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك ، ولا ينافي ما قاله مجاهد ، لأن سجرت التنور معناه : ملأته بما يحترق . وقال ابن عباس : المسجور : الذي ذهب ماؤه . وروى ذو الرمة الشاعر ، عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي ، فقالت : إن الحوض مسجور : أي فارغ ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا ، فيكون من الأضداد . ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة . وقال ابن عباس أيضاً : المسجور : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه ، ولولا أن البحر يمسك ، لفاض على الأرض . وقال الربيع : المسجور : المختلط العذب بالملح . وقيل : المفجور ، ويدل عليه : ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ ). والجمهور : على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا ، ويؤيده : ) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ). وعن علي وابن عمر : أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً ، فينبتون في قبورهم . وقال قتيبة بن سعيد : هو جهنم ، وسماها بحراً لسعتها وتموجها . كما جاء في الفرس : وإن وجدناه لبحراً . قيل : ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت ، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى ، خاطب منها ربهم رسله .
فالطور ، قال فيه موسى : ) أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( ، والبيت المعمور لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والبحر المسجور ليونس ، قال : ) لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( ، فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب . والقسم بكتاب مسطور ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم مع الله في هذه الأماكن كلام . واقترانه بالطور دل على ذلك . والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيت المعمور . انتهى . ونكر وكتاب ، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل ، ويحتمل أن يكون شمول العموم ، كقوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ). وكونه في رق ، يدل على ثبوته ، وأنه لا يتخطى الرؤوس . ووصفه بمنشور يدل على وضوحه ، فليس كالكتاب المطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه ، والمنشور يعلم ما فيه ، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه ؛ والواو الأولى واو القسم ، وما بعدها للعطف .
الطور : ( 7 ) إن عذاب ربك . . . . .
والجملة المقسم عليها هي قوله : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ). وفي إضافة العذاب لقوله : ) رَبَّكَ ( لطيفة ، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد(8/144)
" صفحة رقم 145 "
فبالإضافة إلى الرب ، وإضافته لكاف الخطاب أمان له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه ، ولواقع على الشدة ، وهو أدل عليها من لكائن . ألا ترى إلى قوله : ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( ، وقوله : ) وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ( ، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به ؟ وعن جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب : ) وَالطُّورِ ( إلى ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( ، فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب . وقرأ زيد بن علي : واقع بغير لام . قال قتادة : يريد عذاب الآخرة للكفار ، أي لواقع بالكفار .
ومن غريب ما يحكى أن شخصاً رأى في النوم في كفه مكتوباً خمس واوات ، فعبر له بخير ، فسأل ابن سيرين ، فقال : تهيأ لما لا يسر ، فقال له : من أين أخذت هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ) وَالطُّورِ ( إلى ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( ، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص . وانتصب يوم بدافع ، قاله الحوفي ، وقال مكي : لا يعمل فيه واقع ، ولم يذكر دليل المنع . وقيل : هو منصوب بقوله : ) لَوَاقِعٌ ( ،
الطور : ( 8 ) ما له من . . . . .
وينبغي أن يكون ) مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول .
الطور : ( 9 ) يوم تمور السماء . . . . .
قال ابن عباس : ) تَمُورُ ( : تضطرب . وقال أيضاً : تشقق . وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض .
الطور : ( 10 ) وتسير الجبال سيرا
وقال مجاهد : تدور . ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ( ، هذا في أول الأمر ، ثم تنسف حتى تصير آخراً ) كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ).
الطور : ( 11 - 12 ) فويل يومئذ للمكذبين
) فَوَيْلٌ ( : عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده ، والخوض : التخبط في الباطل ، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل .
الطور : ( 13 ) يوم يدعون إلى . . . . .
( يَوْمَ يُدَعُّونَ ( ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم . وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون ، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوها ) دَعًّا ( : مدعوعين ،
الطور : ( 14 ) هذه النار التي . . . . .
يقال لهم : ) هَاذِهِ النَّارُ ). لما قيل لهم ذلك ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار ،
الطور : ( 15 ) أفسحر هذا أم . . . . .
وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي ، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال ، فأمرهم بصليها على جهة التقريع .
الطور : ( 16 ) اصلوها فاصبروا أو . . . . .
ثم قيل لهم على قطع رجائهم : ) فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ ( : عذابكم حتم ، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم ، قاله ابن عطية .
وقال الزمخشري : ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا ( ، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر . . ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا ( ، يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر ؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى . ) أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عمياً عن الخبر ؟ وهذا تقريع وتهكم . فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : ) إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة ، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير . فأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع . انتهى . وسحر : خبر مقدم ، وهذا : مبتدأ ، وسواء : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الصبر والجزع . وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف ، أي صبركم وتركه سواء .
الطور : ( 17 - 18 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، ليقع الترهيب والترغيب ، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين ، أخبروا بذلك . ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار ، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم ، والأول أظهر . وقرأ الجمهور : فكهين ، نصباً على الحال ، والخبر في ) جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ). وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن ، وفي جنات متعلق به . ومن أجاز تعداد الخبر ، أجاز أن يكونا خبرين . ) وَوَقَاهُمْ ( معطوف على ) فِي جَنَّاتِ ( ، إذ المعنى : استقروا في جنات ، أو على ) ءاتَاهُمُ ( ، وما مصدرية ، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم . وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال ، ومن شرط قد في الماضي ، قال : هي هنا مضمرة ، أي وقد وقاهم . وقرأ أبو حيوة : ووقاهم ، بتشديد القاف .
الطور : ( 19 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( على إضمار القول : أي يقال لهم : ) هَنِيئَاً ). قال الزمخشري : أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :(8/145)
" صفحة رقم 146 "
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به ما استحلت ، كما يرتفع بالفعل ، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا . وكذلك معنى هنيئاً ههنا : هنأكم الأكل والشرب ، أو هنأكم ما كنتم تعملون ، أي جزاء ما كنتم تعملون ، والباء مزيدة كما في : ) كَفَى بِاللَّهِ ( ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا ، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . انتهى . وتقدم لنا الكلام مشبعاً على ) هَنِيئَاً ( في سورة النساء . وأما تجويزه زيادة الباء ، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل ، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها ؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ . وأما قوله : إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا ، فلا يصح إلا على الأعمال ، فهي تتعلق بأحدهما .
الطور : ( 20 ) متكئين على سرر . . . . .
وانتصب ) مُتَّكِئِينَ ( على الحال . قال أبو البقاء : من الضمير في ) كُلُواْ ( ، أو من الضمير في ) وَوَقَاهُمْ ( ، أو من الضمير في ) ءاتَاهُمُ ( ، أو من الضمير في ) فَاكِهِينَ ( ، أو من الضمير في الظرف . انتهى . والظاهر أنه حال من الظرف ، وهو قوله : ) فِي جَنَّاتِ ). وقرأ أبو السمال : على سرر ، بفتح الراء ، وهي لغة لكلب في المضعف ، فراراً من توالي ضمتين مع التضعيف . وقرأ عكرمة : ) بِحُورٍ عِينٍ ( على الإضافة .
الطور : ( 21 ) والذين آمنوا واتبعتهم . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( مبتدأ ، وخبره ) ألحقناه ). وأجاز أبو البقاء أن يكون ) مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ( في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا . ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم . فبإيمان متعلق بقوله : ) وَأَتْبَعْنَاهُم ). وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه ) ثم قرأ الآية . وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . انتهى . فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا ، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة ، كما ثبت في صحيح البخاري ، فأحرى أولاد المؤمنين . وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وعن ابن عباس أيضاً : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون . وعنه أيضاً : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية . وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك .
وقال الزمخشري : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، معطوف على حور عين . أي قرناهم بالحور العين ؛ وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : ) إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( ، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم . ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم . ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم . فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة . ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . انتهى .
ولا يتخيل أحد أن ) وَالَّذِينَ ( معطوف على ) بِحُورٍ عِينٍ ( غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره . والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى هل الجنة . وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى(8/146)
" صفحة رقم 147 "
المحسن في المسيء . ولفظة ) أَلْحَقْنَا ( تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال . وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم ؛ وباقي السبعة : واتبعتهم ؛ وأبو عمرو : وذرياتهم جمعاً نصباً ؛ وابن عامر : جمعاً رفعاً ؛ وباقي السبعة : مفرداً ؛ وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمدّ والهمز .
وقرأ الجمهور : ) أَلَتْنَاهُمْ ( ، بفتح اللام ، من ألات ؛ والحسن وابن كثير : بكسرها ؛ وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل ؛ وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش ؛ ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضاً : لتناهم بفتح اللام . قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز . وقرىء : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون . قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص . ويقال : ألت بمعنى غلظ . وقام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه . والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين . والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجر شيئاً ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور . وقال أبي زيد : الضمير عائد على الأبناء . ) مّنْ عَمَلِهِم ( : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : ) كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ( : أي مرتهن وفيه ،
الطور : ( 22 ) وأمددناهم بفاكهة ولحم . . . . .
( وَأَمْدَدْنَاهُم ( : أي يسرنا لهم شيئاً فشيئاً حتى يكر ولا ينقطع .
الطور : ( 23 ) يتنازعون فيها كأسا . . . . .
( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا ( أي يتعاطون ، قال الأخطل : نازعته طيب الراح الشمول وقد
صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
أو يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة ، إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة ، وكذلك في الجنة . وقرأ الجمهور : ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( ، برفعهما ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتحهما ، واللغو : السقط من الكلام ، كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا . والتأثيم : الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا .
الطور : ( 24 ) ويطوف عليهم غلمان . . . . .
( غِلْمَانٌ لَّهُمْ ( : أي مماليك . ) مَّكْنُونٌ ( : أي في الصدف ، لم تنله الأيدي ، قاله ابن جبير ، وهو إذ ذاك رطب ، فهو أحسن وأصفى . ويجوز أن يراد بمكنون : مخزون ، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن .
الطور : ( 25 - 27 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
والظاهر أن التساؤل هو في الجنة ، إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض ، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم ؛ ويدل عليه ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ( : أي بهذا النعيم الذي نحن فيه . وقال ابن عباس : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية ، حكاه الطبري عنه . ) مُشْفِقِينَ ( : رقيقي القلوب ، خاشعين لله . وقرأ أبو حيوة : ووقانا بتشديد القاف ، والسموم هنا النار ؛ وقال الحسن : اسم من أسماء جهنم .
الطور : ( 28 ) إنا كنا من . . . . .
( مِن قَبْلُ ( : أي من قبل لقاء الله والمصير إليه . ) نَدْعُوهُ ( نعبده ونسأله الوقاية من عذابه ، ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ( : المحسن ، ( الرَّجِيمِ ( : الكثير الرحمة ، إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب . أو ) نَدْعُوهُ ( من الدعاء . وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي : أنه بفتح الهمزة ، أي لأنه ، وباقي السبعة : إنه بكسر الهمزة ، وهي قراءة الأعرج وجماعة ، وفيها معنى التعليل .
قوله عز وجل : ) فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِن(8/147)
" صفحة رقم 148 "
ُ ( سقط : رحمة ) رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ).
الطور : ( 29 ) فذكر فما أنت . . . . .
لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذاراً للكافر ، وتبشيراً للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس . وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط . وقال الزمخشري : ) فَذَكّرْ ( فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض . فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ؛ وما أنت ، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين . انتهى . وقال الحوفي : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن . قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك . انتهى . وتكون حالاً لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه . وقيل : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم .
الطور : ( 30 ) أم يقولون شاعر . . . . .
ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعاً آخر مما كانوا يقولونه .
روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك . وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، حجداً الآيات الله بعد استيقانها . وقرأ زيد بن علي : يتربص بالياء مبنياً للمفعول به ، ( رَيْبَ ( : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر : تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوماً أو يموت حليلها
وقال الهندي : أمن المنون وريبها تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
الطور : ( 31 ) قل تربصوا فإني . . . . .
( قُلْ تَرَبَّصُواْ ( : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي .
الطور : ( 32 ) أم تأمرهم أحلامهم . . . . .
( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ ( : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي . وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق . ) أَمْ تَأْمُرُهُمْ ( ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم ؟ وقدرها مجاهد ببل ، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة .
( أَم(8/148)
" صفحة رقم 149 "
هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( : أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق . وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : ) أَمْ هُمُ ( ، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك ، جعلت آمرة كقوله : ) هَاذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ). وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف .
الطور : ( 33 ) أم يقولون تقوله . . . . .
تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ ). وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص . انتهى . ) بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ( : أي لكفرهم وعنادهم ،
الطور : ( 34 ) فليأتوا بحديث مثله . . . . .
ثم عجزهم بقوله تعالى : ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ( : أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل . فقرأ الجحدري وأبو السمّال : ) بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبداً .
الطور : ( 35 ) أم خلقوا من . . . . .
( أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله الطبري . وقيل : ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية . وقال الزمخشري : ) أَمْ خَلَقُواْ ( : أم أحدثوا ؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ؛ ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ؟ ) بَل لاَّ يُوقِنُونَ ( : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون . أم خلقوا من غير رب ولا خالق ؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم ؟ ) أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه . والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم . وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ؟
الطور : ( 36 ) أم خلقوا السماوات . . . . .
ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين .
الطور : ( 37 ) أم عندهم خزائن . . . . .
( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ ( ، قال الزمخشري : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ ) أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( : الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم . وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى . وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن : العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته . انتهى . والمسيطر ، قال ابن عباس : المسلط القاهر . وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد ؛ وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل ؛ ومن أبدلها صاداً ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلق عن حمزة ، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي .
الطور : ( 38 ) أم لهم سلم . . . . .
( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ( منصوب إلى السماء ، ( يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ( : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره الزمخشري : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . ) بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ،
الطور : ( 40 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ( على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، ( فَهُمُ ( من ذلك المغرم الثقيل اللام ) مُّثْقَلُونَ ( ، فاقتضى زهدهم في اتباعك .
الطور : ( 41 ) أم عندهم الغيب . . . . .
( أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( : أي اللوح المحفوظ ، ( فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( : أي يثبتون ذلك للناس شرع ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب(8/149)
" صفحة رقم 150 "
السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون . وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون .
الطور : ( 42 ) أم يريدون كيدا . . . . .
( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، ( فَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، ( هُمُ الْمَكِيدُونَ ( : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيداً ، إذ كانت عقوبة الكيد .
الطور : ( 43 ) أم لهم إله . . . . .
( أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ ( يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ( به من الأصنام والأوثان .
الطور : ( 44 ) وإن يروا كسفا . . . . .
( وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء ( : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيما اقترحت من قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب .
الطور : ( 45 ) فذرهم حتى يلاقوا . . . . .
( فَذَرْهُمْ ( : أمر موادعة منسوخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : ) حَتَّى يُلَاقُواْ ( ؛ وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، ( يَوْمَهُمُ ( : أي يوم موتهم واحداً واحداً ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق . وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء . وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل . وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعياً .
الطور : ( 47 ) وإن للذين ظلموا . . . . .
( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : أي لهؤلاء الظلمة ، ( عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ( : أي دون يوم القيامة وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله ابن عباس وغيره . وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر . وقال الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا . وقال مجاهد : هو الجوع والقحط ، سبع سنين .
الطور : ( 48 ) واصبر لحكم ربك . . . . .
( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ( : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفرداً ، أفرد العين ، قال تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ). وقرأ أبو السمال : بأعيننا ، بنون واحدة مشدّدة . ) وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام . وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد . وقال ابن عباس : حين تقوم من منامك . وقيل : هو صلاة التطوع . وقيل : الفريضة . وقال الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك . وقال زيد بن أسلم : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر . وقال ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة .
الطور : ( 49 ) ومن الليل فسبحه . . . . .
( وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ ( : قبل صلاة المغرب والعشاء . ) وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( : صلاة الصبح . وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، ( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( : ركعتا الفجر . وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم .(8/150)
" صفحة رقم 151 "
53
( سورة النجم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّ خْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَةُ والاٍّ ولَى وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاٍّ نثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُو(8/151)
" صفحة رقم 152 "
َ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاٍّ خْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى أَزِفَتِ الاٌّ زِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ } )
النجم : ( 1 ) والنجم إذا هوى
المرّة : القوة من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله . وقال قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي خصيف العقل إنه لذو مرّة ، قال : وإني لذو مرّة مرّة
إذا ركبت خالة خالها
تدلى العذق تدلياً : امتد من علو إلى جهة السفل ، فيستعمل في القرب من العلو ، قاله الفراء وابن الأعرابي . قال أسامة الهذلي : تدلى علينا وهو زرق حمامة
إذا طحلب في منتهى القيظ هامد
القاب والقيب ، والقّادة والقيد : المقدار . القوس معروف وهو : آلة لرمي السهام ، وتختلف أشكاله . السدرة : شجرة النبق . الضيزى : الجائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه . قال الشاعر : ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذنب
وأصلها ضوزى على وزن فعلى ، نحو : حبلى وأنثى وريا ، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء ، ولا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات ، كذا قال سيبويه . وحكى ثعلب : مشية جبكى ، ورجل كيصى . وحكى غيره : امرأة عزمى ، وامرأة سعلى ؛ والمعروف : عزماة وسعلاة . وقال الكسائي : ضاز يضيز ضيزى ، وضاز يضوز ضوزى ، وضأز يضأز ضأزاً . اللمم : ما قل وصغر ، ومنه اللمم : المس من الجنون ، وألمّ بالمكان : قل لبثه فيه ، وألمّ بالطعام : قل أكله منه . وقال المبرد : أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يركبه ، يقال : ألم بكذا ، إذا قاربه ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو ، يقال : ألم يفعل كذا ، بمعنى : كاد يفعل . قال جرير : بنفسي من تجنيه عزيز
عليّ ومن زيارته لمام
وقال آخر :(8/152)
" صفحة رقم 153 "
لقاء أخلاء الصفا لمام
الأجنة : جمع جنين ، وهو الولد في البطن ، سمي بذلك لاستتاره ، والاجتنان : الاستتار . أكدى : أصله من الكدية ، يقال لمن حفر بئراً ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره . قال الحطيئة : فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه
ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
وقال الكسائي وغيره : أكدى الحافر ، إذا بلغ كدية أو جبلاً ولا يمكنه أن يحفر ، وحفر فأكدى : إذا وصل إلى الصلب ، ويقال : كديت أصابعه إذا كلت من الحفر ، وكدا البيت : قلّ ريعه . وقال أبو زيد : أكدى الرجل : قلّ خيره . أقنى ، قال الجوهري : قنى يقنى قنى ، كغنى يغنى غنى ، ويتعدّى بتغيير الحركة ، فتقول : قنيت المال : أي كسبته ، نحو شترت عين الرجل وشترها الله ، ثم تعدى بعد ذلك بالهمزة أو التضعيف ، فتقول : أقناه الله مالاً ، وقناه الله مالاً ، وقال الشاعر : كم من غني أصاب الدهر ثروته
ومن فقير تقنى بعد الإقلال
أي : تقنى المال ، ويقال : أقناه الله مالاً ، وأرضاه من القنية . قال أبو زيد : تقول العرب لمن أعطى مائة من المعز : أعطى القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن : أعطى الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل : أعطى المنى . الشعرى : هو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر ، ويقال له : مرزم الجوزاء ، وهما الشعريان : العبور التي في الجوزاء ، والشعرى الغميصاء التي في الذراع ، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل . قال الزمخشري : وتسمى كلب الجبار ، وهما شعريان : الغميصاء والعبور ، ومن كذب العرب أن سهيلاً والشعرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانياً ، فاتبعته الشعرى العبور ، فعبرت المجرة ، فسميت العبور ، وأقامت الغميصاء لأنها أخفى من الأخرى . أزف : قرب ، قال كعب بن زهير : بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا
ولا أرى لشباب بائن خلفا
وقال النابغة الذبياني : أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
ويروى : أفد الترحل . سمد : لهى ولعب ، قال الشاعر : ألا أيها الإنسان إنك سامد
كأنك لا تفنى ولا أنت هالك(8/153)
" صفحة رقم 154 "
وقال آخر : قيل قم فانظر إليهم
ثم دع عنك السمودا
وقال أبو عبيدة : السمود : الغناء بلغة حمير ، يقولون : يا جارية اسمدي لنا : أي غني لنا .
( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه قال : ) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ( : أي اختلق القرآن ، ونسبوه إلى الشعر وقالوا : هو كاهن ومجنون ؛ فأقسم تعالى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما ضل ، وأن ما يأتي به هو وحي من الله ، وهي أول سورة أعلن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بها في الحرم ، والمشركون يستمعون ، فيها سجد ، وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال : يكفي هذا . وسبب نزولها قول المشركين : إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يختلق القرآن . وأقسم تعالى بالنجم ، فقال ابن عباس ومجاهد والفراء والقاضي منذر بن سعيد : هو الجملة من القرآن إذا نزلت ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة . وقال الحسن ومعمر بن المثنى : هو هنا اسم جنس ، والمراد النجوم إذا هوت : أي غربت ، قال الشاعر : فباتت تعد النجم في مستجره
سريع بأيدي الآكلين حمودها
أي : تعد النجوم . وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي : النجوم إذا انتثرت في القيامة . وقال ابن عباس أيضاً : هو انقض في أثر الشياطين ، وهذا تساعده اللغة . وقال الأخفش : والنجم إذا طلع ، وهويه : سقوطه على الأرض . وقال ابن جبير الصادق : هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهويه : نزوله ليلة المعراج . وقيل : النجم معين . فقال مجاهد وسفيان : هو الثريا ، وهويها : سقوطها مع الفجر ، وهو علم عليها بالغلبة ، ولا تقول العرب النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب : طلع النجم عشاء
فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غديه
فابتغي الراعي كسيه
وقيل : الشعرى ، وإليها الإشارة بقوله : ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( ، والكهان والمنجمون يتكلمون على المغيبات عند طلوعها . وقيل : الزهرة ، وكانت تعبد . وقيل : ) وَالنَّجْمِ ( : هم الصحابة . وقيل : العلماء مفرد أريد به الجمع ،
النجم : ( 2 ) ما ضل صاحبكم . . . . .
وهو في(8/154)
" صفحة رقم 155 "
اللغة خرق الهوى ومقصده السفل ، إذ مصيره إليه ، وإن لم يقصد إليه . وقال الشاعر :
هوى الدلو اسلمها الرشا
ومنه : هوى العقاب . ) صَاحِبُكُمْ ( : هو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والخطاب لقريش : أي هو مهتد راشد ، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي .
النجم : ( 3 ) وما ينطق عن . . . . .
( وَمَا يَنطِقُ ( : أي الرسول عليه الصلاة والسلام ، ( عَنِ الْهَوَى ( : أي عن هوى نفسه ورأيه .
النجم : ( 4 - 5 ) إن هو إلا . . . . .
( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ ( من عند الله ، ( يُوحَى ( إليه . وقيل : ) وَمَا يَنطِقُ ( : أي القرآن ، عن هوى وشهوة ، كقوله : ) هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ). ) إِنْ هُوَ ( : أي الذي ينطق به . أو ) إِنْ هُوَ ( : أي القرآن . ) عِلْمِهِ ( : الضمير عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي علمه الوحي . أو على القرآن ، فالمفعول الأول محذوف ، أي علمه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) شَدِيدُ الْقُوَى ( : هو جبريل ، وهو مناسب للأوصاف التي بعده ، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع . وقال الحسن : ) شَدِيدُ الْقُوَى ( : هو الله تعالى ، وهو بعيد .
النجم : ( 6 ) ذو مرة فاستوى
) ذُو مِرَّةٍ ( : ذو قوة ، ومنه لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى . وقيل : ذو هيئة حسنة . وقيل : هو جسم طويل حسن . ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام . ) فَاسْتَوَى ( : الضمير لله في قوله الحسن ،
النجم : ( 7 ) وهو بالأفق الأعلى
وكذا ) وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( لله تعالى ، على معنى العظمة والقدرة والسلطان . وعلى قول الجمهور : ) فَاسْتَوَى ( : أي جبريل في الجو ، ( وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( ، إن رآه الرسول عليه الصلاة والسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين ، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة ، قاله الربيع والزجاج . وقال الطبري : والفراء : المعنى فاستوى جبريل ؛ وقوله : ) وَهُوَ ( ، يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين . وقد يقال : الضمير في استوى للرسول ، وهو لجبريل ، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه . وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس .
وقال الزمخشري : ) فَاسْتَوَى ( : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له بالأفق الأعلى ، وهو أفق الشمس ، فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مرة في الأرض ، ومرة في السماء .
النجم : ( 8 - 9 ) ثم دنا فتدلى
) ثُمَّ دَنَا ( من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( فَتَدَلَّى ( : فتعلق عليه في الهوى . وكان مقدار مسافة قربه منه مثل ) قَابَ قَوْسَيْنِ ( ، فحذفت هذه المضافات ، كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
أي : ذا مسافة مقدار أصبع ، ( أَوْ أَدْنَى ( على تقديركم ، كقوله : ) أَوْ يَزِيدُونَ ).
النجم : ( 10 ) فأوحى إلى عبده . . . . .
( إِلَى عَبْدِهِ ( : أي إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ، كقوله : ) مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا ). ) مَا أَوْحَى ( : تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل(8/155)
" صفحة رقم 156 "
انتهى . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ دَنَا ( ، قال الجمهور : أي جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء . وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء : ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى . وقيل : كان الدنو إلى جبريل . وقيل : إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته ، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله : ) وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( ، فإنه يقتضي نزلة متقدمة . وما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه قبل ليلة الإسراء . ودنا أعم من تدلى ، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر ، قال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض . وقال أبو رزين : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين . وعن ابن عباس : أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال . وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز .
( فَأَوْحَى ( : أي الله ، ( إِلَى عَبْدِهِ ( : أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله ابن عباس . وقيل : ) إِلَى عَبْدِهِ ( جبريل ، ( مَا أَوْحَى ( : إبهام على جهة التعظيم والتفخيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات . وقال الحسن : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما أوحى ، كالأول في الإبهام . وقال ابن زيد : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام . وقال الزمخشري : ) مَا أَوْحَى ( : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
النجم : ( 11 ) ما كذب الفؤاد . . . . .
( مَا كَذَبَ ( فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما رآه ببصره من صورة جبريل : أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أن ما رآه حق . انتهى . وقرأ الجمهور : ما كذب مخففاً ، على معنى : لم يكذب قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الشيء الذي رآه ، بل صدقه وتحققه نظراً ، وكذب يتعدى . وقال ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الله تعالى بفؤاده . وقيل : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى .
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار : أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه بعيني رأسه ، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقالت : أنا سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن هذه الآيات ، فقال لي : ( هو جبريل عليه السلام فيها كلها ) . وقال الحسن : المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هل رأيت ربك ؟ فقال : ( نورانى أراه ) . وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن ، وليست نصاً في الرؤية بالبصر ، بلا ولا بغيره . وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر : ما كذب مشدداً . وقال كعب الأحبار : إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مرتين . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا ، وقرأت : ) لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( ، وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى .
النجم : ( 12 ) أفتمارونه على ما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَفَتُمَارُونَهُ ( : أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره ، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة ، وجاء يرى بصيغة المضارع ، وإن كانت الرؤية قد مضت ، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد . وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي : بفتح التاء وسكون الميم ، مضارع مريت : أي جحدت ، يقال : مريته حقه ، إذا جحدته ، قال الشاعر :(8/156)
" صفحة رقم 157 "
لثن سخرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا
وعدى بعلى على معنى التضمين . وكانت قريش حين أخبرهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأمره في الإسراء ، كذبوا واستخفوا ، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم ، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء . وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه ، والشعبي فيما ذكر شعبة : بضم التاء وسكون الميم ، مضارع أمريت . قال أبو حاتم : وهو غلط .
النجم : ( 13 ) ولقد رآه نزلة . . . . .
( وَلَقَدْ رَءاهُ ( : الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام ، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع . ) نَزْلَةً أُخْرَى ( : أي مرة أخرى ، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج . وأخرى تقتضي نزلة سابقة ، وهي المفهومة من قوله : ) ثُمَّ دَنَا ( جبريل ، ( فَتَدَلَّى ( : وهو الهبوط والنزول من علو . وقال ابن عباس وكعب الأحبار : الضمير عائد على الله ، على ما سبق من قولهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه مرتين . وانتصب نزلة ، قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو مرة ، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل . وقال الحوفي وابن عطية : مصدر في موضع الحال . وقال أبو البقاء : مصدر ، أي مرة أخرى ، أو رؤية أخرى .
النجم : ( 14 ) عند سدرة المنتهى
) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ( ، قيل : هي شجرة نبق في السماء السابعة . وقيل : في السماء السادسة ، ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيلة . تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى موضع الانتهاء ، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل ؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل ؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى ، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض ، ولا تتجاوزها ملائكة السفل ؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء ؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها ؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها ؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويغرب علمهم عن ما وراءها ؛ أو تنتهي إليها الأعمال ؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة ، أقوال تسعة .
النجم : ( 15 ) عندها جنة المأوى
) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( : أي عند السدرة ، قيل : ويحتمل عند النزلة . قال الحسن : هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين . وقال ابن عباس : بخلاف عنه ؛ وقتادة : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء ، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم . وقيل : جنة : مأوى الملائكة . وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة : جنه ، بهاء الضمير ، وجن فعل ماض ، والهاء ضمير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه . وقيل : المعنى ضمه المبيت والليل . وقيل : جنه بظلاله ودخل فيه . وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا : أجن الله من قرأها ؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فليس لأحد ردّها . وقيل : إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها . وقراءة الجمهور : ) جَنَّةُ الْمَأْوَى ( ، كقوله في آية أخرى : ) فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً ).
النجم : ( 16 ) إذ يغشى السدرة . . . . .
( إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( : فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذي يغشاه ، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى . وقيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة ، يعبدون الله عندها . وقيل : ما يغشى من قدرة الله تعالى ، وأنواع الصفات التي يخترعها لها . وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم : ذلك جراد من ذهب كان يغشاها . وقال مجاهد : ذلك تبدل أغصانها درّاً وياقوتاً . وروي في الحديث : ( رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله تعالى ) . وأيضاً : يغشاها رفرف أخضر ، وأيضاً : تغشاها ألوان لا أدري ما هي . وعن أبي هريرة : يغشاها نور الخلاق . وعن الحسن : غشيها نور رب العزة(8/157)
" صفحة رقم 158 "
فاستنارت . وعن ابن عباس : غشيها رب العزة ، أي أمره ، كما جاء في صحيح مسلم مرفوعاً ، فلما غشيها من أمر الله ما غشي ، ونظير هذا الإبهام للتعظيم : ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( ، ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ).
النجم : ( 17 ) ما زاغ البصر . . . . .
( مَا زَاغَ الْبَصَرُ ( ، قال ابن عباس : ما مال هكذا ولا هكذا . وقال الزمخشري : أي أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه ، إذ ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، ( وَمَا طَغَى ( : وما جاوز ما أمر برؤيته . انتهى . وقال غيره : ) وَمَا طَغَى ( : ولا تجاوز المرئي إلى غيره ، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً ، وهذا تحقيق للأمر ، ونفي للريب عنه .
النجم : ( 18 ) لقد رأى من . . . . .
( لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( ، قيل : الكبرى مفعول رأى ، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه ، أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت ، وتلك بعض آيات الله . وقيل : ) مِنْ آيَاتِ ( هو في موضع المفعول ، والكبرى صفة لآياته ربه ، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة ، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة ، كما في قوله : ) لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( ، عند من جعلها صفة لآياتنا . وقال ابن عباس وابن مسعود : أي رفرف أخضر قد سد الأفق . وقال ابن زيد : رأي جبريل في الصورة التي هو بها في السماء .
النجم : ( 19 ) أفرأيتم اللات والعزى
) أَفَرَءيْتُمُ ( : خطاب لقريش . ولما قرر الرسالة أولاً ، وأتبعه من ذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى ، وقفهم على حقارة معبوداتهم ، وهي الأوثان ، وأنها ليست لها قدرة . واللات : صنم كانت العرب تعظمه . قال قتادة : كان بالطائف . وقال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة . وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ . قال ابن عطية : وقول قتادة أرجح ، ويؤيده قوله الشاعر : وفرت ثقيف إلى لاتها
بمنقلب الخائب الخاسر
انتهى .
ويمكن الجمع بأن تكون أصناماً سميت باسم اللات فأخبر كل عن صنم بمكانه . والتاء في اللات قيل أصلية ، لام الكلمة كالباء من باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء ، لأن مادة ليت موجودة . فإن وجدت مادة من ل و ت ، جاز أن تكون منقلبة من واو . وقيل : التاء للتأنيث ، ووزنها فعلة من لوى ، قيل : لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يلتوون عليها : أي يطوفون ، حذفت لامها . وقرأ الجمهور : اللات خفيفة التاء ؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية : بشدها . قال ابن عباس : كان هذا رجلاً بسوق عكاظ ، يلت السمن والسويق عند صخرة . وقيل : كان ذلك الرجل من بهز ، يلت السويق للحجاج على حجر ، فلما مات ، عبدوا الحجر الذي كان عنده ، إجلالاً لذلك الرجل ، وسموه باسمه . وقيل : سمي برجل كان يلت عنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً . وفي التحرير : أنه كان صنماً تعظمه العرب . وقيل : حجر ذلك اللات ، وسموه باسمه . وعن ابن جبير : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها . وعن مجاهد : شجيرات تعبد ببلادها ، انتقل أمرها إلى الصخرة . انتهى ملخصاً . وتلخص في اللات ، أهو صنم ، أو حجر يلت عليه ، أو صخرة يلت عندها ، أو قبر اللات ، أو شجيرات ثم صخرة ، أو اللات نفسه ، أقوال ، والعزى صنم . وقيل : سموه لغطفان ، وأصلها تأنيث الأعز ، بعث إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خالد بن الوليد فقطعها ، وخرجت منها شيطانة ، ناشرة شعرها ، داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ؛ فجعل يضر بها بالسيف حتى قتلها ، وهو يقول : يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك(8/158)
" صفحة رقم 159 "
ورجع فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( تلك العزى ولن تعبد أبدأ ) . وقال أبو عبيدة : كانت العزى ومناة بالكعبة . انتهى . ويدل على هذا قول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين : لنا عزى ، ولا عزى لكم . وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف . وقال قتادة : كانت بنخلة ، ويمكن الجمع ، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى ، كما قلنا في اللات ، فأخبر كل واحد عن ذلك الصنم المسمى ومكانه .
النجم : ( 20 - 21 ) ومناة الثالثة الأخرى
) وَمَنَواةَ ( : قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وعن ابن عباس : لثقيف . وقيل : بالمشكك من قديد بين مكة والمدينة ، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عدداً ، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها ، والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة ، لأن المخاطب بذلك في قوله : ) أَفَرَءيْتُمُ ( هم قريش . وقرأ الجمهور : ومناة مقصوراً ، فقيل : وزنها فعلة ، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها : أي تراق . وقرأ ابن كثير : ومناءة ، بالمد والهمز . قيل : ووزنها مفعلة ، فالألف منقلبة عن واو ، نحو : مقالة ، والهمزة أصل مشتقة من النوء ، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها ، والقصر أشهر . قال جرير : أزيد مناة توعد بأس تيم
تأمل أين تاه بك الوعيد
وقال آخر في المد والهمز : ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة
على النأي فيما بيننا ابن تميم
واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله : ) أَفَرَءيْتُمُ ( ، وهي بمعنى أخبرني ، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة ، لأن قوله : ) وَلَهُ الاْنثَى ( هو في معنى : وله هذه الإناث ، فأغنى عن الضمير . وكانوا يقولون في هذه الأصنام : هي بنات الله ، فالمعنى : ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم ، وله النوع المذموم بزعمكم ؟ وهو المستثقل . وحسن إبراز الأنثى كونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث ، وأنهن بنات الله تعالى ، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة ، وألف التأنيث في العزى ، ما يشعر بالتأنيث ، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث ، فكان في قوله : ) الاْنثَى ( نص على اعتقاد التأنيث فيها . وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة ، إذ لو أتى ضميراً ، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن ، لم تقع فاصلة . وقال الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، فيقول : أخبروني عن آلهتكم ، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة ؟ انتهى . فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها ، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها ، وعلى تقديره يبقى قوله : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( متعلقاً بما قبله من جهة المعنى ، لا من جهة المعنى الإعراب ، كما قلناه نحن . ولا يعجبني قول الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، ولو قال : وجه اتصال هذه ، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها ، لكان الجيد في الأدب ، وإن كان يعني هذا المعنى .
وقال ابن عطية : ) أَفَرَءيْتُمُ ( خطاب لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد . انتهى . ويعني بالأجرام : اللات والعزى ومناة ، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام(8/159)
" صفحة رقم 160 "
نحو : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وقوله : ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء ، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني ، لم تتعد ؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين ، أحدهما منصوب ، والآخر في الغالب جملة استفهامية . وقد تكرر لنا الكلام في ذلك ، وأوله في سورة الأنعام . ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه ، وهي التي بمعنى أخبرني . والظاهر أن ) الثَّالِثَةَ الاْخْرَى ( صفتان لمناة ، وهما يفيدان التوكيد . قيل : ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان ، أكدت بهذين الوصفين ، كما تقول : رأيت فلاناً وفلاناً ، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول : وفلاناً الآخر الذي من شأنه . ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكرم :
ولقد شفعتهما بآخر ثالث
انتهى .
وقول ربيعة مخالف للآية ، لأن ثالثاً جاء بعد آخر . وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان ، يكون التأكيد لأجل عظمها . ألا ترى إلى قوله : ثم تذكر ثالثاً أجل منهما وقال الزمخشري : والأخرى ذم ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : ) قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ ( : أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى . انتهى . ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح ، إنما يدلان على معنى غير ، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما . لو قلت : مررت برجل وآخر ، لم يدل إلا على معنى غير ، لا على ذم ولا على مدح . وقال أبو البقاء : والأخرى توكيد ، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى . انتهى . وقيل : الأخرى صفة للعزى ، لأنها ثانية اللات ؛ والثانية يقال لها الأخرى ، وأخرت لموافقة رؤوس الآي . وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير تقديره : والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة الذليلة ، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي ، والعزى صورة نبات ، ومناة صورة صخرة . فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد . فالجماد متأخر ، ومناة جماد ، فهي في أخريات المراتب .
النجم : ( 22 ) تلك إذا قسمة . . . . .
والإشارة بتلك إلى قسمتهم ، وتقديرهم : أن لهم الذكران ، ولله تعالى البنات . وكانو يقولون : إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى .
قال ابن عباس وقتادة : ضيزى : جائرة ؛ وسفيان : منقوصة ؛ وابن زيد : مخالفة ؛ ومجاهد ومقاتل : عوجاء ؛ والحسن : غير معتدلة ؛ وابن سيرين : غير مستوية ، وكلها أقوال متقاربة في المعنى . وقرأ الجمهور : ) ضِيزَى ( من غير همز ، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء ، كسرت لتصح الياء . ويجوز أن تكون مصدراً على وزن فعلى ، كذكرى ، ووصف به . وقرأ ابن كثير : ضئزى بالهمز ، فوجه على أنه مصدر كذكرى . وقرأ زيد بن علي : ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء ، ويوجه على أنه مصدر ، كدعوى وصف به ، أو وصف ، كسكرى وناقة خرمى . ويقال : ضوزى بالواو وبالهمز ، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي . وأنشد الأخفش : فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب
فسهمك مضؤوز وأنفك راغم
النجم : ( 23 ) إن هي إلا . . . . .
( إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ( : تقدّم تفسير نظيرها في سورة هود ، وفي سورة الأعراف . وقرأ الجمهور : ) إِن يَتَّبِعُونَ ( بياء الغيبة ؛ وعبد الله وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر : بتاء الخطاب ، ( إِلاَّ الظَّنَّ ( : وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة ، ( وَمَا تَهْوَى ( : أي تميل إليه بلذة ، وإنما تهوى أبداً ما هو غير الأفضل ، لأنها مجبولة على حب الملاذ ، وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل . ) وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( :(8/160)
" صفحة رقم 161 "
توبيخ لهم ، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين ، أي يفعلون هذه القبائح ؛ والهدى قد جاءهم ، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته .
النجم : ( 24 ) أم للإنسان ما . . . . .
( أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى ( : هو متصل بقوله : ) وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ ( ، بل للإنسان ، والمراد به الجنس ، ( مَا تَمَنَّى ( : أي ما تعلقت به أمانيه ، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني ، بل لله الأمر . وقولكم : إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى ، ليس لكم ذلك . وقيل : أمنيتهم قولهم : ) وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ). وقيل : قول الوليد بن المغيرة : ) لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ). وقيل : تمنى بعضهم أن يكون النبي .
النجم : ( 25 ) فلله الآخرة والأولى
) فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى ( : أي هو مالكهما ، فيعطي منهما ما يشاء ، ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله . وقدّم الآخرة على الأولى ، لتأخرها في ذلك ، ولكونها فاصلة ، فلم يراع الترتيب الوجودي ، كقوله : ) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى ).
) وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ ).
النجم : ( 26 ) وكم من ملك . . . . .
( وَكَمْ ( : هي خبرية ، ومعناها هنا : التكثير ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ) لاَ تُغْنِى ( ؛ والغنى : جلب النفع ودفع الضر ، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى . وكم لفظها مفرد ، ومعناها جمع . وقرأ الجمهور : ) شَفَاعَتُهُمْ ( ، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير ؛ وزيد بن علي : شفاعته ، بإفراد الشفاعة والضمير ؛ وابن مقسم : شفاعاتهم ، بجمعهما ، وهو اختيار صاحب الكامل ، أي القاسم الهذلي . وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر ، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد ، لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً . فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه ، أي يرضاه أهلاً للشفاعة ، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها ؟
النجم : ( 27 ) إن الذين لا . . . . .
ومعنى تسمية الاْنثَى : كونهم يقولون إنهم بنات الله ، ( وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ ( : هم العرب منكر والبعث .
النجم : ( 28 ) وما لهم به . . . . .
( وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( : أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن ، وإنما يدرك بالعلم واليقين . قيل : ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى ، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون ، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق .
النجم : ( 29 ) فأعرض عن من . . . . .
( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( ، موادعة منسوخة بآية السيف . ) وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( : أي لم تتعلق إرادته بغيرها ، فليس له فكر في سواها ، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة . والذكر هنا : القرآن ، أو الإيمان ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أقوال . ) عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( : هو سبب الأعراض ، لأن من لا يصغي إلى قول ، كيف يفهم معناه ؟ فأمر ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالإعراض عن من هذه حاله ، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر ، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا . فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم ، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر ،
النجم : ( 30 ) ذلك مبلغهم من . . . . .
وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها . ) مَبْلَغُهُمْ ( : غايتهم ومنتهاهم من العلم ، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا ، كالفلاحة والصنائع ، لقوله تعالى : ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ). ولما ذكر ما هم عليه ، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما . وقال الزمخشري : وقوله : ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( : اعتراض . انتهى ، وكأنه يقول : هو اعتراض بين ) فَأَعْرَضَ ( وبين ) إِنَّ رَبَّكَ ( ، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض . وقيل : ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله . وقال الفراء : صغر رأيهم وسفه أحلامهم ، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة . وقيل : ذلك إشارة إلى الظن ، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن . وقوله : ) إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( في معرض التسلية ،(8/161)
" صفحة رقم 162 "
إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم ، وفي ذلك وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين .
النجم : ( 31 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( : أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى ، يتصرف فيهما بما شاء . واللام في ) لِيَجْزِىَ ( متعلقة بما دل عليه معنى الملك ، أي يضل ويهدي ليجزي . وقيل : بقوله : ) بِمَن ضَلَّ ( ، و ) بِمَنِ اهْتَدَى ( ، واللام للصيرورة ، والمعنى : إن عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما علموا ، أي بعقاب ما علموا ، والحسنى : الجنة . وقيل : التقدير بالأعمال الحسنى ، وحين ذكر جزاء المسيء قال : بما علموا ، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل ، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن ، كقوله تعالى : ) وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ، والأحسن تأنيث الحسنى . وقرأ زيد بن علي : لنجزي ونحزي بالنون فيهما .
النجم : ( 32 ) الذين يجتنبون كبائر . . . . .
وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى : ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( في سورة النساء . والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، والفواحش معطوف على كبائر ، وهي ما فحش من الكبائر ، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها . وقال الزمخشري : والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ) إِلاَّ اللَّمَمَ ( : استثناء منقطع ، لأنه لم يدخل تحت ما قبله ، وهو صغار الذنوب ، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم ، كقوله : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ ( ، أي غير الله ) لَفَسَدَتَا ). وقيل : يصح أن يكون استثناء متصلاً ، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو ، وقد اختلفوا فيه اختلافاً ، فقال الخدري : هو النظرة والغمزة والقبلة . وقال السدي : الخطرة من الذنب . وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً ولا عذاباً . وقال ابن عباس أيضاً وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام .
وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : ) وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ). وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور . وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه . وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود . وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب . وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع . وقيل : نظرة الفجأة . ) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ( ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر . وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة . انتهى ، وفيه نزغة الاعتزال .
( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ( : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله . وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل . وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها . كان مكياً راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : ) إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ ( ، والظاهر أن المراد بأنشأكم : أنشأ أصلكم ، وهو آدم . ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، ( فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم .
وكثيراً ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل . وترى لبعضه في جبينه سواداً يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مراراً ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئاً بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية . وبعضهم يقول في(8/162)
" صفحة رقم 163 "
حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الواسوس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها . وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضاً تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع . وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة .
والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولداً أو سقطاً . وقوله : ) فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجنّ ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر . ) بِمَنِ اتَّقَى ( : قيل الشرك . وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية .
قوله عز وجل : ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفِي الاْخِرَةِ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاْخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى وَثَمُودَاْ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الاْوْلَى أَزِفَتِ الاْزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ).
النجم : ( 33 ) أفرأيت الذي تولى
) أَفَرَأَيْتَ ( الآية ، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجلس إليه ووعظه ، فقرب من الإسلام ، وطمع فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ثم إنه عاتبة رجل من المشركين ، فقال له : أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه ، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال . فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عن ما هم به من الإسلام ، وضل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عنه وشح . وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث ، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه ، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه . وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، كان ربما يوافق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في بعض الأمور . وقال محمد بن كعب : في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق . وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه ؛ كان يتصدق ، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحواً من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به . وذكر القصة بتمامها الزمخشري ، ولم يذكر في سبب النزول غيرها . قال ابن عطية : وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله . انتهى .
وأفرأيت هنا بمعنى : أخبرني ، ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي : ) عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ ). و ) تَوَلَّى ( : أي أعرض عن الإسلام . وقال الزمخشري : ) تَوَلَّى ( : ترك المركز يوم أحد . انتهى . لما جعل الآية نزلت في عثمان ، فسر التولي بهذا . وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن ، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان .
النجم : ( 34 ) وأعطى قليلا وأكدى
) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى ( ، قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم عصى . وقال مجاهد : أعطى قليلاً من نفسه(8/163)
" صفحة رقم 164 "
بالاستماع ، ثم أكدى بالانقطاع . وقال الضحاك : أعطى قليلاً من ماله ثم منع . وقال مقاتل : أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع .
النجم : ( 35 ) أعنده علم الغيب . . . . .
( أعنده عِلْمُ الْغَيْبِ ( : أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره ، أم هو جاهل ؟ وقال الزمخشري : ) فَهُوَ يَرَى ( : فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق . وقيل : يعلم حاله في الآخرة . وقال الزجاج : يرى رفع مأثمه في الآخرة . وقيل : فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل . وقال الكلبي : أنزل عليه قرآن ، فرأى ما منعه حق . وقيل : ) فَهُوَ يَرَى ( : أي الأجزاء ، واحتمل يرى أن تكون بصرية ، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب ، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم ، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة .
النجم : ( 36 - 38 ) أم لم ينبأ . . . . .
( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ( : أي بل ألم يخبر ؟ ) بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى ( ، وهي التوراة . ) وَإِبْراهِيمَ ( : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه ، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام . قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده . فأول من خالفهم إبراهيم ، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليهما ، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره . ) الَّذِى وَفِى ( ، قرأ الجمهور : وفي بتشديد الفاء . وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي : بتخفيفها ، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقاً له ، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة ، والصبر على ذبح ولده ، وعلى فراق اسماعيل وأمه ، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه . وكان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً . وقال ابن عباس والربيع : وفي طاعة الله في أمر ذبح ابنه . وقال الحسن وقتادة : وفي بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله . وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات : ) أَن لا تَزِرُ ( فما بعدها . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : وفي ما افترض عليه من الطاعة على وجهها ، وكملت له شعب الإيمان والإسلام ، فأعطاه الله براءته من النار . وقال ابن عباس أيضاً : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهماً ، يعني : عشرة في براءة التائبون الخ ، وعشرة في قد أفلح ، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين . وقال أبو أمامة : ورفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي أربع صلوات في كل يوم . وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادّعى ، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، فطالبه بصحة دعواه ، فابتلاه في ما له وولده ونفسه ، فوجده وافياً . انتهى ، وللمفسرين أقوال غير هذه . وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفي ، لا على سبيل التعيين ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وهي بدل من ما في قوله : ) بِمَا فِى صُحُفِ ( ، أو في موضع رفع ، كأن قائلاً قال : ما في صحفهما ، فقيل : ) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ، وتقدم شرح ) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ).
النجم : ( 39 - 40 ) وأن ليس للإنسان . . . . .
( وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( : الظاهر أن الإنسان يشمل المؤمن والكافر ، وأن الحصر في السعي ، فليس له سعي غيره ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها ، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لأمي ، إن تطوعت عنها ؟ قال : نعم . وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره . وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله : ) وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( ، فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين . وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح ، لأنه خبر لم يتضمن تكليفاً ؛ وعند الجمهور : إنها محكمة . قال ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله : ) لِلإِنسَانِ ). فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا ، لم تجده إلا سعيه ، وما تم بعد من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله ، فليس هو للإنسان ، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة . واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته(8/164)
" صفحة رقم 165 "
ببدن أو مال ، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال . انتهى .
والسعي : التكسب ، ويرى مبني للمفعول ، أي سوف يراه حاضراً يوم القيامة . وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء ،
النجم : ( 41 ) ثم يجزاه الجزاء . . . . .
والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي ، والجزاء مصدر . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : ) الْجَزَاء الاوْفَى ). وإذا كان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه ، فعلى ماذا انتصابه ؟ وأما إذا كان بدلاً ، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر ، وهي مسألة خلاف ، والصحيح المنع .
النجم : ( 42 ) وأن إلى ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ ( وما بعدها من ) وَأَنَّهُ ( ، وأن بفتح الهمزة عطفاً على ما قبلها . وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن ، وفي قوله : ) الاوْفَى ( وعيد للكافر ووعد للمؤمن ، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه ، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله ، كما قال : ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( : أي إلى جزائه وحسابه ، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار ؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية . وعن أبي ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قوله تعالى : ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( ، لا فكرة في الرب . وروى أنس عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إذا ذكر الرب فانتهوا ) .
النجم : ( 43 ) وأنه هو أضحك . . . . .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( : الظاهر حقيقة الضحك والبكاء . قال مجاهد : أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار . وقيل : كنى بالضحك عن السرور ، وبالبكاء عن الحزن . وقيل : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر . وقيل : أحيا بالإيمان ، وأبكى بالكفر . وقال الزمخشري : ) أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( : خلق قوتي الضحك والبكاء . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، إذ أفعال العباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم ، لا لله تعالى ، فلذلك قال : خلق قوتي الضحك والكباء .
النجم : ( 45 ) وأنه خلق الزوجين . . . . .
( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ( المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان ،
النجم : ( 46 ) من نطفة إذا . . . . .
( مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( : أي إذا تدفق ، وهو المني . يقال : أمنى الرجل ومنى . وقال الأخفش : إذا يمنى : أي يخلق ويقدر من مني الماني ، أي قدر المقدر .
النجم : ( 47 ) وأن عليه النشأة . . . . .
( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاْخْرَى ( : أي إعادة الأجسام : أي الحشر بعد البلى ، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله : ) عَلَيْهِ ( بوجودها لا محالة ، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورة العنكبوت . وقال الزمخشري : وقال ) عَلَيْهِ ( ، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال .
النجم : ( 48 ) وأنه هو أغنى . . . . .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( : أي أكسب القنية ، يقال : قنيت المال : أي كسبته ، وأقنيته إياه : أي أكسبته إياه ، ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى . وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولاً ، كقولهم : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، وكل قول منها لا دليل على تعينه ، فينبغي أن تجعل أمثلة .
النجم : ( 49 ) وأنه هو رب . . . . .
والشعرى التي عبدت هي العبور . وقال السدّي : كانت تعبدها حمير وخزاعة . وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة ، أحد أجداد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، من قبل أمهاته ، وكان اسمه عبد الشعرى ، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه السلام : ابن أبي كبشة ، ومن ذلك كلام أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة . ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها ، ويعتقد تأثيرها في العالم ، وأنها من الكواكب الناطقة ، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وهي تقطع السماء طولاً ، والنجوم تقطعها عرضاً . وقال مجاهد وابن زيد : هو مرزم الجوزاء .
النجم : ( 50 ) وأنه أهلك عادا . . . . .
( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى ( : جاء بين أن وخبرها لفظ هو ، وذلك في قوله : ) وَأَنْ هُوَ أَضْحَكَ ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ). ففي الثلاثة الأول ، لما كان قد يدعي ذلك بعض(8/165)
" صفحة رقم 166 "
الناس ، كقول نمروذ : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( ، احتيج إلى تأكيد في أن ذلك إنما هو لله لا غيره ، فهو الذي يضحك ويبكي ، وهو المميت المحيي ، والمغني ، والمقني حقيقة ، وإن ادّعى ذلك أحد فلا حقيقة له . وأما ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( ، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى ، نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها . ولما كان خلق الزوجين ، والإنشاء الآخر ، وإهلاك عاد ومن ذكر ، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك . وعاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى إرم . وقيل : الأولى : القدماء لأنهم أول الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام . وقيل : الأولى : المتقدّمون في الدنيا الأشراف ، قاله الزمخشري . وقال ابن زيد والجمهور : لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة . وقال الطبري : وصفت بالأولى ، لأن عاداً الآخرة قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهو بنو لقيم بن هزال . وقال المبرد : عاد الأخيرة هي ثمود ، والدليل عليه قول زهير :
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
ذكره الزهراوي . وقيل : عاد الأخيرة : الجبارون . وقيل : قبل الأولى ، لأنهم كانوا من قبل ثمود . وقيل : ثمود من قبل عاد . وقيل : عاد الأولى : هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ؛ وعاد الثانية : من ولد عاد الأولى . وقرأ الجمهور : ) عَاداً الاْولَى ( ، بتنوين عاداً وكسره لالتقائه ساكناً مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعد اللام . وقرأ قوم كذلك ، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة . وقرأ نافع وأبو عمرو : بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاد هذه القراءة للمازني والمبرد . وقالت العرب في الابتداء بعد النقل : الحمر ولحمر ، فهذه القراءة جاءت على الحمر ، فلا عيب فيها ، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة . ولما لم يكن بين الضمة والواو حائل ، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها ، كما قال :
أحب المؤقدين إليّ مؤسى
وكما قرأ بعضهم : على سؤقه ، وهو توجيه شذوذ ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة ، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية ، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى .
النجم : ( 51 ) وثمود فما أبقى
وقرأ الجمهور : وثمودا مصروفاً ، وقرأه غير مصروف : الحسن وعاصم وعصمة . ) فَمَا أَبْقَى ( : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معاً ، أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم . وقيل : ) فَمَا أَبْقَى ( : أي فما أبقى منهم عيناً تطرف . وقال ذلك الحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفاً من نسل ثمود ، فقال : قال الله تعالى : ) وَثَمُودَاْ فَمَا أَبْقَى ( ، وهؤلاء يقولون : بقيت منهم بقية ، والظاهر القول الأول ، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام ، فما أهلكهم الله مع الذين كفروا به .
النجم : ( 52 ) وقوم نوح من . . . . .
( وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ ( : أي من قبل عاد وثمود ، وكانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، ونوح عليه السلام أول الرسل . والظاهر أن الضمير في ) أَنَّهُمْ ( عائد على قوم نوح ، وجعلهم ) أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه . وقال قتادة : دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه ، يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه . وقيل : الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمود وقوم نوح ، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى ، ففي ذلك تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وهم يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المنصوب ، ويجوز أن يكون فصلاً ، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول بعد الواقع خبراً لكان ، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ ، وحذفه فصيح فيه(8/166)
" صفحة رقم 167 "
فكذلك في خبر كان .
النجم : ( 53 ) والمؤتفكة أهوى
) وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين ، وسميت بذلك لأنها انقلبت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذباً ، أفكه فأئتفك . قيل : ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة : كل ما انقلبت مساكنه ودبرت أماكنه . ) أَهْوَى ( : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء ، رفعها جبريل عليه السلام ، ثم أهوى بها إلى الأرض . وقال المبرد : جعلها تهوي . وقرأ الحسن : والمؤتفكات جمعاً ، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة ، وأخر العامل لكونه فاصلة . ويجوز أن يكون ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( معطوفاً على ما قبله ، و ) أَهْوَى ( جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم ، أي وإهلاك المؤتفكة مهوياً لها .
النجم : ( 54 ) فغشاها ما غشى
) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم ، لما قلبها جبريل عليه السلام اتبعت حجارة غشيتهم . واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد ، فيتعدى إلى واحد ، فيكون الفاعل ما ، كقوله تعالى : ) فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ ).
النجم : ( 55 ) فبأي آلاء ربك . . . . .
( فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى ( : الباء ظرفية ، والخطاب للسامع ، وتتمارى : تتشكك ، وهو استفهام في معنى الإنكار ، أي آلاؤه ، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع ، وقد سبق ذكر نعم ونقم ، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر . وقرأ يعقوب وابن محيصن : ربك تمارى ، بتاء واحدة مشددة . وقال أبو مالك الغفاري : إن قوله : ) أَن لا تَزِرُ ( إلى قوله : ) تَتَمَارَى ( هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .
النجم : ( 56 ) هذا نذير من . . . . .
( هَاذَا نَذِيرٌ ( ، قال قتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر : الإشارة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، افتتح أول السورة به ، واختتم آخرها به . وقيل : الإشارة إلى القرآن . وقال أبو مالك : إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم ، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة ، والنذير يكون مصدراً أو اسم فاعل ، وكلاهما من أنذر ، ولا يتقاسان ، بل القياس في المصدر إنذار ، وفي اسم الفاعل منذر ؛ والنذر إما جمع للمصدر ، أو جمع لاسم الفاعل . فإن كان اسم فاعل ، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة .
ولما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره ، وذكر قوله : ) هَاذَا نَذِيرٌ ( ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع
النجم : ( 57 ) أزفت الآزفة
فقال : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ( ، وهي القيامة .
النجم : ( 58 ) ليس لها من . . . . .
( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( : أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه ، قاله الطبري والزجاج . وقال القاضي منذر بن سعيد : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس لها من يكشف خطبها وهو لها . انتهى . ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة . وقال الرماني وجماعة : ويحتمل أن يكون مصدراً ، ( كالعاقبة ( ، ( وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( ، أي ليس لها كشف من دون الله . وقيل : يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة .
النجم : ( 59 ) أفمن هذا الحديث . . . . .
( أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ ). وهو القرآن ، ( تَعْجَبُونَ ( فتنكرون ،
النجم : ( 60 ) وتضحكون ولا تبكون
) وَتَضْحَكُونَ ( مستهزئين ، ( وَلاَ تَبْكُونَ ( جزعاً من وعيده .
النجم : ( 61 ) وأنتم سامدون
) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( ، قال مجاهد : معرضون . وقال عكرمة : لاهون . وقال قتادة : غافلون . وقال السدّي : مستكبرون . وقال ابن عباس : ساهون . وقال المبرد : جامدون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلاً عنه . وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكاً بعد نزولها .
النجم : ( 62 ) فاسجدوا لله واعبدوا
فاسجدوا : أي صلوا له ، ( وَاعْبُدُواْ ( : أي أفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام . وخرّج البغوي بإسناد متصل إلى عبد الله ، قال : أول سورة نزلت فيها السجدة النجم ، فسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، والرجل أمية بن خلف . وروي أن المشركين سجدوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي حرف أبي وعبد الله : تضحكون بغير واو . وقرأ الحسن : تعجبون تضكحون ، بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء . وفي قوله : ) وَلاَ تَبْكُونَ ( ، حض على البكاء عند سماع القرآن . والسجود هنا عند كثير من أهل العلم(8/167)
" صفحة رقم 168 "
منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ووردت به أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك هنا . وعن زيد بن ثابت : أنه قرأ بها عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم يسجد ، والله تعالى أعلم .(8/168)
" صفحة رقم 169 "
54
( سورة القمر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاٌّ رْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ(8/169)
" صفحة رقم 170 "
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( )
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق . . . . .
الجدث : القبر ، وتبدل ثاؤه فاء فيقال : جدف ، كما أبدلوا في ثم فقالوا : فم . انهمر الماء : نزل بقوة غزيراً ، قال الشاعر : راح تمريه الصبا ثم تنحى
فيه شؤبوب جنوب منهمر
الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة ، واحدها دسار ، نحو كتاب وكتب . ويقال : دسرت السفينة ، إذا شددتها بالمسامير . وقال الليث وصاحب الصحاح : الدسر : خيوط تشدّ بها ألواح السفينة . الصرصر : الشديدة الصوت ، أو البرد ، إما من صرير الباب ، وهو تصويته ، أو من الصر الذي هو البرد ، وهو بناء متأصل على وزن فعلل عند الجمهور . العجز : مؤخر الشيء . المنقعر : المنقلع : من أصله ، قعرت الشجرة قعراً : قلعتها من أصلها فانقعرت ، والبئر : نزلت حتى انتهيت إلى قعرها ، والإناء : شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره ، وأقعرته البئر : جعلت لها قعراً . الأشر : البطر . وقرأ : أشر بالكسر يأشر أشراً ، فهو أشر وآشر وأشران ، وقوم أشارى ، مثل : سكران وسكارى . سقر : علم لجهنم مشتق من سقرته النار بالسين ، وصقرته بالصاد إذا لوّحته . قال ذو الرمّة : إذا دابت الشمس اتقى صقراتها
بأفنان مربوع الصريمة معيل
وامتنعت سقر من الصرف للعلمية ، والتأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب .
( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقيل : هي مما نزل يوم بدر . وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات ، أولها : ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ ( ، وآخرها : ) أَدْهَى وَأَمَرُّ ). وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر(8/170)
" صفحة رقم 171 "
فرقتين ، ووعدوه بالإيمان إن فعل . وكانت ليلة بدر ، فسأل ربه ، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان . فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر . فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي ، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح ، وإلا فقد سحر محمد أعيننا . فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر ، فأعرض أبو جهل وقال : ) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ). وعن ابن عباس : شق القمر شقين ، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية . وعنه : انشق القمر بمكة مرتين . وعنه : انفلق فلقتين ، فلقة ذهبت وفلقة بقيت .
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة ، قال : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( ، وقال : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ). وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم ، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس . وحين أرى الله الناس انشقاق القمر ، قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اشهدوا ) ، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد . وقال بعضهم : سحر القمر . والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله : ) وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( معناه : أنه ينشق يوم القيامة ، ويرده من الآية قوله : ) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ). فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معيناً من انشقاق القمر . وقيل : سألوا آية في الجملة ، فأراهم هذه الآية السماوية ، وهي من أعظم الآيات ، وذلك التأثير في العالم العلوي . وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر ، أي اقتربت ، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وخطب حذيفة بالمدائن ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية ، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها ، فالمعنى : ظهر الأمر ، فإن العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح ، كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق . قال النابغة : فلما أدبروا ولهم دوي
دعانا عند شق الصبح داعي
وهذه أقوال فاسدة ، ولولا أن المفسرين ذكروها ، لأضربت عن ذكرها صفحاً .
القمر : ( 2 ) وإن يروا آية . . . . .
( وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ ( ، وقرىء : وإن يروا مبنياً للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية . وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي ، ويقولوا : ) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( : أي دائم ، ومنه قول الشاعر : ألا إنما الدنيا ليال وأعصر
وليس على شيء قويم بمستمر
لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع ، قالوا ذلك . وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل ، أي سحر قد أحكم ، ومنه قول الشاعر : حتى استمرت على سر مريرته
صدق العزيمة لا رياً ولا ضرعا
وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ، واختاره النحاس : مستمر : مار ذاهب زائل عن قريب ، عللوا بذلك أنفسهم . وقيل مستمر : شديد المرارة ، أي مستبشع عندنا مر ، يقال : مر الشيء وأمر ، إذا صار مراً ، وأمر غيره(8/171)
" صفحة رقم 172 "
ومره ، يكون لازماً ومتعدياً . وقيل : مستمر : يشبه بعضه بعضاً ، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات . وقيل : مستمر : مار من الأرض إلى السماء ، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر .
القمر : ( 3 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم . . . . .
( وَكَذَّبُواْ ( : أي بالآيات وبمن جاء بها ، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد . ) وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي شهوات أنفسهم وما يهوون . ) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( ، بكسر القاف وضم الراء : مبتدأ أو خبر . قال مقاتل : أي له غاية ينتهي إليها . وقال الكلبي : مستقرّ له حقيقة ، فما كان في الدنيا فسيظهر ، وما كان في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : معناه أن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر . وقيل : يستقر الحق ظاهراً ثابتاً ، والباطل زاهقاً ذاهباً . وقيل : كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة ، أو شقاوة في الآخرة . وقرأ شيبة : مستقر بفتح القاف ، ورويت عن نافع ؛ وقال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف . انتهى . وخرجت على حذف مضاف ، أي ذو استقرار ، وزمان استقرار . وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي : مستقر بكسر القاف والراء معاً صفة لأمر . وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفاً على الساعة ، أي اقتربت الساعة ، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله ، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : أكلت خبزاً وضربت زيداً ، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً ، فيكون ولحماً عطفاً على خبزاً ، بل لا يوجد مثله في كلام العرب . وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل ، فهو مرفوع في الأصل ، لكنه جر للمجاورة ، وهذا ليس بجيد ، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، والأسهل أن يكون الخبر مضمراً لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( بالغوه ، لأن قبله : ) وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم . وقيل : الخبر حكمة بالغة ، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة . ويكون :
القمر : ( 4 ) ولقد جاءهم من . . . . .
( وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( اعتراض بين المبتدأ وخبره .
( وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء ( : أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة ، ( مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( : أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه ، أو موضع ازدجار وارتداع ، أي ذلك موضع ازدجار ، أو مظنة له . وقرىء مزجر ، بإبدال تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي فيها . وقرأ زيد بن علي : مزجر اسم فاعل من أزجر ، أي صار ذا زجر ، كأعشب : أي صار ذا عشب .
القمر : ( 5 ) حكمة بالغة فما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( برفعهما ، وجوزوا أن تكون حكمة بدلاً من مزدجر أو من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم قول من جعله خبراً عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر . وقرأ اليماني : حكمة بالغة بالنصب فيهما حالاً من ما ، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة ، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها . ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( مع هؤلاء الكفرة .
القمر : ( 6 ) فتول عنهم يوم . . . . .
ثم سلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( أي أعرض عنهم ، فإن الإنذار لا يجدي فيهم . ثم ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه ، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة ، فقال : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِىَ ( ، والناصب ليوم اذكر مضمرة ، قاله الرماني ، أو يخرجون . وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى . أما من جهة اللفظ فحذف إلى ، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغياً بيوم يدع الداع . وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله : ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( ، ويكون ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( اعتراضاً ، وأن يكون منصوباً بقوله : ) يَقُولُ الْكَافِرُونَ ((8/172)
" صفحة رقم 173 "
ومنصوباً على إضمار انتظر ، ومنصوباً بقوله : ) فَتَوَلَّ ( ، وهذا ضعيف جدّاً ، ومنصوباً بمستقر ، وهو بعيد أيضاً . وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعاً للنطق ، والياء من الداع تخفيفاً أجريت أل مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين . فكما تحذف معه حذفت معها ، والداع هو إسرافيل ، أو جبرائيل ، أو ملك غيرهما موكل بذلك ، أقوال . وقرأ الجمهور : ) نُّكُرٍ ( بضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وهو قليل في الصفات ، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة ، وناقة أجد ، ومشية سجح ، وروضة أنف . وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف ، كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر . وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، أي جهل فنكر . وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد ، والوجل الداهية ، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله ، وهو يوم القيامة . قال مالك بن عوف النضري : أقدم محاج أنه يوم نكر
مثلي على مثلك يحمي ويكر
القمر : ( 7 ) خشعا أبصارهم يخرجون . . . . .
وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد . وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب . وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز . انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر : بمطرد لذن صحاح كعربه
وذي رونق عضب يقد الوانسا
ومثال الإفراد قوله : ورجال حسن أو جههم
من أياد بن نزار بن معد
وقال آخر :
ترمي الفجاج به الركبان معترضاً
أعناق بزلها مرخى لها الجدل
وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً . وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :
سريعاً يهون الصعب عند أولي النهي
إذا برجاء صادق قابلوه البأسا
فسريعاً حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون . وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( وقيل : هو مفعول بيدع ، أي قوماً خشعاً ، أو فريقاً خشعاً ، وفيه بعد . ومن أفرد خاشعاً وذكر ،(8/173)
" صفحة رقم 174 "
فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم . وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . انتهى . ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة .
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه . انتهى . وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم . والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير ، وأبصارهم بدل منه . وقرىء : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك .
( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( : جملة حالية أيضاً ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ، ويقال : كالذباب . وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما . وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب .
القمر : ( 8 ) مهطعين إلى الداع . . . . .
( مُهْطِعِينَ ( ، قال أبو عبيدة : مسرعين ، ومنه قوله : بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
زاد غيره : مادّي أعناقهم ، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه . وقال قتادة : عامدين . وقال الضحاك : مقبلين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت . وقال ابن عباس : ناظرين . ومنه قول الشاعر : تعبدني نمر بن سعد وقد أرى
ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وقيل : خافضين ما بين أعينهم . وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء . ) يَوْمٌ عَسِرٌ ( ، لما يشاهدون من مخايل هوله ، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه .
القمر : ( 9 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ( : أي قبل قريش ، ( قَوْمُ نُوحٍ ( وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم . ومفعول كذبت محذوف ، أي كذبت الرسل ، فكذبوا نوحاً عليه السلام . لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً ، كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل . ويجوز أن يكون المحذوف نوحاً أول مجيئه إليهم ، فكذبوه تكذيباً يعقبه تكذيب . كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعه قرن مكذب . وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية ، كقوله تعالى : ) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ( ، ( سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ). ) وَقَالُواْ مَجْنُونٌ ( : أي هو مجنون . لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن ، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون ، أي(8/174)
" صفحة رقم 175 "
يقول ما لا يقبله عاقل ، وذلك مبالغة في تكذيبهم .
( وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ ( ، الظاهر أن قوله : ) وَازْدُجِرَ ( من أخبار الله تعالى ، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ). قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم . وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم ، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنوناً ، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته .
القمر : ( 10 ) فدعا ربه أني . . . . .
وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة ، على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين . وقرأ الجمهور : بفتحها ، أي بأني مغلوب ، أي غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني ، ويئست من إجابتهم لي . ) فَانتَصِرْ ( : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم . وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشياً عليه ، وقد كان يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ومتعلق ) فَانتَصِرْ ( محذوف . وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم . وقيل : فانتصر لنفسك ، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة . وللمتصوفة قول في ) مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( حكاه ابن عطية ، يوقف عليه في كتابه .
القمر : ( 11 ) ففتحنا أبواب السماء . . . . .
( فَفَتَحْنَا ( : بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم . قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم . ) أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء ( : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها ، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح ، وكأن الماء جاء وفتح الباب ، فجعل المقصود ، وهو الماء ، مقدّماً في الوجود على فتح الباب المغلق . ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي ملتبسة بماء منهمر . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّداً ؛ والجمهور : مخففاً ، ( أَبْوابَ السَّمَاء ( ، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب ، كما تقول : فتحت أبواب القرب ، وجرت مزاريب السماء . وقال عليّ ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة ، وهي سرع السماء كسرع العيبة . وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء ، ومثله مروي عن ابن عباس ، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب ، لم تغلق أربعين يوماً . قال السدي : ) مُّنْهَمِرٍ ( : أي كثير . قال الشاعر : أعينيّ جودا بالدموع الهوامر
على خير باد من معد وحاضر
القمر : ( 12 - 13 ) وفجرنا الأرض عيونا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَفَجَّرْنَا ( بتشديد الجيم ؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : بالتخفيف ؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك . والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة ، مجاز في غيرها ، وهو في غير الماء مجاز مشهور ، غالب وانتصب عيوناً على التمييز ، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من : وفجرنا عيون الأرض ، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالاً ، ويكون حالاً مقدرة ، وأعربه بعضهم مفعولاً ثانياً ، كأنه ضمن ) وَفَجَّرْنَا ( : صيرنا بالتفجير ، ( الاْرْضَ عُيُوناً ). وقيل : وفجرت أربعين يوماً . وقرأ الجمهور : ) فَالْتَقَى المَاء ( ، وهو اسم جنس ، والمعنى : ماء السماء وماء الأرض . وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري : الماآن . وقرأ الحسن أيضاً : الماوان . وقال الزمخشري : وقرأ الحسن ماوان ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان . انتهى . شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا . وعن الحسن أيضاً : المايان ، بقلب الهمزة ياء ، وفي كلتا القراءتين شذوذ . ) عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( : أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل . وقيل : على مقادير قد رتبت وقت التقائه ، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعاً ، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعاً . وقيل : كان ماء الأرض أكثر . وقيل : كانا متساويين ، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض .
وقيل : ) عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( : في اللوح(8/175)
" صفحة رقم 176 "
أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان ، وهذا هو الراجح ، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها ، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح ، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله : ) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ). وقرأ أبو حيوة : قدر بشد الدال ؛ والجمهور ؛ بتخفيفها ، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليها السلام . ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة ، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ، ونحوه : قميصي مسرودة من حديد ، أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه ، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير ، قاله الجمهور . وقال الحسن وابن عباس : مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء ، أي تدفعه ، والدسر : الدفع . وقال مجاهد وغيره : بطن السفينة . وعنه أيضاً : عوارض السفينة . وعنه أيضاً : أضلاع السفينة ، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة ، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم .
القمر : ( 14 ) تجري بأعيننا جزاء . . . . .
وقال مقاتل بن سليمان : ) بِأَعْيُنِنَا ( : بوحينا . وقيل : بأمرنا . وقيل : بأوليائنا . يقال : فلان عين من عيون الله تعالى : أي ولي من أوليائه . وقيل : بأعين الماء التي أنبعناها . وقيل : من حفظها من الملائكة سماهم أعيناً . وقرأ زيد بن علي وأبو السمال : بأعينا بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك . ) جَزَاء ( : أي مجازاة ، ( لّمَن كَانَ كُفِرَ ( : أي لنوح عليه السلام ، إذ كان نعمة أهداها الله إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها ، المعنى : أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين ، ومن كناية عن نوح . قيل : يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته . وقال ابن عباس ومجاهد : من يراد به الله تعالى ، كأنه قال : غضباً وانتصاراً لله تعالى ، أي انتصر لنفسه ، فأغرق الكافرين ، وأنجى المؤمنين ، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور . كفر : مبنياً للمفعول . وقرأ مسلمة بن محارب : بإسكان الفاء خفف فعل ، كما قال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر
يريد : لو عصر . وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى : كفر مبنياً للفاعل ، فمن يراد به قوم نوح : أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء ، وتفجر عيون الأرض ، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، كان جزاء لهم على كفرهم . وكفر : خبر لكان ، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبراً لكان ، وهو مذهب البصريين وغيرهم . يقول : لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة ، أي لمن كفر ،
القمر : ( 15 ) ولقد تركناها آية . . . . .
والضمير في ) تَّرَكْنَاهَا ( عائد على الفعلة والقصة . وقال قتادة والنقاش وغيرهما : عائد على السفينة ، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة . وقال قتادة : وكم من سفينة بعدها صارت رماداً وقرأ الجمهور : ) مُّدَّكِرٍ ( ، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال ؛ وقتادة : فيما نقل ابن عطية بالذال ، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول . وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة : فهل من مذكر ، فاعل من التذكير ، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص . انتهى . وقرىء : مدتكر على الأصل .
القمر : ( 16 ) فكيف كان عذابي . . . . .
( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( : تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له ، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم ، فلم ينسل منهم أحد ؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري ؟ والنذر : جمع نذير وهو الإنذار ، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم . وكان ، إن كانت ناقصة ، كانت كيف في موضع خبر(8/176)
" صفحة رقم 177 "
كان ؛ وإن كانت تامة ، كانت في موضع نصب على الحال . والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته ، بل المعنى على التذكير بما حل بهم .
القمر : ( 17 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( : أي سهلنا ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( : أي للإذكار والاتعاظ ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد . ) فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( ، قال ابن زيد : من متعظ . وقال قتادة : فهل من طالب خير ؟ وقال محمد بن كعب : فهل من مزدجر عن المعاصي ؟ وقيل : للذكر : للحفظ ، أي سهلناه للحفظ ، لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ ، وعروه عن الحشو وشرف المعاني وصحتها ، فله تعلق بالقلوب . ) فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( : أي من طالب لحفظه ليعان عليه ، وتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس . وقال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن . وقيل : يسرنا : هيأنا ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( ، كقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ، قال الشاعر : وقمت إليه باللجام ميسرا
هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
قوله عز وجل : ) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
القمر : ( 18 - 19 ) كذبت عاد فكيف . . . . .
تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة ، وهنا ذكرها تعالى موجزة ، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة . ولما لم يكن لقوم نوح علم ، ذكر قوم مضافاً إلى نوح . ولما كانت عاد علماً لقوم هود ، ذكر العلم ، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة . وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده ، لغرابة ما عذبوا به من الريح ، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب ، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة . وقيل ، المصوتة والجمهور : على إضافة يوم إلى نحس ، وسكون الحاء . وقرأ الحسن : بتنوين يوم وكسر الحاء ، جعله صفة لليوم ، كقوله تعالى : ) فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ). ) مُّسْتَمِرٌّ ( ، قال قتادة : استمر بهم حتى بلغهم جهنم . وعن الحسن والضحاك : كان مراً عليهم . وروي أنه كان يوم الأربعاء ، والذي يظهر أنه ليس يوماً معيناً ، بل أريد به الزمان والوقت ، كأنه قيل : في وقت نحس . ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت : ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ). وقال في الحاقة : ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ( ، إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء ، فعبر بوقت الابتداء ، وهو يوم الأربعاء ، فيمكن الجمع بينها .
القمر : ( 20 ) تنزع الناس كأنهم . . . . .
( تَنزِعُ النَّاسَ ( : يجوز أن يكون صفة للريح ، وأن يكون حالاً منها ، لأنها وصفت فقربت من المعرفة . ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً ، وجاء الظاهر(8/177)
" صفحة رقم 178 "
مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، إذ لو عاد بضمير المذكورين ، لتوهم أنه خاص بهم ، أي تقلعهم من أماكنهم . قال مجاهد : يلقى الرجل على رأسه ، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه . وقيل : كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ، ويدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتدق رقابهم . والجملة التشبيهية حال من الناس ، وهي حال مقدرة . وقال الطبري : في الكلام حذف تقديره : فتتركهم . ) كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ( : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم ، بأعجاز النخل المنقعر ، إذ تساقطوا على الأرض أمواتاً وهم جثث عظام طوال . والأعجاز : الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها . وقيل : كانت الريح تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجساداً بلا رؤوس ، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها . وقرأ أبو نهيك : أعجز على وزن أفعل ، نحو ضبع وأضبع . والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنث في قوله : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضاً .
القمر : ( 24 - 25 ) فقالوا أبشرا منا . . . . .
وقرأ أبو السمال ، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل ، وأبو عمرو والداني : برفعهما . فأبشر : مبتدأ ، وواحد صفته ، والخبر نتبعه . ونقل ابن خالويه ، وصاحب اللوامح ، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال . قال صاحب اللوامح : فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير : أبشر منا يبعث إلينا ، أو يرسل ، أو نحوهما ؟ وأما انتصاب واحداً فعلى الحال ، إما مما قبله بتقدير : أبشر كائن منا في الحال توحده ، وإما مما بعده بمعنى : نتبعه في توحده ، أو في انفراده . وقال ابن عطية : ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر ؟ وإما على الابتداء ، والخبر في قوله : ) نَّتَّبِعُهُ ( ، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه ، وإما من المقدر مع منا ، كأنه يقول : أبشر كائن منا واحداً ؟ وفي هذا نظر . وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل ، فقالوا : نكون جمعاً ونتبع واحداً ، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه . انتهى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً ؟ قلت : قالوا : أبشراً إنكاراً ؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة ، وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم ، كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحداً إنكاراً ، لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، وأرادوا واحداً من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم ، ويدل عليه . ) الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ ( : أي أأنزل عليه الوحي من بيننا ؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة . انتهى ، وهو حسن ، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله . ) إِنَّا إِذَا ( : أي إن اتبعناه ، فنحن في ضلال : أي بعد عن الصواب وحيرة . وقال الضحاك : في تيه . وقال وهب : بعد عن الحق ، ( وَسُعُرٍ ( : أي عذاب ، قاله ابن عباس . وعنه وجنون يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة ، وقال الشاعر : كأن بها سعراً إذا العيس هزها
زميل وإزجاء من السير متعب
وقال قتادة : وسعر : عناء . وقال ابن بحر : وسعر جمع سعير ، وهو وقود النار ، أي في في خطر كمن هو في النار . انتهى . وروي أنه كان يقول لهم : إن لم تتبعوني ، كنتم في ضلال عن الحق وسعر : أي نيران ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول . ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا : ) أَءلْقِىَ ( : أي أأنزل ؟ قيل : وكأنه يتضمن العجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه : ) وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى ( ، ( إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ). والذكر هنا : الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة . ثم قالوا : ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن . ) أَشِرٌ ( : أي بطر ،(8/178)
" صفحة رقم 179 "
يريد العلوّ علينا ، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا . وقرأ قتادة وأبو قلابة : بل هو الكذاب الأشر ، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء ، وكذا الأشر الحرف الثاني . وقرأ الحرف الثاني مجاهد ، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء . ويقال : أشر وأشر ، كحذر وحذر ، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين . وحكى الكسائي عن مجاهد : ضم الشين . وقرأ أبو حيوة : هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل ، وإتمام خير ، وشر في أفعل التفضيل قليل . وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وهو أشر . قال الراجز .
بلال خير الناس وابن الأخير
وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد قول رؤبة بلال البيت .
القمر : ( 26 ) سيعلمون غدا من . . . . .
وقرأ علي والجمهور : سيعلمون بياء الغيبة ، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام ؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش : بتاء الخطاب : أي قل لهم يا صالح وعداً يراد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم ، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا ، وأن يكون يوم القيامة ، وقال الطرماح : ألا عللاني قبل نوح النوائح
وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد
إذا راح أصحابي ولست برائح
أراد وقت الموت ، ولم يرد غداً بعينه . وفي قوله : ) سَيَعْلَمُونَ غَداً ( تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر ، والمعنى : أنهم هم الكذابون الأشرون . وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال ، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى ، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ( ، والمعنى به قومه ، وكذا قول شعيب عليه السلام : ) سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ( ؛ وقول الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أني وأيك فارس الأحزاب
وإنما عنى أنه فارس الأحزاب ، لا الذي خاطبه .
القمر : ( 27 ) إنا مرسلو الناقة . . . . .
( إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ ( : أي ابتلاء واختباراً ، وآنس بذلك صالحاً . ولما هددهم بقوله : ) سَيَعْلَمُونَ غَداً ( ، وكانوا قد ادعوا أنه كاذب ، قالوا : ما الدليل على صدقك ؟ قال الله تعالى : ) إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ ( : أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها . ) فَارْتَقِبْهُمْ ( : أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون ، ( وَاصْطَبِرْ ( على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله .
القمر : ( 28 ) ونبئهم أن الماء . . . . .
( وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء ( : أي ماء البئر الذي لهم ، ( قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ( : أي بين ثمود وبين الناقة غلب ثمود ، فالضمير في بينهم لهم وللناقة . أي لهم شرب يوم ، وللناقة شرب يوم . وقرأ الجمهور : قسمة بكسر القاف ؛ ومعاذ عن أبي عمرو : بفتحها . ) كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ( أي محضور لهم وللناقة . وتقدمت قصة الناقة مستوفاة ، فأغنى عن إعادتها ، وهنا محذوف ، أي فكانوا على هذه الوتيرة من قسمة الماء ، فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة .
القمر : ( 29 ) فنادوا صاحبهم فتعاطى . . . . .
( فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ ( ، وهو قدار بن سالف ، ( فَتَعَاطَى ( : هو مطاوع عاطى ، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده . ولما كانوا راضين ، نسب ذلك إليهم في قوله : ) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ ( ، وفي قوله : ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ).
القمر : ( 31 ) إنا أرسلنا عليهم . . . . .
والصيحة التي أرسلت عليهم .
يروي أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم ، فتفتتوا وهمدوا(8/179)
" صفحة رقم 180 "
وصاروا ) كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( وهو ما تفتت وتهضم من الشجر . والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان ، تطأه البهائم فيتهشم . وقرأ الجمهور : بكسر الظاء ؛ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد : بفتحها ، وهو موضع الاحتظار . وقيل : هو مصدر ، أي كهشيم الاحتظار ، وهو ما تفتت حالة الاحتظار . والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب . والخظر : المنع ؛ وعن ابن عباس وقتادة ، أن المحتظر هو المحترق . قال قتادة : كهشيم محترق ؛ وعن ابن جبير : هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي . وقيل : المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك ، وكان هنا قيل : بمعنى صار .
قوله عز وجل : ) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ).
القمر : ( 33 - 34 ) كذبت قوم لوط . . . . .
تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه . والحاصب من الحصباء ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ). ) إِلا ءالَ لُوطٍ ( ، قيل : إلا ابنتاه ، و ) بِسَحَرٍ ( : هو بكرة ، فلذلك صرف ،
القمر : ( 35 ) نعمة من عندنا . . . . .
وانتصب ) نِعْمَتَ ( على أنه مفعول من أجله ، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر ، لأن المعنى : أنعمنا بالتنجية إنعاماً . ) كَذالِكَ نَجْزِى ( : أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي ) مَن شَكَرَ ( إنعامنا وأطاع وآمن .
القمر : ( 36 ) ولقد أنذرهم بطشتنا . . . . .
( وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ( : أي أخذتنا لهم بالعذاب ، ( فَتَمَارَوْاْ ( : أي تشككوا وتعاطوا ذلك ، ( بِالنُّذُرِ ( : أي بالإنذار ، أو يكون جمع نذير .
القمر : ( 37 ) ولقد راودوه عن . . . . .
( فَطَمَسْنَا ( ، قال قتادة : الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه ، فاستوت مع وجوههم . وقال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه . قيل : لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه ، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب ، حتى أخرجهم لوط عليه السلام . وقال ابن عباس والضحاك : هذه استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً ، فجعل ذلك كالطمس . وقرأ الجمهور : فطمسنا بتخفيف الميم ؛ وابن مقسم : بتشديدها . ) فَذُوقُواْ ( : أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا .
القمر : ( 38 ) ولقد صبحهم بكرة . . . . .
( وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً ( : أي أول النهار وباكره ، لقوله : ) مُشْرِقِينَ ( و ) مُّصْبِحِينَ ). وقرأ الجمهور : بكرة بالتنوين ، أراد بكرة من البكر ، فصرف . وقرأ زيد بن علي : بغير تنوين . ) عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ( : أي لم يكشفه عنهم كاشف ، بل اتصل بموتهم ، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر ، ثم عذاب جهنم .
القمر : ( 39 ) فذوقوا عذابي ونذر
) فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ ( : توكيد وتوبيخ ذلك عند الطمس ، وهذا عند تصبيح العذاب . قيل : وفائدة تكرار هذا ، وتكرار
القمر : ( 40 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( ، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير لقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن . وقوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير القصص في أنفسها ، لتكون العبرة حاضرة للقلوب ، مذكورة في كل أوان .
القمر : ( 41 ) ولقد جاء آل . . . . .
( وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( : هم موسى(8/180)
" صفحة رقم 181 "
وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون ، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار .
القمر : ( 42 ) كذبوا بآياتنا كلها . . . . .
( كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( هي التسع ، والتوكيد هنا كهو في قوله : ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا ). والظاهر أن الضمير في : ) كَذَّبُواْ ( ، وفي : ) فَأَخَذْنَاهُمْ ( عائد على آل فرعون . وقيل : هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره ، وتم الكلام عند قوله : ) النُّذُرُ ). ) فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ ( : لا يغالب ، ( مُّقْتَدِرٍ ( : لا يعجز شيء .
القمر : ( 43 ) أكفاركم خير من . . . . .
( أَكُفَّارُكُمْ ( : خطاب لأهل مكة ، ( خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وإلى فرعون ، والمعنى : أهم خير في القوّة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا ، أو أقل كفؤاً وعناداً ؟ فلأجل كونهم خيراً لا يعاقبون على الكفر بالله ، وقفهم على توبيخهم ، أي ليس كفاركم خيراً من أولئكم ، بل هم مثلهم أو شرّ منهم ، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل . ) أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ ( : أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب الله تعالى ؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد .
القمر : ( 44 ) أم يقولون نحن . . . . .
( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ ( أي واثقون بجماعتنا ، منتصرون بقوتنا ، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم . وقرأ الجمهور : أم يقولون ، بياء الغيبة التفاتاً ، وكذا ما بعده للغائب . وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم : بتاء الخطاب للكفار ، اتباعا لما تقدم من خطابهم .
القمر : ( 45 ) سيهزم الجمع ويولون . . . . .
وقرأوا : ستهزم الجمع ، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين ، خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين ؛ والجمهور : بالياء مبنياً للمفعول ، وضم العين . وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً : بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين : أي سيهزم الله الجمع . والجمهور : ) وَيُوَلُّونَ ( بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب . والدبر هنا : اسم جنس ، وجاء في موضع آخر ) لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( ، وهو الأصل ، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة . وقال الزمخشري : ) وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( : أي الأدبار ، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . وقرىء : الأدبار . انتهى ، وليس مثل بطنكم ، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن ، ولا يحسن لإفراد بطنكم . وفي قوله تعالى : ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ( عدة من الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهزيمة جمع قريش ؛ والجمهور : على أنها مكية ، وتلاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مستشهداً بها . وقيل : نزلت يوم بدر .
القمر : ( 46 ) بل الساعة موعدهم . . . . .
( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ( : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التى عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال . ) وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ( : أي أفظع وأشد ، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه ، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص . ) وَأَمَرُّ ( من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس .
القمر : ( 47 ) إن المجرمين في . . . . .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ ( : أي في حيرة وتخبط في الدنيا . ) وَسُعُرٍ ( : أي احتراق في الآخرة ، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه . وقال ابن عباس : وخسران وجنون ، والسعر : الجنون ، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام .
القمر : ( 48 ) يوم يسحبون في . . . . .
( يَوْمَ يُسْحَبُونَ ( : يجرون ) فِى النَّارِ ( ، وفي قراءة عبد الله : إلى النار . ) عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ ( : أي مقولاً لهم : ) ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ). وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر ، بإدغام السين في السين . قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد . انتهى . والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ، ثم أدغم .
القمر : ( 49 ) إنا كل شيء . . . . .
( إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( ، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب . وقرأ أبو السمال ، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع . قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة . وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر ، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف ، ومنه هذا الموضع ، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف ، وأن الخبر يقدر . فقد(8/181)
" صفحة رقم 182 "
تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية . فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب ، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء . وقالت القدرية : القراءة برفع كل ، وخلقناه في موضع الصفة لكل ، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار ، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك . وقال الزمخشري : ) كُلّ شَىْء ( منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . وقرىء : كل شيء بالرفع ، والقدر والقدر هو التقدير . وقرىء : بهما ، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه . انتهى . قيل : والقدر فيه وجوه : أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته . والثاني : التقدير ، قال تعالى : ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ). وقال الشاعر :
وما قدّر الرحمن ما هو قادر
أي ما هو مقدور . والثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، يقال : كان ذلك بقضاء الله وقدره ، والمعنى : أن القضاء ما في العلم ، والقدر ما في الإرادة ، فالمعنى في الآية : ) خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( : أي بقدرة مع إرادة . انتهى .
القمر : ( 50 ) وما أمرنا إلا . . . . .
( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ ( : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر ، تشبيه بأعجل ما يحس ، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحي من ذلك ، والمعنى : أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته .
القمر : ( 51 ) ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .
( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ( : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين .
القمر : ( 52 ) وكل شيء فعلوه . . . . .
( وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ ( : أي فعلته الأمم المكذبة ، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد . ومعنى ) فِى الزُّبُرِ ( : في دواوين الحفظة .
القمر : ( 53 ) وكل صغير وكبير . . . . .
( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ( من الأعمال ، ومن كل ما هو كائن ، ( مُّسْتَطَرٌ ( : أي مسطور في اللوح . يقال : سطرت واستطرت بمعنى . وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء مستطر . قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طرّ النبات ، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه . ويجوز أن يكون من الاستطار ، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً . انتهى ، ووزنه على التوجيه الأول استفعل ، وعلى الثاني افتعل .
القمر : ( 54 ) إن المتقين في . . . . .
وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد ، والهاء مفتوحة ؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها ، والمراد به الجنس ، إن أريد به الأنهار ، أو يكون معنى ونهر : وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الحطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
أي : أوسعت فتقها . وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني : بضم النون والهاء ، جمع نهر ، كرهن ورهن ، أو نهر كأسد وأسد ، وهو مناسب لجمع جنات . وقيل : نهر جمع نهار ، ولا ليل في الجنة ، وهو بعيد
القمر : ( 55 ) في مقعد صدق . . . . .
. ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( : يجوز أن يكون ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، وأن يكون من قولك : رجل صدق : أي خير وجود وصلاح . وقرأ الجمهور : في مقعد ، على الإفراد ، يراد به اسم الجنس ؛ وعثمان البتي : في مقاعد على الجمع ؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى ، والله تعالى أعلم .(8/182)
" صفحة رقم 183 "
55
( سورة الرحمن )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاٌّ رْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاٌّ قْدَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىِّ ءَالا(8/183)
" صفحة رقم 184 "
1764 ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ } )
الرحمن : ( 1 - 2 ) الرحمن
النجم : النبات الذي لا ساق له ، من نجم : أي ظهر وطلع . الأنام : الحيوان . العصف : ورق الزرع . الريحان : كل مشموم طيب الريح من النبات . المرجان : الخرز الأحمر ، وقيل : صغار الدر ، واللؤلؤ كباره ، واللؤلؤ بناء غريب . قيل : لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة ؛ اللؤلؤ ، والجؤجؤ ، والدؤدؤ ، واليؤيؤ طائر ، والبؤبؤ . والنفوذ : الخروج من الشيء بسرعة . الشواظ : اللهب الخالص بغير دخان . وقال حسان : هجوتك فاختضعت لها بذل
بقافية تأجج كالشواظ
وقال رؤبة :
ونار حرب تسعر الشواظا
وتضم شينه وتكسر . النحاس ، قال الخليل : والنحاس هو الدخان الذي لا لهب له ، وهو معروف في كلام العرب . قال نابغة بني جعدة : تضيء كضوء سراج السليط
لم يجعل الله فيه نحاساً
وقال الكسائي : النحاس هو النار الذي له ريح شديد ، وقيل : الصفر المذاب ، وتضم نونه وتكسر . الوردة : الشديدة الحمرة ، يقال : فرد ورد ، وحجرة وردة . الدهان : الجلد الأحمر . أنشد القاضي منذر بن سعد ، رحمه الله : تبعن الدهان الحمر كل عشية
بموسم بدر أو بسوق عكاظ(8/184)
" صفحة رقم 185 "
الناصية : مقدم الرأس . آن : نهاية في الحر . الأفنان ، جمع فنن : وهو الغصن ، أو جمع فن : وهو النوع . قال الشاعر : ومن كل أفنان اللذاذة والصبى
لهوت به والعيش أخضر ناضر
وقال نابغة بني ذبيان : بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغني
الجني : ما يقطف من الثمرة ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض بمعنى مقبوض . قاصرات الطرف : قصرت ألحاظهن على أزواجهنّ . قال الشاعر : من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الأثب منها لأثرا
الطمث : دم الحيض ودم الافتضاض . الياقوت : حجر معروف ، وقيل : لا تؤثر فيه النار ، قال الشاعر : وطالما أصلى الياقوت جمر غضى
ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت
الادهمام : السواد . النضح : فوران الماء . المقصورة : المحبوسة ، ويقال : قصيرة وقصورة : أي مخدرة . وقال كثير : وأنت التي حببت كل قصيرة
إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
قصار الخطا شر النساء البحاتر
الخيمة معروفة ، وهي بيت المرتحل من خشب وتمام وسائر الحشيش ، وإذا كان من شعر فهو بيت ، ولا يقال له خيمة ، ويجمع على خيام وخيم . قال جرير : متى كان الخيام بذي طلوح
سقيت الغيث أيتها الخيام
الرفرف : ما يدلى من الأسرة من غالي الثياب . وقال الجوهري : ثياب خضر تتخذ منها المجالس ، الواحدة رفرفة ، واشتقاقه من رف إذا ارتفع ، ومنه رفرفة الطائر لتحريك جناحيه وارتفاعه في الهواء ، وسمي الطائر رفرافاً ، ورفرف جناحيه : حركهما ليقع على الشيء ، ورفرف السحاب : هسد به . العبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد الجن ، فينسبون إليه كل شيء عجيب . قال زهير :(8/185)
" صفحة رقم 186 "
بخيل عليها جنة عبقرية
جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
وقال امرؤ القيس : كأن صليل المرء حين يشذه
صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
وقال ذو الرمة : حي كأن رياض العف ألبسها
من وشي عبقر تحليل وتنجيد
وقال الخليل : العبقري : كل جليل نفيس من الرجال والنساء وغيرهم . الجلال : العظمة . قال الشاعر : خبر ما قد جاءنا مستعمل
جل حتى دق فيه الأجل
) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن مسعود . وعن ابن عباس : القولان ، وعنه : سوى آية هي مدنية ، وهي : ) يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية . وسبب نزولها فيما قال مقاتل : أنه لما نزل ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ ( الآية ، قالوا : ما نعرف الرحمن ، فنزلت : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ). وقيل : لما قالوا ) إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ( ، أكذبهم الله تعالى وقال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ). وقيل : مدنية نزلت ، إذ أبى سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح : ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ).
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر ، ذكر شيئاً من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب ، إذ كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز . ولما ذكر قوله : ) عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( ، فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير ، فكأنه قيل : من المتصف بذلك ؟ فقال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( ، فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة ، وهو تعلى م القرآن الذي هو شفاء للقلوب . والظاهر أن ) الرَّحْمَنُ ( مرفوع على الابتداء ، ( وَعَلَّمَ الْقُرْءانَ ( خبره . وقيل : ) الرَّحْمَنُ ( آية بمضمر ، أي الله الرحمن ، أو الرحمن ربنا ، وذلك آية ؛ و ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( استئناف إخبار . ولما عدّد نعمه تعالى ، بدأ من نعمه بما هو أعلى رتبها ، وهو تعليم القرآن ، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به .
الرحمن : ( 3 - 4 ) خلق الإنسان
ولما ذكر تعليم القرآن(8/186)
" صفحة رقم 187 "
ولم يذكر المعلم ، ذكره بعد في قوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، ليعلم أنه المقصود بالتعليم . ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن ، كان كالسبب في خلقه تقدّم على خلقه . ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير ، والذي به يمكن قبول التعليم ، وهو البيان . ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئاً مما يدرك بالنطق ؟ وعلم متعدّية إلى اثنين ، حذف أولهما لدلالة المعنى عليه ، وهو جبريل ، أو محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو الإنسان ، أقوال . وتوهم أبو عبد الله الرازي أن المحذوف هو المفعول الثاني ، قال : فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني ؟ وأجاب بأن النعمة في التعليم ، لا في تعليم شخص دون شخص ، كما يقال : فلان يطعم الطعام ، إشارة إلى كرمه ، ولا يبين من يطعمه . انتهى . والمفعول الأول هو الذي كان فاعلاً قبل النقل بالتضعيف أو الهمزة في علم وأطعم .
وأبعد من ذهب إلى أن معنى ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( : جعله علامة وآية يعتبر بها ، وهذه جمل مترادفة ، أخبار كلها عن الرحمن ، جعلت مستقلة لم تعطف ، إذ هي تعداد لنعمه تعالى . كما تقول : زيد أحسن إليك ، خوّلك : أشار بذكرك ، والإنسان اسم جنس . وقال قتادة الإنسان : آدم عليه السلام . وقال ابن كيسان : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن زيد والجمهور : ) البَيَانَ ( : المنطق ، والفهم : الإبانة ، وهو الذي فضل به الإنسان على سائر الحيوان . وقال قتادة : هو بيان الحلال والشرائع ، وهذا جزء من البيان العام . وقال محمد بن كعب : ما يقول وما يقال له . وقال الضحاك : الخير والشر . وقال ابن جريج : الهدى . وقال يمان : الكتابة . ومن قال : الإنسان آدم ، فالبيان أسماء كل شيء ، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية ، أو الكلام بعد أن خلقه ، أو علم الدنيا والآخرة ، أو الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، أقوال ، آخرها منسوب لجعفر الصادق .
الرحمن : ( 5 ) الشمس والقمر بحسبان
ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان من تعليمه البيان ، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر ، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان ، إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما . والحسبان مصدر كالغفران ، وهو بمعنى الحساب ، قاله قتادة . وقال الضحاك وأبو عبيدة : جمع حساب ، كشهاب وشهبان . قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة : لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج ، وغير ذلك حسبانات شتى . وقال ابن زيد : لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : الحسبان : الفلك المستدير ، شبهه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة . وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان ، فأما على حذف ، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان . وقيل : الخبر محذوف ، أي يجريان بحسبان ، وبحسبان متعلق بيجريان ، وعلى قول مجاهد : تكون الباء في بحسبان ظرفية ، لأن الحسبان عنده الفلك .
الرحمن : ( 6 ) والنجم والشجر يسجدان
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر ، وكان ذلك من الآيات العلوية ، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر ، إذ كانا رزقاً للإنسان ، وأخبر أنهما جاريان على ما أراد الله بهما ، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى . ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن ، ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق ، وكان تقديم النجم ، وهو مالا ساق له ، لأنه أصل القوت ، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالباً . والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه ، ويدل عليه اقترانه بالشجر . وقال مجاهد وقتادة والحسن : النجم : اسم الجنس من نجوم السماء . وسجودهما ، قال مجاهد والحسن : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته . وقال مجاهد أيضاً : والسجود تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل . والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفى بالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي ، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه ، وأن السجود له لا لغيره ، فكأنه قيل : بحسبانه ويسجدان له . ولما أوردت هذه الجمل(8/187)
" صفحة رقم 188 "
مورد تعديد النعم ، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله ، والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر ، لأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان .
الرحمن : ( 7 ) والسماء رفعها ووضع . . . . .
( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( : أي خلقها مرفوعة ، حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه . وقرأ الجمهور : ) وَالسَّمَاء ( ، بالنصب على الاشتغال ، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي ) يَسْجُدَانِ ). وقرأ أبو السمال : والسماء بالرفع ، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية . وقرأ الجمهور : ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( ، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان ، أي أقره وأثبته . وقرأ إبراهيم : ووضع الميزان ، بالخفض وإسكان الضاد . والظاهر أنه كل ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها ، وإن اختلفت الآلات ، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة ، جعله تعالى حاكماً بالسوية في الأخذ والإعطاء . وقال مجاهد والطبري والأكثرون : الميزان : العدل ، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل . بدأ أولاً بالعلم ، فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور ، وهو الميزان ، كقوله : ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( ، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب .
الرحمن : ( 8 ) ألا تطغوا في . . . . .
( أَن لا تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ ( : أي لأن لا تطغوا ، فتطغوا منصوب بأن . وقال الزمخشري : أو هي أن المفسرة . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، فيكون تطغوا جزماً بالنهي . انتهى ، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة ، لأنه فات أحد شرطيها ، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول . ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( جملة ليس فيها معنى القول . والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد ، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه .
الرحمن : ( 9 ) وأقيموا الوزن بالقسط . . . . .
ولما كانت التسوية مطلوبة جداً ، أمر الله تعالى فقال : ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ ). وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تُخْسِرُواْ ( ، من أخسر : أي أفسد ونقص ، كقوله : ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ؛ أي ينقصون . وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء ، يقال : خسر يخسر ، وأخسر يخسر بمعنى واحد ، كجبر وأجبر . وحكى ابن جني وصاحب اللوامح ، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين ، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان ، فحذف الجار ونصب ، ولا يحتاج إلى هذا التخريج . ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى : ) خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( ، و ) خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ( ؟ وقرىء أيضاً : تخسروا ، بفتح التاء وضم السين . لما منع من الزيادة ، وهي الطغيان ، نهى عن الخسران الذي هو نقصان ، وكرر لفظ الميزان ، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه .
الرحمن : ( 10 ) والأرض وضعها للأنام
ولما ذكر السماء ، ذكر مقابلتها فقال : ) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( : أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها . وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب ؛ وأبو السمال : بالرفع . والأنام ، قال ابن عباس : بنو آدم فقط . وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله . وقال الحسن : الثقلان ، الجن والإنس .
الرحمن : ( 11 ) فيها فاكهة والنخل . . . . .
( فِيهَا فَاكِهَةٌ ( : ضروب مما يتفكه به . وبدأ بقوله : ) فَاكِهَةٍ ( ، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ، ونكر لفظها ، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها . ثم ثنى بالنخل ، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها ، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر .
الرحمن : ( 12 ) والحب ذو العصف . . . . .
ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم ، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه ، ووصفه بقوله : ) ذُو الْعَصْفِ ( تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب ، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن . وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ، وبينهما النخل والحب ، ليحصل ما به يتفكه ، وما به يتقوت ، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة . وذكر النخل باسمها ، والفاكهة دون شجرها ، لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة ، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة ، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرتها .
وقرأ الجمهور : ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( ، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله ؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بنصب الثلاثة ، أي وخلق الحب . وجوزوا أن يكون ) وَالرَّيْحَانُ ( حالة الرفع وحالة النصب على(8/188)
" صفحة رقم 189 "
حذف مضاف ، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ؛ وحمزة والكسائي والأصمعي ، عن أبي عمرو : والريحان بالجر ، والمعنى : والحب ذو العصف الذي هو علف البهائم ، والريحان الذي هو مطعم الناس ، ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر ، وريحان من ذوات الواو . وأجاز أبو علي أن يكون اسماً ، ووضع موضع المصدر ، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان . وأبدلت الواو ياء ، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى ، أو مصدراً شاذاً في المعتل ، كما شذ كبنونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار ريحان ، ثم حذفت عين الكلمة ، كما قالوا : ميت وهين .
الرحمن : ( 13 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
ولما عدد تعالى نعمه ، خاطب الثقلين بقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( ، أي أن نعمه كثيرة لا تحصى ، فبأيها تكذبان ؟ أي من هذه نعمه لا يمكن أن يكذب بها . وكان هذا الخطاب للثقلين ، لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال . ولقوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، و ) خُلِقَ الْجَانَّ ( ؛ ولقوله : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ، وقد أبعد من جعله خطاباً للذكر والأنثى من بني آدم . وأبعد من هذا قول من قال : إنه خطاب على حد قوله : ) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( ، ويا حرسيّ اضربا عنقه ، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين ، فبأي منوناً في جميع السورة ، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه ) رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( بدل معرفة من نكرة ، وآلاء تقدم في الأعراف أنها النعم ، واحدها إلى وألا وإلى وألى .
الرحمن : ( 14 - 15 ) خلق الإنسان من . . . . .
( خَلَقَ الإِنسَانَ ( : لما ذكر العالم الأكبر من السماء والأرض وما أوجد فيها من النعم ، ذكر مبدأ من خلقت له هذه النعم ، والإنسان هو آدم ، وهو قول الجمهور . وقيل : للجنس ، وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق من الصلصال . وإذا أريد بالإنسان آدم ، فقد جاءت غايات له مختلفة ، وذلك بتنقل أصله ؛ فكان أولاً تراباً ، ثم طيناً ، ثم حمأ مسنوناً ، ثم صلصالاً ، فناسب أن ينسب خلقه لكل واحد منها . والجان هو أبو الجن ، وهو إبليس ، قاله الحسن . وقال مجاهد : هو أبو الجن ، وليس بإبليس . وقيل : الجان اسم جنس ، والمارج : ما اختلط من أصفر وأحمر وأخضر ، أو اللهب ، أو الخالص ، أو الحمرة في طرف النار ، أو المختلط بسواد ، أو المضطرب بلا دخان ، أقوال ، ومن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية في ) مّن نَّارٍ ( للتبعيض . وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل : للتأكيد والتنبيه والتحريك ، وهي موجودة في مواضع من القرآن . وذهب قوم منهم ابن قتيبة إلى أن هذا التكرار إنما هو لاختلاف النعم ، فكرر التوقيف في كل واحد منها .
الرحمن : ( 16 - 17 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) رَبّ ( ، و ) رَبّ ( بالرفع ، أي هو رب ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بالخفض بدلاً من ربكما ، وثنى المضاف إليه لأنهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما ، قاله مجاهد . وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما . وعن ابن عباس : للشمس مشرق في الصيف مصعد ، ومشرق في الشتاء منحدر ، تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة . انتهى . فالمشرقان والمغربان للشمس . وقيل : المشرقان : مطلع الفجر ومطلع الشمس ، والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس . ولسهل التستري كلام في المشرقين والمغربين شبيه بكلام الباطنية المحرفين مدلول كلام الله ، ضربنا عن ذكره صفحاً . وكذلك ما وقفنا عليه من كلام الغلاة الذين ينسبون للصوفية ، لأنا لا نستحل نقل شيء منه . وقد أولغ صاحب كتاب التحرير والتحبير بحسب ما قاله هؤلاء الغلاة في كل آية آية ، ويسمي ذلك الحقائق ، وأرباب القلوب وما ادعوا فهمه في القرآن فأغلوا فيه ، لم يفهمه عربي قط ، ولا أراده الله تعالى بتلك الألفاظ ، نعوذ بالله من ذلك .
الرحمن : ( 19 - 20 ) مرج البحرين يلتقيان
مرج البحرين : تقدم الكلام على ذلك في الفرقان . قال ابن عطية : وذكر الثعلبي في مرج البحرين ألغازاً وأقوالاً باطنة لا يلتفت إلى شيء منها . انتهى ، والظاهر التقاؤهما ، أي يتجاوزان ، فلا فصل بين الماءين في رؤية العين . وقيل : يلتقيان في كل سنة مرة . وقيل : معدان للالتقاء ، فحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ بينهما . ) بَرْزَخٌ ( : أي حاجز من قدرة الله تعالى ، ( لاَّ يَبْغِيَانِ ( : لا يتجاوزان حدهما ، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممارجة . وقيل : البرزخ : أجرام الأرض ، قاله قتادة ؛ وقيل : لا يبغيان : أي على الناس والعمران ، وعلى هذا والذي قبله يكون من البغي . وقيل : هو من بغى ، أي طلب ، فالمعنى : لا يبغيان حالاً غير الحال التي خلقا عليها(8/189)
" صفحة رقم 190 "
وسخرا لها . وقيل : ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح ، بل هو بذاته باق فيه . وقال ابن عطية : والعيان لا يقتضيه . انتهى ، يعني أنه يشاهد الماء العذب يختلط بالملح فيبقي كله ملحاً ، وقد يقال : إنه بالاختلاط تتغير أجرام العذب حتى لا تظهر ، فإذا ذاق الإنسان من الملح المنبث فيه تلك الأجزاء الدقيقة لم يحس إلا الملوحة ، والمعقول يشهد بذلك ، لأن تداخل الأجسام غير ممكن ، لكن التفرق والالتقاء ممكن . وأنشد القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله تعالى : وممزوجة الأمواه لا العذب غالب
على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب
الرحمن : ( 22 ) يخرج منهما اللؤلؤ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَخْرُجُ ( مبنياً للفاعل ؛ ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة : مبنياً للمفعول ؛ والجعفي ، عن أبي عمرو : بالياء مضمومة وكسر الراء ، أي يخرج الله ؛ وعنه وعن أبي عمرو ، وعن ابن مقسم : بالنون . واللؤلؤ والمرجان نصب في هاتين القراءتين . والظاهر في ) مِنْهُمَا ( أن ذلك يخرج من الملح والعذب . وقال بذلك قوم ، حكاه الأخفش . ورد الناس هذا القول ، قالوا : والحس يخالفه ، إذ لا يخرج إلا من الملح ، وعابوا قول الشاعر : فجاء بها ما شئت من لطيمة
على وجهها ماء الفرات يموج
وقال الجمهور : إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة ، فناسب إسناد ذلك إليهما ، وهذا مشهور عند الغواصين . وقال ابن عباس وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر ، فلذلك قال ) مِنْهُمَا ). وقال أبو عبيدة : إنما يخرج من الملح ، لكنه قال ) مِنْهُمَا ( تجوزاً . وقال الرماني : العذب فيها كاللقاح للملح ، فهو كما يقال ؛ الولد يخرج من الذكر والأنثى . وقال ابن عطية ، وتبع الزجاج من حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما ، كما قال : ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( ، وإنما هو في إحداهن ، وهي الدنيا إلى الأرض . وقال الزمخشري نحواً من قول ابن عطية ، قال : فإن قلت : لم قال ) مِنْهُمَا ( ، وإنما يخرجان من الملح قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، ولكن من بعضه . وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلة من محالة ، بل من دار واحدة من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب . انتهى . وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير : يخرج من أحدهما ، كقوله تعالى : ) عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( : أي من إحدى القريتين . وقيل : هما بحران ، يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان . وقال أبو عبد الله الرازي : كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس ، ومن أعلم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب ، وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح . ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء الملح وكيف يمكن الجزم به والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد ، فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ؟ واللؤلؤ ، قال ابن عباس والضحاك وقتادة : كبار الجوهر ؛ والمرجان صغاره . وعن ابن عباس أيضاً ، وعلي ومرة الهمداني عكس هذا . وقال أبو عبد الله وأبو مالك : المرجان : الحجر الأحمر . وقال الزجاج : حجر شديد البياض . وحكي القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ ، كالقضبان ، والمرجان : اسم أعجميّ معرب . قال ابن دريد : لم أسمع فيه نقل متصرف ، وقال الأعشى : من كل مرجانة في البحر أحرزها
تيارها ووقاها طينها الصدف(8/190)
" صفحة رقم 191 "
قيل : أراد اللؤلؤة الكبيرة . وقرأ طلحة : اللؤلؤ بكسر اللام الثالثة ، وهي لغة . وعبد اللولي : تقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها ، وهي لغة ، قاله أبو الفضل الرازي .
الرحمن : ( 24 ) وله الجوار المنشآت . . . . .
( وَلَهُ الجوار ( : خص تعالى الجواري بأنها له ، وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن ، لأنهم لما كانوا هم منشئيها ، أسندها تعالى إليه ، إذ كان تمام منفعتها إنما هو منه تعالى ، فهو في الحقيقة مالكها . والجواري : السفن . وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بضم الراء ، كما قالوا في شاك شاك . وقرأ الجمهور ؛ ) المنشآت ( بفتح الشين ، اسم مفعول : أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو المرفوعات الشراع . وقال مجاهد : ما له شراع من المنشآت ، وما لم يرفع له شراع ، فليس من المنشآت . والشراع : القلع . والأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر : بخلاف عنه ، بكسر الشين : أي الرافعات الشراع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن ، أو التي تنشىء السفر إقبالاً وإدباراً . وشدد الشين ابن أبي عبلة والحسن المنشأة ، وحد الصفة ، ودل على الجمع الموصوف ، كقوله : ) فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( ، وقلب الهمزة ألفاً على حد قوله :
إن السباع لتهدي في مرابضها
يريد : لتهدأ ، التاء لتأنيث الصفة ، كتبت تاء على لفظها في الوصل . ) كَالاْعْلَامِ ( : أي كالجبال والآكام ، وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال ، وإن كانت المنشآت تنطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة .
الرحمن : ( 26 - 27 ) كل من عليها . . . . .
وعبر بمن في قوله : ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ( تغليباً لمن يعقل ، والضمير في ) عَلَيْهَا ( قليل عائد على الأرض في قوله : ) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( ، فعاد الضمير عليها ، وإن كان بعد لفظها . والفناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره ، والوجه يعبر به عن حقيقة الشيء ، والجارجة منتفية عن الله تعالى ، ونحو كل شيء هالك إلا وجهه . وتقول صعاليك مكة : أين وجه عربي كريم يجود عليّ ؟ وقرأ الجمهور : ذو بالواو ، وصفة للوجه ؛ وأبي وعبد الله : ذي بالياء ، صفة للرب . والظاهر أن الخطاب في قوله : ) وَجْهُ رَبّكَ ( للرسول ، وفيه تشريف عظيم له ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الخطاب لكل سامع . ومعنى ) ذُو الْجَلْالِ ( : الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم ، أو الذي يتعجب من جلاله ، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده .
الرحمن : ( 29 ) يسأله من في . . . . .
( يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : أي حوائجهم ، وهو ما يتعلق بمن في السموات من أمر الدين وما استعبدوا به ، ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم . وقال أبو صالح : من في السموات : الرحمة ، وسن في الأرض : المغفرة والرزق . وقال ابن جريج : الملائكة الرزق لأهل الأرض ، والمغفرة وأهل الأرض يسألونهما جميعاً . والظاهر أن قوله : يسأله استئناف إخبار . وقيل : حال من الوجه ، والعامل فيه يبقى ، أي هو دائم في هذه الحال . انتهى ، وفيه بعد . ومن لا يسأل ، فحاله تقتضي السؤال ، فيصح إسناد السؤال إلى الجميع باعتبار القدر المشترك ، وهو الافتقار إليه تعالى .
( كُلَّ يَوْمٍ ( : أي كل ساعة ولحظة ، وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه . ) هُوَ فِى شَأْنٍ ( ، قال ابن عباس : في شأن يمضيه من الخلق والرزق والإحياء والإماتة . وقال عبيد بن عمير : يجيب داعياً ، ويفك عانياً ، ويتوب على قوم ، ويغفر لقوم . وقال سويد بن غفلة : يعتق رقاباً ، ويعطي رغاماً ويقحم عقاباً . وقال ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه الأمر والنهى والإمانة والإحياء ؛ والثاني الذي هو يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وعن مقاتل : نزلت في اليهود ، فقالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً . وقال الحسين بن الفضل ، وقد سأله عبد الله بن طاهر عن قوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( : وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال : شؤون يبديها ، لا شؤون يبتديها . وقال ابن بحر : هو في يوم الدنيا في الابتلاء ، وفي يوم القيامة في الجزاء . وانتصب ) كُلَّ يَوْمٍ ( على الظرف ، والعامل فيه العامل في قوله : ) فِى شَأْنٍ ( ، وهو مستقر المحذوف ، نحو : يوم الجمعة زيد قائم .
قوله عز وجل : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تُكَذّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا(8/191)
" صفحة رقم 192 "
تَنتَصِرَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ).
الرحمن : ( 31 ) سنفرغ لكم أيها . . . . .
لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهما وفناء ما على الأرض ، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة الجزاء وقال : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ ( : أي ننظر في أموركم يوم القيامة ، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه . وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى : سيقصد لحسابكم ، فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد التوفر على الانتقام منه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا ، والأول أبين . انتهى ، يعني : أن يكون ذلك يوم القيامة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( ، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل . انتهى . والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلاً به ، فلذلك احتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قد قيل : إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم ، واستدل على ذلك بما أنشده ابن الأنباري لجرير : الآن وقد فرغت إلى نمير
فهذا حين كنت لهم عذابا
أي : قصدت . وأنشد النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث : ( فرغ ربك من أربع ) ، وفيه : ( لأتفرغن إليك يا خبيث ) ، يخاطب به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إرب العقبة يوم بيعتها : أي لأقصدن إبطال أمرك ، نقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء . وقرأ الجمهور : سنفرغ بنون العظمة وضم الراء ، من فرغ بفتح الراء ، وهي لغة الحجاز ؛ وحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي : بياء الغيبة ؛ وقتادة والأعرج : بالنون وفتح الراء ، مضارع فرغ بكسرها ، وهي تميمية ؛ وأبو السمال وعيسى : بكسر النون وفتح الراء . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر ؛ والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما ؛ وابن أبي عبلة والزعفراني : بضم الياء وفتح الراء ، مبنياً للمفعول ؛ وعيسى أيضاً : بفتح النون وكسر الراء ؛ والأعراج أيضاً : بفتح الياء والراء ، وهي رواية يونس والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو . والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض ، أو لكونهما مثقلين بالذنوب ، أو لثقل الإنس . وسمي الجن ثقلاً لمجاورة الإنس ، والثقل : الأمر العظيم . وفي الحديث : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ) ، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما .
الرحمن : ( 33 ) يا معشر الجن . . . . .
والظاهر أن قوله : ) يا معشر(8/192)
" صفحة رقم 193 "
الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة ، ( أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ). وقيل : يقال لهم ذلك . قال الضحاك : يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول ، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاءوا ، فحينئذ يقال لهم ذلك . وقيل : هو خطاب في الدنيا ، والمعنى : إن استطعتم الفرار من الموت . وقال ابن عباس : ) إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( بأذهانكم وفكركم ، ( أَن تَنفُذُواْ ( ، فتعلمون علم ) أَقْطَارِ ( : أي جهات ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). قال الزمخشري : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( ، كالترجمة لقوله : ) أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ، ( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( أن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا ؛ ثم قال : لا تقدرون على النفوذ ) إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( ، يعني : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ). انتهى . ) فَانفُذُواْ ( : أمر تعجيز . وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك . وقال الضحاك أيضاً : بينما الناس في أسواقهم ، انفتحت السماء ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة . وقرأ زيد بن علي : إن استطعتما ، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس ؛ والجمهور : على خطاب الجماعة إن استطعتم ، لأن كلاً منهما تحته أفراد كثيرة ، كقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ).
الرحمن : ( 35 ) يرسل عليكما شواظ . . . . .
( يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ شُوَاظٌ ( ، قال ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ، ساقهم شواظ إلى المحشر . والشواظ : لهب النار . وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع . وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب . وقرأ الجمهور : شواظ ، بضم الشين ؛ وعيسى وابن كثير وشبل : بكسرها . والجمهور ؛ ) وَنُحَاسٌ ( : بالرفع ؛ وابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو : بالجر ؛ والكلبي وطلحة ومجاهد : بكسر نون نحاس والسين . وقرأ ابن جبير : ونحس ، كما تقول : يوم نحس . وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس مضارعاً ، وماضيه حسه ، أي قتله ، أي ويحس بالعذاب . وعن ابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير ؛ وحنظلة بن نعمان : ونحس بفتح النون وكسر السين ؛ والحسن وإسماعيل : ونحس بضمتين والكسر . وقرأ زيد بن علي : نرسل بالنون ، عليكما شواظاً بالنصب ، من نار ونحاساً بالنصب عطفاً على شواظاً . قال ابن عباس وابن جبير والنحاس : الدخان ؛ وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد : هو الصفر المعروف ، والمعنى : يعجز الجن والإنس ، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا ، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه .
الرحمن : ( 37 ) فإذا انشقت السماء . . . . .
( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء ( : جواب إذا محذوف ، أي فما أعظم الهول ، وانشقاقها : انفطارها يوم القيامة . ) فَكَانَتْ وَرْدَةً ( : أي محمرة كالورد . قال ابن عباس وأبو صالح : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون السماء مؤنثة . وقال قتادة : هي اليوم زرقاء ، ويومئذ تغلب عليها الحمرة كلون الورد ، وهي النوار المعروف ، قاله الزجاج ، ويريد كلون الورد ، وقال الشاعر : فلو كانت ورداً لونه لعشقتني
ولكن ربي شانني بسواديا
وقال أبو الجوزاء : وردة صفراء . وقال : أما سمعت العرب تسمي الخيل الورد ؟ قال الفراء : أراد لون الفرس الورد ، يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحمرة ، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة ، فشبه تلون السماء بتلون الوردة(8/193)
" صفحة رقم 194 "
من الخيل ، وهذا قول الكلبي . ) كَالدّهَانِ ( ، قال ابن عباس : الأديم الأحمر ، ومنه قول الأعشى : وأجرد من كرام الخير طرف
كأن على شواكله دهاناً
وقال الشاعر : كالدهان المختلفة ، لأنها تتلون ألواناً . وقال الضحاك : كالدهان خالصة ، جمع دهن ، كقرط وقراط . وقيل : تصير حمراء من حرارة جهنم ، ومثل الدهن لذوبها ودورانها . وقيل : شبهت بالدهان في لمعانها . وقال الزمخشري : ) كَالدّهَانِ ( : كدهن الزيت ، كما قال : ) كَالْمُهْلِ ( ، وهو دردي الزيت ، وهو جمع دهن ، أو اسم ما يدهن به ، كالحرام والأدام ، قال الشاعر : كأنهما مزادتا متعجل
فريان لما سلعا بدهان
وقرأ عبيد بن عمير : وردة بالرفع بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله : فلئن بقيت لأرحلن بغزوة
نحو المغانم أو يموت كريم
انتهى .
الرحمن : ( 39 ) فيومئذ لا يسأل . . . . .
( فَيَوْمَئِذٍ ( : التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير : فيوم إذ انشقت السماء ، والناصب ليومئذ ) لاَ يُسْأَلُ ( ، ودل هذا على انتفاء السؤال ، ووقفوهم أنهم مسئولون وغيره من الآيات على وقوع السؤال . فقال عكرمة وقتادة : هي مواطن يسأل في بعضها . وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير ، وحيث نفي فهي استخبار محض عن الذنب ، والله تعالى أعلم بكل شيء . وقال قتادة أيضاً : كانت مسألة ، ثم ختم على الأفواه وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون . وقال أبو العالية وقتادة : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : ولا جأن بالهمز ، فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان التقاؤهما على حده .
الرحمن : ( 41 ) يعرف المجرمون بسيماهم . . . . .
وقرأ حماد بن أبي سليمان : بسيمائهم ؛ والجمهور : ) بِسِيمَاهُمْ ( ، وسيما المجرمين : سواد الوجوه وزرقة العيون ، قاله الحسن ، ويجوز أن يكون غير هذا من التشويهات ، كالعمى والبكم والصمم . ) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ( ، قال ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيوطأ ، ويجمع كالحطب ، ويلقى كذلك في النار . وقال الضحاك : يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره . وقيل : تسحبهم الملائكة ، تارة تأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام . وقيل : بعضهم سحباً ، بالناصية ، وبعضهم سحباً بالقدم ؛ ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه ، وحذف هذا الفاعل والمفعول ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل مضمناً معنى ما يعدى بالباء ، أي فيسحب بالنواصي والأقدام ، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير ، أي بنواصيهم وأقدامهم ، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف ، أي بالنواصي والأقدام منهم .
الرحمن : ( 43 - 44 ) هذه جهنم التي . . . . .
( هَاذِهِ جَهَنَّمُ ( : أي يقال لهم ذلك على طريق التوبيخ والتقريع . ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا ( : أي يتردّدون بين نارها وبين ما غلى فيها من مائع عذابها . وقال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم ، وآن : أي منتهى الحر والنضج ، فيعاقب بينهم وبين تصلية النار ، وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار ، جعل غياثهم الحميم . وقيل : يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه ، وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرأ علي والسلمي : يطافون ؛ والأعمش وطلحة وابن(8/194)
" صفحة رقم 195 "
مقسم : يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة . وقرىء : يطوفون ، أي يتطوفون ؛ والجمهور : يطوفون مضارع طاف .
الرحمن : ( 46 ) ولمن خاف مقام . . . . .
قوله تعالى : ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( ، قال ابن الزبير : نزلت في أبي بكر . ) مَقَامَ رَبّهِ ( مصدر ، فاحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل ، أي قيام ربه عليه ، وهو مروي عن مجاهد ، قال : من قوله : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( ، أي حافظ مهيمن ، فالعبد يراقب ذلك ، فلا يجسر على المعصية . وقيل : الإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فالمعنى أنه يخاف مقامه الذي يقف فيه العباد للحساب ، من قوله : ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف . وقيل : مقام مقحم ، والمعنى : ولمن خاف ربه ، كما تقول : أخاف جانب فلان يعني فلاناً . والظاهر أن لكل فرد فرد من الخائفين ) جَنَّتَانِ ( ، قيل : إحداهما منزله ، والأخرى لأزواجه وخدمه . وقال مقاتل : جنة عدن ، وجنة نعيم . وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته . وقيل : هما للخائفين ؛ والخطاب للثقلين ، فجنة للخائف الجني ، وجنة للخائف الإنسي . وقال أبو موسى الأشعري : جنة من ذهب للسابقين ، وجنة من فضة للتابعين . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف دائر عليهما . وأن يقال : جنة يبات بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل لقوله وزيادة ؛
الرحمن : ( 48 ) ذواتا أفنان
وخص الأفنان بالذكر جمع فنن ، وهي الغصون التي تتشعب عن فروع الشجر ، لأنها التي تورق وتثمر ، ومنها تمتد الظلال ، ومنها تجنى الثمار . وقيل : الأفنان جمع فن ، وهي ألوان النعم وأنواعها ، وهي قول ابن عباس ، والأول قال قريباً منه مجاهد وعكرمة ، وهو أولى ، لأن أفعالاً في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين ، وفن يجمع على فنون .
الرحمن : ( 50 ) فيهما عينان تجريان
) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( ، قال ابن عباس : هما عينان مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة . وقال : تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة . وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل . وقال ابن عطية : إحداهما من ماء ، والأخرى من خمر . وقيل : تجريان في الأعالي والأسافل من جبل من مسك .
الرحمن : ( 52 ) فيهما من كل . . . . .
( زَوْجَانِ ( ، قال ابن عباس : ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة ، حتى شجر الحنظل ، إلا أنه حلواً . انتهى . ومعنى زوجان : رطب ويابس ، لا يقصر هذا عن ذاك في الطيب واللذة . وقيل : صنفان ، صنف معروف ، وصنف غريب . وجاء الفصل بين قوله : ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( وبين قوله : ) فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ ( بقوله : ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ). والأفنان عليها الفواكه ، لأن الداخل إلى البستان لا يقدم إلا للتفرج بلذة ما فيه بالنظر إلى خضرة الشجر وجري الأنهار ، ثم بعد يأخذ في اجتناء الثمار للأكل .
الرحمن : ( 54 ) متكئين على فرش . . . . .
وانتصب ) مُتَّكِئِينَ ( على الحال من قوله : ) وَلِمَنْ خَافَ ( ، وحمل جمعاً على معنى من . وقيل : العامل محذوف ، أي يتنعمون متكئين . وقال الزمخشري : أي نصب على المدح ، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، والمعنى : ) مُتَّكِئِينَ ( في منازلهم ) عَلَى فُرُشٍ ). وقرأ الجمهور : وفرش بضمتين ؛ وأبو حيوة : بسكون الراء . وفي الحديث : ( قيل لرسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هذه البطائن من استبرق ، كيف الظهائر ؟ قال : هي من نور يتلألأ ) ، ولو صح هذا لم يجز أن يفسر بغيره . وقيل : من سندس . قال الحسن والفراء : البطائن هي الظهائر . وروي عن قتادة ، وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة ، والظهارة البطانة ، لأن كلاً منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا وجه السماء ، وهذا بطن السماء .
قوله عز وجل : ) وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىّ الاء تُكَذّبَانِ تُكَذّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء(8/195)
" صفحة رقم 196 "
رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ).
الرحمن : ( 55 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
قال ابن عباس : تجتنيه قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، لا يرد يده بعد ولا شوك وقرأ عيسى : بفتح الجيم وكسر النون ، كأنه أمال النون ، وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ ، كما أمال أبو عمرو ) حَتَّى نَرَى اللَّهَ ). وقرىء : وجنى بكسر الجيم . والضمير في ) فِيهِنَّ ( عائد على الجنان الدال عليهن جنتان ، إذ كل فرد فرد له جنتان ، فصح أنها جنان كثيرة ، وإن كان الجنتان أريد بهما حقيقة التثنية ، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة ، فالضمير يعود على ما اشتملت عليه الجنة من المجالس والقصور والمنازل . وقيل : يعود على الفرش ، أي فيهن معدات للاستماع ، وهو قول حسن قريب المأخذ . وقال الزمخشري : فيهن في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والجنى . انتهى ، وفيه بعد . وقال الفراء : كل موضع من الجنة جنة ، فلذلك قال : ) فِيهِنَّ ( ،
الرحمن : ( 56 ) فيهن قاصرات الطرف . . . . .
والطرف أصله مصدر ، فلذلك وحد . والظاهر أنهن اللواتي يقصرون أعينهن على أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم . قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك . وقيل : الطرف طرف غيرهن ، أي قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ( ، قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن . وقيل : لم يطأهن على أي وجه . كان الوطء من افتضاض أو غيره ، وهو قول عكرمة . والضمير في ) قَبْلَهُمْ ( عائد على من عاد عليه الضمير في ) مُتَّكِئِينَ ). وقرأ الجمهور : بكسر ميم يطمثهن في الموضعين ؛ وطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله وعليّ : بالضم . وقرأ ناس : بضم الأول وكسر الثاني ، وناس بالعكس ، وناس بالتخيير ، والجحدري : بفتح الميم فيهما ، ونفي وطئهن عن الإنس ظاهر وأما عن الجن ، فقال مجاهد والحسن : قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن ، إذ لم يذكر الزوج الله تعالى ، فنفى هنا جميع المجامعين . وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم ، فنفي الافتضاض عن البشريات والجنيات .
الرحمن : ( 58 ) كأنهن الياقوت والمرجان
قال قتادة : ) كَأَنَّهُنَّ ( على صفاء الياقوت وحمرة المرجان ، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ، ثم نظرت إليه ، لرأيته من ورائه . انتهى . وفي الترمذي : أن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة مخها . وقال ابن عطية : الياقوت والمرجان من الأشياء التى يرتاح بحسنها ، فشبه بهما فيما يحسن التشبيه به ، فالياقوت في إملاسه وشفوفه ، والمرجان في إملاسه وجمال منظره ، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بذلك ، كدرة بنت أبي لهب ، ومرجانة أم سعيد . انتهى .
الرحمن : ( 60 ) هل جزاء الإحسان . . . . .
( هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ ( في العمل ، ( إِلاَّ الإحْسَانُ ( في الثواب ؟ وقيل : هل جزاء التوحيد إلا الجنة ؟ وقرأ ابن أبي إسحاق : إلا الحسان يعني : بالحسان الحور العين .
الرحمن : ( 62 ) ومن دونهما جنتان
) وَمِن دُونِهِمَا ( : أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر ، ( جَنَّتَانِ ( لأصحاب اليمين ، والأوليان هما للسابقين ، قاله ابن زيد والأكثرون . وقال الحسن : الأوليان للسابقين ، والأخريان للتابعين . وقال ابن عباس : ) وَمِن دُونِهِمَا ( في القرب للمنعمين ، والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين . يدل على ذلك أنه وصف عيني هاتين بالنضخ ، وتينك بالجري فقط ؛ وهاتين بالدهمة(8/196)
" صفحة رقم 197 "
من شدة النعمة ، وتينك بالأفنان ، وكل جنة ذات أفنان . ورجح الزمخشري هذا القول فقال : للمقربين جنتان من دونهم من أصحاب اليمين ادهامتا من شدة الخضرة ، ورجح غيره القول الأول بذكر جري العينين والنضخ دون الجري ، وبقوله فيهما : ) مِن كُلّ فَاكِهَةٍ ( ، وفي المتأخرتين : ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ( ، وبالاتكاء على ما بطائنه من ديباج وهو الفرش ، وفي المتأخرتين الاتكاء على الرفرف ، وهو كسر الخباء ، والفرش المعدة للاتكاء أفضل ، والعبقري : الوشي ، والديباج أعلى منه ، والمشبه بالياقوت والمرجان أفضل في الوصف من خيرات حسان ، والظاهر النضخ بالماء ، وقال ابن جبير : بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة ، كما ينضخ رش المطر . وعنه أيضاً بأنواع الفواكه والماء .
الرحمن : ( 68 ) فيهما فاكهة ونخل . . . . .
( وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( عطف فاكهة ، فاقتضى العطف أن لا يندرجا في الفاكهة ، قاله بعضهم . وقال يونس بن حبيب وغيره : كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما وإشارة بهما ، كما قال تعالى : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ). وقيل : لأن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه .
الرحمن : ( 70 ) فيهن خيرات حسان
) فِيهِنَّ خَيْراتٌ ( ، جمع خيرة : وصف بني على فعلة من الخير ، كما بنوا من الشر فقالوا : شرة . وقيل : مخفف من خيرة ، وبه قرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم ، أي بشدّ الياء . وروي عن أبي عمرو بفتح الياء ، كإنه جمع خايرة ، جمع على فعلة ، وفسر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأم سلمة ذلك فقال : ( خيرات الأخلاق حسان الوجوه ) .
الرحمن : ( 72 ) حور مقصورات في . . . . .
( حُورٌ مَّقْصُوراتٌ ( : أي قصرن في أماكنهن ، والنساء تمدح بذلك ، إذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن ، كما قال قيس بن الأسلت : وتكسل عن جاراتها فيزرنها
وتغفل عن أبياتهن فتعذر
قال الحسن : لسن بطوافات في الطرق ، وخيام الجنة : بيوت اللؤلؤ . وقال عمر بن الخطاب : هي در مجوف ، ورواه عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الرحمن : ( 74 ) لم يطمثهن إنس . . . . .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ ( : أي قبل أصحاب الجنتين ، ودل عليهم ذكر الجنتين .
الرحمن : ( 76 ) متكئين على رفرف . . . . .
( مُتَّكِئِينَ ( ، قال الزمخشري : نصب على الاختصاص . ) عَلَى رَفْرَفٍ ( ، قال ابن عباس وغيره : فضول المجلس والبسط . وقال ابن جبير : رياض الجنة من رف البيت تنعم وحسن . وقال ابن عيينة : الزرابي . وقال الحسن وابن كيسان : المرافق . وقرأ الفراء وابن قتيبة : المجالس . وعبقري ، قال الحسن : بسط حسان فيها صور وغير ذلك يصنع بعبقر . وقال ابن عباس : الزرابي . وقال مجاهد : الديباج الغليظ . وقال ابن زيد : الطنافس . قال الفراء : الثخان منها . وقرأ الجمهور : ) عَلَى رَفْرَفٍ ( ، ووصف بالجمع لأنه اسم جنس ، الواحد منها رفرفة ، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله : ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ، وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة . وقال صاحب اللوامح ، وقرأ عثمان بن عفان ، ونصر بن عاصم ، والجحدري ، ومالك بن دينار ،(8/197)
" صفحة رقم 198 "
وابن محيصن ، وزهير العرقبي وغيره : رفارف جمع لا ينصرف ، خضر بسكون الضاد ، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة ؛ وعنهم أيضاً : ضم الضاد ؛ وعنهم أيضاً : فتح القاف . قال : فأما منع الصرف من عباقري ، وهي الثياب المنسوبة إلى عبقر ، وهو موضع تجلب منه الثياب على قديم الأزمان ، فإن لم يكن بمجاورتها ، وإلا فلا يكون يمنع التصرف من ياءي النسب وجه إلا في ضرورة الشعر . انتهى . وقال ابن خالويه : على رفارف خضر ، وعباقري النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والجحدري وابن محيصن . وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار . وقرأ أبو محمد المروزي ، وكان نحوياً : على رفارف خضار ، يعني : على وزن فعال . وقال صاحب الكامل : رفارف جمع ، عن ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن ، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني ، وهو الاختيار لقوله : ) خُضْرٍ ( ، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ، ابن مقسم وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين . وقال ابن عطية ، وقرأ زهير العرقبي : رفارف بالجمع والصرف ، وعنه : عباقري بفتح القاف والياء ، على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح في اسم الموضع عبقر . انتهى . وقال الزمخشري ، وروى أبو حاتم : عباقري بفتح القاف ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . انتهى . وقد يقال : لما منع الصرف رفارف ، شاكله في عباقري ، كما قد ينون ما لا ينصرف للمشاكلة ، يمنع من الصرف للمشاكلة . وقرأ ابن هرمز : خضر بضم الضاد . قال صاحب اللوامح : وهي لغة قليلة . انتهى ، ومنه قول طرفة : أيها الفتيان في مجلسنا
جردوا منها وراداً وشقر
وقال آخر : وما انتميت إلى خور ولا كسف
ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر ، وكسف جمع أكسف .
الرحمن : ( 78 ) تبارك اسم ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) ذِى الْجَلَالِ ( : صفة لربك ؛ وابن عامر وأهل الشام : ذو صفة للاسم ، وفي حرف . أبي عبد الله وأبيّ : ذي الجلال ، كقراءتهما في الموضع الأول ، والمراد هنا بالاسم المسمى . وقيل : اسم مقحم ، كالوجه في ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( ، ويدل عليه إسناد ) تَبَارَكَ ( لغير الاسم في مواضع ، كقوله : ) تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( ، ( تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء ( ، ( تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ). وقد صح الإسناد إلى الاسم لأنه بمعنى العلو ، فإذا علا الاسم ، فما ظنك بالمسمى ؟
ولما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله : ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ ( ، ختم نعم الآخرة بقوله : ) تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( وناسب(8/198)
" صفحة رقم 199 "
هنالك ذكر البقاء والديمومة له تعالى ، إذ ذكر فناء العالم ؛ وناسب هنا ذكر ما اشتق من البركة ، وهي النمو والزيادة ، إذ جاء ذلك عقب ما امتن به على المؤمنين ، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته ، ويا ذا الجلال والإكرام من الصفات التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) .(8/199)
" صفحة رقم 200 "
56
( سورة الواقعة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاٌّ رْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ ( )(8/200)
" صفحة رقم 201 "
الواقعة : ( 1 - 2 ) إذا وقعت الواقعة
رجت الأرض : زلزلت وحركت تحريكاً شديداً بحيث تنهدم الأبنية وتخر الجبال . بست الجبال : فتتت ، وقيل : سيرت ، من قولهم : بس الغنم : ساقها ، ويقال : رجت الأرض وبست الجبال لازمين . المشأمة : من الشؤم ، أو من اليد الشؤمى ، وهي الشمال . الثلاثة : الجماعة ، كثرت أو قلت . وقال الزمخشري : الأمّة من الناس الكثيرة ، وقال الشاعر : وجاءت إليهم ثلاثة خندفية
بجيش كتيار من السيل مزبد
الموضونة : المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض ، كحلق الدرع . قال الأعشى : ومن نسج داود موضونة
تسير مع الحي عيراً فعيرا
ومنه : وضين الناقة ، وهو خزامها ، لأنه موضون : أي مفتول . قال الراجز : إليك تغدو قلقاً وضينها
معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
الإبريق : إفعيل من البريق ، وهو إناء للشرب له خرطوم . قيل : وأذن ، وهو من أواني الخمر عند العرب ، قال الشاعر :(8/201)
" صفحة رقم 202 "
كأن إبريقهم ظبي على شرف
مقدّم فسبا الكتان ملثوم
وقال عدي بن زيد : وندعو إلى الصباح فجاءت
قينة في يمينها إبريق
صدع القوم بالخمر : لحقهم الصداع في رؤوسهم منها . وقيل : صدعوا : فرقوا . السدر : تقدّم الكلام عليه في سورة سبأ . المخضود : المقطوع شوكه . قال أمية بن أبي الصلت : إن الحدائق في الجنان ظليلة
فيها الكواعب سدرها مخضود
الطلح : شجر الموز ، وقيل : شجر من العضاة كثير الشوك . المسكوب : المصبوب . العروب : المتحببة إلى زوجها . الترب : اللذة ، وهو من يولد هو وآخر في وقت واحد ، سميا بذلك لمسهما التراب في وقت واحد ، والله تعالى أعلم .
( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاِصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ). هذه السورة مكية ، ومناسبتها لما قبلها تضمن العذاب للمجرمين ، والنعيم للمؤمنين . وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض بقوله : ) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( ، فانقسم العالم بذلك إلى كافر ومؤمن مفضول ومؤمن فاضل ؛ وهكذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة ، وأصحاب مشأمة ، وسباق وهم المقربون ، وأصحاب اليمين والمكذبون المختتم بهم آخر هذه السورة .
وقال ابن عباس : الواقعة من أسماء القيامة ، كالصاخة والطامّة والآزفة ، وهذه الأسماء تقتضي عظم شأنها ، ومعنى ) وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( : أي وقعت التي لا بد من وقوعها ، كما تقول : حدثت الحادثة ، وكانت الكائنة ؛ ووقوع الأمر نزوله ، يقال : وقع ما كنت أتوقعه : أي نزل ما كنت أترقب نزوله . وقال الضحاك : ) الْوَاقِعَةُ ( : الصيحة ، وهي النفخة في الصور . وقيل : ) الْوَاقِعَةُ ( : صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة .(8/202)
" صفحة رقم 203 "
والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو ، فهو في موضع خفض بإضافة إذا إليها احتاج إلى تقدير عامل ، إذ الظاهر أنه ليس ثم جواب ملفوظ به يعمل بها . فقال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب إذا ؟ قلت : بليس ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل ، أو بمحذوف يعني : إذا وقعت ، كان كيت وكيت ، أو بإضمار أذكر . انتهى .
أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا ، لأن ليس في النفي كما ، وما لا تعمل ، فكذلك ليس ، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان . والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز ، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها . والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث ، فإذا قلت : يوم الجمعة أقوم ، فالقيام واقع في يوم الجمعة ، وليس لا حدث لها ، فكيف يكون لها عمل في الظرف ؟ والمثال الذي شبه به ، وهو يوم القيامة ، ليس لي شغل ، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس ، بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس ، وهو الجار والمجرور ، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس ، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها ، وهو مختلف فيه ، ولم يسمع من لسان العرب : قائماً ليس زيد . وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن الخبري عن المحكوم عليه فقط ، فهي كما ، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع ، جعلها ناس فعلاً ، وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية .
ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله : يوم الجمعة ، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ، ولو كانت شرطاً ، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس ، لزمت الفاء ، إلا إن حذفت في شعر ، إذ ورد ذلك ، فنقول : إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته . ولا يجوز لست بغير فاء ، إلا إن اضطر إلى ذلك . وأما تقديره : إذا وقعت كان كيت وكيت ، فيدل على أن إذا عنده شرطية ، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها . وأما قوله : بإضمار اذكر ، فإنه سلبها الظرفية ، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر .
و ) كَاذِبَةٌ ( : ظاهره أنه اسم فاعل من كذب ، وهو صفة لمحذوف ، فقدره الزمخشري : نفس كاذبة ، أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله ، وتكذب في تكذيب الغيب ، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، لقوله تعالى : ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ( ، ( لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ( ، واللام مثلها في قوله : ) يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ، إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكذبي ، كما لها اليوم نفوس كثيرة يقلن لها : لم تكذبي ، أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال على معنى : أنها وقعة لا تطاق بشدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور ، وتزين له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ؟ والفراش مثل في الضعف . انتهى ، وهو تكثير وإسهاب . وقدره ابن عطية حال كاذبة ، قال : ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما كاذبة ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصة كاذبة ، أي مكذوب فيها . والثاني : حال كاذبة ، أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب . وقال قتادة والحسن المعنى : ليس لها تكذيب ولا رد ولا منثوية ، فكاذبة على هذا مصدر ، كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين . والجملة من قوله : ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة ، إلا إن اعتقد أنها جواب لإذا ، أو منصوبة باذكر ، فلا يكون ابتداء كلام . وقال ابن عطية : في موضع الحال ، والذي يظهر لي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه .
الواقعة : ( 3 ) خافضة رافعة
وقرأ الجمهور : ) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( برفعهما ، على تقدير هي ؛ وزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره بنصبهما . قال ابن خالوية : قال الكسائي : لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به ، ونصبهما على الحال . قال ابن عطية : بعد الحال التي هي ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( ، ولك أن تتابع الأحوال ، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ . والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى ، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه ، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما(8/203)
" صفحة رقم 204 "
يتهم به . انتهى . وهذا الذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي . قال في كتاب اللوامح : وذو الحال الواقعة والعامل وقعت ، ويجوز أن يكون ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( حال أخرى من الواقعة بتقدير : إذا وقعت صادقة الواقعة ، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال ، وجازت أحوال مختلفة عن واحد ، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد . وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً ، كان العامل في ) إِذَا وَقَعَتِ ( محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه . انتهى . وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر في النحو ، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة .
قال الجمهور : القيامة تنفظر له السماء والأرض والجبال ، وتنهد له هذه البنية برفع طائفة من الأجرام وبخفض أخرى ، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب . وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى ، وترفعها لتسمع الأقصى . وقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة : القيامة تخفض أقواماً إلى النار ، وترفع أقواماً إلى الجنة ؛ وأخذ الزمخشري هذه الأقوال على عادته وكساها بعض ألفاظ رائعة ، فقال : ترفع أقواماً وتضع آخرين ، أما وصفاً لها بالشدة ، لأن الواقعات العظام كذلك يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ؛ وأما أن الأشقياء يحطون إلى الدركات ، والسعداء يحطون إلى الدرجات ؛ وأما أنها تزلزل الأشياء عن مقارها لتخفض بعضاً وترفع بعضاً ، حيث تسقط السماء كسفاً ، وتنتثر الكواكب وتنكدر ، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب . انتهى .
الواقعة : ( 4 - 5 ) إذا رجت الأرض . . . . .
( إِذَا رُجَّتِ ( ، قال ابن عباس : زلزلت وحركت بجذب . وقال أيضاً هو وعكرمة ومجاهد : ) بست ( : فتتت ، وقيل : سيرت . وقرأ زيد بن علي : ) إِذَا رُجَّتِ ( ، و ) بست ( مبنياً للفاعل ، ( وَإِذَا رُجَّتِ ( بدل من ) إِذَا وَقَعَتِ ( ، وجواب الشرط عندي ملفوظ به ، وهو قوله : ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ، والمعنى إذا كان كذا وكذا ، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به ، أي إن سعادتهم وعظم رتبتهم عند الله تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة ، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال ، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض . انتهى . ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد . وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : ) إِذْ رُجَّتِ ( في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو ) إِذَا وَقَعَتِ ( ، وليست واحدة منهما شرطية ، بل جعلت بمعنى وقت ، وما بعد إذا أحوال ثلاثة ، والمعنى : وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع ، خافضة قوم ، رافعة آخرين وقت رج الأرض . وهكذا ادعى ابن مالك أن إذا تكون مبتدأ ، واستدل بهذا . وقد ذكرنا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط ،
الواقعة : ( 6 ) فكانت هباء منبثا
وتقدم شرح الهباء في سورة الفرقان . ) مُّنبَثّاً ( : منتشراً . منبتاً بنقطتين بدل الثاء المثلثة ، قراءة الجمهور ، أي منقطعاً .
الواقعة : ( 7 ) وكنتم أزواجا ثلاثة
) وَكُنتُمْ ( : خطاب للعالم ، ( أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ( : أصنافاً ثلاثة ، وهذه رتب للناس يوم القيامة .
الواقعة : ( 8 ) فأصحاب الميمنة ما . . . . .
( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ، قال الحسن والربيع : هم الميامين على أنفسهم . وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم . وقيل : أصحاب المنزلة السنية ، كما تقول : هو مني باليمين . وقيل : المأخوذ بهم ذات اليمين ، أو ميمنة آدم المذكورة في حدث الإسراء في الاسودة .
الواقعة : ( 9 ) وأصحاب المشأمة ما . . . . .
( وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ ( : هم من قابل أصحاب الميمنة في هذه الأقوال ، فأصحاب مبتدأ ، ما مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم ، وأصحاب الميمنة خبر عن ما ، وما بعدها خبر عن أصحاب ، وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم ، وما تعجب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، والمعنى : أي شيء هم .
الواقعة : ( 10 ) والسابقون السابقون
) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( : جوزوا أن يكون مبتدأ وخبراً ، نحو قولهم : أنت أنت ، وقوله : أنا أبو النجم ، وشعري شعري ، أي الذين انتهوا في السبق ، أي الطاعات ، وبرعوا فيها وعرفت حالهم . وأن يكون السابقون تأكيداً لفظياً ، والخبر فيما بعد ذلك ؛ وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده ، وتقف على قوله : ) وَالسَّابِقُونَ ( ، وأن يكون متعلق السبق الأول مخالفاً للسبق الثاني . والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبراً لقوله : ) وَالسَّابِقُونَ ( ، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده . والوجه الأول ، قال ابن عطية : ومذهب سيبويه أنه يعني السابقون خبر الابتداء ، يعني خبر والسابقون ، وهذا كما(8/204)
" صفحة رقم 205 "
تقول : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه . انتهى . ويرجح هذا القول أنه ذكر أصحاب الميمنة متعجباً منهم في سعادتهم ، وأصحاب المشأمة متعجباً منهم في شقاوتهم ، فناسب أن يذكر السابقون مثبتاً حالهم معظماً ، وذلك بالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة ، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات ، وإلى ترك المعاصي . وقال عثمان بن أبي سودة : السابقون إلى المساجد . وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال كعب : هم أهل القرآن . وفي الحديث : ( سئل عن السابقين فقال هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم ) .
الواقعة : ( 11 ) أولئك المقربون
) أُوْلَائِكَ ( : إشارة إلى السابقين المقربين الذين علت منازلهم وقربت درجاتهم في الجنة من العرش .
الواقعة : ( 12 ) في جنات النعيم
وقرأ الجمهور : ) فِي جَنَّاتِ ( ، جمعاً ؛ وطلحة : في جنات مفرداً .
الواقعة : ( 13 - 14 ) ثلة من الأولين
وقسم السابقين المقربين إلى ) ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ). وقال الحسن : السابقون من الأمم ، والسابقون من هذه الأمة . وقالت عائشة : الفرقتان في كل أمة نبي ، في صدرها ثلة ، وفي آخرها قليل . وقيل : هما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كانوا في صدر الدنيا ، وفي آخرها أقل . وفي الحديث : ( الفرقتان في أمتي ، فسابق في أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ) ، وارتفع ثلة على إضمارهم .
الواقعة : ( 15 ) على سرر موضونة
وقرأ الجمهور : ) عَلَى سُرُرٍ ( بضم الراء ؛ وزيد ابن علي وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة لبعض بني تميم وكلب ، يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف ، نحو سرير ، وتقدم ذلك في والصافات . ) مَّوْضُونَةٍ ( ، قال ابن عباس : مرمولة بالذهب . وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت .
الواقعة : ( 16 ) متكئين عليها متقابلين
) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ( : أي على السرر ، ومتكئين : حال من الضمير المستكن في ) عَلَى سُرُرٍ ( ، ( مُّتَقَابِلِينَ ( : ينظر بعضهم إلى بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بطائنهم من غل إخواناً .
الواقعة : ( 17 ) يطوف عليهم ولدان . . . . .
( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ ( : وصفوا بالخلد ، وإن كان من في الجنة مخلداً ، ليدل على أنهم يبقون دائماً في سن الولدان ، لا يكبرون ولا يتحولون عن شكل الوصافة . وقال مجاهد : لا يموتون . وقال الفراء : مقرطون بالخلدات ، وهي ضروب من الأقراط .
الواقعة : ( 18 ) بأكواب وأباريق وكأس . . . . .
( وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ ( ، قال : من خمر سائلة جارية معينة .
الواقعة : ( 19 ) لا يصدعون عنها . . . . .
( لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ( ، قال الأكثرون : لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا . وقرأت على أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير ، رحمه الله تعالى ، قول علقمة في صفة الخمر : تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
فقال : هذه صفة أهل الجنة . وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى : لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب ، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق ، كما جاء : فتصدع السحاب عن المدينة : أي فتفرق . وقرأ مجاهد : لا يصدعون ، بفتح الياء وشد الصاد ، أصله يتصدعون ، أدغم التاء في الصاد : أي لا يتفرقون ، كقوله : ) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ). والجمهور ؛ بضم الياء وخفة الصاد ؛ والجمهور : بجر ) وَفَاكِهَةٍ ( ؛ ولحم وزيد بن علي : برفعهما ، أي ولهم ؛ والجمهور : ) وَلاَ يُنزِفُونَ ( مبنياً للمفعول . قال مجاهد وقتادة وجبير والضحاك : لا تذهب عقولهم سكراً ؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ، نزف البئر : استفرغ ماءها ، فالمعنى : لا تفرغ خمرهم . وابن أبي إسحاق أيضاً وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم(8/205)
" صفحة رقم 206 "
الياء وكسر الزاي : أي لا يفنى لهم شراب ،
الواقعة : ( 20 ) وفاكهة مما يتخيرون
) مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( : يأخذون خيره وأفضله ،
الواقعة : ( 21 ) ولحم طير مما . . . . .
( مّمَّا يَشْتَهُونَ ( : أي يتمنون .
الواقعة : ( 22 ) وحور عين
وقرأ الجمهور : ) وَحُورٌ عِينٌ ( برفعهما ؛ وخرج عليّ على أن يكون معطوفاً على ) وِلْدانٌ ( ، أو على الضمير المستكن في ) مُتَّكِئِينَ ( ، أو على مبتدأ محذوف هو وخبره تقديره : لهم هذا كله ، ( وَحُورٌ عِينٌ ( ، أو على حذف خبر فقط : أي ولهم حور ، أو فيهما حور . وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة والكسائي : بجرهما ؛ والنخعي : وحير عين ، بقلب الواو ياء وجرهما ، والجر عطف على المجرور ، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين . وقيل : هو على معنى : وينعمون بهذا كله وبحور عين . وقال الزمخشري : عطفاً على ) جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ، كأنه قال : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور . انتهى ، وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي . وقرأ أبي وعبد الله : وحوراً عيناً بنصبهما ، قالوا : على معنى ويعطون هذا كله وحوراً عيناً . وقرأ قتادة : وحور عين بالرفع مضافاً إلى عين ؛ وابن مقسم : بالنصب مضافاً إلى عين ؛ وعكرمة : وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس ، وبفتح الهمزة فيهما ؛ فاحتمل أن يكون مجروراً عطفاً على المجرور السابق ؛ واحتمل أن يكون منصوباً ؛ كقراءة أبي وعبد الله وحوراً عيناً .
الواقعة : ( 23 ) كأمثال اللؤلؤ المكنون
ووصف اللؤلؤ بالمكنون ، لأنه أصفى وأبعد من التغير . وفي الحديث : ( صفاؤهنّ كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ) . وقال تعالى : ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( ، وقال الشاعر ، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال ، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتها فقال : قامت ترأى بين سجفي كلة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درّة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
الواقعة : ( 24 ) جزاء بما كانوا . . . . .
( جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( : روي أن المنازل والقسم في الجنة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل ، وفيه النص الصحيح الصريح : لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة ) .
الواقعة : ( 25 ) لا يسمعون فيها . . . . .
( لَغْواً ( : سقط القول وفحشه ، ( وَلاَ تَأْثِيماً ( : ما يؤثم أحداً
الواقعة : ( 26 ) إلا قيلا سلاما . . . . .
والظاهر أن ) إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( استثناء منقطع ، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم ، ويبعد قول من قال استثناء متصل . وسلاماً ، قال الزجاج : هو مصدر نصبه ) قِيلاً ( ، أي يقول بعضهم لبعض ) سَلَاماً سَلَاماً ). وقيل : نصب بفعل محذوف ، وهو معمول قيلاً ، أي قيلاً أسلموا سلاماً . وقيل : ) سَلاَماً ( بدل من ) قِيلاً ). وقيل : نعت لقيلا بالمصدر ، كأنه قيل : إلا قيلاً سالماً من هذه العيوب .
الواقعة : ( 28 ) في سدر مخضود
) فِى سِدْرٍ ( : في الجنة شجر على خلقه ، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح . ) مَّخْضُودٍ ( : عار من الشوك . وقال مجاهد : المخضود : الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا أثناه .
الواقعة : ( 29 ) وطلح منضود
وقرأ الجمهور : ) وَطَلْحٍ ( بالحاء ؛ وعليّ وجعفر بن محمد وعبد الله : بالعين ، قرأها على المنبر . وقال عليّ وابن عباس وعطاء ومجاهد : الطلح : الموز . وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب . وقيل : شجر أم غيلان ، وله نوّار كثير طيب الرائحة . وقال السدّي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . والمنضود : الذي نضد من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق تظهر .
الواقعة : ( 30 ) وظل ممدود
) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( : لا يتقلص . بل منبسط لا ينسخه شيء . قال مجاهد : هذا الظل من سدرها وطلحها .
الواقعة : ( 31 ) وماء مسكوب
) وَمَاء مَّسْكُوبٍ ( ، قال سفيان وغيره : جار في أخاديد . وقيل : منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء .
الواقعة : ( 32 - 33 ) وفاكهة كثيرة
) لاَّ مَقْطُوعَةٍ ( : أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفاكهة الدنيا ، ( وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( : أي لا يمنع من تناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا . وقرىء : وفاكهة كثيرة برفعهما ، أي وهناك فاكهة ،
الواقعة : ( 34 ) وفرش مرفوعة
وفرش : جمع فراش . وقرأ الجمهور : بضم الراء ؛ وأبو حيوة : بسكونها مرفوعة ، نضدت حتى ارتفعت ، أو رفعت على الأسرة . والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم . وقال أبو عبيدة(8/206)
" صفحة رقم 207 "
وغيره : المراد بالفرش النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش ، ورفعهن في الأقدار والمنازل .
الواقعة : ( 35 ) إنا أنشأناهن إنشاء
والضمير في ) أَنشَأْنَاهُنَّ ( عائد على الفرش في قول أبي عبيدة ، إذ هنّ النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها ، أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة . والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، ويكون ذلك مخصوصاً بالحور اللاتي لسن من نسل آدم ، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة ، فيكون ذلك لبنات آدم .
الواقعة : ( 36 - 38 ) فجعلناهن أبكارا
) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً ( : والعرب ، قال ابن عباس : العروب المتحببة إلى زوجها ، وقاله الحسن ، وعبر ابن عباس أيضاً عنهن بالعواشق ، ومنه قول لبيد : وفي الخدور عروب غير فاحشة
ريا الروادف يغشى دونها البصر
وقال ابن زيد : العروب : المحسنة للكلام . وقرأ حمزة ، وناس منهم شجاع وعباس والأصمعي ، عن أبي عمرو ، وناس منهم خارجة وكردم وأبو خليد عن نافع ، وناس منهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم : بسكون الراء ، وهي لغة تميم ؛ وباقي السبعة : بضمها . ) أَتْرَاباً ( في الشكل والقد ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ) أَنشَأْنَاهُنَّ ( عائد على الحور العين المذكورة قبل ، لأن تلك قصة قد انقطعت ، وهي قصة السابقين ، وهذه قصة أصحاب اليمين . واللام في ) أَصْحَابُ ( متعلقة بأنشأناهن .
الواقعة : ( 39 ) ثلة من الأولين
) ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ ( : أي من الأمم الماضية ،
الواقعة : ( 40 ) وثلة من الآخرين
) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( : أي من أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا تنافي بين قوله : ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( وقوله قبل : ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ، لأن قوله : ) مّنَ الاْخِرِينَ ( هو في السابقين ، وقوله ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( هو في أصحاب اليمين .
( ) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ إِنَّ الاٌّ وَّلِينَ وَالاٌّ خِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِأونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّ ولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 41 ) وأصحاب الشمال ما . . . . .
اليحموم الأسود البهيم ، الحنث قال الخطابي هو في كلام العرب العدل الثقيل شبه الاثم به ، الهيم جمع أهيم وهيماء(8/207)
" صفحة رقم 208 "
والهيام داء معطش يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقماً شديداً قال : فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد
صداها ولا يقضي عليها هيامها
( والهيم ) جمه هيام ، وهو الرمل بفتح الهاء وهو المشهور ، وقال ثعلب : بضمها قال : هو الرمل الذي لا يتماسك ، فبالفتح كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل ، بجمع أهيم من قلب ضمته كسرة لتصح الياء ، أو بالضم ، يكون قد جمع على فعل ، كقراد وقرد ، ثم سكنت ضمة الراء فصار فعلا ، ثم فعل به ما فعل ببيض ، أمنى الرجل النطفة ومناها قذفها من إحليله ، المزن السحاب ، قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
أوريت النار من الزناد قدحتها ، وورى الزند نفسه ، والزناد حجرين ، أو من حجر وحديدة ومن شجر ، لا سيما في الشجر الرخو ، كالمرخ والعفار والكلح ، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما بالآخر ، ويسمون الأعلى الزند ، والأسفل الزندة ، شبهوهما بالعجل والطروقة ، أقوى الرجل دخل في الأرض ، القوا وهي القفر كأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى من أقام أياماً يأكل شيئاً ، وأقوت الدار : صارت قفراء ، قال الشاعر : يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
إدهن لاين ، وهاود فيما لا يحمل عند المدهن ، وقال الشاعر : الحزم والقوة خبر من
الإدهان والفهة والهاع
( الحلقوم ) مجرى الطعام ، ( الروح ) الاستراحة ، ( الريحان ) تقدم في سورة الرحمن ) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ، في سموم وحميم ، وظل من يحموم ، وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم ، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ، وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ، قل إن الأولين والآخرين ، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ، لآكلون من شجر من زقوم ، فمالئون منها البطون ، فشاربون عليه من الحميم ، فشابون شرب الهيم ، هذا نزلهم يوم الدين ، نحن خلقناكم فلولا تصدقون ، أفرأيتم ما تمنون ، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ، أفرأيتم ما تحرثون ، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون ، إنا لمغرمون ، بل نحن محرومون ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلوى تشكرون ، أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ، نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين ، فسبح باسم ربك العظيم ( لما ذكر حال السابقين ،(8/208)
" صفحة رقم 209 "
وأتبعهم بأصحاب الميمنة ، ذكر حال أصحاب المشئمة فقال : ) وَأَصْحَابُ الشّمَالِ ( ، وتقدّم إعراب نظير هذه الجملة ، وفي هذا الاستفهام تعظيم مصابهم .
الواقعة : ( 42 ) في سموم وحميم
) فِى سَمُومٍ ( : في أشدّ حر ، ( وَحَمِيمٍ ( : ماء شديد السخونة .
الواقعة : ( 43 ) وظل من يحموم
) وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد والجمهور : دخان . وقال ابن عباس أيضاً : هو سرادق النار المحيط بأهلها ، يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم . وقال ابن كيسان : اليحموم من أسماء جهنم . وقال ابن زيد أيضاً وابن بريدة : هو جبل في النار أسود ، يفزع أهل النار إلى ذراه ، فيجدونه أشد شيء وأمر .
الواقعة : ( 44 ) لا بارد ولا . . . . .
( لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( : صفتان للظل نفيتا ، سمي ظلاً وإن كان ليس كالظلال ، ونفي عنه برد الظل ونفعه لمن يأوي إليه . ) وَلاَ كَرِيمٍ ( : تتميم لنفي صفة المدح فيه ، وتمحيق لما يتوهم في الظل من الاسترواح إليه عند شدّة الحر ، أو نفي لكرامة من يستروح إليه . ونسب إليه مجازاً ، والمراد هم ، أي يستظلون إليه وهم مهانون . وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة ، وبدىء أولاً بالوصف الأصلي الذي هو الظل ، وهو كونه من يحموم ، فهو بعض اليحموم . ثم نفى عنه الوصف الذي يبغي له الظل ، وهو كونه لا بارداً ولا كريماً . وقد يجوز أن يكون ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( صفة ليحموم ، ويلزم منه أن يكون الظل موصوفاً بذلك . وقرأ الجمهور : ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( بجرهما ؛ وابن عبلة : برفعهما : أي لا هو بارد ولا كريم ، على حد قوله :
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي لا أنا حرج .
الواقعة : ( 45 ) إنهم كانوا قبل . . . . .
( إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ ( : أي في الدنيا ، ( مُتْرَفِينَ ( : فيه ذم الترف والتنعم في الدنيا ، والترف طريق إلى البطالة وترك التفكر في العاقبة .
الواقعة : ( 46 ) وكانوا يصرون على . . . . .
( وَكَانُواْ يُصِرُّونَ ( : أي يداومون ويواظبون ، ( عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( ، قال قتادة والضحاك وابن زيد : الشرك ، وهو الظاهر . وقيل : ما تضمنه قوله : ) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( الآية من التكذيب بالبعث . ويبعده : ) وَكَانُواْ يِقُولُونَ ( ، فإنه معطوف على ما قبله ، والعطف يقتضي التغاير ، فالحنث العظيم : الشرك .
الواقعة : ( 47 ) وكانوا يقولون أئذا . . . . .
فقولهم : ) أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ ( : تقدم الكلام عليه في والصافات ، وكرر الزمخشري هنا وهمه فقال : فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في ) لَمَبْعُوثُونَ ( من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : ) مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا ( ، الفصل لا المؤكدة للنفي . انتهى . ورددنا عليه هنا وهناك إلى مذهب الجماعة في أنهم لا يقدرون بين همزة الاستفهام وحرف العطف فعلاً في نحو : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( ، ولا اسماً في نحو :
الواقعة : ( 48 ) أو آباؤنا الأولون
) أَوَ ءابَاؤُنَا ( ، بل الواو والفاء لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، والهمزة في التقدير متأخرة عن حرف العطف . لكنه لما كان الاستفهام له صدر الكلام قدمت .
الواقعة : ( 49 ) قل إن الأولين . . . . .
ولما ذكر تعالى استفهامهم عن البعث على طريق الاستبعاد والإنكار ، أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يخبرهم ببعث العالم ، أولهم وآخرهم ، للحساب ، وبما يصل إليه المكذبون للبعث من العذاب .
الواقعة : ( 50 ) لمجموعون إلى ميقات . . . . .
والميقات : ما وقت به الشيء ، أي حد ، أي إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من ، كخاتم حديد .
الواقعة : ( 51 ) ثم إنكم أيها . . . . .
( ثُمَّ إِنَّكُمْ ( : خطاب لكفار قريش ، ( أَيُّهَا الضَّالُّونَ ( عن الهدى ، ( الْمُكَذّبُونَ ( للبعث . وخطاب أيضاً لمن جرى مجراهم في ذلك .
الواقعة : ( 52 ) لآكلون من شجر . . . . .
( لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ ( : من الأولى لابتداء الغاية أو للتبعيض ؛ والثانية ، إن كان من زقوم بدلاً ، فمن تحتمل الوجهين ، وإن لم تكن بدلاً ، فهي لبيان الجنس ، أي من شجر الذي هو زقوم . وقرأ الجمهور : من شجر ؛ وعبد الله : من شجرة .
الواقعة : ( 53 ) فمالئون منها البطون
) فَمَالِئُونَ مِنْهَا ( : الضمير في منها عائد على شجر ، إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر ، وعلى قراءة عبد الله ، فهو واضح .
الواقعة : ( 54 ) فشاربون عليه من . . . . .
( فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ ( ، قال الزمخشري : ذكر على لفظ الشجر ، كما أنث على المعنى في منها . قال : ومن قرأ : من شجرة من زقوم ، فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثانى على تأويل الزقوم لأنه يفسرها ، وهي في معناه . وقال ابن عطية : والضمير في عليه عائد على المأكول ، أو على الأكل . انتهى . فلم يجعله عائداً على شجر .
الواقعة : ( 55 ) فشاربون شرب الهيم
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : ) شُرْبَ ( بضم الشين ، وهو مصدر . وقيل : اسم لما يشرب ؛ ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها ، وهو بمعنى المشروب ، اسم لا مصدر ، كالطحن والرعي ؛ والأعرج وابن المسيب وسبيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج وباقي السبعة : بفتحها ، وهو مصدر مقيس . والهيم ، قال ابن عباس ومجاهد(8/209)
" صفحة رقم 210 "
وعكرمة والضحاك : جمع أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام ، وقد فسرناه في المفردات . وقيل : جمع هيماء . وقيل : جمع هائم وهائمة ، وجمع فاعل على فعل شاذ ، كباذل وبذل ، وعائد وعوذ ؛ والهائم أيضاً من الهيام . ألا ترى أن الجمل أذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب ؟ وقال ابن عباس وسفيان : الهيم : الرمال التى لا تروى من الماء ، وتقدم الخلاف في مفرده ، أهو الهيام بفتح الهاء ، أم بالضم ؟ والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل ، فإذا ملأوا منه البطون ، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم ، فيشربونه شرب الهيم ، قاله الزمخشري .
وقال أيضاً : فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ قلت : ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك ، كما تشرب الهيم الماء ، أمر عجيب أيضاً ؛ فكانتا صفتين مختلفتين . انتهى . والفاء تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربوا من الحميم ظناً أنه يسكن عطشهم ، فازداد العطش بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع به ريّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد ، اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود الصفة . والمشروب منه في ) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( محذوف لفهم المعنى تقديره : فشاربون منه شرب الهيم .
الواقعة : ( 56 ) هذا نزلهم يوم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) نُزُلُهُمْ ( بضم الزاي . وقرأ ابن محيصن وخارجة ، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس ، كلهم عن أبي عمرو : بالسكون ، وهو أول ما يأكله الضيف ، وفيه تهكم بالكفار ، وقال الشاعر : وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
) يَوْمِ الدّينِ ( : أي يوم الجزاء .
الواقعة : ( 57 ) نحن خلقناكم فلولا . . . . .
( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( بالإعادة وتقرون بها ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم . ثم قال : ) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( بالإعادة وتقررن بها كما أقررتم ، فهو حض على التصديق . ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( ، أو : ) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ بِهِ ( ،
الواقعة : ( 58 - 59 ) أفرأيتم ما تمنون
ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق ، وكان كافراً ، قال : ولم أصدق ؟ فقيل له : أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به ؟ فقال : ) أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( ، وهو المني الذي يخرج من الإنسان ، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة . وقال الزمخشري : ) يخلقونه ( : تقدرونه وتصورونه . انتهى ، فحمل الخلق على التقدير والتصوير ، لا على الإنشاء . ويجوز في ) يَخْشَى أَءنتُمْ ( أن يكون مبتدأ ، وخبره ) تَخْلُقُونَهُ ( ، والأولى أن يكون فاعلاً بفعل محذوف ، كأنه قال : أتخلقونه ؟ فلما حذف الفعل ، انفصل الضمير وجاء ) أَفَرَءيْتُمُ ( هنا مصرحاً بمفعولها الأول . ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها ، إذا كانت بمعنى أخبرني . وجاء بعد أم جملة فقيل : أم منقطعة ، وليست المعادلة للهمزة ، وذلك في أربعة مواضع هنا ، ليكون ذلك على استفهامين ، فجواب الأول لا ، وجواب الثاني نعم ، فتقدر أم على هذا ، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم . وقال قوم من النحاة : أم هنا معادلة للهمزة ، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد ، إذ لو قال : أم نحن ، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر . ونظير ذلك جواب من قال : من في الدار ؟ زيد في الدار ، أو زيد فيها ، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به . وقرأ الجمهور : ) مَّا تُمْنُونَ ( بضم التاء ؛ وابن عباس وأبو السمال : بفتحها .
الواقعة : ( 60 - 61 ) نحن قدرنا بينكم . . . . .
والجمهور : ) قَدَّرْنَآ ( ، بشد الدال ؛ وابن كثير : يخفها ، أي قضينا وأثبتنا ، أو رتبنا في التقدم والتأخر ، فليس موت العالم دفعة واحدة ، بل بترتيب لا يتعدى .
ويقال : سبقته(8/210)
" صفحة رقم 211 "
على الشيء : أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، والمعنى : ) وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( : أي نحن قادرون على ذلك ، لا تغلبوننا عليه ، إن أردنا ذلك . وقال الطبري : المعنى نحن قادرون ، ( قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ( ، ( عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( : أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة ، هكذا قرناً بعد قرن . انتهى . فعلى أن نبدل متعلق بقوله : ) نَحْنُ قَدَّرْنَا ( ، وعلى القول الأول متعلق ) بِمَسْبُوقِينَ ( ، أي لا نسبق . ) عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( ، وأمثالكم جمع مثل ، ( وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ ( من الصفات : أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم . وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد . ويجوز أن يكون ) أَمْثَالَكُم ( جمع مثل بمعنى الصفة ، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقاً وخلقاً ، ( وَنُنشِئَكُمْ ( في صفات لا تعلمونها .
الواقعة : ( 62 ) ولقد علمتم النشأة . . . . .
( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاْولَى ( : أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم ، أولاً أنشأنا إنساناً . وقيل : نشأة آدم ، وأنه خلق من طين ، ولا ينكرها أحد من ولده . ) فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ( : حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة . وقرأ الجمهور : تذكرون بشد الذال ؛ وطلحة يخفها وضم الكاف ، قالوا : وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه . انتهى ، ولا تدل إلا على قياس الأولى ، لا على جميع أنواع القياس .
الواقعة : ( 63 ) أفرأيتم ما تحرثون
) أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( : ما تذرونه في الأرض وتبذرونه ،
الواقعة : ( 64 ) أأنتم تزرعونه أم . . . . .
( تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( : أي زرعاً يتم وينبت حتى ينتفع به ، والحطام : اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به .
الواقعة : ( 65 ) لو نشاء لجعلناه . . . . .
( فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تعجبون . وقال عكرمة : تلاومون . وقال الحسن : تندمون . وقال ابن زيد : تنفجعون ، وهذا كله تفسير باللازم . ومعنى تفكهون : تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ، ورجل فكه : منبسط النفس غير مكترث بشيء ، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب . وقرأ الجمهور : ) فَظَلْتُمْ ( ، بفتح الظاء ولام واحدة ؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه : بكسرها . كما قالوا : مست بفتح الميم وكسرها ، وحكاها الثوري عن ابن مسعود ، وجاءت عن الأعمش . وقرأ عبد الله والجحدري : فظللتم على الأصل ، بكسر اللام . وقرأ الجحدري أيضاً : بفتحها ، والمشهور ظللت بالكسر . وقرأ الجمهور : ) تَفَكَّهُونَ ( ؛ وأبو حرام : بالنون بدل الهاء . قال ابن خالويه : تفكه : تعجب ، وتفكن : تندم .
الواقعة : ( 66 ) إنا لمغرمون
) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( ، قبله محذوف : أي يقولون . وقرأ الجمهور : إنا ؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر : أئنا بهمزتين ، ( لَمُغْرَمُونَ ( : أي معذبون من الغرام ، وهو أشد العذاب ، قال : إن يعذب يكن غراماً وإن
يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
أو لمحملون الغرم في النفقة ، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته .
الواقعة : ( 67 ) بل نحن محرومون
) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( : محدودون ، لاحظ لنا في الخير .
الواقعة : ( 68 ) أفرأيتم الماء الذي . . . . .
( الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ ( : هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب . ألا ترى مقابله ، وهو الأجاج ؟
الواقعة : ( 70 ) لو نشاء جعلناه . . . . .
ودخلت اللام في ) لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( ، وسقطت في قوله : ) جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( ، وكلاهما فصيح . وطول الزمخشري في مسوغ ذلك ، وملخصه : أن الحرف إذا كان في مكان ، وعرف واشتهر في ذلك المكان ، جاز حذفه لشهرة أمره . فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى ، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع . وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول ، وليس كما ذكر ، إنما هذا قول ضعفاء المعربين . والذي ذكره سيبويه : أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول . ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم : لو كان إنساناً لكان حيواناً ، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية . ثم قال : ويجوز أن يقال : إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب .
الواقعة : ( 72 ) أأنتم أنشأتم شجرتها . . . . .
والظاهر أن ) شَجَرَتَهَا ( ، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار . وقيل : المراد بالشجرة نفس النار ، كأنه يقول : نوعها أو جنسها ،(8/211)
" صفحة رقم 212 "
فاستعار الشجرة لذلك ، وهذا قول متكلف .
الواقعة : ( 73 - 74 ) نحن جعلناها تذكرة . . . . .
( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ( : أي لنار جهنم ، ( وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ ( : أي النازلين الأرض القوا ، وهي القفر . وقيل : للمسافرين ، وهو قريب مما قبله ؛ وقول ابن زيد : الجائعين ، ضعيف جداً . وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم ، ثم أتبعه بفائدتها في الدنيا . وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها ، من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب . والنار من أعظم الدلائل على البعث ، وفيها انتقال من شيء إلى شيء ، وإحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون . ووصف تعالى نفسه بالعظيم ، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء .
قوله عز وجل : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ).
الواقعة : ( 75 - 76 ) فلا أقسم بمواقع . . . . .
قرأ الجمهور : ) فَلاَ أُقْسِمُ ( ، فقيل : لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( ، والمعنى : فاقسم . وقيل : المنفي المحذوف ، أي فلا صحة لما يقول الكفار . ثم ابتدأ أقسم ، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة ؛ ولا يجوز ، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها ، وليس جواباً لسائل سأل ، فيحتمل ذلك ، نحو قوله ) لا ( لمن قال : هل من رجل في الدار ؟ وقيل : توكيد مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم ، إلا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومنه .
فلا وأبي أعدائها لا أخونها
والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها ، فتولدت منها ألف ، كقوله :
أعوذ بالله من العقراب
وهذا وإن كان قليلاً ، فقد جاء نظيره في قوله : ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ ( بياء بعد الهمزة ، وذلك في قراءة هشام ، فالمعنى : فلأقسم ، كقراءة الحسن وعيسى ، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف ، أي فلأنا أقسم ، وتبعه على ذلك الزمخشري . وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال ، وفي القسم عليه خلاف . فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه ، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبراً لمبتدأ محذوف ، فتصير الجملة اسمية ، فيقسم عليها . وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال ، وهذا الذي اختاره فتقول : والله ليخرج زيد ، وعليه قول الشاعر :(8/212)
" صفحة رقم 213 "
ليعلم ربي أن بيتي واسع
وقال الزمخشري : في قراءة الحسن ، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح ؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال . انتهى . أما الأمر الأول ففيه خلاف ، فالذي قاله قول البصريين ، وأما الكوفيون فيختارون ذلك ، ولكن يجيزون تعاقبهما ، فيجيزون لأضربن زيداً ، واضربن عمراً . وأما الثاني فصحيح ، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم ، وأقسم فعل حال ، والقسم قد يكون جواباً للقسم ؛ كما قال تعالى : ) وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ). فاللام في ) وَلَيَحْلِفَنَّ ( جواب قسم ، وهو قسم ، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً ، بل مستقبلاً ، لزمت النون ، وهي مخلصة المضارع للاستقبال . وقرأ الجمهور : ) بِمَواقِعِ ( جمعاً ؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي : بموقع مفرداً ، مراداً به الجمع . قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويؤيد هذا القول قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ ( ، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله : ) بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، أي نجوم القرآن . وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها . قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها . وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء . وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة . وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري ، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب ، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام ، كقوله : ) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ).
وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن ، وقد أعظم ذلك تعالى فقال : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ). والجملة المقسم عليها قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( ، وفصل بين القسم وجوابه ؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما ، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ). وقال ابن عطية : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ( تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهمم به ، وإنما الاعتراض قوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ). انتهى .
الواقعة : ( 77 ) إنه لقرآن كريم
وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به . وقال الزمخشري : ) كَرِيمٌ ( : حسن مرضي في جنسه من الكتب ، أو نفاع جم المنافع ، أو كريم على الله تعالى .
الواقعة : ( 78 ) في كتاب مكنون
) فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( : أي مصون . قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء . وقال عكرمة : التوراة والإنجيل ، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة . وقيل : ) فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير ، ولم تكن إذ ذاك مصاحف ، فهو إخبار بغيب .
الواقعة : ( 79 ) لا يمسه إلا . . . . .
والظاهر أن قوله : ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( وصف لقرآن كريم ، فالمطهرون هم الملائكة . وقيل : ) لاَّ يَمَسُّهُ ( صفة لكتاب مكنون ، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء ، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً : أي لا يطلع عليه من سواهم ، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة ، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف ، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس . وإذا كان ) الْمُطَهَّرُونَ ( هم الملائكة ، ( فَلا يَمَسُّهُ ( نفي ، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله . وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة ، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً ، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون ، وإن كان يمسه غير المطهر ، كما جاء : ) لا تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( ، أي الحكم هذا ، وإن كان قد يقع العضد . واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي ، فالضمة في السين إعراب . واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم ، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير ، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء ، كما جاء في الحديث : ( إنا لم نرده عليك ) ، إلا إنا جزم ، وهو مجزوم ، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم . قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي ، قول فيه ضعف(8/213)
" صفحة رقم 214 "
وذلك أنه إذا كان خبراً ، فهو في موضع الصفة
الواقعة : ( 80 ) تنزيل من رب . . . . .
وقوله بعد ذلك ) تَنزِيلَ ( صفة ، فإذا جعلناه نهياً ، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره . وفي حرف ابن مسعود ما يمسه ، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر . انتهى .
ولا يتعين أن يكون ) تَنزِيلَ ( صفة ، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فيحسن إذ ذاك أن يكون ) لاَّ يَمَسُّهُ ( نهياً . وذكروا هنا حكم مس المصحف ، وذلك مذكور في الفقه ، وليس في الآية دليل على منع ذلك . وقرأ الجمهور : ) الْمُطَهَّرُونَ ( اسم مفعول من طهر مشدّداً ؛ وعيسى : كذلك مخففاً من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو . وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون ، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر ، أي المطهرين أنفسهم ؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما ، أصله المتطهرون ، فأدغم التاء في الطاء ، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف . وقرىء : المتطهرون . وقرىء : تنزيلاً بالنصب ، أي نزل تنزيلاً ،
الواقعة : ( 81 ) أفبهذا الحديث أنتم . . . . .
والإشارة في : ) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ ( للقرآن ، و ) أَنتُمْ ( : خطاب للكفار ، ( مُّدْهِنُونَ ( ، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل . وقال أيضاً : مكذبون .
الواقعة : ( 82 ) وتجعلون رزقكم أنكم . . . . .
( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ( : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به ، أي تضعون مكان الشكر التكذيب ، ومن هذا المعنى قول الراجز : مكان شكر القوم عند المنن
كي الصحيحات وفقء الأعين
وقرأ عليّ وابن عباس : وتجعلون شكركم ، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد . وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً ، بمعنى : ما شكره . قيل : نزلت في الأنواء ، ونسبة السقيا إليها ، والرزق : المطر ، فالمعنى : ما يرزقكم الله من الغيب . وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر ، هذا بنوء كذا وكذا ، وهذا بنوء الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء ، وغير ذلك . وقرأ الجمهور : ) تُكَذّبُونَ ( من التكذيب ؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب ، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله ، أي القرآن أو المطر ، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم . ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء ، وفي المطر من الأنواء .
الواقعة : ( 83 - 84 ) فلولا إذا بلغت . . . . .
( فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( ، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، فلولا الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ترجعونها للنفس . وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء . ) وَأَنتُمْ ( : إشارة إلى جميع البشر ، ( حِينَئِذٍ ( : حين إذ بلغت الحلقوم ، ( تَنظُرُونَ ( : أي إلى النازع في الموت . وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ ،
الواقعة : ( 85 - 87 ) ونحن أقرب إليه . . . . .
( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ( بالعلم والقدرة ، ( وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ( : من البصيرة بالقلب ، أو ) أَقْرَبُ ( : أي ملائكتنا ورسلنا ، ( وَلَكِنَّا لاَ تُبْصِرُونَ ( : من البصر بالعين . ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص . والمدين : المملوك . قال الأخطل : ربت ورباني في حجرها ابن مدينة قيل : ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة ، وآخر البيت :
تراه على مسحانة يتوكل والمعنى : فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين . ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد ، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء ، وأن ما نزل من المطر(8/214)
" صفحة رقم 215 "
هو بنوء ، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له . وقال ابن عطية : قوله ) تَرْجِعُونَهَا ( سد مسد جوابها ، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات ، وإذا من قوله : ) فَلَوْلاَ إِذَا ( ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً . انتهى . وتقول : ) إِذَا ( ليست شرطية ، فتسد ) تَرْجِعُونَهَا ( مسد جوابها ، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا ، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني علي ، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة ، فهم مقهورون لا قدرة لهم .
( فَأَمَّا إِن كَانَ ( : أي المتوفى ، ( مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( : وهم السابقون .
الواقعة : ( 88 - 90 ) فأما إن كان . . . . .
وقرأ الجمهور ؛ ) فَرَوْحٌ ( ، بفتح الراء ؛ وعائشة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ونوح القارىء ، والضحاك ، والأشهب ، وشعيب بن الحبحاب ، وسليمان التيمي ، والربيع بن خيثم ، ومحمد بن عليّ ، وأبو عمران الجوني ، والكلبي ، وفياض ، وعبيد ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب بن صيان ، وزيد ، ورويس عنه : بضمها . قال الحسن : الروح : الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقال أيضاً : روحه تخرج في ريحان . وقيل : الروح : البقاء ، أي فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق . وقال مجاهد : الريحان : الرزق . وقال الضحاك : الاستراحة . وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً : الريحان ، هذا الشجر المعروف في الدنيا ، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة . وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، في الحسن والحسين ، رضي الله تعالى عنهما : ( هما ريحانتاي من الدنيا ) .
وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس ، ( فَرَوْحٌ ( : فسلام ، فنزل الفاء جواب أما تقدم . أما وهي في تقدير الشرط ، وإن كان من المقربين ، وإن كان من أصحاب اليمين ، وإن كان من المكذبين الضالين شرط ؛ وإذا اجتمع شرطان ، كان الجواب للسابق منهما . وجواب الثاني محذوف ، ولذلك كان فعل الشرط ماضي للفظ ، أو مصحوباً بلم ، وأغنى عنه جواب أما ، هذا مذهب سيبويه . وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن ، وجواب أما محذوف ، وله قول موافق لمذهب سيبويه . وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا ، والشرط معاً ، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والخطاب في ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب . ثم لكل معتبر من أمّته ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل لمن يخاطبه : ) مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ).
الواقعة : ( 91 ) فسلام لك من . . . . .
فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين . وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين . وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك ، كقوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ).
الواقعة : ( 92 ) وأما إن كان . . . . .
والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة ، أصحاب الشمال .
الواقعة : ( 93 ) فنزل من حميم
وقرأ الجمهور : وتصلية رفعاً ، عطفاً على ) فَنُزُلٌ ( ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بحر عطفاً على ) مِنْ حَمِيمٍ ).
الواقعة : ( 94 - 95 ) وتصلية جحيم
ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم ، أكد ذلك بقوله : ) إِنَّ هَذَا ( : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة ) هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( ، فقيل : هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة ، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب ، بمعنى أنها نهاية في ذلك ، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة . وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين ، أي الثابت المتيقن .
الواقعة : ( 96 ) فسبح باسم ربك . . . . .
ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم ، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات . ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه ، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه ، والإقبال على عبادة ربه ، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء . ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه ، كقوله : ) سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( ، ويسبحوه ؛ وتارة بحرف الجر ، كقوله : ) فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( ، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم ، ويجوز أن يكون صفة لربك .(8/215)
" صفحة رقم 216 "
5
( سورة الحديد )
) 2
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ).
قال النقاش وغيره : هذه السورة مدنية بإجماع من المفسرين . وقال غيره ، كالزمخشري : هي مكية . وقال ابن عطية : لا خلاف ، إن فيها قرآناً مدنياً ، لكن يشبه صدرها أن يكون مكياً .
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه تعالى أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض ، وأتى سبح بلفظ الماضي ، ويسبح بلفظ المضارع ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وإن ذلك ديدن من في السموات والأرض .
الحديد : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، فقيل : هو حقيقة في الجميع ، وقيل : فيمن يمكن التسبيح منهم ، وقيل : مجاز ، بمعنى : أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح . وقيل : التسبيح هنا الصلاة ، ففي الجماد بعيد ، وفي الكافر سجود ظله صلاته ، وفي المؤمن ذلك سائغ ، واللام في ) لِلَّهِ ( ، إما أن تكون بمنزلة اللام في : نصحت لزيد ، يقال : سبح الله ، كما يقال ؛ نصحت زيداً ، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول ؛ وإما أن تكون لام التعليل ، أي أحدث التسبيح لأجل الله ، أي لوجهه خالصاً .
الحديد : ( 2 ) له ملك السماوات . . . . .
( يحيي ويميت ( : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله : ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). لما أخبر بأنه له الملك ، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء ، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة . وجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي هو يحيي ويميت . وأن يكون حالاً ، وذو الحال الضمير في له ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور .
الحديد : ( 3 ) هو الأول والآخر . . . . .
( هُوَ الاْوَّلُ ( : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، ( وَالاْخِرُ ( : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية . وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء ، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء . ) وَالظَّاهِرُ ( بالأدلة ونظر العقول في صفته ، ( وَالْبَاطِنُ ( لكونه غير مدرك بالحواس . وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية . وقيل : ) الظاهر ( العالي على كل شيء ، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ؛ ) وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ( : الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه . وقال الزمخشري ؛ فإن قلت : فما معنى الواو ؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين(8/216)
" صفحة رقم 217 "
الأولية والآخرية ؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين . فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن . جامع الظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس ؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
الحديد : ( 4 ) هو الذي خلق . . . . .
( يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ ( من المطر والأموات وغير ذلك ، ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ( من النبات والمعادن وغيرها ، ( وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ( من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره ، ( وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ( من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها ، ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ( : أي بالعلم والقدرة . قال الثوري : المعني علمه معكم ، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها . وقال بعض العلماء : فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره ، وقد تأول هذه الآية ، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه .
الحديد : ( 5 ) له ملك السماوات . . . . .
وقرأ الجمهور ؛ ) تُرْجَعُ ( ، مبنياً للمفعول ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج : مبنياً للفاعل ؛ والأمور عام في جميع الموجودات ، أعراضها وجواهرها . وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده ، فأغنى عن إعادته .
( ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ ).
الحديد : ( 7 ) آمنوا بالله ورسوله . . . . .
لما ذكر تعالى تسبيح العالم له ، وما احتوى عليه من الملك ، والتصرف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلا ، وختمها بالعالم بخفيات الصدور ، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته ، والنفقة في سبيل الله تعالى . قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك . ) مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( : أي ليست لكم بالحقيقة ، وإنما انتقلت إليكم من غيركم . وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم ، وفيه تزهيد فيما بيد الناس ، إذ مصيره إلى غيره ، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث : ( يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) . وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل ؟ فقال : هي لله تعالى عندي . أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال ، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى .
ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر ، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب . قيل : وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان ، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة ،
الحديد : ( 8 ) وما لكم لا . . . . .
ثم قال : ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( ، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان ؟ ودواعي ذلك موجودة ، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل . وموجب ذلك من السمع في قوله : ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ( لهذا الوصف الجليل . وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان ، فدواعي الإيمان موجودة ، وأسبابه حاصلة ، فلا مانع منه ، ولا عذر في تركه . و ) لاَ تُؤْمِنُونَ ( حال ، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه ؟(8/217)
" صفحة رقم 218 "
) وَالرَّسُولِ ( : الواو واو الحال ، فالجملة بعده حال ، وقد أخذ حال ثالثة ، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام . وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها .
( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : شرط وجوابه محذوف ، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا ، فهذا هو الموجب لإيمانكم ، أو إن كنتم ممن يؤمن ، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق . وقال الطبري : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن . وقرأ الجمهور : ) وَقَدْ أَخَذَ ( مبنياً للفاعل ، ( مِيثَاقَكُمْ ( بالنصب ؛ وأبو عمرو : مبنياً للمفعول ، ميثاقكم رفعاً . وقال ابن عطية : في قوله : ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( وإنما المعنى أن قوله : ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( يقتضي أن يقدر بأثره ، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة . ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : أي إن دمتم على ما بدأتم به .
الحديد : ( 9 ) هو الذي ينزل . . . . .
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان ، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما دعا به إلى الإيمان ، وذلك الآيات البينات المعجزات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي الله تعالى ، إذ هو المخبر عنه ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه أقرب . وقرىء في السبعة : ) يُنَزّلٍ ( مضارعاً ، فبعض ثقل وبعض خفف . وقراءة الحسن : بالوجهين ؛ وزيد بن علي والأعما : أنزل ماضياً ، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيساً لهم .
الحديد : ( 10 ) وما لكم ألا . . . . .
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق ، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه ، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك ، وهو أنهم يموتون فيخلفونه . ونبه على هذا الموجب بقوله : ) وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق . وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا ، فموضعه جر أو نصب على الخلاف ، وأن ليست زائدة ، بل مصدرية . وقال الأخفش : في قوله : ) وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ ( ، إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل ، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن ، وتقديره : وما لكم لا تنفقون ، وقد رد مذهبه في كتب النحو .
( لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه ، وكذا من تابعه في السبق في ذلك ، ولذلك قال : ) أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ). وقيل : نزلت بسبب أن ناساً من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق . وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين . وقرأ الجمهور : ) مِن قَبْلِ الْفَتْحِ ( ؛ وزيد بن علي ، قيل : بغير من . والفتح مكة ، وهو المشهور ، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد . وقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبة ، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة . والظاهر أن ) مِنْ ( فاعل ) لاَ يَسْتَوِى ( ، وحذف مقابله ، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوضوح المعنى .
( أُوْلَائِكَ ( : أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء السلمين على أم القرى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وأبعد من ذهب إلى الفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق ، أي لا يستوي ، هو الإنفاق ، أي جنسه ، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ؛ ومن أنفق مبتدأ ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة في موضع خبر من ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير موجب . وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة ، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل ، وهو يستوي . وقرأ الجمهور : ) وَكُلاًّ ( بالنصب ، وهو المفعول الأول لوعد . وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي : وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع الخبر ، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام ، وورد في(8/218)
" صفحة رقم 219 "
السبعة ، فوجب قبوله ؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة . وقال الشاعر : وخالد تحمد ساداتنا
بالحق لا تحمد بالباطل
يريده : تحمده ساداتنا ، وفر بعضهم من جعل وعد خبراً فقال : كل خبر مبتدأ تقديره : وأولئك كل ، ووعد صفة ، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خيراً ، نحو قوله : وما أدري أغيرهم تناء
وطول العهد أم مال أصابوا
يريد : أصابوه ، فأصابوه صفة لمال ، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى : تأنيث الأحسن ، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة . والوعد يتضمن ذلك في الآخرة ، والنصر والغنيمة في الدنيا . ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ ( : فيه وعد ووعيد .
الحديد : ( 11 ) من ذا الذي . . . . .
وتقدم الكلام على مثل قوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( ، إعراباً وقراءة وتفسيراً ، في سورة البقرة . وقال ابن عطية : هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف ، أو على القطع والاستئناف . وقرأ عاصم : فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق . قال أبو علي ، يعني الفارسي : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة ، يعني من القراء ، حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ ( بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ انتهى .
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح ، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو : من يدعوني فأستجيب له ؟ وأين بيتك فأزورك ؟ ومتى تسير فأرافقك ؟ وكيف تكون فأصحبك ؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي ، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال ، لا عن الفعل . وحكى ابن كيسان عن العرب : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ بالنصب بعد الفاء . وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة ، والفعل وقع صلة للذي ، والذي صفة لذا ، وذا خبر لمن . وإذا جاز النصب في نحو هذا ، فجوازه في المثل السابقة أحرى ، مع أن سماع بن كيسان ذلك محكياً عن العرب يؤيد ذلك . والظاهر أن قوله : ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض ، أي وله مع التضعيف أجر كريم .
قوله عز وجل : ) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِك ( سقط : سقط إلى آخر الصفحة ) َ ). (8/219)
" صفحة رقم 220 "
( سقط : الله وغركم بالله الغرور ، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ومأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير )
الحديد : ( 12 ) يوم ترى المؤمنين . . . . .
العامل في يوم ما عمل في لهم ؛ التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى ، أو اذكر يوم ترى إعظاماً لذلك اليوم . والرؤية هنا رؤية عين ، والنور حقيقة ، وهو قول الجمهور ، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار ، وأن كل مظهر من الإيمان له نور ، فيطفىء نور المنافق ، ويبقى نور المؤمن ، وهم متفاوتون في النور . منهم من يضيء ، كما بين مكة وصنعاء ، ومن نوره كالنخلة السحوق ، ومن يضيء له ما قرب قدميه . ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة ، وذلك على قدر الأعمال . وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه . والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ، ويكون أيضاً بأيمانهم ، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم ، ونور بأيمانهم ؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها ، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات . وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم ، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور . وقيل : الباء بمعنى عن ، أي عن أيمانهم ، والمعنى : في جميع جهاتهم . وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفاً لها . وقال الزمخشري : وإنما قال ) بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . وقرأ الجمهور : ) وَبِأَيْمَانِهِم ( ، جمع يمين ؛ وسهل بن شعيب السهمي ، وأبو حيوة : بكسر الهمزة ، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف ، أي كائناً بين أيديهم ، وكائناً بسبب أيمانهم .
( بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ( : جملة معمولة لقول محذوف ، أي تقول لهم الملائكة : الذين يتلقونهم جنات ، أي دخول جنات . قال ابن عطية : ) خَالِدِينَ فِيهَا ( ، إلى آخر الآية ، مخاطبة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . انتهى . ولا مخاطبة هنا ، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في ) بُشْرَاكُمُ ( إلى ضمير الغيبة في ) خَالِدِينَ ). ولو جرى على الخطاب ، لكان التركيب خالداً أنتم فيها ، والالتفات من فنون البيان
الحديد : ( 13 ) يوم يقول المنافقون . . . . .
( يَوْمَ يَقُولُ ( بدل من ) يَوْمَ تَرَى ). وقيل : معمول لأذكر . قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه ) ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ، ومجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم . انتهى . فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز ، وهو لا يجوز ، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته ، فلا يجوز إعماله . فلو أعمل وصفة ، وهو العظيم ، لجاز ، أي الفوز الذي عظم ، أي قدره ) يَوْمَ يَقُولُ ).
) انظُرُونَا ( : أي انتظرونا ، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط ، وقد طفئت أنوارهم ، قالوا ذلك . قال الزمخشري : ) انظُرُونَا ( : انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا ، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . انتهى . فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا ، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه ، وإنما وجد متعدياً بنفسه في الشعر . وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعياً ، أي أخرونا ، أي اجعلونا في آخركم ، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا ، ولا نلحق بكم . ) نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( : أي نصب منه حتى نستضيء به . ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبساً . ) قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ ( : القائل المؤمنون ، أو الملائكة . والظاهر أن ) وَرَاءكُمْ ( معمول لا رجعوا . وقيل : لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا ، كقولهم : وراءك أوسع لك ، أي ارجع تجد مكاناً أوسع لك . وارجعوا أمر توبيخ وطرد ، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك ، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نوراً ، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو تنحوا عنا ، ( فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه . وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم .
( فَضُرِبَ بَيْنَهُم ( : أي بين المؤمنين والمنافقين ، ( بِسُورٍ ( : بحاجز . قال ابن زيد : هو الأعراف(8/220)
" صفحة رقم 221 "
وقيل : حاجز غيره . وقرأ الجمهور : فضرب مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير : مبنياً للفاعل ، أي الله ، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس ، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار ، ولعله لا يصح عنهم . والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو . والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه . وقيل : على السور ، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة ، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب .
الحديد : ( 14 ) ينادونهم ألم نكن . . . . .
( يُنَادُونَهُمْ ( : استئناف إخبار ، أي ينادون المنافقون المؤمنين ، ( أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ( : أي في الظاهر ، ( قَالُواْ بَلَى ( : أي كنتم معنا في الظاهر ، ( وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ( : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم ، ( وَتَرَبَّصْتُمْ ( أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر ، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، قاله قتادة ، ( وَارْتَبْتُمْ ( : شككتم في أمر الدين ، ( وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِىُّ ( : وهي الأطماع ، مثل قولهم : سيهلك محمد هذا العام ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلى غير ذلك ، أو طول الآمال في امتداد الأعمار ، ( حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ ( ، وهو الموت على النفاق ، والغرور : الشيطان بإجماع . وقرأ سماك بن حرب : الغرور ، وتقدم ذلك .
الحديد : ( 15 ) فاليوم لا يؤخذ . . . . .
( فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ( أيها المنافقون ، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، ( وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، في الحديث : ( إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا ، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأ نت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك ) . وقرأ الجمهور : لا يؤخذ ؛ وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو : بالتاء لتأنيث الفدية . ) هِىَ مَوْلَاكُمْ ( ، قيل : أولى بكم ، وهذا تفسير معنى . وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم ، وهي تكون لكم مكان المولى ، ونحوه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد نفي الناصر على البتات ، ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : ) يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ). وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
قوله عز وجل : ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن ). (8/221)
" صفحة رقم 222 "
الحديد : ( 16 - 17 ) ألم يأن للذين . . . . .
عن عبد الله : ملت الصحابة ملة ، فنزلت ) أَلَمْ يَأْنِ ). وعن ابن عباس : عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة . وقيل : كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت . وقرأ الجمهور : ) الم ( ؛ والحسن وأبو السمال : ألما . والجمهور : ) يَأْنِ ( مضارع أنى حان ؛ والحسن : يئن مضارع أن حان أيضاً ، والمعنى : قرب وقت الشيء . ) أَن تَخْشَعَ ( : تطمئن وتخبت ، وهو من عمل القلب ، ويظهر في الجوارح . وفي الحديث : ( أول ما يرفع من الناس الخشوع ) . ) لِذِكْرِ اللَّهِ ( : أي لأجل ذكر الله ، كقوله : ) إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ). قيل : أو لتذكير الله إياهم . وقرأ الجمهور : وما نزل مشدداً ؛ ونافع وحفص : مخففاً ؛ والحجدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس ، وعباس عنه : مبنياً للمفعول مشدداً ؛ وعبد الله : أنزل بهمزة النقل مبنياً للفاعل . والجمهور : ) وَلاَ يَكُونُواْ ( بياء الغيبة ، عطفاً على ) أَن تَخْشَعَ ( ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه : ولا تكونوا على سبيل الالتفات ، إما نهياً ، وإما عطفاً على ) أَن تَخْشَعَ ). ) كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ( ، وهم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل . حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب ، إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا ، ( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ ( : أي انتظار الفتح ، أو انتظار القيامة . وقيل : أمد الحياة . وقرأ الجمهور : الأمد مخفف الدال ، وهي الغاية من الزمان ؛ وابن كثير : بشدها ، وهو الزمان بعينه الأطول . ) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( : صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة .
( فَانظُرْ إِلَىءاثَارِ رَحْمَةِ ( : يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها . كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع .
الحديد : ( 18 ) إن المصدقين والمصدقات . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ ( ، بشدّ صاديهما ؛ وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون : بخفهما ؛ وأبيّ : بتاء قبل الصاد فيهما ، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة ، والخف من التصديق ، صدّقوا رسوله الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيما بلغ عن الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَقْرِضُواُ ( ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا . انتهى . واتبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ولا يصح أن يكون(8/222)
" صفحة رقم 223 "
معطوفاً على المصدقين ، لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقد فصل بينهما بمعطوف ، وهو قلوه : ) وَالْمُصَّدّقَاتِ ). ولا يصح أيضاً أن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر ، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث ، وضمير وأقرضوا مذكر ، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه ، لأنه قيل : والذين أقرضوا ، فيكون مثل قوله : فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
يريد : ومن يمدحه ، وصديق من أبنية المبالغة . قال الزجاج : ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي . وقيل : يجيء من غير الثلاثي كمسيك ، وليس بشيء ، لأنه يقال : مسك وأمسك ، فمسيك من مسك .
الحديد : ( 19 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
( وَالشُّهَدَاء ( : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده ، فيقف على الصديقون ، وإن شئت فهو من عطف الجمل ، وهذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك . إن الكلام تام في قوله : ) الصّدّيقُونَ ( ، واختلف هؤلاء ، فبعض قال : الشهداء هم الأنبياء ، يشهدون للمؤمنين بالصدّيقية لقوله : ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ( الآية ؛ وبعض قال : هم الشهداء في سبيل الله تعالى ، استأنف الخبر عنهم ، فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده لعظم أجرهم . وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : والشهداء معطوف على الصديقون ، والكلام متصل ، يعنون من عطف المفرادت ، فبعض قال : جعل الله كل مؤمن صديقاً وشهيداً ، قاله مجاهد . وفي الحديث ، من رواية البراء : ( مؤمنو أمتي شهداء ) ، وإنما ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفرد به ، وبعض قال : وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ). ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ ( : خبر عن الشهداء فقط ، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين . والظاهر في نورهم أنه حقيقة . وقال مجاهد وغيره : عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى .
الحديد : ( 20 ) اعلموا أنما الحياة . . . . .
( اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ( : أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدوم ولا تجدي ، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود ، فليس مندرجاً في هذه الآية . ) لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( ، كحالة المترفين من الملوك . ) وَزِينَةٌ ( : تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء . ) وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ( : قراءة الجمهور بالتنوين ونصب بينكم ، والسلمى بالإضافة . ) وَتَكَاثُرٌ ( بالعدد والعدد على عادة الجاهلية ، وهذه كلها محقرات ، بخلاف أمر الآخرة ، فإنها مشتملة على أمور حقيقية عظام . قال الزمخشري : وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقضيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليهم العاهة ، فهاج واصفر وصار حطاماً ، عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . انتهى .
وقال ابن عطية : ) كَمَثَلِ ( في موضع رفع صفة لما تقدّم . وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فينشف ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله ودينه ، ويموت ويضمحلّ أمره ، وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل . انتهى . قيل : الكفار : الزراع ، من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة . وقيل : من الكفر بالله ، لأنهم أشدّ تعظيماً للدنيا وإعجاباً بمحاسنها ؛ وحطام : بناء مبالغة كعجاب . وقرىء : مصفاراً . ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم .
قوله عز وجل : ) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ).
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة . . . . .
ولما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة ، أمر بالمسابقة إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة ، وهو الإيمان وعمل الطاعات . وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع ؛ فقال عبد الله : كونوا في أول صفة في القتاد . وقال أنس : اشهدوا تكبيرة(8/223)
" صفحة رقم 224 "
الإحرام مع الإمام . وقال علي : كن أول داخل في المسجد وآخر خارج . واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرون إلى غاية مسابقين إليهم . ) عَرْضُهَا ( : أي مساحتها في السعة ، كما قال : فذو دعاء عريض ، أو العرض خلاف الطول . فإذا وصف العرض بالبسطة ، عرف أن الطول أبسط وأمد . ) أُعِدَّتْ ( : يدل على أنها مخلوقة ، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك ، والسنة ناصة على ذلك ، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم : إنها الآن غير مخلوقة وستخلق . ) ذالِكَ ( : أي الموعود من المغفرة والجنة ، ( فَضَّلَ اللَّهُ ( : عطاؤه ، ( يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( : وهم المؤمنون .
الحديد : ( 22 ) ما أصاب من . . . . .
( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ ( : أي مصيبة ، وذكر فعلها ، وهو جائز التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث ) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ). ولفظ مصيبة يدل على الشر ، لأن عرفها ذلك . قال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة ، وهو استعمالها في الشر ، وخصصها بالذكر لأنها أهم على البشر . والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع ، وفي الأنفس : الأسقام والموت . وقيل : المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خير وشر ، ( إِلاَّ فِى كِتَابٍ ( : هو اللوح المحفوظ ، أي مكتوبة فيه ، ( مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( : أي نخلقها . برأ : خلق ، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة ، لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة . وقيل : يعود على الأرض . وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة . وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر . قال ابن عطية : وهي كلها معارف صحاح ، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها . انتهى . ) إِنَّ ذالِكَ ( : أي يحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره ، ( عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( : أي سهل ، وإن كان عسيراً على العباد .
الحديد : ( 23 - 24 ) لكي لا تأسوا . . . . .
ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : ) لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ ( : أي تحزنوا ، ( عَلَى مَا فَاتَكُمْ ( ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة . ويظهر أن المراد بقوله : ) لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ( : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور . ) وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى : ) لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ، فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله : ) وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه . وأما الحزن على ما فات من طاعة الله ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه .
وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً ، ومن أصاب خيراً جعله شكراً . انتهى ، يعني هو المحمود . وقال الزمخشري : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به . انتهى . وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم ؛ وعبد الله : أوتيتم ، مبنياً للمفعول : أي أعطيتم ؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم .
( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة . قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش . انتهى .
عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة . وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به . ) وَمَن يَتَوَلَّ ( عن ما أمر الله به . وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ ( ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في(8/224)
" صفحة رقم 225 "
مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة . فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ . انتهى . يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط . ونظيره : ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ ( ، لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف . وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك . ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( بضم التاء ، والقراءة الأخرى : ) بِمَا وَضَعَتْ ( بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة . فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه .
الحديد : ( 25 ) لقد أرسلنا رسلنا . . . . .
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ ( : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم ، والبينات : الحجج والمعجزات . ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( : الكتاب اسم جنس ، ومعهم حال مقدرة ، أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم ، أي مقدراً صحبته لهم ، لأن الرسل منزلين هم والكتاب . ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري ، فسر الرسل بغير ما فسرناه ، فقال : ) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ( ، يعنى : الملائكة ، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات ، ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( : أي الوحي ، ( وَالْمِيزَانَ ). وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به . ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( ، قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة . وروي : ومعه المسن والمسحاة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد والنار والماء والملح . انتهى . وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل ، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس ، وهذا جزء من العدل . ) لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط ، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معاً ، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف ، فإنه لا جور في شيء منها ، ولذلك جاء : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ).
) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( : عبر عن إيجاده بالإنزال ، كما قال : ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ). وأيضاً فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولاً منها ، قاله ابن عطية . وقال الجمهور : أراد بالحديد جنسه من المعادن . وقال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة . ) فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( : أي السلاح الذي يباشر به القتال ، ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( : في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . ) وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ( علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد . ) مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ ( بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل ، وبإقامة العدل ، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله . قال ابن عطية : أي ليعلمه موجوداً ، فالتغير ليس في علم الله ، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود . وقوله : ) بِالْغَيْبِ ( معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه ، فآمن بها لقيام الأدلة عليها .
ولما قال تعالى : ) مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ ( ، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته ، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم ، وتحصيل ما يترتب لهم من الثواب . وقال ابن عطية : ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله ، وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً ، وسلاحاً يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله ، فلم يبق عذر . وفي الآية ، على هذا التأويل ، حث على القتال .
قوله عز وجل : ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْنَا(8/225)
" صفحة رقم 226 "
فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّة ( سقط : الآية كاملة ) ً ).
الحديد : ( 26 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة ، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم ، عليهما السلام ، تشريفاً لهما بالذكر . أما نوح ، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض ؛ وأما إبراهيم ، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام ، وهو معظم في كل الشرائع . ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما ، وذلك النبوة ، وهي التي بها هدي الناس من الضلال ؛ ) وَالْكِتَابِ ( ، وهي الكتب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام ، وإبراهيم من ذرية نوح ، فصدق أنها في ذريتهما . وفي مصحف عبد الله : والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو . وقال ابن عباس : ) وَالْكِتَابِ ( : الخط بالقلم ، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية . وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم . ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك ، انقسموا إلى مهتد وفاسق ، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم .
الحديد : ( 27 ) ثم قفينا على . . . . .
( ثُمَّ قَفَّيْنَا ( : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم ، ( عَلَىءاثَارِهِمْ ( : أي آثار الذرية ، ( بِرُسُلِنَا ( : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية ، ( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ( : ذكره تشريفاً له ، ولانتشار أمته ، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه . وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران . قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له . انتهى ، وهي لفظة أعجمية ، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب . وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل ، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي ؛ وأما الإنجيل فأعجمي . وقرىء : رآفة على وزن فعالة ، ( وَجَعَلْنَا ( : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ، كقوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( ، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، فيكون ) فِى قُلُوبِ ( : في موضع المفعول الثاني لجعلنا . ) وَرَهْبَانِيَّةً ( معطوف على ما قبله ، فهي داخلة في الجمل . ) ابتَدَعُوهَا ( : جملة في موضع الصفة لرهبانية ، وخصت الرهبانية بالابتداع ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتكسب . قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله ، والرهبانية هم ابتدعوها ؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع . وجعل أبو علي الفارسي ) وَرَهْبَانِيَّةً ( مقتطعة من العطف على ما قبلها من ) رَأْفَةً وَرَحْمَةً ( ، فانتصب عنده ) وَرَهْبَانِيَّةً ( على إضمار فعل يفسره ما بعده ، فهو من باب الاشتغال ، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها . واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها . انتهى ، وهذا إعراب المعتزلة ، وكان أبو عليّ معتزلياً . وهم يقولون : ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد ، فالرأفة والرحمة من خلق الله ، والرهبانية من ابتداع الإنسان ، فهي مخلوقة له . وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : ) وَرَهْبَانِيَّةً ( ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة .
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق : ففرقة قاتلت الملوك على(8/226)
" صفحة رقم 227 "
الدين فغلبت وقتلت ؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل ، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي ، وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت . والرهبانية : الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف بني فعلان من رهب ، كالخشيان من خشي . وقرىء : ورهبانية بالضم . قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب ، كراكب وركبان . انتهى . والأولى أن يكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء ، لأن النسب باب تغيير . ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده ، فكان يقال : راهبية ، إلا إن كان قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار . والظاهر أن ) إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ ( الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله ، وصار المعنى : أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته ، وهذا قول مجاهد ، ويكون كتب بمعنى قضى . وقال قتادة وجماعة : المعنى : المعنى : لم يفرضها عليهم ، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى ، فالاستثناء على هذا منقطع ، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى . والظاهر أن الضمير في ) رَعَوْهَا ( عائد على ما عاد عليه في ) ابتَدَعُوهَا ( ، وهو ضمير ) الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ( ، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه . وقال نحوه ابن زيد ، قال : لم يدوموا على ذلك ، ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى : فما رعوها بأجمعهم . وقال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم . وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها . ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ( : وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام . ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( : وهم الذين لم يرعوها .
الحديد : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
( يا أيها الذين آمنوا ( : الظاهر أنه نداء لمن آمن من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فمعنى آمنوا : دوموا واثبتوا ، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور ملتبساً بما أمر به . ) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ( ، قال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة . انتهى ، والمعنى : أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ( ، إذ أنتم مثلهم في الإيمانين ، لا تفرقوا بين أحد من رسله . وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقيل : النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ، آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يؤتكم الله كفلين ، أي نصيبين من رحمته ، وذلك لإيمانكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإيمانكم بمن قبله من الرسل . ) وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ( : وهو النور المذكور في قوله : ) يَسْعَى نُورُهُم ( ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي . ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح : ( ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ) ، الحديث .
ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم ، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب ، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها ، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه ، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به . ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون .
الحديد : ( 29 ) لئلا يعلم أهل . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ ( ، ولا زائدة كهي في قوله : ) مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( ، وفي قوله : ) أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( في بعض التأويلات . وقرأ خطاب بن عبد الله : لأن لا يعلم ؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة : على اختلاف ليعلم ؛ والجحدري : لينيعلم ، أصله لأن يعلم ، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة ، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة . وري ابن مجاهد عن الحسن : ليلاً مثل ليلى اسم المرأة ، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة ، فحذفت الهمزة ، اعتباطاً ، وأدغمت النون في اللام ، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها ، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار(8/227)
" صفحة رقم 228 "
ليلاً ، ورفع الميم ، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، إذ الأصل لأنه لا يعلم . وقطرب عن الحسن أيضاً : لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله ، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر . وعن ابن عباس : كي يعلم ، وعنه : لكيلا يعلم ، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة : لكي يعلم . وقرأ الجمهور : أن لا يقدرون بالنون ، فإن هي المخففة من الثقيلة ؛ وعبد الله بحذفها ، فإن الناصبة للمضارع ، والله تعالى أعلم .(8/228)
" صفحة رقم 229 "
58
( سورة المجادلة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىإِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِىأَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(8/229)
" صفحة رقم 230 "
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ ذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىإِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( )
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله . . . . .
فسح في المجلس : وسع لغيره . ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ ).
هذه السورة مدنية . قال الكلبي : إلا قوله : ) مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ). وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي . قرأ الجمهور : ) قَدْ سَمِعَ ( بالبيان ؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : بالإدغام ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع ، فبين الدال عند السين ، فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا القول ؛ فالجمهور على البيان . والتي تجادل خولة بنت ثعلبة ، ويقال بالتصغير ، أو خولة بنت خويلد ، أو خولة بنت حكيم ، أو خولة بنت دليج ، أو جميلة ، أو خولة بنت الصامت ، أقوال للسلف . وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة . وقيل : سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته . قالت زوجته : يا رسول الله ، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني ، فقال لها : ( ما أراك إلا قد حرمت عليه ) ، فقالت : يا(8/230)
" صفحة رقم 231 "
رسول الله لا تفعل ، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال ذلك تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات . كان بعض كلام خولة يخفى عليّ ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى أوس وعرض عليه كفارة الظهار : ( العتق ) ، فقال : ما أملك ، و ( الصوم ) ، فقال : ما أقدر ، و ( الاطعام ) ، فقال : لا أجد إلا أن تعينني ، فأعانه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله . وكان عمر ، رضي الله تعالى عنه ، يكرم خولة إذا دخلت على ه ويقول : قد سمع الله لها . وقال الزمخشري : معنى قد : التوقع ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمجادلة كانا متوقعين أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرح عنها . انتهى .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : يظهرون بشدّهما ؛ والأخوان وابن عامر : يظاهرون مضارع ظاهر ؛ وأبيّ : يتظاهرون ، مضارع تظاهر ؛ وعنه : يتظهرون ، مضارع تظهر ؛ والمراد به كله الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، يريد في التحريم ، كأنه إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان . والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمّه ، ولذلك تقول العرب في مقابلة ذلك : نزلت عن امرأتي ، أي طلقتها . وقوله : ) مّنكُمْ ( ، إشارة إلى توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار ، لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم .
المجادلة : ( 2 ) الذين يظاهرون منكم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أُمَّهَاتِهِمْ ( ، بالنصب على لغة الحجاز ؛ والمفضل عن عاصم : بالرفع على لغة تميم ؛ وابن مسعود : بأمهاتهم ، بزيادة الباء . قال الزمخشري : في لغة من ينصب . انتهى . يعني أنه لا تزاد الباء في لغة تميم ، وهذا ليس بشيء ، وقد رد ذلك على الزمخشري . وزيادة الباء في مثل : ما زيد بقائم ، كثير في لغة تميم ، والزمخشري تبع في ذلك أبا عليّ الفارسي رحمه الله . ولما كان معنى كظهر أمي : كأمي في التحريم ، ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد ، جاء النفي بقوله : ) مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ( ، ثم أكد ذلك بقوله : ) أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ ( : أي حقيقة ، ( إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ ( وألحق بهنّ في التحريم أمّهات الرضاع وأمّهات المؤمنين أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والزوجات لسن بأمّهات حقيقة ولا ملحقات بهنّ . فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع ، وزور : كذب باطل منحرف عن الحق ، وهو محرم تحريم المكروهات جدّاً ، فإذا وقع لزم ، وقد رجى تعالى بعده بقوله : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( مع الكفارة . وقال الزمخشري : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( لما سلف منه إذ تاب عنه ولم يعد إليه . انتهى ، وهي نزغة اعتزالية .
والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها . فلو قال : أنت عليّ كظهر أختي أو ابنتي ، لم يكن ظهاراً ، وهو قول قتادة والشعبي وداود ، ورواية أبي ثور عن الشافعي . وقال الجمهور : الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول هو ظهار ، والظاهر أن الذمي لا يلزمه ظهاره لقوله : ) مّنكُمْ ( ، أي من المؤمنين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لكونها ليست من نسائه . وقال مالك : يلزمه ظهاره إذا نكحها ، ويصح من المطلقة الرجعية . وقال : المزني لا يصح . وقال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها ، ولو ظاهر من أمته التي يجوز له وطئها ، لزمه عند مالك . وقال(8/231)
" صفحة رقم 232 "
أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم ، وسبب الخلاف هو : هل تندرج في نسائهم أم لا ؟ والظاهر صحة ظهار العبد لدخوله في يظهرون منكم ، لأنه من جملة المسلمين ، وإن تعذر منه العتق والإطعام ، فهو قادر على الصوم . وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهاره ، وليست المرأة مندرجة في الذين يظهرون ، فلو ظاهرت من زوجها لم يكن شيئاً . وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة . وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر فلانة ، فهي يمين تكفرها . وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظاهر ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها .
المجادلة : ( 3 ) والذين يظاهرون من . . . . .
والظاهر أن قوله تعالى : ) ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ( : أن يعودوا للفظ الذي سبق منهم ، وهو قول الرجل ثانياً : أنت مني كظهر أمي ، فلا تلزم الكفارة بالقول ، وإنما تلزم بالثاني ، وهذا مذهب أهل الظاهر . وروي أيضاً عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة : وهو قول الفراء . وقال طاووس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة : ) لِمَا قَالُواْ ( : أي للوطء ، والمعنى : لما قالوا أنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثم وطىء ، فحينئذ يلزمه الكفارة ، وإن طلق أو ماتت . وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة : معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء ، فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة ، طلق أو ماتت . قال الشافعي : العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ، ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق . وقال قوم : المعنى : والذين يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، أي كان الظهار عادتهم ، ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام ، وقاله القتبي . وقال الأخفش : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : فتحرير رقبة لما قالوا ، وهذا قول ليس بشيء لأنه يفسد نظم الآية .
( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ( ، والظاهر أنه يجزىء مطلق رقبة ، فتجزىء الكافرة . وقال مالك والشافعي : شرطها الإسلام ، كالرقبة في كفارة القتل . والظاهر إجزاء المكاتب ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه : وإن عتق نصفي عبدين لا يجزىء . وقال الشافعي : يجزىء . ) مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( : لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر ، فإن فعل عصى ، ولا يسقط عنه التكفير . وقال مجاهد : يلزمه كفارة أخرى . وقيل : تسقط الكفارة الواجبة عليه ، ولا يلزمه شيء . وحديث أوس بن الصامت يرد على هذا القول ، وسواء كانت الكفارة بالعتق أم الصوم أم الإطعام . وقال أبو حنيفة : إذا كانت بالإطعام ، جاز له أن يطأ ثم يطعم ، وهو ظاهر قوله : ) فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ( ، إذ لم يقل فيه : ) مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( ، وقيد ذلك في العتق والصوم . والظاهر في التماس الحقيقة ، فلا يجوز تماسهما قبلة أو مضاجعة أو غير ذلك من وجوه الاستمتاع ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي . وقال الأكثرون : هو الوطء ، فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير ، وقاله الحسن والثوري ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي . والضمير في ) يَتَمَاسَّا ( عائد على ما عاد عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها . ) ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ( : إشارة إلى التحرير ، أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار .
المجادلة : ( 4 ) فمن لم يجد . . . . .
( فَمَن لَّمْ يَجِدْ ( : أي الرقبة ولا ثمنها ، أو وجدها ، أو ثمنها ، وكان محتاجاً إلى ذلك ، فقال أبو حنيفة : يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك ، ولا ينتقل إلى الصوم ، وهو الظاهر . وقال الشافعي : ينتقل إلى الصوم . والشهران بالأهلة ، وإن جاء أحدهما ناقصاً ، أو بالعدد لا بالأهلة ، فيصوم إلى الهلال ، ثم شهراً بالهلال ، ثم يتم الأول بالعدد . والظاهر وجوب التتابع ، فإن أفطر بغير عذر استأنف ، أو بعذر من سفر ونحوه . فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي : في أحد قوليه يبني . وقال النخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري وأصحاب الرأي والشافعي : في أحد قوليه . والظاهر أنه إن وجد الرقبة بعد أن شرع في الصوم ، أنه يصوم ويجزئه ، وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يلزمه العتق ، ولو وطىء في خلال الصوم بطل التتابع ويستأنف ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وقال الشافعي : يبطل إن جامع نهاراً لا ليلاً .
( فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ( لصوم لزمانة به ، أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً ، كما جاء في حديث أوس لما قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني . والظاهر مطلق الإطعام ، وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت(8/232)
" صفحة رقم 233 "
النزول ، وهو ما يشبع من غير تحديد بمدّ . ومذهب مالك أنه مد وثلث بالمدّ النبوي ، ويجب استيعاب العدد ستين عند مالك والشافعي ، وهو الظاهر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه . ) ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ ( ، قال ابن عطية : إشارة إلى الرجعة والتسهيل في الفعل من التحرير إلى الصوم والإطعام . ثم شدّد تعالى بقوله : ) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( : أي فالزموها وقفوا عندها . ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي . وقال الزمخشري : ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها ، لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه التي شرعها في الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه من جاهليتكم ، ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( التي لا يجوز تعديها ، ( وَلِلْكَافِرِينَ ( الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ). انتهى .
المجادلة : ( 5 - 6 ) إن الذين يحادون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( : نزلت في مشركي قريش ، أخزوا يوم الخندق بالهزيمة ، كما أخزى من قاتل الرسل من قبلهم . ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر المحادّين المخالفين لها ، والمحادة : المعاداة والمخالفة في الحدود . ) كتبوا ( ، قال قتادة : أخزوا . وقال السدي : لعنوا . قيل : وهي لغة مذحج . وقال ابن زيد وأبو روق : ردّوا مخذولين . وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق . ) كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : أي من قاتل الأنبياء . وقيل : يوم بدر . وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وعن أبي عبيدة : التاء بدل من الدال ، أي كبدوا : أصابهم داء في أكبادهم . قيل : والذين من قبلهم منافقو الأمم . قيل : وكبتوا بمعنى سيكبتون ، وهي بشارة للمؤمنين بالنصر . وعبر بالماضي لتحقق وقوعه ، وتقدّم الكلام في مادة كبت في آل عمران .
( وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصحة ما جاء به . ) وَلِلْكَافِرِينَ ( : أي الذين يحادّونه ، ( عَذَابٌ مُّهِينٌ ( : أي يهينهم ويذلهم . والناصب ليوم يبعثهم العامل في للكافرين أو مهين أو اذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء ؟ فقيل له : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ ( : أي يكون يوم يبعثهم الله ، وانتصب ) جَمِيعاً ( على الحال : أي مجتمعين في صعيد واحد ، أو معناه كلهم ، إذ جميع يحتمل ذينك المعنيين ؛ ) فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ ( ، تخجيلاً لهم وتوبيخاً . ) أَحْصَاهُ ( بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه . ) وَنَسُوهُ ( لاستحقارهم إياه واحتقارهم أنه لا يقع عليه حساب . ) شَهِيدٌ ( : لا يخفى عليه شيء .
المجادلة : ( 7 ) ألم تر أن . . . . .
وقرأ الجمهور : ما يكون بالياء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة : بالتاء لتأنيث النجوى .
قال صاحب اللوامح : وإن شغلت بالجار ، فهي بمنزلة : ما جاءتني من امرأة ، إلا أن الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في العامة ، يعني القراءة العامة ، قال : لأنه مسند إلى ) مِن نَّجْوَى ( وهو يقتضي الجنس ، وذلك مذكر . انتهى . وليس الأكثر في هذا الباب التذكير ، لأن من زائدة . فالفعل مسند إلى مؤنث ، فالأكثر التأنيث ، وهو القياس ، قال تعالى : ) وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَاتِ رَبّهِمْ ( ، ( مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ( ، ويكون هنا تامة ، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة ، أي من تناجي ثلاثة ، أو مصدراً على حذف مضاف ، أي من ذوي نجوى ، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين ، فثلاثة : على هذين التقديرين . قال ابن عطية : بدل أو صفة . وقال الزمخشري : صفة . وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال ، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى . وقال الزمخشري : أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه . وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى . وقال ابن سراقة : السرار ما كان بين اثنين ، والنجوى ما كان بين أكثر . قيل : نزلت في المنافقين ، واختص الثلاثة والخمسة لأن المنافقين كانوا يتناجون على هذين العددين مغايظة لأهل الإيمان ؛ والجملة بعد إلا في المواضع الثلاثة في موضع الحال ، وكونه تعالى رابعهم وسادسهم ومعهم بالعلم وإدراك ما يتناجون به . وقال ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، تحدّثوا فقال أحدهم : أترى الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً ، فقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلمه كله .
( وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ ( : إشارة إلى الثلاثة والخمسة ، والأدنى من الثلاثة الاثنين ، ومن الخمسة الأربعة ؛ ولا أكثر يدل على ما يلي الستة فصاعداً . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ أَكْثَرَ ( عطفاً على لفظ المخفوض ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب : بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به(8/233)
" صفحة رقم 234 "
المتناجون ، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف ، أي ولا نجوى أدنى ، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه . ويجوز أن يكون ) وَلاَ أَدْنَى ( مبتدأ ، والخبر ) إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ( ، فهو من عطف الجمل ، وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً : ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع ، واحتمل الإعرابين : العطف على الموضع والرفع بالابتداء . وقرىء : ) يُنَبّئُهُمُ ( بالتخفيف والهمز ؛ وزيد بن علي : بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء ؛ والجمهور : بالتشديد والهمز وضم الهاء .
قوله عز وجل ) لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ ).
المجادلة : ( 8 - 9 ) ألم تر إلى . . . . .
نزلت ) أَلَمْ تَرَ ( في اليهود والمنافقين . كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم . فلما كثر ذلك منهم ، شكا المؤمنون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين ، فلم ينتهوا ، فنزلت ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : نزلت في اليهود . وقال ابن السائب : في المنافقين . وقرأ الجمهور : ) وَيَتَنَاجَوْنَ ( ؛ وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس : وينتجون مضارع انتجى . ) بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ( : كانوا يقولون : السام عليك ، وهو الموت ؛ فيرد عليهم : وعليكم . وتحية الله لأنبيائه : ) وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ). ) لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ( : أي إن كان نبياً ، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول ؟ فقال تعالى : ) حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ).
ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار ، وبدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ، إذ هي ظلامات العباد . ثم ترقى إلى ما هو أعظم ، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا طعن على المنافقين ، إذ كان تناجيهم في ذلك . وقرأ الجمهور : ) فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ ( ، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء . وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس : فلا تنتجوا مضارع انتجى ؛ والجمهور : بضم عين العدوان ؛ وأبو حيوة بكسرها حيث وقع ؛ والضحاك : ومعصيات الرسول على الجمع . والجمهور : على الإفراد . وقرأ عبد الله : إذا انتجيتم فلا تنتجوا .
المجادلة : ( 10 ) إنما النجوى من . . . . .
وأل في ) إِنَّمَا النَّجْوَى ( للعهد في نجوى الكفار ) بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ( ، وكونها ) مِنَ الشَّيْطَانِ ( ، لأنه هو الذي يزينها لهم ، فكأنها منه .
( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا . ) وَلَيْسَ ( : أي التناجي أو الشيطان أو الحزن ، ( بِضَارّهِمْ ( : أي المؤمنين ، ( إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( : أي بمشيئته ، فيقضي بالقتل أو الغلبة . وقال ابن زيد : هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليس لهم حاجة ولا ضرورة . يريدون التبجح بذلك ، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد وقاصداً نحوه . وقال عطية العوفي : نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه ، فكأنه نجوى يناجي بها . انتهى . ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما(8/234)
" صفحة رقم 235 "
بعدها ، وتقدمت القراءتان في نحو : ) لِيَحْزُنَ ). وقرىء : بفتح الياء والزاي ، فيكون ) الَّذِينَ ( فاعلاً ، وفي القراءتين مفعولاً .
المجادلة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر ، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب ، فقال : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية . قال مجاهد وقتادة والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال ابن عباس : المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة ، فنزلت . وقرأ الجمهور : ) تَفَسَّحُواْ ( ؛ وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى : تفاسحوا . والجمهور : في المجلس ؛ وعاصم وقتادة وعيسى : ) فِى الْمَجَالِسِ ). وقرىء : في المجلس بفتح اللام ، وهو الجلوس ، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه . والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات ، وإن كان السبب مجلس الرسول . وقيل : الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا مجالس العلم ؛ ويؤيده قراءة من قرأ ) فِى الْمَجَالِسِ ( ، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلساً في بيت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وانجزم ) يَفْسَحِ اللَّهُ ( على جواب الأمر في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في قلوبكم ، أو في الدنيا والآخرة ، أقوال .
( وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ ( : أي انهضوا في المجلس للتفسح ، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع . أمروا أولاً بالتفسح ، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا . وقال الحسن وقتادة والضحاك : معناه : إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا . وقيل : إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) نهضوا ، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يؤثر الانفراد في أمر الإسلام . وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص : بضم السين في اللفظين ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بكسرها . والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( معطوف على ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، والعطف مشعر بالتغاير ، وهو من عطف الصفات ، والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذات واحدة . وقال ابن مسعود وغيره : تم الكلام عند قوله : ) مّنكُمْ ( ، وانتصب ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( بفعل مضمر تقديره : ويخص الذين أوتوا العلم درجات ، فللمؤمنين رفع ، وللعلماء درجات .
المجادلة : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
( بين يدي نجواكم ( استعارة ، والمعنى قبل نجواكم ، وعن ابن عباس وقتادة أن قوما من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول ، عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) سمحا لا يرد أحدا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة ، وهذا الحكم قيل : نسخ قبل العمل به . وقال قتادة : عمل به ساعة من نهار . وقال مقاتل : عشرة أيام . وقال علي كرم الله وجهه : ما عمل به أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة . وقرئ ( صدقات ) بالجمع . وقال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها وقيل : بآية الزكاة .
المجادلة : ( 13 ) أأشفقتم أن تقدموا . . . . .
( أأشفقتم ( أخفتم من ذهاب المال في الصدقة ، أو من العجز عن وجودها تتصدقون به . فإذا لم تفعلوا ما أمرتم به ، وتاب الله عليكم عذركم ، ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات . وقرأ عياش(8/235)
" صفحة رقم 236 "
عن أبي عمر وخبير : بما يعملون بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء .
قوله عز وجل ) خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ ( سقط : إلى آخر الآية ) ).
المجادلة : ( 14 ) ألم تر إلى . . . . .
( الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ ( : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود ، عن السدي ومقاتل ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لأصحابه : ( يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ) ، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان أزرق أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام له : ( فعلت ) ، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت . والضمير في ) مَّا هُم ( عائد على ) الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ ( ، وهم المنافقون : أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ( وَلاَ مِنْهُمْ ( : أي ليسوا من الذين تولوهم ، وهم اليهود . وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه ) . وقال ابن عطية : يحتمل تأويلاً آخر ، وهو أن يكون قوله : ) مَّا هُم ( يريد به اليهود ، وقوله : ) وَلاَ مِنْهُمْ ( يريد به المنافقين ، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن ، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم ، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً . انتهى . والظاهر التأويل الأول ، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم . والضمير في ) وَيَحْلِفُونَ ( عائد عليهم ، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف . وعلى هذا التأويل يكون ) مَّا هُم ( استئنافاً ، وجاز أن يكون حالاً من ضمير ) تَوَلَّوْاْ ). وعلى احتمال ابن عطية ، يكون ) مَّا هُم ( صفة لقوم . ) وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( ، إما أنهم ما سبوا ، كما روي في سبب النزول ، أو على أنهم مسلمون . والكذب هو ما ادعوه من الإسلام . ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( : جملة حالية يقبح عليهم ، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا ، فالمعنى : وهم عالمون متعمدون له .
المجادلة : ( 15 ) أعد الله لهم . . . . .
والعذاب الشديد : المعد لهم في الآخرة . وقرأ الجمهور : ) أَيْمَانِهِمْ ( جمع يمين ؛ والحسن : إيمانهم ، بكسر الهمزة : أي ما يظهرون من الإيمان ،
المجادلة : ( 16 ) اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .
( جَنَّةُ ( : أي ما يتسترون به ويتقون المحدود ، وهو الترس ، ( فَصَدُّواْ ( : أي أعرضوا ، أو صدوا الناس عن الإسلام ، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله ، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان ، وقتلهم هو سبيل الله فيهم ، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم .
المجادلة : ( 17 ) لن تغني عنهم . . . . .
( لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا ( : تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران .
المجادلة : ( 18 ) يوم يبعثهم الله . . . . .
( فَيَحْلِفُونَ لَهُ ( : أي لله تعالى . ألا ترى إلى قولهم : ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ؟ ) كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( أنهم مؤمنون ، وليسوا بمؤمنين . والعجب منهم ، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة ، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم ؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب ، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ، ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء ( : أي شيء نافع لهم .
المجادلة : ( 19 ) استحوذ عليهم الشيطان . . . . .
( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ( : أي أحاط بهم من كل جهة ، وغلب على نفوسهم واستولى عليها(8/236)
" صفحة رقم 237 "
وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى : ) أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ( في النساء ، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها ، وجمعها غالباً لها ، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده . وقرأ عمر : استحاذ ، أخرجه على الأصل والقياس ، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال . ) فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ( : فهم لا يذكرونه ، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم ؛ و ) حِزْبُ الشَّيْطَانِ ( : جنده ، قاله أبو عبيدة .
المجادلة : ( 20 ) إن الذين يحادون . . . . .
( أُوْلَئِكَ فِى الاْذَلّينَ ( : هي أفعل التفضيل ، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى ، لا ترى أحداً أذل منهم .
المجادلة : ( 21 ) كتب الله لأغلبن . . . . .
وعن مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين ، والطائف وخيبر وما حولهم ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( : ) كِتَابَ ( : أي في اللوح المحفوظ ، أو قضى . وقال قتادة : بمعنى قال ، ( وَرُسُلِى ( : أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة . ) إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ ( : ينصر حزبه ، ( عَزِيزٌ ( : يمنعه من أن يذل .
المجادلة : ( 22 ) لا تجد قوما . . . . .
( لاَّ تَجِدُ قَوْماً ( ، قال الزمخشري ، من باب التخييل : خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين ، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله . وزاد ذلك تأكيداً بقوله : ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ ). انتهى . وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم ، فنهاهم عن موادتهم . وقال تعالى : ) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( ، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد ، كما قيل : أخاك أخاك إن من لا أخاً له
كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
ثم رابعاً بالعشيرة ، لأن بها التناصر ، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه ، كما قال : لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
وقرأ الجمهور : ) كِتَابَ ( مبنياً للفاعل ، ( فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( نصباً ، أي كتب الله . وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : كتب مبنياً للمفعول ، والإيمان رفع . والجمهور : ) أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( على الإفراد ؛ وأبو رجاء : على الجمع ، والمعنى : أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى ، وهو الهدى والنور واللطف . وقيل : الروح : القرآن . وقيل : جبريل يوم بدر . وقيل : الضمير في منه عائد على الإيمان ، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن ، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله . قيل : والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة . وقيل : الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود . وقيل : نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق ، رضى الله تعالى عنه ، كان منه سب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فصكه أبو بكر صكة سقط منها ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( أوفعلته ) ؟ قال : نعم ، قال : ( لا تعد ) ، قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد ، وفي(8/237)
" صفحة رقم 238 "
أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد . وقال ابن شوذب : يوم بدر ، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر ، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة يوم بدر . وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه ، قال : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام . انتهى ، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام . وقد رتب المفسرون . ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم ، والله تعالى أعلم .(8/238)
" صفحة رقم 239 "
59
( سورة الحشر )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِىأَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ(8/239)
" صفحة رقم 240 "
لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّىأَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِىأَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } )
الحشر : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
اللينة ، قال الأخفش : كأنه لون من النخيل ، أي ضرب منه ، وأصلها لونه ، قلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وأنشد : قد شجاني الأصحاب لما تغنوا
بفراق الأحباب من فوق لينه
انتهى . وجمعها لين ، كتمرة وتمر ، وقد كسروه على ليان ، وتكسير ما بينه وبين واحده هاء التأنيث شاذ ، كرطبة ورطب ، شذوا فيه فقالوا : أرطاب وقال الشاعر : وسالفة كسحوق الليان
أضرم فيها الغوى السعر
وقال أبو الحجاج الأعلم : الليان جمع لينة ، وهي النخلة . انتهى ، وتأتى أقوال المفسرين في اللينة . أوجف البعير : حمله على الوجيف ، وهو السير السريع . تقول : وجف البعير يجف وجفاً ووجيفاً ووجفاناً قال العجاج :
ناج طواه الاين مما وجفا
وقال نصيب : ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم
إليك ولولا أنت لم يوجف الركب(8/240)
" صفحة رقم 241 "
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم ( سقط : الآية كاملة ) ).
هذه السورة مدنية . وقيل : نزلت في بني النضير ، وتعد من المدينة لتدانيها منها . وكان بنو النضير صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، على أن لا يكونوا عليه ولا له . فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية . فلما هزم المسلمون يوم أُحد ، ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة ، فأخبر جبريل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك ، فأمر بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة . وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، منصرفه من بئر معونة ؛ فهموا بطرح الحجر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعصمه الله تعالى .
فلما قتل كعب ، أمر عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها الزهرة . فساروا ، وهو عليه الصلاة والسلام على حمار مخطوم بليف ، فوجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم مر أمرك ، فقال : ( اخرجوا من المدينة ) ، فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك ، وتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج . ودس المنافق عبد الله بن أبيّ وأصحابه أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم ، وإن أخرجتم لنخرجن معكم . فدرّبوا على الأزفة وحصنوها ، ثم أجمعوا على الغدر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ، ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ، ففعلوا ، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك . فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلماً ، فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فساره بخبرهم قبل أن يصل الرسول إليهم .
فلما كان من الغد ، غدا عليهم بالكتائب ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين ، فطلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أحطب ، فلحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وقبض أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً . وكان ابن أبي قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم ، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان . فلما نازلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان .
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضاً ، ذكر أيضاً ما حل باليهود من غضب الله عليهم وجلائهم ، وإمكان الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام ممن حاد الله ورسوله ورام الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش .
وتقدم الكلام في تسبيح الجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما ،
الحشر : ( 2 ) هو الذي أخرج . . . . .
( مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( : هم قريظة ، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير ، ويقال لهما(8/241)
" صفحة رقم 242 "
الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل ، انتظاراً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه . ) مِن دِيَارِهِم ( : يتعلق بأخرج ، و ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( يتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها ، فبنوا فيها وأنشأوا . واللام في ) لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( تتعلق بأخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله : ) لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( ، والمعنى : عند أول الحشر ، والحشر : الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا . والجمهور : إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير . وقال الحسن : هم بنو قريظة ؛ ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا ، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير . وقيل الحشر هو حشر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الكتائب لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم ، وأول قتال قاتلهم . وأول يقتضي ثانياً ، فقيل : الأول حشرهم للجلاء ، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم . وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يبقين دينان في جزيرة ) . وقال الحسن : أراد حشر القيامة ، أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره . وقال عكرمة والزهري : المعنى : الأول موضع الحشر ، وهو الشام . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير : ( اخرجوا ) ، قالوا : إلى أين ؟ قال : ( إلى أرض المحشر ) . وقيل : الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخ ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية .
( مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ( ، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم . ) وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ ( تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه . ولما كان ظن المؤمنين منفياً هنا ، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع ، فتسلط على أن الناصبة للفعل ، كما يتسلط الرجاء والطمع . ولما كان ظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة ، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق ، كعلمت وتحققت وأيقنت ، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة . وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . انتهى ، يعني أن حصونهم هو المبتدأ ، ومانعتهم الخبر ، ولا يتعين هذا ، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم ، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً ، وفي إجازة مثله من نحو : قائم زيد ، على الابتداء ، والخبر خلاف ؛ ومذهب أهل الكوفة منعه .
( فَاتَاهُمُ اللَّهُ ( : أي بأسه ، ( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( : أي لم يكن في حسابهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله السدي وأبو صالح وابن جريج ، وذلك مما أضعف قوتهم . ) وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( ، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( ، قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا ، وخربوا هم من داخل ونحوه . قال الضحاك والزجاج وغيرهما : كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم ، هدموا هم من البيوت ، خربوا الحصن . وقال الزهري وغيره : كانوا ، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل ، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها ، فيكون قوله : ) وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك . وقيل : شحوا على بقائها سليمة ، فخربوها إفساداً . وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر : ويخربون مشدّداً ؛ وباقي السبعة مخففاً ، والقراءتان بمعنى واحد عدى خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة . وقال صاحب الكامل في القراآت ؛ التشديد الاختيار على التكثير . وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ،(8/242)
" صفحة رقم 243 "
وأخرب : ترك الموضع خراباً وذهب عنه . ) فَاعْتَبِرُواْ ( : تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال .
وقيل : وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فقال : فكان كما قال ؛
الحشر : ( 3 ) ولولا أن كتب . . . . .
( وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا ( : أي لولا أنه تعالى قضى أنه سيجليهم من ديارهم ويبقون مدة يؤمن بعضهم ويولد لبعضهم من يؤمن ، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، كما فعل بإخوانهم بني قريظة . وكان بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق ، تركوه لجماله وعقله . وقال موسى عليه السلام : لا تستحيوا منهم أحداً . فلما رجعوا إلى الشام ، وجدوا موسى عليه السلام قد مات . فقال لهم بنو إسرائيل : أننم عصاة ، والله لا دخلتم علينا بلادنا ، فانصرفوا إلى الحجاز ، فكانوا فيه ، فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجلاه بخت نصر على أهل الشام . وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء ، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل ، كأهل بدر وغيرهم .
ويقال : جلا القوم عن منازلهم وأجلاهم غيرهم . قيل : والفرق بين الجلاء والإخراج : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد . وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد وجماعة . وقرأ الجمهور : الجلاء ممدوداً ؛ والحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح : مقصوراً ؛ وطلحة : مهموزاً من غير ألف كالبنأ . ) وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( : أي إن نجوا من عذاب الدنيا ، لم ينجوا في الآخرة .
الحشر : ( 4 - 5 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
وقرأ طلحة : ومن يشاقق بالإظهار ، كالمتفق عليه في الأنفال ؛ والجمهور ؛ بالإدغام . كان بعض الصحابة قد شرع في بعض نخل بني النضير يقطع ويحرق ، وذلك في صدر الحرب ، فقالوا : ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الإفساد ؟ فكفوا عن ذلك ، ونزل : ) مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ ( الآية رداً على بني النضير ، وإخباراً أن ذلك بتسويغ الله وتمكينه ليخربكم به ويذلكم . واللينة والنخلة اسمان بمعنى واحد ، قاله الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون . وقال الشاعر : كان قيودي فوقها عش طائر
على لينة سوقاً يهفو حيونها
وقال آخر : طراق الحوامي واقع فوق لينة
يدي ليلة في ولشه يترقرق
وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة . وقال الثوري : الكريمة من النخل . وقال أبو عبيدة وسفيان : ما ثمرها لون ، وهو نوع من التمر يقال له اللون . قال سفيان : هو شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج . وقال أيضاً أبو عبيدة : اللين : ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني . وقال جعفر بن محمد : هي العجوة ، وقيل : هي السيلان ، وأنشد فيه : غرسوا لينة بمجرى معين
ثم حف النخيل بالآجام
وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، فعلى هذا لا يكون أصل الياء الواو . وقيل : هي النخلة القصيرة . وقال الأصمعي : هي الدفل ، وما شرطية منصوبة بقطعتم ، ومن لينة تبيين لإبهام ما ، وجواب الشرط ) فَبِإِذْنِ اللَّهِ ( : أي فقطعها أو تركها بإذن الله . وقرأ الجمهور ؛ ) قَائِمَةً ( ، أنث قائمة ، والضمير في ) تَرَكْتُمُوهَا ( على معنى ما . وقرأ عبد الله(8/243)
" صفحة رقم 244 "
والأعمش وزيد بن علي : قوماً على وزن فعل ، كضرب جمع قائم . وقرىء : قائماً اسم فاعل ، فذكر على لفظ ما ، وأنث في على أصولها . وقرىء : أصلها بغير واو .
الحشر : ( 6 ) وما أفاء الله . . . . .
ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم ، طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فنزلت : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( : بين أن أموالهم فيء ، لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة ، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشياً ، ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال عمر بن الخطاب : كانت أموال بني النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاصة ، ينفق منها على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى . وقال الضحاك : كانت له عليه الصلاة والسلام ، فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة ، أعطاهم لفقرهم . وما في قوله : ) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( شرطية أو موصولة ، وأفاء بمعنى : يفيء ، ولا يكون ماضياً في اللفظ والمعنى ، ولذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الباء في خبرها ، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط . فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم ، كانت مخبرة بغيب ، فوقع كما أخبرت ؛ وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان ذلك بياناً لما يستقبل ، وحكم الماضي المتقدم حكمه . ومن في : ) مِنْ خَيْلٍ ( زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق ، والركاب : الإبل ، سلط الله رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم . وقال بعض العلماء : كل ما وقع على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة .
الحشر : ( 7 ) ما أفاء الله . . . . .
( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ( ، قال الزمخشري : لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوم على الأقسام الخمسة . انتهى . وقال ابن عطية : أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لنفسه شيئاً ، بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت . انتهى . وقيل : إن الآية الأولى خاصة في بني النضير ، وهذه الآية عامة . وقرأ الجمهور : ) كَى لاَ يَكُونَ ( بالياء ؛ وعبد الله وأبو جعفر وهشام : بالتاء . والجمهور : ) دُولَةً ( بضم الدال ونصب التاء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وهشام : بضمها ؛ وعلي والسلمي : بفتحها . قال عيسى بن عمر : هما بمعنى واحد . وقال الكسائي وحذاق البصرة : الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر ، والضم في الملك بكسر الميم . والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما ، إذ المراد به الأموال والمغانم ، وذلك الضمير هو اسم ) يَكُونَ ). وكذلك من قرأ بالياء ، أعاد الضمير على لفظ ما ، أي يكون الفيء ، وانتصب دولة على الخبر . ومن رفع دولة فتكون تامة ، ودولة فاعل ، وكيلا يكون تعليل لقوله : ) فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( ، أي فالفيء وحكمه لله وللرسول ، يقسمه على ما أمره الله تعالى ، كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولاً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم ، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم ويقولون : من عز بزّ ، والمعنى : كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية .
وروي أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا ، فنزل : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ). وعن الكلبي : أن رؤساً من المسلمين قالوا له : يا رسول الله ، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية ، فنزل : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الآية ، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها ؛ حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر ، وحكم الواشمة والمستوشمة ، وتحريم المخيط للمحرم .
ومن غريب الحكايات في(8/244)
" صفحة رقم 245 "
الاستنباط : أن الشافعي ، رحمه الله تعالى ، قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فقال له عبد الله بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : قال الله تعالى : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ). وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب ، أنه أمر بقتل الزنبور . انتهى . ويعني في الإحرام . بين أنه يقتدي بعمر ، وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بالاقتداء به ، وأن الله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قوله عز وجل : ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ ).
الحشر : ( 8 ) للفقراء المهاجرين الذين . . . . .
( لِلْفُقَرَاء ( ، قال الزمخشري : بدل من قوله : ) وَلِذِى الْقُرْبَى ( ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من ) لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( ، والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله : ) وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( ، وأنه يترفع برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا . انتهى . وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله : ) وَلِذِى الْقُرْبَى ( ، لأنه مذهب أبي حنيفة ، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير . فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة ، ففسره الزمخشري على مذهبه . وأما الشافعي ، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة ، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته .
وقال ابن عطية : ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ( بيان لقوله : ) وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ، ليبين بين الأغنياء منكم ، أي ولكن يكون للفقراء . انتهى . ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( : أي في إيمانهم وجهادهم قولاً وفعلاً .
الحشر : ( 9 ) والذين تبوؤوا الدار . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ ( معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار ، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال . وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء ، والخبر ) هَاؤُلاَء يُحِبُّونَ ). أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة ، كما أنثى على المهاجرين بقوله : ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً ( الخ ، والإيمان معطوف على الدار ، وهي المدينة ، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ . فقيل : هو من عطف الجمل ، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه ، قاله أبو عليّ ، فيكون كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
أو يكون ضمن ) تبوؤا ( معنى لزموا ، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان ، فيصح العطف . أو لما كان الإيمان قد شملهم ، صار كالمكان الذي يقيمون فيه ، لكن يكون ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز . قال الزمخشري : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه(8/245)
" صفحة رقم 246 "
مقامه ؛ أو سمى المدينة ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان . وقال ابن عطية : والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : ) خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ( فتأمله . انتهى . ومعنى ) مِن قَبْلِهِمُ ( : من قبل هجرتهم ، ( حَاجَةً ( : أي حسداً ، ( مّمَّا أُوتُواْ ( : أي مما أعطي المهاجرون ، ونعم الحاجة ما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى .
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( : من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية ، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( عجب الله من فعلكما البارحة ) ، فالآية مشيرة إلى ذلك . وروي غير ذلك في إيثارهم . والخصاصة : الفاقة ، مأخوذة من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج : والفتوح ، فكأن حال الفقير هي كذلك ، يتخللها النقص والاحتياج . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : شح بكسر الشين . والجمهور : بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين ، والشح : اللؤم ، وهو كزازة النفس على ما عندها ، والحرص على المنع . قال الشاعر : يمارس نفساً بين جنبيه كرة
إذا همّ بالمعروف قالت له مهلاً
وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها . وقال تعالى : ) وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( ، وفي الحديث : ( من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح ) .
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من . . . . .
( وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( : الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين . فقال الفراء : هم الفرقة الثالثة من الصحابة ، وهو من آمن أو كفر في آخر مدّة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الجمهور : أراد من يجيء من التابعين ، فعلى القول الأول : يكون معنى ) مّن بَعْدِهِمْ ( : أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان ، وهؤلاء تأخر إيمانهم ، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار . وعلى القول الثاني : يكون معنى ) مّن بَعْدِهِمْ ( : أي من بعد ممات المهاجرين ، مهاجريهم وأنصارهم . وإذا كان ) وَالَّذِينَ ( معطوفاً على المجرور قبله ، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدّم في حكم الفيء .
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر ) وَإِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ( الآية ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ( ، فقال : وهذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( حتى بلغ ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ( إلى ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ). ثم قال : لئن عشت لنؤتين الراعي ، وهو يسير نصيبه منها . وعنه أيضاً : أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( الآية ، فلما بلغ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( قال : هي لهؤلاء فقط ، وتلا : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( الآية ، إلى قوله : ) رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( ؛ ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها ، كما قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خيبر . وقيل : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( مقطوع مما قبله ، معطوف عطف الجمل ، لا عطف المفردات ؛ فإعرابه : ) وَالَّذِينَ ( مبتدأ ، ندبوا بالدعاء للأولين ، والثناء عليهم ، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، والخبر ) يَقُولُونَ ( ، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم ) يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا ( ، وعلى القول الأول يكون ) يَقُولُونَ ( استئناف إخبار ، قيل : أو حال .
الحشر : ( 11 - 12 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ ( الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، ورفاعة بن التابوت ، وقوم من منافقي الأنصار ، كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله : ) يَقُولُونَ ( ، واللام في ) لإِخْوانِهِمْ ( للتبليغ ، والإخوة بينهم إخوة الكفر وموالاتهم ، ( وَلاَ(8/246)
" صفحة رقم 247 "
نُطِيعُ فيكُمْ ( : أي في قتالكم ، ( أَحَدًا ( : من الرسول والمؤمنين ؛ أو ) لا نُطِيعُ فيكُمْ ( : أي في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة ، و ) لَنَنصُرَنَّكُمْ ( : جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية ، وجواب أن محذوف ، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط ، ومن حذفها قوله : ) وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ ( ، التقدير : ولئن لم ينتهوا لكاذبون ، أي في مواعيدهم لليهود ، وفي ذلك دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب ، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير ، بل أقاموا في ديارهم ، وهذا إذا كان قوله : ) لإِخْوانِهِمْ ( أنهم بنو النضير . وقيل : هم يهود المدينة ، والضمائر على هذين القولين . وقيل : فيها اختلاف ، أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون ، ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ، ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى قوله : ) وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ( ، فقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فكيف يأتي ) وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ( ؟ فأخرجه في حيز الإمكان ، وقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فلا يمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع . وإذا كانت الضمائر متفقة ، فقال الزمخشري : معناه ولئن نصروهم على الفرض ، والتقدير كقوله : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ، وكما يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . وقال ابن عطية : معناه : ولئن خالفوا ذلك فإنهم ينهزمون . انتهى . والظاهر أن الضمير في ) لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( ، وفي ) ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( عائد على المفروض أنهم ينصرونهم ، أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار ، ثم لا ينصر المنافقون . وقيل : الضمير في التولي عائد على اليهود ، وكذا في ) لاَ يُنصَرُونَ ). قال ابن عطية : وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : ) لاَ يَخْرُجُونَ ( و ) لاَ يُنصَرُونَ ( لأنها راجعة على حكم القسم ، لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر . انتهى . وأي نظر في هذا ؟ وهذا جاء على القاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وحذف جواب الشرط ، وكان فعله بصيغة المضي ، أو مجزوماً بلم ، وله شرط ، وهو أن لا يتقدمه طالب خبر . واللام في ) لَئِنْ ( مؤذنة بقسم محذوف قبله ، فالجواب له . وقد أجاز الفراء أن يجاب الشرط ، وأن تقدم القسم ، ورده عليه البصريون .
الحشر : ( 13 ) لأنتم أشد رهبة . . . . .
ثم خاطب المؤمنين بأن هؤلاء يخافونكم أشد خيفة من الله تعالى ، لأنهم يتوقعون عاجل شركم ، ولعدم إيمانهم لا يتوقعون أجل عذاب الله ، وذلك لقلة فهمهم ، ورهبة : مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية ، فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين ، والمخاطبون مرهوبون ، وهذا كما قال : فلهو أخوف عندي إذ أكلمه
وقيل إنك مأسور ومقتول
من ضيغم بثراء الأرض مخدره
ببطن عثر غيل دونه غيل
فالمخبر عنه مخوف لا خائف ، والضمير في ) صُدُورُهُمْ ). قيل : لليهود ، وقيل : للمنافقين ، وقيل : للفريقين . وجعل المصدر مقراً للرهبة دليل على تمكنها منهم بحيث صارت الصدور مقراً لها ، والمعنى : رهبتهم منكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل .
الحشر : ( 14 ) لا يقاتلونكم جميعا . . . . .
( لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( : أي بنو النضير وجميع اليهود . وقيل : اليهود والمنافقون ) جَمِيعاً ( : أي مجتمعين متساندين يعضد بعضهم بعضاً ، ( إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ ( : لا في الصحراء لخوفهم منكم ، وتحصينها بالدروب والخنادق ، أو من وراء جدار يتسترون به من أن تصيبوهم . وقرأ الجمهور : ) جُدُرٍ ( بضمتين ، جمع جدار ؛ وأبو رجاء والحسن وابن وثاب : بإسكان الدال تخفيفاً ، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش . وقرأ أبو عمرو وابن كثير وكثير من المكيين : جدار بالألف وكسر الجيم . وقرأ كثير من المكيين ، وهارون عن ابن كثير : جدر بفتح الجيم وسكون الدال . قال صاحب اللوامح : وهو واخذ بلغة اليمن . وقال ابن عطية : ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه . قال : ويحتمل أن يكون من جدر النخل ، أي من وراء نخلهم ، إذ هي مما يتقى به عند المصافة . ) بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ( : أي إذا اقتتلوا بعضهم(8/247)
" صفحة رقم 248 "
مع بعض . كان بأسهم شديداً ؛ أما إذا قاتلوكم ، فلا يبقى لهم بأس ، لأن من حارب أولياء الله خذل . ) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ( : أي مجتمعين ، ذوي ألفة واتحاد . ) وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( : أي وأهواؤهم متفرقة ، وكذا حال المخذولين ، لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد ، وموجب ذلك الشتات هو انتفاء عقولهم ، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة . وقرأ الجمهور : ) شَتَّى ( بألف التأنيث ؛ ومبشر بن عبيد : منوناً ، جعلها ألف الإلحاق ؛ وعبد الله : وقلوبهم أشت : أي أشد تفرقاً ، ومن كلام العرب : شتى تؤوب الحلبة . قال الشاعر : إلى الله أشكوا فتية شقت العصا
هي اليوم شتى وهي أمس جميع
قوله عز وجل : ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ ).
الحشر : ( 15 ) كمثل الذين من . . . . .
( كَمَثَلِ ( : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم ، أي بني النضير ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ( : وهم بنو قينقاع ، أجلاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلاً لهم ، قاله ابن عباس ؛ أو أهل بدر الكفار ، فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم ، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا . وقيل : الضمير في ) مِن قَبْلِهِمُ ( للمنافقين ، و ) الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : منافقو الأمم الماضية ، غلبوا ودلوا على وجه الدهر ، فهؤلاء مثلهم . ويبعد هذا التأويل لفظة ) قَرِيبًا ( أن جعلته متعلقاً بما قبله ، وقريباً ظرف زمان وإن جعلته معمولاً لذاقوا ، أي ذاقوا وبال أمرهم قريباً من عصيانهم ، أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا ، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء . ) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( في الآخرة .
الحشر : ( 16 ) كمثل الشيطان إذ . . . . .
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ( : لما مثلهم بمن قبلهم ، ذكر مثلهم مع المنافقين ، فالمنافقون كالشيطان ، وبنو النضير كالإنسان ، والجمهور : على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه . كذلك أغوى المنافقون بني النضير ، وحرضوهم على الثبات ، ووعدوهم النصر . فلما نشب بنو النضير ، خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال . وقيل : المراد استغواء الشيطان قريشاً يوم بدر . وقوله لهم : ) لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ ( إلى قوله : ) إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ). وقيل : التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة ، فوقع عليها فحملت ، فخشي الفضيحة ، فقتلها ودفنها . سول له الشيطان ذلك ، ثم شهره ، فاستخرجت فوجدت مقتولة ؛ وكان قال إنها ماتت ودفنتها ، فعلموا بذلك ، فتعرض له الشيطان وقال : اكفر واسجد لي وأنا أنجيك ، ففعل وتركه عند ذلك وقال : أنا بريء منك . وقول الشيطان : ) إِنّى أَخَافُ اللَّهَ ( رياء ، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه .
الحشر : ( 17 ) فكان عاقبتهما أنهما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) عَاقِبَتَهُمَا ( بنصب التاء ؛ والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم : برفعهما . والجمهور : ) خَالِدِينَ ( بالياء حالاً ، و ) فِى النَّارِ ( خبر أن ؛ وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن عبلة : بالألف ، فجاز أن يكون خبر أن ، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله : ) فِيهَا ( ، وذلك جائز على مذهب سيبويه ، ومنع ذلك أهل الكوفة ، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى . ويجوز أن يكون في النار خبراً ، لأن ) خَالِدِينَ ( خبر ثان ، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه .
الحشر : ( 18 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما انقضى في هذه السورة ، وصف المنافقون واليهود . وعظ المؤمنين ، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس(8/248)
" صفحة رقم 249 "
لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب ، وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد ، أو لإختلاف متعلق بالتقوى . فالأولى في أداء الفرائض ، لأنه مقترن بالعمل ؛ والثانية في ترك المعاصي ، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد . وقرأ الجمهور : ) وَلْتَنظُرْ ( : أمراً ، واللام ساكنة ؛ وأبو حيوة ويحيى بن الحارث : بكسرها . وروي ذلك عن حفص ، عن عاصم والحسن : بكسرها وفتح الراء ، جعلها لام كي . ولما كان أمر القى امة كائناً لا محالة ، عبر عنه بالغد ، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب . وقال الحسن وقتادة : لم يزل يقر به حتى جعله كالغد ، ونحوه : كأن لم تغن بالأمس ، يريد تقريب الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد ، كأن الدنيا والآخرة نهاران ، يوم وغد . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بقوله : ) لِغَدٍ ( : ليوم الموت ، لأنه لكل إنسان كغده . وقال مجاهد وابن زيد : بالأمس الدنيا وغد الآخرة . وقال الزمخشري : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة ، كأنه : قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه . انتهى .
الحشر : ( 19 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لاَ تَكُونُواْ ( بتاء الخطاب ؛ وأبو حيوة : بياء الغيبة ، على سبيل الالتفات . وقال ابن عطية : كناية عن نفس التي هي اسم الجنس ؛ ) كَالَّذِينَ نَسُواْ ( : هم الكفار ، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى ، وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم ؛ ) فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( ، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب . عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم . قال سفيان : المعنى حظ أنفسهم ، ث
الحشر : ( 20 ) لا يستوي أصحاب . . . . .
م ذكر مباينة الفريقين : أصحاب النار في الجحيم ، وأصحاب الجنة في النعيم ، كما قال : ) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( ، وقال تعالى : ) أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ).
الحشر : ( 21 ) لو أنزلنا هذا . . . . .
( لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ ( : هذا من باب التخييل والتمثيل ، كما مر في قوله تعالى : ) إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ ( ، ودل على ذلك : ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ( ، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه ، وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع . وإذا كان الجبل على عظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع ، فابن آدم كان أولى بذلك ، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر . وقرأ طلحة : مصدعاً ، بإدغام التاء في الصاد ؛
الحشر : ( 23 ) هو الله الذي . . . . .
وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي : القدوس بفتح القاف ؛ والجمهور : بالفك والضم . وقرأ الجمهور : المؤمن بكسر الميم ، اسم فاعل من آمن بمعنى أمن . وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا . وقال النحاس : أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة . وقيل : المصدق نفسه في أقواله الأزلية . وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وقيل ، أبو جعفر المدني : المؤمن بفتح الميم . قال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزاً ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأومن . وقال الزمخشري : يعني المؤمن به على حذف حرف الجر ، كما تقول في قوم موسى من قوله : ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( : المختارون . ) الْمُهَيْمِنُ ( : تقدم شرحه . ) الْجَبَّارُ ( : القهار الذي جبر خلقه على ما أراد . وقيل : الجبار : الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق ، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق ، وقال امرؤ القيس : سوابق جبار أتيت فروعه
وعالين قنواناً من البسر أحمرا
وقال ابن عباس : هو العظيم ، وجبروته : عظمته . وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح . جبرت العظم : أصلحته بعد الكسر . وقال الفراء : من أجبره على الأمر : قهره ، قال : ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار ودراك . انتهى ، وسمع أسار فهو أسار . ) الْمُتَكَبّرُ ( : المبالغ في الكبرياء والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده ،
الحشر : ( 24 ) هو الله الخالق . . . . .
( الْخَالِقُ ( : المقدر لما يوجده . ) الْبَارِىء ( : المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة ، ( الْمُصَوّرُ ( : الممثل . وقرأ عليّ وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع : المصور بفتح الواو والراء ، وانتصب مفعولاً بالباري ، وأراد به جنس المصور . وعن علي ؛ فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول ، نحو : الضارب الغلام .(8/249)
" صفحة رقم 250 "
60
( سورة الممتحنة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْألُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىأَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاٌّ خِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( ) ) 2
) الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء ).
الممتحنة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
هذه السورة مدنية ، ونزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة ، كان قد وجه كتاباً ، مع امرأة إلى أهل مكة يخبرهم بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) متوجه إليهم لغزوهم ؛ فأطلع الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ذلك ، ووجه إلى المرأة من أخذ الكتاب منها ، والقصة مشهورة في كتب الحديث والسير .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار ، افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودّد إليهم ، وأضاف في قوله : ) عَدُوّى ( تغليظاً ، لجرمهم وإعلاماً بحلول عقاب الله بهم . والعدو ينطلق على الواحد وعلى الجمع ، وأولياء مفعول ثان لتتخذوا . ) تُلْقُونَ ( : بيان لموالاتهم ، فلا موضع له من(8/250)
" صفحة رقم 251 "
الإعراب ، أو استئناف إخبار . وقال الحوفي والزمخشري : حال من الضمير في ) لاَ تَتَّخِذُواْ ( ، أو صفة لأولياء ، وهذا تقدّمه إليه الفراء ، قال : ) تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ( من صلة ) أَوْلِيَاء ). انتهى . وعندهم أن النكرة توصل ، وعند البصريين لا توصل بل توصف ، والحال والصفة قيد وهم قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً ، والتقييد يدل على أنه يجوز أن يتخذوا أولياء إذا لم يكونوا في حال إلقاء المودة ، أو إذا لم يكن الأولياء متصفين بهذا الوصف ، وقد قال تعالى : ) يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( ، فدل على أنه لا يقتصر على تلك الحال ولا ذلك الوصف . والأولياء عبارة عن الإفضاء بالمودة ، ومفعول ) تُلْقُونَ ( محذوف ، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأسراره . والباء في ) بِالْمَوَدَّةِ ( للسبب ، أي بسبب المودة التي بينهم . وقال الكوفيون : الباء زائدة ، كما قيل : في : ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( : أي أيديكم . قال الحوفي : وقال البصريون هي متعلقة بالمصدر الذي دل عليه الفعل ، وكذلك قوله ) بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( : أي إرادته بإلحاد . انتهى . فعلى هذا يكون ) بِالْمَوَدَّةِ ( متعلقاً بالمصدر ، أي إلقاؤهم بالمودّة ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه حذف المصدر ، وهو موصول ، وحذف الخبر ، إذ إلقاؤهم مبتدأ وبما يتعلق به ، ( وَقَدْ كَفَرُواْ ( جملة حالية ، وذو الحال الضمير في ) تُلْقُونَ ( : أي توادونهم ، وهذه حالهم ، وهي الكفر بالله ، ولا يناسب الكافر بالله أن يودّ . وأجاز الزمخشري أن يكون حالاً من فاعل ) لاَ تَتَّخِذُواْ ).
وقرأ الجمهور : ) بِمَا جَاءكُمْ ( ، والجحدري والمعلى عن عاصم : لما باللام مكان الباء ، أي لأجل ما جاءكم . ) يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ( : استئناف ، كالتفسير لكفرهم ، أو حال من ضمير ) كَفَرُواْ ( ، ( وَإِيَّاكُمْ ( : معطوف على الرسول . وقدّم على إياكم الرسول لشرفه ، ولأنه الأصل للمؤمنين به . ولو تقدّم الضمير لكان جائزاً في العربية ، خلافاً لمن خص ذلك بالضرورة ، قال : لأنك قادر على أن تأتي به متصلاً ، فلا تفصل إلا في الضرورة ، وهو محجوج بهذه الآية وبقوله تعالى : ) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ( وإياكم أن اتقوا ألله ، وقدّم الموصول هنا على المخاطبين للسبق في الزمان وبغير ذلك من كلام العرب . و ) أَن تُؤْمِنُواْ ( مفعول من أجله ، أي يخرجون لإيمانكم أو كراهة إيمانكم ، ( إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ ( : شرط جوابه محذوف لدلالة ما تقدّم عليه ، وهو قوله : ) لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى ( ، ونصب جهاداً وابتغاء على المصدر في موضع الحال ، أي مجاهدين ومبتغين ، أو على أنه مفعول من أجله . ) تُسِرُّونَ ( : استئناف ، أي تسرون وقد علمتم أني أعلم الإخفاء والإعلان ، وأطلع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ذلك ، فلا طائل في فعلكم هذا . وقال ابن عطية : ) تُسِرُّونَ ( بدل من ) تُلْقُونَ ). انتهى ، وهو شبيه ببدل الاشتمال ، لأن الإلقاء يكون سراً وجهراً ، فهو ينقسم إلى هذى ن النوعين . وأجاز أيضاً أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتم تسرون . والظاهر أن ) أَعْلَمُ ( أفعل تفضيل ، ولذلك عداه بالباء . وأجاز ابن عطية أن يكون مضارعاً عدى بالباء قال : لأنك تقول علمت بكذا . ) وَأَنَاْ أَعْلَمُ ( : جملة حالية ، والضمير في ) وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ( ، الظاهر أنه إلى أقرب مذكور ، أي ومن يفعل الأسرار . وقال ابن عطية : يعود على الاتخاذ ، وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل ، أو على الظرف على تقدير اللزوم ، والسواء : الوسط .
الممتحنة : ( 2 ) إن يثقفوكم يكونوا . . . . .
ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء ، وشرح ما به الولاية من الإلقاء بالمودة بينهم ، وذكر ما صنع الكفار بهم أولاً من إخراج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنين ، ذكر صنيعهم آخراً لو قدروا عليه من أنه إن تمكنوا منكم تظهر عداوتهم لكم ، ويبسطوا أيديهم بالقتل والتعذيب ، وألسنتهم بالسب ؛ وودوا لو ارتددتم عن دينكم الذي هو أحب الأشياء إليكم ، وهو سبب إخراجهم إياكم . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ، ثم قال ) وَوَدُّواْ ( بلفظ الماضي ؟ قلت : الماضي ، وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإنه فيه نكتة كأنه قيل : وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً . انتهى . وكأن الزمخشري فهم من قوله : ) وَوَدُّواْ ( أنه معطوف على جواب الشرط ، فجعل ذلك سؤالاً وجواباً . والذي يظهر أن قوله : ) وَوَدُّواْ ( ليس على جواب الشرط ، لأن ودادتهم كفرهم ليست مترتبة على الظفر بهم والتسلط عليهم ، بل هم وادون(8/251)
" صفحة رقم 252 "
كفرهم على كل حال ، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا ، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء ، أخبر تعالى بخبرين : أحدهما اتضاح عداوتهم والبسط إليهم ما ذكر على تقدير الظفر بهم ، والآخر ودادتهم كفرهم ، لا على تقدير الظفر بهم .
الممتحنة : ( 3 ) لن تنفعكم أرحامكم . . . . .
ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة ، فكتب إلى أهلها بما كتب ليرعوه في قرابته ، قال تعالى : ) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( : أي قراباتكم الذين توالون الكفار من أجلهم ، وتتقربون إليهم محاماة عليهم . ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل . وقرأ الجمهور ؛ ) يُفَصّلُ ( بالياء مخففاً مبنياً للمفعول . وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر : كذلك إلا أنه مشدد ، والمرفوع ، إما ) بَيْنِكُمْ ( ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ، وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل ، أي يفصل هو ، أي الفصل . وقرأ عاصم والحسن والأعمش : يفصل بالياء مخففاً مبنياً للفاعل ؛ وحمزة والكسائي وابن وثاب : مبنياً للفاعل بالياء مضمومة مشدداً ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : كذلك إلا أنه بالنون مشدداً ؛ وهما أيضاً وزيد بن علي : بالنون مفتوحة مخففاً مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة أيضاً : بالنون مضمومة ، فهذا ثماني قراآت .
الممتحنة : ( 4 ) قد كانت لكم . . . . .
ولما نهى عن موالاة الكفار ، ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا . وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة ، وعاصم بضمها ، وهما لغتان . ) وَالَّذِينَ مَعَهُ ( ، قيل : من آمن به . وقال الطبري وغيره : الأنبياء معاصروه ، أو كانوا قريباً من عصره ، لأنه لم يرو أنه كان له أتباع مؤمنون في مكافحته لهم ولنمروذ . ألا تراه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ : ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك ؟ والتأسي بإبراهيم عليه السلام هو في التبرؤ من الشرك ، وهو في كل ملة وبرسولنا عليه الصلاة والسلام على الإطلاق في العقائد وأحكام الشرع . وقرأ الجمهور ؛ ) بَرَاء ( جمع بريء ، كظريف وظرفاء ؛ وعيسى : براء جمع بريء أيضاً ، كظريف وظراف ؛ وأبو جعفر : بضم الباء ، كتؤام وظؤار ، وهم اسم جمع الواحد بريء وتوأم وظئر ، ورويت عن عيسى . قال أبو حاتم : زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه براء على فعال ، كالذي في قوله تعالى : ) إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ ( في الزخرف ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد والجمع . وقال الزمخشري : وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . انتهى . فالضمة في ذلك ليست بدلاً من كسرة ، بل هي ضمة أصلية ، وهو قريب من أوزان أسماء الجموع ، وليس جمع تكسير ، فتكون الضمة بدلاً من الكسرة ، إلا قول إبراهيم استثناء من قوله : ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( ، قاله قتادة والزمخشري . قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم : المعنى أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في الوجه الآخر ، لأنه كان لعلمه ليست في نازلتكم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فإن كان قوله : ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( مستثنى من القول الذي هو ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( ، فما بال قوله : ) فَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء ( ، وهو غير حقيق بالاستثناء ؟ ألا ترى إلى قوله : ) فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً ( ؟ قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . انتهى . وقال الزمخشري : أولاً بعد أن ذكر أن الاستثناء هو من قوله : ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( في مقالات قال : لأنه أراد بالأسوة الحسنة ، فهو الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها . انتهى . والذين يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره : أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( ، فليس فيه أسوة حسنة ، فيكون على هذا استثناء متصلاً . وأما أن يكون قول إبراهيم مندرجاً في أسوة حسنة ، لأن معنى الأسوة هو الاقتداء والتأسي ، فالقول ليس مندرجاً تحته ، لكنه مندرج تحت مقالات إبراهيم عليه السلام . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت ، لم تبق جملة إلا كذا . انتهى . وقيل : هو استثناء منقطع المعنى ، لكن قول إبراهيم لأبيه ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( ، فلا تأسوا به فيه فتستغفروا وتفذوا آباءكم الكفار بالاستغفار . ) رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ( وما بعده ، الظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلاً بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة ما يتأسى به فيه ، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه ، ويجوز أن يكون أمراً من الله للمؤمنين ، أي قولوا ربنا عليك توكلنا ، علمهم بذلك قطع العلائق التي(8/252)
" صفحة رقم 253 "
بينهم وبين الكفار .
الممتحنة : ( 5 ) ربنا لا تجعلنا . . . . .
( رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، قال ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا . وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب من عندك ، فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون ، فيفتنوا لذلك . وقال قريباً منه قتادة وأبو مجلز ، وقول ابن عباس أرجح لأنه دعاء لأنفسهم ، وعلى قول غيره دعاء للكافرين ،
الممتحنة : ( 6 ) لقد كان لكم . . . . .
والضمير في فيهم عائد على إبراهيم والذين معه ، وكررت الأسوة تأكيداً ، وأكد ذلك بالقسم أيضاً ، ولمن يرجو بدل من ضمير الخطاب ، بدل بعض من كل .
الممتحنة : ( 7 ) عسى الله أن . . . . .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، عزم المسلمون على إظهار عداوات أقربائهم الكفار ، ولحقهم هم لكونهم لم يؤمنوا حتى يتوادوا ، فنزل ) عَسَى اللَّهُ ( الآية مؤنسة ومرجئة ، فأسلم الجميع عام الفتح وصاروا إخواناً . ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة ، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة ، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً ، وإن كان متقدماً لهذه الآية ، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات ، قاله ابن عطية . وعسى من الله تعالى واجبة الوقوع ، ( وَاللَّهُ قَدِيرٌ ( على تقليب القلوب وتيسير العسير ، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ ( لمن أسلم من المشركين .
الممتحنة : ( 8 - 9 ) لا ينهاكم الله . . . . .
( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ ( الآية ، قال مجاهد : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكانوا في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة . وقى ل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها تركوا الهجرة . وقال الحسن وأبو صالح : في خزاعة وبين الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب ، كانوا مظاهرين للرسول محبين فيه وفي ظهوره . وقيل : فيمن لم يقاتل ، ولا أخرج ولا أظهر سوأ من كفار قريش . وقال قرة الهمداني وعطية العوفي : في قوم من بني هاشم منهم العباس . وقال عبد الله بن الزبير : في النساء والصبيان من الكفرة . وقال النحاس والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطى عوا الهجرة . وقيل : قدمت على أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّها نفيلة بنت عبد العزى ، وهي مشركة ، بهدايا ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت الآية ، فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن تدخلها منزلها وتقبل منها وتكفيها وتحسن إليها . قال ابن عطية : وكانت المرأة فيما روي خالتها فسمتها أمّاً ؛ وفي التحرير : أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه طلق امرأته نفيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت في المدة التي فيها الهدنة وأهدت إلى أسماء قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها ، فنزلت الآية . و ) أَن تَبَرُّوهُمْ ( ، و ) ءانٍ ( بدلان مما قبلهما ، بدل اشتمال .
قوله عز وجل : ) الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ ). (8/253)
" صفحة رقم 254 "
الممتحنة : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم ، فجاءت أم كلثوم ، وهي بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد ، فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول الله حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض الله العهد في النساء ، وأنزل فيهن الآية ، وحكم بحكم رضوه كلهم . وقيل : سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت الحديبية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخدومي . وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف ، امرأة حسان بن الدحداحة ، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن ، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان .
وقرىء : مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات ، وامتحانهن ، قالت عائشة : بآية المبايعة . وقيل : بأن بشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وقال ابن عباس : بالحلف إنها ما خرجت إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة وعكرمة : كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها ، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة . ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ( : لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد ، ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ ( : أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن ، والحلول في قوم ليسوا من قومها ، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن ، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر .
وقرأ طلحة : لا هن يحلان لهم ، وانعقد التحريم بهذه الجملة ، وجاء قوله : ) وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ( على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة ، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر ، علم أنه لا حل بينهما البتة . وقيل : أفاد قوله : ) وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ( استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل ، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان . ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت ، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية . قال ابن عباس : أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بعد إمتحانها زوجها الكافر ، ما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وكان إذا امتحنهن ، أعطى أزواجهن مهورهن . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يرد عليه الصداق ، والأمر كما قال قتادة ، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين اياهن إذا آتوهن مهورهن ، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان .
وقرأ الجمهور : ) تُمْسِكُواْ ( مضارع أمسك ، كأكرم ؛ وأبو عمرو ومجاهد : بخلاف عنه ؛ وابن جبير والحسن والأعرج : مضارع مسك مشدّداً ؛ والحسن أيضاً وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ : تمسكوا بفتح الثلاثة ، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا ؛ والحسن أيضاً : تمسكوا بكسر السين ، مضارع مسك ثلاثياً . وقال الكرخي : ) الْكَوَافِرِ ( ، يشمل الرجال والنساء ، فقال له أبو علي الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، جمع كافرة ، وقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ قال أبو علي : فبهت فقلت : هذا تأييد . انتهى . وهذا الكرخي معتزلي فقيه ، وأبو علي معتزلي ، فأعجبه هذا التخريج ، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعاً لموصوفها ، أو يكون محذوفاً مراداً ، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث . والعصم جمع عصمة ، وهي سبب البقاء في الزوجية . ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم ، ( وَلْيَسْئَلُواْ ( : أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين .
الممتحنة : ( 11 ) وإن فاتكم شيء . . . . .
ولما تقرر هذا الحكم ، قالت قريش ، فيما روي : لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : ) وَإِن فَاتَكُمْ ( ، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين ، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام ، ما كان مهرها . قال(8/254)
" صفحة رقم 255 "
الزمخشري : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه . انتهى . واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار : أم الحكم بنت أبي سفيان ، زوج عياض بن شداد الفهري ؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، زوج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ؛ وعبدة بنت عبد العزى ، زوج هشام بن العاصي ؛ وأم كلثوم بنت جرول ، زوج عمر أيضاً . وذكر الزمخشري أنهن ست ، فذكر : أم الحكم ، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب ، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود ، وكلثوم ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي ، أعطى أزواجهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مهورهن من الغنيمة .
وقرأ الجمهور ) فَعَاقَبْتُمْ ( بألف ؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني : بشد القاف ؛ والنخعي والأعرج أيضاً وأبو حيوة أيضاً والزهري أيضاً وابن وثاب : بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة ؛ ومسروق والنخعي أيضاً والزهري أيضاً : بكسرها ؛ ومجاهد أيضاً : فاعقبتم على وزن افعل ، يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب ، قال : وحادرت البلد الحلاد ولم يكن
لعقبة قدر المستعيرين يعقب
وعقب : أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففاً . وقال الزمخشري : فعاقبتم من العقبة ، وهي النوبة . شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . ) فَاتُواْ ( من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا يؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري ، يعطي من صداق من لحق بهم . ومعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم من عقبه إذا قفاه ، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . انتهى . وقال الزجاج : فعاقبتم : قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، وفسر غيرها من القراءات : لكانت العقبى لكم : أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله : ) إِلَى الْكُفَّارِ ( ، ظاهره العموم في جميع الكفار ، قاله قتادة ومجاهد . قال قتادة : ثم نسخ هذا الحكم . وقال ابن عباس : يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : من مال الفيء ؛ وعنه : من صداق من لحق بنا . وقيل : الكفار مخصوص بأهل العهد . وقال الزهري : اقتطع هذا يوم الفتح . وقال الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال مقاتل : كان في عهد الرسول فنسخ . وقال ابن عطية : هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها . وقال أبو بكر بن العربي القاضي : كان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة . وقال القشيري : قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن .
الممتحنة : ( 12 ) يا أيها النبي . . . . .
( يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ( : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء ، بعدما فرغ من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط . وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن : كنت في النسوة المبايعات ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه الصلاة والسلام : ( إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن ) . وكانت هند بنت عتبة في النساء ، فقرأ عليهن الآية . فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئاً ، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ تعني أن هذا بين لزومه . فلما وقف على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ، لا أدري أيحل لي ذلك ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما(8/255)
" صفحة رقم 256 "
مضى وفيما عبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعرفها ، فقال لها : ( وإنك لهند بنت عتبة ) ، قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك . فقال : ) وَلاَ يَزْنِينَ ( ، فقالت : أوتزني الحرة ؟ قال : ) وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ ( ، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ ( ، فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : ) وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ ( ، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . ومعنى قول هند : أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً ، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر . وقرأعليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشدداً ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك . والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . ) بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ( : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين . وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته ، أو ألحقت بها ولداً لم تلده . وقيل : البهتان : السحر . وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن ؛ فروجهن . وقيل : بين أيديهن قبله أو جسة ، وأرجلهن الجماع . ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها .
الممتحنة : ( 13 ) يا أيها الذين . . . . .
وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم . وقال ابن عباس : كفار قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من الله . وقيل : اليهود والنصارى .
( قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاْخِرَةِ ( ، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها . والظاهر أن من في ) مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور . فمن الثانية كالأولى من الآخرة . فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم . وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر . انتهى . والكفار على هذا كفار مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبداً ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن . وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله ، لأنه إذا كان حياً لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد . وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر . انتهى . وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف . وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد . والجمهور : على الجمع . ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك مولاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم .(8/256)
" صفحة رقم 257 "
61
( سورة الصف )
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِىأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِىإِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَأامَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( ) ) 2
الصف : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
المرصوص ، قال الفرّاء والقاضي منذر بن سعيد : هو المعقود بالرصاص . وقال المبرد : رصصت البناء : لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة ، قال الراعي : ما لقي البيض من الحرقوص
بفتح باب المغلف المرصوص(8/257)
" صفحة رقم 258 "
الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار ، وقيل : هو من الترصيص ، وهو انصمام الأسنان .
( سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا ).
هذه السورة مدنية في قول الجمهور ، ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة . وقال ابن يسار : مكية ، وروى ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد . وسبب نزولها قول المنافقين للمؤمنين : نحن منكم ومعكم ، ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك ؛ أو قول شباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا ؛ أو قول ناس : وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نعنى فيه ، ففرض الجهاد ؛ وأعلم تعالى بحب المجاهدين ، فكرهه قوم وفر بعضهم يوم أحد ، فنزلت ، أقوال . الأول : لابن زيد ، والثاني : لقتادة ، والثالث : لابن عباس وأبي صالح .
ومناسبتها لآخر السورة قبلها ، أن في آخر تلك : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( ، فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم ، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم . والنداء ب ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، إن كان للمؤمنين حقيقة ، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب ، وإن كان للمنافقين ، فالمعنى ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي بألسنتهم ، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم ، ولم يتعلق بالفعل وحده . ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم ، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف ،
الصف : ( 3 ) كبر مقتا عند . . . . .
والظاهر انتصاب ) مَقْتاً ( على التمييز ، وفاعل ) كَبُرَ ( : أن ) تَقُولُواْ ( ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل ، والتقدير : كبر مقت قولكم ما لا تفعلون . ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس ، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز ، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم ، أي بئس مقتاً قولكم كذا ، والخلاف الجاري في المرفوع في : بئس رجلاً زيد ، جار في ) أَن تَقُولُواْ ( هنا ، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : ) لِمَ تَقُولُونَ ( ، أي كبر هو ، أي القول مقتاً ، ومثله كبرت كلمة ، أي ما أكبرها كلمة ، وأن تقولوا بدل من المضمر ، أو خبر ابتداء مضمر . وقيل : هو من أبنية التعجب ، أي ما أكبره مقتاً . وقال الزمخشري : قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله :
غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله ، وأسند إلى ) أَن تَقُولُواْ ( ونصب ) مَقْتاً ( على تفسيره ، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه ، وعند الله أبلغ(8/258)
" صفحة رقم 259 "
من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته . انتهى . وقال ابن عطية : والمقت : البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت . انتهى . وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت ، إذا كان يبغضه كل أحد . انتهى .
الصف : ( 4 ) إن الله يحب . . . . .
وقرأ زيد بن عليّ : يقاتلون بفتح التاء . وقيل : قرىء يقتلون ، وانتصب صفاً على الحال ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين ، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ، بنيان رص بعضه إلى بعض . والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص . وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلاً ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة ؛ وصفاً وكأنهم ، قال الزمخشري : حالان متداخلان . وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفاً . انتهى . ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون .
الصف : ( 5 ) وإذ قال موسى . . . . .
ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل ، وهو راجع إلى الكذب ، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب ، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : ) لِمَ تُؤْذُونَنِى ( ، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه ، ( وَقَد تَّعْلَمُونَ ( : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه ، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية ، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع ، والمضارع هنا معناه المضي ، أي وقد علمتم ، كقوله : ) قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( ، أي قد علم ، ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ ). وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل ، ( فَلَمَّا زَاغُواْ ( عن الحق ، ( أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ). قال الزمخشري : بأن منع ألطافه ، ( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( : لا يلطف بهم ، لأنهم ليسوا من أهل اللطف . وقال غيره : أسند الزيغ إليهم ، ثم قال : ) أَزَاغَ اللَّهُ ( كقوله تعالى : ) نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( ، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ، بخلاف قوله : ) ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ).
الصف : ( 6 ) وإذ قال عيسى . . . . .
ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام . وهناك قال : ) عَلَيْهِ قَوْمٌ ( لأنه من بني إسرائيل ، وهنا قال عيسى : ) مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ ( من حيث لم يكن له فيهم أب ، وإن كانت أمه منهم . ومصدقاً ومبشراً : حالان ، والعامل رسول ، أي مرسل ، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية ، ولمن تأخر من النبي المذكور ، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته . وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة ؟ قال : ( نعم ، أمة أحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل ) . وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم ، أو من أحمد أفعل التفضيل ، وقال حسان : صلى الإله ومن يحف بعرشه
والطيبون على المبارك أحمد
وقال القشيري : بشر كل نبي قومه بنبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام . والظاهر أن الضمير المرفوع في ) جَاءهُمُ ( يعود على عيسى لأنه المحدث عنه . وقيل : يعود على أحمد . لما فرغ من كلام عيسى ، تطرق إلى الإخبار عن أحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين ، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا : ) هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ). وقرأ الجمهور : سحر ، أي ما جاء به من البينات . وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب : ساحر ، أي هذا الحال ساحر .
الصف : ( 7 ) ومن أظلم ممن . . . . .
وقرأ الجمهور : يدعى مبنياً للمفعول ؛ وطلحة : يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل ، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به ، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى . وقال الزمخشري : أيضاً ، وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى بشد الدال ، بمعنى يدعى دعاه وادعاه ، نحو لمسه والتمسه .
الصف : ( 8 ) يريدون ليطفئوا نور . . . . .
( يُرِيدُونَ ( الآية : تقدم(8/259)
" صفحة رقم 260 "
تفسير نظيرها في سورة التوبة . وقال الزمخشري : أصله : ) يُرِيدُونَ أَن ( ، كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لأكرمك ، كما زيدت اللام في : لا أبا لك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أبا لك . انتهى . وقال نحوه ابن عطية ، قال : واللام في قوله : ) ليطفؤا ( لام مؤكدة ، دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفؤا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصرت . انتهى . وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر ، بل الأكثر : زيداً ضربت ، من : لزيد ضربت . وأما قولهما إن اللام للتأكيد ، وإن التقدير أن يطفؤا ، فالإطفاء مفعول ) إِن يُرِيدُونَ ( ، فليس بمذهب سيبويه والجمهور . وقال ابن عباس وابن زيد : هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول . وقال السدي : يريدون دفع الإسلام بالكلام . وقال الضحاك : هلاك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالأراجيف . وقال ابن بحر : إبطال حجج الله بتكذيبهم .
وعن ابن عباس : سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا ، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره ، فحزن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنزلت واتصل الوحي . وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن : ) مُّتُّمْ ( بالتنوين ، ( نُورِهِ ( بالنصب ؛ وباقي السبعة والأعمش : بالإضافة .
الصف : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تُنجِيكُم ( مخففاً ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر : مشدداً .
الصف : ( 11 - 12 ) تؤمنون بالله ورسوله . . . . .
والجمهور : ) تُؤْمِنُونَ ( ، ( وَتُجَاهِدُونَ ( ؛ وعبد الله : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين ؛ وزيد بن علي بالتاء ، فيهما محذوف النون فيهما . فأما توجيه قراءة الجمهور ، فقال المبرد : هو بمعنى آمنوا على الأمر ، ولذلك جاء يغفر مجزوماً . انتهى ، فصورته صورة الخبر ، ومعناه الأمر ، ويدل عليه قراءة عبد الله ، ونظيره قوله : اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، وجيء به على صورة الخبر . قال الزمخشري : للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ، ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ويغفر الله لك ، جعلت المغفرة لقوة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . انتهى . وقال الأخفش : هو عطف بيان على تجارة ، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله :
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغا
يريد : أن احضر ، فلما حذف أن ارتفع الفعل ، فكان تقدير الآية ) هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( : إيمان بالله ورسوله وجهاد . وقال ابن عطية : ) تُؤْمِنُونَ ( فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون . انتهى ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر ، وذلك لا يجوز . وقال الزمخشري : وتؤمنون استئناف ، كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟ فقال : تؤمنون ، ثم اتبع المبرد فقال : هو خبر في معنى الأمر ، وبهذا أجيب بقوله : ) يَغْفِرْ لَكُمْ ). انتهى . وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر ، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر ، التقدير : لتؤمنوا ، كقول الشاعر : قلت لبواب على بابها
تأذن لي أني من أحمائها
يريد : لتأذن ، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد ، وعلي تقدير المبرد . وقال الفراء : هو مجزوم(8/260)
" صفحة رقم 261 "
على جواب الاستفهام ، وهو قوله : ) هَلْ أَدُلُّكُمْ ( ، واستبعد هذا التخريج . قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا . وقال المهدوي : إنما يصح حملاً على المعنى ، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله : ) هَلْ أَدُلُّكُمْ ( ، كأن التجارة لم يدر ما هي ، فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قال : هل تؤمنون وتجاهدون ؟ قال : فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير : إن دللتم يغفر لكم ، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة . وقال الزمخشري نحوه ، قال : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قال : هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ؟ انتهى ، وتقدم شرح بقية الآية .
الصف : ( 13 ) وأخرى تحبونها نصر . . . . .
ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة ، ذكر ما يسرهم في العاجلة ، وهي ما يفتح عليهم من البلاد . ) وَأُخْرَى ( : صفة لمحذوف ، أي ولكم مثوية أخرى ، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة . فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم ، وهو قول الفراء ، ويرجحه البدل منه بقوله : ) نَصْرٌ مّن اللَّهِ ( ، و ) تُحِبُّونَهَا ( صفة ، أي محبوبة إليكم . وقال قوم : وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل ، أي ويمنحكم أخرى ؛ ونصر خبر مبتدأ ، أي ذلك ، أو هو نصر . وقال الأخفش : وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة ، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه ، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال . وقرأ الجمهور : ) نَصْرُ ( بالرفع ، وكذا ) وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( ؛ وابن أبي عبلة : بالنصب فيها ثلاثتها ، ووصف أخرى بتحبونها ، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل ، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك ، وهو الإيمان والجهاد . وقال الزمخشري : وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، قال : فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً ؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص ، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً ، أو على ) يَغْفِرْ لَكُمْ ( و ) لَهُمْ جَنَّاتُ ( ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً . فإن قلت علام عطف قوله : ) وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ؟ قلت : على ) تُؤْمِنُونَ ( ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك . انتهى .
الصف : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
( كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ ( : ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم ، وإن كان قد صار عرفاً للأوس والخزرج ، وسماهم الله به . وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان : أنصاراً لله بالتنوين ؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة : بالإضافة إلى الله ، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار ، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى . وقال مكي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : كونوا كوناً . وقيل : نعت لأنصاراً ، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ). انتهى . والحواريون اثنا عشر رجلاً ، وهم أول من آمن بعيسى ، بثهم عيسى في الآفاق ، بعث بطرس وبولس إلى رومية ، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وبوقاس إلى أرض بابل ، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف ، ويعقوبين إلى بيت المقدس ، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها ، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط ، فليلتمس ذلك من مظانه . ) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِعَيسَى عَلَى عَدُوّهِمْ ( : وهم الذين كفروا بعيسى ، ( فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( : أي قاهرين لهم مستولين عليهم . وقال زيد بن عليّ وقتادة : ظاهرين : غالبين بالحجة والبرهان . وقيل : أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين ، والله أعلم .(8/261)
" صفحة رقم 262 "
62
( سورة الجمعة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ ( ) ) 2
الجمعة : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
السفر : الكتاب المجتمع الأوراق منضدة .
( يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ ( سقط : إلى آخر الصفحة ) ((8/262)
" صفحة رقم 263 "
( سقط : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله ذكرا كثيرا لعلكم تفلحون ، وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين )
هذه السورة مدنية . وقيل : مكية ، وهو خطأ ، لأن أمر اليهود وانفضاض الناس في الجمعة لم يكن إلا بالمدينة . ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم ، أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه ، وذكر ما أنعم به على أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بعثته إليهم ، وتلاوته عليهم كتابه ، وتزكيتهم ، فصارت أمّته غالبة سائر الأمم ، قاهرة لها ، منتشرة الدعوة ، كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم . وقرأ الجمهور : ) الْمَلِكُ ( بجرّه وجر ما بعده ؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدّينار الأعرابي : بالرفع على إضمار هو ، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة ، وكذلك جاء عن يعقوب . وقرأ أبو الدينار وزيد بن عليّ : القدوس بفتح القاف ؛ والجمهور : بالضم .
الجمعة : ( 2 ) هو الذي بعث . . . . .
( هُوَ الَّذِى بَعَثَ ( الآية : تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمّي .
( وَءاخَرِينَ ( : الظاهر أنه معطوف على ) الامّيّينَ ( ، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون .
الجمعة : ( 3 ) وآخرين منهم لما . . . . .
وقيل : ) وَءاخَرِينَ ( منصوب معطوف على الضمير في ) وَيُعَلّمُهُمُ ( ، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازاً لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضاً ، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه . وقال أبو هريرة وغيره : وآخرين هم فارس ، وجاء نصاً عنه في صحيح البخاري ومسلم ، ولو فهم منه الحصر في فارس لم يجز أن يفسر به الآية ، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل . فقال مجاهد وابن جبير : الروم والعجم . وقال مجاهد أيضاً وعكرمة ومقاتل : التابعين من أبناء العرب لقوله : ) مِنْهُمْ ( ، أي في النسب . وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن حبان : طوائف من الناس . وقال ابن عمر : أهل اليمن . وعن مجاهد أيضاً : أبناء الأعاجم ؛ وعن ابن زيد أيضاً : هم التابعون ؛ وعن الضحاك أيضاً : العجم ؛ وعن أبي روق : الصغار بعد الكبار ، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل ، كما حملوا قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في فارس : ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( في تمكينه رجلاً أمّياً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده واختياره من سائر البشر .
الجمعة : ( 4 ) ذلك فضل الله . . . . .
( ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ ( : أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه .
الجمعة : ( 5 ) مثل الذين حملوا . . . . .
( مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ( : هم اليهود المعاصرون للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهي ناطقة بنبوته . وقرأ الجمهور : حملوا مشدداً مبنياً للمفعول ؛ ويحيى بن يعمرو وزيد بن عليّ : مخففاً مبنياً للفاعل . شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتباً ، فهو لا يدري ما عليه ، أكتب هي أم صخر وغير ذلك ؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها . وقال الشاعر في نحو ذلك : زوامل للأشعار لا علم عندهم
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
وقرأ عبد الله : حمار منكراً ؛ والمأمون بن هارون : يحمل بشد الميم مبنياً للمفعول . والجمهور : الحمار معرفاً ، ويحمل مخففاً مبنياً للفاعل ، ويحمل في موضع نصب على الحال . قال الزمخشري : أو الجر على الوصف ، لأن الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى .
وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين ، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل ، وحملوا عليه ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( ، وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال ، لا في موضع الصفة . ووصفه(8/263)
" صفحة رقم 264 "
بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، والجمل نكرات . ) بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ). قال الزمخشري : بئس مثلاً مثل القوم . انتهى . فخرجه على أن يكون التمييز محذوفاً ، وفي بئس ضمير يفسره مثلاً الذي ادعى حذفه . وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه . وقال ابن عطية : والتقدير بئس المثل مثل القوم . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف الفاعل ، وهو لا يجوز . والظاهر أن ) مَثَلُ الْقَوْمِ ( فاعل ) بِئْسَ ( ، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف ، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله ، وهم اليهود ، أو يكون ) الَّذِينَ كَذَبُواْ ( صفة للقوم ، والمخصوص بالدم محذوف ، التقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثلهم ، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة .
الجمعة : ( 6 - 7 ) قل يا أيها . . . . .
روي أنه لما ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتموه أطعناكم ، وإن خالفتموه خالفناه ، فقالوا لهم : نحن أبناء خليل الرحمن ، ومنا عزير بن الله والأنبياء ، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ ( ، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإن كان قولكم حقاً فتمنوا أن تنقلوا سريعاً إلى دار كرامته المعدة لأوليائه ، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة . وقرأ الجمهور : ) فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ( ، بضم الواو ؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع : بكسرها ؛ وعن ابن السميفع أيضاً : فتحها . وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو ، وهذا كقراءة من قرأ : تلؤون بالهمز بدل الواو . قال الزمخشري : ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فأتى مرة بلفظ التأكيد : ) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ ( ، ومرة بغير لفظه : ) وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ ( ، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه ، وأما قوله : إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان .
وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّهُ ( ، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته ، فكان إن باشرت الذي ، وفي الذي معنى الشرط ، فدخلت الفاء في الخبر ، وقد منع هذا قوم ، منهم الفراء ، وجعلوا الفاء زائدة . وقرأ زيد بن علي : إنه بغير فاء ، وخرجه الزمخشري على الاستئناف ،
الجمعة : ( 8 ) قل إن الموت . . . . .
وخبر إن هو الذي ، كأنه قال : قل إن الموت هو الذي تفرون منه . انتهى . ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله : أنه ملاقيكم ، فالجملة خبر إن ، ويحتمل أن يكون إنه توكيداً ، لأن الموت وملاقيكم خبر إن . لما طال الكلام ، أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن .
الجمعة : ( 9 - 10 ) يا أيها الذين . . . . .
( إِذَا نُودِىَ ( : أي إذا أذن ، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر . وكذا كان في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة . وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان ، كثر الناس وتباعدت المنازل ، فزاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني ، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة ، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه . فإن قلت : من في قوله : ) مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ( ما هي ؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . انتهى . وقرأ الجمهور : الجمعة بضم الميم ؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة ، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش : بسكونها ، وهي لغة تميم ، ولغة بفتحها لم يقرأ بها ، وكان هذا اليوم يسمى عروبة ، ويقال : العروبة . قيل : أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي ، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة ، صلى بهم ركعتين وذكرهم ، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام .
وأما أول جمعة جمعها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه لما قدم المدينة ، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف ، في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة . والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى : ) فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( ، وأنه يكون في المشي خفة وبدار . وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل ، وليس(8/264)
" صفحة رقم 265 "
الإسراع في المشي ، كالسعي بين الصفا والمروة ؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى : ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( ، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي . والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموماً ، وأنهما فرض على الأعيان . وعن بعض الشافعية ، أنها فرض كفاية ، وعن مالك رواية شاذة : أنها سنة . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم ) . وقالوا : المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم . فلو حضر غيره أجزأتهم . انتهى .
والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها ، واختلف الفقهاء في ذلك . فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري : ستة أميال . وقيل : خمسة . وقال ربيعة : أربعة أميال . وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر . وقال مالك والليث : ثلاثة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمع ، لا على من هو خارج المصر ، وإن سمع النداء . وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق : على من سمع النداء . وعن ربيعة : على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة . وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين : فامضوا بدل ) فَاسْعَوْاْ ( ، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي ، ففسروه بالمضي ، ولا يكون قرآناً لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون .
وذكر الله هنا الخطبة ، قاله ابن المسيب ، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور . وقال الحسن : هي مستحبة ، والظاهر أنه يجزىء من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكراً . قال أبو حنيفة : لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز ، وقال غيره : لا بد من كلام يسمى خطبة ، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن ، والظاهر تحريم البيع ، وأنه لا يصح . وقال ابن العربي : يفسخ ، وهو الصحيح . وقال الشافعي : ينعقد ولا يفسخ ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعاً ، مفسوخ ورعاً . انتهى . وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونهوا عن تجارة الدنيا ، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الضحاك والحسن وعطاء . وقال ناس غيرهم : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع ، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة ، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة ، كعيادة المريض ، وصلة صديق ، واتباع جنازة ، وأخذ في بيع وشراء ، وتصرفات دينية ودنيوية ؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله . وقال مكحول والحسن وابن المسيب : الفضل : المأمور بابتغائه هو العلم . وقال جعفر الصادق : ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت ، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة .
الجمعة : ( 11 ) وإذا رأوا تجارة . . . . .
وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بعير تحمل ميرة . قال مجاهد : وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها ، فدخلت بها ، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه ، وتركوه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً . قال جابر : أنا أحدهم . قال أبو بكر غالب بن عطية : هم العشرة المشهود لهم بالجنة ، والحادي عشر قيل : عمار . وقيل : ابن مسعود . وقيل : ثمانية ، قالوا : فنزلت : ) وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً ). وقرأ الجمهور : ) إِلَيْهَا ( بضمير التجارة ؛ وابن أبي عبلة : إليه بضمير اللهو ، وكلاهما جائز ، نص عليه الأخفش عن العرب . وقال ابن عطية : وقال إليها ولم يقل إليهما تهمماً بالأهم ، إذ كانت سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها . وتأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين . انتهى . وفي قوله : ) قَائِمَاً ( دلالة على مشروعية القيام في الخطبة . وأول من استراح في الخطبة عثمان ، وأول من خطب جالساً معاوية . وقرىء : إليهما بالتثنية للضمير ، كقوله تعالى : ) إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( ، وتخريجه على أن يتجوّز بأو ، فتكون بمعنى الواو ، وقد تقدّم غير هذا التخريج في قوله : ) فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( في موضعه في سورة النساء . وناسب ختمها بقوله : ) وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ ( ، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار ، كما تقدم في سبب النزول ، وقد ملأ المفسرون كثيراً من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن .(8/265)
" صفحة رقم 266 "
63
( سورة المنافقون )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاٌّ عَزُّ مِنْهَا الاٌّ ذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاأَخَّرْتَنِىإِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ) ) 2
المنافقون : ( 1 ) إذا جاءك المنافقون . . . . .
الجسم والخشب معرفان . أسندت ظهري إلى الحائط : أملته وأضفته إليه ، وتساند القوم : اصطفوا وتقابلوا للقتال .
( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ( سقط : إلى آخر الصفحة ) ((8/266)
" صفحة رقم 267 "
( سقط : الآية كاملة )
هذه السورة مدنية ، نزلت في غزوة بني المصطلق ، كانت من عبد الله بن أبيّ بن سلول وأتباعه فيها أقوال ، فنزلت . وسبب نزولها مذكور في قصة طويلة ، من مضمونها : أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء ، وذلك في غزوة بني المصطلق ، فشج أحدهما الآخر ، فدعا المشجوج : يا للأنصار ، والشاج : يا للمهاجرين ، فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول : ما حكى الله تعالى عنه من قوله : ) لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ( ، وقوله : ) لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( ، وعنى الأعز نفسه ، وكلاماً قبيحاً . فسمعه زيد بن أرقم ، ونقل ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عبد الله ، فحلف ما قال شيئاً من ذلك ، فاتهم زيد ، فأنزل الله تعالى ) إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ ( إلى قوله : ) لاَّ يَعْلَمُونَ ( ، تصديقاً لزيد وتكذيباً لعبد الله بن أبيّ .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلاً عن المنافقين ، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك ، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة ، إذ كان وقت مجاعة ، جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان ، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم : ) لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ( ، إذ كانوا هم أصحاب أموال ، والمهاجرون فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى . ) قَالُواْ نَشْهَدُ ( : يجري مجرى اليمين ، ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم ، وكذا فعل اليقين . والعلم يجري مجرى القسم بقوله : ) إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ( ، وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق ، وذلك بالاعتقاد ؛ فأكذبهم الله وفضحهم بقوله : ) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( : أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك ، واعتقادهم أنك غير رسول ، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم ، أو كاذبون عند أنفسهم ، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم : ) إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ( كذب . وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( ، إيذاناً أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقاً . ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم .
المنافقون : ( 2 ) اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .
( اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ ( : سمى شهادتهم تلك أيماناً . وقرأ الجمهور : أيمانهم ، بفتح الهمزة جمع يمين ؛ والحسن : بكسرها ، مصدر آمن . ولما ذكر أنهم كاذبون ، أتبعهم بموجب كفرهم ، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم ، كما قال بعض الشعراء : وما انتسبوا إلى الإسلام إلا
لصون دمائهم أن لا تسالا
ومن أيمانهم أيمان عبد الله ، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل ، وقال أعشى همدان : إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة
من المال سار القوم كل مسير
وقال الضحاك : اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم . وقال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم ، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم . وقال السدي : ) جَنَّةُ ( من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا ، ( فَصَدُّواْ ( : أي أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ،
المنافقون : ( 3 ) ذلك بأنهم آمنوا . . . . .
( ذالِكَ ( أي ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم . وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم ، ويحتمل أن تكون الإشارة(8/267)
" صفحة رقم 268 "
إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى : ساء عملهم بأن كفروا . وقال الزمخشري : ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا ، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان ، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا . وقرأ الجمهور : ) فَطُبِعَ ( مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل : أي فطبع الله ؛ وكذا قراءة الأعمش وزيد في رواية مصرحاً بالله . ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميراً يعود على المصدر المفهوم من ما قبله ، أي فطبع هو ، أي بلعبهم بالدين . ومعنى ) ءامَنُواْ ( : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ، ( ثُمَّ كَفَرُواْ ( : أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم : لئن كان محمد ما يقوله حقاً فنحن شر من الحمير ، وقولهم : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر ؟ هيهات ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم ، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد .
المنافقون : ( 4 ) وإذا رأيتهم تعجبك . . . . .
( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ( : الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو للسامع : أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم ، فكان منظرهم يروق ، ومنطقهم يحلو . وقرأ الجمهور : ) تُسْمِعُ ( بتاء الخطاب ؛ وعكرمة وعطية العوفي : يسمع بالياء مبنياً للمفعول ، و ) لِقَوْلِهِمْ ( : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وليست اللام زائدة ، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل ، تعدى باللام وليست زائدة ، فيكون قولهم هو المسموع . وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط ، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها ، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت ، أو شهوة بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان ، والجملة التشبيهية مستأنفة ، أو على إضمارهم . وقرأ الجمهور : ) خُشُبٌ ( بضم الخاء والشين ؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين ، تخفيف خشب المضموم . وقيل : جمع خشباء ، كحمر جمع حمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في فساد بواطنهم . وقرأ ابن المسيب وابن جبير : خشب بفتحتين ، اسم جنس ، الواحد خشبة ، وأنث وصفه كقوله : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ، أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام . وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير . قال الشاعر في مثل هؤلاء : لا تخدعنك اللحى ولا الصور
تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا
وليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه
له رواء وما له ثمر
وقيل : الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ، ويدل عليه : ) يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ( في موضع المفعول الثاني ليحسبون ، أي واقعة عليهم ، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب . قال مقاتل : كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان ، أو أخبروا بنزول وحي ، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم ، ونحو هذا قول الشاعر : يروعه السرار بكل أرض
مخافة أن يكون به السرار
وقال جرير : ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلاً تكر عليهم ورجالا
أنشده ابن عطية لجرير ، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل . قال : ويجوز أن يكون ) هُمُ الْعَدُوُّ ( المفعول(8/268)
" صفحة رقم 269 "
الثاني كما لو طرحت الضمير . فإن قلت : فحقه أن يقول : هي العدو . قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في هذا ربي ، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة . انتهى . وتخريج ) هُمُ الْعَدُوُّ ( على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة ، بل المتبادر إلى الذهن السليم أن يكون ) هُمُ الْعَدُوُّ ( إخباراً منه تعالى بأنهم ، وإن أظهروا الإسلام وأتباعهم ، هم المبالغون في عداوتك ؛ ولذلك جاء بعده أمره تعالى إياه بحذرهم فقال : ) فَاحْذَرْهُمْ ( ، فالأمر بالحذر متسبب عن إخباره بأنهم هم العدو . و ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( : دعاء يتضمن إبعادهم ، وأن يدعو عليهم المؤمنون بذلك . ) أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( : أي كيف يصرفون عن الحق ، وفيه تعجب من ضلالهم وجهلهم .
ولما أخبره تعالى بعداوتهم ، أمره بحذرهم ، فلا يثق بإظهار مودتهم ، ولا بلين كلامهم . و ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( : كلمة ذم وتوبيخ ، وقالت العرب : قاتله الله ما أشعره . يضعونه موضع التعجب ، ومن قاتله الله فهو مغلوب ، لأنه تعالى هو القاهر لكل معاند . وكيف استفهام ، أي كيف يصرفون عن الحق ولا يرون رشد أنفسهم ؟ قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا ، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا . انتهى . ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف ، بل لا بد يكون ظرفاً استفهاماً ، إما بمعنى أين ، أو بمعنى متى ، أو بمعنى كيف ، أو شرطاً بمعنى أين . وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها ، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه ، فالقول بذلك باطل .
المنافقون : ( 5 ) وإذا قيل لهم . . . . .
ولما صدق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول ، مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه ، وقال له بعضهم : امض إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) واعترف بذنبك يستغفر لك ، فلوّى رأسه إنكاراً لهذا الرأي ، وقال لهم : لقد أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت ، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر ، ورسول الله يطلب عاملان ، أحدهما ) يَسْتَغْفِرِ ( ، والآخر ) تَعَالَوْاْ ( ؛ فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب ، بخلاف عنهما : ) لَوَّوْاْ ( ، بفتح الواو ؛ وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى وأبو رجاء والأعرج وباقي السبعة : بشدها للتكثير . وليّ رءوسهم ، على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم ، هو استتابتهم من النفاق ، فيستغفر لهم ، إذ كان استغفاره متسبباً عن استتابتهم ، فيتوبون وهم يصدون عن المجيء واستغفار الرسول . وقرىء : يصدون ويصدون ، جملة حالية ، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم ، ( وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ( : جملة حالية أيضاً .
المنافقون : ( 6 ) سواء عليهم أستغفرت . . . . .
ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة ، سوى بين استغفاره لهم وعدمه . وحكى مكي أنه عليه الصلاة والسلام كان استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام . وقال ابن عباس : نزلت هذه بعد قوله تعالى في براءة أن تستغفر لهم سبعين مرة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( سوف أستغفر لهم زيادة على السبعين ) ، فنزلت هذه الآية ، فلم يبق للاستغفار وجه . وقرأ الجمهور : ) أَسْتَغْفَرْتَ ( بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام ، وطرح ألف الوصل ؛ وأبو جعفر : بمدة على الهمزة . قيل : هي عوض من همزة الوصل ، وهي مثل المدة في قوله : ) قُلْ مَا حَرَّمَ ( ، لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ، ولا يحتاج ذلك في الفعل ، لأن همزة الوصل فيه مكسورة . وعن أبي جعفر أيضاً : ضم ميم عليهم ، إذ أصلها الضم ، ووصل الهمزة . وروى معاذ بن معاذ العنبري ، عن أبي عمرو : كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ، ووصل الهمزة ، فتسقط في القراءتين ، واللفظ خبر ، والمعنى على الاستفهام ، والمراد التسوية ، وجاز حذف الهمزة لدلالة أم عليها ، كما دلت على حذفها في قوله :
بسبع رمينا الجمر أم بثمان(8/269)
" صفحة رقم 270 "
يريد : أبسبع . وقال الزمخشري : وقرأ أبو جعفر : آستغفرت ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلب همزة الوصل ألفاً كما في : آلسحر ، وآلله . وقال ابن عطية : وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : آستغفرت ، بمدة على الهمزة ، وهي ألف التسوية . وقرأ أيضاً : بوصل الألف دون همز على الخبر ، وفي هذا كله ضعف ، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر .
المنافقون : ( 7 ) هم الذين يقولون . . . . .
( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ ( : إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه ، سفه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم ، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى . ) لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( : إن كان الله تعالى حكى نص كلامهم ، فقولهم : ) عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( هو على سبيل الهزء ، كقولهم : ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( ، أو لكونه جرى عندهم مجرى اللعب ، أي هو معروف بإطلاق هذا اللفظ عليه ، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر . فالظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ ، ولكنه تعالى عبر بذلك عن رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إكراماً له وإجلالاً . وقرأ الجمهور : ) يَنفَضُّواْ ( : أي يتفرقوا عن الرسول ؛ والفضل بن عيسى : ينفضوا ، من انفض القوم : فني طعامهم ، فنفض الرجل وعاءه ، والفعل من باب ما يعدى بغير الهمزة ، وبالهمزة لا يتعدى . قال الزمخشري : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم .
المنافقون : ( 8 ) يقولون لئن رجعنا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( : فالأعز فاعل ، والأذل مفعول ، وهو من كلام ابن سلول ، كما تقدم . ويعني بالأعز : نفسه وأصحابه ، وبالأذل : المؤمنين . والحسن وابن أبي عبلة والسبي في اختياره : لنخرجن بالنون ، ونصب الأعز والأذل ، فالأعز مفعول ، والأذل حال . وقرأ الحسن ، فيما ذكر أبو عمر والداني : لنخرجن ، بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ، ونصب الأعز على الاختصاص ، كما قال : نحن العرب أقرى الناس للضيف ؛ ونصب الأذل على الحال ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم . وحكى الكسائي والفراء أن قوماً قرأوا : ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء ، فالفاعل الأعز ، ونصب الأذل على الحال . وقرىء : مبنياً للمفعول وبالياء ، الأعز مرفوع به ، الأذل نصباً على الحال . ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين ، فما كان منها بأل فعلى زيادتها ، لا أنها معرفة .
ولما سمع عبد الله ، ولد عبد الله بن أبي هذه الآية ، جاء إلى أبيه فقال : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) العزيز . فلما دنا من المدينة ، جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان فيما قال له : وراءك لا تدخلها حتى تقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أذن له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بتخليته . وفي هذا الحديث أنه قال لأبيه : لئن لم تشهد لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، فقال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . وقيل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما : أن فيك تيهاً ، فقال : ليس بتيه ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
المنافقون : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
( لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ( بالسعي في نمائها والتلذذ بجمعها ، ( وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( بسروركم بهم وبالنظر في مصالحهم في حياتكم وبعد مماتكم ، ( عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( : هو عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء . وقال نحواً منه الحسن وجماعة . وقال الضحاك وعطاء : أكد هنا الصلاة المكتوبة . وقال الحسن أيضاً : جميع الفرائض . وقال الكلبي : الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : القرآن . ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ( : أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد ، ( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ، حيث آثروا العاجل على الآجل ، والفاني على الباقي .
المنافقون : ( 10 ) وأنفقوا من ما . . . . .
( وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( ، قال الجمهور : المراد الزكاة . وقيل : عام في المفروض والمندوب . وعن ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة ، والله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله ؟ يسأل المؤمنون الكرة ، قال : نعم أنا أقرأ عليكم به قرآناً ، يعني أنها نزلت في المؤمنين ، وهم المخاطبون بها . ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى ( : أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل ؟ وقرأ الجمهور : فأصّدّق ، وهو منصوب على جواب الرغبة ؛ وأبي وعبد الله وابن جبير : فأتصدق على الأصل . وقرأ جمهور السبعة : ) وَأَكُن ( مجزوماً . قال الزمخشري : ) وَأَكُن ( بالجزم عطفاً على محل ) فَأَصَّدَّقَ ( ، كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن . انتهى . وقال ابن عطية : عطفاً على الموضع ، لأن التقدير : إن(8/270)
" صفحة رقم 271 "
تؤخرني أصدق وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي . فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا ، وهو أنه جزم وأكن على توهم الشرط الذي يدل عليه بالتمني ، ولا موضع هنا ، لأن الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع ، حيث يظهر الشرط كقوله تعالى : ) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ). فمن قرأ بالجزم عطف على موضع ) فَلاَ هَادِيَ لَهُ ( ، لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً . انتهى . والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم : أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره ، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود . وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو : وأكون بالنصب ، عطفاً على ) فَأَصَّدَّقَ ( ، وكذا في مصحف عبد الله وأبي . وقرأ عبيد بن عمير : وأكون بضم النون على الاستئناف ، أي وأنا أكون ، وهو وعد الصلاح .
المنافقون : ( 11 ) ولن يؤخر الله . . . . .
( وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً ( : فيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات حذاراً أن يجيء الأجل ، وقد فرط ولم يستعد للقاء الله . وقرأ الجمهور : ) تَعْمَلُونَ ( بتاء الخطاب ، للناس كلهم ؛ وأبو بكر : بالياء ، خص الكفار بالوعيد ، ويحتمل العموم .(8/271)
" صفحة رقم 272 "
64
( سورة التغابن )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِىأَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( )(8/272)
" صفحة رقم 273 "
التغابن : ( 1 - 2 ) يسبح لله ما . . . . .
التغابن : تفاعل من الغبن وليس من اثنين ، بل هو من واحد ، كتواضح وتحامل . والغبن : أخذ الشيء بدون قيمته ، أو بيعه كذلك . وقيل : الغبن : الإخفاء ، ومنه غبن البيع لاستخفائه ، ويقال : غبنت الثوب وخبنته ، إذا أخذت ما طال منه عن مقدارك ، فمعناه النفص .
( يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى شَىْء قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَئَامِنُواْ ).
هذه السورة مدنية في قول الأكثرين . وقال ابن عباس وغيره : مكية إلا آيات من آخرها : ) الْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ( الخ ، نزلت بالمدينة . وقال الكلبي : مدينة ومكية .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين ، وفي آخرها خطاب المؤمنين ، فأتبعه بما يناسبه من قوله : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( ، هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، وقوله تعالى : ) فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ). وقيل : ذانك في أصل الخلقة ، بدليل ما في حديث النطفة من قول الملك : أشقيّ أم سعيد ؟ والغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع يوم طبع كافراً . وما روى ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( خلق الله فرعون في البطن كافراً ) . وحكى يحيى بن زكريا : في البطن مؤمناً . وعن عطاء بن أبي رباح : ) فَمِنكُمْ كَافِرٌ ( بالله ، ( مُؤْمِنٍ ( بالكواكب ؛ ومؤمن بالله وكافر بالكوكب . وقدّم الكافر لكثرته . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( ؟ وحين ذكر الصالحين قال : ) وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ). وقال الزمخشري : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : ) وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ، والدليل عليه قوله تعالى : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( : أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم ، والمعنى : الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال أيضاً : وقيل : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ ( بالخلق : هم الدهرية ، ( وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( به . وعن الحسن : في الكلام حذف دل عليه تقديره : ومنكم فاسق ، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن . وتقدم الجار والمجرور في قوله : ) لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ( ، قال الزمخشري : ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له ، لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه ، والقائم به المهيمن عليه ؛ وكذلك الحمد ، لأن أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده .
التغابن : ( 3 ) خلق السماوات والأرض . . . . .
وقرأ الجمهور : ) صُوَرَكُمْ ( بضم الصاد ؛ وزيد بن عليّ وأبو رزين : بكسرها ، والقياس الضم ، وهذا تعديد للنعمة في حسن(8/273)
" صفحة رقم 274 "
الخلقة ، لأن أعضاء بني آدم متصرّفة بجميع ما تتصرّف فيه أعضاء الحيوان ، وبزيادة كثيرة فضل بها . ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح ، كما قال تعالى : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ). وقيل : النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة ، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل ، لا المعنى القائم بالصورة .
التغابن : ( 4 ) يعلم ما في . . . . .
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض ، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء ، لا من الكليات ولا من الجزئيات ، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله ، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم ، ثم ما خص منه ، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها ، وهذا كله في معنى الوعيد ، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب . وقرأ الجمهور : ) مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( بتاء الخطاب ؛ وعبيد عن أبي عمرو ، وأبان عن عاصم : بالياء .
التغابن : ( 5 ) ألم يأتكم نبأ . . . . .
( أَلَمْ يَأْتِكُمْ ( : الخطاب لقريش ، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها ، وقد سمعت قريش أخبارهم ، ( فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ( : أي مكروههم وما يسوؤهم منه .
التغابن : ( 6 ) ذلك بأنه كانت . . . . .
( ذالِكَ ( : أي الوبال ، ( بِأَنَّهُ ( : أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولاً ، كما استبعدت قريش ، فقالوا على سبيل الاستغراب : ) أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( ، وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية ، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا ؟ وارتفع ) أَبَشَرٌ ( عند الجوفي وابن عطية على الابتداء ، والخبر ) يَهْدُونَنَا ( ، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية ، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل ، فالمسألة من باب الاشتغال . ) فَكَفَرُواْ ( : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات ، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها ، بل عقبوا مجيئها بالكفر ، ( وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ( : استفعل بمعنى الفعل المجرد ، وغناه تعالى أزلي ، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم ، وليست استفعل هنا للطلب . وقال الزمخشري : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
التغابن : ( 7 ) زعم الذين كفروا . . . . .
والزعم : تقدم تفسيره ، والذين كفروا : أهل مكة ، وبلى : إثبات لما بعد حرف النفي ، ( وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( : أي لا يصرفه عنه صارف .
التغابن : ( 8 ) فآمنوا بالله ورسوله . . . . .
( فآمنوا بالله ورسوله ( : وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا ( : هو القرآن ،
التغابن : ( 9 ) يوم يجمعكم ليوم . . . . .
وانتصب ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ( بقوله : ) لَتُنَبَّؤُنَّ ( ، أو بخبير ، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء ، أو باذكر مضمرة ، قاله الزمخشري ؛ والأول عن النحاس ، والثاني عن الحوفي . وقرأ الجمهور : يجمعكم بالياء وضم العين ؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم ؛ وسلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي : بالنون . ) لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( : يجمع فيه الأولون والآخرون ، وذلك أن كل واحد يبعث طامعاً في الخلاص ورفع المنزلة . ) ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ( : مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً ، لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء ، وفي الحديث : ( ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ) ، وذلك معنى يوم التغابن . وعن مجاهد وغيره : إذا وقع الجزاء ، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار . وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه : نكفر وندخله بالنون فيهما ؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة : بالياء فيهما .
قوله عز وجل : ) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
التغابن : ( 11 ) ما أصاب من . . . . .
الظاهر إطلاق المصيبة(8/274)
" صفحة رقم 275 "
على الرزية وما يسوء العبد ، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل ، وخصت بالذكر ، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله . وقيل : ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر ، إذ الحكمة في كونها بأذن الله . وما نافية ، ومفعول أصاب محذوف ، أي ما أصاب أحداً ، والفاعل من مصيبة ، ومن زائدة ، ولم تلحق التاء أصاب ، وإن كان الفاعل مؤنثاً ، وهو فصيح ، والتأنيث لقوله تعالى : ) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ( ، وقوله : ) وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( ، أي بإرادته وعلمه وتمكينه . ) وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ( : أي يصدق بوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره ، ( يَهْدِ قَلْبَهُ ( على طريق الخير والهداية . وقرأ الجمهور : يهد بالياء ، مضارعاً لهدى ، مجزوماً على جواب الشرط . وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة : بالنون ؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر : يهد مبنياً للمفعول ، قلبه : رفع ؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار : يهدأ بهمزة ساكنة ، قلبه بالرفع : يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب . وعمرو بن فايد : يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة ؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً : يهد بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفاً في مثل يهدأ ويقرأ ، ليس بقياس خلافاً لمن أجاز ذلك قياساً ، وبنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم ، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى : جزى متى يظلم يعاقب بظلمه
سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم
أصله : يبدأ ، ثم أبدل من الهمزة ألفاً ، ثم حذفها للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل الجازم .
ولما قال تعالى : ) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( ،
التغابن : ( 12 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ،
التغابن : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة ، ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين ، وذلك في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه ، وأما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما ، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه . وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله ، وكم من ولد قتل أباه . وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير .
وعن عطاء بن أبي رباح : أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فاجتمع أهله وولده ، فثبطوه وشكوا إليه فراقة ، فرق ولم يغز ؛ إنه ندم بمعاقبتهم ، فنزلت : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية .
وقيل : آمن قوم بالله ، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة ، ولم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين ، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم ، فنزلت . وقيل : قالوا لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ؟ فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير . فلما هاجروا ، منعوهم الخير ، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة . ومن في ) مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ ( للتبعيض ، وقد توجد زوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه ، وكذلك الولد . وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطاً : إذا كان أولاد الرجال حزازة
فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانب منه دميث وجانب
إذا رامه الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزة
كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
وقال فرعان بن الأعرف في ابنه منازل ، وكان عاقاً له ، قصيدة فيها بعض طول منها : وربيته حتى إذا ما تركته
أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه(8/275)
" صفحة رقم 276 "
فلما رآني أحسب الشخص أشخصاً بعيداً وذا الشخص البعيد أقاربه تعمد حقي ظالماً ولوى يدي
لوى يده الله الذي هو غالبه
التغابن : ( 15 ) إنما أموالكم وأولادكم . . . . .
( إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ( : أي بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما . وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض ، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها ، وذلك لغلبة الفتنة بهما ، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب ، أحد من نزل فيه ، ومنهم من عاهد الله : ) لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ ( الآيات . وقد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة . وقد شاهدنا من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع ، فحين لاح له منصب وتولاه ، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه ، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيىء الطريقة ، ونعوذ بالله من الفتن . وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة ، ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( ، شغلتنا أموالنا وأهلونا . ) وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( : تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة . والأجر العظيم : الجنة .
التغابن : ( 16 ) فاتقوا الله ما . . . . .
( فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( ، قال أبو العالية : جهدكم . وقال مجاهد : هو أن يطاع فلا يعصى ، ( وَاسْمَعُواْ ( ما توعظون به ، ( وَأَطِيعُواْ ( فيما أمرتم به ونهيتم عنه ، ( وَأَنْفِقُواْ ( فيما وجب عليكم . و ) خَيْرًا ( منصوب بفعل محذوف تقديره : وأتوا خيراً ، أو على إضمار يكن فيكون خبراً ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي إنفاقاً خيراً ، أو على أنه حال ، أو على أنه مفعول بوأنفقوا خيراً ، أي مالاً ، أقوال ، الأول عن سيبويه .
التغابن : ( 17 ) إن تقرضوا الله . . . . .
ولما أمر بالإنفاق ، أكده بقوله : ) إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( ، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب . وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء ، وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى . ثم اتبع جوابى الشرط بوصفين : أحدهما عائد إلى المضاعفة ، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة ، وحلمه مقابل للغفران . قيل : وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة ، وقيل ، هو في المندوب إليه . وتقدم الخلاف في القراءة في ) يُوقَ ( وفي ) شُحَّ ( وفي ) يُضَاعِفْهُ ). (8/276)
" صفحة رقم 277 "
65
( سورة الطلاق )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْراً وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاٌّ حْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاٌّ رْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاٌّ مْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا ( ) ) 2
) الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن ).
الطلاق : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
هذه السورة مدنية . قيل : وسبب نزولها طلاق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حفصة ، قاله قتادة عن أنس . وقال السدي : طلاق عبد الله بن عمرو . وقيل : فعل ناس مثل فعله ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاصي ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذا وإن لم يصح ، فالقول الأول أمثل ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ .
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر الفتنة بالمال والولد ، أشار إلى الفتنة بالنساء ، وإنهن قد يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد مخلصاً منها إلا بالطلاق ، فذكر أنه ينفصل منهن بالوجه الجميل ، بأن لا يكون بينهن اتصال ، لا بطلب ولد ولا حمل .
( مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( : نداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه ، ( إِذَا طَلَّقْتُمُ ( : خطاب له عليه الصلاة والسلام مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم ، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب ، أقبل عليه السلام أولاً ، ثم رجع إليهم بالخطاب ، أو على إضمار القول ، أي قل لأمتك إذا طلقتم ، أو له ولأمته ، وكأنه ثم محذوف تقديره : يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم ، فالخطاب له ولهم ، أي أنت وأمتك ، أقوال . وقال الزمخشري : خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعمّ بالخطاب ، لأن النبي إمام إمته وقدوتهم . كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدره قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وساداً مسد جميعهم . انتهى ، وهو كلام حسن .
ومعنى ) إِذَا طَلَّقْتُمُ ( : أي إذا أردتم تطليقهن ، والنساء يعني : المدخول بهن ، وطلقوهن : أي أوقعوا الطلاق ، ( لِعِدَّتِهِنَّ ( : هو على حذف مضاف ، أي لاستقبال عدّتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : كتبته لليلة بقيت من شهر كذا ، وتقدير الزمخشري هنا حالاً محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور ، أي مستقبلات لعدتهن ، ليس بجيد ، لأنه قدر عاملاً خاصاً ، ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان(8/277)
" صفحة رقم 278 "
خاصاً ، بل إذا كان كوناً مطلقاً . لو قلت : زيد عندك أو في الدار ، تريد : ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار ، لم يجز . فتعليق اللام بقوله : ) فَطَلّقُوهُنَّ ( ، ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح .
وما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، رضي الله تعالى عنهم ، من أنهم قرؤا : فطلقوهن في قبل عدتهن ؛ وعن بعضهم : في قبل عدّتهن ؛ وعن عبد الله : لقبل طهرهن ، هو على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن ، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقاً وغرباً ، وهل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض ؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله : ) ثَلَاثَةَ قُرُوء ). والمراد : أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن ، فإن شاء ردها ، وإن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزوج ؛ وهذا الطلاق أدخل في السنة . وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكره الثلاث مجموعة أو مفرقة . وأبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا . وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث ، ولا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح ، راعى في السنة الوقت فقط ، وأبو حنيفة التفريق والوقت .
وقوله : ) فَطَلّقُوهُنَّ ( مطلق ، لا تعرض فيه لعدد ولا لوصف من تفريق أو جمع ؛ والجمهور : على أنه لو طلق لغير السنة وقع . وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين : أنه لو طلق في حيض أو ثلاث ، لم يقع . والظاهر أن الخطاب في ) وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ ( للأزواج : أي اضبطوا بالحفظ ، وفي الإحصاء فوائد مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الأقراء . وإذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، والعلم بأنها قد بانت ، فيتزوج بأختها وبأربع سواها .
ونهى تعالى عن إخراجهنّ من مساكنهنّ حتى تنقضي العدّة ، ونهاهنّ أيضاً عن خروجهنّ ، وأضاف البيوت إليهنّ لما كان سكناهنّ فيها ، ونهيهنّ عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج ، إذ لا أثر لإذنهم . والإسكان على الزوج ، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك ، أو ملكها فلها عليه أجرته ، وسواء في ذلك الرجعية والمبتوبة ، وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا تخرج عنه نهاراً إلا لضرورة ، وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء . ) إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مَّبْنِيَّةٌ ( : وهي الزنا ، عند قتادة ومجاهد والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث ، ورواه مجاهد عن ابن عباس ، فيخرجن للحد . وعن ابن عباس : البذاء على الاحماء ، فتخرج ويسقط حقها في السكنى ، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب . وعنده أيضاً : جميع المعاصي ، من سرقة ، أو قذف ، أو زنا ، أو غير ذلك ، واختاره الطبري ، فيسقط حقها في السكنى . وعند ابن عمر والسدي وابن السائب : هي خروجها من بيتها خروج انتقال ، فيسقط حقها في السكنى . وعند قتادة أيضاً : نشوزها عن الزوج ، فتطلق بسبب ذلك ، فلا يكون عليه سكنى ؛ وإذا سقط حقها من السكنى أتمت العدّة . ) لا تَدْرِى ( أيها السامع ، ( لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ( ، قال المفسرون : الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها ، والميل إليها بعد انحرافه عنها ؛ أو ظهور حمل فيراجعها من أجله . ونصب لا تدري على جملة الترجى ، فلا تدري معلقة عن العمل ، وقد تقدم لنا الكلام على قوله : ) وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ ( ، وذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات لعل ، فالجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري .
الطلاق : ( 2 - 3 ) فإذا بلغن أجلهن . . . . .
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( : أي أشرفن على انقضاء العدّة ، ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ( : أي راجعوهنّ ، ( بِمَعْرُوفٍ ( : أي بغير ضرار ، ( أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( : أي سرحوهنّ بإحسان ، والمعنى : اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ ، فيملكن أنفسهنّ . وقرأ الجمهور : ) أَجَلُهُنَّ ( على الإفراد ؛ والضحاك وابن سيرين : آجالهنّ على الجمع . والإمساك بمعروف : هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج ، والمفارقة بمعروف : هو أداء المهر والتمتيع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط . ) وَأَشْهِدُواْ ( : الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة ، أو المفارقة وهي الطلاق . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله : ) وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( ؛ وعند الشافعية واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة . وقيل : ) وَأَشْهِدُواْ ( : يريد على الرجعة فقط ، والإشهاد شرط في صحتها ، فلها منفعة من نفسها حتى يشهد . وقال ابن عباس : الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع عن النوازل أشكالاً كثيرة ، ويفسد تاريج الإشهاد من الإشهاد . قيل : وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا(8/278)
" صفحة رقم 279 "
يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الثاني ثبوت الزوجية ليرث . انتهى . ومعنى منكم ، قال الحسن : من المسلمين . وقال قتادة : من الأحرار . ) وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ( : هذا أمر للشهود ، أي لوجه الله خالصاً ، لا لمراعاة مشهود له ، ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق . ) ذالِكُمْ ( : إشارة إلى إقامة الشهادة ، إذ نوازل الأشياء تدور عليها ، وما يتميز المبطل من المحق .
( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( ، قال علي بن أبي طالب وجماعة : هي في معنى الطلاق ، أي ومن لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك ، ( يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجاً ( إن ندم بالرجعة ، ( وَيَرْزُقْهُ ( ما يطعم أهله . انتهى . ومفهوم الشرط أنه إن لم يتق الله ، فبت الطلاق وندم ، لم يكن له مخرج ، وزال عنه رزق زوجته . وقال ابن عباس : للمطلق ثلاثاً : إنك لم تتق الله ، بانت منك امرأتك ، ولا أرى لك مخرجاً . وقال : ) يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ( : يخلصه من كذب الدنيا والآخرة . والظاهر أن قوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( متعلق بأمر ما سبق من أحكام الطلاق . وروي أنها في غير هذا المعنى ، وهو أن أسر ابن يسمى سالماً لخوف بن مالك الأشجعي ، فشكا ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأمره بالتقوى فقبل ، ثم لم يلبث أن تفلت ولده واستاق مائة من الإبل ، كذا في الكشاف . وفي الوجيز : قطيعاً من الغنم كانت للذين أسروه ، وجاء أباه فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أيطيب له ؟ فقال : ( نعم ) ، فنزلت الآية . وقال الضحاك : من حيث لا يحتسب امرأة أخرى . وقيل : ومن يتق الحرام يجعل له مخرجاً إلى الحلال . وقيل : مخرجاً من الشدة إلى الرخاء . وقيل : من النار إلى الجنة . وقيل : من العقوبة ، ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب . وقال الكلبي : ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجاً إلى الجنة .
( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( : أي يفوض أمره إليه ، ( فَهُوَ حَسْبُهُ ( : أي كافيه . ) إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ( ، قال مسروق : أي لا بد من نفوذ أمر الله ، توكلت أم لم تتوكل . وقرأ الجمهور : بالغ بالتنوين ، أمره بالنصب ؛ وحفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي : بالإضافة ؛ وابن أبي عبلة أيضاً وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو : بالغ أمره ، رفع : أي نافذ أمره . والمفضل أيضاً : بالغاً بالنصب ، أمره بالرفع ، فخرجه الزمخشري على أن بالغاً حال ، وخبر إن هو قوله تعالى : ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ ( ، ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين ، كقوله : إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن
خطاك خفافاً أن حراسنا أسدا
ومن رفع أمره ، فمفعول بالغ محذوف تقديره : بالغ أمره ما شاء . ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً ( : أي تقديراً وميقاتاً لا يتعداه ، وهذه الجمل تحض على التوكل . وقرأ جناح بن حبيش : قدراً بفتح الدال ، والجمهور بإسكانها .
قوله عز وجل : ) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ ( سقط : فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينك ) َ ). (8/279)
" صفحة رقم 280 "
( سقط : بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ، لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا )
الطلاق : ( 4 ) واللائي يئسن من . . . . .
وروي أن قوماً ، منهم أبيّ بن كعب وخلاد بن النعمان ، لما سمعوا قوله : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء ( ، قالوا : يا رسول الله ، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر ؟ فنزلت هذه الآية ، فقال قائل : فما عدة الحامل ؟ فنزلت ) أُوْلَاتِ الاْحْمَالِ ). وقرأ الجمهور : ) يَئِسْنَ ( فعلاً ماضياً . وقرىء : بياءين مضارعاً ، ومعنى ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( في أنها يئست أم لا ، لأجل مكان ظهور الحمل ، وإن كان انقطع دمها . وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، أهو دم حيض أو استحاضة ؟ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك . وقدر بعضهم مبلغ اليأس بستين سنة ، وبعضهم بخمس وخمسين . وقيل : غالب سن يأس عشيرة المرأة . وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم . وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم ، لا ندري أهو دم حيض أو دم علة . وقيل : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن ، فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر . واختار الطبري أن معنى ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : شككتم فلم تدروا ما الحكم ، فقيل : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : أي إن تيقنتم إياسهن ، وهو من الأضداد . وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضها ، وقد انقطع عنها الدم ، وكانت مما يحيض مثلها . وقال مجاهد أيضاً : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( هو للمخاطبين ، أي إن لم تعلموا عدة الآيسة ، ( وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ ( ، فالعدة هذه ، فتلخص في قوله : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( قولان : أحدهما ، أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه ، وهو حصول الشك ؛ والآخر ، أن معناه التيقن للإياس ؛ والقول الأول معناه : إن ارتبتم في دمها ، أهو دم حيض أو دم علة ؟ أو إن ارتبتم في علوق بحمل أم لا ؛ أو إن ارتبتم : أي جهلتم عدتهن ، أقوال . والظاهر أن قوله : ) وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ ( يشمل من لم يحض لصغر ، ومن لا يكون لها حيض البتة ، وهو موجود في النساء ، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض . ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض فقيل : هذه تعتد سنة . ) وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ ( معطوف على ) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ ( ، فإعرابه مبتدأ كإعراب ) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ ( ، وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول ، أي عدتهن ثلاثة أشهر ، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك ، فيكون المقدر مفرداً جملة . ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( عام في المطلقة وفي المتوفي عنها زوجها ، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وفقهاء الأمصار . وقال علي وابن عباس : ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( في المطلقات ، وأما المتوفي عنها فعدتها أقصى الأجلين ، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها ، والحجة عليها حديث سبيعة . وقال ابن مسعود : من شاء لاعنته ، ما نزلت ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها . وقرأ الجمهور : ) حَمْلَهُنَّ ( مفرداً ؛ والضحاك : أحمالهن جمعاً .
الطلاق : ( 5 ) ذلك أمر الله . . . . .
( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ ( : يريد ما علم من حكم المعتدات . وقرأ الجمهور : ) وَيُعْظِمْ ( بالياء مضارع أعظم ؛ والأعمش : نعظم بالنون ، خروجاً من الغيبة للتكلم ؛ وابن مقسم : بالياء والتشديد مضارع عظم مشدداً .
ولما كان الكلام في أمر المطلقات وأحكامهن من العدد وغيرها ، وكن لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهن وكراهة ، جاء عقيب بعض الجمل الأمر بالتقوى من حيث المعنى ، مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( ، إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها به وينفر الخطاب عنها ، ويوهم أنه إنما فارقها لأمر ظهر له منها ، فلذلك تكرر قوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( في العمل بما أنزله من هذه الأحكام ، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار والنفقة على المعتدات وغير ذلك مما يلزمه ، يرتب له تكفير السيئات وإعظام الأجر .
الطلاق : ( 6 ) أسكنوهن من حيث . . . . .
ومن في ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ( للتبعيض : أي بعض مكان سكناكم . وقال قتادة : إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه ، قاله الزمخشري . وقال الحوفي : من لابتداء الغاية ، وكذا قال أبو البقاء . و ) مّن وُجْدِكُمْ ). قال الزمخشري : فإن قلت : فقوله : ) مّن وُجْدِكُمْ ). قلت : هو عطف بيان ، كقوله : ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ((8/280)
" صفحة رقم 281 "
وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه ، والوجد : الوسع والطاقة . انتهى . ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً من قوله : ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ).
وقرأ الجمهور : ) مّن وُجْدِكُمْ ( بضم الواو ؛ والحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتحها ؛ والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب : بكسرها ، وذكرها المهدوي عن الأعرج ، وهي لغات ثلاثة بمعنى : الوسع . والوجد بالفتح ، يستعمل في الحزن والغضب والحب ، ويقال : وجدت في المال ، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة ، ووجدت الضالة وجداناً والوجد بالضم : الغنى والقدرة ، يقال : افتقر الرجل بعد وجد . وأمر تعالى بإسكان المطلقات ، ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت . وأما المبتوتة ، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : لها السكنى ، ولا نفقة لها . وقال الثوري وأبو حنيفة : لها السكنى والنفقة . وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لا سكنى لها ولا نفقة . ) وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ ( : ولا تستعملوا معهن الضرار ، ( لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ ( في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج . وقيل : هذه المضارة مراجعتها إذا بقي من عدتها قليل ، ثم يطلقها فيطول حبسها في عدته الثانية . وقيل : إلجاؤها إلى أن تفتدي منه .
( وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ ( : لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها ، بتت أو لم تبت . فإن كانت متوفى عنها ، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها ؛ وعن علي وابن مسعود : تجب نفقتها في التركة . ) فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ( : أي ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة ، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن ، ويجوز عند الشافعي . وفي تعميم المطلقات بالسكنى ، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة ، وتشاركهن في السكنى . ) وائتمروا ( : افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً ؛ والخطاب للآباء والأمهات ، أي وليأمر بعضكم بعضاً ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( : أي في الأجرة والإرضاع ، والمعروف : الجميل بأن تسامح الأم ، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معاً ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليه . وقال الكسائي : ) وائتمروا ( : تشاوروا ، ومنه قوله تعالى : ) يامُوسَى إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( ، وقول امرىء القيس :
ويعدو على المرء ما يأتمر
وقيل : المعروف : الكسوة والدثار . ) وَإِن تَعَاسَرْتُمْ ( : أي تضايقتم وتشاكستم ، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية ، وأبي الزوج الزيادة ، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجاناً ، وأبت هي إلا بعوض ، ( فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( : أي يستأجر غيرها ، وليس له إكراهها . فإن لم يقبل إلا ثدي أمه ، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها ، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة ، بل المنكوحة في معناها . وقيل : فسترضع خبر في معنى الأمر ، أي فلترضع له أخرى . وفي قوله : ) فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم . والضمير في له عائد على الأب ، كما تعدى في قوله : ) فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ( : أي للأزواج .
الطلاق : ( 7 ) لينفق ذو سعة . . . . .
( لِيُنفِقْ ( الموسر والمقدور عليه ما بلغه وسعه ، أي على المطلقات والمرضعات ، ولا يكلف ما لا يطيقه . والظاهر أن المأمور بالإنفاق الأزواج ، وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم . وقال محمد بن المواز : إنها على الأبوين على قدر الميراث . وفي الحديث : ( يقول لك ابنك انفق عليّ إلى من تكلني ) ، ذكره في صحيح البخاري . وقرأ الجمهور : ) لِيُنفِقْ ( بلام الأمر ، وحكى أبو معاذ : لينفق بلام كي ونصب القاف ، ويتعلق بمحذوف تقديره : شرعنا ذلك لينفق . وقرأ(8/281)
" صفحة رقم 282 "
الجمهور : ) قُدِرَ ( مخففاً ؛ وابن أبي عبلة : مشدد الدال ، سيجعل الله وعد لمن قدر عليه رزقه ، يفتح له أبواب الرزق . ولا يختص هذا الوعد بفقراء ذلك الوقت ، ولا بفقراء الأزواج مطلقاً ، بل من أنفق ما قدر عليه ولم يقصر ، ولو عجز عن نفقة امرأته . فقال أبو هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يفرق بينهما . وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : لا يفرق بينهما .
قوله عز وجل : ) وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ ).
الطلاق : ( 8 - 10 ) وكأين من قرية . . . . .
تقدم الكلام على كأين في آل عمران ، وعلى نكراً في الكهف . ) عَتَتْ ( : أعرضت ، ( عَنْ أَمْرِ رَبّهَا ( ، على سبيل العناد والتكبر . والظاهر في ) فَحَاسَبْنَاهَا ( الجمل الأربعة ، إن ذلك في الدنيا لقوله بعدها : ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ( ، وظاهره أن المعد عذاب الآخرة ، والحساب الشديد هو الاستقصاء والمناقشة ، فلم تغتفر لهم زلة ، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب . وقيل : الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسر في الآخرة ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله : ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ( ، ويكون قوله : ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ( تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب . وقال الكلبي : الحساب في الآخرة ، والعذاب النكير في الدنيا بالجوع والقحط والسيف .
الطلاق : ( 11 ) رسولا يتلو عليكم . . . . .
ولما ذكر ما حل بهذه القرية العاتية ، أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيراً من عقابه ، ونبه على ما يحض على التقوى ، وهو إنزال الذكر . والظاهر أن الذكر هو القرآن ، وأن الرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فإما أن يجعل نفس الذكر مجازاً لكثرة يقدر منه الذكر ، فكأنه هو الذكر ، أو يكون بدلاً على حذف مضاف ، أي ذكر رسول . وقيل : ) رَسُولاً ( نعت على حذف مضاف ، أي ذكراً ، ذا رسول . وقيل : المضاف محذوف من الأول ، أي ذا ذكر رسولاً ، فيكون رسولاً نعتاً لذلك المحذوف أو بدلاً . وقيل : رسول بمعنى رسالة ، فيكون بدلاً من ذكر ، أو يبعده قوله بعده ) يَتْلُو عَلَيْكُمْ ( ، والرسالة لا تسند التلاوة إليها إلا مجازاً . وقى ل : الذكر أساس أسماء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الذكر : الشرف لقوله : ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( ، فيكون رسولاً بدلاً منه وبياناً له . وقال الكلبي : الرسول هنا جبريل عليه السلام ، وتبعه الزمخشري فقال : رسولاً هو جبريل صلوات الله وسلامه عليه ، أبدل من ذكراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، فصح إبداله منه . انتهى . ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة ، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال ، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكراً ورسولاً لشيء واحد . وقيل : رسولاً منصوب بفعل محذوف ، أي بعث رسولاً ، أو أرسل رسولاً ، وحذف لدلالة أنزل عليه ، ونحا إلى هذا السدي ، واختاره ابن عطية . وقال الزجاج وأبو علي الفارسي : يجوز أن يكون رسولاً معمولاً للمصدر الذي هو الذكر . انتهى . فيكون المصدر مقدراً بأن ، والقول(8/282)
" صفحة رقم 283 "
تقديره : إن ذكر رسولاً وعمل منوناً كما عمل ، أو ) إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ( ، كما قال الشاعر : بضرب بالسيوف رءوس قوم
أزلنا هامهن عن المقيل
وقرىء : رسول بالرفع على إضمار هو ليخرج ، يصح أن يتعلق بيتلو وبأنزل . ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي الذين قضى وقدر وأراد إيمانهم ، أو أطلق عليهم آمنوا باعتبار ما آل أمرهم إليه . وقال الزمخشري : ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ، لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ . انتهى . والضمير في ) لّيُخْرِجَ ( عائد على الله تعالى ، أو على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو على الذكر . ) وَمَن يُؤْمِن ( : راعى اللفظ أولاً في من الشرطية ، فأفرد الضمير في ) يُؤْمِنُ ( ، ( وَيَعْمَلْ ( ، و ) يُدْخِلْهُ ( ، ثم راعى المعنى في ) خَالِدِينَ ( ، ثم راعى اللفظ في ) قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ ( فأفرد . واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولاً ، ثم مراعاة المعنى ، ثم مراعاة اللفظ . وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا ، لأن الضمير في ) خَالِدِينَ ( ليس عائداً على من ، بخلاف الضمير في ) يُؤْمِنُ ( ، ( وَيَعْمَلْ ( ، و ) يُدْخِلْهُ ( ، وإنما هو عائد على مفعول ) يُدْخِلْهُ ( ، و ) خَالِدِينَ ( حال منه ، والعامل فيها ) يُدْخِلْهُ ( لا فعل الشرط .
الطلاق : ( 12 ) الله الذي خلق . . . . .
( اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( : لا خلاف أن السموات سبع بنص القرآن والحديث ، كما جاء في حديث الإسراء ، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لسعد : ( حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة ) ، وغيره من نصوص الشريعة . وقرأ الجمهور : ) مِثْلَهُنَّ ( بالنصب ؛ والمفضل عن عاصم ، وعصمة عن أبي بكر : مثلُهن بالرفع فالنصب ، قال الزمخشري : عطفاً على ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ). انتهى ، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف ، وهو الواو ، والمعطوف ؛ وهو مختص بالضرورة عند أبي عليّ الفارسي ، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه ، أي وخلق من الأرض مثلهن ، فمثلهن مفعول للفعل المضمر لا معطوف ، وصار ذلك من عطف الجمل والرفع على الابتداء ، ( وَمِنَ الاْرْضِ ( الخبر ، والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف . فقال الجمهور : المثلية في العدد : أي مثلهن في كونها سبع أرضين . وفي الحديث : ( طوقه من سبع أرضين ) ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ) ، فقيل : سبع طباق من غير فتوق . وقيل : بين كل طبقة وطبقة مسافة . قيل : وفيها سكان من خلق الله . قيل : ملائكة وجن . وعن ابن عباس ، من رواية الواقدي الكذاب ، قال : في كل أرض آدم كآدم ، ونوح كنوح ، ونبي كنبيكم ، وإبراهيم كإبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، وهذا حديث لا شك في وضعه . وقال أبو صالح : إنها سبع أرضين منبسطة ، ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينها البحار ، وتظل جميعها السماء .
( يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ ( : من السموات السبع إلى الأرضين السبع . وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي ، فبينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة . وقال الأكثرون : الأمر : القضاء ، فبينهن إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها . وقيل : ) يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ ( بحياة وموت وغنى وفقر . وقى ل : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبير . وقرأ الجمهور : ) يَتَنَزَّلُ ( مضارع تنزل . وقرأ عيسى وأبو عمر ، وفي رواية : ينزل مضارع نزل مشدّداً ، الأمر بالنصب ؛ والجمهور : ) لّتَعْلَمُواْ ( بتاء الخطاب . وقرىء : بياء الغيبة ، والله تعالى أعلم .(8/283)
" صفحة رقم 284 "
66
( سورة التحريم )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِىأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ) ) 2
) عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ ).
التحريم : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
هذه السورة مدنية ، وسبب نزولها ما يأتي ذكره في تفسير أوائلها ، والمناسبة بينها وبين السورة قبلها أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين ، ذكر هنا ما جرى من بعض زوجات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( : نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم ؛ ) لِمَ تُحَرّمُ ( : سؤال تلطف ، ولذلك قدم قبله ) مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( ، كما جاء في قوله تعالى : ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ). ومعنى ) تُحَرّمُ ( : تمنع ، وليس التحريم المشروع بوحي من الله ، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة . ) مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( : هو مباشرة مارية جاريته ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) ألمّ بها في بيت بعض نسائه ، فغارت من ذلك صاحبة البيت ، فطيب خاطرها بامتناعه منها ، واستكتمها ذلك ، فأفشته إلى بعض نسائه . وقيل : هو عسل كان يشربه عند بعض نسائه ، فكان ينتاب بيتها لذلك ، فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل ، وتواصين على أن يذكرن له على أن رائحة ذلك العسل ليس بطيب ، فقال : ( لا أشربه ) . وللزمخشري هنا كلام أضربت عنه صفحاً ، كما ضربت عن كلامه في قوله : ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( ، وكلامه هذا ونحوه محقق قوي فيه ، ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقاً .
فلو حرم الإنسان على نفسه شيئاً أحله الله ، كشرب عسل ، أو وطء سرية ؛ واختلفوا إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو الحلال على حرام ، ولا يستثني زوجته ؛ فقال جماعة ، منهم الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ : هو(8/284)
" صفحة رقم 285 "
كتحريم الماء والطعام . وقال تعالى : ) لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( ، والزوجة من الطيبات ومما أحله الله . وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن عباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها . وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين . وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون : هذا ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد طلاقها فهو لا شيء . وقال آخرون : كذلك ، فإن لم يرد فهو يمين . وفي التحرير ، قال أبو حنيفة وأصحابه : إن نوى الطلاق فواحدة بائنة ، أو اثنين فواحدة ، أو ثلاثاً فثلاث ، أو لم ينو شيئاً فيمين وهو مول ، أو الظهار فظهار . وقال ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقاً . وقال يحيى بن عمر : يكون ، فإن ارتجعها ، فلا يجوز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار فما زاد من أعداده ، فإن نوى واحدة فرجعية ، وهو قول الشافعي . وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أي أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئاً ، فقال سفيان : لا شيء عليه . وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة . وقال الزهري : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، فإن لم ينو فلا شيء . وقال ابن جبير : عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهاراً . وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ، ففيه كفارة . وقال الشافعي : إن نوى أنها محرمة كظهر أمه ، فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق ، أو لم ينو فكفارة يمين . وقال مالك : هي ثلاث في المدخول بها ، وينوى في غير المدخول بها ، فهو ما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث . وقاله علي وزيد وأبو هريرة . وقيل : في المدخول بها ثلاث ، قاله عليّ أيضاً وزيد بن أسلم والحكم . وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ، ولا ينوي في شيء . وروى ابن خويز منداد عن مالك ، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان : إنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها . وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : هي واحدة رجعية . وقال أبو مصعب ومحمد بن الحكم : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث . وفي الكشاف لا يراه الشافعي يميناً ، ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي . وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي : ثلاث ؛ وعن زيد : واحدة ؛ وعن عثمان : ظهاراً . انتهى . وقال أيضاً : ولم يثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال لما أحله : ( هو حرام علي ) ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه ، وهو قوله : ( والله لا أقربها بعد اليوم ) ، فقيل له : ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( : أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ؟ يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر ، ونحو قوله تعالى : ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ( : أي منعناه منها . انتهى . و ) تَبْتَغِى ( : في موضع الحال . وقال الزمخشري تفسير لتحرم ، أو استئناف ، ( مَرْضَاتَ ( : رضا أزواجك ، أي بالامتناع مما أحله الله لك .
التحريم : ( 2 ) قد فرض الله . . . . .
( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ( : الظاهر أنه كان حلف على أنه يمتنع من وطء مارية ، أو من شرب ذلك العسل ، على الخلاف في السبب ، وفرض إحالة على آية العقود ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . وتحلة : مصدر حلل ، كتكرمة من كرم ، وليس مصدراً مقيساً ، والمقيس : التحليل والتكريم ، لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل ، وأصل هذا تحللة فأدغم . وعن مقاتل : أعتق رقبة في تحريم مارية . وعن الحسن : لم يكفر . انتهى . فدل على أنه لم يكن ثم يمين .
التحريم : ( 3 ) وإذ أسر النبي . . . . .
و ) بَعْضِ أَزْواجِهِ ( : حفصة ، والحديث هو بسبب مارية . ) فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ( : أي أخبرت عائشة . وقيل : الحديث إنما هو : ( شربت عسلاً ) . وقال ميمون بن مهران : هو إسراره إلى حفصة أن أبا بكر وعمر يملكان إمرتي من بعدي خلافه . وقرأ الجمهور : ) فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ( ؛ وطلحة : أنبأت ، والعامل في إذا : اذكر ، وذكر ذلك على سبيل التأنيب لمن أسرّ له فأفشاه . ونبأ وأنبأ ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما ، وإلى ثان بحرف الجر ، ويجوز حذفه فتقول : نبأت به ، المفعول الأول محذوف ، أي غيرها . و ) مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا ( : أي بهذا ، ( قَالَ نَبَّأَنِىَ ( أي نبأني به أو نبأنيه ، فإذا ضمنت معنى أعلم ، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ، نحو قول الشاعر(8/285)
" صفحة رقم 286 "
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها
تهدي إليّ غرائب الأشعار
) وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ( : أي أطلعه ، أي على إفشائه ، وكان قد تكوتم فيه ، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام . وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى إليها بالسر ، حياطة وصوناً عن التصريح بالاسم ، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض . وقرأ الجمهور : ) عَرَّفَ ( بشد الرّاء ، والمعنى : أعلم به وأنب عليه . وقرأ السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه : بخف الراء ، أي جازى بالعتب واللوم ، كما تقول لمن يؤذيك : لأعرفن لك ذلك ، أي لأجازينك . وقيل : إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها . وقيل : عاتبها ولم يطلقها . وقرأ ابن المسيب وعكرمة : عراف بألف بعد الراء ، وهي إشباع . وقال ابن خالويه : ويقال إنها لغة يمانية ، ومثالها قوله : أعوذ بالله من العقراب
الشائلات عقد الأذناب
يريد : من العقرب . ) وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ( : أي تكرماً وحياء وحسن عشرة . قال الحسن : ما استقصى كريم قط . وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، ومفعول عرّف المشدد محذوف ، أي عرّفها بعضه ، أي أعلم ببعض الحديث . وقيل : المعرّف خلافة الشيخين ، والذي أعرض عنه حديث مارية . ولما أفشت حفصة الحديث لعائشة واكتتمتها إياه ، ونبأها الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) به ، ظنت أن عائشة فضحتها فقالت : ) مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا ( على سبيل التثبت ، فأخبرها أن الله هو الذي نبأه به ، فسكنت وسلمت .
التحريم : ( 4 ) إن تتوبا إلى . . . . .
( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ( : انتقال من غيبة إلى خطاب ، ويسمى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة . ) فَقَدْ صَافَّاتٍ ( : مالت عن الصواب ، وفي حرف عبد الله : راغت ، وأتى بالجمع في قوله : ) قُلُوبُكُمَا ( ، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى ، وهو ضميراهما ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى ، والتثنية دون الجمع ، كما قال الشاعر : فتخالسا نفسيهما بنوافذ
كنوافذ العبط التي لا ترفع
وهذا كان القياس ، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع ، لأن التثنية جمع في المعنى ، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر ، كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد : بطني . وغلط ابن مالك فقال في كتاب التسهيل : ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية . وقرأ الجمهور : تظاهرا بشد الظاء ، وأصله تتظاهرا ، وأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ عكرمة ، وبتخفيف الظاء قرأ أبو رجاء والحسن وطلحة وعاصم ونافع في رواية ، وبشد الظاء والهاء دون ألف قرأ أبو عمرو في رواية ، والمعنى : وأن تتعاونا عليه في إفشاء سره والإفراط في الغيرة ، ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ( : أي مظاهره ومعينه ، والأحسن الوقف على قوله : ) مَوْلاهُ ). ويكون ) وَجِبْرِيلُ ( مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر ) ظَهِيرٍ ). فيكون ابتداء الجملة بجبريل ، وهو أمين وحي(8/286)
" صفحة رقم 287 "
الله واختتامه بالملائكة . وبدىء بجبريل ، وأفرد بالذكر تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عند الله . ويكون قد ذكر مرتين ، مرة بالنص ومرة في العموم . واكتنف صالح المؤمنين جبريل تشريفاً لهم واعتناء بهم ، إذ جعلهم بين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون . فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لا في الولاية ، ويختص الرسول بأن الله هو مولاه . وجوزوا أن يكون ) وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ( عطفاً على اسم الله ، فيدخلان في الولاية ، ويكون ) وَالْمَلَئِكَةُ ( مبتدأ ، والخبر ) ظَهِيرٍ ( ، فيكون جبريل داخلاً في الولاية بالنص ، وفي الظهراء بالعموم ، والظاهر عموم وصالح المؤمنين فيشمل كل صالح . وقال قتادة والعلاء بن العلاء بن زيد : هم الأنبياء ، وتكون مظاهرتهم له كونهم قدوة ، فهم ظهراء بهذا المعنى . وقال عكرمة والضحاك وابن جبير ومجاهد : المراد أبو بكر وعمر ، وزاد مجاهد : وعلي بن أبي طالب . وقيل : الصحابة . وقيل : الخلفاء . وعن ابن جبير : من يرىء من النفاق ، وصالح يحتمل أن يراد به الجمع ، وإن كان مفرداً فيكون كالسامر في قوله : ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً ( ، أي سماراً . ويحتمل أن يكون جمعاً حذفت منه الواو خطأ لحذفها لفظاً ، كقوله : ) سَنَدْعُ ( ، وأفرد الظهير لأن المراد فوج ظهير ، وكثيراً ما يأتي فعيل نحو : هذا للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد ، كأنهم في الظاهرة يد واحدة على من يعاديه ، فما قد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، وذلك إشارة إلى تظاهرهما ، أو إلى الولاية .
وفي الحديث أن عمر قال : يا رسول الله لا تكترث بأمر نسائك ، والله معك ، وجبريل معك ، وأبو بكر وأنا معك ، فنزلت .
التحريم : ( 5 ) عسى ربه إن . . . . .
وروي عنه أنه قال لزوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ ( الآية ، فنزلت . وقرأ الجمهور : طلقكن بفتح القاف ، وأبو عمرو في رواية ابن عباس : بإدغامها في الكاف ، وتقدم ذكر الخلاف في ) أَن يُبْدِلَهُ ( في سورة الكهف ، والمتبدل به محذوف لدلالة المعنى عليه ، تقديره : أن يبدله خيراً منكن ، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن ، واللواتي يبدلهن بهذه الأوصاف يكن خيراً منهن . وبدأ في وصفهن بالإسلام ، وهو الانقياد ؛ ثم بالإيمان ، وهو التصديق ؛ ثم بالقنوت ، وهو الطواعية ؛ ثم بالتوبة ، وهي الإقلاع عن الذنب ؛ ثم بالعبادة ، وهي التلذذ ؛ ثم بالسياحة ، وهي كناية عن الصوم ، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك . وقيل : إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسره بذلك ، قاله أيضاً الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن . قال الفراء والقتبي : سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام . وقال زيد بن أسلم ويمان : مهاجرات . وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة . وقيل : ذاهبات في طاعة الله . وقرأ الجمهور : سائحات ، وعمرو بن فائد : سيحات ، وهذه الصفات تجتمع ، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان ، فلذلك عطف أحدهما على الآخر ، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى . وذكر الجنسين لأن في أزواجه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من تزوجها بكراً ، والثيب : الراجع بعد زوال العذرة ، يقال : ثابت تثوب ثووباً ، ووزنه فعيل كسيد .
التحريم : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما وعظ أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) موعظة خاصة ، أتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم ، وعطف ) وَأَهْلِيكُمْ ( على ) أَنفُسَكُمْ ( ، لأن رب المنزل راع وهو مسؤول عن أهله . ومعنى وقايتهم : حملهم على طاعته وإلزامهم أداء ما فرض عليهم . قال عمر : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ قال : ( تنهونهن عما نهاكم الله تعالى عنه ، وتأمرونهن بما أمركم الله به ، فتكون ذلك وقاية بينهن وبين النار ) ، ودخل الأولاد في ) وَأَهْلِيكُمْ ). وقيل : دخلوا في ) أَنفُسَكُمْ ( لأن الولد بعض من أبيه ، فيعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي . وقرىء : وأهلوكم بالواو ، وهو معطوف على الضمير في ) قُواْ ( وحسن العطف للفصل بالمفعول . وقال الزمخشري : فإن قلت : أليس التقدير قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم ؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم . لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه . فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب . انتهى . وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليق أهلوكم فجعله من عطف الجمل ، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب ، وكذا في قوله : ) اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ( ، ثم قال : ولكن المعطوف مقارن(8/287)
" صفحة رقم 288 "
في التقدير للواو ، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناً في التقدير للواو ، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق ، وتقدم الخلاف في فتح الواو في قوله : ) وَقُودُهَا ( وضمها في البقرة . وتفسير ) وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ( في البقرة ) عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ ( : هي الزبانية التسعة عشر وأعوانهم . ووصفهم بالغلظ ، إما لشدة أجسامهم وقوتها ، وإما لفظاظتهم لقوله : ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ ( ، أي ليس فيهم رقة ولا حنة على العصاة . وانتصب ) مَا أَمَرَهُمْ ( على البدل ، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى : ) أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ( ، أو على إسقاط حرف الجر . أي فيما أمرهم ) وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ). قيل : كرر المعنى توكيداً . وقال الزمخشري : فإن قلت : أليس الجملتان في معنى واحد ؟ قلت : لا فإن معنى الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يودون ما يؤمرون ، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه .
التحريم : ( 7 ) يا أيها الذين . . . . .
( لاَ تَعْتَذِرُواْ ( : خطاب لهم عند دخولهم المنار ، لأنهم لا ينفعهم الاعتذار ، فلا فائدة فيه .
قوله عز وجل : ) تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ).
التحريم : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . .
ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولاً . وروي عن عمر وعبد الله وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعه معاذ إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ الجمهور : ) نَّصُوحاً ( بفتح النون ، وصفاً لتوبة ، وهو من أمثلة المبالغة ، كضروب وقتول . وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع : بضمها ، هو مصدر وصف به ، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز ، إذ النصح صفة التائب ، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة ، فيأتي بها على طريقها ، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها ، من قولهم : عسل ناصح ، أي خالص من الشمع ، أو من النصاحة وهي الخياطة ، أي قد أحكمها وأوثقها ، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه .
وسمع عليّ أعرابياً يقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين ، قال : وما التوبة ؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وعلى الفرائض الإعادة ، ورد المظالم واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعودوا ، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه . انتهى . ونصوحاً من نصح ، فاحتمل وهو الظاهر أن تكون التوبة تنصح نفس التائب ، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس ، أي يدعوهم إلى مثلها لظهور أمرها على صاحبها . وقرأ(8/288)
" صفحة رقم 289 "
زيد بن علي : توباً بغير تاء ، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كما قدمناه ، وجاز أن يكون مفعولاً له ، أي توبوا لنصح أنفسكم . وقرأ الجمهور : ) وَيُدْخِلْكُمْ ( عطفاً على ) أَن يُكَفّرَ ). وقال الزمخشري : عطفاً على محل عسى أن يكفر ، كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيآتكم ويدخلكم . انتهى . والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفاً وتشبيهاً لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة ، تقول في قمع ونطع : قمع ونطع .
( يَوْمٌ لاَّ ( منصوب بيدخلكم ، ولا يجزي تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر ، والنبي هو محمد رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) تضرع إلى الله عز وجل في أمر أمته ، فأوحى الله تعالى إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : يا رب أنت أرحم بهم ) ، فقال تعالى : إذاً لا أخزيك فيهم . وجاز أن يكون : ) مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ( معطوفاً على ) النَّبِىّ ( ، فيدخلون في انتفاء الخزي . وجاز أن يكون مبتدأ ، والخبر ) نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ). وقرأ سهل بن شعيب وأبو حيوة : وبإيمانهم بكسر الهمزة ، وتقدم في الحديث . ) يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ). قال ابن عباس والحسن : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين . وقال الحسن أيضاً : يدعونه تقرباً إليه ، كقوله : ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( ، وهو مغفور له . وقيل : يقوله من يمر على الصراط زحفاً وحبوا . وقيل : يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه .
التحريم : ( 9 ) يا أيها النبي . . . . .
( ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ( : تقدم نظير هذه الآية في التوبة .
التحريم : ( 10 ) ضرب الله مثلا . . . . .
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر ، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن ، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ( ؟ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين . وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله : ) عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا ( ، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى . ولم يأت التركيب بالضمير عنهما ، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله : ) صَالِحِينَ ( ، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ، وفي قول يوسف عليه السلام : ) وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( ، وقول سليمان عليه الصلاة والسلام : ) وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ). ) فَخَانَتَاهُمَا ( ، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام : هو مجنون ، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف ، قاله ابن عباس . وقال : لم تزن امرأة نبي قط ، ولا ابتلي في نسائه بالزنا . قال في التحرير : وهذا إجماع من المفسرين ، وفي كتاب ابن عطية . وقال الحسن في كتاب النقاش : فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره . وقال الزمخشري : ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر ، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً . وقال الضحاك : خانتاهما بالنميمة ، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين ، وقيل : خانتاهما بنفاقهما . قال مقاتل : اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة . ) فَلَمْ يُغْنِينَا ( بياء الغيبة ، والألف ضمير نوح ولوط : أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة . ) وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ ( : أي وقت موتهما ، أو يوم القيامة ؛ ) مَعَ الدخِلِينَ ( : الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط . وقرأ مبشر بن عبيد : تغنيا بالتاء ، والألف ضمير المرأتين ، ومعنى ) عَنْهُمَا ( : عن أنفسهما ، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما ، كهي في : دع عنك ، لأنها إن كانت حرفاً ، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور ، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل ، وذلك لا يجوز .
التحريم : ( 11 ) وضرب الله مثلا . . . . .
( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ( : مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ الله تعالى والمدعي الإلهية ، بل نجاها منه إيمانها ؛ وبحال مريم ، إذ أوتيت من كرامة الله تعالى في الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفاراً . ) إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( : هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث . قيل : كانت عمة موسى عليه السلام ، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة . طلبت من ربها القرب من رحمته ، وكان ذلك أهم عندها ، فقدمت(8/289)
" صفحة رقم 290 "
الظرف ، وهو ) عِندَكَ بَيْتاً ( ، ثم بينت مكان القرب فقالت : ) فِى الْجَنَّةِ ). وقال بعض الظرفاء : وقد سئل : اين في القرآن مثل قولهم : الجار قبل الدار ؟ قال : قوله تعالى ) ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( ، فعندك هو المجاورة ، وبيتاً في الجنة هو الدار ، وقد تقدم ) عِندَكَ ( على قوله : ) بَيَاتًا ). ) وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ ( ، قيل : دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام . وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها ، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت . وقال الحسن : لما دعت بالنجاة ، نجاها الله تعالى أكرم نجاة ، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم . وقيل : لما قالت : ) ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( ، أريت بيتها في الجنة يبنى ، ( وَعَمَلِهِ ( ، قيل : كفره . وقيل : عذابه وظلمه وشماتته . وقال ابن عباس : الجماع . ) وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ، قال : أهل مصر ، وقال مقاتل : القبط ، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى الله تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها ، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء .
التحريم : ( 12 ) ومريم ابنة عمران . . . . .
( وَمَرْيَمَ ( : معطوف على امرأة فرعون ، ( ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( : تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقرأ الجمهور : ابنت بفتح التاء ؛ وأيوب السختياني : ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف . وقرأ الجمهور : ) فَنَفَخْنَا فِيهِ ( : أي في الفرج ؛ وعبد الله : فيها ، كما في سورة الأنبياء ، أي في الجملة . وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن . وقرأ الجمهور : ) وَصَدَّقَتْ ( بشد الدال ؛ ويعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم : بخفها ، أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام ، وما أظهر الله له من الكرامات . وقرأ الجمهور : وكلماته جمعاً ، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره ، وسماها كلمات لقصرها ، ويكون المراد بكتبه : الكتب الأربعة . واحتمل أن تكون الكلمات : ما كلم الله تعالى به ملائكته وغيرهم ، وبكتبه : جميع ما يكتب في اللوح وغيره . واحتمل أن تكون الكلمات : ما صدر في أمر عيسى عليه السلام . وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري : بكلمة على التوحيد ، فاحتمل أن يكون اسم جنس ، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى ، لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم . وقرأ أبو عمرو وحفص : وكتبه جمعاً ، ورواه كذلك خارجة عن نافع . وقرأ باقي السبعة : وكتابه على الإفراد ، فاحتمل أن يراد به الجنس ، وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى . وقرأ أبو رجاء : وكتبه . قال ابن عطية : بسكون التاء وكتبه ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل . وقال صاحب اللوامح أبو رجاء : وكتبه بفتح الكاف ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم . قال سهل : وكتبه أجمع من كتابه ، لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس ، فالكتب عام ، والكتاب هو الإنجيل فقط . انتهى .
( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( : غلب الذكورية على التأنيث ، والقانتين شامل للذكور والإناث ، ومن للتبعيض . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين ، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى ، صلوات الله وسلامه عليهما ، وقال يحيى بن سلام : مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران ترغيباً في التمسك بالطاعات والثبات على الدّين . انتهى . وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذا وحسنه وزمكه بفصاحة فقال : وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه . ومن التغليظ قوله : ) وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين . والتعريض بحفصة أرج ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . انتهى . وقال ابن عطية : وقال بعض الناس : إن في المثلين عبرة لزوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين تقدم عتابهن ، وفي هذا بعد ، لأن النص أنه للكفار يبعد هذا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(8/290)
" صفحة رقم 291 "
6
( سورة الملك )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىأَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاًّصْحَابِ السَّعِيرِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاٌّ رْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِىأَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ( ) ) 2
) تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ ).
الملك : ( 1 - 2 ) تبارك الذي بيده . . . . .
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ضرب للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة ، وإن كانتا تحت نبيين ، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم ، وهما محتوم لهما بالجنة ، وإن كان قوماهما كافرين . كان ذلك تصرّفاً في ملكه على ما سبق قضاؤه ، فقال : ) تَبَارَكَ ( : أي تعالى وتعاظم ، ( الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( : وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وكثيراً ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله : ) فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء ( ، ( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( ، وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك ، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك ، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل . وعن ابن عباس : ملك الملوك لقوله تعالى : ) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ( ، وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس . ومعنى ) خَلَقَ الْمَوْتَ ( : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة ، استعارة من فعل المختبر . وفي الحديث أنه فسر ) أَيُّكُم(8/291)
" صفحة رقم 292 "
ْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( : أي أحسنكم عقلاً وأشدّكم خوفاً وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً ، وإن كان أقلكم تطوعاً . وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا . وقيل : كنى بالموت عن الدنيا ، إذ هو واقع فيها ، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها ، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة ، وصفهما بالمصدرين ، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس . وليبلوكم متعلق بخلق . ) وَإِيَّاكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( مبتدأ وخبر ، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله ، وهو معلق عنها تقديره : فينظر ، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين تعلق قوله : ) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( بفعل البلوى ؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملاً . فإن قلت : أيسمى هذا تعليقاً ؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به ؟ ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان ، كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً . انتهى . وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً ، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول ، وجاءت بعده جملة استفهامية ، أو بلام الابتداء ، أو بحرف نفي ، كانت الجملة معلقاً عنها الفعل ، وكانت في موضع نصب ، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل . وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى : ) لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ( ،
الملك : ( 3 - 4 ) الذي خلق سبع . . . . .
وانتصب ) طِبَاقاً ( على الوصف السبع ، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقاً لقولهم : النعل خصفها طبقاً على طبق ، وصف به على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي ذا طباق ؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال ، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب ، والمعنى : بعضها فوق بعض .
وما ذكر من مواد هذه السموات . فالأولى من موج مكفوف ، والثانية من درّة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح ، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح ، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه ، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا . ) مِن تَفَاوُتٍ ( ، قال ابن عباس : من تفرّق . وقال السدّي : من عيب . وقال عطاء بن يسار : من عدم استواء . وقال ثعلب : أصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً من الخلل . وقيل : من اضطراب . وقيل : من اعوجاج . وقيل : من تناقض . وقيل : من اختلاف . وقيل : من عدم التناسب والتفاوت ، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص . قال بعض الأدباء : تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى
بهن اختلافاً بل أتين على قدر
وقرأ الجمهور : ) مِن تَفَاوُتٍ ( ، بألف مصدر تفاوت ؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش : بشدّ الواو ، مصدر تفوّت . وحكى أبو زيد عن العربي : تفاوتاً بضم الواو وفتحها وكسرها ، والفتح والكسر شاذان . والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها ، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور ، بل كل جار على الإتقان . وقيل : المراد في ) خَلْقِ الرَّحْمَنِ ( السموات فقط ، والظاهر أن قوله تعالى : ) مَّا تَرَى ( استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت ، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله : ) طِبَاقاً ( ، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : ) خَلْقِ الرَّحْمَنِ ( تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب . انتهى . والخطاب في ترى لكل مخاطب ، أو للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولما(8/292)
" صفحة رقم 293 "
أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه ، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال : ) فَارْجِعِ ( ، ففي الفاء معنى التسبب ، والمعنى : أن العيان يطابق الخبر . و ) الفطور ( ، قال مجاهد : الشقوق ، فطر ناب البعير : شق اللحم وظهر ، قال الشاعر : بنى لكم بلا عمد سماء
وسوّاها فما فيها فطور
وقال أبو عبيدة : صدوع ، وأنشد قول عبيد بن مسعود : شققت القلب ثم رددت فيه
هواك فليط فالتأم الفطور
وقال السدي : خروق . وقال قتادة : خلل ، ومنه التفطير والانفطار . وقال ابن عباس : وهن وهذه تفاسير متقاربة ، والجملة من قوله : ) الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( في موضع نصب بفعل معلق محذوف ، أي فانظر هل ترى ، أو ضمن معنى ) فَارْجِعِ الْبَصَرَ ( معنى فانظر ببصرك هل ترى ؟ فيكون معلقاً . ) ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ ( : أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد ، بل يراد بها التكرار ، كأنه قال : كرة بعد كرة ، أي كرات كثيرة ، كقوله : لبيك ، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض ، وأريد بالتنثية التكثير ، كما أريد بما هو أصل لها التكثير ، وهو مفرد عطف على مفرد ، نحو قوله : لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم
بيتاً وأبعدهم عن منزل الذام
يريد : لوعدت قبور كثيرة . وقال ابن عطية وغيره : ) كَرَّتَيْنِ ( معناه مرتين ونصبها على المصدر . وقيل : أمر برجع البصر إلى السماء مرتين ، غلط في الأولى ، فيستدرك بالثانية . وقيل : الأولى ليرى حسنها واستواءها ، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها . وقرأ الجمهور : ) يَنقَلِبَ ( جزماً على جواب الأمر ؛ والخوارزمي عن الكسائي : يرفع الباء ، أي فينقلب على حذف الفاء ، أو على أنه موضع حال مقدرة ، أي إن رجعت البصر وكررت النظر لتطلب فطور شقوق أو خللاً أو عيباً ، رجع إليك مبعداً عما طلبته لانتفاء ذلك عنها ، وهو كالّ من كثرة النظر ، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد ، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين . والحسير : الكال ، قال الشاعر : لهن الوجى لم كر عوناً على النوى
ولا زال منها ظالع وحسير
يقال : حسر بعيره يحسر حسوراً : أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور ، قال الشاعر يصف ناقة :
فشطرها نظر العينين محسور
أي : ونحرها ، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل ، قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها
البيت .
الملك : ( 5 - 6 ) ولقد زينا السماء . . . . .
( السَّمَاء الدُّنْيَا ( : هي التي نشاهدها ، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة ، ( بِمَصَابِيحَ ( : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح ، ومصابيح مطلق الأعلام ، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح . ) وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( : أي جعلنا منها ، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله : ) وَجَعَلْنَاهَا ( على السماء .(8/293)
" صفحة رقم 294 "
والظاهر عوده على مصابيح . ونسب الرجم إليها ، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها ، والكواكب قارّ في ملكه على حاله . فالشهاب كقبس يؤخذ من النار ، والنار باقية لا تنقص . والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع ، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب ، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات . وقيل : معنى رجوماً : ظنوناً لشياطين الإنس ، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم ، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم ، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول ، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء . وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد ، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال . وقال قتادة : خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين ، وليهتدي بها في البر والبحر ؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة . والضمير في لهم عائد على الشياطين .
وقرأ الجمهور : ) عَذَابَ جَهَنَّمَ ( برفع الباء ؛ والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه : بالنصب عطفاً على ) عَذَابِ السَّعِيرِ ( ، أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم . ) إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا ( : أي طرحوا ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به ، ومثله حصب جهنم ،
الملك : ( 7 ) إذا ألقوا فيها . . . . .
( سَمِعُواْ لَهَا ( : أي لجهنم ، ( شَهِيقًا ( : أي صوتاً منكراً كصوت الحمار ، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها . ويحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي سمعوا لأهلها ، كما قال تعالى : ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ). ) وَهِىَ تَفُورُ ( : تغلي بهم غلي المرجل .
الملك : ( 8 ) تكاد تميز من . . . . .
( تَكَادُ تَمَيَّزُ ( : أي ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها ، ويقال : فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب . وقرأ الجمهور : ) تَمَيَّزُ ( بتاء واحدة خفيفة ، والبزي يشدّدها ، وطلحة : بتاءين ، وأبو عمرو : بإدغام الدال في التاء ، والضحاك : تمايز على وزن تفاعل ، وأصله تتمايز بتاءين ؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة : تميز من ماز من الغيظ على الكفرة ، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر : في كلب يشتد في جريه
يكاد أن يخرج من إهابه
وقولهم : غضب فلان ، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط في الغضب . ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية . ) كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ ( : أي فريق من الكفار ، ( سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا ( : سؤال توبيخ وتقريع ، وهو مما يزيدهم عذاباً إلى عذابهم ، وخزنتها : مالك وأعوانها ، ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( : ينذركم بهذا اليوم ،
الملك : ( 9 ) قالوا بلى قد . . . . .
( قَالُواْ بَلَى ( : اعتراف بمجيء النذر إليهم . قال الزمخشري : اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأنه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم فيما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة ، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم ، خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة . والظاهر أن قوله : ) إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( ، من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذراً إليهم ، أنكروا أولاً أن الله نزل شيئاً ، واستجهلوا ثانياً من أخبر بأنه تعالى أرسل إليهم الرسل ، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة . ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخباراً لهم وتقريعاً بما كانوا عليه في الدنيا . أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه ، أوسموا عقاب الضلال ضلالاً لما كان ناشئاً عن الضلال . وقال الزمخشري : أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله . انتهى . فإن كان الخطاب في ) إِنْ أَنتُمْ ( للرسل ، فقد يراد به الجنس ، ولذلك جاء الخطاب بالجمع .
الملك : ( 10 ) وقالوا لو كنا . . . . .
( وَقَالُواْ ( : أي للخزنة حين حاوروهم ، ( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ( سماع طالب للحق ، ( أَوْ نَعْقِلُ ). عقل متأمل له ، لم نستوجب الخلود في النار .
الملك : ( 11 ) فاعترفوا بذنبهم فسحقا . . . . .
( فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ ( : أي بتكذيب الرسل ، ( فَسُحْقًا ( : أي فبعداً لهم ، وهو دعاء عليهم ، والسحق : البعد ، وانتصابه على المصدر : أي سحقهم الله سحقاً ، قال الشاعر :(8/294)
" صفحة رقم 295 "
يجول بأطراف البلاد مغربا
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
والفعل منه ثلاثي . وقال الزجاج : أي أسحقهم الله سحقاً ، أي باعدهم بعداً . وقال أبو علي الفارسي : القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كما قيل :
وإن أهلك فذلك كان قدري
أي تقديري . انتهى ، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثياً ، كما أنشد :
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقرأ الجمهور : بسكون الحاء ؛ وعلي وأبو جعفر والكسائي ، بخلاف عن أبي الحرث عنه : بضمها . قال ابن عطية : ) فَسُحْقًا ( : نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه ، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول فيهم مستقر أولاً ، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به ، كما تقول : سحقاً لزيد وبعداً ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، وإن وقع وثبت ، فالوجه فيه الرفع ، كما قال تعالى : ) وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ( ، و ) سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( ، وغير هذا من الأمثلة . انتهى .
الملك : ( 12 ) إن الذين يخشون . . . . .
( يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ( : أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله ، أو غائبين عن أعين الناس ، أي في خلواتهم ، كقوله : ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه .
الملك : ( 13 ) وأسروا قولكم أو . . . . .
( وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ ( : خطاب لجميع الخلق . قال ابن عباس : وسببه أن بعض المشركين قال لبعض : أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد .
الملك : ( 14 ) ألا يعلم من . . . . .
( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ( : الهمزة للاستفهام ولا للنفي ، والظاهر أن من مفعول ، والمعنى : أينتفي علمه بمن خلق ، وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها ؟ وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سركم وجهركم ؟ وهو استفهام معناه الإنكار ، أي كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ؟
الملك : ( 15 ) هو الذي جعل . . . . .
( هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( : منة منه تعالى بذلك ، والذلول فعول للمبالغة ، من ذلك تقول : دابة ذلول : بينة الذل ، ورجل ذليل : بين الذل . وقال ابن عطية : والذلول فعول بمعنى مفعول ، أي مذلولة ، فهي كركوب وحلوب . انتهى . وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر ، وإنما تعدى بالهمزة كقوله : ) وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( ، وأما بالتضعيف لقوله : ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ( ، وقوله : أي مذلولة يظهر أنه خطأ . ) فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا ( : أمر بالتصرف فيها والاكتساب ؛ ومناكبها ، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب : أطرافها ، وهي الجبال . وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد : جوانبها ، ومنكبا الرجل : جانباه . وقال الحسن والسدي : طرفها وفجاجها . قال الزمخشري : والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجازوته الغاية ، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل . انتهى . وقال الزجاج : سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل . ) وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( : أي البعث ، فسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم .
وقوله عز وجل : ) مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ(8/295)
" صفحة رقم 296 "
حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ).
الملك : ( 16 ) أأمنتم من في . . . . .
قرأ نافع وأبو عمرو والبزي : ) أَءمِنتُمْ ( بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفاً ، وقنبل : بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها ، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه ؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما . ) مَّن فِى السَّمَاء ( : هذا مجاز ، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة ، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من ، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه ، وهو استقر ، أي من في السماء هو ، أي ملكوته ، فهو على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء . لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم ، إذ كانوا مشبهة ، فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ؟ وهو المتعالي عن المكان . وقيل : من على حذف مضاف ، أي خالق من في السماء . وقيل : من هم الملائكة . وقيل : جبريل ، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره . وقيل : من بمعنى على ، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان ، وفي التحرير : الاجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار ، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء . ) أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاْرْضَ ( وهو ذهابها سفلاً ، ( فَإِذَا هِىَ تَمُورُ ( : أي تذهب أو تتموج ، كما يذهب التراب في الريح .
الملك : ( 17 - 18 ) أم أمنتم من . . . . .
وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء ، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ، وقال حسان بن ثابت : فأنذر مثلها نصحاً قريشا
من الرحمن إن قبلت نذيرا
وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري ، وحذفها باقي السبعة .
الملك : ( 19 ) أولم يروا إلى . . . . .
ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله(8/296)
" صفحة رقم 297 "
أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكار قريش بهذه القصة ، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل . ) صَافَّاتٍ ( : باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ، ( وَيَقْبِضْنَ ( : ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى . وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : ) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ ( ، عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله : بات يغشيها بغضب باتر
يقصد في أسوقها وجائر
أي : قاصد في أسوقها وجائر . وقال الزمخشري : ) صَافَّاتٍ ( : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً ، ( وَيَقْبِضْنَ ( : ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن . فإن قلت : لم قيل ) وَيَقْبِضْنَ ( ، ولم يقل : وقابضات ؟ قلت : أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح . انتهى . وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم . والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل ب ) مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ ( : أي بقدرته . قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو ) إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ ( : يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب . انتهى ، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة . ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقاً بشكل ، لا من ثقل ولا خفة . وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففاً . والزهري مشدداً .
الملك : ( 20 ) أم من هذا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مِن ( ، بإدغام ميم أم في ميم من ، إذ الأصل أم من ، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهذا خبر ، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه ؛
الملك : ( 21 ) أم من هذا . . . . .
وكذلك من هو رازقكم أن أمسك رزقه ، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم . وقرأ طلحة : أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة . قال صاحب اللوامح : ومعناه : أهذا الذي هو جند لكم ينصركم ، أم الذي يرزقكم ؟ فلفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ . انتهى . ) بَل لَّجُّواْ ( : تمادوا ، ( فِى عُتُوّ ( : في تكبر وعناد ، ( وَنُفُورٍ ( : شراد عن الحق لثقله عليهم . وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم .
الملك : ( 22 ) أفمن يمشي مكبا . . . . .
( أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ ( ، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة . وقيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كيف يمشى الكافر على وجهه ؟ فقال : ( إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه ) . فالمشي على قول قتادة حقيقة . وقيل : هو مجاز ، ضرب مثلاً للكافر والمؤمن في الدنيا . فقيل : عام ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك ، نزلت فيهما . وقال ابن عباس أيضاً : نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام . وقيل : في أبي جهل وحمزة ، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه ، كالماضي في انخفاض وارتفاع ، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه . وأما المؤمن ، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان ، وكونه قد وضح له الحق ، كالماشي صحيح البصر مستوياً لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها ، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه . و ) مُكِبّاً ( : حال من أكب ، وهو لا يتعدى ، وكب متعد ، قال تعالى : ) فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ ( ، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . وقال الزمخشري : ولا(8/297)
" صفحة رقم 298 "
شيء من بناء افعل مطوعاً ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه ، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه . وأهدي : افعل تفضيل من الهدى في الظاهر ، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل ؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سوياً على صراط مستقيم أهدى .
الملك : ( 23 ) قل هو الذي . . . . .
وانتصب ) قَلِيلاً ( على أنه نعت لمصدر محذوف ، وما زائدة ، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة ، أي تشكرون شكراً قليلاً . وقال ابن عطية : ظاهر أنهم يشكرون قليلاً ، وما عسى أن يكون للكافرين شكر ، وهو قليل غير نافع . وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قلّ ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته ألبتة . انتهى . وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك .
الملك : ( 24 ) قل هو الذي . . . . .
( ذَرَأَكُمْ ( : بثكم ، والحشر : البعث ،
الملك : ( 25 ) ويقولون متى هذا . . . . .
والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة ، أي متى إنجاز هذا الوعد ؟ .
الملك : ( 27 ) فلما رأوه زلفة . . . . .
( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ( : أي رأوا العذاب وهو الموعود به ، ( زُلْفَةً ( : أي قرباً ، أي ذا قرب . وقال الحسن : عياناً . وقال ابن زيد : حاضراً . وقيل : التقدير مكاناً ذا زلفة ، فانتصب على الظرف . ) سَيّئَاتُ ( : أي ساءت رؤيته وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل . وأخلص الجمهور كسرة السين ، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي . ) وَقِيلَ ( لهم ، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم . وقرأ الجمهور : ) تَدْعُونَ ( بشد الدال مفتوحة ، فقيل : من الدعوى . قال الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار . وقيل : تطلبون وتستعجلون ، وهو من الدعاء ، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : تدعون بسكون الدال ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع .
الملك : ( 28 ) قل أرأيتم إن . . . . .
روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه بالهلاك . وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه ، فأمر أن يقول : ) إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ ( كما تريدون ، ( أَوْ رَحِمَنَا ( بالنصر عليكم ، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم ؟ ولما قال : ) أَوْ رَحِمَنَا (
الملك : ( 29 - 30 ) قل هو الرحمن . . . . .
قال : ) هُوَ الرَّحْمَنُ ( ، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى . وقرأ الجمهور : ) فَسَتَعْلَمُونَ ( بتاء الخطاب ، والكسائي : بياء الغيبة نظراً إلى قوله : ) فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ ).
ولما ذكر العذاب ، وهو مطلق ، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء ، وهو عذاب مخصوص . والغور مشروح في الكهف ، والمعين في قد أفلح ، وجواب ) إِنْ أَهْلَكَنِىَ ( : ) فَمَن يُجِيرُ ( ، وجواب ) إِنْ أَصْبَحَ ( : ) فَمَن يَأْتِيكُمْ ( ، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به الفوس والمعاويل ، فذهب ماء عينيه .(8/298)
" صفحة رقم 299 "
68
( سورة القلم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) نوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاّجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِين(8/299)
" صفحة رقم 300 "
َ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( )
القلم : ( 1 ) ن والقلم وما . . . . .
المهين ، قال الرماني : الوضيع لإكثاره من القبائح ، من المهانة ، وهي القلة . الهمز : أصله في اللغة الضرب طعناً باليد أو بالعصا أو نحوها ، ثم استعير للذي ينال بلسانه . قال القاضي منذر بن سعيد : وبعينه وإشارته . النميم والنميمة : مصدران لنمّ ، وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس . وقيل : النميم جمع نميمة ، يريدون به اسم الجنس . العتل ، قال الكلبي والفرّاء : الشديد الخصومة بالباطل . وقال معمر : هو الفاحش اللئيم . قال الشاعر : بعتلّ من الرّجال زنيم
غير ذي نجدة وغير كريم
وقيل : الذي يعتل الناس : أي يجرّهم إلى حبس أو عذاب ، ومنه : ) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ). قال ابن السكيت : عتلته وعتنته باللام والنون . الزنيم : الدعي . قال حسان : زنيم تداعاه الرّجال زيادة
كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وقال أيضاً :
وأنت زنيم نيط في آل هاشمكما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنيم من الزنمة ، وهي الهنة من جلد الماعز ، تقطع فتخلى معلقة في حلقة ، سمي الدعي بذلك لأنه زيادة معلقة بغير أهله . وسمه : جعل له سمة ، وهي العلامة تدل على شيء . قال جرير : لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
الخرطوم : الأنف ، والخرطوم من صفات الخمر ، قال الشاعر : قد أشهد الشرب فيهم مزهر زنم
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
قال الشمنتري : الخرطوم أول خروجها من الدّن ، ويقال لها الأنف أيضاً ، وذلك أصفى لها وأرق . وقال النضر بن شميل : الخرطوم : الخمر ، وأنشد للأعرج المغني : تظل يومك في لهو وفي لعب
وأنت بالليل شراب الخراطيم
الصرام : جداد النخل . الجرد : المنع ، من قولهم : حاردت الإبل إذا قلت ألبانها ، وحاردت السنة : قلّ مطرها وخيرها ، قاله أبو عبيد والقتبي ، والحرد : الغضب . قال أبو نضر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي : وهو مخفف ، وأنشد :(8/300)
" صفحة رقم 301 "
إذا جياد الخيل جاءت تردي
مملوءة من غضب وحرد
وقال الأشهب بن رميلة : أسود شرى لاقت أسود خفية
تساقوا على حرد دماء الأساود
وقال ابن السكيت : وقد يحرك ، تقول : حرد بالكسر حرداً فهو حردان ، ومنه قيل : أسد حارد ، وليوث حوارد ، والحرد : الانفراد ، حرد يحرد حروداً : تنحى عن قومه ونزل منفرداً ولم يخالطهم ، وكوكب حرود : معتزل عن الكواكب . وقال الأصمعي : المنحرد : المنفرد في لغة هذيل . انتهى . والحرد : القصد ، حرد يحرد بالكسر : قصد ، ومنه حردت حردك : أي قصدت قصدك . ومنه قول الشاعر : وجاء سيل كان من أمر الله
يحرد حرد الجنة المغله
) ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَاهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
هذه السورة مكية . قال ابن عطية : ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل . انتهى . ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل . ومناسبتها لما قبلها : أنه فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء ، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصباً . وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالوحي ، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر ، ومرة إلى السحر ، ومرة إلى الجنون ؛ فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون ، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم ، وبالثناء على خلقه العظيم .
( ن ( : حرف من حروف المعجم ، نحو ص وق ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص . وما يروى عن ابن عباس ومجاهد : أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع . وعن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك : أنه اسم الدواة . وعن معاوية بن قرة : يرفعه أنه لوح من نور . وعن ابن عباس أيضاً : أنه آخر حرف من حروف الرحمن . وعن جعفر الصادق : أنه نهر من أنهار الجنة ، لعله لا يصح شيء من ذلك . وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ن حرف من حروف المعجم ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو(8/301)
" صفحة رقم 302 "
إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور . انتهى . ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم ، فإن كان علماً فينبغي أن يجر ، فإن كان مؤنثاً منع الصرف ، أو مذكراً صرف ، وإن كان جنساً أعرب ، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به . وقال ابن عطية : إذا كان اسماً للدواة ، فإما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : إذا ما الشوق برّح بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
فمن جعله البهموت ، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات ، وجعل الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( للملائكة . ومن قال : هو اسم ، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس ؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( للناس ، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة . انتهى . وقرأ الجمهور : ) ن ( بسكون النون وإدغامها في واو ) وَالْقَلَمِ ( بغنة وقوم بغير غنة ، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص . وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال : بكسر النون لالتقاء الساكنين ؛ وسعيد بن جبير وعيسى : بخلاف عنه بفتحها ، فاحتمل أن تكون حركة إعراب ، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر ، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث ، ويكون ) وَالْقَلَمِ ( معطوفاً عليه . واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين ، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين ، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية ، والضمير في ) يَسْطُرُونَ ( عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم ، فإما أن يراد بهم الحفظة ، وإما أن يراد كل كاتب . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم . انتهى . فيكون كقوله : ) كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ ( : أي وكذي ظلمات ، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله : ) يَغْشَاهُ مَوْجٌ ).
وجواب القسم : ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ ). ويظهر
القلم : ( 2 ) ما أنت بنعمة . . . . .
أن ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( قسم اعترض به بين المحكوم على ه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عطية : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل . انتهى . ولم يبين ما تتعلق به الباء في ) بِنِعْمَتِ ). وقال الزمخشري : يتعلق ) بِمَجْنُونٍ ( منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى : استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة . انتهى .
وما ذهب إليه الزمخشري من أن ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( متعلق ) بِمَجْنُونٍ ( ، وأنه في موضع الحال ، يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط ، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك ، تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع . والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي لا قيام فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه ، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل معناه : ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي والحمد لله ، ومنه قول لبيد :(8/302)
" صفحة رقم 303 "
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي
وفارقني جار بأربد نافع
أي : وهو أربد . انتهى . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، أي حصول الصفة المحمودة ، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك . ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها ، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون . ) وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً ( في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله ، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله . ) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( : هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( ، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه ، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء . انتهى .
القلم : ( 3 ) وإن لك لأجرا . . . . .
( وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً ( : أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب ، ( غَيْرُ مَمْنُونٍ ( : أي غير مقطوع ، مننت الحبل : قطعته ، وقال الشاعر :
عبس كواسب لا يمن طعامها
أي لا يقطع . وقال مجاهد : غير محسوب . وقال الحسن : غير مكدر بالمن . وقال الضحاك : بغير عمل . وقيل : غير مقدر ، وهو معنى قول مجاهد . وقال الزمخشري : أو غير ممنون عليك ، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء ، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
القلم : ( 4 ) وإنك لعلى خلق . . . . .
( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( ، قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه . وقالت عائشة : إن خلقه كان القرآن . وقال علي : هو أدب القرآن . وقال قتادة : ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى . وقيل : سمي عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، من كرم السجية ، ونزاهة القريحة ، والملكة الجميلة ، وجودة الضرائب ؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك ، وقال : ( إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ) ، ووصى أبا ذر فقال : ( وخالق الناس بخلق حسن ) . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن ) . وقال : ( أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً ) .
القلم : ( 5 - 6 ) فستبصر ويبصرون
والظاهر تعلق ) بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( بما قبله . وقال عثمان المازني : تم الكلام في قوله ) وَيُبْصِرُونَ ( ، ثم استأنف قوله : ) بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ). انتهى . فيكون قوله : ) بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( استفهاماً يراد به الترداد بين أمرين ، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما ، ويعينه الوجود ، وهو المؤمن ، ليس بمفتون ولا به فتون . وإذا كان متعلقاً بما قبله ، وهو قول الجمهور ، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر : الباء زائدة ، والمعنى : أيكم المفتون ؟ وزيدت الباء في المبتدأ ، كما زيدت فيه في قوله : بحسبك درهم ، أي حسبك . وقال الحسن والضحاك والأخفش : الباء ليست بزائدة ، والمفتون بمعنى الفتنة ، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً ؟ وقال الأخفش أيضاً : بأيكم فتن المفتون ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً ، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف . وقال مجاهد والفراء : الباء بمعنى في ، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون ؟ انتهى . فالباء ظرفية ، نحو : زيد بالبصرة ، أي في البصرة ، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية ، بل هي سببية . وقال الزمخشري : المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي محن بالجنون ، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم . انتهى . وقرأ ابن أبي عبلة : في أيكم المفتون .
القلم : ( 7 ) إن ربك هو . . . . .
( إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( : وعيد للضال ، وهم المجانين على الحقيقة ، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها ، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل ، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين . ) فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( : أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي ، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم .
القلم : ( 8 - 9 ) فلا تطع المكذبين
) وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ ( : لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن ، أي ودوا ادهانكم(8/303)
" صفحة رقم 304 "
وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ( ، ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف ، أي ودوا ادهانكم ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك . وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي : لو تدهن : لو تكفر ، فيتمادون على كفرهم . وعن ابن عباس أيضاً : لو ترخص لهم فيرخصون لك . وقال قتادة : لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك . وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم . وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك . وقال الربيع بن أنس : لو تكذب فيكذبون . وقال أبو جعفر : لو تضعف فيضعون . وقال الكلبي والفراء : لو تلين فيلينون . وقال أبان بن ثعلب : لو تحابي فيحابون ، وقالوا غير هذه الأقوال . وقال الفراء : الدهان : التليين . وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة ، وهذا نقل أهل اللغة ، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأن ما خالف ذلك هو تفسير باللازم ، وفيدهنون عطف على تدهن . وقال الزمخشري : عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون كقوله : ) فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( ، بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك . انتهى . وجمهور المصاحف على إثبات النون . وقال هارون : إنه في بعض المصاحف فيدهنوا ، ولنصبه وجهان : أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت ؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن ، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا ، فيكون عطفاً على التوهم ، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن .
القلم : ( 10 ) ولا تطع كل . . . . .
( وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( : تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات ، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ، ونوسب فيها فجاء ) حَلاَّفٍ ( وبعده ) مُّهِينٌ ( ، لأن النون فيها مع الميم تواخ .
القلم : ( 11 ) هماز مشاء بنميم
ثم جاء : ) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ( بصفتي المبالغة ،
القلم : ( 12 ) مناع للخير معتد . . . . .
ثم جاء : ) مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ، فمناع وأثيم صفتا مبالغة ، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير . وقيل : الخير هنا المال ، يريد مناع للمال عبر به عن الشح ، معناه : متجاوز الحد في الظلم .
القلم : ( 13 ) عتل بعد ذلك . . . . .
وفي حديث شداد بن أوس قلت : يعني لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف ، الوتير الخلق ، الأكول الشروب ، الغشوم الظلوم . وقرأ الحسن : عتل برفع اللام ، والجمهور : بجرها بعد ذلك . وقال الزمخشري : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها ، ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ) ، وبعد ذلك نظير ثم في قوله : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ). وقرأ الحسن : عتل رفعاً على الذم ، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك . انتهى . وقال ابن عطية : ) بَعْدَ ذَلِكَ ( : أي بعد أن وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خبر يمنعه . انتهى . والزنيم : الملصق في القوم وليس منهم ، قاله ابن عباس وغيره . وقيل : الزنيم : المريب القبيح الأفعال ، وعن ابن عباس أيضاً : الزنيم : الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته . انتهى . وروي أن الأخفش بن شريف كان بهذه الصفة ، كان له زنمة . وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بالزنمة . وعنه أيضاً : أنه المعروف بالابنة . وعنه أيضاً : أنه الظلوم . وعن عكرمة : هو اللئيم . وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب : أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم ، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده . وقال مجاهد : كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام أصبع زائدة ، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين . ألا ترى إلى قوله : ) كُلَّ حَلاَّفٍ ( ، وقوله : ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ( ؟ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات .
القلم : ( 14 - 15 ) أن كان ذا . . . . .
قال ابن عطية ما ملخصه ، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة : ) إِن كَانَ ( على الخبر ؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : على الاستفهام ؛ وحقق الهمزتين حمزة ، وسهل الثانية باقيهم . فأما على الخبر ، فقال أبو علي(8/304)
" صفحة رقم 305 "
الفارسي : يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف . انتهى ، وهذا قول كوفي ، ولا يجوز ذلك عند البصريين . وقيل : ) زَنِيمٍ ( لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال . وقال الزمخشري : متعلق بقوله : ) وَلاَ تُطِعِ ( ، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب ، ( لاِنْ كَانَ ذَا مَالٍ ( : أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين ، كذب آياتنا ولا يعمل فيه ، قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب . انتهى . وأما على الاستفهام ، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله ، أي أيكون طواعية لأن كان ؟ وقدره الزمخشري : أتطيعه لأن كان ؟ أو عامل يدل عليه ما قبله ، أي أكذب أو جحد لأن كان ؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : إن كان بكسر الهمزة . قال الزمخشري : والشرط للمخاطب ، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه ، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله : ) لَعَلَّهُ يُذْكَرِ ). انتهى . وأقوال : إن كان شرط ، وإذا تتلى شرط ، فهو مما اجتمع فيه شرطان ، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع ، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم ، والمتقدم لفظاً هو شرط في الثاني ، كقوله : فإن عثرت بعدها إن والت
نفسي من هاء تاء فقولا لها لها
لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين ، فهو مشغول القلب ، فذلك غافل عن النظر والفكر ، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته . وقرأ الحسن : أئذا على الاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آياته الله .
القلم : ( 16 ) سنسمه على الخرطوم
ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ، والسمة : العلامة . ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان ، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه . وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو ، قال : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد ، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف ، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً ، فكيف به على أكرم عضو فيه ؟ وقد قيل : الجمال في الأنف ، وقال بعض الأدباء : وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل
فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه . وقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك كالوسم على الانف ، وحل به ذلك يوم بدر . وقال المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم . وقال آخرون : ذلك يوم القيامة ، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره . وقال قتادة وغيره : معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً ، كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة : أي أثبت لك الأمر بيناً فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً . قال ابن عطية : وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه ، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم . انتهى . وقال أبو العالية ومقاتل ، واختاره الفراء : يسود وجهه قبل دخول النار ، وذكر الخرطوم ، والمراد الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن(8/305)
" صفحة رقم 306 "
بعض . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية ، عبر عن هذا الاختصاص بقوله : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ). انتهى كلامه . وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف ، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع . وتلخص من هذا أن قوله : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ وإذا كان حقيقة ، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر ، وأن معناه سنحده على شربها .
القلم : ( 17 ) إنا بلوناهم كما . . . . .
ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة ، وهم كفار قريش ، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) الحديث ، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم . كانت بأرض اليمين بالقرب منهم قريباً من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها ، فمات فصارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى ، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم . وقيل : كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام ، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطاه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير . فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ) لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( في السدف خفية من المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ؛ والكاف في ) كَمَا بَلَوْنَا ( في موضع نصب ، وما مصدرية . وقيل : بمعنى الذي ، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم ، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين ، والمعنى : ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم .
القلم : ( 18 ) ولا يستثنون
) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ( : أي ولا ينثنون عن ما عزموا عليه من منع المساكين . وقال مجاهد : معناه : لا يقولون إن شاء الله ، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره . وقال الزمخشري ، متبعاً قول مجاهد : ولا يقولون إن شاء الله . فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط ؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد . انتهى .
القلم : ( 19 ) فطاف عليها طائف . . . . .
( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ( ، قرأ النخعي : طيف . قال الفراء : والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل ، ورد عليه بقوله : ) إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ ( ، فلم يتخصص بالليل ، وطائف مبهم . فقيل : هو جبريل عليه السلام ، اقتلعها وطاف بها حول البيت ، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت بالطائف ، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها . وقال ابن عباس : طائف من أمر ربك . وقال قتادة : عذاب من ربك . وقال ابن جرير : عنق خرج من وادي جهنم .
القلم : ( 20 ) فأصبحت كالصريم
) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ، قال ابن عباس : كالرماد الأسود ، والصريم : الرماد الأسود بلغة خزيمة ، وعنه أيضاً : الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت ، فشبه جنتهم بها . وقال الحسن : صرم عنها الخير ، أي قطع . فالصريم بمعنى مصروم . وقال الثوري : كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود . وقال مورج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، والرملة لا تنبت شيئاً ينفع . وقال الأخفش : كالصبح انصرم من الليل . وقال المبرد : كالنهار فلا شيء فيها . وقال شمر : الصريم : الليل ، والصريم : النهار ، أي ينصرم هذا عن ذاك ، وذاك عن هذا . وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة : الصريم : الليل من حيث اسودت جنتهم .
القلم : ( 21 ) فتنادوا مصبحين
) فَتَنَادَوْاْ ( : دعا بعضهم بعضاً إلى المضي إلى ميعادهم ،
القلم : ( 22 ) أن اغدوا على . . . . .
( أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ ). قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل ) اغْدُواْ إِلَى حَرْثِكُمْ ( ، وما معنى على ؟ قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدو . ويجوز أن يضمن الغد ومعنى الإقبال ، كقولهم : يغدي عليه بالجفنة ويراح ، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين . انتهى . واستسلف الزمخشري أن غداً يتعدى بإلى ، ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه ، والذي في حفظي أنه معدى بعلى ، كقول الشاعر :(8/306)
" صفحة رقم 307 "
بكرت عليه غدوة فرأيته
قعوداً عليه بالصريم عواذله
) إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ( : الظاهر أنه من صرام النحل . قيل : ويحتمل أن يريد : إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم ، من قولك : سيف صارم .
القلم : ( 23 ) فانطلقوا وهم يتخافتون
) يَتَخَافَتُونَ ( : يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين .
القلم : ( 24 ) أن لا يدخلنها . . . . .
( أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ( : أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها ، وأن مصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية . وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : لا يدخلنها ، بإسقاط أن على إضمار يقولون ، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول ، إذ معناه : يسارون القول والنهي عن الدخول . نهى عن التمكين منه ، أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا .
القلم : ( 25 ) وغدوا على حرد . . . . .
( وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ( : أي على قصد وقدوة في أنفسهم ، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم . قال معناه ابن عباس ، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة ، قادرين عند أنفسهم على صرامها . قال أبو عبيدة والقتبي : ) عَلَى حَرْدٍ ( : على منع ، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها ، فجزاهم الله بأن منعهم خيراً . وقال الحسن : ) عَلَى حَرْدٍ ( ، أي حاجة وفاقة . وقال السدي وسفيان : ) عَلَى حَرْدٍ ( : على غضب ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض . وقيل : ) عَلَى حَرْدٍ ( : على انفراد ، أي انفردوا دون المساكين . وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم . وقال السدي : اسم جنتهم ، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام . قيل : ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى : ) وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( ، أي مضيقين على المساكين ، إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها .
القلم : ( 26 ) فلما رأوها قالوا . . . . .
( فَلَمَّا رَأَوْهَا ( : أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها ، من هلاكها وذهاب ما فيها من الخير ، ( قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ ( : أي عن الطريق إليها ، قاله قتادة . وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي ، واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها ، ثم وضح لهم أنها هي ، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها . وقيل : لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين ،
القلم : ( 27 ) بل نحن محرومون
فقالوا : ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( خيرها بخيانتنا على أنفسنا .
القلم : ( 28 ) قال أوسطهم ألم . . . . .
( قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( : أي أفضلهم وأرجحهم عقلاً ، ( أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( : أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله ، أي ذكره وتنزيهه عن السوء ، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهم في ذلك . فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين ، ابتلاهم الله ، وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقدم إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى . وقال مجاهد وأبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله . قال النحاس : جعل مجاهد التسبيح موضع إن شاء الله ، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته . وقال الزمخشري : لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له . وقيل : ) لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( : تستغفرون .
القلم : ( 29 ) قالوا سبحان ربنا . . . . .
ولما انبهم ، رجعوا إلى ذكر الله تعالى ، واعترفوا على أنفسهم بالظلم ، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا : ) سُبْحَانَ رَبّنَا ). قال ابن عباس : أي نستغفر الله من ذنبنا .
القلم : ( 30 ) فأقبل بعضهم على . . . . .
ولما أقروا بظلمهم ، لام بعضهم بعضاً ، وجعل اللوم في حيز غيره ، إذ كان منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف ، ومنهم من عصى الأمر . ومنهم من سكت على رضا منه .
القلم : ( 31 ) قالوا يا ويلنا . . . . .
ثم اعترفوا بأنهم طغوا ، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيراً من تلك الجنة ،
القلم : ( 32 ) عسى ربنا أن . . . . .
( عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا ( : أي بهذه الجنة ، ( خَيْرٌ مّنْهَا ( : وتقدم الكلام في الكهف ، والخلاف في تخفيف يبدلنا ، وتثقيلها منسوباً إلى القراء . ) إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ ( : أي طالبون إيصال الخير إلينا منه . والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا . وقيل : كانوا من أهل الكتاب . وقال عبد الله بن مسعود : بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا ، وعلم الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة ، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم . وعن مجاهد : تابوا فأبدوا خيراً منها . وقال القشيري : المعظم يقولون أنهم تابوا(8/307)
" صفحة رقم 308 "
وأخلصوا . انتهى . وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال : أكان قولهم : ) إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ ( إيماناً ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة ؟ .
القلم : ( 33 ) كذلك العذاب ولعذاب . . . . .
( كَذَلِكَ الْعَذَابُ ( : هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أمر قريش . قال ابن عطية : والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة ، أي ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ ( : أي الذي نزل بقريش بغتة ، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا . وقال كثير من المفسرين : العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود . انتهى . وقال الزمخشري : مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا . ) وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ ( أشد وأعظم منه . انتهى . وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين ، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم . وأن قريشاً حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور ، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا . ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال : ) وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ أَكْبَرُ ).
قوله عز وجل : ) إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ).
القلم : ( 34 ) إن للمتقين عند . . . . .
لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة ، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون ، فقال : ) إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ ( : أي الكفر ، ( جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( : أضافها إلى النعيم ، لأن النعيم لا يفارقها ، إذ ليس فيها إلا هو ، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا .
القلم : ( 35 ) أفنجعل المسلمين كالمجرمين
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ ، فنزلت : ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ). وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا ، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة ، وإلا فالمشاركة ، فأجاب تعالى : ) أَفَنَجْعَلُ ( : أي لا يتساوى المطيع والعاصي ، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ .
القلم : ( 36 ) ما لكم كيف . . . . .
ثم التفت إليهم فقال : ) مَا لَكُمْ ( ، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون ؟ وهو استفهام إنكار عليهم . ثم قال : ) كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم ، استفهم عن هيئة حكمهم . ففي قوله : ) مَا لَكُمْ ( استفهام عن كينونة مبهمة ، وفي ) كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( استفهام عن هيئة حكمهم .
القلم : ( 37 ) أم لكم كتاب . . . . .
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال : ) أَمْ لَكُمْ ( ، أي : بل ألكم ؟ ) كِتَابٌ ( ، أي من عند الله ، ( تَدْرُسُونَ ( أن ما تختارونه يكون لكم .
القلم : ( 38 ) إن لكم فيه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) إِنَّ لَكُمْ ( بكسر الهمزة ، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير . وقيل : أن معمولة لتدرسون ، أي تدرسون في الكتاب أن لكم ، ( لَمَا تَخَيَّرُونَ ( : أي تختارون من النعيم ، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر ، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة ، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو ، كقوله : ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ ). انتهى . وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة ، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم . وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام .
القلم : ( 39 ) أم لكم أيمان . . . . .
( أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ( : أي أقسام علينا ، ( بَالِغَةٌ ( : أي متناهية في التوكيد . يقال : لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه ، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم ، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أو ببالغة : أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إلى ه . وقرأ الجمهور : ) بَالِغَةٌ ( بالرفع على الصفة ، والحسن وزيد بن علي : بالنصب على الحال من الضمير المستكن(8/308)
" صفحة رقم 309 "
في علينا . وقال ابن عطية : حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً . ) إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( : جواب القسم ، لأن معنى ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا ( : أم أقسمنا لكم ، قاله الزمخشري . وقرأ الأعرج : أإن لكم عليّ ، كالتي قبلها على الاستفهام .
القلم : ( 40 ) سلهم أيهم بذلك . . . . .
( سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( : أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته ، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني ، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء ، كما قال تعالى : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( ، وقال الشاعر : فإن تسألوني بالنساء فإنني
عليم بأدواء النساء طبيب
ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء ، كما تقول : سل زيداً عن من ينظر في كذا ، ولكنه علق سلهم ، فالجملة في موضع نصب .
القلم : ( 41 ) أم لهم شركاء . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ( ؛ وعبد الله وابن أبي عبلة : فليأتوا بشركهم ، قيل : والمراد في القراءتين الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه ، أي لا أحد يقول بقولهم ، كما أنه لا كتاب لهم ، ولا عهد من الله ، ولا زعيم بذلك ، ( فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ( : هذا استدعاء وتوقيف . قيل : في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا . وقيل : في الآخرة ، على أن يأتوا بهم .
القلم : ( 42 - 43 ) يوم يكشف عن . . . . .
( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( : وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا . وقيل : اذكر ، وقيل التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث ؛ والظاهر وقول الجمهور : إن هذا اليوم هو يوم القيامة . وقال أبو مسلم : هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال : ) وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ( ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله : ) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ لاَ بُشْرَى ( ، ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، فلا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفساً إيمانها ؛ وإما حال المرض والهرم والمعجزة . ) وَقَدْ كَانُواْ ( قبل ذلك اليوم ، ( يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( مما بهم الآن . فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، وإما من العجز والهرم . وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل . وعند ما يدعون إلى السجود ، سلبوا القدرة عليه ، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل . وقرأ الجمهور : ) يُكْشَفُ ( بالياء مبنياً للمفعول . وقرأ عبد الله بن أبي عبلة : بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن هرمز : بالنون ؛ وابن عباس : يكشف بفتح الياء منبياً للفاعل ؛ وعنه أيضاً بالياء مضمومة مبنياً للمفعول . وقرىء : يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين ، من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل : انقلبت شفته العليا ، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه . قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها . ومما جاء في الحديث من قوله : ( فيكشف لهم عن ساق ) ، محمول أيضاً على الشدة في ذلك اليوم ، وهو مجاز شائع في لسان العرب . قال حاتم : أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال الراجز : عجبت من نفسي ومن إشفاقها
ومن طرادي الخيل عن أرزاقها(8/309)
" صفحة رقم 310 "
في سنة قد كشفت عن ساقها
حمراء تبري اللحم عن عراقها
وقال الراجز : قد شمرت عن ساقها فشدوا
وجدّت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر : صبراً امام إن شرباق
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال الشاعر : كشفت لهم عن ساقها
وبدا من الشر البوا
ويروى : الصداح . وقال ابن عباس : يوم يكشف عن شدة . وقال أبو عبيدة : هذه كلمة تستعمل في الشدة ، يقال : كشف عن ساقه إذا تشمر . قال : ومن هذا تقول العرب لسنة الجدب : كشفت ساقها ، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، خارج عن المألوف ، كقوله تعالى : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُرٍ ( ، فكأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل . ) وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ( : ظاهره أنهم يدعون ، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف . وقيل : الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين ، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه ، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون : أنت ربنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً . انتهى . ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا ، كما ذهب إليه الجبائي . و ) خَاشِعَةٌ ( : حال ، وذو الحال الضمير في ) يَدَّعُونَ ( ، وخص الأبصار بالخشوع ، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة ، لأنه أبين فيه منه في كل جارحة ، ( تَرْهَقُهُمْ ( : تغشاهم ، ( ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ). قيل : هو عبارة عن جميع الطاعات ، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات ، ومن حيث امتحنوا به في الآخرة . وقال النخعي والشعبي : أراد بالسجود : الصلوات المكتوبة . وقال ابن جبير : كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون .
القلم : ( 44 - 45 ) فذرني ومن يكذب . . . . .
( فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ( ، المعنى : خل بيني وبينه ، فإني سأجازيه وليس ثم مانع . وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أمر الآخرة وغيره ، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء . ومن في موضع نصب ، إما عطفاً على الضمير في ذرني ، وإما على أنه مفعول معه . ) سَنَسْتَدْرِجُهُم ( إلى قوله : ) مَتِينٌ ( : تكلم عليه في الأعراف .
القلم : ( 46 - 47 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ( إلى : ) يَكْتُبُونَ ( : تكلم عليه في الطور .
القلم : ( 48 ) فاصبر لحكم ربك . . . . .
روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحُد حين اشتد بالمسلمين الأمر . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف ، فنزلت : ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( : وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم ، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى ، ( وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( : هو يونس عليه السلام ، ( إِذْ نَادَى ( : أي في بطن الحوت ، وهو قوله : ) أَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( ، وليس النهي منصباً على الذوات ، إنما المعنى : لا يكن حالك مثل حاله . ) إِذْ نَادَى ( : فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف ، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت ، ( إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( : مملوء(8/310)
" صفحة رقم 311 "
غيظاً على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم . وقال ذو الرمة : وأنت من حب ميّ مضمر حزنا
عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
وتقدمت مادة كظم في قوله : ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ).
القلم : ( 49 ) لولا أن تداركه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَدَارَكَهُ ( ماضياً ، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل . وقرأ عبد الله وابن عباس : تداركته بتاء التأنيث ؛ وابن هرمز والحسن والأعمش : بشد الدال . قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، والأصل في ذلك تتداركه ، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله . وقال بعض المتأخرين : هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية ، أي لولا أن كان يقال تتداركه ، ومعناه : لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله ) لَنُبِذَ بِالْعَرَاء ( ، ونحوه قوله : ) فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ ( ؛ وجواب ) لَوْلاَ ( قوله : ) لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ ( ، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم ، كما قال : ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء ( ، والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقاً ، بل بقيد الحال . وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموماً ، ويدل عليه ) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ).
القلم : ( 50 ) فاجتباه ربه فجعله . . . . .
ثم أخبر تعالى أنه ) اجْتَبَاهُ ( : أي اصطفاه ، ( وَنَبِيّا مّنَ الصَّالِحِينَ ( : أي الأنبياء . وعن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه .
القلم : ( 51 ) وإن يكاد الذين . . . . .
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه ، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال : ) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ ( : أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة ، أو ليهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله . وقال الشاعر : يتعارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزل مواطن الأقدام
وقال الكلبي : ليزلقونك : ليصرفونك . وقرأ الجمهور : ) لَيُزْلِقُونَكَ ( بضم الياء من أزلق ؛ ونافع : بفتحها من زلقت الرجل ، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر ، نحو شترت عينه بالكسر ، وشترها الله بالفتح . وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك . وقيل : معنى ) لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ( : ليأخذونك بالعين ، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد . قال ابن الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ، ثم يرفع جانب خبائه فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلاً ثم تسقط طائفة أو عدة منها . قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأجابهم ، وأنشد : قد كان قومك يحسبونك سيدا
وأخال أنك سيد معيون
أي : مصاب بالعين ، فعصم الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنزل عليه هذه الآية . قال قتادة : نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام . وقال الحسن : دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية . وقال القشيري : الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان ، لا مع الكراهة والبغض ، وقال : ) وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ). وقال القرطبي : ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك . انتهى . وقد يكون في المعين ، وإن كان مبغضاً عند العائن صفة يستحسنها العائن ، فيعينه من تلك الصفة ، لا سيما من تكون فيه صفات كمال . ) لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ ( : من يقول لما ظرف يكون العامل فيه ) لَيُزْلِقُونَكَ ( ، وإن(8/311)
" صفحة رقم 312 "
كان حرف وجوب لوجوب ، وهو الصحيح ، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه ، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ، والذكر : القرآن . ) وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( تنفيراً عنه ، وقد علموا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أتمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً .
القلم : ( 52 ) وما هو إلا . . . . .
( وَمَا هُوَ ( : أي القرآن ، ( إِلاَّ ذِكْرٌ ( : عظة وعبرة ، ( لّلْعَالَمِينَ ( : أي للجن والإنس ، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به ؟ .(8/312)
" صفحة رقم 313 "
69
( سورة الحاقة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الاٌّ رْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاٌّ يَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّ قَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( )(8/313)
" صفحة رقم 314 "
الحاقة : ( 1 ) الحاقة
الحسوم ، قال الفراء : من حسم الداء ، أي تابع بالمكواة عليه ، قال الشاعر : ففرق بين جمعهم زمان
تتابع فيه أعوام حسوم
وقال المبرد : حسمت الشيء : فصلته عن غيره ، ومنه الحسام . قال الشاعر : فأرسلت ريحاً دبوراً عقيما
فدارت عليهم فكانت حسوماً
وقال الليث : الحسوم : الشؤم ، يقال : هذه ليالي الحسوم : أي تحسم الخير عن أهلها ، وقاله في الصحاح . صرعي : هلكى ، الواحد صريع ، وهي الشيء ضعف وتداعي للسقوط . قال ابن شجرة : من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ، ومن أمثالهم قول الراجز : خل سبيل من وهي سقاؤه
ومن هريق بالفلاة ماؤه
الأرجاء : الجوانب ، واحدها رجا ، أي جانب من حائط أو بئر ونحوه ، وهو من ذوات الواو ، ولذلك برزت في التثنية . قال الشاعر : كأن لم ترا قبلي أسيراً مقيدا
ولا رجلاً يرمي به الرجوان
وقال الآخر : فلا يرمي به الرجوان إني
أقل اليوم من يغني مكاني
هاء بمعنى خذ ، فيها لغات ذكرناها في شرح التسهيل . وقال الكسائي وابن السكيت : العرب تقول : هاء يا رجل ، وللاثنين رجلين أو امرأتين : هاؤما ، وللرجل هاؤم ، وللمرأء هاء بهمزة مكسورة من غير ياء ، وللنساء هاؤن . قيل : ومعنى هاؤم : خذوا ، ومنه الخبر في الربا الإهاء وهاء : أي يقول كل واحد لصاحبه خذ . وقيل : تعالوا ، وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف ، وهذا ضعيف إلا إن كان عنى أنها تحل محلها في لغة من قال : هاك وهاك وهاكما وهاكم وهاكن ، فيمكن أنه بدل صناعي ، لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها . وقيل : هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال ، فجاوبه عليه الصلاة والسلام : ( هاؤم ) ، بصولة صوته . وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ، والأصل هاء أموا ، ثم نقله التخفيف والاستعمال . وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور . القطوف جمع قطف : وهو ما يجتنى من الثمر ويقطف . السلسلة معروفة ، وهي حلق يدخل في حلق على سبيل الطول . الذراع مؤنث ، وهو معروف ، وقال الشاعر : أرمي عليها وهي فرع أجمع
وهي ثلاث أذرع وأصبع(8/314)
" صفحة رقم 315 "
حض على الشيء : حمل على فعله بتوكيد . الغسلين ، قال اللغويون : ما يجري من الجراح إذا غسلت . الوتين : عرق يتعلق به القلب ، إذا انقطع مات صاحبه . وقال الكلبي : عرق بين العلباء والحلقوم ، والعلباء : عصب العنق ، وهما علباوان بينهما العرق . وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ، ومنه قول الشماخ : إذا بلغتني وحملت رحلي
عرابة فاشرقي بدم الوتين
) الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَةٌ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر شيئاً من أحوال السعداء والأشقياء ، وقال : ) ذَرْنِى وَمَنْ يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ( ، ذكر حديث القيامة وما أعد الله تعالى لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وأدرج بينهما شيئاً من أحوال الذين كذبوا الرسل ، كعاد وثمود وفرعون ، ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون ، فقص عليهم ذلك .
( الْحَاقَّةُ ( : المراد بها القيامة والبعث ، قاله ابن عباس وغيره ، لأنها حقت لكل عامل عمله . وقال ابن عباس وغيره : لأنها تبدي حقائق الأشياء . وقيل : سميت بذلك لأن الأمر يحق فيها ، فهي من باب ليل نائم . والحاقة اسم فاعل من حق الشيء إذا ثبت ولم يشك في صحته . وقال الأزهري : حاققته فحققته أحقه : أي غالبته فغلبته . فالقيامة حاقة لأنها تحقق كل محاق في دين الله بالباطل ، أي كل مخاصم فتغلبه . وقيل : الحاقة مصدر كالعاقبة والعافية ، والحاقة مبتدأ ،
الحاقة : ( 2 ) ما الحاقة
وما مبتدأ ثان ، والحاقة خبره ، والجملة خبر عن الحاقة ، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو : زيد ما زيد ،
الحاقة : ( 3 ) وما أدراك ما . . . . .
وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم ، وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد ، يعني التعظيم والتهويل . ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( : مبالغة في التهويل ، والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها . وما استفهام أيضاً مبتدأ ، ( وأدراك ( الخبر ، والعائد على ما ضمير الرفع في ) وَمَا أَدْرَاكَ ( ، وما مبتدأ ، والحاقة خبر ، والجملة في موضع نصب بأدراك ، وأدراك معلقة . وأصل درى أن يعدى بالباء ، وقد تحذف على قلة ، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، فقوله : ) مَا الْحَاقَّةُ ( بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر .
والقارعة من أسماء القيامة ، لأنها تقرع القلوب بصدمتها . وقال الزمخشري : تقرع الناس بالأقراع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار ؛ فوضع الضمير ليدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدّتها .
الحاقة : ( 4 ) كذبت ثمود وعاد . . . . .
ولما ذكرها وفخمها ، أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم . انتهى .
الحاقة : ( 5 - 6 ) فأما ثمود فأهلكوا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَأُهْلِكُواْ ( : رباعياً مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن عليّ : فهلكوا مبنياً للفاعل . قال قتادة : بالطاغية : بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة . وقال مجاهد وابن زيد : بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها . وقال ابن عباس وابن زيد أيضاً وأبو عبيدة ما معناه : الطاغية مصدر كالعاقبة ، فكأنه قال : بطغيانهم ، ويدل عليه(8/315)
" صفحة رقم 316 "
) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ). وقيل : الطاغية : عاقر الناقة ، والهاء فيه للمبالغة ، كرجل راوية ، وأهلكوا كلهم لرضاهم بفعله . وقيل : بسبب الفئة الطاغية . واختار الطبري وغيره أن الطاغية هي الصيحة ، وترجيح ذلك مقابله سبب الهلاك في ثمود بسبب الهلاك في عاد ، وهو قوله : ) بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( ، وتقدّم القول في ) صَرْصَرٍ ( في سورة القمر ، ( عَاتِيَةٍ ( : عتت على خزانها فخرجت بغير مقدار ، أو على عاد فما قدروا على أن يتستروا منها ، أو وصفت بذلك استعارة لشدّة عصفها ،
الحاقة : ( 7 ) سخرها عليهم سبع . . . . .
والتسخير هو استعمال الشيء باقتدار عليه . فمعنى ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ( : أي أقامها وأدامها ، ( سَبْعَ لَيَالٍ ( : بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوّال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر ، ( حُسُوماً ( ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة : تباعاً لم يتخللها انقطاع . وقال الخليل : شؤماً ونحساً . وقال ابن زيد : ) حُسُوماً ( جمع حاسم ، أي تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك ، ومنه حسم العلل والحسام . وقال الزمخشري : وإن كان مصدراً ، فإما أن ينتصب بفعل مضمر ، أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً ، أو تكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أو تكون مفعولاً له ، أي سخرها عليهم للاستئصال . وقرأ السدّي : حسوماً بالفتح : حالاً من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة . وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء . وأسماؤها : الصين والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومصفى الجمر . وقيل : مكفى الطعن .
( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا ( : أي في الليالي والأيام ، أو في ديارهم ، أو في مهاب الريح ؛ احتمالات أظهرها الأول لأنه أقرب ومصرح به . وقرأ أبو نهيك : أعجز ، على وزن أفعل ، كضبع وأضبع . وحكى الأخفش أنه قرىء : نخيل خاوية خلت أعجازها بلى وفساداً . وقال ابن شجرة : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحسو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية . وقال يحيى بن سلام : خلت أبدانهم من أرواحهم . وقال ابن جريج : كانوا في سبعة أيام في عذاب ، ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر ،
الحاقة : ( 8 ) فهل ترى لهم . . . . .
فذلك قوله : ) فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ ). وقال ابن الأنباري : ) مّن بَاقِيَةٍ ( : أي من باق ، والهاء للمبالغة . وقال أيضاً : من فئة باقية . وقيل : ) مّن بَاقِيَةٍ ( : من بقاء مصدر جاء على فاعلة كالعاقبة . وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه ؛
الحاقة : ( 9 ) وجاء فرعون ومن . . . . .
وعاصم في رواية أبان ، والنحويان : ومن قبله ، بكسر القاف وفتح الباء : أي أجناده وأهل طاعته ، وتقول : زيد قبلك : أي فيما يليك من المكان . وكثر استعمال قبلك حتى صار بمنزلة عندك وفي جهتك وما يليك بأي وجه ولي . وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة والسلمي : ) وَمِن قَبْلِهِ ( ، ظرف زمان : أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، كقوم نوح ، وقد أشار إلى شيء من حديثه بعد هذا . ) وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ( : قرى قوم لوط . وقرأ الحسن هنا : والمؤتفكة على الإفراد ، ( بِالْخَاطِئَةِ ( : أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة ، قاله مجاهد ؛ أو بالخطأ ، فيكون مصدراً جاء على فاعلة كالعاقبة ، قاله الجرجاني .
الحاقة : ( 10 ) فعصوا رسول ربهم . . . . .
( فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ ( : رسول جنس ، وهو من جاءهم من عند الله تعالى ، كموسى ولوط عليهما السلام . وقيل : لوط عليه السلام ، أعاده على أقرب مذكور ، وهو رسول المؤتفكات . وقال الكلبي : موسى عليه السلام ، أعاده على الأسبق وهو رسول فرعون . وقيل : رسول بمعنى رسالة ، ( رَّابِيَةً ( : أي نامية . قال مجاهد : شديدة ، يريد أنها زادت على غيرها من الأخذات ، وهي الغرق وقلب المدائن .
الحاقة : ( 11 ) إنا لما طغى . . . . .
( أنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء ( : أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمس عشرة ذراعاً . قال ابن جبير : طغى على الخزان ، كما طغت الريح على خزانها ، ( حَمَلْنَاكُمْ ( : أي في أصلاب آبائكم ، ( فِى الْجَارِيَةِ ( : هي سفينة نوح عليه السلام ، وكثر استعمال الجارية في السفينة ، ومنه قوله تعالى : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( ، وقال الشاعر :
تسعون جارية في بطن جارية
وقال المهدوي : المعنى في السفن الجارية يعني أن ذلك هو على سبيل الامتنان ، والمحمولون هم المخاطبون .(8/316)
" صفحة رقم 317 "
الحاقة : ( 12 ) لنجعلها لكم تذكرة . . . . .
( لِنَجْعَلَهَا ( : أي سفينة نوح عليه السلام ، ( لَكُمْ تَذْكِرَةً ( بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة . قال قتادة : أدركها أوائل هذه الأمة . وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي . وقيل : لنجعل تلك الجملة في سفينة نوح عليه السلام لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح عليه السلام ، ( وَتَعِيَهَا ( : أي تحفظ قصتها ، ( أَذِنَ ( من شأنها أن تعي المواعظ ، يقال : وعيت لما حفظ في النفس ، وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية . وقال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله ؛ وفي الحديث ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لعلي : ( إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي ) . قال علي رضي الله تعالى عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئاً فنسيته ، وقرأها : وتعيها ، بكسر العين وتخفيف الياء العامة ؛ وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه ؛ وقنبل بخلاف عنه : بإسكانها ؛ وحمزة : بإخفاء الحركة ، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل . نحو : كبد وعلم . وتعي ليس على وزن فعل ، بل هو مضارع وعي ، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه . وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق : وتعيها بتشديد الياء ، قيل : وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء إحترازاً ممن سكنها ، لا إدغام حرف في حرف ، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم . وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد الله العنسي : وتعيها بإسكان الياء ، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر ، واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل ) أُذُنٌ واعِيَةٌ ( على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم عند الله تعالى ، وأن ما سواها لا يبالي بالة وإن ملأوا ما بين الخافقين . انتهى ، وفيه تكثير .
الحاقة : ( 13 ) فإذا نفخ في . . . . .
ولما ذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا ، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وبدأ بإعلام يوم القيامة فقال : ) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ( ، وهذه النفخة نفخة الفزع . قال ابن عباس : وهي النفخة الأولى التي حصل عنها خراب العالم ، ويؤيد ذلك قوله : ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ). وقال ابن المسيب ومقاتل : هي النفخة الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ ، والواو لا ترتب . وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً ، ولما كانت مرة أكدت بقوله : ) واحِدَةٌ ). وقرأ الجمهور : نفخة واحدة ، برفعهما ، ولم تلحق التاء نفخ ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل . وقال ابن عطية : لما نعت صح رفعه . انتهى . ولو لم ينعت لصح ، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص ، إنما هو نعت توكيد . وقرأ أبو السمال : بنصبهما ، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل .
الحاقة : ( 14 ) وحملت الأرض والجبال . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَحُمِلَتِ ( بتخفيف الميم ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى : بتشديدها ، فالتخفيف على أن تكون ) الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو القدرة من غير واسطة مخلوق . ويبعد قوله من قال : إنها الزلزلة ، لأن الزلزلة ليس فيها حمل ، إنما هي اضطراب . والتشديد على أن تكون للتكثير ، أو يكون التضعيف للنقل ، فجاز أن تكون ) الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( المفعول الأول أقيم مقام الفاعل ، والثاني محذوف ، أي ريحاً تفتتها أو ملائكة أو قدرة . وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل ، والأول محذوف ، وهو واحد من الثلاثة المقدرة . وثني الضمير في ) فَدُكَّتَا ( ، وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع ، لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال ، أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت ، وترجع كما قال تعالى : ) كَثِيباً مَّهِيلاً ). والدك فيه تفرق الأجزاء لقوله : ) هَبَاء ( ، والدق فيه اختلاف الأجزاء . وقيل : تبسط فتصير أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، وهو من قولهم : بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا ، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما .
الحاقة : ( 15 ) فيومئذ وقعت الواقعة
) فَيَوْمَئِذٍ ( معطوف على ) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ ( ، وهو منصوب بوقعت ، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أن العامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب ، وإن كان مخالفا(8/317)