" صفحة رقم 334 "
الأول لاختلاف الاستعمالين ، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز بجيز عطف ) وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ ( على المفردات قبله ، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي ) وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ ( مثاب .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ) مِنَ النَّاسِ ( خبراً له أي ) مِنَ النَّاسِ ( الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون ، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم ، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال ) وَكَثِيرٌ ( ) وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ حَقّ ( عليهم ) الْعَذَابَ ( انتهى . وهذان التخريجان ضعيفان .
وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء . وقال ابن عطية ) وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ( يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي ) وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ( يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله . وقرىء ) وَكَثِيرٌ ( حقاً أي ) حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ ( حقاً . وقرىء ) حَقّ ( بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن . وقرأ الجمهور ) مِن مُّكْرِمٍ ( اسم فاعل . وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام . قال الزمخشري : ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه ، فقد بقي مهاناً لمن يجد له مكرماً أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة ، ولا يشاء من ذلك إلاّ ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .
الحج : ( 19 - 22 ) هذان خصمان اختصموا . . . . .
ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه ، فقال ) هَاذَانِ ( قال قيس بن عباد وهلال بن يساف ، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . وعن عليّ : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ الله تعالى ، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم . وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم ، قالت اليهود : نحن أقدم ديناً منكم فنزلت . وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق ، فلذلك جاء ) اخْتَصَمُواْ ( مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد ، وفي رواية عن الكسائي ) خَصْمَانِ ( بكسر الخاء ومعنى ) فِى رَبّهِمْ ( في دين ربهم . وقرأ ابن أبي عبلة اختصما ، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار .
وقرأ الزعفراني في اختياره : ) قُطّعَتْ ( بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار . وقال سعيد بن جبير ) ثِيَابُ ( من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه ، فالتقدير من نحاس محمى بالنار . وقيل : الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه . وقال وهب : يكسى أهل النار والعري خير لهم ، ويحيون والموت خير لهم .
ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب . وعن ابن عباس : لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى ) فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( وقرأ الحسن وفرقة ) يُصْهَرُ ( بفتح الصاد وتشديد الهاء . وفي الحديث : ( إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ) . والظاهر عطف ) وَالْجُلُودُ ( على ) مَا ( من قوله ) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ ( وأن ) الجلود ( تذاب كما تذاب الأحشاء . وقيل : التقدير وتخرق ) الجلود ( لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله :(6/334)
" صفحة رقم 335 "
علفتها تبناً وماء بارداً أي وسقيتها ماء . والظاهر أن الضمير في ) بِهَا وَلَهُمْ ( عائد على الكفار ، واللام للاستحقاق . وقيل : بمعنى على أي وعليهم كقوله ) وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ ( أي وعليهم . وقيل : الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية . وقال قوم منهم الضحاك : المقامع المطارق . وقيل : سياط من نار وفي الحديث : ( لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض ) ) وَمِنْ غَمّ ( بد من منها بدل اشتمال ، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها ، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم ، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى ، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم ) أُعِيدُواْ فِيهَا ( أي في تلك الأماكن . وقيل ) أُعِيدُواْ فِيهَا ( بضرب الزبانية إياهم بالمقامع ) وَذُوقُواْ ( أي ويقال لهم ذوقوا .
الحج : ( 23 ) إن الله يدخل . . . . .
ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر . وقرأ الجمهور ) يُحَلَّوْنَ ( بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام . وقىء بضم الياء والتخفيف . وهو بمعنى المشدد . وقرأ ابن عباس ) يُحَلَّوْنَ ( بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم : حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال . وقال أبو الفضل الرازي : يجوز أن يكون من حَلي يعيني يحلى إذا استحسنته ، قال فتكون ) مِنْ ( زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى . وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة ) مِنْ ( في الواجب وليس مذهب البصريين ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت ) مِنْ ( للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض . قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن تكون ) مِنْ ( حليت به إذا ظفرت به ، فيكون المعنى ) يُحَلَّوْنَ فِيهَا ( بأساور فتكون ) مِنْ ( بدلاً من الباء ، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية ، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى . ومن معنى الظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل ، أي لم يظفر . والظاهر أن ) مِنْ ( في ) مِنْ أَسَاوِرَ ( للتبعيض وفي ) مّن ذَهَبٍ ( لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب .
وقال ابن عطية : ) مِنْ ( في ) مِنْ أَسَاوِرَ ( لبيان الجنس ، ويحتمل أن تكون للتبيعض . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف . وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء ، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف . وقرأ اصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب ) وَلُؤْلُؤاً ( هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون ) لُؤْلُؤاً ( ومن جعل ) مِنْ ( في ) مِنْ أَسَاوِرَ ( زائدة جاز أن يعطف ) وَلُؤْلُؤاً ( على موضع ) أَسَاوِرَ ( وقيل يعطف على موضع ) مِنْ أَسَاوِرَ ( لأنه يقدر و ) يُحَلَّوْنَ ( حلياً ) مِنْ أَسَاوِرَ ). وقرأ باقي السبعة والحسن أيضاً وطلحة وابن وثاب والأعمش . وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفاً على ) أَسَاوِرَ ( أو على ) ذَهَبَ ( لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ ، يجمع بعضه إلى بعض .
قال الجحدري : الألف ثابتة بعد الواو في الإمام . وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى . وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك . وقرأ الفياض : ولولياً قلب الهمزتين واواً صارت الثانية واواً قبلها ضمة ، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة . وقرأ ابن عباس وليلياً أبدل المهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية . وقرأ طلحة ولول مجروراً عطفاً على ما عطف عليه المهموز .
الحج : ( 24 ) وهدوا إلى الطيب . . . . .
( وَالطَّيّبُ مِنَ الْقَوْلِ ( إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلاّ الله ، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها ، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخباراً عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة ، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة . وعن ابن عباس : هو لا إله إلا الله والحمد لله زاد ابن زيد والله أكبر . وعن السدّي القرآن . وحكى(6/335)
" صفحة رقم 336 "
الماوردي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وعن ابن عباس : هو الحمد لله الذي صدقنا وعده ، والظاهر أن ) الْحَمِيدِ ( وصف لله تعالى . قال ابن عطية : ويحتمل أن يرد بالحميد نفس الطريق ، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله : دار الآخرة .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ ).
الحج : ( 25 ) إن الذين كفروا . . . . .
المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه ) وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( كقوله ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ( وقيل : هو مضارع أريد به الماضي عطفاً على ) كَفَرُواْ ( وقيل : هو على إضمار مبتدأ أي وهم ) يَصِدُّونَ ( وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد ) وَالْبَادِ ( خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله ) الْحَرَامِ ( نذيقهم ) مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة ) الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( فموضع التقدير هو بعد ) وَالْبَادِ ( لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ ، ابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك . وقيل : الواو في ) وَيَصُدُّونَ ( زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون . قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى . ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه .
وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلاّ أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه . وقيل : الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه السلام فنزلوا خارجاً عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصد من الحرم .
وقرأ الجمهور ) سَوَآء ( بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني ، والأحسن أن يكون ) الْعَاكِفُ ( هو المبتدأ و ) فِيهِ سَوَآء ( الخبر ، وقد أجيز العكس . وقال ابن عطية : والمعنى ) الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ ( قبلة أو متعبداً انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلاّ إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير . وقرأ حفص والأعمش ) سَوَآء ( بالنصب وارتفع به ) الْعَاكِفُ ( لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل . ومن كلامهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء . وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي ) سَوَآء ( بالنصب ) الْعَاكِفُ فِيهِ ( بالجر . قال ابن عطية : عطفاً على الناس انتهى . وكأنه يريد عطف البيان الأولى أن يكون بدل تفصيل .
وقرىء ) والبادي ( وصلاً ووقفاً وبتركها فيهما ، وبإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً ) سَوَاء الْعَاكِفُ ( المقيم فيه ) والبادي ( الطارىء عليه ، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة ، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة ، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول . قال ابن سابط : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ، فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه ، فاتخذ الناس الأبواب وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحاً ؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه .
والإلحاد الميل عن القصد . ومفعول ) مِن بَرَدٍ ( قال أبو عبيدة هو ) بِإِلْحَادٍ ( والباء زائدة في المفعول . قال الأعشى(6/336)
" صفحة رقم 337 "
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوباً قرأ ) وَمَن يُرِدِ ( إلحاده بظلم أي إلحاداً فيه فتوسع . وقال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير ) وَمَن يُرِدْ فِيهِ ( الناس ) بِإِلْحَادٍ ). وقال الزمخشري : ) بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( حالان مترادفتان ومفعول ) يُرِدْ ( متروك ليتناول كل متناول ، كأنه قال ) وَمَن يُرِدْ فِيهِ ( مراد إمّا عادلاً من القصد ظالماً ) نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( وقيل : الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته . وعن سعيد بن جبير : الاحتكار . وعن عطاء : قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله انتهى . والأولى أن تضمن ) يُرِدْ ( معنى يتلبس فيتعدى بالباء . وعلق الجزاء وهو ) نُذِقْهُ ( على الإرادة ، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلاّ في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة . وقال ابن عباس : الإلحاد هنا الشرك . وقال أيضاً : هو استحلال الحرام . وقال مجاهد : هو العمل السيىء فيه . وقال ابن عمر : لا والله وبلى والله من الإلحاد . وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم ، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم . وقرأت فرقة ) وَمَن يُرِدِ ( بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ومعناه ومن أتى به ) بِإِلْحَادٍ ( ظالماً .
الحج : ( 26 ) وإذ بوأنا لإبراهيم . . . . .
ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم ) وَإِذْ بَوَّأْنَا ( أي واذكر ) إِذْ بَوَّأْنَا ( أي جعلنا ) لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ( مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة . قيل : واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله ) لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً ( وقال الشاعر :
كم صاحب لي صالح
بوّأته بيدي لحدا
وقيل : مفعول ) بَوَّأْنَا ( محذوف تقديره بوّأنا الناس ، واللام في ) لإِبْراهِيمَ ( لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه . والظاهر أن قوله ) أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً ( خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر . وقيل : هو خطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) وَأَنْ ( مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية ، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير . قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و ) بَوَّأْنَا ( ليس فيه معنى القول ، والأولى عندي أن تكون ) ءانٍ ( الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة ؟ قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له ) لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ ( من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله .
وقرأ عكرمة وأبو نهيك : أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له . قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن ) لاَ تُشْرِكْ ). والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود .
الحج : ( 27 - 29 ) وأذن في الناس . . . . .
وقرأ الجمهور ) وَأَذّن ( بالتشديد أي ناد . روي أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقاله الحسن قال : أمر أن يفعل ذلك في(6/337)
" صفحة رقم 338 "
حجة الوداع . وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال . قال ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عهما ) وَأَذّن ( على فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على ) بَوَّأْنَا ( انتهى . وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه . وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن . قال صاحب اللوامح : وهو عطف على ) وَإِذْ بَوَّأْنَا ( فيصير في الكلام تقديم وتأخير ، ويصير ) يَأْتُوكَ ( جزماً على جواب الأمر الذي هو ) وَطَهّرْ ( انتهى . وقرأ ابن أبي إسحاق ) بِالْحَجّ ( بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها . وقرأ الجمهور ) رِجَالاً ( وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف ، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز ، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم . وعن عكرمة أيضاً رجالى على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة ، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير ، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار .
وقرأ الجمهور ) يَأْتِينَ ( فالظاهر عود الضمير ) عَلَى كُلّ ضَامِرٍ ( لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب ، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل ) رِجَالاً ( و ) كُلّ ضَامِرٍ ( على معنى الجماعات والرفاق . وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلاً للمشاة إلى الحج . وعن ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشياً ، والاستدلال بقوله ) يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ ( على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه ، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بخر ، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب ، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها . وقرأ ابن مسعود فج معيق . قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة . وقال الباقر : الأجر . وقال مجاهد وعطاء كلاهما ، واختاره ابن العربي .
قال الزمخشري : ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات . وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج ، فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص ، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا ، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسيناً بيِّناً أن جمع بين قوله ليذكروا اسم الله عليه . وقوله ) عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ( ولو قيل لينحروا ) فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ( ) بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ ( لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة انتهى .
واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم الله هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله ) فِى أَيَّامٍ ( وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي . وقيل : الذكر هنا حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام : ( أنها أيام أكل وشرب ) وذكر اسم الله والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة ، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة . وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه : المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة ، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان ، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند عليّ وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري ، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وعند النخعي النحر يومان ، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد ، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم . وقال ابن عطية : ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم ، ويكون فائدة قوله ) مَّعْلُومَاتٍ ( ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي(6/338)
" صفحة رقم 339 "
ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى .
والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول ) بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ ( في أول المائدة ، والظاهر وجوب الأكل والإطعام . وقيل : باستحبابهما . وقيل : باستحباب الأكل ووجوب الإطعام . و ) الْبَائِسَ ( الذي أصابه بؤس أي شدة . والتفث : ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث ، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلاّ بعد ذلك . وقال ابن عمر : التفث ما عيهم من الحج وعنه المناسك كلها ، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم . وقيل : المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو لم ينذروا . وقرأ شعبة عن عاصم ) وَلْيُوفُواْ ( مشدّداً والجمهور مخففاً ) وَلْيَطَّوَّفُواْ ( هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج ، وبه تمام التحلل . وقيل : هو طواف الصدر وهو طواف الوداع . وقال الطبري : لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة . قال ابن عطية : ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى .
و ) الْعَتِيقِ ( القديم قاله الحسن وابن زيد ، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة ، كم جبار سار إليه فأهلكه الله قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج ، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له : رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه ، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد ، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضاً وابن جبير ، أو الجيد من قولهم : عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب . قال ابن عطية : وهذا يردّه التصريف انتهى . ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى ، وأما من حيث الإعراب فلأن ) الْعَتِيقِ ( فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ، ونسب الإعتاق إليه مجازاً إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق ، وينشأ عن كونه معتقاً أن يقال فيه : يعتق فيه رقاب المذنبين .
الحج : ( 30 ) ذلك ومن يعظم . . . . .
( ذالِكَ ( خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم ) ذالِكَ ( أو الواجب ) ذالِكَ ( وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن ) ذالِكَ ( قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا وقد كان كذا انتهى . وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي ) ذالِكَ ( الأمر الذي ذكرته . وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا ) ذالِكَ ( ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم : هذا وليس كمن يعيا بخطبته
وسط الندى إذا ما ناطق نطقا وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة ، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال : هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته ، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه ، والظاهر عمومه في جميع التكاليف ، ويحتمل الخصوص مبا يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال : ما أمر به من المناسك ، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج : فسوق وجدال وجماع وصيد . وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل . وضمير ) فَهُوَ ( عائد على المصدر المفهوم من قوله ) وَمَن يُعَظّمْ ( أي فالتعظيم ) خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ ( أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها ، والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل .
( وَأُحِلَّتْ لَكُمُ بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ ( دفعاً لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة ، ويعني بقوله ) إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( ما نص في كتابه على تحريمه ، والمعنى ) مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( آية تحريمه .
ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات ، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال ) فَاجْتَنِبُواْ ( عبادة ) الاْوْثَانِ ( التي(6/339)
" صفحة رقم 340 "
هي رأس الزور ) وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ ( كله . و ) مِنْ ( في ) مِنَ الاْوْثَانِ ( لبيان الجنس ، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان ، ومن أنكر أن تكون ) مِنْ ( لبيان الجنس جعل ) مِنْ ( لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا .
قال ابن عطية : ومن قال أن ) مِنْ ( للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى . وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان ، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج ، فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع ؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها ، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها ، ولما كان قول الزور معادلاً للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه . وفي الحديث : ( عدلت شهادة الزور بالشرك ) .
الحج : ( 31 ) حنفاء لله غير . . . . .
ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور ضرب مثلاً للمشرك فقال ) وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ( الآية . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق ، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من ) خَرَّ مِنَ السَّمَاء ( فاختطفته ) الطَّيْرُ ( فتفرق مرعاً في حواصلها ، وعصفت به ) الرّيحَ ( حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة ، وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والإهواء التي تنازع أوكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي ) تَهْوِى ( مما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة انتهى . وقرأ نافع ) فَتَخْطَفُهُ ( بفتح الخاء والطاء مشددة وباقي السبعة بسكون الخاء وتخفيف الطاء . وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش بكسر التاء والخاء والطاء مشددة ، وعن الحسن كذلك إلاّ أنه فتح الطاء مشددة . وقرأ الأعمش أيضاً تخطه بغير فاء وإسكان الخا وفتح الطاء مخففة . وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء : الرياح .
( ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ).
الحج : ( 32 - 33 ) ذلك ومن يعظم . . . . .
إعراب ) ذالِكَ ( كإعراب ) ذالِكَ ( المتقدم ، وتقدم تفسير ) شَعَائِرَ اللَّهِ ( في أول المائدة ، وأما هنا فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هي البدن الهدايا ، وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها . وقال زيد بن أسلم : الشعائر ست : الصفا ، والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن . وتعظيمها إتمام ما يفعل فيها . وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد : مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك ، وهذا نحو من قول زيد بن أسلم .
وقيل : شرائع دينه وتعظيمها التزامها والمنافع الأجر ، ويكون والضمير في ) فِيهَا ( من قوله ) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ( عائداً على الشعائر التي هي الشرائع أي ) لَكُمْ فِى ( التمسك بها ) مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ ( منقطع التكليف ) ثُمَّ مَحِلُّهَا ( بشكل على هذا التأويل . فقيل : فقيل : الإيمان والتوجه إليه بالصلاة ، وكذلك القصد في الحج والعمرة ، أي محل ما يختص منها بالإحرام ) الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( وقيل : معنى ذلك ثم أجرها على رب ) الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( قيل : ولو قيل على هذا التأويل أن ) الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الجنة لم يبعدوا الضمير في إنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها أو على التعظمة ، وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام : ( التقوى ههنا ) . وأشار إلى صدره . وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال : ( بل اهدها ) وأهدى هو عليه السلام مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ، وكان ابن عمر يسوق البدن(6/340)
" صفحة رقم 341 "
مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها ، ويعتقد أن طاعة الله في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه ، وذكر ) الْقُلُوبُ ( لأن المنافق يظهر التقوى وقلبه خال عنها ، فلا يكون مجداً في أداء الطاعات ، والمخلص التقوى بالله في قلبه فيبالغ في أدائها على سبيل الإخلاص .
وقال الزمخشري : فإن تعظيمها ) مِنْ ( أفعال ذوي ) تَقْوَى الْقُلُوبِ ( فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى ) مِنْ ( ليتربط به ، وإنما ذكرت ) الْقُلُوبُ ( لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى .
وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى ) مِنْ ( ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى ) مِنْ ( يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أداته ) مِنْ ( وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه ، فيكون الضمير في منه عائداً على من فيرتبط الجزاء بالشرط .
وقرىء ) الْقُلُوبُ ( بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو ) تَقْوَى ( والضمير في ) فِيهَا ( عائد على البدن على قول الجمهور ، والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها ) إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( وهو أن يسميها ويوجبها هدياً فليس له شيء من منافعها . قاله ابن عباس في رواية مقسم ، ومجاهد وقتادة والضحاك . وقال عطاء : منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هدياً بأن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة ) إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( أي إلى أن تنحر . وقيل : إلى أن تشعر فلا تركب إلاّ عند الضرورة . وروى أبو رزين عن ابن عباس : الأجل المسمى الخروج من مكة . وعن ابن عباس ) إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( أي إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها . وقيل : الأجل يوم القيامة . وقال الزمخشري : إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها .
و ) ثُمَّ ( للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال ، والمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وإنما يعبد الله بالمنافع الدينية قال تعالى : ) تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ ( وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها ، أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله ) هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ( والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت لأن الحرم هو حريم البيت ، ومثل هذا في الاتساع قولك : بلغنا البلد وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده . وقيل : المراد بالشعائر المناسك كلها و ) مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( يأباه انتهى .
وقال القفال : الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه ، فإذا بلغ منى فهي محله وكل فجاج مكة . وقال ابن عطية : وتكرر ) ثُمَّ ( لترتيب الجمل لأن المحل قبل الأجل ، ومعنى الكلام عند هاتين الفريقين يعني من قال مجاهد ومن وافقه ، ومن قال بقول عطاء ) ثُمَّ مَحِلُّهَا ( إلى موضع النحر فذكر البيت لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره ، والأجل الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله ) ثُمَّ مَحِلُّهَا ( مأخوذ من إحلال المحرم معناه ، ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق ، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك في الموطأ انتهى .
الحج : ( 34 ) ولكل أمة جعلنا . . . . .
والمنسك مفعل من نسك واحتمل أن يكون موضعاً للنسك ، أي مكان نسك ، واحتمل أن يكون مصدراً واحتمل أن يراد به مكان العبادة مطلقاً أو العبادة ، واحتمل أن يراد نسك خاص أو نسكاً خاصاً وهو موضع ذبح أو ذبح ، وحمله الزمخشري على الذبح ، يقال : شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على المناسك انتهى . وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان ، وبالفتح قرأ الجمهور . وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه . قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب . وقال الأزهري : مينسك ومنسك لغتان . وقال مجاهد : المنسك الذبح ، وإراقة الدماء يقال : نسك إذا ذبح ، والذبيحة نسيكة وجمعها نسك . وقال الفرّاء : المنسك في كلام العرب المعتاد في خير وبر . وقال ابن عرفة ) مَنسَكًا ( أي مذهباً من طاعة الله ، يقال : نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم . وقال الفراء ) مَنسَكًا ( عيداً وقال قتادة : حجاً .(6/341)
" صفحة رقم 342 "
) لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ ( معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله ، وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك ، ثم خرج إلى الحاضرين فقال ) فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ ( أي انقادوا ، وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها لغيره ، وتقدم شرح الإخبات . وقال عمرو بن أوس : المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا .
الحج : ( 35 ) الذين إذا ذكر . . . . .
وقرأ الجمهور ) الَّذِينَ إِذَا ( بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها . وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية ) الصَّلَواةِ ( بالنصب وحذفت النون لأجلها . وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون ) الصَّلَواةِ ( بالنصب . وقرأ الضحاك : والمقيم الصلاة ، وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة ، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلاّ الله تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة ، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلاّ المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها .
الحج : ( 36 ) والبدن جعلناها لكم . . . . .
وقرأ الجمهور ) وَالْبُدْنَ ( بإسكان الدال . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل ، ورويت عن أبي جعفر ونافع . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً بضم الياء والدال وتشديد النون ، فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بُني على فعل كعتل ، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، والجمهور على نصب ) وَالْبُدْنَ ( على الاشتغال أي وجعلنا ) البدن ( وقرىء بالرفع على الابتداء و ) اللَّهُ لَكُمْ ( أي لأجلكم و ) مِن شَعَائِرِ ( في موضع المفعول الثاني ، ومعنى ) مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ( من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيماً لها ) لَكُمْ فِيهَا ( قال ابن عباس : نفع في الدنيا ، وأجر في الآخرة . وقال السدّي أجر . وقال النخعي : من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب ) اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ( أي على نحرها . قال مجاهد : معقولة . وقال ابن عمر ، قائمة قد صفت أيديها بالقيود . وقال ابن عيسى : مصطفة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ، اللهم منك وإليك . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج : صوافي جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد .
قال الزمخشري : التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى . والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف ، ولا سيما الجمع المتناهي ، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيراً حتى ادّعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه الله تعالى لا يشرك فيها بشيء ، كما كانت الجاهلية تشرك .
وقرأ الحسن أيضاً ) صَوَافَّ ( مثل عوار وهو على قول من قال فكسرت غار لحمه يريد عارياً وقولهم : اعط القوس باريها . وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون ، والصافنة من البدن ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم وأكثر ما يستعمل في الخيل ) فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها . قال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي ) الْقَانِعَ ( السائل ) وَالْمُعْتَرَّ ( المعترض من غير سؤال ، وعكست فرقة هذا . وحكى الطبري عن ابن عباس ) الْقَانِعَ ( المستغني بما أعطيه ) وَالْمُعْتَرَّ ( المعترض من غير سؤال . وحكى عنه ) الْقَانِعَ ( المتعفف ) وَالْمُعْتَرَّ ( السائل . وعن مجاهد ) الْقَانِعَ ( الجار وإن كان غنياً . وقال قتادة ) الْقَانِعَ ( من القناعة ) وَالْمُعْتَرَّ ( المعترض للسؤال . وقيل ) المعتر ( الصديق الزائر . وقرأ أبو رجاء : القنع بغير ألف أي ) وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ ( فحذف الألف كالحذر والحاذر . وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعترى . وقرأ عمرو وإسماعيل ) وَالْمُعْتَرَّ ( بكسر الراء دون ياء ، هذا نقل ابن خالويه .
وقال أبو الفضل الرازي في(6/342)
" صفحة رقم 343 "
كتاب اللوامح أبو رجاء بخلاف عنه ، وابن عبيد والمعتري على مفتعل . وعن ابن عباس برواية المقري ) وَالْمُعْتَرَّ ( أراد المعتري لكنه حذف الياء تخفيفاً واستغناءً بالكسرة عنها ، وجاء كذلك عن أبي رجاء . قال ابن مسعود : الهدي أتلات . وقال جعفر بن محمد أطعم القانع والمعتر ثلثاً ، والبائس الفقير ثلثاً ، وأهلي ثلثاً . وقال ابن المسيب : ليس لصاحب الهدي منه إلاّ الربع وهذا كله على جهة الاستحباب لا الفرض قاله ابن عطية ) كَذالِكَ ( سخرها لكم أي مثل ذلك التسخير ) سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ (
الحج : ( 37 ) لن ينال الله . . . . .
تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها فتطعنون في لباتها ، منّن عليهم تعالى بذلك ولولا تسخير الله لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة . وقال ابن عطية : كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرنا لكم لن ينال الله لحومها ولا دماؤها .
قال مجاهد : أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوباً حول الكعبة ونضح الكعبة حواليها بالدم تقرّباً إلى الله ، فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس قريب منه ، والمعنى لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر ، والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلاّ بمراعاة النية والإخلاص والاحتياط بشروط التقوى في حل ما قرب به وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع ، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقريب ، وإن كثر ذلك منهم قاله الزمخشري وهو تكثير في اللفظ . وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري وإسحاق الكوفي عن عاصم والزعفراني ويعقوب . وقال ابن خالويه : تناله التقوى بالتاء يحيى بن يعمر والجحدري . وقرأ زيد بن علي ) لُحُومُهَا وَلاَ ( بالنصب ) دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ ( بضم الياء وكرر ذكر النعمة بالتسخير . قال الزمخشري : لتشكروا الله على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تكبروا وتهللوا فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعديّ تعديته انتهى . ) وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ ( ظاهر في العموم . قال ابن عباس : وهم الموحدون وروي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة .
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاٌّ رْضِ أَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاٍّ مُورِ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاٌّ بْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُم(6/343)
" صفحة رقم 344 "
نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِىأُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأاياتِنَا فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الاٌّ رْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاٌّ رْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاٌّ رْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَهُوَ الَّذِىأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاٌّ مْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُون(6/344)
" صفحة رقم 345 "
َ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( )
الحج : ( 38 ) إن الله يدافع . . . . .
الهدم : معروف وهو نقض ما بُني . قال الشاعر : وكل بيت وإن طالت إقامته
على دعائمه لا بدّ مهدوم
الصومعة : موضع العبادة وزنها فعولة ، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع من الرجال الحديد القول ، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين ، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين . البيع : كنائس النصارى واحدها بيعة . وقيل : كنائس اليهود . البئر : من بأرت أي حفرت ، وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول ، وقد تذكر على معنى القليب . تعطيل الشيء : إبطال منافعه . العقم : الامتناع من الولادة ، يقال : امرأة عقيم ورجل عقيم لا يولد له ، والجمع عقم وأصله من القطع ، ومنه الملك عقيم أي يقطع فيه الأرحام بالقتل ، والعقيم الذي قطعت ولادتها . وقال أبو عبيد العقم السد ، يقال : امرأة معقومة الرحم أي مسدودة الرحم . السطو : القهر . وقال ابن عيسى : السطوة إظهار ما يهول للإخافة . الذباب : الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها ، وعلى ذبّ والمذبة ما يطرد به الذباب ، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها ، وأسنان الإبل . سلبت الشيء : اختطفته بسرعة . استنقذ : استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل .
( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ ).
روي أن المؤمنين لما كثروا بمكة أذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنة من الكفار ويحتال ويغدر ، فنزلت إلى قوله ) كَفُورٌ ( وعد فيها بالمدافعة ونهى عن الخيانة ، وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم ، وعلل ذلك بأنه لا يحب أعداءهم الخائنين الله والرسول الكافرين نعمه .(6/345)
" صفحة رقم 346 "
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج ، وكان المشركون قد صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين ، أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال وتمكينهم في الأرض يردهم إلى ديارهم وفتح مكة ، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى وقال تعالى : ) وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).
وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع ) يُدَافِعُ ( ولولا دفاع الله . وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع ) وَلَوْلاَ دَفْعُ ( وقرأ الكوفيون وابن عامر ) يُدَافِعُ ( ) وَلَوْلاَ دَفْعُ ( وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت . وقال الأخفش : دفع أكثر من دافع . وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً . وقال ابن عطية : يحسن ) يُدَافِعُ ( لأنه قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ، ودفعه مدافعة عنهم انتهى . يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى . وقال الزمخشر : ومن قرأ ) يُدَافِعُ ( فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى . ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم
الحج : ( 39 ) أذن للذين يقاتلون . . . . .
ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله لهم في القتال .
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة ) أَذِنَ ( وفتح باقي السبعة . وقرأ نافع وابن عامر وحفص ) يُقَاتَلُونَ ( بفتح التاء والباقون بكسرها ، والمأذون فيه محذوف أي في القتال لدلالة ) يُقَاتَلُونَ ( عليه وعلل للإذن ) بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ( كانوا يأتون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بين مضروب ومشجوج ، فيقول لهم : ( اصبروا فإني لم أومر بالقتال ) حتى هاجر وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيف وسبعين آية . وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم .
( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( وعد بالنصر والإخبار بكونه يدفع عنهم
الحج : ( 40 ) الذين أخرجوا من . . . . .
( الَّذِينَ أُخْرِجُواْ ( في موضع جر نعت للذين ، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم . و ) إِلا أَنْ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ( في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه ، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت ) الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم ( ) إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ( لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار ، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول : ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه . وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال ) أَن يَقُولُواْ ( في محل الجر على الإبدال من ) حَقّ ( أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير ، ومثله ) هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا ( انتهى .
وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ، نحو : ما قام أحد إلاّ زيد ، ولا يضرب أحد إلاّ زيد ، وهل يضرب أحد إلاّ زيد ، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل : لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل ، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل ، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت قام إلاّ زيد ، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز . ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ الله لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون ) إِلاَّ أَن يَقُولُواْ ( في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى ) حَقّ ( وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير ) إِلاَّ أَن يَقُولُواْ ( وهذا لا يصح ، ولو قدرت ) إِلا ( بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح ، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم ) رَبُّنَا اللَّهُ ( فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير ، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى ، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول :(6/346)
" صفحة رقم 347 "
مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل .
( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ( الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل ، وأنه تعالى أجرى العاد بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ، وكأنه لما قال ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ( قيل : فليقاتل المؤمنون ، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله ) وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت ، وقتل داود جالوت . وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا .
وقال عليّ بن أبي طالب : ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم ، وأخذ الزمخشري قول عليّ وحسنه وذيل عليه فقال : دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة ، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود صلوات ، ولا للمسلمين مساجد ، ولغلب المشركون في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى .
وقال مجاهد : ) وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ ( ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا . وقال قوم ) دَفْعُ ( ظلم الظلمة بعدل الولاة . وقالت فرقة ) دَفْعُ ( العذاب بدعاء الأخيار . وقال قطرب : بالقصاص عن النفوس . وقيل : بالنبيين عن المؤمنين . وقال الحسن : لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة ، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد .
وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني ) فهدمت ( مخففاً وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها . وقرأ الجمهور ) اللَّهِ وَصَلَواتِ ( جمع صلاة . وقرأ جعفر بن محمد ) وَصَلَواتِ ( بضم الصاد واللام . وحكى عنه ابن خالويه ) صَلَواتٌ ( بسكون اللام وكسر الصاد ، وحكيت عن الجحدري والجحدري ) صَلَواتٌ ( بضم الصاد وفتح اللام ، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام ) صَلَواتٌ ( والحجاج بن يوسف والجحدري أيضاً وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث ، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلاّ أنه بعد الثاء ألف . وقرأ عكرمة : وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف ، والجحدري أيضاً ) صَلَواتٌ ( بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط . وحكى ابن مجاهد أنه قرىء كذلك إلا أنه بكسر الصاد . وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف ، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط .
قيل : هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب . وقيل : عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل ، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به . وروى هارون عن أبي عمرو ) صَلَواتٌ ( كقراءة الجماعة إلاّ أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله ، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان . وقيل : للصابئين ، والبيع للنصارى ، والصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف . قال ابن عطية : والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات ، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلاّ البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر ، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأنّ هؤلاء ليس لهم ما يوجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلاّ عند أهل الشرائع(6/347)
" صفحة رقم 348 "
انتهى .
والظاهر عود الضمير في قوله ) يُذْكَرُ فِيهَا ( على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل ، فيكون ) يُذْكَرِ ( صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين ) لَّهُدّمَتْ ( معنى عطلت فصار التعطيل قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال ، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه ، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف . وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه ، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً وفي ذلك حض على القتال . ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم ) عَزِيزٌ ( لا يغالب .
الحج : ( 41 ) الذين إن مكناهم . . . . .
والظاهر أنه يجوز في إعراب ) الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ ( ما جاز في إعراب ) الَّذِينَ أُخْرِجُواْ ( وقال الزجاج : هو منصوب بدل ممن ينصره ، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق ، والظاهر أنه من وصف المأذون لهم في القتال وهم المهاجرون ، وفيه إخبار بالغيب عما يكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا ، وكيف يقومون بأمر الدين . وعن عثمان رضي الله عنه : هذا والله ثناء قبل بلاء ، يريد أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا ، وقالوا : فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء . وفي الآية أخذ العهد على من مكنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية . وقيل : نزلت في أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وعن الحسن وأب العالية : هم أمّته عليه السلام . وعن عكرمة : هم أهل الصلوات الخمس ، وهو قريب مما قبله . وقال ابن أبي نجيح : هم الولاة . وقال الضحاك : هو شرط شرطه الله من آناه الملك .
وقال ابن عباس : المهاجرون والأنصار والتابعون ) وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ ( توعد للمخالف ما ترتب على التمكين
الحج : ( 42 - 44 ) وإن يكذبوك فقد . . . . .
( وَإِن يُكَذّبُوكَ ( الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم ، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة ، وبنى الفعل للمفعول في ) وَكُذّبَ مُوسَى ( أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط ) فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ( أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم ، وفي قوله ) فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ( ترتيب الإملاء على وصف الكفر ، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما ، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك ، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر ، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب ؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش
الحج : ( 45 ) فكأين من قرية . . . . .
( فَكَأَيّن ( للتكثير ، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال .
وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكها بتاء المتكلم ، والجمهور بنون العظمة ) وَهِىَ ظَالِمَةٌ ( جملة حالية ) فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله ) أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ( وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل الجملتين من الإعراب ؟ أعني ) وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ ( قلت : الأولى في محل نصب على الحال ، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على ) هلكناها ( وهذا الفعل ليس له محل انتهى .
وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن ) نَكِيرِ فَكَأَيّن ( الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله ) أَهْلَكْنَاهَا ( فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر ، فيكون قوله ) فَهِىَ خَاوِيَةٌ ( في موضع رفع ، لكن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب ) فَكَأَيّن ( منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال ، فتكون الجملة من قوله ) وأهلكناها ( مفسرة لذلك الفعل ، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له .
وقرأ الجحدري والحسن وجماعة ) وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ ( مخففاً يقال : عطلت البئر وأعطلتها فعطلت ، هي بفتح الطاء ، وعطلت المرأة من الحليّ بكسر الطاء . قال الزمخشري : ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلاّ أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلكنا ، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و ) وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ( أخليناه عن ساكنيه ، فترك ذلك(6/348)
" صفحة رقم 349 "
لدلالة ) مُّعَطَّلَةٍ ( عليه انتهى .
( وَبِئْرٍ ( ) وَقَصْرٍ ( معطوفان على ) مِن قَرْيَةٍ ( ) وَمِنْ قَرْيَةٌ ( تمييز لكأين ، ( وَكَأَيّن ( تقتضي التكثير ، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين ، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لكن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ ، وينبغي أن يكون ) بئر ( ) مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ ( من حيث عطفاً على ) مِن قَرْيَةٍ ( أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبراً به عن ) كأين ( الذي هو القرية من حيث المعنى . والمراد أهل القرية والبئر والقصر ، وجعل ) عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ( معطوفين على ) عُرُوشِهَا ( جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في ) بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ( لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه ، وهذا مفرد وأيضاً ) مَّشِيدٍ ( فاصلة آية .
وقد عين بعض المفسرين هذه البئر . فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس . وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد . وعن الضحاك وغيره : أن البئر بحضرموت من أرض الشحر ، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى ، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئاً يسقط فيها . روي أن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب . وهي بحضرموت ، وسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراً بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس ، وأقاموا بها زمناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان ، وقيل : اسمه شريح بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم . وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت .
( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ).
الحج : ( 46 ) أفلم يسيروا في . . . . .
لما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيراً ما يمرون على كثير منها قال ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( فاحتمل أن يكون حثاً على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا ، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا . وقرأ مبشر بن عبيد : فيكون بالياء والجمهور بالتاء ) فَتَكُونُ ( منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية ، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي . وقيل : على جواب النفي ، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم ، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على ) يَسِيرٌ ( ، وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم ، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله ، ولا ينكر أن للدفاع بالقلب اتصالاً يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق ) يَعْقِلُونَ بِهَا ( محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و ) يَعْقِلُونَ ( ما يجب من التوحيد ، وكذلك مفعول ) يَسْمَعُونَ ( أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي . والضمير في ) فَإِنَّهَا ( ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في ) لاَ تَعْمَى ( ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله فإنه لا تعمى .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره ) الاْبْصَارِ ( وفي ) تَعْمَى ( راجع إليه انتهى . وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور ، وليس هذا واحداً منها وهو في باب رب وفي باب نعم . وبئس ، وفي باب الأعمال ، وفي باب البدل ، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه . وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير(6/349)
" صفحة رقم 350 "
الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضاً وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الستة فوجب اطّراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها ، وإنما العمى بقلوبهم ، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لكن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لكن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب ، ووصفت ) الْقُلُوبُ ( بالتي ) فِى الصُّدُورِ ). قال ابن عطبة مبالغة كقوله ) يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم ( وكما تقول نظرت إليه بعيني .
وقال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً انتهى .
وقوله ولكن تعمّدت به إياه بعينه تعمداً فصل الضمير وليس من مواضع فصله ، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول : ضربت به إياك ، وفصله في مكان اتصاله عجمة ، وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر ، والتدبير كقوله تعالى ) إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر .
الحج : ( 47 ) ويستعجلونك بالعذاب ولن . . . . .
والضمير في ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ( لقريش ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه ، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله ) وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ( أي إن ذلك واقع لا محالة ، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه . وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى .
وقال الزمخشري : أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل ، كأنه قال : ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد ، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى . وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال .
وقيل : ) وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ( في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه . فقيل : في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم . وفي الحديث الصحيح : ( يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله . وقيل : التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه ، والشدة أي ) وَإِنَّ يَوْماً ( من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله ) كَأَلْفِ سَنَةٍ ( من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة ، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم . وقيل : التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد ) كَأَلْفِ سَنَةٍ ( واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار ، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلاّ إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة . وقال ابن عباس : أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض . وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد ، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد . وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة ، وأريد العذاب في الدنيا أي ) لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ( في إنزال(6/350)
" صفحة رقم 351 "
العذاب بكم في الدنيا ، ( وَإِنَّ يَوْماً ( من أيام عذابكم في الآخرة ) كَأَلْفِ سَنَةٍ ( من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب . وقال الزجاج : تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره .
وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة ، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت
الحج : ( 48 ) وكأين من قرية . . . . .
( فَكَأَيّن ( الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو . وقال الزمخشري : الأولى وقعت بدلاً عن قوله ) فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله ) لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ ( وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير ، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيهاً على أن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم .
الحج : ( 49 - 51 ) قل يا أيها . . . . .
ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة ) قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ ( من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها ، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين ، و ) يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( نداء لهم وهم المقول فيهم ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( والمخير عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد الله لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة التي فيها فوزهم ، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به .
وقال الكرماني : التقدير بشير و ) نَّذِيرٍ ( فحذف والتقسيم داخل في المقول ، والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك ، ويقال : سعى فلان في أمر فلان فيكون بإصلاح وبإفساد وقد يستعمل في الشر ، يقال : فيه سعى بفلان سعاية أي تحيل ، وكاد في إيصال الشر إليه وسعيهم بالفساد في آيات الله حيث طعنوا فيها قسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ، وثبطوا الناس عن الإيمان بها .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزّين بالتشديد هنا وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن أي مثبطين . وقرأ باقي السبعة بألف . وقرأ ابن الزبير معجّزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزني إذا سبقك فقاتك . قال صاحب اللوامح : لكنه هنا بمعنى معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا ، وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون . وقيل : في ) مُعَاجِزِينَ ( معاندين ، وأما معجّزين بالتشديد فإنه بمعنى مثبطين الناس عن الإسلام ، ويقال : مثبطين .
وقال الزمخشري : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه ، فالمعنى سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم انتهى .
وقال أبو علي الفارسي : معجزين معناه ناسبين أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى العجز كما تقول : فسقت فلاناً إذا نسبته إلى الفسق . وتقدم شرح أخرى هاتين الجملتين الواردتين تقسيماً .
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى ).
الحج : ( 52 ) وما أرسلنا من . . . . .
لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال وأنهم كانوا أخرجوا من ديارهم وذكر مسلاة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم وما آل إليه أمرهم من الإهلاك إثر التكذيب وبعد الإمهال ، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه(6/351)
" صفحة رقم 352 "
نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه ، وأنه ما منهم أحد إلاّ وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم ، كما أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية ) وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ( وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال ) لاَغْوِيَنَّهُمْ ( وقيل : إن ) الشَّيْطَانِ ( هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس . والضمير في ) أُمْنِيَّتِهِ ( عائد على ) الشَّيْطَانِ ( أي في أمنية نفسه ، أي بسبب أمنية نفسه . ومفعول ) أَلْقَى ( محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ، ومخالفة ذلك الرسول أو النبيّ لأن الشيطان ليس يلقي الخير . ومعنى ) فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ( أي يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس ، كما قال ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ( و ) يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ ( أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها ) لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ( من تلك الشبه وزخارف القول ) فِتْنَةً ( لمريض القلب ولقاسيه ) وَلِيَعْلَمَ ( من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبيّ من هداية قومه وإيمانهم هو الحق . وهذه الآية ليس فيها إسناد شيء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا .
وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلها ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوباً إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالاً وجواباً وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتاباً . وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه فوجب اطّراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه . والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ( وقال الله تعالى آمراً لنبيه ) قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ( وقال تعالى ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ ( الآية وقال تعالى : ) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ( الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية . وقال تعالى ) كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( وقال تعالى : ) سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة .
ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله ) مِن قَبْلِكَ ( ) مِنْ ( فيه لابتداء الغاية و ) مِنْ ( في ) مِن رَّسُولٍ ( زائدة تفيد استغراق الجنس . وعطف ) وَلاَ نَبِىّ ( على ) مِن رَّسُولٍ ( دليل على المغايرة . وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا ، وجاء بعد ) إِلا ( جملة ظاهرها الشرط وهو ) إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ ( وقاله الحوفي ، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط ، فتقول : ما زيد إلاّ بفعل كذا ، وما رأيت زيداً إلاّ بفعل كذا ، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله ) وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ ( أو يكون الماضي مصحوباً بقدر نحو : ما زيد إلاّ قد قام ، وما جاء بعد ) إِلا ( في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين ) إِلا ( والفعل الذي هو ) أُلْقِىَ ( وهو فصل جائز فتكون إلاّ قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل ) إِلا ( وهو ) وَمَا أَرْسَلْنَا ( وعاد الضمير في ) تمني ( مفرداً وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير(6/352)
" صفحة رقم 353 "
مطابقاً للمتعاطفين ، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا ) مُّعْرِضُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ ( ) إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( ) وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و ) تَمَنَّى ( تفعل من المنية .
قال أبو مسلم : التمني نهاية التقدير ، ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله ، ومنى الله لك أي قدر . وقال رواه اللغة : الأمنية القراءة ، واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكر فإن التالي مقدر للحروف فذكرها شيئاً فشيئاً انتهى . وبيت حسان : تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر : تمنى كتاب الله أول ليلة
تمنى داوود الزبور على رسل
وحمل بعض المفسرين قوله ) إِذَا تُمْنَى ( على تلا و ) فِى أُمْنِيَّتِهِ ( على تلاوته . والجملة بعد ) إِلا ( في موضع الحال أي ) وَمَا أَرْسَلْنَاهُ ( إلاّ ، وحاله هذه . وقيل : الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو : ما مررتَ بأحد إلاّ زيد خير منه ، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال ،
الحج : ( 53 ) ليجعل ما يلقي . . . . .
واللام في ) لِيَجْعَلَ ( متعلقة بيحكم قاله الحوفي . وقال ابن عطية : بينسخ . وقال غيرهما : ألقى ، والظاهر أنها للتعليل . وقيل : هي لام العاقبة و ) مَا ( في ) يُلْقِى ( الظاهر أنها بمعنى الذي ، وجوز أن تكون مصدرية .
والفتنة : الابتلاء والاختبار . والذين في قلوبهم مرض عامة الكفار . وقال الزمخشري : المنافقون والشاكون ) وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ( خواص من الكفار عتاة كأبي جهل والنضر وعتبة . وقال الزمخشري : المشركون المكذبون ) وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ( يريد وإن هؤلاء المنافقين والمشركين ، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر ، قضاء عليهم بالظلم . والشقاق المشاقة أي في شق غير شق الصلاح ، ووصفه بالبعيد مبالغة في انتهائه وأنهم غير مرجو رجعتهم منه .
الحج : ( 54 - 55 ) وليعلم الذين أوتوا . . . . .
والضمير في : ) أَنَّهُ ( قال ابن عطية : عائد على القرآن ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد تقدم من قولنا في الآية ما يعود الضمير إليه ) فَتُخْبِتَ ( أي تتواضع وتتطامن بخلاف من في قلبه مرض وقسا قلبه . وقرأ الجمهور ) لَهَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الإضافة ، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين ) الهاد ).
المرية : الشك . والضمير في ) الْكِتَابَ مِنْهُ ( قيل : عائد على القرآن . وقيل : على الرسول . وقيل : ما ألقى الشيطان ، ولما ذكر حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين ، والظاهر أن ) السَّاعَةَ ( يوم القيامة . قيل : واليوم العقيم يوم بدر . وقيل : ساعة موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ، واليوم العقيم يوم القيامة .
وقال الزمخشري : اليوم العقيم يوم بدر ، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقم على سبيل المجاز .
وقيل : هو الذي لا خير فيه يقال : ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً . وقيل : لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه . وعن الضحاك : إنه يوم القيامة وإن المراد بالساعة مقدماته ويجوز أن يراد بالساعة و ) يَوْمٍ عَقِيمٍ ( يوم القيامة كأنه قيل ) حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ( أو يأتيهم عذابها فوضع ) يَوْمٍ عَقِيمٍ ( موضع الضمير انتهى . وقال ابن عطية : وسمى يوم القيامة أو يوم(6/353)
" صفحة رقم 354 "
الاستئصال عقيماً لأنه لا ليلة بعده ولا يوم ، والأيام كلها نتائج يجيء واحد أثر واحد ، وكان آخر يوم قد عقم وهذه استعارة ، وجملة هذه الآية توعد انتهى . و ) حَتَّى ( غاية لاستمرار مريتهم ، فالمعنى ) حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ( ) أَوْ عَذَابٌ يَوْمٍ عَقِيمٍ ( فتزول مريتهم ويشاهدون الأمر عياناً .
الحج : ( 56 - 59 ) الملك يومئذ لله . . . . .
والتنوين في ) يَوْمَئِذٍ ( تنوين العوض ، والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد الغاية أي ) الْمَلِكُ ( يوم تزول مريتهم وقدره الزمخشري أولاً يوم يؤمنون وهو لازم لزوال المرية ، فإنه إذا زالت المرية آمنوا ، وقدر ثانياً كما قدرنا وهو الأولى . والظاهر أن هذا اليوم هو يوم القيامة من حيث أنه لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا كما قال تعالى ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ( ويساعد هذا التقسيم بعده ، ومن قال إنه يوم بدر ونحوه فمن حيث ينفذ قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه ، ويكون التقسيم إخباراً متركباً على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر وألفاظ التقسيم ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح . وقابل النعيم بالعذاب ووصفه بالمهين مبالغة فيه .
( وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ ( الآية هذا ابتداء معنى آخر ، وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه ، فنزلت مسوِّية بينهم في أن الله يرزقهم ) رِزْقًا حَسَنًا ( وظاهر ) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ ( العموم . وقال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم . وروي أن طوائف من الصحابة قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك ؟ فأنزل الله هاتين الآيتين .
وقال الزمخشري : لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد أن يعطي من مات منهم مثل ما يعطي من قتل فضلاً منه وإحساناً والله عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم ، حليم عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه انتهى . وفي قوله : ومراتب استحقاقهم دسيسة الاعتزال ، والتسوية في الوعد بالرزق لا تدل على تفضيل في قدر المعطى ، ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل . وقيل : المقتول والميت في سبيل الله شهيدان .
والرزق الحسن يحتمل أن يراد به رزق الشهداء في البرزخ ، ويحتمل أنه بعد يوم القيامة في الجنة وهو النعيم فيها . وقال الكلبي : هو الغنيمة . وقال الأصلم : هو العلم والفهم كقول شعيب ) وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ( وضعف هذان القولان لأنه تعالى جعل الرزق الحسن جزاء على قتلهم في سبيل الله أو موتهم بعد هجرتهم ، وبعد ذلك لا يكون الرزق في الدنيا . والظاهر أن ) خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( أفعل تفضيل ، والتفاوت أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره تعالى ، وبأنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بماله من الرزق من جهة الله .
ولما ذكر الرزق ذكر المسكن فقال ) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ( وهو الجنة يرضونه يختارونه إذ فيه رضاهم كما قال ) لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ( وتقدم الخلاف في القراءة بضم الميم أو فتحها في النساء ، والأولى أن يكون يراد بالمدخل مكان الدخول أو مكان الإدخال ، ويحتمل أن يكون مصدراً .
الحج : ( 60 ) ذلك ومن عاقب . . . . .
( وَذَلِكَ ومِنْ عَاقَبَ ( الآية قيل : نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلاّ القتال ، فلما اقتتلوا جدّ المؤمنون ونصرهم الله . ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو مات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم . وقال ابن جريج : الآية في المشركين بغوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأخرجوه والتقدير الأمر ذلك . قال الزمخشري : تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذلك مسبب عنه كما يجملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة فإن قلت : كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع(6/354)
" صفحة رقم 355 "
قلت : المعاقب مبعوث من جهة الله عز وجل على الإخلال بالعقاب ، والعفو عن الجاني على طريق التنزيه لا التحريم ومندوب إليه ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه ، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ولم ينظر في قول ) فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ( ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( فإن ) اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( أي لا يلومه على ترك ما بعثه عليه وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه ، ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي فيعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو ، ويلوح به ذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على نه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلاّ القادر على حده ذلك ، أي ذلك النصر بسبب أنه قادر .
الحج : ( 61 ) ذلك بأن الله . . . . .
ومن آيات قدرته البالغة أنه ) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( و ) النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ ( أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار . وأنه ) سَمِيعُ ( لما يقولون ) بَصِيرٌ ( بما يفعلون وتقدم في أوائل آل عمران شرح هذا الإيلاج .
الحج : ( 62 ) ذلك بأن الله . . . . .
( ذالِكَ ( أي ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل بسبب ) إِنَّ اللَّهَ ( ) الْحَقّ ( الثابت الإلهية وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً . وقرأ الجمهور ) وَإِن مَّا ( بفتح الهمزة . وقرأ الحسن بكسرها . وقرأ الإخوان وأبو عمرو وحفص ) يَدَّعُونَ ( بياء الغيبة هنا في لقمان . وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وكلاهما الفعل فيه مبني للفاعل . وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعو بالياء مبنياً للمفعول والواو عائدة على ما على معناها و ) مَا ( الظاهر أنها أصنامهم . وقيل : الشياطين والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ أَمْ تُرِيدُونَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ ).
الحج : ( 63 ) ألم تر أن . . . . .
لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور ، ذكر أيضاً ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان ، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل . وقال أبو عبد الله الرازي : الماء وإن كان مرئياً إلاّ أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثرر المطر زماناً بعد مان . كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغذو شاكراً له . ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع .
فإن قلت : فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام ؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنتم ثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله .
وقال ابن عطية : وقوله ) فَتُصْبِحُ الاْرْضُ ( بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله ) فَتُصْبِحُ ( من حيث الآية خبراً ، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله ) أَلَمْ تَرَ ( فاسد المعنى انتهى . ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافياً للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسداً . وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّةً ( فقال : هذا واجب وهو تنبيه . كأنك قلت : أتسمع ) أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مَاء ( فكان كذا(6/355)
" صفحة رقم 356 "
وكذا . قال ابن خروف ، وقوله فقال هذا واجب ، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان ، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه ، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى . ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه .
وقال بعض شراح الكتاب ) فَتُصْبِحُ ( لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى ) أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ ( فالأرض هذا حالها . وقال الفراء ) أَلَمْ تَرَ ( خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى . ويقول إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله ) أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثاً إنما يأتي ولا يحدث ، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة ، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود . وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله :
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك ، إنما هو مترتب على الإنزال ، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرض عليها ، والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي ، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف : يسمو بناظرتين تحسب فيهما
لما أجالهما شعاع سراج
لما نزلت بحصن أزبر مهصر
للقرن أرواح العدا محاج
فأكرأ حمل وهو يقعي باسته
فإذا يعود فراجع أدراجي
وعلمت أني إن أبيت نزاله
أني من الحجاج لست بناجي
فقوله : فأكر تصوير للحالة التي لابسها . والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي : تصبح ، من ليلة المطر . وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر . وقال ابن عطية : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعف انتهى .
وإذا جعلنا ) فَتُصْبِحُ ( بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح ، وإذا كان الاخضرار متأخراً عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير ، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى ) فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ ). وقرىء ) مُخْضَرَّةً ( على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر ، وخص تصبح دون سائر أوقات النهاى لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي .
( إِنَّ اللَّهَ(6/356)
" صفحة رقم 357 "
لَطِيفٌ ( أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله ) خيبر ( بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره . وقيل ) تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( بلطيف التدبير ) خَبِيرٌ ( بالصنع الكثير . وقيل : ) خَبِيرٌ ( بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان . وقال ابن عباس ) لَطِيفٌ ( بأرزاق عباده ) خيبر ( بما في قلوبهم من القنوط . وقال الكلبي ) اللَّهُ لَطِيفٌ ( بأفعاله ) خَبِيرٌ ( بأعمال خلقه . وقال الزمخشري ) لَطِيفٌ ( وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء ) خَبِيرٌ ( بمصالح الخلق ومنافعهم . وقال ابن عطية : واللطيف المحكم للأمور برفق .
الحج : ( 64 - 65 ) له ما في . . . . .
( مَّا فِى الاْرْضِ ( يشمل الحيوان والمعادن والمرافق .
وقرأ الجمهور ) وَالْفُلْكِ ( بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن ، وانتصب عطفاً على ) مَا ( ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيهاً على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها ، وهذا هو الظاهر . وجوز أن يكون معطوفاً على الجلالة بتقدير وأن ) الْفُلْكِ ( وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و ) تَجْرِى ( حال على الإعراب الظاهر . وفي موضع الجر على الإعراب الثاني . وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر ، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون ) تَجْرِى ( حالاً . والظاهر أن ) ءانٍ ( تقع في موضع نصب بدل اشتمال ، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض . وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة ) أَن تَقَعَ ( والكوفيون لأن لا تقع . وقوله ) إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها ، ويجوز أن يكون ذلك وعيداً لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفاً عليكم سقطت كما في قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ) وَإِلاَّ بِإِذْنِهِ ( متعلق بأن تقع أي ) إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( فتقع . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله ) إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، فكأنه أراد إلاّ بإذنه فيها يمسكها انتهى . ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه .
الحج : ( 66 ) وهو الذي أحياكم . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ( أي بعد أن كنتم جماداً تراباً ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( و ) الإِنسَانَ ). قال ابن عباس : هو الكافر . وقال أيضاً : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبيّ بن خلف . وهذا على طريق التمثيل . ) لَكَفُورٌ ( لجحود لنعم الله ، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها .
الحج : ( 67 ) لكل أمة جعلنا . . . . .
و ) لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ( روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين : تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم ، ولا تأكلون ما قتل الله فنزلت بسبب هذه المنازعة . وقال ابن عطية ) هُمْ نَاسِكُوهُ ( يعطى أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه انتهى . ولا يتعين ما قال إذ قد يتسع في معمول اسم الفاعل كما يتسع في معمول الفعل فهو موضع اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به على السعة ، ومن الاتساع في ظرف المكان قوله :(6/357)
" صفحة رقم 358 "
ومشرب شربه رسيل
لا آجن الماء ولا وبيل
مشرب مكان الشرب عاد عليه الضمير ، وكان أصله أشرب فيه فاتسع فيه فتعدى الفعل إلى ضميره ومن الاتساع سير بزيد فرسخان . وقرىء ) فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ ( بالنون الخفيفة أي أثبت على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك ، ومثله ) وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللَّهِ ( وهذا النهي لهم عن المنازعة من باب لا أرينك ههنا ، والمعنى فلا بد لهم بمنازعتك فينازعوك . وقرأ أبو مجلز ) فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ ( من النزع بمعنى فلا يقلعنك فيحملونك من دينك إلى أديانهم من نزعته من كذا و ) الاْمْرُ ( هنا الدين ، وما جئت به وعلى ما روي في سبب النزول يكون ) فِى الاْمْرِ ( بمعنى في الذبح ) لَّعَلّى هُدًى ( أي إرشاد . وجاء ) وَلِكُلّ أُمَّةٍ ( بالواو وهنا ) لِكُلّ أُمَّةٍ ( لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الورادة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً قاله الزمخشري .
الحج : ( 68 ) وإن جادلوك فقل . . . . .
( وَإِن جَادَلُوكَ ( آية موادعة نسختها آية السيف أي وإن أبوا للجاجهم إلاّ المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين
الحج : ( 69 ) الله يحكم بينكم . . . . .
( اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ( خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بما كان يلقى منهم .
( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ ).
الحج : ( 70 - 71 ) ألم تعلم أن . . . . .
لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أعقب تعالى أنه عالم بجميع ) مَا فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ ( فلا تخفى عليه أعمالكم و ) إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ ( قيل : هو أم الكتاب الذي كتبه الله قبل خلق السموات والأرض ، كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة . وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ . والإشارة بقوله ) إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( قيل : إلى الحكم السابق ، والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته . وقال الزمخشري : ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه ، والإحاط بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم انتهى . وفي قوله لأن العالم الذات فيه دسيسة الاعتزال لأن من مذهبهم نفي الصفات فهو عالم لذاته لا يعلم عندهم .
( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ( أي حجة وبرهاناً سماوياً من جهة الوحي والسمع ) وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ( أي دليل عقلي ضروري أو غيره . ) وَمَا لِلظَّالِمِينَ ( أي المجاوزين الحد في عبادة ما لا يمكن عبادته ) مِن نَّصِيرٍ ( ينصرهم فيما ذهبوا إليه أو إذا حل بهم العذاب .
الحج : ( 72 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا ( أي يتلوه الرسول أو غيره ) ءايَاتِنَا ( الواضحة في رفض آلهتهم ودعائهم إلى توحيد الله وعبادته ) تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( أي الذين ستروا الحق وغطوه وهو واضح بين والمنكر مصدر بمعنى الإنكار . ونبه على موجب المنكر وهو الكفر وناب الظاهر مناب المضمر كأنه قيل : تعرف في وجوههم لكنه نبه على العلة الموجبة لظهور المنكر في وجوههم ، والمنكر المساءة والتجهم والبسور والبطش الدال ذلك كله على سوء المعتقد وخبث السريرة ، لأن الوجه يظهر فيه الترح والفرح اللذان محلهما القلب .
( يَكَادُونَ يَسْطُونَ ( أي هم دهرهم بهذه الصفة فهم يقاربون ذلك طول زمانهم ، وإن كان قد وقع منهم سطو ببعض الصحابة في شاذ من الأوقات . قال ابن عباس : ) يَسْطُونَ ( يبسطون إليهم . وقال محمد بن كعب : يقعون بهم . وقال الضحاك : يأخذونهم أخذاً باليد والمعنى واحد . وقرأ عيسى بن عمر يعرف مبنياً للمفعول المنكر ووقع ) قُلْ ( هل أنبئكم ) بِشَرّ مّن ذالِكُمُ ( وعيد وتقريع والإشارة إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم ، أو إلى ما أصابهم من الكراهة والبسور بسبب ما تلي(6/358)
" صفحة رقم 359 "
عليهم . وقرأ الجمهور ) النَّارِ ( رفعاً على إضمار مبتدأ كأن قائلاً يقول قال : وما هو ؟ قال : النار ، أي نار جهنم . وأجاز الزمخشري أن تكون ) النَّارِ ( مبتدأ و ) وَعَدَهَا ( الخبر وأن يكون ) وَعَدَهَا ( حالاً على الإعراب الأول ، وأن تكون جملة إخبار مستأنفة وأجيز أن تكون خبراً بعد خبر ، وذلك في الإعراب الأول ، وروي أنهم قالوا : محمد وأصحابه شر خلق فقال الله قل لهم يا محمد ) أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ ( ممن ذكرتم على زعمكم أهل النار فهم أنتم خشر خلق الله . وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي ) النَّارِ ( بالنصب . قال الزمخشري : على الاختصاص ومن أجاز في الرفع أن تكون ) النَّارِ ( مبتدأ فقياسه أن يجيز في النصب أن يكون من باب الاشتغال . وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة ) النَّارِ ( بالجر على البدل من ) شَرُّ ( والظاهر أن الضمير في ) وَعَدَهَا ( هو المفعول الأول على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قولها هل من مريد ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( هو الأول كما قال ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ).
) الْمَصِيرُ يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ).
الحج : ( 73 ) يا أيها الناس . . . . .
لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم ، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه ، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ( بتاء الخطاب . وقيل : خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون ) تَدْعُونَ ( خطاباً لغيرهم الكفار عابدي غير الله . وقيل : الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله ، فإنه يظهر له قبح ذلك . و ) ضُرِبَ ( مبني للمفعول ، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى ، ضرب مثلاً لما يعبد من دونه أي بين شبهاً لكم ولمعبودكم . وقيل : ضارب المثل هم الكفار ، جعلوا مثلاً لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال : ليس ههنا ) مَثَلُ ( وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلاً . وقيل : هو ) مَثَلُ ( من حيث المعنى لأنه ) ضُرِبَ مَثَلٌ ( من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً .
وقال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً ؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى .
وقرأ الجمهور ) تَدْعُونَ ( بالتاء . وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل . وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنياً للمفعول . وقال الزمخشري ) لَنْ ( أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً ، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا انتهى . وهذا القول الذي قاله في ) لَنْ ( هو المنقول عنه أن ) لَنْ ( للنفي على التأييد ، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل ) لَنْ ( مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ( كيف جاء(6/359)
" صفحة رقم 360 "
النفي بلا وهو الصحيح ، والاستدلال عليه مذكور في النحو . وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث أن الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد ، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب ) الذُّبَابُ ( وعدم استنقاذ شيء مما ) يَسْلُبْهُمُ ( وكان الذباب كثيراً عند العرب ، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك . وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله . وموضع ) وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ( قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه ، وتعاونهم عليه انتهى .
وتقدم لنا الكلام على نظير ) وَلَوْ ( هذه ، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة ، كأنه قيل ) لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً ( على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك .
( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( قال ابن عباس : الصنم والذباب ، أي ينبغي أن يكون الضم طالباً لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان . وقيل ) المطلوب ( الآلهة و ) ضَعُفَ الطَّالِبُ ( الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم ، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة . وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته ، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده . وقال الزمخشري : وقوله ) ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (
. وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب .
الحج : ( 74 ) ما قدروا الله . . . . .
( مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( أي ما عرفوه حق معرفته منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه ، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة
الحج : ( 75 ) الله يصطفي من . . . . .
( اللَّهُ يَصْطَفِى ( الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة ) عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل ( الآية ، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة وبشر ،
الحج : ( 76 ) يعلم ما بين . . . . .
ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها .
الحج : ( 77 - 78 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلاً من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل : كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويرجعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بكوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ( وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها ، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس ) وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ ( أي افردوه بالعبادة ) وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ ( قال ابن عباس : صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولاً بالصلاة وهي نوع من العبادة ، وثانياً بالعبادة وهي نوع من فعل الخير ، وثالثاً بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم .
( وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ ( أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس . وقيل : أمر بجهاد الكفار خاصة ) حَقَّ جِهَادِهِ ( أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك ، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصاً بالله من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله ، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة . قال الزمخشري : ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
ويوم شهدناه سليماً وعامراً
انتهى . يعني بالظرف الجار والمجرور ، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير . و ) حَقَّ جِهَادِهِ ( من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وعالم جداً . وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله ) فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
) هُوَ اجْتَبَاكُمْ ( أي اختاركم لتحمل(6/360)
" صفحة رقم 361 "
تكليفاته وفي قوله ) هُوَ ( تفخيم واختصاص ، أي هو لا غيره . ) مِنْ حَرَجٍ ( من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص . وانتصب ) مّلَّةَ أَبِيكُمْ ( بفعل محذوف ، وقدره ابن عطية جعلها ) مِلَّةَ ( وقال الزمخشري : نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين ) مّلَّةَ أَبِيكُمْ ( كقوله : الحمد لله الحميد ، وقال الحوفي وأبو البقاء : اتبعوا ملة إبراهيم . وقال الفراء : هو نصب على تقدير حذف الكاف ، كأنه قيل كلمة ) أَبِيكُمْ ( بالإضافة إلى أبيه الرسول ، وأمة الرسول في حكم أولاده فصارا بالأمته بهذه الوساطة . وقيل : لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم . وجاء قوله ) مِلَّةَ ( ) إِبْرَاهِيمَ ( باعتبار عبادة الله وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة ، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع .
والظاهر أن الضمير في ) هُوَ سَمَّاكُمُ ( عائد على ) إِبْرَاهِيمَ ( وهو أقرب مذكور ولكل نبيّ دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ( فاستجاب الله له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وقاله ابن زيد والحسن . وقيل : يعود ) هُوَ ( إلى الله وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك . وعن ابن عباس : إن الله ) سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ( أي في كل الكتب ) وَفِى هَاذَا ( أي القرآن ، ويدل على أن الضمير لله قراءة أبيّ الله سماكم . قال ابن عطية : وهذه اللفظة يعني قوله ) وَفِى هَاذَا ( تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم ، ولا يتوجه إلاّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى . وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين ، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم .
( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ( أنه قد بلغكم ) وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( بأن الرسل قد بلغتهم ، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلاّ منه فهو خير مولى وناصر . وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلاّ نبي . قيل للنبي : أنت شهيد على أمتك . وقيل له : ليس عليك حرج . وقيل له : سل تعط . وقيل : لهذه الأمة : ) وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( وقيل لهم ) مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( وقيل لهم ) ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( ) وَاعْتَصِمُواْ ( قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقال الحسن تمسكوا بدين الله .(6/361)
" صفحة رقم 362 "
23
( سورة المؤمنون )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاٌّ رْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاٌّ نْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاّنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِىءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُو(6/362)
" صفحة رقم 363 "
1764 اْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الاٌّ خِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِأايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ ءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاٌّ وَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاٌّ رْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } )(6/363)
" صفحة رقم 364 "
المؤمنون : ( 1 ) قد أفلح المؤمنون
السلالة : فعالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه . وقال أمية : خلق البرية من سلالة منتن
وإلى السلالة كلها ستعود
والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه . قال الشاعر : فجاءت به عصب الأديم غضنفرا
سلالة فرج كان غير حصين
وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والنحاتة . سيناء وسينون : اسمان لبقعة ، وجمهور العرب على فتح سين سيناء فالألف فيه للتأنيث كصحراء فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم ، وكنانة تكسر السين فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم أيضاً عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث ، وعند البصريين يمتنع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث ، لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق كعلباء ودرحاء . قيل : وهو جبل فلسطين . وقيل : بين مصر وأيلة . الدهن : عصارة الزيتون واللوز وما أشبههما مما فيه دسم ، والدهن : بفتح الدال مسح الشيء بالدهن . هيهات : اسم فعل يفيد الاستبعاد فمعناها بعد ، وفيها لغات كثيرة ذكرناها في كتاب التكميل لشرح التسهيل ، ويأتي منها ما قرىء به إن شاء الله . الغثاء : الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به قاله أبو عبيد . وقال الأخفش : الغثاء والجفاء واحد ، وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد . وقال الزجاج : البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل خالط زبده انتهى . وتشدد ثاؤه وتخفف ، ويجمع غلى أغثاء شذوذاً ، وروى بيت امرىء القيس : من السيل والغثاء بالتخفيف والتشديد بالجمع . تترى واحداً بعد واحد . قال الأصمعي : وبينهما مهلة . وقال غيره : المواترة التتابع بغير مهلة ، وتاؤه مبدلة من واو على غير قياس ، إذ أصله الوتر كتاء تولج وتيقور الأصل وولج وويقور لأنه من الولوج والوقار ، وجمهور العرب على عدم تنوينه فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تنونه ، وينبغي أن تكون الألف فيه للإلحاق كهي في علقي المنون ، وكتبه بالياء يدل على ذلك ، ومن زعم أن التنوين فيه كصبراً ونصراً فهو مخطىء لأنه يكون وزنه فعلاً ولا يحفظ فيه الإعراب في الراء ، فتقول تتر في الرفع وتتر في الجر لكن ألف الإلحاق في المصدر نادر ، ولا يلزم وجود النظير . وقيل : تترى اسم جمع كأسرى وشتى . المعين : الميم فيه زائدة ووزنه مفعول كمخيط ، وهو المشاهد جريه بالعين تقول : عانه أدركه بعينه كقولك : كبده ضرب كبده ، وأدخله الخليل في باب ع ي ن . وقيل : الميم أصلية من باب معن الشيء معانة كثر فوزنه فعيل ، وأجاز الفراء الوجهين . وقال جرير : إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلاً بعينك ما يزال معينا
الغمرة : الجهالة زجل غمرغافل لم يجرب الأمور وأصله الستر ، ومنه الغمر للحقد لأنه يغطي القلب ، والغمر للماء الكثير لأنه يغطي الأرض ، والغمرة الماء الذي يغمر القامة ، والغمرات الشدائد ورجل غامر إذا كان يلقي نفسه في المهالك ، ودخل في غمار الناس أي في زحمتهم . الجؤار : مثل الخوار جأر الثور يجأر صاح ، وجأر الرجل إلى الله تضرع بالدعاء قاله الجوهري . وقال الشاعر :(6/364)
" صفحة رقم 365 "
يراوح من صلوات المليك فطوراً سجوداً وطوراً جؤاراً وقيل : الجؤار الصراخ باستغاثة قال : جأر ساعات النيام لربه . السامر : مفرد بمعنى الجمع ، يقال : قوم سامر وسمر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر ، وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر ، والسمير الرفيق بالليل في السهر ويقال له السمار أيضاً ، ويقال لا أفعله ما أسمر ابنا سمير ، والسمير الدهر وابناه الليل والنهار . نكب عن الطريق ونكب بالتشديد : إذا عدل عنه . اللجاج في الشيء : التمادي عليه .
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ).
هذه السورة مكية بلا خلاف ، وفي الصحيح للحاكم عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ) ثم قرأ قد ) أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( إلى عشر آيات . ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله ) الاْمُورُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ارْكَعُواْ ( الآية وفيها ) لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( إخباراً بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح .
وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( بضم الهمزة وكسر اللام مبنياً للمفعول ، ومعناه ادخلوا في الفلاح فاحتمل أن يكون من فلح لازماً أو يكون أفلح يأتي متعدياً ولازماً . وقرأ طلحة أيضاً بفتح الهمزة واللام وضم الحاء . قال عيسى بن عمر : سمعت طلحة بن مصرف يقرأ قد أفلحوا المؤمنون ، فقلت له : أتلحن ؟ قال : نعم ، كما لحن أصحابي انتهى . يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي وليس بلحن لأنه على لغة أكلوني البراغيث . وقال الزمخشري : أو على الإبهام والتفسير . وقال ابن عطية : وهي قراءة مردودة ، وفي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل نحو ) وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ). وقال الزمخشري : وعنه أي عن طلحة ) أَفْلَحَ ( بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله :
فلو أن الأطباء كان حولي
انتهى . وليس بجيد لأن الواو في ) أَفْلَحَ ( حذفت لالتقاء الساكنين وهنا حذفت للضرورة فليست مثلها . قال الزمخشري : قد تقتضيه لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه انتهى .
المؤمنون : ( 2 ) الذين هم في . . . . .
والخشوع لغة الخضوع والتذلل ، وللمفسرين فيه هنا أقوال : قال عمرو بن دينار : هو السكون وحسن الهيئة . توقال مجاهد : غض البصر وخفض الجناح . وقال مسلم بن(6/365)
" صفحة رقم 366 "
يسار وقتادة : تنكيس الرأس . وقال الحسن : الخوف . وقال الضحاك : وضع اليمين على الشمال . وعن عليّ : ترك الالتفات في الصلاة . وعن أبي الدرداء : إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام . وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده ، ومن الخشوع أن تستعمل الآداب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك والاختصار وتقليب الحصى . وفي التحرير : اختلف في الخشوع ، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحله القلب ، وهو أول علم يرفع من الناس قاله عبادة بن الصامت .
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أضيفت الصلاة إليهم ؟ قلت : لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته ، وأما المصلى له فغني متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها .
المؤمنون : ( 3 ) والذين هم عن . . . . .
( اللَّغْوَ ( ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل ، وما توجب المروءة اطراحه يعني أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشافين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف انتهى .
المؤمنون : ( 4 ) والذين هم للزكاة . . . . .
وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوي تعديته باللام كالفعل ، وكذلك إذا تأخر لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء ) لِلزَّكَواةِ ( باللام ولو جاء منصوباً لكان عربياً والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل ، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير فيكون على حذف أي لأداء الزكاة ) فَاعِلُونَ ( إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكى أو يضمن فاعلون معنى مؤدون ، وبه شرحه التبريزي . وقيل ) لِلزَّكَواةِ ( للعمل الصالح كقوله ) خَيْراً مّنْهُ زَكَواةً ( أي عملاً صالحاً قاله أبو مسلم . وقيل : الزكاة هنا النماء والزيادة ، واللام لام العلة ومعمول ) فَاعِلُونَ ( محذوف التقدير ) وَالَّذِينَ هُم ( لأجل تحصيل النماء والزيادة ) فَاعِلُونَ ( الخير . وقيل : المصروف لا يسمى زكاة حتى يحصل بيد الفقير . وقيل : لا تسمى العين المخرجة زكاة ، فكان التغيير بالفعل عن إخراجه أولى منه بالأداء ، وفيه رد على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله : ألا قال مؤدُّون ، قال في التحرير والتحبير : وهذا كما قيل لا عقل ولا نقل ، والكتاب العزيز نزل بأفصح اللغات وأصحها بلا خلاف . وقد قال أمية بن أبي الصلت : المطعمون الطعام في السنة الأز
مة والفاعلون للزكوات
ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية ، بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون انتهى . وقال الزمخشري : وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة يعني على أن الزكاة يراد بها العين وهو على حذف مضاف ، أي لأداء الزكوات ، وعلل ذلك بجمعها يعني أنها إذا أريد بها العين صح جمعها ، وإذا أريد بها التزكية لم تجمع لأن التزكية مصدر ، والمصادر لا تجمع وهذا غير مسلم بل قد جاء منها مجموعاً ألفاظ كالعلوم والحلوم والأشغال ، وأما إذا اختلفت فالأكثرون على جواز جمعها وهنا اختلفت بحسب متعلقاتها فإخراج النقد غير إخراج الحيوان وغير إخراج النبات والزكاة في قول أمية مما جاء جمعاً من المصادر ، فلا يتعدى حمله على المخرج لجمعه .
المؤمنون : ( 5 - 7 ) والذين هم لفروجهم . . . . .
وحفظ لا يتعدى بعلى . فقيل : على بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ( أي على القوم قاله الفراء ، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن ) حَافِظُونَ ( معنى ممسكون أو(6/366)
" صفحة رقم 367 "
قاصرون ، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( وتكلف الزمخشري هنا وجوهاً . فقال ) عَلَى أَزْواجِهِمْ ( في موضع الحال أي الأوّالين على أزواجهم أو قوّامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلاناً ، ونظيره كان زياد على البصرة أي والياً عليها . ومنه قولهم : فلان تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشاً أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين ، كأنه قيل : يلامون ) إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ ( أي يلامون على كل مباشر إلاّ على أما أطلق لهم ) فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( عليه أو يجعله صلة لحافظين من قولك احفظ عليّ عنان فرسي على تضمينه معنى النفي ، كما ضمن قولهم : نشدتك الله إلاّ فعلت بمعنى ما طلبت منك إلاّ فعلك انتهى . يعني أن يكون حافظون صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى ، أي والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم ، فيكون استثناء مفرغاً متعلقاً فيه على بما قبله كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت ، ومعناه النفي أي ما طلبت منك . وهذه التي ذكرها وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة .
وقوله ) وَمَا مَلَكَتْ ( أريد بما النوع كقوله ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ( وقال الزمخشري : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث انتهى . وقوله وهم الإناث ليس بجيد لأن لفظ هم مختص بالذكور ، فكان ينبغي أن يقول وهو الإناث على لفظ ما أوهن الإناث على معنى ما ، وهذا الاستثناء حد يجب الوقوف عنده ، والتسرّي خاص بالرجال ولا يجوز للنساء بإجماع ، فلو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فاعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار . وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يبقيان على نكاحهما وفي قوله ) أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( دلالة على تعميم وطء ما ملك باليمين وهو مختص بالإناث بإجماع ، فكأنه قيل ) أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( من النساء . وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف ، ويخص أيضاً في الآية بتحريم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر ، ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والاستمناء ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء ، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى أي خلاف ذلك . وقيل : لا يكون وراء هنا إلاّ على حذف تقدير ما وراء ذلك .
والجمهور على تحريم الاستمناء ويسمى الخضخضة وجلد عميرة يكنون عن الذكر بعميرة ، وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالقصد والحجامة ، وسأل حرملة بن عبد العزيز مالكاً عن ذلك فتلا هذه الآية وكان جرى في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بما استدل مالك من قوله ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ ( فقلت له : إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر بذلك في أشعارها ، وكان ذلك كثيراً فيها بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ، ولم يكونوا ينكرون ذلك . وأما جلد عميرة فلم يكن معهوداً فيها ولا ذكره أحد منهم في أشعارهم فيما علمناه فليس بمندرج في قوله ) وَرَاء ذالِكَ ( ألا ترى أن محل ما أبيح وهو نساؤهم بنكاح أو تسر فالذي وراء ذلك هو من جنس ما أحل لهم وهو النساء ، فلا يحل لهم شيء منهن إلاّ بنكاح أو تسر ، والظاهر أن نكاح المتعة لا يندرج تحت قوله ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ ( لأنها ينطلق عليها اسم زوج . وسأل الزهري القاسم بن محمد عن المتعة فقال : هي محرمة في كتاب الله وتلا ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( الآية ولا يظهر التحريم في هذه الآية .
المؤمنون : ( 8 ) والذين هم لأماناتهم . . . . .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية لأمانتهم بالإفراد وباقي السبعة بالجمع ، والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد ، فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل ، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس . والأمانة : هي الشيء المؤتمن عليه ومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى ، والأمانة أيضاً المصدر وقال تعالى ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( والمؤدى هو العين المؤتمن عليه أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر .
المؤمنون : ( 9 ) والذين هم على . . . . .
وقرأ الأخوان على صلاتهم بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع . والخشوع(6/367)
" صفحة رقم 368 "
والمحافظة متغايران بدأ أولاً بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية ، وثنى بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت . قال الزمخشري : ووحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت ، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على إعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل .
المؤمنون : ( 10 ) أولئك هم الوارثون
) أُوْلَائِكَ ( أي الجامعون لهذه الأوصاف ) هُمُ الْوارِثُونَ ( الأحقاء أن يسموا ورّاثاً دون من عداهم ، ثم ترجم الوارثين بقوله ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ( فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر ، ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم انتهى . وتقدم الكلام في ) الْفِرْدَوْسِ ( في آخر الكهف .
المؤمنون : ( 12 - 14 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( الآية لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة . وقال ابن عطية : هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة ، وإن تباينت في المعاني انتهى . وقد بيّنا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات . ) الإِنسَانَ ( هنا . قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين ) ثُمَّ جَعَلْنَا ( عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلاّ له ونظيره ) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله . وعن ابن عباس أيضاً أن ) الإِنسَانَ ( ابن آدم و ) سُلَالَةٍ مّن طِينٍ ( صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس ، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين . وقال الزمخشري : خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى . فجعل الإنسان جنساً باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و ) مِنْ ( الأولى لابتداء الغاية و ) مِنْ ( الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله ) مِنَ الاْوْثَانِ ( انتهى . ولا تكون للبيان إلاّ على تقدير أن تكون السلالة هي الطين ، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية . والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم . والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه ، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة .
وقرأ الجمهور عظاماً و ) العِظَامِ ( الجمع فيهما . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والفضل والحسن وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني . وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضاً بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس . وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى . وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلاّ في الضرورة وأنشدوا :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة ) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ( قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد ، هو نفخ الروح فيه . وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا . وقالت فرقة : نبات شعره . وقال مجاهد : كمال شبابه . وقال ابن عباس أيضاً تصرفه في أمور الدنيا . قال ابن(6/368)
" صفحة رقم 369 "
عطية : وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك ، وأول رتبة من كونه آخرنفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى . ملخصاً وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس ، ويدل عليه قوله بعد ذلك ) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ).
وقال الزمخشري ما ملخصه : ) خَلْقاً ءاخَرَ ( مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً ناطقاً سميعاً بصيراً ، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، وقد احتج أبو حنيفة بقوله ) خَلْقاً ءاخَرَ ( على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ . وقال ) أَنشَأْنَا ( جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاءً له . قيل : وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط ، وقد بيّن تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم ، وتبارك فعل ماض لا يتصرف . ومعناه تعالى وتقدس و ) أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة ؟ فمن قال محضة أعرب ) أَحْسَنُ ( صفة ، ومن قال غير محضة أعربه بدلاً . وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين ، ومعنى ) الْخَالِقِينَ ( المقدرين وهو وصف يطلق على غيرالله تعالى كما قال زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري قال الأعلم : هذا مثل ضربه يعني زهيراً ، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع . والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه . وقال ابن عطية : معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه وأنشد بيت زهير . قال : ولا تُنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع . وقال ابن جريج : قال ) الْخَالِقِينَ ( لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه ، أي ) أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( خلقاً أي المقدرين تقديراً . وروي أن عمر لما سمع ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( إلى آخره قال ) فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( فنزلت . وروي أن قائل ذلك معاذ . وقيل : عبد الله بن أبي سرح ، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحَسُنَ إسلامه .
المؤمنون : ( 15 - 16 ) ثم إنكم بعد . . . . .
وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة ، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات . قال الفراء : إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك ، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع ، يعني إنه لا يقال لمن مات مائت . وقال الزمخشري : والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة ، وأما المائت فيدل على الحدوث ، تقول : زيد مائت الآن ومائت غداً كقولك : يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله ) وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ( انتهى . والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء ) خَلْقاً ءاخَرَ ( أي وانقضاء مدّة حياتكم .
( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولاً ، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد ، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى ) تُبْعَثُونَ ( للجزاء فإن قلت : الموت مقطوع به عند كل أحد ، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن ؟ فالجواب : أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيهاً للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه ، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى ، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي ، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكداً مبالغاً فيه ليقصر ، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء ، ولم تؤكد جملة البعث إلاّ بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكاراً وإنه حتم لا بد من(6/369)
" صفحة رقم 370 "
كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان ، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله ) لَمَيّتُونَ ( ولم تدخل في ) تُبْعَثُونَ ( فأجبت : بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالباً فلا تجامع يوم القيامة ، لأن أعمال ) تُبْعَثُونَ ( في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال ، وإنما قلت غالباً لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل كقوله تعالى ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ).
المؤمنون : ( 17 ) ولقد خلقنا فوقكم . . . . .
لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و ) سَبْعَ طَرَائِقَ ( السموات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض ، طارق النعل جعله على نعل ، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجاج كقوله ) طِبَاقاً ). وقيل : لأنها طرائق الملائكة في العروج . وقيل : لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها . وقيل : لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى . قال ابن عطية : ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء .
( وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم ، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء
المؤمنون : ( 18 ) وأنزلنا من السماء . . . . .
( يُقَدّرُ ( بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم ) فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ ( أي جعلنا مقره في الأرض . وعن ابن عباس : أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل . وفي قوله ) فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ ( دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض ، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه . قال الزمخشري : ) عَلَى ذَهَابٍ بِهِ ( من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى . و ) ذَهَابٍ ( مصدر ذهب ، والباء في ) بِهِ ( للتعدية مرادفة للهمزة كقوله ) لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ( أي لأذهب سمعهم . وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم ، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله ) قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلاّ وهو من السماء . قال ابن عطية : ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلاّ فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض ، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى . وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر ، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقياً على حاله ما انتفع به من ملوحته .
المؤمنون : ( 19 ) فأنشأنا لكم به . . . . .
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال ) فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ ( وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ، ووصف النخل والعنب بقوله ) لَكُمْ فِيهَا ( إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطباً ويابساً رطباً وعنباً وتمراً وزبيباً ، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً ، ويحتمل أن يكون قوله ) وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يغتلها ، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه . كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري . وقال الطبري : وذكر النخيل(6/370)
" صفحة رقم 371 "
والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما ، والضمير في ) وَلَكُمْ فِيهَا ( عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات ، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب .
المؤمنون : ( 20 ) وشجرة تخرج من . . . . .
وعطف ) وَشَجَرَةً ( على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام . وقال الجمهور ) سَيْنَاء ( اسم الجبل كما تقول : جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص . وقال مجاهد : معنى ) سينا ( مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن والقولان عن ابن عباس . وقيل الحسن بالحبشة . وقيل : بالنبطية . وقال معمر عن فرقة : معناه ذو شجر . وقيل : ) طُورِ سَيْنَاء ( اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده قاله مجاهد أيضاً . وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين وهي لغة لبني كنانة . وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح وهي لغة سائر العرب . وقرأ سيني مقصوراً وبفتح السين والأصح أن ) سَيْنَاء ( اسم بقعة وأنه لى س مشتقاً من السناء لاختلاف المادتين على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء .
وقرأ الجمهور ) تُنبِتُ ( بفتح التاء وضم الباء والباء في ) بِالدُّهْنِ ( على هذا باء الحال أي ) تُنبِتُ ( مصحوبة ) بِالدُّهْنِ ( أي ومعها الدهن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء ، فقيل ) بِالدُّهْنِ ( مفعول والباء زائدة التقدير تنبت الدهن . وقيل : المفعول محذوف أي ) تُنبِتُ ( جناها و ) بِالدُّهْنِ ( في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن . وقيل : أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال ، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير :
قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
بلفظ أنبت . وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنياً للمفعول و ) بِالدُّهْنِ ( حال . وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن بالنصب . وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف ، وما رووا من قراءة عبد الله يخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ، ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور والصبغ الغمس والائتدام .
وقال مقاتل : الصبغ الزيتون والدهن الزيت جعل تعالى في هذه الشجرة تأدماً ودهناً . وقال الكرماني : القياس أن يكون الصبغ غير الدهن لأن المعطوف غير المعطوف عليه . وقرأ الأعمش وصبغاً بالنصب . وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف ، فالنصب عطف على موضع ) بِالدُّهْنِ ( كان في موضع الحال أو في موضع المفعول ، والصباغ كالدبغ والدباغ وفي كتاب ابن عطية . وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعاً ) لّلاكِلِيِنَ ( كأنه يريد تفسير الصبغ .
ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام ، ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله ) مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ( قيل : وهي أول شجرة يثبت بعد الطوفان
المؤمنون : ( 21 ) وإن لكم في . . . . .
( وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا ( تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل ) وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ ( من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل ، وأدرج باقي المنافع في قوله ) وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ (
المؤمنون : ( 22 ) وعليها وعلى الفلك . . . . .
ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن ) الْفُلْكِ ( سفائن البحر . قال ذو الرمة :
سفينة بر تحت خدي زمامها
يريد صيدح ناقته .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِه(6/371)
" صفحة رقم 372 "
ِ مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاَنزَلَ ).
المؤمنون : ( 23 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
لما ذكر أولاً بدء الإنسان وتطوّره في تلك الأطوار ، وما امتن به عليه مما جعله تعالى سبباً لحياتهم ، وإدراك مقاصدهم ، ذكر أمثالاً لكفار قريش من الأمم السابقة المنكرة لإرسال الله رسلاً المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله ، فابتدأ قصة نوح لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولاً آدم في قوله ) مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ ( ولقصته أيضاً مناسبة بما قبلها إذ قبلها ) وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( فذكر قصة من صنع الفلك أولاً وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه الفلك من نعمة الله ، كل هذه القصص يحذر بها قريشاً نقم الله ويذكرهم نعمه .
( مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفرداً بالإلهية فكأنها تعليل لقوله ) اعْبُدُواْ اللَّهَ ( ) أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( أي أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره
المؤمنون : ( 24 ) فقال الملأ الذين . . . . .
( فَقَالَ الْمَلا ( أي كبراء الناس وعظماؤهم ، وهم الذين هم أعصى الناس وأبعدهم لقبول الخير . ) مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( أي مساويكم في البشرية . فأتى تؤفكون له اختصاص بالرسالة .
( يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ( أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله : ) وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ ( ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاَنزَلَ مَلَائِكَةً ( هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر ، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه السلام ، وأن تكون إلى ما كلمهم به من الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم ، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر ، وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر . وقولهم ) مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا ( الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلاّ فنبوّة إدريس وآدم لم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه ،
المؤمنون : ( 25 ) إن هو إلا . . . . .
ولهذا قالوا ) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ( ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون ) فَتَرَبَّصُواْ بِهِ ( أي انتظروا حاله حتى يجلي أمره وعاقبة خبره .
المؤمنون : ( 26 - 28 ) قال رب انصرني . . . . .
فدعا ربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه . وقال الزمخشري : يدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه ، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم ) إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( انتهى .
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن ) قَالَ رَبّ ( بضم الباء ، وتقدم توجيهه في قوله ) قَالَ رَبّ احْكُم ( بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذه الآية في سورة هود ، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق ، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم . قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلاّ ملك أو نبي انتهى .
المؤمنون : ( 29 ) وقل رب أنزلني . . . . .
ثم أمره أن يدعوه بأنه ينزله ) مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة . وقيل : عند الخروج منها . وقرأ الجمهور ) مُنزَلاً ( بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدراً ومكاناً أي إنزالاً أو موضع إنزال . وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان : بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول
المؤمنون : ( 30 ) إن في ذلك . . . . .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ( خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أي إن في ما جرى على هذه أمّة نوح لدلائل وعبراً ) وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ( أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله ) وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاْخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ ). ( سقط : مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ، أيعدكم أنكم إذا )(6/372)
" صفحة رقم 373 "
( سقط : متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ، هيهات هيهات لما توعدون ، إن هي إلا حياتنا نوت ونحيا وما نحن بمبعوثين ، إن هو إلا رجل به جنة افترى على الله كذبا وما نحن بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون ، قال عما قليل ليصبحن نادمين ، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين )
المؤمنون : ( 31 - 32 ) ثم أنشأنا من . . . . .
ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح ، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين . وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري : هم ثمود ، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة . وفي آخر القصة ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ( ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف ، وفي هود ، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح . وقال تعالى ) وَاذْكُرُواْ إِذَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كأخوانه وجه ، وأنفذ وبعث وهنا عُدِّي بفي ، جعلت الأمة موضعاً للإرسال كما قال رؤبة :
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام
وجاء بعث كذلك في قوله ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ ( ) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ( و ) ءانٍ ( في ) أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ ( يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا
المؤمنون : ( 33 - 37 ) وقال الملأ من . . . . .
( وَقَالَ الملأ ( بالواو . وفي الأعراف وسورة هود في قصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله ، أي اجتمع قوله الذي هو حق ، وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر ، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت ) وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاْخِرَةِ ( أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها ) وَأَتْرَفْنَاهُمْ ( أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم ، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين ، وكان العطف مشعراً بغلبة التكذيب والكفر ، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم ، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم ، وأن تكون جملة حالية أي وقد ) أترفناهم ( أي ) لَّمَّا كَذَّبُواْ ( في هذه الحال ، ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي ) كَذَّبُواْ ( في حال الإحسان إليهم ، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي .
وقوله ) أَكَلَ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ( تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم ، وأن لا مزية له عليهم ، والظاهر أن ما موصولة في قوله ) مِمَّا تَشْرَبُونَ ( وأن العائد محذوف تقديره ) مِمَّا تَشْرَبُونَ ( منه لوجود شرائط الحذف ، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله : مررت بالذي مررت ، وحسن هذا الحذف ورجحه كون ) تَشْرَبُونَ ( فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله ) مّمَّا تَأْكُلُونَ ( وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله ) وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ( على حذف أي ) مِمَّا تَشْرَبُونَ ( منه ، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة لأن ما إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى . يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه ، فيكون المحذوف ضميراً متصلاً وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلاّ أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال ) مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ( فعداه بمن التبعيضية ، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير ) مِمَّا تَشْرَبُونَ ( منه ، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح .
وقال الزمخشري : حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه انتهى . فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم .
وقال الزمخشري ) إِذَا ( واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى . وليس ) إِذَا ( واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين ) إِنَّكُمْ ( والخبر و ) إِنَّكُمْ ( والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة ، ولو كانت ) إِنَّكُمْ ( والخبر جواباً للشرط للزمت الفاء في ) إِنَّكُمْ ( بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلاّ عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ . واختلف المعربون في تخريج ) إِنَّكُمْ ( الثانية ، والمقتول عن سيبويه أن ) إِنَّكُمْ ( بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد ، وخبر ) إِنَّكُمْ ( الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه(6/373)
" صفحة رقم 374 "
تقديره ) إِنَّكُمْ ( تبعثون ) إِذَا مِتٌّ مْ ( وهذا الخبر المحذوف هو العامل في ) إِذَا ( وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن ) إِنَّكُمْ ( الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار ، وعلى هذا يكون ) مُّخْرَجُونَ ( خبر ) إِنَّكُمْ ( الأولى ، والعامل في ) إِذَا ( هو هذا الخبر ، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى . وذهب الأخفش إلى أن ) أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره : يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبراً لأنكم ، ويكون جواب ) إِذَا ( ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر ) إِنَّكُمْ ( ويكون عاملاً في ) إِذَا ).
وذكر الزمخشري قول المبرد بادئاً به فقال : شيء ) إِنَّكُمْ ( للتوكيد ، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و ) مُّخْرَجُونَ ( خبر عن الأول وهذا قول المبرد . قال الزمخشري : أو جعل ) أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( مبتدأ و ) إِذَا مِتٌّ مْ ( خبراً على معنى إخراجكم إذا متم ، ثم أخبر بالجملة عن ) إِنَّكُمْ ( انتهى . وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه . قال : أو رفع ) أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( بفعل هو جزاء الشراط كأنه قيل ) إِذَا مِتٌّ مْ ( وقع إخراجكم انتهى . وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبراً عن ) إِنَّكُمْ ( ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه ، وأن يكون خبر ) إِنَّكُمْ ( ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في ) إِذَا ( وفى قراءة عبد الله ) أَيَعِدُكُمْ ( ) إِذَا مِتٌّ مْ ( بإسقاط ) إِنَّكُمْ ( الأولى .
وقرأ الجمهور ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ( بفتح التاءين وهي لغة الحجاز . وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس . وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين ، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأول وخالفه في الثاني . وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين ، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنه أيضاً ، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين . وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضاً بإسكانهما ، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعباً كبيراً بالحذف والإبدال والتنوين وغيره ، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة ، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعاً لهيهات ، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون ) هَيْهَاتَ ( إلاّ أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه ، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع ، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد ، فقال واحد : هيهات هيهة ، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالباً إلاّ مكررة ، وجاءت غير مكررة في قول جرير :
وهيهات خل بالعقيق نواصله وقول رؤبة :
هيهات من متحرق هيهاؤه و ) هَيْهَاتَ ( اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهراً أو مضمراً ، وهنا جاء التركيب ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ( لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم ، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقياً لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في ) هَيْتَ لَكَ ( لبيان المهيت به . وقال الزجاج : البعد ) لِمَا تُوعَدُونَ ( أو بعد ) لِمَا تُوعَدُونَ ( وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية ) هَيْهَاتَ ( وقول الزمخشري : فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر . وقال ابن عطية : طوراً تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود ) لِمَا تُوعَدُونَ ( انتهى . وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل ، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولا يجيز البصريون شيئاً من هذا . وقال ابن عطية أيضاً في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل ، وخبره ) لِمَا تُوعَدُونَ ( أي البعد لوعدكم كما تقول : النجح لسعيك . وقال صاحب اللوامح : فأما من قال ) هَيْهَاتَ ( فرفع ونون احتمل أن يكونا(6/374)
" صفحة رقم 375 "
اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد ) لِمَا تُوعَدُونَ ( والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى . وقرأ ابن أبي عبلة ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ( ما ) تُوعَدُونَ ( بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات . وهي قراءة واضحة .
وقالوا ) إِنْ هِىَ ( هذا الضمير يفسره سياق الكلام لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا ) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ ( الآية فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء ، فتضمن أن لا حياة إلاّ حياتهم . وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله أن الحياة ) إِلاَّ حَيَاتُنَا ( الدنيا ثم وضع ) هِىَ ( موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبنيها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول : ما شاءت ، والمعنى : لا حياة إلاّ هذه الحياة الدنيا لأن ) ءانٍ ( الثانية دخلت على ) هِىَ ( التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس .
( نَمُوتُ وَنَحْيَا ( أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى ،
المؤمنون : ( 38 - 40 ) إن هو إلا . . . . .
ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلاّ حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية ، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث ) وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ( أي بمصدّقين ، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم ) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ ( أي عن زمن قليل ، وما توكيد للقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب . قيل : أي بعد الموت تصيرون نادمين . وقيل ) عَمَّا قَلِيلٍ ( أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع الرجوع ، واللام في ) لَّيُصْبِحُنَّ ( لام القسم و ) عَمَّا قَلِيلٍ ( متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين ، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها ، ألا ترى أنه لو كان مفعولاً به لم يجز تقديمه لو قلت : لأضربن زيداً لم يجز زيداً لأضربن ، وهذا الذي قررناه من أن ) عَمَّا قَلِيلٍ ( يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفاً أو مجروراً أو غيرهما ، فعلى قول هو لا يكون ) عَمَّا قَلِيلٍ ( يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره ) عَمَّا قَلِيلٍ ( تنصر لأن قبله قال ) رَبّ انصُرْنِى ). وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقاً . وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة ، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزاً والله أعلم انتهى .
المؤمنون : ( 41 ) فأخذتهم الصيحة بالحق . . . . .
( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ( قال الزمخشري : صيحة جبريل عليه السلام صاح عليهم فدمرهم ) بِالْحَقّ ( بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان انتهى . وعن ابن عباس ) الصَّيْحَةَ ( الرجفة . وقيل : هي نفس العذاب والموت . وقيل : العذاب المصطلم . قال الشاعر : صاح الزمان بآل زيد صيحة
خروا لشنتها على الأذقان
وقال المفضل : ) بِالْحَقّ ( بما لا مدفع له كقوله : وجاءت سكرة الموت بالحق . وانتصب بعداً بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعداً . أي هلكوا ، يقال بعد بعداً وبعداً نحو رشد رشداً ورشداً . وقال الحوفي ) لّلْقَوْمِ ( متعلق بعداً . وقال الزمخشري : و ) لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو ) هَيْتَ لَكَ ( و ) لِمَا تُوعَدُونَ ( انتهى فلا تتعلق ببعداً بل بمحذوف .
( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعدا القوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين فقالوا أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا(6/375)
" صفحة رقم 376 "
عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين ، ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرة ر ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون .
المؤمنون : ( 42 ) ثم أنشأنا من . . . . .
( قروناً ( قال ابن عباس : هم بنو إسرائيل . وقيل : قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم
المؤمنون : ( 43 ) ما تسبق من . . . . .
( مَّا تَسْبِقُ ( إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر
المؤمنون : ( 44 ) ثم أرسلنا رسلنا . . . . .
( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ( أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي ) تَتْرَى ( منوناً وباقي السبعة بغير تنوين ، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد ، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة ، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل ، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم .
( فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ( أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشىء عن التكذيب . و ) أَحَادِيثَ ( جمع حديث وهو جمع شاذ ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي . والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم . وقال الأخفش : لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير . قيل : ويجوز أن يكون جمع حديث ، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم . وقال الزمخشري : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى . وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع ، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى ) أَحَادِيثَ ( وقد لفظ له وهو حديث ، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه .
المؤمنون : ( 45 - 46 ) ثم أرسلنا موسى . . . . .
( بِئَايَاتِنَا ( قال ابن عباس هي التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنون ، ونقص من الثمرات ) وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( قيل : هي العصا واليد ، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست ، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل . وقال الحسن : ) بِئَايَاتِنَا ( أي بديننا . ) وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( هو المعجز ، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات ، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام . قيل : ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها ، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها ، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء ، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة ) فَاسْتَكْبَرُواْ ( عن الإيمان بموسى وأخيه نفة .
( قَوْماً عَالِينَ ( أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم ، أو متكبرين كقوله ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( أي وكان من شأنهم التكبر .
المؤمنون : ( 47 ) فقالوا أنؤمن لبشرين . . . . .
والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله ) فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً ( ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء ) لِبَشَرَيْنِ ( ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث ، وقد يطابق تثنية وجمعاً و ) قومهما ( أي بنو إسرائيل ) وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( أي خاضعون متذللون ، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة ، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة . وقال أبو عبيد : العرب تسمي كل من دان للملك عابداً ،
المؤمنون : ( 48 ) فكذبوهما فكانوا من . . . . .
ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالفرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب .
المؤمنون : ( 49 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
( مُوسَى الْكِتَابَ ( أي قوم موسى و ) الْكِتَابِ ( التوراة ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله ) لَعَلَّهُمْ ( ولا يصح عود هذا الضمير في ) لَعَلَّهُمْ ( على فرعون وقومه لأن ) الْكِتَابِ ( لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُون(6/376)
" صفحة رقم 377 "
الاْولَى ). ) لَعَلَّهُمْ ( ترج بالنسبة إليهم ) لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( لشرائعها ومواعظها .
المؤمنون : ( 50 ) وجعلنا ابن مريم . . . . .
( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ( أي قصتهما وهي ) ءايَةً ( عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية . والربوة هنا . قال ابن عباس وابن المسيب : الغوطة بدمشق ، وصفتها أنها ) ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( على الكمال . وقال أبو هريرة : رملة فلسطين . وقال قتادة وكعب : بيت المقدس ، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء ، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً . وقال ابن زيد ووهب : الربوة بأرض مصر ، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون . وقرأ الجمهور ) رَبْوَةٍ ( بضم الراء وهي لغة قريش ، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها ، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف ، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف . وقرىء بكسرها وبالألف ) ذَاتِ قَرَارٍ ( أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة ، والمعنى أنها من البقاع الطيبة . وعن قتادة : ذات ثمار وماء ، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها .
المؤمنون : ( 51 ) يا أيها الرسل . . . . .
ونداء ) الرُّسُلَ ( وخطابهم بمعنى نداء كلواحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه ، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه . وقيل : الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام ) الرُّسُلَ ( وقيل : ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً : يا تجار اتقوا الربا . وقال الطبري : الخطاب لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي ) آويناهما ( وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقنا كما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ . وقيل : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له ) رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال .
( إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم
المؤمنون : ( 52 ) وإن هذه أمتكم . . . . .
( وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ ( الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء . وقرأ الكوفيون ) وَأَنْ ( بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف ، والحرميان : وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن ، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة ، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله ) وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ ).
وقوله ) فَتَقَطَّعُواْ ( وجاء هنا ) وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء ) فَاعْبُدُونِ ( لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح ، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى
المؤمنون : ( 53 ) فتقطعوا أمرهم بينهم . . . . .
وجاء هنا ) فَتَقَطَّعُواْ ( بالفاء إيذاناً بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى ، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته . وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء ، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة ، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله ، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق .
المؤمنون : ( 54 ) فذرهم في غمرتهم . . . . .
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش ، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله ) فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ( وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقائل هو شاعر ، وقائل ساحر ، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال ) أَتَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ). قال الكلبي ) فِى غَمْرَتِهِمْ ( في جهالتهم . وقال ابن بحر : في حيرتهم . وقال ابن سلام : في غفلتهم . وقيل : في ضلالتهم ) حَتَّى حِينٍ ( حتى ينزل بهم الموت . وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب . وقيل : هو يوم بدر . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقرأ الجمهور ) فِى غَمْرَتِهِمْ ( وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع(6/377)
" صفحة رقم 378 "
لأن لكل واحد غمرة ، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام . وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال الشاعر :
كأني ضارب في غمرة لعب
المؤمنون : ( 55 - 56 ) أيحسبون أنما نمدهم . . . . .
سلي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى . ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم ، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان .
وقرأ ابن وثاب ) أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ ( بكسر الهمزة . وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء ، وما في ) إِنَّمَا ( إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها ، وخبر إن هي الجملة من قوله ) نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ ( والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره : نسارع لهم به في الخيرات ، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس . وتقدم نظيره في قوله ) أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ ( وقال هشام بن معونة : الضرر الرابط هو الظاهر وهو ) فِى الْخَيْراتِ ( وكان المعنى ) نُسَارِعُ لَهُمْ ( فيه ثم أظهر فقال ) فِى الْخَيْراتِ ( فلا حذف على هذا التقدير ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو ) نُسَارِعُ ( على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل ، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات . وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف ، ويجوز الوقف على ) وَبَنِينَ ( كما تقول حسبت إنما يقوم زيد ، وحسبت أنك منطلق ، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى ، وإن كان في ما يقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر .
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل ) نُسَارِعُ ( ضمير يعود على ما بمعنى الذي ، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع ، هو أي إمدادنا . وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول . وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع ) بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ( إضراب عن قوله ) أَيَحْسَبُونَ ( أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد .
( إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ).
المؤمنون : ( 57 ) إن الذين هم . . . . .
لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم ، والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب ) رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( وهو قول الكلبي ومقاتل و ) مّنْ خَشْيَةِ ( متعلق بمشفقون قاله الحوفي . وقال ابن عطية : و ) مِنْ ( في ) مّنْ خَشْيَةِ ( هي لبيان جنس الإشفاق ، والإشفاق إنما هو من عذاب الله ، والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر . وفي كل شيء له آية .
المؤمنون : ( 58 - 59 ) والذين هم بآيات . . . . .
ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي(6/378)
" صفحة رقم 379 "
الأصنام ، إذ لكفار قريش أن تقول : نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق . وقيل : ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله ) وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه .
المؤمنون : ( 60 ) والذين يؤتون ما . . . . .
وقرأ الجمهور ) يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ ( أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات ) وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ( أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء . قال ابن عباس وابن جبير : هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال : والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم . وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر ، وهو على ذلك يخاف الله قال : ( لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل ) . قيل : وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح . وقال الحسن : المؤمن يجمع إحساناً وشفقة ، والمنافق يجمع إساءة وأمناً . وقرأ الأعمش ) أَنَّهُمْ ( بالكسر . وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز ، والثانية على تحصيل الإيمان بالله ، والثالثة على ترك الرياء في الطاعة ، والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى .
المؤمنون : ( 61 ) أولئك يسارعون في . . . . .
( أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ ( جملة في موضع خبر أن . قال ابن زيد ) الخَيْرَاتِ ( المخافتة والإيمان والكف عن الشرك . قال الزمخشري : ) يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ، ووجوه الإكرام كما قال ) فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ ( ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ( لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها ، وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى . وقرأ الحر النحوي : يسرعون مضارع أسرع ، يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد ، وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم . قال الزجاج ) يُسَارِعُونَ ( أبلغ من يسرعون انتهى . وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه .
( وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ( الظاهر أن الضمير في ) لَهَا ( عائد على ) الخَيْرَاتِ ( أي سابقون إليها تقول : سبقت لكذا وسبقت إلى كذا ، ومفعول ) سَابِقُونَ ( محذوف أي سابقون الناس ، وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله ) يُسَارِعُونَ ( وثبوته بقوله ) سَابِقُونَ ( وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله . وقال الزمخشري ) لَهَا سَابِقُونَ ( أي فاعلون السبق لأجلها ، أو سابقون الناس لأجلها انتهى . وهذان القولان عندي واحد . قال أيضاً أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى . ولا يدل لفظ ) لَهَا سَابِقُونَ ( على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق ، فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح . وقال أيضاً : ويجوز أن كون ) لَهَا سَابِقُونَ ( خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى . وهذا مروي عن ابن عباس . قال : المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ، ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى . والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره . وقيل : الضمير في ) لَهَا ( عائد على لجنة . وقيل : على الأمم .
المؤمنون : ( 62 ) ولا نكلف نفسا . . . . .
( وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ( تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة ) وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ ( أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف الت يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ . وقيل : القرآن .
المؤمنون : ( 63 ) بل قلوبهم في . . . . .
( بَلْ قُلُوبُهُمْ(6/379)
" صفحة رقم 380 "
أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء ) مّنْ هَاذَا ( أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن ، والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الذين بجملته أو إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أقوال خمسة ) وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ( من دون ذلك أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم ، فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق ، وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية ، وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه . وقيل : الإشارة بذلك إلى قوله ) مّنْ هَاذَا ( وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق ، أو القرآن ونحوه . وقال الحسن ومجاهد : إنما أخبر بقوله ) وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ( عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد . وعن ابن عباس ) أَعْمَالٌ ( سيئة دون الشرك . وقال الزمخشري ) وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ( متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب و ) حَتَّى ( هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية انتهى . وقيل الضمير في قوله ) بَلِ ( يعود إلى المؤمنين المشفقين ) هُمْ فِى غَمْرَةٍ ( من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل ) وَهُمْ ( مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ) ولهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه ، ويريد بالأعمال الأول الفرائض ، وبالثاني النوافل .
المؤمنون : ( 64 - 65 ) حتى إذا أخذنا . . . . .
( حتى إذا أخذنا مترفيهم ( رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم . قال أبو عبد الله الرازي : وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصاً وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر ، وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل : فما المراد بقوله ) مّنْ هَاذَا ( ؟ قلنا : إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى . وتقدم قول الزمخشري في ) حَتَّى ( أنها التي يبتدأ بعدها الكلام ، وأنها غاية لما قبلها ، وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب . وقال الحوفي ) حَتَّى ( غاية وهي عاطفة ، ( إِذَا ( ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط ) إِذَا ( الثانية في موضع جواب الأولى ، ومعنى الكلام عامل في ) إِذَا ( والتقدير جأروا ، فيكون جأد العامل في ) إِذَا ( الأولى ، والعامل في الثانية ) أَخَذْنَا ( انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلاً أن يرد .
وقال ابن عطية و ) حَتَّى ( حرف ابتداء لا غير ، و ) إِذَا ( الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى . وقال مكي : أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر ) لَهَا عَامِلُونَ ( إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم ) بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ ( يضجون ويستغيثون ، والمترفون المنعمون والرؤساء والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد . وقيل : العذاب قتلهم يوم بدر . وقيل : عذاب الآخرة ، والظاهر أن الضمير في ) إِذَا هُمْ ( عائد على ) مُتْرَفِيهِمْ ( إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب . وقيل : يعود على الباقين بعد المعذبين . قال ابن جريج : المعذبون قتلى بدر ، والذين ) يَجْئَرُونَ ( أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا .
( لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ ( أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازاً أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة . وقال قتادة ) يَجْئَرُونَ ( يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم . وقال الربيع بن أنس : تجأرون تجزعون ، عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه ) إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ( أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا ، فالجوار غير نافع لكم ولا مجد .
المؤمنون : ( 66 ) قد كانت آياتي . . . . .
( قَدْ كَانَتْ ءايَتِى ( هي آيات القرآن ) تَنكِصُونَ ( ترجعون استعارة للإعراض عن الحق . وقرأ علي بن أبي طالب ) تَنكِصُونَ ( بضم الكاف والضمير في ) بِهِ ( عائد على المصدر الدال عليه ) تَنكِصُونَ ( أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب ،
المؤمنون : ( 67 ) مستكبرين به سامرا . . . . .
وضمن ) مُسْتَكْبِرِينَ ( معنى مكذبين فعُدِّي بالباء أو تكون الباء(6/380)
" صفحة رقم 381 "
للسبب ، أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو . والجمهور على أن الضمير في ) بِهِ ( عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر ، وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلاّ أنهم ولاته والقائمون به ، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويحسنه أن في قوله ) تُتْلَى عَلَيْكُمْ ( دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام ، وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين . وقيل تتعلق بسامراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون ، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب من أتى به .
وقرأ الجمهور ) سَامِراً ( وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمراً بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر ، وابن عباس أيضاً وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك ، وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل سامر .
وقرأ الجمهور ) تَهْجُرُونَ ( بفتح التاء وضم الجيم . وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات . قال ابن عباس ) تَهْجُرُونَ ( الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر . وقال ابن زيد وأبو حاتم : من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول . وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش . قال ابن عباس : إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم . وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضاً وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضاً وأبو حيوة كذلك إلاّ أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش . وقال ابن جني : لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى أنكم إن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجهاً .
( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الاْوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ عَنِ الصّراطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ).
المؤمنون : ( 68 - 70 ) أفلم يدبروا القول . . . . .
ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي أفلم يتفكروا فيما جاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به ، وبخهم ووقفهم على تدبره وأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر ، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولاً بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانياً بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ، أي إرسال الرسل ليس بدعاً ولا مستغرباً بل جاءت الرسل الأمم قبلهم ، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب آباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان ، وروي : لا تسبوا مضر ، ولا ربيعة ، ولا الحارث بن كعب ، ولا أسد بن خزيمة ، ولا تميم بن مرة ولا قساً وذكر أنهم(6/381)
" صفحة رقم 382 "
كانوا مسلمين وأن تبعاً كان مسلماً وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثاً بأنهم يعرفون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصحة نسبة وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش ، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له ( صلى الله عليه وسلم ) ) طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئاً أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلاً ، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه .
ثم وبخهم رابعاً بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل ، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سبباً لانقيادهم إلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتاً وأوصافاً وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية ، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباع الباطل ، ولما لم يجدوا له مدفعاً لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر .
( بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ ( أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا .
( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ ( يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكباراً من توبيخ قومه أن يقولوا : صبأ وترك دين آبائه
المؤمنون : ( 71 ) ولو اتبع الحق . . . . .
( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ ( قرأ ابن وثاب ) وَلَوِ اتَّبَعَ ( بضم الواو والظاهر أنه ) الْحَقّ ( الذي ذكر قبل في قولهم ) بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ ( أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعاً أهواءهم لانقلب شراً وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه . وقال أيضاً : دل بهذا على عظم شأن الحق ، فلو ) أَتَّبِعُ أَهْوَاءهُمْ ( لانقلب باطلاً ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام . وقيل : لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذل حقاً لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي ، وكان في ذلك فساد السموات والأرض . وقيل : كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( وقيل : كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم . وقال قتادة ) الْحَقّ ( هنا الله تعالى .
فقال الزمخشري : معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلهاً ولما قدر على أن يمسك السموات والأرض . وقال ابن عطية : ومن قال إن ) الْحَقّ ( في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة ) أَتَّبِعُ ( وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق ، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سموات ، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى .
وقرأ الجمهور : بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضاً وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه السلام ، وأبو عمرو في رواية ) ءاتَيْنَاهُمُ ( بالمد أي أعطيناهم ، والجمهور ) بِذِكْرِهِمْ ( أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس . وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث ، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح ، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا .
وقال الزمخشري : ) بِذِكْرِهِمْ ( أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم ، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين .
المؤمنون : ( 72 ) أم تسألهم خرجا . . . . .
( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ( هذا استفهام توبيخ أيضاً المعنى بل أتسألهم مالاً فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله ، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال ) أَمْ تَسْئَلُهُمْ ( على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم(6/382)
" صفحة رقم 383 "
يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلاّ إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى .
وتقدم الكلام في قوله ) خَرْجاً فَخَرَاجُ ( في قوله تعالى ) فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ( في الكهف قراءة ومدلولاً . وقرأ الحسن وعيسى خراجاً فخرج فكلمت بهذه القراءة ربع قراءات ، وفي الحرفين ) فَخَرَاجُ رَبّكَ ( أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان . وقال الكلبي : فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة . وقيل : فرزقه ويؤيده ) خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( قال الجبائي : ) خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده ، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً انتهى . وهذا مدلول ) خَيْرٌ ( الذي هو أفعل التفضيل ومدلول ) الرَّازِقِينَ ( الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل .
المؤمنون : ( 73 ) وإنك لتدعوهم إلى . . . . .
ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال ) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( وهو دين الإسلام ،
المؤمنون : ( 74 ) وإن الذين لا . . . . .
ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلاّ من كان راجياً للثواب خائفاً من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه ، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة ، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار . قال ابن عباس : ) لَنَاكِبُونَ ( لعادلون . وقال الحسن : تاركون له . وقال قتادة : حائرون . وقال الكلبي : معرضون ، وهذه أقوال متقاربة المعنى .
المؤمنون : ( 75 - 77 ) ولو رحمناهم وكشفنا . . . . .
( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ ( قيل : هو الجوع . وقيل : القتل والسبي . وقيل : عذاب الآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذا القول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله ) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ( إلى آخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولاً ، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم . والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج .
وسبب نزول الآية دليل على ذلك روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة ، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمة للعالمين ؟ فقال : ( بلى ) فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية . والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزل والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها . وقيل : المعنى لو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبزا بنار جهنم أبلسوا ، كقوله ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( ) لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة ، وعلى الأول كان في الدنيا .
ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول : استحال انتقل من حال إلى حال ، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباع بابه لشعر كقوله : أعوذ بالله من العقراب
الشائلات عقد الأذناب(6/383)
" صفحة رقم 384 "
ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة ، ألا ترى أن من أشبع في قوله : ومن ذم الزمان بمنتزاح لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح ، وأنت تقول : استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة ، وتخالف ) اسْتَكَانُواْ ( و ) يَتَضَرَّعُونَ ( في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين . قال الزمخشري : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد .
والملبس : الآيس من الشر الذي ناله . وقرأ السلمي ) مُّبْلِسُونَ ( بفتح اللام .
2 ( ) وَهُوَ الَّذِىأَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى يُحَاىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاٌّ وَّلُونَ قَالُواْ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ قُل لِّمَنِ الاٌّ رْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّىأَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُم(6/384)
" صفحة رقم 385 "
ْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاٌّ رْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ ( )
المؤمنون : ( 78 - 79 ) وهو الذي أنشأ . . . . .
الهمز : النخس والدفع بيد وغيرها ، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان . البرزخ : الحاجز بين المسافتين . وقيل : الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن يصلى إلى الآخر . النسب : القرابة من جهة الولادة . اللفح : إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها . وقال الزجاج : اللفح أشد من اللقيح تأثيراً . الكلوح : تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد . وقيل : الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه ، وكلح الرجل كلوحاً وكلاحاً ودهر كالح وبرد كالح شديد . العبث : اللعب الخالي عن فائدة .
( وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِى الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى يُحىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاْوَّلُونَ قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ قُل لّمَنِ الاْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).
مناسبة ) وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ ( لما قبله أنه لما بيَّن إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق خاطب قيل المؤمنين ، والظاهر العالم بأسرهم تنبيهاً على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى وتدبر ما أودعه فيها من الدلائل على وحدانيته وباهر قدرته فهو كعادم هذه الأعضاء ، وممن قال تعالى فيهم ) فَمَا أُغْنِى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء ( فمن أنشأ هذه الحواس وأنشئت هي له وأحيا وأمات وتصرف في اختلاف الليل والنهار هو قادر على البعث . وخص هذه الأعضاء بالذكر لأنه يتعلق بها منافع الدين والدنيا من أعمال السمع والبصر في آيات الله والاستدلال بفكر القلب على وحدانية الله وصفاته ، ولما كان خلقها من أتم النعم على العبد قال ) قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( أي تشكرون قليلاً و ) مَا ( زائدة للتأكيد . ومن شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها ونفي الند والشريك .
و ) ذَرَأَكُمْ ( خلقكم وبثكم فيها . ) وَإِلَيْهِ ( أي وإلى حكمه وقضائه وجزائه ) تُحْشَرُونَ ( يريد البعث والجمع في الآخرة بعد التفرق في الدنيا والاضمحلال .
المؤمنون : ( 80 ) وهو الذي يحيي . . . . .
( وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( أي . هو مختص به ومتوليه وله القدرة التي ذلك الاختلاف عنها . والاختلاف هنا التعاقب أي يخلف هذا هذا . ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( من هذه تصرفات قدرته وآثار قهره فتوحدونه وتنفون عنه الشركاء والأنداد ، إذ هم ليسوا بقادرين على شيء من ذلك . وقرأ أبو عمرو في رواية : يعقلون بياء الغيبة على الالتفات .
المؤمنون : ( 81 ) بل قالوا مثل . . . . .
( بَلْ قَالُواْ ( ) بَلِ ( إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات ) بَلْ قَالُواْ ( والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار .
المؤمنون : ( 84 - 89 ) قل لمن الأرض . . . . .
ولما اتخذوا من دون الله تعالى آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط(6/385)
" صفحة رقم 386 "
جهلهم بكونهم يقرون بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شيء وهم مع ذلك ينسبون له الولد ويتخذون له شركاء .
وقرأ عبد الله والحسن والجحدري ونصر بن عاصم وابن وثاب وأبو الأشهب وأبو عمرو من السبعة ) سَيَقُولُونَ اللَّهِ ( الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعاً وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام . وقرأ باقي السبعة ) لِلَّهِ ( فيها بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظاً ومعنى ، والثانية جاءت على المعنى لأن قولك : من رب هذا ؟ ولمن هذا ؟ في معنى واحد ، ولم يختلف في الأول أنه باللام . وقرأ ابن محيصن ) الْعَظِيمِ ( برفع الميم نعتاً للرب ، وتقول أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه أي وهو يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يمنع أحد منه أحداً . ولا تعارض بين قوله ) إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( لا ينفي عنهم وبين ما حكي عنهم من قولهم . ) سَيَقُولُونَ اللَّهِ ( لأن قوله ) إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( لا ينفي علمهم بذلك ، وقد يقال مثل ذلك في الاحتجاج على وجه التأكيد لعلمهم ، وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرض ومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه ممن في الأرض ملكاً له الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهي أبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركوا به . وختم ما بعد هذه بقوله ) فَإِنّي تُسْحَرُونَ ( مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به في الاحتجاج وأني بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهم عن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته ، والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك .
المؤمنون : ( 90 ) بل أتيناهم بالحق . . . . .
وقرىء بل آتيتهم بتاء المتكلم ، وابن أبي إسحاق بتاء الخطاب ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( فيما ينسبون إلى الله تعالى من اتخاذ الولد ومن الشركاء وغير ذلك مما هم فيه كاذبون . ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله ) وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ( أي وما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق به من الصفات العلى ، فنفي الولد تنبيه على من قال : الملائكة بنات الله ،
المؤمنون : ( 91 ) ما اتخذ الله . . . . .
ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال : الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يراد به إبطال قول النصارى والثنوية و ) مِن وَلَدٍ ( و ) مِنْ إِلَهٍ ( نفي عام يفيد استغراق الجنس ، ولهذا جاء ) إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ ( ولم يأت التركيب إذاً لذهب الإله . ومعنى ) لَذَهَبَ ( أي لا نفرد ) كُلُّ إِلَاهٍ ( بخلقه الذي خلق واستبد به وتميز ملك كل واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضاً كحال ملوك الدنيا ، وإذا لم يقع الإنفراد والتغالب فاعلموا أنه إله واحد وإذا لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالو : فالشرط محذوف تقديره ، ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله ) وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ( عليه وهذا قول الفراء : زعم أنه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجاً لها على غير هذا في قوله ) وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ( في سورة الإسراء : والظاهر أن ما في ) بِمَا خَلَقَ ( بمعنى الذي وجوز أن تكون مصدرية .
( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( تنزيه عن الولد والشريك . وقرىء عما تصفون بتاء الخطاب .
المؤمنون : ( 92 ) عالم الغيب والشهادة . . . . .
وقرأ الإبنان وأبو عمرو وحفص ) عَالِمُ ( بالجر . قال الزمخشري : صفة لله . وقال ابن عطية : اتباع للمكتوبة . وقرأ باقي السبعة وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع . قال الأخفش : الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد . قال أبو عليّ الرفع أن الكلام قد انقطع ، يعني أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ) عَالِمُ ). وقال ابن عطية : والرفع عندي أبرع . والفاء في قوله ) فَتَعَالَى ( عاطفة فالمعنى كأنه قال ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى ( كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته أي شجع فعظمت ، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى ) عَمَّا يُشْرِكُونَ ( على إخبار مؤتنف . و ) الْغَيْبَ ( ما غاب عن الناس و ) الشَّهَادَةَ ( ما شاهدوه انتهى .
( قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ(6/386)
" صفحة رقم 387 "
الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ).
المؤمنون : ( 93 ) قل رب إما . . . . .
لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك له ، وكان تعالى قد أعلم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته ، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعاً بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم ، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سبباً لجعله معهم ، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهاراً للعبودية وتواضعاً لله ، واستغفار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل . وقال أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم . قال الحسن : كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه .
وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل : الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع ، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد . وقرأ الضحاك وأبو عمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء ، وهذا كما قرىء فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف ،
المؤمنون : ( 95 ) وإنا على أن . . . . .
ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون ، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا . فقيل : يوم بدر . وقيل : فتح مكة . وقيل : هو عذاب الآخرة .
المؤمنون : ( 96 ) ادفع بالتي هي . . . . .
ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلاّ الله و ) السَّيّئَةُ ( الشرك . وقال الحسن : الصفح والإغضاء . وقال عطاء والضحاك : السلام إذا أفحشوا . وحكى الماوردي : ) ادْفَعْ ( بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل ، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن . قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف . وقيل : هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة . ) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ( يقتصي أنها آية موادعة ، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه .
المؤمنون : ( 97 - 98 ) وقل رب أعوذ . . . . .
ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمز الرائض الدابة لتسرع ، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه . وقال ابن زيد : همز الشيطان الجنون ، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت . وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن .
المؤمنون : ( 99 - 100 ) حتى إذا جاء . . . . .
( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ( قال الزمخشري : ) حَتَّى ( يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم ، أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى . وقال ابن عطية : ) حَتَّى ( في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى . فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر . وقال أبو البقاء ) حَتَّى ( غاية في معنى العطف ، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم ) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ( ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر :
فياً عجباً حتى كليب تسبني
أي يسبني الناس حتى كليب ، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها . وقال القشيري : احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال : مصرون على الإنكار ) حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ( تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى . وجمع الضمير في ) ارْجِعُونِ ( إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع(6/387)
" صفحة رقم 388 "
تعظيماً كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع . وقال الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم
وقال آخر
ألا فارحموني يا إله محمد
وإما استغاث أولاً بربه وخاطب ملائكة العذاب وقاله ابن جريج . والظاهر أن الضمير في ) أَحَدِهِمْ ( راجع إلى الكفار ، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك . وقال ابن عباس : من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة . فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلاً لقوله ) وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( آية سورة المنافقين . وقال الأوزاعي : هو مانع الزكاة ، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث : ( إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة : نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله ، وأما الكافر فيقول : ( ارجعون لعلي أعمل صالحاً ) .
ومعنى ) فِيمَا تَرَكْتُ ( في الإيمان الذي تركته والمعنى لعلي آتى بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحاً كما تقول : لعلي أبني على أس ، يريد أؤس أساً وأبني عليه . وقيل : ) فِى مَا تَرَكْتُ ( من المال على ما فسره ابن عباس :
المؤمنون : ( 101 ) فإذا نفخ في . . . . .
( كَلاَّ ( كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد . فقيل : هي من قول الله لهم . وقيل : من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ، ومعنى ) هُوَ قَائِلُهَا ( لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه ، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث ) وَمِن وَرَائِهِمْ ( أي الكفار ) بَرْزَخٌ ( حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث . وفي هذه الجملة اقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا ، وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه .
وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض ) فِى الصُّورِ ( بفتح الواو جمع صورة ، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو ، وكذا فأحسن صوركم وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء شاذ . ) فَلاَ أَنسَابَ ( نفي عام ، فقال ابن عباس : عند النفخة الأولى يموت الناس فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات ، وهذا القول يزبل هول الحشر . وقال ابن مسعود وغيره : عند قيام الناس من القبور فلهول المطلع اشتغل كل امرىء بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب . وعن قتادة : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة ، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه . وقيل : ) فَلاَ أَنسَابَ ( أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعدّ لهم من ثواب وعقاب ، وإنما التواصل بالأعمال .
وقرأ عبد الله ولا يساءلون بتشديد السين أدغم التاء في السين إذ أصله ) يَتَسَاءلُونَ ( ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( لأن يوم القيامة مواطن ومواقف ، ويمكن أن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى ، وأما في الثانية فيقع التساؤل .
المؤمنون : ( 102 - 103 ) فمن ثقلت موازينه . . . . .
وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في أوائل الأعراف . وقال الزمخشري ؛ ) فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف انتهى . جعل ) فِى جَهَنَّمَ ( بدلاً ) مِنْ خَسِرُواْ ( وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به ) فِى جَهَنَّمَ ( أي استقروا في جهنم ، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم . وأجاز أبو البقاء أن يكون ) الَّذِينَ ( نعتاً لأولئك ، وخبر ) أُوْلَائِكَ ( ) فِى جَهَنَّمَ ( والظاهر أن(6/388)
" صفحة رقم 389 "
يكون خبراً لأولئك لا نعتاً .
المؤمنون : ( 104 ) تلفح وجوههم النار . . . . .
وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان ، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء ، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح . ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته قال هذا حديث حسن صحيح . وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة كلحون بغير ألف .
( أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل ).
المؤمنون : ( 105 ) ألم تكن آياتي . . . . .
يقول الله لهم على لسان من يشاء من ملائكته ) أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى ( وهي القرآن ،
المؤمنون : ( 106 ) قالوا ربنا غلبت . . . . .
ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم ) غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ( من قولهم : غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه ، والشقاوة سوء العاقبة . وقيل : الشقوة الهوى وقضاء اللذات لأن ذلك يؤدي إلى الشقوة . أطلق اسم المسبب على السبب قاله الجبائي . وقيل : ما كتب علينا في اللوح المحفوظ وسبق به علمك . وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم : شقاوتنا بوزن السعادة وهي لغة فاشية ، وقتادة أيضاً والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه كذلك إلاّ أنه بكسر الشين ، وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف وهي لغة كثيرة في الحجاز . قال الفراء : أنشدني أبو ثروان وكان فصيحاً : علق من عنائه وشقوته
بنت ثماني عشرة من حجته
وقرأ شبل في اختياره بفتح الشين وسكون القاف . ) وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ ( أي عن الهدى ،
المؤمنون : ( 107 ) ربنا أخرجنا منها . . . . .
ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والإقرار بالذنب اعتذار ، فقالوا ) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( أي من جهنم ) فَإِنْ عُدْنَا ( أي إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك ) فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( أي متجاوز والحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولاً ثم سومحنا فظلمنا ثانياً . وحكى الطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكوين بين الكفار وبين مالك خازن النار ، ثم بينهم وبين ربهم جل وعز وآخرها
المؤمنون : ( 108 ) قال اخسؤوا فيها . . . . .
( قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( قال وتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض . قال ابن عطية : واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته ، لكن معناه صحيح ومعنى ) اخسؤوا ( أي ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا ازجرت ، يقال : خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعدياً ولازماً . و ) لا تُكَلّمُونِ ( أي في رفع العذاب أو تخفيفه . قيل : هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلاّ الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون .
المؤمنون : ( 109 ) إنه كان فريق . . . . .
( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ ). قرأ أبيّ وهارون العتكي ) أَنَّهُ ( بفتح الهمزة أي لأنه ، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة والفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين ، وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ ، ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم ، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر .
المؤمنون : ( 110 ) فاتخذتموهم سخريا حتى . . . . .
وقرأ حمزة والكسائي ونافع ) سِخْرِيّاً ( بضم السين وباقي السبعة بالكسر . قال الزمخشري : مصدر سخر كالسخر إلاّ أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل ، كما قيل : الخصوصية في الخصوص وهما بمعنى الهزء في قول الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه . وقال أبو(6/389)
" صفحة رقم 390 "
عبيدة والكسائي والفراء : ضم السين من السخرة والاستخدام والكسر من السخر وهو الاستهزاء . ومنه قول الأعشى : إني أتاني حديث لا أسرّ به
من علو لا كذب فيه ولا سخر
وقال يونس : إذا أريد التخديم فضم السين لا غير ، وإذا أريد الهزء فالضم والكسر . قال ابن عطية .
وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم السين كل ما في القرآن . وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر إلاّ التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس انتهى . وكان قد قال عن أبي عليّ يعني الفارسي أن قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء ، والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى قوله ) وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ( انتهى قول أبي عليّ ثم قال ابن عطية : ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله ) لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ( لما تخلص الأمر للتخديم انتهى . وليس ما ذكره من إجماع القراء على ضم السين في الزخرف صحيحاً لأن ابن محيصن وابن مسلم كسرا في الزخرف ، ذكر ذلك أبو القاسم بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل .
( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ( أي هزأة تهزوؤن منهم ) حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ( أي بتشاغلكم بهم فتركتم ذكري أي أن تذكروني فتخافوني في أوليائي ، وأسند النسيان إلى فريق المؤمنين من حيث كان سببه .
المؤمنون : ( 111 ) إني جزيتهم اليوم . . . . .
وقرأ زيد بن عليّ وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع ) إِنَّهُمْ هُمُ ( بكسر الهمزة وباقي السبعة بالفتح ، ومفعول ) جَزَيْتُهُمُ ( الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني . وقال الزمخشري : في قراءة من قرأ ) أَنَّهُمْ ( بالفتح هو المفعول الثاني أي ) جَزَيْتُهُمُ ( فوزهم انتهى . والظاهر أنه تعليل أي ) جَزَيْتُهُمُ ( لأنهم ، والكسر هو على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلى عامل . و ) الْفَائِزُونَ ( الناجون من هلكة إلى نعمة .
المؤمنون : ( 112 ) قال كم لبثتم . . . . .
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير ) قَالَ كَمْ ( والمخاطب ملك يسألهم أو بعض أهل النار ، فلذا قال عبر عن القوم . وقرأ باقي السبعة قال . والقائل الله تعالى أو المأمور بسؤالهم من الملائكة . وقال الزمخشري : قال في مصاحف أهل الكوفة و ) قُلْ ( في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام . وقال ابن عطية : وفي المصاحف قال فيهما إلاّ في مصحف الكوفة فإن فيه ) قُلْ ( بغير ألف ، وتقدم إدغام باب لبثت في البقرة سألهم سؤال توقيف على المدة . وقرأ الجمهور ) عَدَدَ سِنِينَ ( على الإضافة و ) كَمْ ( في موضع نصب على ظرف الزمان وتمييزها عدد . وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عدداً بالتنوين . فقال أبو الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح ) سِنِينَ ( نصب على الظرف والعدد مصدر أقيم مقام الأسم فهو نعت مقدم على المنعوت ، ويجوز أن يكون معنى ) لَّبِثْتُمْ ( عددتم فيكون نصب عدداً على المصدر و ) سِنِينَ ( بدل منه انتهى . وكون ) لَّبِثْتُمْ ( بمعنى عددتم بعيد .
ولما سئلوا عن المدة التي أقاموا فيها في الأرض ويعني في الحياة الدنيا قاله الطبري وتبعه الزمخشري
المؤمنون : ( 113 ) قالوا لبثنا يوما . . . . .
فنسوا الفرط هول العذاب حتى قالوا ) يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( أجابوا بقولهم ) لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( ترددوا فيما لبثوا قاله ابن عباس . وقيل : أريد بقوله ) فِى الاْرْضِ ( في جوف التراب أمواتاً وهذا قول جمهور المتأولين . قال ابن عطية : وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث ، وكانوا قولهم أنهم لا يقومون من التراب قيل لهم لما قاموا ) كَمْ لَبِثْتُمْ ( وقوله آخراً ) وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ( يقتضي ما قلناه انتهى .
( فَاسْأَلِ الْعَادّينَ ( خطاب للذي سألهم . قال مجاهد : ) الْعَادّينَ ( الملائكة أي هم الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم . وقال قتادة : أهل الحساب ، والظاهر أنهم من يتصف بهذه الصفة ملائكة أو غيرهم لأن النائم والميت لا يعد فيتقدر له الزمان . وقال الزمخشري : والمعنى لا نعرف من عدد تلك السنين إلاّ أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن يعدكم بفي فسئل من فيه أن يعد ومن يقدر أن(6/390)
" صفحة رقم 391 "
يلقي إليه فكره انتهى . وقرأ الحسن والكسائي في رواية ) الْعَادّينَ ( بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما تقول . قال ابن خالويه : ولغة أخرى العاديين يعني بياء مشددة جمع عادي يعني للقدماء . وقال الزمخشري : وقرىء العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فيكف بمن دونهم .
المؤمنون : ( 114 ) قال إن لبثتم . . . . .
وقرأ الأخوان ) قُلْ إِنْ لَّبِثْتُمْ ( على الأمر ، وباقي السبعة و ) ءانٍ ( نافية أي ما ) لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ( أي قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون أي لم ترغبوا في العلم والهدى
المؤمنون : ( 115 ) أفحسبتم أنما خلقناكم . . . . .
وانتصب ) عَبَثاً ( على الحال أي عابثين أو على أنه مفعول من أجله ، والمعنى في هذا ما خلقناكم للعبث ، وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة . وقرأ الأخوان ) لاَ تُرْجَعُونَ ( مبنياً للفاعل ، وباقي السبعة مبنياً للمفعول ، والظاهر عطف ) وَإِنَّكُمْ ( على ) إِنَّمَا ( فهو داخل في الحسبان .
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على ) عَبَثاً ( أي للعبث ولترككم غير مرجوعين انتهى .
المؤمنون : ( 116 ) فتعالى الله الملك . . . . .
( فَتَعَالَى اللَّهُ ( أي تعاظم وتنزه عن الصاحبة والولد والشريك والعبث وجميع النقائص ، بل هو ) الْمَلِكُ الْحَقُّ ( الثابت هو وصفاته العلي و ) الْكَرِيمِ ( صفة للعرش لتنزل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين . وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير ) الْكَرِيمِ ( بالرفع صفة لرب العرش أو ) الْعَرْشِ ( ، ويكون معطوفاً على معنى المدح .
المؤمنون : ( 117 ) ومن يدع مع . . . . .
و ) مِنْ ( شرطية والجواب ) فَإِنَّمَا ( و ) لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( صفة لازمة لا للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله ) يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( ويجوز أن تكون جملة اعتراض إذ فيها تشديد وتأكيد فتكون لا موضع لها من الإعراب كقولك : من أساء إليك لا أحق بالإساءة منه ، فأسيء إليه . ومن ذهب إلى أن جواب الشرط هو ) لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( هروباً من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له برهان فلا يصح لأنه يلزم منه حذف الفاء في جواب الشرط ، ولا يجوز إلاّ في الشعر وقد خرجناه على الصفة اللازمة أو على الاعتراض وكلاهما تخريج صحيح . وقرأ الحسن وقتادة ( انه ) لايفلح بفتح الهمزة ، أي هو فوضع الكافرون موضع الضمير حملا على معنى من والجمهور بكسر الهمزة وخبر ( حسابه ) الظرف أنه استئناف وقرأ الحسن يفلح بفتح الفاء واللام وافتتح السورة بقوله ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( وأورد في خاتماتها إنه لا يفلح الكافرون فانظر تفاوت بين الإفتتاح والاختتام ، ثم امر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بان يدعوا بالغفران والرحمة وقرأابن محيص وقرأ الحسن وقتادة ) إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ( بفتح الهمزة أي هو فوضع ) الْكَافِرُونَ ( موضع الضمير حملاً على معنى من ، والجمهور بكسر الهمزة وخبر ) حِسَابُهُ ( الظرف و ) أَنَّهُ ( استئناف . وقرأ الحسن ) يُفْلِحُ ( بفتح الفاء واللام ، وافتتح السورة بقوله ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( وأورد في خاتمتها ) إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام .
المؤمنون : ( 118 ) وقل رب اغفر . . . . .
ثم أمر رسوله عليه السلام بأن يدعو بالغفران والرحمة . وقرأ ابن محيصن ) رَبّ ( بضم الباء .(6/391)
" صفحة رقم 392 "
( سورة النور )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ) ) 2
النور : ( 1 ) سورة أنزلناها وفرضناها . . . . .
هذه السورة مدنية بلا خلاف ، ولما ذكر تعالي مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها عاملون ، واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم ، واتخاذهم الولد والشريك ، وإلى مآلهم في النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوار بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من كسبهم من الزنا ، فأنزل الله أول هذه السورة تغليظاً في أمر الزنا وكان فيما ذكر وكأنه لا يصح ناس من المسلمين هموا بنكاحهن .
وقرأ الجمهور ) سُورَةٌ ( بالرفع فجوّزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه ) سُورَةٌ ( أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى عليكم . وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( وما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم إلاّ أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه الخبر إلاّ أن يقدر الخبر في السورة كلها وهذا بعيد في القياس و ) أَنزَلْنَاهَا ( في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى .
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأمَّ الدرداء ) سُورَةٌ ( بالنصب فخرج على إضمار فعل أي أتلو سورة و ) أَنزَلْنَاهَا ( صفة . قال الزمخشري : أو على دونك ) سُورَةٌ ( فنصب على الإغراء ، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا ( فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب إلاّ أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلاّ إن اعتقد حذف وصف أي ) سُورَةٌ(6/392)
" صفحة رقم 393 "
معظمة أو موضحة ) أَنزَلْنَاهَا ( فيجوز ذلك .
وقال الفراء : ) سُورَةٌ ( حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدّم عليه انتهى . فيكون الضمير المنصوب في ) أَنزَلْنَاهَا ( ليس عائداً على ) سُورَةٌ ( وكان المعنى أنزلنا الأحكام ) فرضناها ( سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن ، فليست هذه الأحكام ثابتة بالسنة فقط بل بالقرآن ، والسنة .
وقرأ الجمهور ) أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ( بتخفيف الراء أي فرضنا أحكامها وجعلناها واجبة متطوّعاً بها . وقيل : وفرضنا العمل بما فيها . وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء ما للمبالغة في الإيجاب ، وإما لأن فيها فرائض شتى أو لكثرة المفروض عليهم . قيل : وكل أمر ونهي في هذه السورة فهو فرض .
( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ( بينات أمثالاً ومواعظ وأحكاماً ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل .
النور : ( 2 ) الزانية والزاني فاجلدوا . . . . .
وقرأ الجمهور ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( بالرفع ، وعبد الله والزان بغير ياء ، ومذهب سيبويه أنه مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( وقوله ) فَاجْلِدُواْ ( بيان لذلك الحكم ، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر ) فَاجْلِدُواْ ( وجوزه الزمخشري ، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولاً بما يقبل أداة الشرط لفظاً أو تقديراً ، واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن يدخل عليه أداة الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك ، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في النحو . وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فأئد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( بنصبهما على الاشتغال ، أي واجلدوا ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( كقولك زيداً فضربه ، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو والنصب هنا أحسن منه في ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا ( لأجل الأمر ، وتضمنت السورة أحكاماً كثيرة فيما يتعلق بالزنا ونكاح الزواني وقذف المحصنات والتلاعن والحجاب وغير ذلك . فبدى بالزناء لقبحه وما يحدث عنه من المفاسد والعار . وكان قد نشأ في العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات وقدّمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها ، ولأن زناها أفحش وأكثر عاراً وللعلوق بولد الزنا وحال النساء الحجبة والصيانة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : قدّمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً ؟ قلت : سبقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة على المادة التي منها نشأت الجناية ، فإنها لو لم تطمع الرجل ولم تربض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدىء بذكرها ، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب انتهى . ولا يتم هذا الجواب في الثانية إلاّ إذا حمل النكاح على العقد لا على الوطء . وأل في ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( للعموم في جميع الزناة .
وقال ابن سلام وغيره : هو مختص بالبكرين والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول : رأسه وبطنه وظهره أي ضرب رأسه وبطنه وظهره وهذا مطرد في أسماء الأعيان الثلاثية العضوية ، والظاهر اندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج في المجنون ولا الصبيّ بإجماع . وقال ابن سلام وغيره : واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد . وقال الحسن وإسحاق وأحمد : يجلد ثم يرجم : وجلد عليّ رضي الله عنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا حجة في كون مرجومة أنيس والغامدية لم ينقل جلدهما لأن ذلك معلوم من أحكام القرآن فلا ينقل إلاّ ما كان زائداً على القرآن وهو الرجم ، فلذلك ذكر الرجم ولم يذكر الجلد . ومذهب أبي حنيفة أن من شرط الإحصان الإسلام ، ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط ، واتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين وكذا العبد على مذهب الجمهور . وقال أهل الظاهر : يجلد العبد مائة ومنهم من قال : تجلد الأمة مائة إلاّ إذا تزوجت فخمسين ، والظاهر اندراج الذمّيين في الزانية والزاني فيجلدان عند أبي حنيفة والشافعي وإذا كانا محصنين يرجمان عند الشافعي . وقال مالك : لا حد عليهما والظاهر أنه ليس على الزانية والزاني حد غير الجلد فقط وهو مذهب الخوارج ، وقد ثبت الرجم بالسنة المستفيضة وعمل به بعد الرسول خلفاء الإسلام أبو بكر وعمر وعليّ ، ومن الصحابة جابر وأبو هريرة وبريدة الأسلمي(6/393)
" صفحة رقم 394 "
وزيد بن خالد ، واختلفوا في التغريب بنفي البكر بعد الجلد . وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفي الزاني . وقال الأوزاعي ومالك : ينفي الرجل ولا تنفى المرأة قال مالك : ولا ينفي العبد نصف سنة ، والظاهر أن هذا الجلد إنما هو على من ثبت عليه الزنا فلو وجدا في ثوب واحد فقال إسحاق يضرب كل واحد منهما مائة جلدة ، وروي عن عمر وعليّ . وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد : يؤدبان على مذاهبهم في الأدب ، وأما الإكراه فالمكرهة لا حد عليها وفي حد الرجل المكره خلاف وتفصيل بين أن يكرهه سلطان فلا يحد أو غيره فيحد ، وهو قول أبي حنيفة وقول أبي يوسفض ومحمد والحسن بن صالح والشافعي لا يحد في الوجهين ، وقول زفر يحد فيهما جميعاً . والظاهر أنه لا يندرج في الزنا من أتى امرأة من دبرها ولا ذكراً ولا بهيمة . وقيل : يندرج والمأمور بالجلد أئمة المسلمين ونوابهم . واختلفوا في إقامة الخارجي المتعلب الحدود . فقيل له ذلك . وقيل : لا وفي إقامة السيد على رقيقه . فقال ابن مسعود وابن عمر وعائشة وفاطمة والشافعي : له ذلك . وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر : لا ، وقال مالك والليث : له ذلك إلاّ في القطع في السرقة فإنما يقطعه الإمام ، والجلد كما قلنا ضرب الجلد ولم تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا هيئة المجلود ولا لمحل الجلد ولا لصفة الآلة المجلود بها وذلك مذكور في كتب الفقه .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هذا حكم جميع الزناة والزواني أم حكيم بعضهم ؟ قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم ، فإن المحصن حكمه الرجم فإن قلت : اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني لأن قوله ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( عام في الجميع يتناوله المحصن وغير المحصن قلت : ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( بدلان على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة ، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعاً فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كما يفعل بالأسم المشترك انتهى . وليست دلالة اللفظ على الجنسين كما ذكر دلالة مطلقة لأن دلالة عموم الاستغراق مباينة لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق ، وليست كدلالة المشترك لأن دلالة العموم هي كل فرد فرد على سبيل الاستغراق ، ودلالة المشترك تدل على فرد فرد على الاستغراق أعني في الاستعمال وإن كان في ذلك خلاف في أصول الفقه ، لكن ما ذكرته هو الذي يصح في النظر واستعمال كلام العرب .
وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد : ولا يأخذكم بالياء لأن تأنيث الرأفة مجاز وحسن ذلك الفصل . وقرأ الجمهور بالتاء الرأفة لفظاً . وقرأ الجمهور ) رَأْفَةٌ ( بسكون الهمزة وابن كثير بفتحها وابن جريج بألف بعد الهمزة . وروي هذا عن عاصم وابن كثير ، وكلها مصادر أشهرها الأول والرأفة المنهي أن تأخذ المتولين إقامة الحد . قال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء : هي في إسقاط الحد ، أي أقيموه ولا يدرأ هذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما . ومن مذهبهم أن الحد في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد . وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما : الرأفة المنهي عنها هي في تخفيف الضرب على الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الفرية والخمر ويشدد ضرب الزنا .
وقال الزمخشري : والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه ، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استبقاء حدوده انتهى . فهذا تحسين قول أبي مجلز ومن وافقه . وقال الزهري : يشدّد في الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب .
وقال مجاهد والشعبي وابن زيد : في الكلام حذف تقديره ) وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ( فتعطلوا الحدود ولا تقيموها . والنهي في الظاهر للرأفة والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها ومعنى ) فِى دِينِ اللَّهِ ( في الإخلال بدين الله أي بشرعه . قيل : ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الحكم ) إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( تثبيت وحض وتهييج للغضب لله ولدينه ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل ، وأمر تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظاً على الزناة وتوبيخاً لهم بحضرة الناس ، وسمى الجلد عذاباً إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل ، والطائفة المأمور بشهودها ذلك يدل(6/394)
" صفحة رقم 395 "
الاشتقاق على ما يكون يطوف بالشيء وأقل ما يتصور ذلك فيه ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة الحافة بالشيء . وعن ابن عباس وابن زيد في تفسيرها أربعة إلى أربعين . وعن الحسن : عشرة . وعن قتادة والزهري : ثلاثة فصاعداً . وعن عكرمة وعطاء : رجلان فصاعداً وهو مشهور قول مالك . وعن مجاهد : الواحد فما فوقه واستعمال الضمير الذي للجمع عائداً على الطائفة في كلام العرب دليل على أنه يراد بها الجمع وذلك كثير في القرآن .
النور : ( 3 ) الزاني لا ينكح . . . . .
( الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ( الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره ، ومعنى ) لاَ يَنكِحُ ( لا يطأ وزاد ) المشركة ( في التقسيم ، فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلاّ زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة ، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن عباس هنا . وقال الزمخشري : وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين . أحدهما : أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلاّ معنى العقد . والثاني : فساد المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلاّ بزانية ، والزانية لا تزني إلا بزان انتهى . وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال : لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج وليس كما قال ، وفي القرآن حتى تنكح زوجاً غيره ، وبيِّن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه بمعنى الوطء . وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين . وقال الزمخشري : وأخذه من الضحاك وحسنه الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا ، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله ، أو في مشركة . والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين ، ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور . موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين ، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى .
وعن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن ، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله ) الزَّانِى لاَ يَنكِحُ ( أي لا يتزوج ، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ كأنه يقول : الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه ) وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ). أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه الله على أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال الحسن : المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة قال : وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلاّ زانية . وقد روي أن محدوداً تزوج غير محدودة فردّ عليّ بن أبي طالب نكاحها . ) وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( يريد الزنا . وروى الزهراني في هذا حديثاً من طريق أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( لا ينكح الزاني المحدود إلاّ مثله ) . قال ابن عطية : وهذا حديث لا يصح ، وقول فيه نظر ، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى . وقال ابن المسيب : هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلاّ زانية ، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله ) وَأَنْكِحُواْ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ( وقوله ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلاّ أنه قال : حرم نكاح أولئك البغايا النفر . قال ابن عطية : وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي انتهى .
وعن الجبائي إنها منسوخة بالإجماع ، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وتلخص من هذه الأقوال أن(6/395)
" صفحة رقم 396 "
النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا ، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلاّ فيمن هو شكل لهم ، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلاّ فيمن هو شكل لهن ، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري ، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة ، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة ومالك والثوري والشافعي ، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا : لا يزالان زانيين ما اجتمعا ، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها ، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما وقال قوم منهم لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت فإن امسكها أثم قالوا لا تجوز التزويج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز .
وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية ؟ قلت : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعّفاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان .
وعن عمرو بن عبيد ) لاَ يَنكِحُ ( بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن هو أبلغ وآكد كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك ، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى إن عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها انتهى . وقرأ أبو البرهثيم ) وَحَرَّمَ ( مبنياً للفاعل أي الله ، وزيد بن عليّ ) وَحَرَّمَ ( بضم الراء وفتح الحاء والجمهور ) وَحَرَّمَ ( مشدداً مبنياً للمفعول .
والقذف الرمي بالزنا وغيره ، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان . قال ابن جبير : ونزلت بسبب قصة الإفك . وقيل : بسبب القذفة عاماً ، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول . كما قال :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال : رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
النور : ( 4 ) والذين يرمون المحصنات . . . . .
و ) الْمُحْصَنَاتِ ( الظاهر أن المراد النساء العفائف ، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن . وقيل : المعنى الفروج المحصنات كما قال : ) وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ). وقيل : الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم : وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملاً للنساء وللرجال ، ويدل على الثاني قوله ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء ( وثم محذوف أي بالزنا ، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه ، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية . قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى ، والمراد بالمحصنات غير مزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك ، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول : يا زانية ، أو يا زاني ، أو يا ابن الزاني وابن الزانية ، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح ، فلو عرض كأن يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي ، ويحد في مذهب مالك ، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس(6/396)
" صفحة رقم 397 "
وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا ، فلو قذف كتابياً إذا كان للمقذوف ولد مسلم . وقيل : إذا قذف الكتابية تحت المسلم حُدّ وأتفقوا على أن قاذف الصبي لا يحُدَ وإن كان مثله يجامع ، واختلفوا في قاذف الصبية . فقال مالك : يحد إذا كان مثلها يجامع . وقال مالك والليث : يحد إذا كان مثلها يجامع . وقال مالك والليث : يحد قاذف المجنون . وقال غيرهما : لا يحد .
( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ( ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم ، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيراً ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها ، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وستراً لهم والمعنى ) ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ ( الحكام والجمهور على إضافة ) أَرْبَعَةِ ( إلى ) شُهَدَاء ). وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم ) بِأَرْبَعَةِ ( بالتنوين وهي قراءة فصيحة ، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة ، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك ، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء ، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ( وقوله ) وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ ( وكذلك : عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع ، وكذلك ثلاثة أعبد .
وقال ابن عطية : وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى . وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو : ثلاثة رجال ، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه ، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية ، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز ، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة ، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم . وقال أبو حنيفة : شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين ، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه . والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله ) فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ ( ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة ، وروي ذلك عن الحسن والشعي . وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس .
( فَاجْلِدُوهُمْ ( أمر للإمام ونوابه بالجلد ، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلاّ بمطالبته . وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف ، والظاهر أن العبد القاذف حرّاً إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ( وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي : يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة ، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّاً واحداً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث . وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد . وقال الشعبي وابن أبي ليلى : إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحد واحد ، أو قال : لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد ، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود ، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف . وجلد أبا بكرة وأخاه نافعاً وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة ، ولو أتى بأربعة شهداء فساق . فقال زفر : يدرأ الحد عن القاذف والشهور . وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود . وقال مالك وعبيد الله بن الحسن : يحد الشهود والقاذف .
( وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ( الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبداً وإن أكذب نفسه وتاب ، وهو نهي جاء بعد أمر ، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب ، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب .(6/397)
" صفحة رقم 398 "
وقال مالك : تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعي والقاسم بن محمد وسالم والزهري ، وقال : لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقاً ، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما ، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات .
( وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون ، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبداً .
النور : ( 5 ) إلا الذين تابوا . . . . .
( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( هذا الاستثناء يعقب جملاً ثلاثة ، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف ، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبداً وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي ، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصاً في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل ، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره ، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل . وقال الزمخشري : وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلاً من ) هُمْ ( في ) لَهُمْ ( وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق .
( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( عن القذف ) وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى . وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة .
النور : ( 6 - 7 ) والذين يرمون أزواجهم . . . . .
ولما ذكر تعالى قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ولذلك قال سعد بن عبادة : يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتي آتي بأربعة شهداء والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء فنزلت ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ( واتضح أن المراد بقوله ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( غير الزوجات ، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر . وقيل : نازلة عويمر قبل ، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات ، والمعنى ) شُهَدَاء ( على صدق قولهم . وقرىء ولم تكن بالتاء . وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغاً لما بعد إلاّ وهو مؤنث فالفصيح أن يقول ما قام إلاّ هند ، وأماما قامت إلاّ هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة ، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة .
و ) أَزْواجِهِمْ ( يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من العمل . وقال أبو حنيفة وأصحابه : بأحد معنيين أحدهما : أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبياً ، نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حر إما في غير ملك . والثاني : أن يكون أحدهما ليس من أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو كافراً أو عبداً ، فأمّا إذا كان أعمى أو فاسقاً فله أن يلاعن . وقال الثوري والحسن بن صالح : لا لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكاً أو كافراً ، ويلاعن المحدود في القذف . وقال الأوزاعي : لالعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته . وقال الليث : يلاعن العبد امرأته الحرة والمحدود في القذف . وعن مالك : الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم والعبد يلاعن زوجته الكتابية ، وعنه : ليس بين المسلم والكافرة لعان إلاّ لمن يقول رأيتها تزني فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر ، ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته الأمة إلاّ في نفي الحمل ويتلاعن عن المملوكان المسلمان لا الكافران . وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن ، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات بالزنا ، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا سواء قال : عاينتها تزني أم قال زنيت وهو قول أبي حنيفة(6/398)
" صفحة رقم 399 "
وأصحابه ، وكان مالك لا يلاعن عن إلاّ أن يقول : رأيتك تزنين أو ينفي حملاً بها أو ولد منها والأعمى يلاعن . وقال الليث : لا يلاعن إلاّ أن يقول : رأيت عليها رجلاً أو يكون استبرأها ، فيقول : ليس هذا الحمل مني ولم تتعرض الآية في اللعان إلاّ لكيفيته من الزوجين . وقد أطال المفسرون الزمخشري وابن عطية وغيرهما في ذكر كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه .
وقرأ الجمهور ) أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ( بالنصب على المصدر . وارتفع ) فَشَهَادَةُ ( خبراً على إضمار مبتدأ ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدماً أي فعليه أن يشهد أو مؤخراً أي كافيه أو واجبه . و ) بِاللَّهِ ( من صلة ) شَهَادَاتٍ ( ويجوز أن يكون من صلة ) فَشَهَادَةُ ( قاله ابن عطية ، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال ، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات ، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله ) فَشَهَادَةُ ). وقرأ الأخوان وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان ) أَرْبَعُ ( بالرفع خبر للمبتدإ ، وهو ) فَشَهَادَةُ ( و ) بِاللَّهِ ( من صلة ) شَهَادَاتٍ ( على هذه القراءة ، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك .
وقرأ الجمهور ) وَالْخَامِسَةَ ( بالرفع فيهما . وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن أياس ويقال ابن إلياس بالنصب فيهما . وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى ، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر ، ومن نصب الأولى فعطف على ) أَرْبَعُ ( في قراءة من نصب ) أَرْبَعُ ( ، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع ) أَرْبَعُ ( أي وتشهد ) الخامسة ( ومن نصب الثانية فعطف على ) أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ ( وعلى قراءة النصب في ) الخامسة ( يكون ) حَمِيمٍ ءانٍ ( بعده على إسقاط حرف الجر ، أي بأن ، وجوّز أن يكون ) ءانٍ ( وما بعده بدلاً من ) الخامسة ). وقرأ نافع ) بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ( بتخفيف ) ءانٍ ( ورفع ) لَّعْنَةُ ( و ) أَنَّ غَضَبَ ( بتخفيف ) ءانٍ ( و ) غَضَبَ ( فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة ، وهي ان المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن . وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما ، والحسن ) أَن لَّعْنَةُ ( كقراءة نافع ، و ) أَنَّ غَضَبَ ( بتخفيف ) ءانٍ ( و ) غَضَبَ ( مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة . وقرأ باقي السبعة ) أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ ( و ) أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ ( بتشديد ) ءانٍ ( ونصب ما بعدهما اسماً لها وخبر ما بعد . قال ابن عطية : و ) ءانٍ ( الخفيفة على قراءة نافع في قوله ) أَنَّ غَضَبَ ( قد وليها الفعل .
قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلاّ أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله ) عَلِمَ أَن سَيَكُونُ ( وقوله ) أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا لاَ يَرْجِعُونَ ( وأما قوله تعالى ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال . وأما قوله ) أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ( فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى انتهى . ولا فرق بين ) أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ ( و ) أَن بُورِكَ ( في كون الفعل بعد أن دعاء ، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي ، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء ، وأورد ابن عطية ) أَنَّ غَضَبَ ( في قراءة نافع مورد المستغرب .
النور : ( 8 - 9 ) ويدرأ عنها العذاب . . . . .
( وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ ( أي يدفع و ) الْعَذَابَ ( قال الجمهور الحد . وقال أصحاب الرأي لا حد عليها إن لم يلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج . وحكى الطبري عن آخرين أن ) الْعَذَابَ ( هو الحبس ، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية وبه قال الليث ، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته مطلقاً وفي شهادتها في قوله عليها تقول عليّ . فقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف : يقول بعد ) مِنَ الصَّادِقِينَ ( فيما رماها به من الزنا وكذا بعد من الكاذبين ، وكذا هي بعد من الكاذبين و ) مِنَ الصَّادِقِينَ ( فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من الزنا في نفي الولد . وقال مالك : يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني وهي أشهد بالله ما رآني أزني ، والخامسة تقول ذلك أربعاً و ) الخامسة ( لفظ الآية .
وقال الشافعي : يقول أشهد بالله أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ، ويشير إليها إن كان حاضرة أربع مرات ، ثم يقعد الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه ويقول : إن قولك وعليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا ، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحد أو اثنين في كل شهادة ، وإن نفي ولدها زاد وأن(6/399)
" صفحة رقم 400 "
هذا الولد ما هو مني ، والظاهر أنه إذا طلقها بائناً فقذفها وولدت قبل انقضاء العدة فنفي الولد أنه يحد ويلحقه الولد لأنه لا ينطلق عليها زوجة إلاّ مجازاً . وعن ابن عباس : إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حدّ . وعن ابن عمر : يلاعن . وعن الليث والشافعي : إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن . وعن مالك : إن أنكره بعد الثلاث لاعنها . ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا حد ولا لعان . وقال الأوزاعي والليث والشافعي : يلاعن وهذا هو الظاهر لأنها كانت زوجته حالة القذف ، والظاهر من قوله ) أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ( أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن وكذلك هي ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي : أيهما نكل حدّ هو للقذف وهي للزنا . وعن الحسن : إذا لاعن وأبت حبست . وعن مكحول والضحاك والشعبي : ترجم ومشروعية اللعان دليل على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما خلافاً للخوارج في قولهم : إن ذلك كفر من الكاذب منهما لاستحقاق اللعن من الله والغضب . قال الزمخشري : فإن قلت : لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله ؟ قلت : تغليظاً عليها لأنها هي أصل الفجور ومتبعة بإطماعها ، ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد ويشهد لذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الخويلة : ( والرجم أهون عليك من غضب الله ) .
النور : ( 10 ) ولولا فضل الله . . . . .
( وَلَوْ لا فَضَّلَ اللَّهُ ( إلى آخره . قال السدّي فضله منته ورحمته نعمته . وقال ابن سلام : فضله الإسلام ورحمته الكتمان . ولما بين تعالى حكم الرامي الحصنات والأزواج كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلاً إلى الستر وإلى درء الحدّ وجواب ) لَوْ لا ( محذوف . قال التبريزي : تقديره لهلكتم أو لفضحكم أولعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب . وقال ابن عطية : لكشف الزناة بأيسر من هذا أو لأخذهم بعقاب من عنده ، ونحو هذا من المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب .
( ) إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلاإِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلاإِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( )
سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح ،
النور : ( 11 ) إن الذين جاؤوا . . . . .
والإفك : الكذب والأفتراء . وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك . والعصبة : الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام . ) مّنكُمْ ( أي من أهل ملتكم(6/400)
" صفحة رقم 401 "
وممن ينتمي إلى الإسلام ، ومنهم منافق ومنهم مسلم ، والظاهر أن خبر ) ءانٍ ( هو ) عُصْبَةٌ مّنْكُمْ ( و ) مّنكُمْ ( في موضع الصفة وقاله . الحوفي وأبو البقاء . و ) لاَ تَحْسَبُوهُ ( : مستأنف . وقال ابن عطية ) عُصْبَةٌ ( رفع على البدل من الضمى ر في ) جاؤوا ( وخبر ) حَمِيمٍ ءانٍ ( في قوله و ) لاَ تَحْسَبُوهُ ( التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون ) عُصْبَةٌ ( خبر ) ءانٍ ( انتهى . والعصبة : عبد الله بن أبيّ رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه ، و ) تَحْسَبُوهُ ( الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى اعراب ابن عطية ) لاَ تَحْسَبُوهُ ( الظاهر أنه عائد على الإفك ، وعلى إعراب ابن عطية . يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم ) ءانٍ ). قيل : ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من ) جاؤوا ( وعلى ما نال المسلمين من الغم ، والمعنى ) مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ ( ينزل بكم منه عار ) بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين .
وقيل : الخطاب ب تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيراً لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، وحيث ناب بعضهم . وهذا القول ضعيف لقوله بعد : ) لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ ( أي جزاء ما اكتسب ، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم ، و ) اكْتَسَبَ ( مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ، وقد يستعمل كسب في الوجهين .
( وَالَّذِينَ تَوَلَّى ( كبره المشهور أنه عبد الله بن أبيّ ، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة . وقيل : هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده ، وكان ذلك من عبد الله بن أبي لإمعانه في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وانتهازه الفرص ، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله . وقيل : ) الَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ ( جسان ، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له : توقّ ذباب السيف عني فإنني
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأتقي
من الباهت الرامي البريء الظواهر
وأنشد حسان أبياتاً يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي : حصان رزان ما تزنّ بريبة
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصبا
نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت عني قلته
فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
بآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها
تقاصر عنها سورة المتطاول والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحنة . قيل : وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر . وقيل : لم يحد مسطح . وقيل : لم يحد عبد الله . وقيل : لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص . ) فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ( وقابل ذلك بقول : إنما يقال الحد بإقرار أو بينة ، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين ، وقد أخبر(6/401)
" صفحة رقم 402 "
تعالى بكفرهم .
وقرأ الجمهور ) كِبْرَهُ ( بكسر الكاف . وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف ، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن . هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة . وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة : ( الكبر الكبر ) . وقيل ) كِبْرَهُ ( بالضم معظمه ، وبالكسر البداءة بالإفك . وقيل : بالكسر الإثم .
النور : ( 12 ) لولا إذ سمعتموه . . . . .
( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ( هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب ، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره . قيل : ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب ، أي كان الإنكار واجباً عليهم ، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم ) خَيْرًا ( وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه ) هَاذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن ومعنى ) بِأَنفُسِهِمْ ( أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد . وقيل : معنى ) بِأَنفُسِهِمْ ( بأمهاتهم . وقيل : بإخوانهم . وقيل : بأهل دينهم ، وقال ) وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضاً ، وليسلم بعضكم على بعض .
النور : ( 13 ) لولا جاؤوا عليه . . . . .
( لَوْ لا جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ( جعل الله فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها . ) فَإِذَا لَمْ يَأْتُواْ ( فهم في حكم الله وشريعته كاذبون ، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل .
النور : ( 14 - 15 ) ولولا فضل الله . . . . .
( وَلَوْ لا فَضَّلَ اللَّهُ ( أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة ) وَرَحْمَتُهُ ( عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة . ) لَمَسَّكُمْ ( العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال : أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض . ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ( لعامل في ) إِذَا ( ) لَمَسَّكُمْ ( وقرأ الجمهور ) تَلَقَّوْنَهُ ( بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال ) إِذْ ( في التاء النحوين وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض ، يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أُبيّ . وقرأ ابن السميفع ) تَلَقَّوْنَهُ ( بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه ) تَلَقَّوْنَهُ ( بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي . وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب : ولق الرجل كذب ، حكاه أهل اللغة . وقال ابن سيده ، جاؤوا بالمتعدي شاهد على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير . وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد ، وكلام في أثر كلام ، يقال : ولق في سيره إذا أسرع قال :
جاءت به عيسى من الشام يلق
وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب . وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا : تيجل مضارع وجلت . وقال سفيان : سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال : وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود . ومعنى ) بِأَفْواهِكُمْ ( وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس محله إلاّ الأفواه كما قال ) يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ).
) وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً ( أي ذنباً(6/402)
" صفحة رقم 403 "
صغيراً ) وَهُوَ عِندَ اللَّهِ ( من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره
النور : ( 16 ) ولولا إذ سمعتموه . . . . .
ثم أخذ يوبخهم على التكلم به ، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل بين ) لَوْ لا ( و ) قُلْتُمْ ( ؟ قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها ، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لايتسع في غيرها انتهى . وما ذكره من أدوات التحضى ض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك ، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول : لو لا زيداً ضربت وهلا عمراً قتلت .
قال الزمخشري : فإن قلت : فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً ؟ قلت : الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم .
فإن قلت : ما معنى ) يَكُونَ ( والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت : معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي ) لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا ( ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) وسبحانك ( تعجب من عظم الأمر .
فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح ؟ قلت : الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كما قيل فيها انتهى .
النور : ( 17 ) يعظكم الله أن . . . . .
( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ ( أي في أن تعودوا ، تقول : وعظت فلاناً في كذا فتركه . ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح . وقيل : ) أَن تَعُودُواْ ( مفعول من أجله أي كراهة ) أَن تَعُودُواْ ).
النور : ( 18 ) ويبين الله لكم . . . . .
( وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاْيَاتِ ( أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب ، ويعظكم من المواعظ الشافية .
النور : ( 19 ) إن الذين يحبون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ). قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه . ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ( لعداوتهم لهم ، والعذاب الأليم في الدنيا الحد ، وفي الآخرة النار . والظاهر في ) الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ( العموم في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً ، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور ، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد .
وقال الحسن : عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين ، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وذلك كفر وملعون فاعله . وقال أبو مسلم : هم المنافقون أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله ) جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ). وقال الكرماني : والله يعلم كذبهم ) وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( لأنه غيب .
النور : ( 20 ) ولولا فضل الله . . . . .
وجواب ) لَوْ لا ( محذوف أي لعاقبكم . ) إِنَّ اللَّهَ ( بالتبرئة ) لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( بقبول توبة من تاب ممن قذف . قال ابن عباس : الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِين(6/403)
" صفحة رقم 404 "
وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( )
النور : ( 21 ) يا أيها الذين . . . . .
تقدم الكلام على ) خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( تفسيراً وقراءة في البقرة . والضمير في ) فَإِنَّهُ ( عائد على ) مِنْ ( الشرطية ، أي فإن متبع خطوات الشيطان ) يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( وهو ما أفرط قبحه ) وَالْمُنْكَرِ ( وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأساً في الضلال بحيث يكون آمراً يطيعه أصحابه .
( وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ( بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم . وقرأ الجمهور ) مَا زَكَى ( بتخفيف الكاف ، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها ، وأماله الأعمش وكبت ) زَكَى ( المخفف بالياء وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال ، أو على قراءة من شد الكاف . ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاء ( ممن سبقت له السعادة ، وكان علمه الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح ) وَاللَّهُ سَمِيعٌ ( لأقوالهم ) عَلِيمٌ ( بضمائرهم .
النور : ( 22 ) ولا يأتل أولوا . . . . .
( وَلاَ يَأْتَلِ ( هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف . وقيل : معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه ) لاَ يَأْلُونَكُمْ ). وقول الشاعر : وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو مسلم . وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة . وقال ابن عياش والضحاك : قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك ، وقالوا : لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم . والآية تتناول من هو بهذا الوصف . وقرأ الجمهور ) يَأْتَلِ ). وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف . قال الشاعر :
تألى ابن أوس حلفة ليردّني
إلى نسوة كأنهن معائد
والفضل والسعة يعني المال ، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وكان من المهاجرين وممن شهد بدراً ، وكان ما نسب إليه داعياً أبا بكر أن لا يحسن إليه ، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح ، وحين سمع أبو بكر ) أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ( ؟ قال : بلى ، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال : والله لا أنزعها أبداً . وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهثيم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات ، ويناسبه ) أَلاَ تُحِبُّونَ ( و ) أَن يُؤْتُواْ ( نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة ) أَن يُؤْتُواْ ( وأن لا يؤتوا فحذف لا ، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا . وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين .
النور : ( 23 ) إن الذين يرمون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ ( عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليباً للمذكر على المؤنث . و ) الْمُحْصَنَاتِ ( ظاهره أنه عام في النساء العفائف . وقال النحاس : من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى ، وأن التقدير يرمون الأنفس ) الْمُحْصَنَاتِ ( فيدخل فيه المذكر والمؤنث . وقيل : هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك . وقيل : خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال :
قدني من نصر الخبيبن قدي
يعني عبد الله بن(6/404)
" صفحة رقم 405 "
الزبير وأشياعه . و ) الْغَافِلَاتِ ( السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات ، كما قال الشاعر : ولقد لهوت بطفلة ميالة
بلهاء تطلعني على أسرارها
وكذلك البله من الرجال في قوله ( أكثر أهل الجنة البله ) . ) لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( في قذف المحصنات . قيل : هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء . وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته ، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة ، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له . ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة ، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ( وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه .
النور : ( 24 ) يوم تشهد عليهم . . . . .
والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم . وقال الحوفي : العامل فيه عذاب ، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين . وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي ، ووقع الفصل ، وباقي السبعة بالتاء ، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك ، وليست الحياة شرطاً لوجود الكلام . وقالت المعتزلة : يخلق في هذه الجوارح الكلام ، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلاّ أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعاً . وقالوا أيضاً : إنه تعالى ينشىء هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله . قال القاضي : وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة .
النور : ( 25 ) يومئذ يوفيهم الله . . . . .
وانتصب ) يَوْمَئِذٍ ( بيوفيهم ، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير يوم إذ تشهد . وقرأ زيد بن عليّ ) يُوَفّيهِمُ ( مخففاً والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم . وقال : ولم يبق سوى العد
وإن دناهم كما دانوا
ومنه : كما تدين تدان . وقرأ الجمهور ) الْحَقّ ( بالنصب صفة لدينهم . وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و ) يَعْلَمُونَ ( إلى آخره يقوي قول من قال : إن الآية في عبد الله بن أُبيّ لأن كل مؤمن يعلم ) أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ).
قال الزمخشري : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعذاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن ) أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ( تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به ، وأنه ) يُوَفّيهِمُ ( جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله ) أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة انتهى . وهو كلام حسن . ثم قال بعد كلام فإن قلت : ما معنى قوله ) هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ؟ قلت : معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه ، والمحق الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى . وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال .
النور : ( 26 ) الخبيثات للخبيثين والخبيثون . . . . .
والظاهر أن ) الْخَبِيثَاتُ ( وصف للنساء ، وكذلك ) الطَّيّبَاتِ ( أي النساء الخبيثات للرجال ) الخبيثين ( ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن ) الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ ( من النساء ينزعن للخباث من الرجال ، فيكون قريباً من قوله ) الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ((6/405)
" صفحة رقم 406 "
وكذلك ) الطَّيّبَاتِ ( من النساء ) لِلطَّيّبِينَ ( من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها . وفي آخرها : ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً . وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه والرسول وأصحابه ، فلم يجعل الله له إلاّ كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث . وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة : هي الأقوال والأفعال ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلاّ الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه . وقال بعضهم الكلمات : والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلاّ بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه .
( أُوْلَائِكَ ( إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء . ) مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ ( أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة .(6/406)
" صفحة رقم 407 "
الآيات في سورة النور من آية رقم ( 27 ) إلى آية رقم ( 64 )(6/407)
" صفحة رقم 408 "
النور : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . .
غض البصر : أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية . قال الشاعر : فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلاباً(6/408)
" صفحة رقم 409 "
الخُمر : جمع خمار وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها ، وهو جمع كثرة مقيس فيه ، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضاً . قال الشاعر : وترى الشجراء في ريقه
كرؤوس قطعت فيها الخمر
الجيب : فتح يكون في طريق القميص يبدو منه بعض الجسد . والعورة : ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل . والمرأة الأيم : قال النضر بن شميل : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال : آمت تئيم . وقال الشاعر : كل امرىء ستئيم من
ه العرس أو منها يئم
أي : سينفرد فيصير أيماً ، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس . البغاء : الزنا ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء . المشكاة : الكوة غير النافذة . قال الكلبي حبشي معرب . الزجاجة : جوهر مصنوع معروف ، وضم الزاي لغة الحجاز ، وكسرها وفتحها لغة قيس . الزيت : الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون . قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد ، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيداً . وقال الفراء : السراب : ما لصق بالأرض . وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر ، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري . وقال الشاعر : فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
كلمع سراب في الفلا متألق
وقال :
أمر الطول لماع السراب
وقيل : السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة . اللجي : الكثير الماء ، ولجة البحر معظمة ، وكان لجياً مسنوب إلى اللجة . الودق : المطر شديده وضعيفه . قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
وقال أبو الأشهب العقيلي : هو البرق . ومنه قول الشاعر : أثرن عجاجة وخرجن منها
خروج الودق من خلل السحاب
والودق : مصدر ودق السحاب يدق ودقاً ، ومنه استودقت الفرس . البرد : معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة . السنا : مقصور من ذوات الواو وهو الضوء . قال الشاعر :(6/409)
" صفحة رقم 410 "
يضيء سناه أو مصابيح راهب
يقال : سنا يسنو سناً ، والسنا أيضاً نبت يتداوي به ، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال :
وسن كسنق سناء وسنما
أذعن للشيء : انقاد له . وقال الزجاج : الإذعان : الإسراع مع الطاعة . الحيف : الميل في الحكم ، يقال : حاف في قضيته أي جار . اللواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىإِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ) ) 2
جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت ) رَّقِيباً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ ( الآية . فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ( الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام ، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به . والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله ) غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ( ويروى أن رجلاً قال للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أأستأذن على أمي ؟ قال : ( نعم ) قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : ( أتحب أن تراها عريانة ) قال الرجل : لا ، قال : وغيا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت ، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : ) لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ( وهذا من باب الكنايات والإرداف ، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال ) تَسْتَأْنِسُواْ ( معناه تستأذنوا ، ومن روى عن ابن عباس أن قوله ) تَسْتَأْنِسُواْ ( خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول . و ) تَسْتَأْنِسُواْ ( متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب . وقد قال عمر للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور . وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً ، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة : كان رحلى وقد زال النهار بنا
يوم الجليل على مستأنس وحد(6/410)
" صفحة رقم 411 "
ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان . وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، ما الاستئناس ؟ قال : ( يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم ) . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف . واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل . وذهب الطبري في ) تَسْتَأْنِسُواْ ( إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم . قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى . وقال عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم ، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة . وفي الحديث : ( الاستئذان ثلاث ) يعني كماله . ( فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع ) . والظاهر تقديم الاستئذان على السلام . وفي حديث أبي داود : قل السلام عليكم أأدخل ؟ والواو في ) وَتُسَلّمُواْ ( لا تقتضي ترتيباً فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة .
( ذالِكُمْ ( إشارة إلى المصدر المفهوم من ) تَسْتَأْنِسُواْ ( و ) تسلموا ( أي ) الاْخِرِ ذالِكُمْ ( الاستئناس والتسليم ) خَيْرٌ لَّكُمْ ( من تحية الجاهلية . ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( أي شرعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( اعتناء بمصالحكم .
النور : ( 28 ) فإن لم تجدوا . . . . .
( فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً ( أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم ) حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ ( إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه . ) وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ ( وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن ، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين . ) هُوَ أَزْكَى ( أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيراً لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة . ثم أخبر أنه تعالى ) بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه ، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل .
النور : ( 29 ) ليس عليكم جناح . . . . .
( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ( قال الزمخشري : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين ، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى . وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن ، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة ، ولذلك قال ) بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ( وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة ، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة . فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق التي في طرق المسافرين . قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل . و ) فِيهَا مَتَاعٌ ( لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز . وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيسارية والسوق . قال ابن الحنيفة أيضاً : هي دور مكة ، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة ، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة . ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب .
النور : ( 30 ) قل للمؤمنين يغضوا . . . . .
و ) مِنْ ( في ) مِنْ أَبْصَارِهِمْ ( عند الأخفش زائدة أي ) يَغُضُّواْ ( ) أَبْصَارَهُمْ ( عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه : لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك(6/411)
" صفحة رقم 412 "
الثانية . وقال ابن عطية : يصح أن تكون ) مِنْ ( لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى . ولم يتقدم مبهم فتكون ) مِنْ ( لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس . ) وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ( أي من الزنا ومن التكشف . ودخلت ) مِنْ ( في قوله ) مِنْ أَبْصَارِهِمْ ( دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم ، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق . وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار ، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين . ) ذالِكَ ( أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم ) إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك . وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاختزاز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته . وقال بعض الأدباء : وما الحب إلا نظرة إثر نظرة
تزيد نمواً إن تزده لجاجاً
النور : ( 31 ) وقل للمؤمنات يغضضن . . . . .
ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج . ثم قال ) وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( واستثنى ما ظهر من الزينة ، والزينة ما تتزين به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى . وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان ، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها ، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجديدّاً من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله ) إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة . أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقال ابن مسعود ) مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( هو الثياب ، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب ، وقال تعالى ) خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( وفسرت الزينة بالثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم . وقال الحسن في جماعة : الوجه والكفان . وقال ابن جريج : الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار . وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسور . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم فقط . وقال المسور بن مخرمة : هما والسوار . وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسوار . وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، فنها هنّ الله عن إبداءً ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ . وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن .
وفي قوله ) وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ( دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، منعهنّ من إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار . وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما ، وفي السنن لأبي داود أنه عليه السلام قال : ( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه . وقال ابن خويز منداد : إذا كانت جميلة وخيف من وجهها(6/412)
" صفحة رقم 413 "
وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمن ) وَلْيَضْرِبْنَ ( معنى وليلقين وليضعن ، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه . وقرأ عياش عن أبي عمرو ) وَلْيَضْرِبْنَ ( بكسر اللام وطلحة ) بِخُمُرِهِنَّ ( بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام ) جُيُوبِهِنَّ ( بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم .
وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يُبدي للأب ما لا يبدى لابن الزوج . ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال . وقال الحسن : هما كسائر المحارم في جواز النظر قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىءابَائِهِنَّ ( ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا ، والإضافة في ) نِسَائِهِنَّ ( إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخذمتهن ، وأكثر السلف على أن قوله ) أَوْ نِسَائِهِنَّ ( مخصوص بمن كان على دينهن .
قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلاّ ما تبدي للأجانب إلاّ أن تكون أَمة لقوله ) أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ( وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات . والظاهر العموم في قوله ) أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ( فيشمل الذكور والإناث ، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة . وعن مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم ، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها . وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه . وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة . وفي الحديث : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلاّ مع ذي محرم ) والعبد ليس بذي محرم . وقال سعيد بن المسيب : لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء . قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصياً كان أو فحلاً . وعن ميسون بنت بحدل الكلابية : إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه ، فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله . وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى . والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمر النساء ، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام . قال ابن عطية : ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته .
وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف ) أَوِ الطّفْلِ ( على ) مِنَ الرّجَالِ ( قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال ، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم ، ولذلك وصف بالجمع في قوله ) الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ ( ومن ذلك قول العرب : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال : أو الأطفال . و ) الطّفْلِ ( ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعاً . وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه ) يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( انتهى . ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله ) الطّفْلِ ( من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله ) إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو . وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلاً نكره ، ولا يتعين حمل طفلاً هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى ) وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ ( أي لكل واحدة منهن . وكما تقول : بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف . وقوله ) الَّذِين(6/413)
" صفحة رقم 414 "
َ لَمْ يَظْهَرُواْ ( إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه . ومنه ) فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( أي غالبين قادرين عليه ، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء .
وقرأ الجمهور ) عَوْراتِ ( بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع . وروي عن ابن عباس تحريك واو ) عَوْراتِ ( بالفتح . والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة . ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ ) عَوْراتِ ( بالفتح . قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلاّ فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون : روضات وجورات وعورات ، وسائر العرب بالإسكان . وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلاّ هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو . وأنشدني بعضهم : أبو بيضات رائح متأوب
رفيق بمسح المنكبين سبوح
) وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ( كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال . وقال ابن عباس : هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال . وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالاً من فضة واتخذت جزعاً فجعلته في ساقها ، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية . وقال الزجاج : وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها انتهى . وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها : وهي تكره أن لا ينظر إليها ، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن ، وهذا من خفايا الإعلام بحالهن . وقال مكي : ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع .
وقال الزمخشري : وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلّي أبلغ .
( وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ ( لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه ، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائماً وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا . وعن ابن عباس ) تُوبُواْ ( مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة . وقرأ ابن عامر ) ءايَةً الْمُؤْمِنُونَ ( ويا أية الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة ، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف .
2 ( ) وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِىءَاتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ) ) 2
النور : ( 32 ) وأنكحوا الأيامى منكم . . . . .
لما تقدمت أوامر ونواةٍ في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالباً لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى ، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه ، فلا يلتفت إلى غيره . والظاهر أن الأمر في قوله ) وَأَنْكِحُواْ ( للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود ) الايَامَى ( ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح .
وقال الزمخشري : ) الايَامَى ( واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا(6/414)
" صفحة رقم 415 "
انتهى . وفي التحرير قال أبو عمر : وأيامى مقلوب أيائم ، وغيره من النحويين ذكر أن أيماً ويتيماً جمعاً على أيامي ويتامى شذوذاً يحفظ ووزنه فعالى ، وهو ظاهر كلام سيبويه . قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسير ما كان من الصفات . وقالوا : وج ووجياً كما قالوا : زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا : يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى . وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى . وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف : الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزءٍ طرأ عليها فهو من البلايا ، ثم قبل في البكر مجازاً لأنها لا زوج لها انتهى .
( مّنكُمْ ( خطاب للمؤمنين ، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء ، واندرج المؤنث في المذكر في قوله ) وَالصَّالِحِينَ ( وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن ) الصَّالِحِينَ ( من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم ، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك . وقيل : معنى ) وَالصَّالِحِينَ ( أي للنكاح والقيام بحقوقه . وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك .
و ) إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله : ) وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء ). ) وَاللَّهُ واسِعٌ ( أي ذو غنى وسعة ، يبسط الله لمن يشاء ) عَلَيْهِمْ ( بحاجات الناس ، فيجري عليهم ما قدر من الرزق .
النور : ( 33 ) وليستعفف الذين لا . . . . .
( وَلْيَسْتَعْفِفِ ( أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها ، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام ) الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً ). قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، ويؤيده قوله ) حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية . والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل ) إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ).
ومعنى ) لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً ( أي لا يتمكنون من الوصول إليه ، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر ، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و ) حَتَّى يُغْنِيَهُمُ ( ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم ، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً في استعفافهم وربطاً على قلوبهم ، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولاً بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى . وهو من كلام الزمخشري وهو حسن ، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم .
( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ( أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة . ) مِمَّا مَلَكَتْ ( يعم المماليك الذكور والإناث . و ) الَّذِينَ ( يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة ، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط ، ويحتمل أن يكون منصوباً كما تقول : زيداً فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيداً فاضرب ، وزيداً اضرب ، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيداً فالفاء في جواب أمر محذوف ، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا . قال الأزهري : وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال ، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها ، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله ) فَكَاتِبُوهُمْ ( وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود ، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه ، أو لأضربنك بالدرة ، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا ، ويعين ما كاتبه عليه ، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالاً(6/415)
" صفحة رقم 416 "
ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم ، وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقال الشافعي : لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم . وقال أكثر العلماء : يجوز على نجم واحد . وقال ابن خويز منداد : إذا كاتب على مال معجل كان عتقاً على مال ولم تكن كتابة ، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة . والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك ، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضاً أو الدين قاله الحسن ، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني ، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير . وقال الشافعي : الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلاّ الصلاح ، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط ، فلو لم يعلم فيه خيراً لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله ) فَكَاتِبُوهُمْ ( والظاهر في ) وَءاتُوهُم ( أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء ، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب ؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وَعلى ربعها ، وقتادة عشرها . وقال عمر : من أول نجومه مبادرة إلى الخير . وقال مالك : من آخر نجم . وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان : أمر الناس جميعاً بمواساة المكاتب وإعانته . وقال زيد بن أسلم : الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله ) وَفِي الرّقَابِ ).
وقال صاحب النظم : لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم ، فلما قال ) وَءاتُوهُم ( دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء ، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة . وقوله ) مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ( هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده ، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح ، وأيضاً ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مالك الله الذي آتاه .
( وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء ( في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد الله بن أُبَيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا ، فشكيا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت . وقيل : كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد ، فقال لهما ارجعا فازنيا ، فقالتا : والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا ، فأتتا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع ، ويؤكد أن يكون ) وَءاتُوهُم ( خطاباً للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن ، لأنه لا يمكن الإكراه إلاّ مع إرادة التحصن ، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه . وكلمه ) ءانٍ ( وايثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر . وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين فقال بعضهم ) إِنْ أَرَدْنَ ( راجع إلى قوله ) وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( وهذا فيه بعد وفصل كثير ، وأيضاً فالأيامى يشمل الذكور والإناث ، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب : إن أرادوا تحصناً فيغلب المذكر على المؤنث . وقال بعضهم : هذا الشرط ملغى . وقال الكرماني : هذا شرط في الظاهر وليس بشرط كقوله ) ءانٍ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا ( ومع أنه وإن كان لم يعلم خيراً صحت الكتابة .
وقال ابن عيسى : جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك ، وقال : لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة انتهى . و ) عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( هو ما يكسبنه بالزنا . وقوله ) فَإِنَّ اللَّهَ ( جواب للشرط . والصحيح أن التقدير ) غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط ، ويكون ذلك مشروطاً بالتوبة . ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا ) فَإِنَّ اللَّهَ ( ) غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لهن أي للمكرهات ، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط . وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال : فيه وجهان أحدهما : فإن الله غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل ، والثاني : فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة ، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار . وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى .(6/416)
" صفحة رقم 417 "
وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب .
فإن قلت : قوله ) إِكْرَاهِهِنَّ ( مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف ، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة قلت : لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً فتجوز المسألة ، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيداً لم تجز . ولما قدر الزمخشري في أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالاً فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة انتهى . وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهنّ .
النور : ( 34 ) ولقد أنزلنا إليكم . . . . .
وقرأ ) مُبَيّنَاتٍ ( بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بيَّن الله في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاماً وحدوداً وفرائض ، فتلك الآيات هي المبينة ، ويجوز أن يكون المراد مبيناً فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها . وهي ظرف للمبين . وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء ، فإما أن تكون متعدية أي ) مُبَيّنَاتٍ ( غيرها من الأحكام والحدود ، فأسند ذلك إليها مجاذاً ، وإما أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في المثل . قد بيَّن الصبح لذي عينين . أي قد ظهر ووضح . وقوله ) وَمَثَلاً ( معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى ) وَمَثَلاً ( من أمثال الذين من قبلكم ، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة الله في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا . وقال الضحاك : والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله . وقال مقاتل : أي شبهاً من حالهم في تكذيب الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم ، فجعلنا ذلك مثلاً لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب . ) وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ ( أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله ) وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ( ) وَلا أَذًى سَمِعْتُمُوهُ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً ( وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة .
2 ( ) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا(6/417)
" صفحة رقم 418 "
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَواةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَواةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاٌّ بْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( )
النور : ( 35 ) الله نور السماوات . . . . .
النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر ، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين ، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض ، ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن عليّ وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ) نُورٍ ( فعلاً ماضياً و ) الاْرْضِ ( بالنصب . وإما على حذف أي ذو نور ، ويؤيده قوله ) مَثَلُ نُورِهِ ( ويحتمل أن يجعل نوراً على سبيل المدح ، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها ، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها . قال الشاعر : كأنك شمس والملوك كواكب وقال :
قمر القبائل خالد بن زيد وقال :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة
فقد سار منها بدرها وجمالها
ويروى نورها ، وأضاف النور إلى ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات والأرض ، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به . وقال ابن عباس : ) نُورٍ السَّمَاوَاتِ ( أي هادي أهل السموات . وقال مجاهد : مدبر أمور السموات . وقال الحسن : منور السموات . وقال أبي : الله به نور السموات أو منه نور السموات أي ضياؤها . وقال أبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء . وقيل : المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء . وقال الكرماني : هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها .
والظاهر أن الضمير في ) مَثَلُ نُورِهِ ( عائد على الله تعالى . واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى . فقيل : الآيات البينات في قوله ) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ ( وقيل : الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين . وقيل : النور هنا هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : النور هنا المؤمن . وقال كعب وابن جبير : الضمير في ) نُورِهِ ( عائد على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي مثل نور محمد . وقال أبيّ : هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن . وروي أيضاً فيها مثل نور من آمن به . وقال الحسن : يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور ، ونقلت المعنى المقصود بالآية بحلاف عوده على الله تعالى ، ولذلك(6/418)
" صفحة رقم 419 "
قال مكي يوقف على ) والاْرْضِ ( في تلك الأقوال الثلاثة . واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء ، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر . وقيل : هو من التشبيه المفصل المقابل جزءاً بجزء ، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي ) مَثَلُ نُورِهِ ( في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان ) كَمِشْكَاةٍ ( فالمشكاة هو الرسول أو صدره ) والمصباح ( هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و ) زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ( قلبه . والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه ، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و ) الْمِصْبَاحُ ( الأيمان والعلم . و ) الزُّجَاجَةُ ( قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها . قال أبيّ : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه ) كَمِشْكَاةٍ ( وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان .
وقال الزمخشري : أي صفة ) نُورِهِ ( لعجيبة الشأن في الإضاءة ) كَمِشْكَاةٍ ( أي كصفة مشكاة انتهى . ويظهر لي أن قوله ) كَمِشْكَاةٍ ( هو على حذف مضاف أي ) مَثَلُ نُورِهِ ( مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة ، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور . وقال أبو موسى : المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة . وقال مجاهد : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، وقال أيضاً الحدائد التي تعلق فيها القناديل .
( فِيهَا مِصْبَاحٌ ( أي سراج ضخم ، والظاهر أن ) الزُّجَاجَةُ ( ظرف للمصباح لقوله ) الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ( وقدره الزمخشري في زجاج شامي ، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية . وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم ) فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ( بكسر الزاي فيهما ، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها . ) كَأَنَّهَا ( أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة ، ولما احتوت عليه من نور المصباح .
( كَوْكَبٌ دُرّىٌّ ( قال الضحاك : هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير ، وهي المشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وسهيل ونحو ذلك . وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير ) دُرّىٌّ ( بضم الدال وتشديد الراء والياء ، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم . وقرأ قتادة وزيد بن عليّ والضحاك كذلك إلاّ أنهما فتحا الدال . وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب . وقرأ الزهري كذلك إلاّ أنه كسر الدال . وقرأ حمزة كذلك إلاّ أنه همز من الدرء بمعنى الدفع ، أي يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل . قيل : ولا يوجد فعيل إلاّ قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة . قيل : وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور ، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل ، وسمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها . وقيل : منه عليه . وقيل : ) دُرّىٌّ ( ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر ، وكذا قيل في سرته ودرته . وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلاّ أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير . وقرأ قتادة أيضاً وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلاّ أنه بفتح الدال . قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلاّ السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى . وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد . وحكى الفراء بكسر السين .
وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش ) تُوقد ( بضم التاء أي ) زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ( مضارع أوقدت مبيناً للمفعول ، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي ) الْمِصْبَاحُ ( وابن كثير(6/419)
" صفحة رقم 420 "
وأبو عمرو ) توقد ( بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي ) مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ ). والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع ) توقد ( وأصله تتوقد أي ) زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ). وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح . وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت . وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي ) الْمِصْبَاحُ ( إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف . وفي ) يُوقَدُ ( شاذ جدّاً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة ، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً .
( مِن شَجَرَةٍ ( أي من زيت شجرة ، وهي شجرة الزيتون . ) مُّبَارَكَةٍ ( كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين . وقيل : بارك فيها للعالمين . وقيل : بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام ، والزيتون من أعظم الشجر ثمراً ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان . وقال أبو طالب : بورك الميت الغريب كما
بورك نضر الرمان والزيتون
) لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ). قال ابن زيد : هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها ، لأن شجر الشام أفضل الشجر . وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها ، فليست خالصة للشرق فتسمى ) شَرْقِيَّةٍ ( ، ولا للغرب فتسمى ) غَرْبِيَّةٍ ( وقال الحسن : هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية . وعن ابن عباس : أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها . وقال ابن عطية : إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة ، بل تصيبها بالغداة والعشي . وقال عكرمة : هي من شجر الجنة . وقال ابن عمر : الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية . وقيل : ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة . وقيل : لا مضحى ولا مفيأة ، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها ، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها .
و ) زَيْتُونَةٍ ( بدل من ) شَجَرَةٍ ( وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان ، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف ، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات . و ) لاَّ شَرْقِيَّةٍ ( ) وَلاَ ( على ) غَرْبِيَّةٍ ( على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة . وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية ، والجملة في موضع الصفة .
( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ( مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار . والجملة من قوله ) وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ( حالية معطوفة على حال محذوفة أي ) يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ( في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له ، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو : ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق ) . وقرأ الجمهور : ) تَمْسَسْهُ ( بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة .
( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإنه ينشر النور ، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه ، وهنا تم المثال .
ثم قال ) يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ( أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها . ومن فسر ) النُّورُ ( في ) مَثَلُ نُورِهِ ((6/420)
" صفحة رقم 421 "
بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته . وقيل : إلى الاستدلال بالآيات ، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي إلى الإيمان ، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء . ) فِى بُيُوتٍ ( متعلق بيوقد قاله الرماني ، أو في موضع الصفة لقوله ) كَمِشْكَاةٍ ( أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي ، وتبعه الزمخشري قال ) كَمِشْكَاةٍ ( في بعض بيوت الله وهي المساجد . وقال ) مَثَلُ نُورِهِ ( كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى . وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح ) فِى بُيُوتٍ ( قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم ، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله ) عَلِيمٌ ). وقيل : ) فِى بُيُوتٍ ( مستأنف والعامل فيه ) يُسَبّحُ ( حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري . فقال : وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال : أو بما بعده وهو ) يُسَبّحُ ( أي ) يُسَبّحُ لَهُ ( رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى ( أي سبحوا في بيوت انتهى . وعلى هذا الأقوال الثلاثة يوقف على قوله ) عَلِيمٌ ( والذي اختاره أن يتعلق ) فِى بُيُوتٍ ( بقوله ) يُسَبّحُ ( وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون ، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات ، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث . ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها ، فبدىء بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر .
النور : ( 36 ) في بيوت أذن . . . . .
والظاهر أن قوله ) فِى بُيُوتٍ ( أريد به مدلوله من الجمعية .
وقال الحسن : أريد به بيت المقدس ، وسمى بيوتاً من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض ، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره ، فكان أضوأ بيوت الأرض . والظاهر أن ) فِى بُيُوتٍ ( مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم . وقال مجاهد : بيوت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عباس والحسن أيضاً ومجاهد : هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح . وقيل : الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء . وقيل : بيوت الأنبياء . ويقوي أنها المساجد قوله ) يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( وإذنه تعالى وأمره بأن ) تُرْفَعَ ( أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك . وقال ابن عباس ومجاهد : تبنى وتعلى من قوله ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ). وقيل : ) تُرْفَعَ ( تظهر من الأنجاس والمعاصي . وقيل : ) تُرْفَعَ ( أي ترفع فيها الحوائج إلى الله . وقيل : ) تُرْفَعَ ( الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن .
( وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ( ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل . وعن ابن عباس : توحيده وهو لا إله إلاّ الله . وعنه : يتلى فيها كتابه . وقيل : أسماؤه الحسنى . وقيل : يصلى فيها . وقرأ الجمهور ) يُسَبّحُ ( بكسر الباء وبالياء من تحت ، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلاّ أنه بالتاء من فوق ، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة . وقرأ أبو جعفر : تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء .
وقال الزمخشري : ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء ، وتجعل الأوقات مسبحة . والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى . ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه ) تُسَبّحُ ( أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا ) لِيَجْزِىَ قَوْماً ( في قراءة من بناء للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء .
وقرأ أبو مجلز : والإيصال وتقدم نظيره
النور : ( 37 ) رجال لا تلهيهم . . . . .
وارتفع ) رِجَالٌ ( على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي ) يُسَبّحُ ( أو يسبح له رجال . واختلف في اقتياس هذا ، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد ، ويجوز أن(6/421)
" صفحة رقم 422 "
يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال . وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما .
ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل قوله ) لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ ( وجهين : أحدهما : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله كقوله : على لا حب لا يهتدى بمناره أي لا منار له فيهتدى به . والثاني : أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم ، والظاهر مغايرة التجارة والبيع ، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص ، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع ، أو يراد تجارة الجلب ويقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق ، ويحتمل أن يكون ) وَلاَ بَيْعٌ ( من ذكر خاص بعد عام ، لأن التجارة هي البيع والشراء طلباً للريح . ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الريح لأن هذا يقين وذاك مطنون .
قال الزمخشري : التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه :
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا انتهى . وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين ، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على ) لَّيْسَ الْبِرَّ ( في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة ، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه .
( يَخَافُونَ يَوْماً ( هو يوم القيامة ، والظاهر أن معنى ) تَتَقَلَّبُ ( تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى ) وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( فتقلبها هو قلقها واضطرابها ، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك . وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله : بل كان قلبك في جناحي طائر ويبعد قول من قال ) تَتَقَلَّبُ ( على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده . وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها ، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً والقول الأول أبلغ في التهويل .
النور : ( 38 ) ليجزيهم الله أحسن . . . . .
وقرأ ابن محيصن : تُقلب بإدغام التاء في التاء .
واللام في ) لِيَجْزِيَهُمُ ( متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك ) لِيَجْزِيَهُمُ ( ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر . وقال الزمخشري : والمعنى يسبحون ويخافون ) لِيَجْزِيَهُمُ ( انتهى . والظاهر أن قوله ) يَخَافُونَ ( صفة لرجال كما أن ) لاَّ تُلْهِيهِمْ ( كذلك . ) أَحْسَنُ ( هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا ، أو ) أَحْسَنُ ( جزاء ما عملوا . ) وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( على ما تقتضيه أعمالهم ، فأهل الجنة أبداً في مزيد . وقال الزمخشري : ) لِيَجْزِيَهُمُ ( ثوابهم مضاعفاً ) وَيَزِيدُهُمْ ( على الثواب تفضيلاً وكذلك معنى قوله ) الْحُسْنَى ((6/422)
" صفحة رقم 423 "
وزيادة المثوبة الحسنى ، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله عز وجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض .
( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء ( ما يتفضل به ) بِغَيْرِ حِسَابٍ ( فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى . وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال .
2 ( ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ( ) ) 2
النور : ( 39 ) والذين كفروا أعمالهم . . . . .
لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم ، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها . والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه . ) حَتَّى إِذَا جَاءهُ ( أي جاء موضعه الذي تخيله . فيه ) لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ( أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً . كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه .
وقرأ مسلمة بن محارب : بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة ، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع . وقال الزمخشري : وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة . وقال صاحب اللوامح : ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة ، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة ، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر .
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما ) الظَّمْانُ ( بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ، والظاهر أن قوله ) يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ ( هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق ) الظَّمْانُ ( لا الكافر ) الظَّمْانُ ( وقال الزمخشري : شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده ، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( ) وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ). وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى . فجعل ) الظَّمْانُ ( هو الكافر حتى تطرد الضمائر في ) جَاءهُ ( و ) لَمْ يَجِدْهُ ( ) وَوَجَدَ ( و ) عِندَهُ ( و ) فَوَفَّاهُ ( لشخص واحد ، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في ) جَاءهُ ( و ) لَمْ يَجِدْهُ ( للظمآن . وفي ) وَوَجَدَ ( للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن ، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد ) فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ( عمله الذي جازاه عليه . وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في ) وَوَجَدَ ( بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار .
وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود الضمير في ) جَاءهُ ( على السراب . ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً ) حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ( ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله ) أَعْمَالَهُمْ ( ويكون تمام المثل في قوله ) مَاء ( ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به .
( وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ( أي بالمجازاة ، والضمير في ) عِندَهُ ( عائد على العمل انتهى . والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا ، وأن الضمائر فيما بعد ) الظَّمْانُ ( له . والمعنى في ) وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ( أي ) وَوَجَدَ ( مقدور ) اللَّهِ ( عليه من هلاك بالظمأ ) عِندَهُ ( أي عند موضع السراب ) فَوَفَّاهُ ( ما كتب له من ذلك . وهو المحسوب له ، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه(6/423)
" صفحة رقم 424 "
بعنق بعض . وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا . وأما في قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل ) الظَّمْانُ ( هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال . وشبه الماء بعد الجهد بالماء . وأما في قول غيره : ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض .
النور : ( 40 ) أو كظلمات في . . . . .
( أَوْ كَظُلُمَاتٍ ( هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة ، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا . وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي . ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة .
وقال أبو علي الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات ، قال : ودل على هذا المضاف قوله ) إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ( فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف ، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر ، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم . والثاني لهم في حال ضلالهم . وقال أبو البقاء : في التقدير وجهان أحدهما : أو كأعمال ذي ظلمات ، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله ) إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ( إليه ، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات . والثاني : لا حذف فيه ، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه ، فأما الضمير في قوله ) إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ( فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده .
وقال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار . والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم ، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور . من الكفر إلى الإيمان ، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و ) أَعْمَالَهُمْ ( منها كفرهم ، فيكون قد شبه ) أَعْمَالَهُمْ ( بالظلمات ، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن ) أَوْ ( للشك . وقال الكرماني : ) أَوْ ( للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت .
وقرأ سفيان بن حسين ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ ( بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام . والظاهر أن الضمير في ) يَغْشَاهُ ( عائد على ) بَحْرٍ لُّجّىّ ( أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً ، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، وفوق هذا الموج ) سَحَابٌ ( وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها ، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب . ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في ) يَغْشَاهُ ( على ذي المحذوف ، أي يغشى صاحب الظلمات .
وقرأ الجمهور ) سَحَابٌ ( بالتنوين ) ظُلُمَاتِ ( بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف ، أي هذه أو تلك ) ظُلُمَاتِ ( وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و ) بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ( مبتدأ وخبره في موضع خبر ) ظُلُمَاتِ ). والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة ) بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ). وقرأ البزي ) سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ ( بالإضافة . وقرأ قنبل ) سَحَابٌ ( بالتنوين ) ظُلُمَاتِ ( بالجر بدلاً من ) ظُلُمَاتِ ( و ) بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ( مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات .
قال الحوفي : ويجوز على رفع ) ظُلُمَاتِ ( أن يكون ) بَعْضَهَا ( بدلاً منها ، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة . وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله ) وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( فأغنى عن إعادته ، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية ، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح ، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء .
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد(6/424)
" صفحة رقم 425 "
زيد لا يقوم ، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم ، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول : المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون . وتقول : رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى . والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهده الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه .
قال الزمخشري : وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة ، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب ، ومنهم من لاحظ التقابل فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة . والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه ، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان .
وقال الفراء : هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر . وقيل : ) الظُّلُمَاتِ ( أعماله والبحر هواه . القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر ، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة ، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة ، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى . والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية ، وعدول عن منهج كلام العرب .
ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال ) وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً ( أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له ، ولا يهتدي أبداً . وهذا النور هو في الدنيا . وقيل : هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته له ، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا . وقال الزمخشري : ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له . وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما نردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين ، ألا ترى إلى قوله ) وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( وقوله ) وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاٌّ بْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ) ) 2
النور : ( 41 ) ألم تر أن . . . . .
لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده ، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص ) مِنْ ( في قوله ومن في الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين . وقيل : ) مِنْ ( عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل ، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهده الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الكمال . وقيل : المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة ، فيكون ذلك قدراً مشتركاً بينهما وهو التعظيم . وقال سفيان : تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده .
( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران ، وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة ) مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( حالة طيرانها . وقرأ الجمهور ) وَالطَّيْرُ ( مرفوعاً عطفاً على ) مِنْ ( و ) صَافَّاتٍ ( نصب على الحال . وقرأ الأعرج ) وَالطَّيْرُ ( بالنصب على أنه مفعول معه . وقرأ الحسن وخارجة عن نافع ) وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن . قيل : وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور . قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها . وقال الحسن وغيره : هو تجوّز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح .
( كُلٌّ ( أي كل ممن ذكر ، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في ) عِلْمٍ ( وفي(6/425)
" صفحة رقم 426 "
) صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( عائد على ) كُلٌّ ( وقاله الحسن قال : فهو مثابر عليهما يؤديهما . وقال الزجاج : الضمير في ) عِلْمٍ ( وفي ) صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( لكل . وقيل : الضمير في ) عِلْمٍ ( لكل وفي ) صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما ، فهذه إضافة خلق إلى خالق . وقال مجاهد : الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم .
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب ، وفيه وعيد وتخويف .
النور : ( 42 ) ولله ملك السماوات . . . . .
و ) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب . وإليه ) الْمَصِيرُ ( أي إلى جزائه من ثواب وعقاب . وفي ذلك تذكير وتخويف .
النور : ( 43 - 44 ) ألم تر أن . . . . .
ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال . وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى ) يُزْجِى ( يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل ، والسحاب اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة . ) ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ( أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض . وقرأ ورش يولف بالواو ، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل . فيجعله ) رُكَاماً ( أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره بذلك ) مِنْ خِلاَلِهِ ( أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار . والخلال : قيل مفرد . وقيل : جمع خلل كجبال وجبل . وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من حجر . وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول : فلان يملك جبالاً من ذهب ، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة . قيل : أو هو على حذف حرف التشبيه .
و ) السَّمَاء ( السحاب أي ) مّنَ السَّمَاء ( التي هي جبال أي كجبال كقوله ) حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ( أي كنار قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه . وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل : إذا مت عن ذكر القوافي فلن
ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا
وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له
بطون جبال الشعر حتى تيسرا
واتفقوا على أن(6/426)
" صفحة رقم 427 "
) مِنْ ( الأولى لابتداء الغاية . وأما ) مِن جِبَالٍ ). فقال الحوفي : هي بدل من ) السَّمَاء ( ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه ، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية . وقال الزمخشري وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل . قال الحوفي والزمخشري : والثانية للبيان انتهى . فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول ) يُنَزّلٍ ( ) مِن جِبَالٍ ).
قال الزمخشري : أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى . فيكون ) مِن جِبَالٍ ( بدلاً ) مّنَ السَّمَاء ).
وقيل : ) مِنْ ( الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال : وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال . وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره . والضمير في ) فِيهَا ( عائد على ) الْجِبَالُ ( أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال . وقيل : ) مِنْ ( الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة أي ) وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ ( السماء برداً . وقال الزجاج : معناه ) وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ ( برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى . فعلى هذا يكون ) مِن بَرَدٍ ( في موضع الصفة لجبال ، كما كان من في من حديد صفة لخاتم ، فيكون في موضع جر ويكون مفعول ) يُنَزّلٍ ( هو ) مِن جِبَالٍ ( وإذا كانت الجبال ) مِن بَرَدٍ ( لزم أن يكون المنزل برداً . والظاهر إعادة الضمير في ) بِهِ ( على البرد ، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة . وكأنه قال : فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان .
وقرأ الجمهور ) سَنَا ( مقصوراً ) بَرْقِهِ ( مفرداً . وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدوداً ) بَرْقِهِ ( بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء ، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في ) ظُلُمَاتِ ( وأصلها السكون . والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر . وقرأ الجمهور ) يَذْهَبُ ( بفتح الياء والهاء وأبو جعفر ) يَذْهَبُ ( بضم الياء وكسر الهاء . وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي . وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أُبيّ وغيره ، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار . وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال :
شع شرب النزيف ببرد ماء الحشرج يريد من برد . وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه ، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى ، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب . وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار .
( لَعِبْرَةً ( أي اتّعاظاً . وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله ) إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ ).
النور : ( 45 ) والله خلق كل . . . . .
وقرأ الجمهور ) خُلِقَ ( فعلاً ماضياً . ) كُلٌّ ( نصب . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى ) كُلٌّ ). والدابة : ما يحرك أمامه قدماً ويدخل فيه الطير . قال الشاعر : دبيب قطا البطحاء في كل منهل والحوت وفي الحديث : ( دابة من البحر مثل الظرب ) . واندرج في ) كُلَّ دَابَّةٍ ( المميز وغيره ، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجاً في العام ، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون . والظاهر أن ) مِن مَّاء ( متعلق بخلق . و ) مِنْ ( لابتداء الغاية ، أي ابتدأ خلقها من الماء . فقيل : لما كان غالب الحيوان مخلوقاً من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلاّ بالماء أطلق لفظ ) كُلٌّ ( تنزيلاً للغالب منزلة العام ، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور(6/427)
" صفحة رقم 428 "
وهم الملائكة ، ومن نار وهم الجنّ ، ومن تراب وهم آدم . وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة . وقيل ) كُلَّ دَابَّةٍ ( على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء ، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماءً ، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور ، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال : ) خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء ). وقال القفال : ليس ) مِن مَّاء ( متعلقاً بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة ، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى . ونكر الماء هنا وعرف في ) وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ ( لأن المعنى هنا ) خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ( من نوع من الماء مختص بهذه الدابة ، أو ) مِن مَّاء ( مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال ) يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ ( وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل : إن أصل النور والنار والتراب الماء .
وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة ، كما قالوا : قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر ، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة . والماشي ) عَلَى بَطْنِهِ ( الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره . و ) عَلَى رِجْلَيْنِ ( الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها ، فإن وجد من له أكثر من أربع . فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقد ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع . وفي مصحف أُبيّ ومنهم من يمشي على أكثر ، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما أورده قرآن بل تنبيهاً على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر .
( يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء ( إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه ، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر .
2 ( ) وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاٌّ رْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَآتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ) ) 2
النور : ( 47 ) ويقولون آمنا بالله . . . . .
نزلت إلى قوله ) إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر ، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت .
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم . ) ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ ( عن الإيمان . ) بَعْدَ ذَلِكَ ( أي بعد قولهم ) مِنَ ( ) وَمَا أُوْلَئِكَ ( إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان ، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب .
النور : ( 48 ) وإذا دعوا إلى . . . . .
وأفرد الضمير في ) لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ( وقد تقدم قوله ) إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( لأن حكم الرسول هو عن الله . قال الزمخشري : كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه :(6/428)
" صفحة رقم 429 "
ومنهل من الفلافي أوسطه
غلسته قبل القطا وفرطه
أراد قبل فرط القطا انتهى . أي قبل تقدم القطا إليه . وقرأ أبو جعفر ) لِيَحْكُمَ ( في الموضعين مبنياً للمفعول و ) إِذَا ( الثانية للفجاءة . جواب ) إِذَا ( الأولى الشرطية ، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة ، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقد أحكم ذلك في علم النحو .
النور : ( 49 ) وإن يكن لهم . . . . .
والظاهر أن ) إِلَيْهِ ( متعلق بيأتوا . والضمير في ) إِلَيْهِ ( عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأجاز الزمخشري أن يتعلق ) إِلَيْهِ ( بمذعنين قال : لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص . وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف ، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك .
النور : ( 50 ) أفي قلوبهم مرض . . . . .
( أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَوْ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ ( ) أَمْ ( هنا منقطعة والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم ، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم . قول الشاعر : ألست من القوم الذين تعاهدوا
على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
ومن المبالغة في المدح . قول جرير : ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال ) أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( أي نفاق وعدم إخلاص ) أَمِ ارْتَابُواْ ( أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين ) أَمْ يَخَافُونَ ( أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة ، فيكون ذلك ظلماً لهم . ثم استدرك ببل أنهم ) هُمُ الظَّالِمُونَ ).
النور : ( 51 ) إنما كان قول . . . . .
وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ( بالرفع والجمهور بالنصب . قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما في التعريف و ) أَن يَقُولُواْ ( أو غل(6/429)
" صفحة رقم 430 "
لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين . وكان هذا من قبيل كان في قوله ) مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( ) مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا ( انتهى . ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار .
وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس ) لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ( مبنياً للمفعول ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي ) لِيَحْكُمَ ( هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم ) بَيْنَهُمْ ( ومثله قولهم : جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى ) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ ). قال الزمخشري : ومثله ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( فيمن قرأ ) بَيْنِكُمْ ( منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى . ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه .
( أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا ( أي قول الرسول ) وَأَطَعْنَا ( أي أمره .
النور : ( 52 ) ومن يطع الله . . . . .
وقرىء ) وَيَتَّقْهِ ( بالإشباع والاختلاس والإسكان . وقرىء ) وَيَتَّقْهِ ( بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل ، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم : قالت سليمى اشتر لنا سويقاً يريد اشتر لنا ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ ( في فرائضه ) وَرَسُولُهُ ( في سننه و ) يَخْشَى اللَّهَ ( على ما مضى من ذنوبه ) وَيَتَّقْهِ ( فيما يستقبل . وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه .
النور : ( 53 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأقسموا إلى آخره أي ) لَيُخْرِجَنَّ ( عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و ) لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ ( بالجهاد ) لَيُخْرِجَنَّ ( إليه وتقدم الكلام في ) جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( في الأنعام . ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً . ) طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ( أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرههم ، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : يحتمل معاني .
أحدها : النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول : لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه .
والثاني : لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم .
والثالث : لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم .
والرابع : لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى .
و ) طَاعَةٌ ( مبتدأ و ) مَّعْرُوفَةٌ ( صفة والخبر محذوف ، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب ) طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ). وقال أبو البقاء : ولو قرىء بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى . وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن ) طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ( ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل ، إلاّ إذا كان ثم مشعر به نحو ) رِجَالٌ ( بعد ) يُسَبّحُ ( مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال ، أو يجاب به نفي نحو : بلى زيد لمن قال : ما جاء أحد . أو استفهام نحو قوله :
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل
بلى خالد إن لم تعقه العوائق
النور : ( 54 ) قل أطيعوا الله . . . . .
أي أتاها خالد . ) إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( أي مطلع على سرائركم ففاضحكم . والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم .
ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم . ) فَإِن تَوَلَّوْاْ ( أي فإن تتولوا . ) فَإِنَّمَا عَلَيْهِ ( أي على الرسول ) مَا حُمّلَ ( وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم . ) وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( وهو السمع والطاعة واتّباع الحق . ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته ) وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة .
النور : ( 55 ) وعد الله الذين . . . . .
روي أي بعض الصحابة شكا جهد(6/430)
" صفحة رقم 431 "
مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ ). وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليسمعه حديدة ) . قال ابن عباس : وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في التوراة والإنجيل . والخطاب في ) مّنكُمْ ( للرسول وأتباعه و ) مِنْ ( للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء . وقوله ) فِى الاْرْضِ ( هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب ، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا . وفي الصحيح : ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها ) . قال بعض العلماء : ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال . قلت : ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك ، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند .
( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة . وقيل : هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام ، وكان الغالب على الأرض المؤمنون . وقرىء ) كَمَا اسْتَخْلَفَ ( مبنياً للمفعول . واللام في ) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ( جواب قسم محذوف ، أي وأقسم ) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ( أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم . وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول ) وَعْدُ ( محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم . ودل عليه جواب القسم المحذوف . وقال الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الخلافة بعدي ثلاثون ) انتهى . ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين ، والمهتدين بالله في العباسيين .
( وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ( أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله . و ) الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ ( صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية . وقرأ الجمهور ) وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ ( بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف . وقال أبو العالية : لما أظهر الله عز وجل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا ، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم .
( يَعْبُدُونَنِى ( الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل : ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال ) يَعْبُدُونَنِى ( قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ) يَعْبُدُونَنِى ( فعل مستأنف أي هم ) يَعْبُدُونَنِى ( ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال : ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم أي هم ) يَعْبُدُونَنِى ). وقال الزمخشري : وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى . وقال الحوفي قبله . وقال أبو البقاء : ) يَعْبُدُونَنِى ( حال من ) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ( و ) ليبدلنهم ( ) بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ( بدل من ) يَعْبُدُونَنِى ( أو حال من الفاعل في ) يَعْبُدُونَنِى ( موحدين انتهى . والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال : كان النفاق على عهد النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان . قال ابن عطية : يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة . قيل : ظهر في قتلة عثمان .
وقال الزمخشري : ) وَمَن كَفَرَ ( يريد كفران النعمة كقوله ) فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ( ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة .
النور : ( 56 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
والظاهر(6/431)
" صفحة رقم 432 "
أن قوله ) وَأَقِيمُواْ ( التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم . وقال الزمخشري : ) وَإِذْ أَخَذْنَا ( معطوف على ) أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه . فاصل . وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيداً لوجوبها انتهى .
النور : ( 57 ) لا تحسبن الذين . . . . .
وقرأ الجمهور ) لاَ تَحْسَبَنَّ ( بتاء الخطاب والتقدير ، ( لاَ تَحْسَبَنَّ ( أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول ، وقالوا : هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام . وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة ، والتقدير لا يحسبن حاسب ، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا : يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في ) وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء . وقال النحاس : ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطىء قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن ، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى . وقال الفرّاء : هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم . و ) مُعَاجِزِينَ ( المفعول الثاني .
وقال عليّ بن سليمان : ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( في موضع نصب قال : ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر ) الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ). وقال الكوفيون : ) مُعَاجِزِينَ ( المفعول الأول . و ) فِى الاْرْضِ ( الثاني قيل : وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في ) الاْرْضِ ( تعلقه بمعجزين ، فلا يكون مفعولاً ثانياً . وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين . فقال ) مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد انتهى . وقال أيضاً : يكون الأصل : لا يحسبنهم ) الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ ( ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى . وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله ) لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ ( في قراءة من قرأ بياء الغيبة ، وجعل الفاعل ) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ( وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه .
( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( قال الزمخشري : عطف على ) لاَ تَحْسَبَنَّ ( كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى . وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون ) وَمَأْوَاهُمُ ( متصلاً بقوله ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( بل هم مقهورون ) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( انتهى . واستبعد العطف من حيث إن ) لاَ تَحْسَبَنَّ ( نهي ) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم . ولما أحسن الزمخشري بهذا قال : كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة ، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الاٌّ طْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ) ) 2
النور : ( 58 ) يا أيها الذين . . . . .
روي أن عمر بعث إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) غلاماً من الأنصار يقال له مدلج ، وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن(6/432)
" صفحة رقم 433 "
الدخول علينا في هذه الساعة إلاّ بإذن . ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخرّ ساجداً . وقيل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل : دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالاً نكرهها .
( لِيَسْتَأْذِنكُمُ ( أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب . وقيل : بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم ) الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( في العبيد والإماء دون العبيد . ) وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ( عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحراراً . وقرأ الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة ) الْحُلُمَ ( بسكون اللام وهي لغة تميم . وقيل ) مّنكُمْ ( أي من الأحرار ذكوراً كانوا أو إناثاً . والظاهر من قوله ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : ( الاستئذان ثلاث ) والذي عليه الجمهور أن معنى ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيراً لقوله ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( ولا يتعين ذلك بل تبقى ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( على مدلولها .
( مّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ ( لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم . ) وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَةِ ( لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت . و ) مِنْ ( في ) مّنَ الظَّهِيرَةِ ( قال أبو البقاء : لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة ، قال : أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و ) حِينٍ ( معطوف على موضع ) مِن قَبْلُ ( ) وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَاء ( لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ( سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها ، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان ، والأعور المختل العين . وقرأ حمزة والكسائي ) ثَلَاثٍ ( بالنصب قالوا : بدل من ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ ( وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ ( وقال ابن عطية : إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات ) عَوْراتِ ( فحذف المضاف وقيم المضاف إليه مقامه . وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ ( وقرأ الأعمش ) عَوْراتِ ( بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع ) ثَلَاثٍ ).
قال الزمخشري : يكون ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ ( الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ ( مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة .
( بَعْدَهُنَّ ( أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر وقيل ) لَّيْسَ ( على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول ) عَلَيْكُمْ ( بغير استئذان ) جُنَاحٌ ( بعد هذه الأوقات الثلاث ) طَوفُونَ عَلَيْكُمْ ( يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم ) طَوفُونَ ( أي المماليك والصغار ) طَوفُونَ عَلَيْكُمْ ( أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلاّ في تلك الأوقات . وجوّزوا في ) بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( أن يكون مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه . قال الزمخشري : وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم . وقال ابن عطية ) بَعْضُكُمْ ( بدل من قوله ) طَوفُونَ ( ولا يصح لأنه إن أراد بدلاً من ) طَوفُونَ ( نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم ) بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( وهذا معنى لا يصح . وإن جعلته بدلاً من الضمير في ) طَوفُونَ ( فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف ) بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( وهو لا يصح . فإن جعلت التقدير أنتم يطوف ) عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( فيدفعه أن قوله ) عَلَيْكُمْ ( بدل على أنهم هم المطوف عليهم ، وأنتم طوافون ، يدل على أنهم طائفون فتعارضا . وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير ) عَلَيْهِمْ ). وقال الحسن : إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة .
النور : ( 59 ) وإذا بلغ الأطفال . . . . .
( وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ ( أي من أولادكم وأقربائكم ) فَلْيَسْتَأْذِنُواْ ( أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات . ) كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( يعني البالغين . وقيل : الكبار من أولاد الرجل وأقربائه . ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا(6/433)
" صفحة رقم 434 "
فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه . كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ .
النور : ( 60 ) والقواعد من النساء . . . . .
ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى ) الْقَوَاعِدَ مِنَ النّسَاء ( اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال ) وَالْقَوَاعِدُ ( وهو جمع قاعد من صفات الإناث . وقال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض . وقال ابن قتيبة : سُميِّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود . وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج . وقيل قعدن عن الحيض والحبل . و ) ثِيَابَهُنَّ ( الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال ، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها . ) غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ ( أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن ، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع ، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال .
( وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ ( عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن . ) وَاللَّهُ سَمِيعٌ ( لما يقول كل قائل ) عَلِيمٌ ( بالمقاصد . وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير .
النور : ( 61 ) ليس على الأعمى . . . . .
عن ابن عباس لما نزل ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه . وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا ءلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك . وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت . وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر . فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن ) لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( وأجاب بعضهم : بأن ) عَلَى ( في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً . وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت . وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم . وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف . وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج . وهذا القول هو الظاهر . ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، وبيته بيته . وفي الحديث ( إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه ) .
ومعنى ) مِن بُيُوتِكُمْ ). من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى . وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة . ) أَوْ مَا مَلَكْتُم ). قال ابن عباس : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن . وقال قتادة : العبد لأن ماله لك . وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها . وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها . وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى ) فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( ومفاتحه بيده .
وقرأ الجمهور ) مَلَكْتُم ( بفتح الميم واللام خفيفة . وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة ، والجمهور ) مَّفَاتِحهُ ( جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح ، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً . ) أَوْ صَدِيقِكُمْ ( قرىء بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز ، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة . قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي . وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا(6/434)
" صفحة رقم 435 "
الحب ؟ قال : أنت لي صديق فما هذا الاستئذان . وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة لا ترى استغاثة الجهنميين ) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى ) أَوْ صَدِيقِكُمْ ( أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك . وعن جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ . وقال هشام بن عبد الملك : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه . وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح .
وانتصب ) جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ( على الحال أي مجتمعين أو متفرقين . قال الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده . وقال بعض الشعراء : إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
أكيلاً فإني لست آكله وحدي
وقال عكرمة في قوم من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون لاّ معه . وقيل في قوم : تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل . وقيل ) أَوْ صَدِيقِكُمْ ( هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب . وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام ( ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر : ( لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه ) وبقوله تعالى ) لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ ).
) فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ). قال ابن عباس والنخعي : المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله . وقيل : يقول السلام عليكم يعني الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقال جابر وابن عباس وعطاء : البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقال ابن عمر : بيوتاً خالية . وقال السدّي ) عَلَى أَنفُسِكُمْ ( على أهل دينكم . وقال قتادة : على أهاليكم في بيوت أنفسكم . وقيل : بيوت الكفار ) فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( وقال الزمخشري ) فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ( من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة . و ) تَحِيَّةً مّنْ عِندِ اللَّهِ ( أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق انتهى . وقال مقاتل : مباركة بالأجر . وقيل : بورك فيها بالثواب . وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون . وانتصب ) تَحِيَّةً ( بقوله ) فَسَلّمُواْ ( لأن معناه فيحوا كقولك : قعدت جلوساً .
2 ( ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلاإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ ( ) ) 2
النور : ( 62 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
لما افتتح السورة بقوله ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا ( وذكر أنواعاً من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن(6/435)
" صفحة رقم 436 "
طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض ، ومن توقيره في دعائهم إياه . وقال الزمخشري : أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بغير إذنه .
( إِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ( فجعل ترك ذهابهم ) حَتَّى ( ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتسديداً بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله ) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرّض بحال الماضين وتسللهم لو إذاً .
ومعنى قوله ) لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَذِنُوهُ ( لم يذهبوا حتى يستأذنوه وبأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن بأذن له ، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس ، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف ، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك . والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله ) وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ( أنه خطب جليل لا بد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته ، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه . فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم ، وذلك قوله ) لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ( وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه .
وقيل : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أثمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى . وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلاّ بإذن منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب . وقال مكحول والزهري : الجمعة من الأمر الجامع ، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به . وقال ابن سيرين : كانوا يستأذنون الإمام على المنبر ، فلما كثر ذلك قال زياد : من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام . وقال ابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء . وقال ابن زيد : في الجهاد . وقال مجاهد : الاجتماع في طاعة الله . قيل : في قوله ) فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ( أريد بذلك عمر بن الخطاب . وقرأ اليماني على أمر جميع .
( لاَّ تَجْعَلُواْ ( خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام
النور : ( 63 ) لا تجعلوا دعاء . . . . .
لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة ، أمروا بتوقير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد وفي قوله ) كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ( إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره . وكانوا يقولون : يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك . وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه ) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها .
وقال الزمخشري : إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى . وهو قريب مما قبله . وقال أيضاً : ويحتمل ) لاَّ تَجْعَلُواْ ( دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم ، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده ، وإن دعوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مسموعة مستجابة انتهى . وقال ابن عباس : إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه . قال ابن عطية : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى .
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله ) بَيْنِكُمْ ( ظرفاً قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح : وهو النبيّ عليه السلام على البدل من ) الرَّسُولَ ( فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة ، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة(6/436)
" صفحة رقم 437 "
بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم ، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور ، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف . ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى . وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإاذ كان كذلك فقد تساوياً في التعريف . ومعنى ) يَتَسَلَّلُونَ ( ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول .
وقال الحسن ) لِوَاذاً ( فراراً من الجهاد . وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة . وقال مجاهد لوذاً خلافاً . وقال أيضاً ) يَتَسَلَّلُونَ ( من الصف في القتال وقيل : ) يَتَسَلَّلُونَ ( على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعلى كتابه وعلى ذكره . وانتصب ) لِوَاذاً ( على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين ، و ) لِوَاذاً ( مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً . وقرأ يزيد بن قطيب ) لِوَاذاً ( بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً . واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد وبالي تقول : خالفت إلى كذا فقوله ) عَنْ أَمْرِهِ ( ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعاده بعن . وقال ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المرط عن ريح و ) عَنْ ( هي لما عدا الشيء . وقال أبو عبيدة والأخفش ) عَنْ ( زائدة أي ) أَمَرَهُ ( والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور ، وأن الضمير في ) أَمَرَهُ ( عائد على الله . وقيل على الرسول .
وقرىء يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضاً أو بلاء قاله مجاهد ، أو كفر قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجاً قاله الجراح ، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد ، أو طبع على القلوب قاله بعضهم . وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا . أو ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ). قيل : عذاب الآخرة . وقيل : هو القتل في الدنيا .
النور : ( 64 ) ألا إن لله . . . . .
( أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه . ) قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد ، والظاهر أنه خطاب للمنافقين . وقال الزمخشري : ادخل ) قَدْ ( ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما ، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله : فإن يمس مهجور الفناء فربما
أقام به بعد الوفود وفود
ونحو من ذلك قول زهير : أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
انتهى . وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب . ولا قد إنما هو من سياقه الكلام ، وقد بين ذلك في علم النحو .
وقرأ الجمهور ) يَرْجِعُونَ ( مبنياً للمفعول . وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنياً للفاعل . والتفت من ضمير الخطاب في ) أَنتُمْ ( إلى ضمير الغيبة في ) يَرْجِعُونَ ( ويجوز(6/437)
" صفحة رقم 438 "
أن يكون ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( خطاباً عاماً ويكون ) يَرْجِعُونَ ( للمنافقين . والظاهر عطف ) وَيَوْمَ ( على ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( فنصبه نصب المفعول . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف .
( لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ (
الهباء قال أبو عبيدة والزجاج : مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس . وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق . وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبواً ، وأهبيتُه أنا إهباءً . وقيل : هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت . النثرب : التفريق . العض : وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين ، وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة . فلان كناية عن علم من يعقل . الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق . الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان . السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم . وقال الزمخشري : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة . مرج : قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب . وقيل : مرج وأمرج أجرى ، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد . العذب : الحلو . والفرات البالغ في الحلاوة . الملح : المالح . والأجاج البالغ في الملوحة . وقيل : المر . وقيل : الحار . الصهر ، قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلاّ أصهار ، ولأهل بيت الرجل إلاّ أختان ، ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلهم . السراج : الشمس . الهون : الرفق واللبن . الغرفة : العلية وكل بناء عال فهو غرفة . عباءً من العبء وهو الثقيل ، يقال : عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال ، ويقال : ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك : ما اكترثت به .(6/438)
" صفحة رقم 439 "
25
( سورة الفرقان )
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواةً وَلاَ نُشُوراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواتِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاٌّ سْوَاقِ لَوْلاأُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ الَّذِىإِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ( ) ) 2
الفرقان : ( 1 ) تبارك الذي نزل . . . . .
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال ابن عباس وقتادة : إلاّ ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي ) وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( إلى قوله ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله ) وَلاَ نُشُوراً ( فهو مكي(6/439)
" صفحة رقم 440 "
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك ، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير ، ومن خيره أنه ) نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( على رسوله منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذيره من عقابه . و ) تَبَارَكَ ( تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر . وقال الطرماح : تباركت لا معط لشيء منعته
وليس لما أعطيت يا رب مانع
قال ابن عباس : لم يزل ولا يزول . وقال الخليل : تمجد . وقال الضحاك : تعظم . وحكى الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك ، أي تعاليت وارتفعت . ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات . وقال ابن عباس أيضاً والحسن والنخعي : هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله ، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر ، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسنداً إلى ) الَّذِى ( وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل ، وإن كانوا منكرين لذلك . وتقدّم في آل عمران لمَ سمي القرآن فرقاناً .
وقرأ الجمهور ) عَلَى عَبْدِهِ ( وهو الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال ) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ( ) وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة ، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله ) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( والضمير في ) لِيَكُونَ ). قال ابن زيد : عائد على ) عَبْدِهِ ( ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ). والظاهر أن ) نَذِيراً ( بمعن منذر . وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذر كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ). و ) لّلْعَالَمِينَ ( عام للإنس والجن ، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات . وقرأ ابن الزبير ) لّلْعَالَمِينَ ( للجن والإنس وهو تفسير ) لّلْعَالَمِينَ ).
الفرقان : ( 2 ) الذي له ملك . . . . .
ولما سبق في أواخر السورة لا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخباراً بأن ما فيهما ملك له ، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما ، فاجتمع له الملك والملك لهما . ولما فيهما ، والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباً أو نعت أو بد من ) الَّذِى نَزَّلَ ( وما بعد ) نَزَّلَ ( من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاً بين النعت أو البدل ومتبوعه .
( وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ( الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحداً منزلة الولد . وقيل : المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه . وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد . ) وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ ( تأكيد لقوله ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ورد على من جعل لله شريكاً .
( وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( عام في خلق الذوات وأفعالها . قيل : وفي الكلام حذف تقديره ) وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى . ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال : أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم ) وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( ذاته تعالى ولا صفاته القديمة . ) فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( إن كان الخلق بمعنى التقدير ، فكيف جاء ) فَقَدَّرَهُ ( إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره ) تَقْدِيراً ). فقال الزمخشري : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير(6/440)
" صفحة رقم 441 "
والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له ، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت . فإذا قيل : خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده متفاوتاً . وقيل : فجعل له غاية ومنتهى ، ومعناه ) فَقَدَّرَهُ ( للبقاء إلى أمد معلوم . وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى .
الفرقان : ( 3 ) واتخذوا من دونه . . . . .
( وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً ( الضمير في ) وَاتَّخَذُواْ ( عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله ) وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ ( دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به . وقال الكرماني : الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله ) لّلْعَالَمِينَ ). وقيل : لفظ ) نَذِيراً ( ينبىء عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في ) وَاتَّخَذُواْ ( كل من ادعى إلهاً غير الله ، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب . وقال القاضي : يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع . والأقرب أن المراد به عبَدة الأصنام ، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى . ولا يلزم ما قال لأن ) وَاتَّخَذُواْ ( جمع و ) ءالِهَةً ( جمع ، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد ، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ ) ءالِهَةً ).
ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئاً من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية ، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتاً أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص ، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز . ومنه قول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعض
القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الزمخشري : الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله ) وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبَيْنَ من عجزهم ، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير ) وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ( دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها ، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ الله أعجز .
الفرقان : ( 4 ) وقال الذين كفروا . . . . .
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ). قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث وأتباعه ، والإفك أسوأ لكذب . ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ ( ، قال مجاهد : قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه . وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم . وقال ابن عباس : أشاروا إلى قوم عبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين . وجبر ويسار وعداس وغيرهم . وقال الضحاك : عنوا أبا فكيهة الرومي . وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلاّ من جنس الأول انتهى . وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان ، ولا يلزم الاشتراك في الوصف . ألا ترى إلى قوله ) فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ( فقد اشتركتا في مطلق الفئة ، واختلفتا في الوصف .
والظاهر أن الضمير في ) فَقَدْ ( عائد على ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلماً كما تقول : جئت المكان فيكون جاء متعدياً بنفسه قاله الكسائي ، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه . وقال الزجاج : إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور إن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه . وقيل : الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار ،
الفرقان : ( 5 ) وقالوا أساطير الأولين . . . . .
والضمير في ) وَقَالُواْ ( للكفار وتقدم الكلام على ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ) اكْتَتَبَهَا ( أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده ، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه . ويكون لفظ افتعل مشعراً بالتكلف والاعتمال أو بمعنى(6/441)
" صفحة رقم 442 "
أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك . ) فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ ( أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب .
و ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه ) أَسَاطِيرُ ( و ) اكْتَتَبَهَا ( خبر ثان ، ويجوز أن يكون ) أَسَاطِيرُ ( مبتدأ و ) اكْتَتَبَهَا ( الخبر . وقرأ الجمهور ) اكْتَتَبَهَا ( مبنياً للفاعل . وقراءة طلحة مبنياً للمفعول والمعنى ) اكْتَتَبَهَا ( كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار ) اكْتَتَبَهَا ( إياه كاتب كقوله ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار ) اكْتَتَبَهَا ( كما ترى انتهى . وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن ) اكْتَتَبَهَا ( له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير ، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام . وثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار ) اكْتَتَبَهَا ( إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما يتوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا ) اكْتَتَبَهَا ( وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح لفظاً لا تقديراً . قال الشاعر وهو الفرزدق : ومنا الذي اختير الرجال سماحة
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال . والظاهر أن قوله ) اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( من تمام قول الكفار . وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في ) اكْتَتَبَهَا ( للاستفهام الذي في معنى الإنكار ، ووجهه أن يكون نحو قوله : أفرح إن أرزأ الكرام وإن
آخذ ذوداً شصايصاً نبلا
وحق للحسن أن يقف على الأولين . والظهير تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل ، أو يكونان عبارة عن الديمومة . وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم .
الفرقان : ( 6 ) قل أنزله الذي . . . . .
( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ ( أي كل سر خفي ، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلاّ من علام بكل المعلومات لما احتوى عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد ، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالح العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به ، أو ) يَعْلَمْ ( ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو مجازيكم ) إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( إطماع في أنهم إذا تابوا غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم . أو ) غَفُوراً رَّحِيماً ( في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب بسبب مكابرتكم ، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن يعاقب .
الفرقان : ( 6 ) قل أنزله الذي . . . . .
( وَقَالُواْ ( الضمير لكفار قريش ، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن إسحاق في السير فقال عتبة وغيره : إن كنت تحب الرئاسة ولَّيناك علينا أو المال جمعنا لك ، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا : مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك ، أو يلقي إليك كنزاً تنفق منه ، أو يرد لك جبال مكة ذهباً وتزال الجبال ، ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية .(6/442)
" صفحة رقم 443 "
وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من ) هَاذَا ( و ) هَاذَا ( استفهام يصحبه استهزاء أي ) مَّالِ هَاذَا ( الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال ) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ ( أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم قالوا : وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو يلقى إليه كنز من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش . ثم اقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق كالمياسير . وقرىء فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ عطفاً على ) أَنَزلَ ( لأن ) أَنَزلَ ( في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع ، أي هلا ينزل إليه ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو ، أي فهو يكون . وقراءة الجمهور بالنصب على جواب التحضيض .
الفرقان : ( 8 ) أو يلقى إليه . . . . .
وقوله ) أَوْ يُلْقَى ( ) أَوْ ( يكون عطف على ) أَنَزلَ ( أي لو لا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتبار اختلاف القائلين ، ولا يجوز النصب في ) أَوْ يُلْقَى ( ولا في ) أَوْ تَكُونَ ( عطفاً على ) فَيَكُونُ ( لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله ) لَوْ لا أَنَزلَ ). وقرأ قتادة والأعمش : أو يكون بالياء من تحت . وقرأ ) يَأْكُلُ ( بياء الغيبة أي الرسول ، وزيد بن عليّ وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمع أي يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم .
( وَقَالَ الظَّالِمُونَ ( أي للمؤمنين . قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى . وتركيبه وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول : وأرادهم بأعيانهم بالظالمين ) مَّسْحُورًا ( غلب على عقله السحر وهذا أظهر ، أو ذا سحر وهو الرئة ، أو يسحر بالطعام وبالشراب أي يُغذي ، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت رأسه . وقيل ) مَّسْحُورًا ( ساحراً عنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك . وتقدم تفسيره في الإسراء وبهذين القولين قيل : والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم .
الفرقان : ( 9 ) انظر كيف ضربوا . . . . .
( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ ( أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك وغير ذلك فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه ، أي فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً له . وقيل : ) ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ ( بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره ) فُضّلُواْ ( أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال . وقيل ) فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ( إلى حجة وبرهان على ما يقولون ، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه ومرة مجنون ومرة ساحر ومرة مسحور . وقال ابن عباس : شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل ، فلا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثك به . وقال مجاهد : لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي ) ضَرَبُواْ لَكَ ). ومعناه أنهم ) ضَرَبُواْ لَكَ ( هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك ) فُضّلُواْ ( عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا .
وقال بو عبد الله الرازي ؛ ) انْظُرْ كَيْفَ ( اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك ، لم يجدوا إلى القدح سبيلاً إذا لطعن عليه إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول . وقال الفراء : لا يستطيعون في أمرك حيلة . وقال السدي ) سَبِيلاً ( إلى الطعن .
الفرقان : ( 10 ) تبارك الذي إن . . . . .
ولما قال المشركون ما قالوا قيل : فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ، ولم يعط ذلك أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئاً ، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال : يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل ) تَبَارَكَ الَّذِى ). وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال : عرض على جبريل عليه السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات ، وذلك أكثر لذكري ومسألتي . قال الزمخشري في ) تَبَارَكَ ( أي تكاثر خيراً ) الَّذِى إِن شَاء ( وهب لك في الدنيا ) خَيْرًا ( مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور انتهى . والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في الدنيا قاله مجاهد . ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشاة إلى أكله الطعام(6/443)
" صفحة رقم 444 "
ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله . وقيل : في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيهاً أنه لا ينال ذلك إلاّ برحمته وأنه معلق على محض مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة . والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم . قال ابن عطية : ويرده قوله بعد ذلك ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ( انتهى . ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة . وقرأ الجمهور ) وَيَجْعَلَ ( بالجزم قالوا عطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام ) لَكَ ( لكن ذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو ، وليس من مذهب الثلاثة إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا . وقرأ مجاهد وابن عامر وابن كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع . قال ابن عطية : والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله ) جَعَلَ ( لأن جواب الشرط هو موضع استئناف . ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط ؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً مما قبله انتهى . وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف . وقال الزمخشري : وقرىء ) وَيَجْعَلَ ( بالرفع عطفاً على ) جَعَلَ ( لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله : وإن أتاه خليل يوم مسألة
يقول لا غائب مالي ولا حرم
انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه ، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم ، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي . وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء ، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على التقديم ، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه ، وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام . وقال بعض أصحابنا : هو ضرورة إذ لم يجىء إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام في هذه المذاهب مذكور في علم النحو . وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان ) وَيَجْعَلَ ( بالنصب على إضمار أن . وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو ، وهي قراءة ضعيفة انتهى . ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة : فإن يهلك أبو قابوس يهلك
ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش
أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه .
الفرقان : ( 11 ) بل كذبوا بالساعة . . . . .
( بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ( قال الكرماني : المعنى ما منعهم من الإيمان أكلك الطعام ولا مشيك في السوق ، بل منعهم تكذيبهم بالساعة . وقيل : ليس ما تعلقوا به شبهة بل الحامل على تكذبيك تكذبيهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها . وقيل : يجوز أن يكون متصلاً بما يليه كأنه قال ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ( فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة انتهى . وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال لمعناه . وأخذ في لفظ آخر ) وَأَعْتَدْنَا ( جعلناه معداً . ) سَعِيراً ( ناراً كبيرة الإيقاد . وعن الحسن : اسم من أسماء جهنم .
الفرقان : ( 12 ) إذا رأتهم من . . . . .
( إِذَ(6/444)
" صفحة رقم 445 "
ا رَأَتْهُمْ ( قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان هو القول الصحيح . وإلاّ كان مجازاً ، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم : دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل ، ومنه : لا تتراءى ناراهما . وقال قوم : النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني ، وقيل : هو على حذف مضاف أي رأتهم جزنتها من مكان بعيد ، قيل : مسيرة خمسمائة عام . وقيل : مائة سنة . وقيل : سنة ) سَمِعُواْ لَهَا ( صوت تغيظ لأن التغيظ لا يسمع ، وإذا كان على حذف المضاف كان المعنى تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم . وقيل ) سَمِعُواْ ( صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر : فيا ليت زوجك قد غدا
متقلداً سيفاً ورمحاً
وهذا مخرج على تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلاً رمحاً . والثاني تضمين ضمن متقلداً معنى متسلحاً فكذلك الآية أي ) سَمِعُواْ لَهَا ( ورأوا ) تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( وعاد كل واحد إلى ما يناسبه . أو ضمن ) سَمِعُواْ ( معنى أدركوا فيشمل التغيظ والزفير .
الفرقان : ( 13 ) وإذا ألقوا منها . . . . .
وانتصب ) مَكَاناً ( على الظرف أي في مكان ضيق . وعن ابن عباس : تضيق عليهم ضيق الزج في الرمح مقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل . وقيل : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد . وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمر وضيقاً . قال ابن عطية : وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة ، والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير ) أَلْقَوْاْ ( بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال ، والظاهر دعاء الثبور وهي الهلاك فيقولون : واثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك . وقيل : المدعو محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبوراً . والثبور قال ابن عباس : هو الويل ، وقال الضحاك : هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعري : إذ يجاري الشيطان في سنن الغي
ومن مال ميله مثبور
الفرقان : ( 14 ) لا تدعوا اليوم . . . . .
( لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ( يقول لهم ) لاَّ تَدْعُواْ ( أو هم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول ، أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزناً كثيراً وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجدداً دائماً ، وإما لأنه أنواع وكل نوع يكون منه ثبور لشدته وفظاعته . وقرأ عمرو بن محمد ) ثُبُوراً ( بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الواو في المصادر قليل نحو البتول . وحكى عليّ بن عيسى : ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك . كأنهم دعوا بما فعلوا فقالوا : واصرفاه عن طاعة الله كما تقول : واندامتاه . روي أن أول ما ينادي بذلك إبليس يقول : واثبوراه حتى يكسى حلة من جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من خلفه ، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان جهنم ) لاَّ تَدْعُواْ ). وقيل : نزلت في ابن خطل وأصحابه .
الفرقان : ( 15 - 16 ) قل أذلك خير . . . . .
والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها . وقيل إلى الجنة والكنز في قولهم . وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و ) خَيْرٌ ( هنا ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :
شع فشركما لخيركما الفداء وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة . وكقوله ) السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ ( وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ .
قال ابن عطية : ومن حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه(6/445)
" صفحة رقم 446 "
مجيء لفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبراً لأن فيه مخالفة ، وأما إذا كان استفهاماً فذلك سائغ انتهى . وما ذكره يخالفه قوله :
فشركما لخيركما الفداء
وقوله ) السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ ( فإن هذا خبر . وكذلك قولهم : العسل أحلى من الخل إلاّ إن تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحاً الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز . وضمير ) الَّتِى ( محذوف أي وعدها وضمير ) مَا يَشَآءونَ ( كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤنه دليل على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون ألاّ في الجنة . وشمل قوله ) جَزَاء وَمَصِيراً ( الثواب ومحله كما قال ) نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ( وفي ضده ) بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ( لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم ، كما أنه برداءته يتضاعف العذاب ) وَعْداً ( أي موعوداً ) مَسْؤُولاً ( سألته الملائكة في قولهم ) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ ( قاله محمد بن كعب والناس في قولهم ) رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( ) رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً ( وقال معناه ابن عباس وابن زيد .
وقال الفراء : ) وَعْداً مَسْؤُولاً ( أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً ، وإن لم يسأل . قيل : وما قاله الفراء محال انتهى . وليس محالاً إذ يكون المعنى أنه ينبغي أن يسأل هذا الوعد الذي وعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن يكون مسؤولاً . و ) عَلَى رَبِّكَ ( أي بسبب الوعد صار لا بد منه . وقال الزمخشري : كان ذلك موعوداً واجباً على ربك انجازه حقيقاً أن يسأل . ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق ، وهذا على مذهب المعتزلة .
2 ( ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاٌّ سْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِىأَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( ) ) 2
) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ ((6/446)
" صفحة رقم 447 "
الفرقان : ( 17 ) ويوم يحشرهم وما . . . . .
قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص ) يَحْشُرُهُمْ ( و ) فَيَقُولُ ( بالياء فيهما . وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما . وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي ) فَيَقُولُ ( بالياء . وقرأ الأعرج ) يَحْشُرُهُمْ ( بكسر الشين . قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي . وقال ابن عطية : وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى . وهذا ليس كما ذكر ابل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيراً ، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلاّ فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعاً للكلمة أو لم يسمعا .
( وَمَا يَعْبُدُونَ ( قال الضحاك وعكرمة : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب . وقال الكلبي : يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها . وقال الجمهور : من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله ) أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى ( وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلاّ من العقلاء ، وجاء ما يشبه ذلك منصوصاً في قوله ) ثُمَّ تَقُولَ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين . وجاء الاستفهام مقدماً فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب ) أأضللتم ( ولا أضلوا لأن كلاً من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله . وتقدم نظير هذا في ) قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِبْرَاهِيمَ ( وقال الزمخشري : وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه ) أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى ( أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيهاً منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها . وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله ) يُضِلُّ مَن يَشَاء ( ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى . وهو على طريقة المعتزلة .
والمعنى ) أَءنتُمْ ( أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق ، أم ) ضَلُّواْ ( بأنفسهم عنه . ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله ) مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ( ثم أتسع فحذف ، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول : أقعدته فقعد .
الفرقان : ( 18 ) قالوا سبحانك ما . . . . .
و ) سُبْحَانَكَ ( تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون ، أن يكون أحد منهم نداً وهو المنزه عن الند والنظير .
وقال الزمخشري : ) سُبْحَانَكَ ( تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضرل الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى .
وقرأ علقمة ما ى نبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه . وقرأ أبو عيسى الأسود القاري ) يَنبَغِى لَنَا ( مبنياً للمفعول . وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ينبغي لغة .
وقرأ الجمهور : ) أَن نَّتَّخِذَ ( مبنياً للفاعل و ) مِنْ أَوْلِيَاء ( مفعول على زيادة ) مِنْ ( وحسن زيادتها انسحاب النفي على ) نَّتَّخِذَ ( لأنه معمول لينبغي . وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله . ونظيره ) مَّا يَوَدُّ(6/447)
" صفحة رقم 448 "
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ ( أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك . وقال أبو مسلم ) مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ). وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله ) أَمِ اتَّخَذُواْ الِهَةً مّنَ الاْرْضِ ( وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( فقيل : هذه القراءة منه فالأول الضمير في ) نَّتَّخِذَ ( والثاني ) مِنْ أَوْلِيَاء ( و ) مِنْ ( للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري .
وقال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول ) مِنْ ( في قوله ) مِنْ أَوْلِيَاء ( اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . وقال أبو الفتح ) مِنْ أَوْلِيَاء ( في موضع الحال ودخلت ) مِنْ ( زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول : ما اتخذت زيداً من وكيل . وقيل ) مِنْ أَوْلِيَاء ( هو الثاني على زيادة ) مِنْ ( وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه . وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصماً فقال : مقت المخدّج أو ما علم أن فيها ) مِنْ ( ولما تضمن قولهم ) مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ( أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن ، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل ، فكان ذلك سبباً للإعراض عن ذكر الله . قيل : ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله ) إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفاً لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و ) الذّكْرِ ( ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن . والبور : قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع . وقيل : جمع بائر كعائذ وعوذ . قيل : معناه هلكى . وقيل : فدى وهي لغة الأزد يقولون : أمر بائر أي فاسد ، وبارت البضاعة : فسدت . وقال الحسن : لا خير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها . وقيل ) بُوراً ( عمياً عن الحق .
الفرقان : ( 19 ) فقد كذبوكم بما . . . . .
( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ( هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة ، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله ) مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ( أي فقلنا قد جاءكم . وقول الشاعر : قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي فقلنا قد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم ، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم ) مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام ، وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله ) أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى ( أي كذبكم المعبودون ) بِمَا تَقُولُونَ ( أي بقولهم أنكم أضللتموهم ، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله . ومن قرأ ) بِمَا تَقُولُونَ ( بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي ) سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ). وقيل : الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب . ) سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع . وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع . وقرأ الجمهور ) بِمَا تَقُولُونَ ( بالتاء من فوق . وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت .
وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش(6/448)
" صفحة رقم 449 "
وطلحة ) فَمَا تَسْتَطِيعُونَ ( بتاء الخطاب ، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في ) كَذَّبُوكُمْ ( للكفار العابدين . وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ بما يقولون فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم . ) صَرْفاً ( أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال ، هذا إن كان الخطاب في ) كَذَّبُوكُمْ ( للكفار فالتاء جارية على ذلك ، والياء التفات وإن كان للمعبودين فالتاء التفات . والياء جارية على ضمير ) كَذَّبُوكُمْ ( المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمّة الرسول عليه السلام في قوله ) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ( فالمعنى أنهم شديد والشكيمة في التكذيب ) فَمَا تَسْتَطِيعُونَ ( أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك . وبالياء فما يستطيعون ) صَرْفاً ( لأنفسهم عما هم عليه . أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه . ) وَلاَ نَصْراً ( لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذبيهم .
( وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ ( الظاهر أنه عام . وقيل : خطاب للمؤمنين . وقيل : خطاب للكافرين . والظلم هنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج ، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في الظلم . وقال الزمخشري : العذاب الكبير لا حق لكل من ظلم والكافر ظالم لقوله ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( والفاسق ظالم لقوله ) وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( انتهى وفيه دسيسة الاعتزال . وقرىء : يذقه بياء الغيبة أي الله وهو الظاهر . وقيل : هو أي الظلم وهو المصدر المفهوم من قوله ) يَظْلِمُ ( أي يذقه الظلم .
الفرقان : ( 20 ) وما أرسلنا قبلك . . . . .
ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ومفعول ) أَرْسَلْنَا ( عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحداً . وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً . وعاد الضمير في ) أَنَّهُمْ ( على ذلك المحذوف كقوله ) وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ( أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله ) أَلاَ إِنَّهُمْ ( كأنه قال إلاّ آكلين وماشين . وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من . ) أَنَّهُمْ ( والضمير عائد على ) مِنْ ( على معناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل : إنهم قبله قول محذوف أي ) إِلا ( قيل ) أَنَّهُمْ ( وهذان القولان مرجوحان في العربية . وقال ابن الأنباري : التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار . قد ردّ على من قال إن ما بعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضاً أبو البقاء قال : وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلاّ وهم يأكلون . وقرىء ) أَنَّهُمْ ( بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية التقدير إلاّ أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلاّ لكونهم مثلهم . وقرأ الجمهور : ) وَيَمْشُونَ ( مضارع مشى خفيفاً . وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله ) يَمْشُونَ ( مشدداً مبنياً للمفعول ، أي يمشيهم حوائجهم والناس . قال الزمخشري : ولو قريء ) يَمْشُونَ ( لكان أوجه لولا الرواية انتهى . وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى ) يَمْشُونَ ( قراءة الجمهور . قال الشاعر : ومشى بأعطان المباءة وابتغى
قلائص منها صعبة وركوب
) وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ ). قال ابن عطية : هو عام للمؤن والكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل . وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى . وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن . قال ابن عطية : والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم . هل تصبرون أم لا ؟ ثم أعرب قوله ) وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ( عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين .
وقال الزمخشري : ) فِتْنَةً ( أي محنة وبلاء ، وهذا تصبر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في اوسواق(6/449)
" صفحة رقم 450 "
بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول : جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه ) وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( الآية وموقع ) أَتَصْبِرُونَ ( بعد ذكر الفتنة موقع ) أَيُّكُمْ ( بعد الابتلاء في قوله ) لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ).
) بَصِيراً ( عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة ، وفوزك في الدارين . وقيل : هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا ) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ( وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء . وقيل : جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا ، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دينوي . وقيل : كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالاً بالسابقة فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى . وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج . والأولى أن قوله ) وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ( يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدراً مشتركاً . وقيل : في قوله ) أَتَصْبِرُونَ ( أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا ،
الفرقان : ( 21 ) وقال الذين لا . . . . .
والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به . وقال أبو عبيدة وقوم : معناه لا يخافون . وقال الفراء : لا يرجون نشوراً لا يخافون ، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضاً من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف . فتقول : فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه ، ومن ذلك ) مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف . وقال الشاعر : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وحالفها في بيت نوب عوامل وقال آخر :
لا ترجى حين تلاقي الذائذا
أسبعة لاقت معاً أم واحداً
انتهى . ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب ، ومن كان مكذباً بالبعث لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها . فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل في النفي والشاعر هذلي ، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته .
( لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ ( فتخبرنا أنك رسول حقاً ) أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره . وهذه كما قالت اليهود ) لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ( وكقولهم أعني المشركين ) أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً ( وهذا كله في سبيل التعنت ، وإلاّ فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا . ) لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ ( أي تكبروا ) فِى أَنفُسِهِمْ ( أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله ، وهم ليسوا بأهل لها . والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال ) إِن(6/450)
" صفحة رقم 451 "
فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ( واللام في لقد جواب قسم محذوف و ) عَتَوْاْ ( تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلاّ لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو . وجاء هنا ) عَتَوْاْ ( على الأصل وفي مريم ) عِتِيّاً ( على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل . قال ابن عباس ) عَتَوْاْ ( كفروا أشد الكفر وأفحشوا . وقال عكرمة : تجبروا . وقال ابن سلام : عصوا . وقال ابن عيسى : أسرفوا . قال الزمخشري : هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها . ونحوه قول القائل : وجارة جساس أبأنا بنابها
كليباً غلت ناب كليب بواؤها
في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب ، ألا ترى أن المعنى ما أشدّ استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب .
الفرقان : ( 22 ) يوم يرون الملائكة . . . . .
( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ ( ) يَوْمٍ ( منصوب ب ( اذكر ) وهو أقرب أو بفعل يدل عليه ) لا ( أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه ) الْمَلَئِكَةَ لاَ بُشْرَى ( لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس ، ودخول ) لا ( على ) بُشْرىً ( لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ ( وعن ابن عباس : عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار والمكروه . واحتمل ) بُشْرىً ( أن يكون مبنياً مع ) لا ( واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنياً مع ) لا ( احتمل أن يكون الخبر ) يَوْمَئِذٍ ( خبر بعد خبر أو نعت لبشرى ، أو متعلق بما تعلق به الخبر ، وأن يكون ) فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ( صفة لبشرى ، والخبر ) لّلْمُجْرِمِينَ ( ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس ) لا ( أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع ) لا ( وما بني معها ؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ ( معمولاً لبشرى ، وأن يكون صفة ، والخبر من الخبر . وأجاز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ ( و ) لّلْمُجْرِمِينَ ( خبر وجاز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ ( خبراً و ) لّلْمُجْرِمِينَ ( صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس لا بإجماع .
وقال الزمخشري : و ) يَوْمَئِذٍ ( للتكرير وتبعه أبو البقاء ، ولا يجوز أن يكون تكريراً سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البدل ، لأن ) يَوْمٍ ( منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد ) لا ( العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلاّ والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم . قيل : ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير ، والظاهر أن الضمير في ) وَيَقُولُونَ ( عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلاّ بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة وقال معناه مجاهد قال ) حِجْراً ( عواذاً يستعيذون من الملائكة . وقال مجاهد وابن جريج : كانت العرب إذا كرهت شيئاً قالوا حجراً . وقال أبو عبيدة : هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة انتهى . ومنه قول المتلمس : حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
حجر حرام ألا تلك الدهايس أي هذا الذي حننت إليه هو ممنوع ، وذكر سيبويه ) حِجْراً ( في المصادر المنصوبة غير المتصرفة . وقال بعض الرجاز :(6/451)
" صفحة رقم 452 "
قالت وفيها حيرة وذعر
عوذ يرى منكم وحجر
وأنه واجب إضمار ناصبها . قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا ؟ فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأن المتسعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه .
وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك ) حِجْراً ( بضم الحاء . وقيل : الضمير في ) وَيَقُولُونَ ( عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( عليكم البشرى و ) مَّحْجُوراً ( صفة يؤكد معنى ) حِجْراً ( كما قالوا : موت مائت ، وذيل ذائل ،
الفرقان : ( 23 ) وقدمنا إلى ما . . . . .
والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه .
قيل : أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة ) قدمنا ( لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب ، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ، ومنّ علي أسير . وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثراً ، وفي أمثالهم أقل من الهباء و ) هَبَاء مَّنثُوراً ( صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به ، ثم وصفه بمنثوراً لأن الهباء تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب . وقال الزمخشري : أو جعله يعني ) مَّنثُوراً ( مفعولاً ثالثاً لجعلناه أي ) فَجَعَلْنَاهُ ( جامعاً لحقارة الهباء والتناثر . كقوله ) كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( أي جامعين للمسخ والخسء انتهى . وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد . وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث .
وقال ابن عباس : الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه . وعنه أيضاً : الهباء الماء المهراق والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات .
الفرقان : ( 24 ) أصحاب الجنة يومئذ . . . . .
والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع ، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور ) مَقِيلاً ( على طريق التشبيه إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع . وفي لفظ ) أَحْسَنُ ( رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين . و ) خَيْرٌ ( قيل : ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل النار ، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه . فالمعنى ) خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا ) وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( في الآخرة من أولئك في الدنيا . وقيل : ) خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( منهم لو كان لهم مستقر ، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه خير . وعن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل : إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .
2 ( ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَئِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَة(6/452)
" صفحة رقم 453 "
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( )
) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ).
الفرقان : ( 25 ) ويوم تشقق السماء . . . . .
قرأ الحرميان وابن عامر ) تَشَقَّقُ ( بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا . وفي ق وباقي السبعة بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ). وقرأ الجمهور : ) وَنُزّلَ ( ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول ، وابن مسعود وأبو رجاء ) وَنُزّلَ ( ماضياً مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً وأنزل مبنياً للفاعل وجاء مصدره ) تَنْزِيلاً ( وقياسه إنزالاً إلاّ أنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحداً جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر :
حتى تطوّيت انطواء الخصب
كأنه قال : حتى انطويت . وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضياً رباعياً مبنياً للمفعول مضارعه ينزل . وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو ) وَنُزّلَ ( ثلاثى اً مخففاً مبنياً للفاعل ، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل ، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو ) وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ ( بضم النون وشد الزاي ، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل . ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده قال : وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو . وعن أبيّ أيضاً وتنزلت . وقرأ أبيّ ونزلت ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول بتاء التأنيث . وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو : ) وَنُزّلَ ( مخففاً مبنياً للمفعول ) الْمَلَائِكَةَ ( رفعاً ، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره : ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى ) الْمَلَائِكَةَ ( بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى .
وقال أبو الفتح : وهذا غير معروف لأن ) نَزَّلَ ( لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه . وهذا باب سماع لا قياس انتهى . فهذه إحدى عشرة قراءة . والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود . وقيل هو الله في قوله ) فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ). وقال ابن جريج : الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا . وقال الحسن : سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا . وقيل : غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ، والظاهر أن ) السَّمَاء ( هي المظلة لنا . وقيل : تتشقق سماء سماءى قاله مقاتل . والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول : شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( أو بمعنى عن أقوال ثلاثة . والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له .
( وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ ( أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب .
الفرقان : ( 26 ) الملك يومئذ الحق . . . . .
و ) الْحَقّ ( صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل ، ولا يبقى إلاّ ملكه تعالى وخبر ) الْمَلِكُ ( ) يَوْمَئِذٍ ). و ) الرَّحْمَنُ ( متعلق بالحق أو للبيان أعني ) لِلرَّحْمَانِ ). وقيل : الخبر ) لِلرَّحْمَانِ ( و ) يَوْمَئِذٍ ( معمول للملك . وقيل : الخبر ) الْحَقّ ( و ) لِلرَّحْمَانِ ( متعلق به أو للبيان ، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف . ودل قوله ) عَلَى الْكَافِرِينَ ( على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا
الفرقان : ( 27 ) ويوم يعض الظالم . . . . .
والظاهر(6/453)
" صفحة رقم 454 "
عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء ، وقالا : فلان هو كناية عن الشيطان .
وقال ابن عباس وجماعة : ) الظَّالِمِ ( هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأبيّ بن خلف هو المكني عنه بفلان ، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه . وعن ابن عباس أيضاً . عكس هذا القول . قيل وسبب نزولها هو عقبة وأبي . وقيل : كان عقبة خليلاً لأمية فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي . وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليه السلام : ( لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ) . فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً فضرب عنقه ، وقتل أبيّ بن خلف يوم أحد في المبارزة . والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان . والظاهر أن ) الظَّالِمِ ( ) يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ ( فعل النادم المتفجع . وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت . وقيل : هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندماً وقال الشاعر : لطمت خدها بحمر لطاف
نلن منها عذاب بيض عذاب
فتشكى العناب نور إقاح
واشتكى الورد ناضر العناب
وفي المثل : يأكل يديه ندماً ويسيل دمعه دماً . وقال الزمخشري : عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة . ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى . وقال الشاعر في حرق الناب : أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
عليه فأفضى والسيوف معاقله
) يِقُولُ ( في موضع الحال أي قائلاً ) ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى ( فان كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وسلك طريق الحق ، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى . سلوك طريق الرسول وهو الإيمان ، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل ، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به .
الفرقان : ( 28 - 29 ) يا ويلتى ليتني . . . . .
ثم ينادي بالويل والحسرة يقول ) يا ويلتي ( أي يا هلكاه كقوله ) نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ). وقرأ الحسن وابن قطيب ) ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى ( بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك . وقرأت فرقة بالإمالة . قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولاً . وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وقل كناية عن نكرة الإنسان نحو : يا رجل وهو مختص بالنداء ، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخماً من فلان خلافاً للفراء . ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان . وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب .
و ) الذّكْرِ ( ذكر الله أو القرآن أو الموعظة ، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطاناً لأنه يضل كما يضل الشيطان ثم خذ له ولم ينفعه في العاقبة . وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم ، ويحتمل أن تكون إخباراً من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك(6/454)
" صفحة رقم 455 "
المبلغ . وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير .
الفرقان : ( 30 - 31 ) وقال الرسول يا . . . . .
والظاهر أن دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ربه وإخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسلياً مؤانساً بقوله ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه . وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( والظاهر أن ) مَهْجُوراً ( بمعنى متروكاً من الإيمان به مبعداً مقصياً من الهجر بفتح الهاء . وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه . وقيل : من الهجر والتقدير ) مَهْجُوراً ( فيه بمعنى أنه باطل . وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ).
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول ، والمعنى اتخذوه هجراً والعد ويجوز أن يكون واحداً وجمعاً انتهى .
وانتصب ) هَادِياً ( و ) نَصِيراً ( على الحال أو على التمييز .
الفرقان : ( 32 ) وقال الذين كفروا . . . . .
وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق . قال الزمخشري : ) نَزَّلَ ( ههنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلاّ كان متدافعاً انتهى . وإنما قال أن ) نَزَّلَ ( بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق ، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو . وقوله ) جُمْلَةً واحِدَةً ( وقد قررنا أنا ) نَزَّلَ ( لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة . وقد بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا : لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل . وقيل : قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقاً بل الإعجاز في نزوله مفرقاً أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه ، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور . فقيل : هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلاً مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى ) لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( تعليلاً لمحذوف أي فرقناه في أوقات ) لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ). وقيل : هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، ولما تضمن كلامهم معنى لمَ أُنْزِلَ مفرقاً أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي ) كَذالِكَ ( أنزل مفرقاً .
قال الزمخشري : والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهم السلام حيث كان أمياً لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة . وقيل : في ثلاث وعشرين سنة وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين ، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقاً انتهى .
واللام في ) لِنُثَبّتَ بِهِ ( لام العلة . وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى . وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح . وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله ) وَرَتَّلْنَاهُ ( أي فصلناه . وقيل : بيناه . وقيل : فسرناه .
( وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ( يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بياناً وتفصيلاً . وقال الزمخشري :
الفرقان : ( 33 ) ولا يأتونك بمثل . . . . .
( وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ( بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من(6/455)
" صفحة رقم 456 "
سؤالهم . ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل معناه كذا أو ) وَلاَ يَأْتُونَكَ ( بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى . وقيل : ) وَلاَ يَأْتُونَكَ ( بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ ، والمفضل عليه محذوف أي ) وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ( من مثلهم ومثلهم قولهم ) لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ).
الفرقان : ( 34 ) الذين يحشرون على . . . . .
و ) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ). قال الكرماني : متصل بقوله ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ ( الآية . قيل : ويجوز أن يكون متصلاً بقوله ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( انتهى . والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقاً كان في ضمن كلامهم أنهم ذو ورشد وخير ، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعتراضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم ) شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه . وفي الحديث ( إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ) . وهذا قول الجمهور . وقيل : هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي . وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجه إذا لم يدر أين ذهب . ويقال : مضى على وجهه إذا أسرع متوجهاً لقصده و ) شَرُّ ( و ) أَضَلَّ ( ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل . وقوله ) شَرٌّ مَّكَاناً ( أي مستقراً وهو مقابل لقوله ) خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر .
وأعربوا ) الَّذِينَ ( مبتدأ والجملة من ) أُوْلَائِكَ ( في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون ) الَّذِينَ ( خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم ) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ( ثم استأنف إخباراً أخبر عنهم فقال ) أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً (
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاٌّ مْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِىأُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاٌّ نْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( ) ) 2
الفرقان : ( 35 - 36 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير(6/456)
" صفحة رقم 457 "
لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم ، فناسب أن ذكر أولاً من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى .
و ) الْكِتَابِ ( هنا التوراة و ) هَارُونَ ( بدل أو عطف بيان ، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا . وأن يكون ) وَزِيراً ( والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان في الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضاً ، والمذهوب إليهم القبط وفرعون . وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما ) فَدَمَّرْنَاهُمْ ( والتدمير أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه . وقصة موسة ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم .
وقرأ عليّ والحسن ومسلمة بن محارب : فدمراهم على الأمر لموسى وهارون ، وعن عليّ أيضاً : إلاّ أنه مؤكد بالنون الشديدة . وعنه أيضاً فدمرا أمراً لهما بهم بباء الجر ، ومعنى الأمر كوناً سبب تدميرهم .
الفرقان : ( 37 ) وقوم نوح لما . . . . .
وانتصب ) وَقَوْمَ نُوحٍ ( على الاشتغال وكان النصب أرجح لتق / م الجمل الفعلية قبل ذلك ، ويكون ) لَّمّاً ( في هذا الإعراب ظرفاً على مذهب الفارسي . وأما إن كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن ) أَغْرَقْنَاهُمْ ( جواب لما فلا يفسر ناصباً لقوم فيكون معطوفاً على المفعول في ) فَدَمَّرْنَاهُمْ ( أو منصوباً على مضمر تقديره اذكر . وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي .
( لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ ( كذبوا نوحاً ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح تكذيباً للجميع ، أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة
الفرقان : ( 38 ) وعادا وثمود وأصحاب . . . . .
والظاهر عطف ) وَعَاداً ( على و ) قَوْمٌ ). وقال أبو إسحاق : يكون معطوفاً على الهاء والميم في ) وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءايَةً ). قال : ويجوز أن يكون معطوفاً على ) الْظَّالِمِينَ ( لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا ) عَاداً وَثَمُودَاْ وِقْراً عَبْدُ اللَّهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ ). قال ابن عباس : هم قوم ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن العطف يقتضي التغاير . وقال قتادة : أهل قرية من اليمامة يقال ها الرس والفلج . قيل : قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح . وقال كعب ومقاتل والسدي بئر بإنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار . وقيل : قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه .
وقال وهب الكلبي ) أَصْحَابُ الرَّسّ ( وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل إلى أصحاب الرس وكانوا قوماً من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش ، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية . وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم . وقال عليّ فيما نقله الثعلبي : قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل . وقيل : هم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فج وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا . وقيل : الرس هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود . وقال ابن عباس : الرس بئر أذربيجان . وقيل : الرس ما بين نجران إلى اليمن ألى حضرموت . وقيل : قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر . وقيل : قوم بعث إليهم نبي فأكلوه . وقيل : قوم نساؤهم سواحق . وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد . وقيل : الرس نهر من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبياً من إولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً فشكا إلى الله منهم فحفروا له بئراً وأرسلوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم ، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأضلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص .
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( أن أهل الرس أخذوا نبيهم فرسّوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به . ثم يرد الصخة ، إلى أن ضرب الله يوماً على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به ) . في حديث طويل . قال الطبري : فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس ، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه(6/457)
" صفحة رقم 458 "
وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم .
( وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ ( هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلاّ الله ) ذالِكَ ( إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول ) بَيْنَ ( عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة . ثم يشير إليها .
الفرقان : ( 39 ) وكلا ضربنا له . . . . .
وانتصب ) كَلاَّ ( الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلاً أو حذرنا كلاً والثاني على أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولا وهذا من واضح الإعراب . ومعنى ضرب الأمثال أي بين لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا وأبعد من جعل الضمير في ) لَهُ ( لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و ) كَلاَّ ( منصوب بضربنا و ) الاْمْثَالَ ( بدل من ) كَلاَّ (
الفرقان : ( 40 ) ولقد أتوا على . . . . .
والضمير في ) وَلَقَدْ أَتَوْا ( لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهم إلى الشام وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعاً وبقيت واحدة وهي زغر لم يكن أهلها يعملون ذلك العمل قاله ابن عباس و ) مَطَرَ السَّوْء ( الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا . وكان إبراهيم عليه السلام ينادي نصيحة لكم : يا سدوم يوم لكم من الله عز وجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله ، ومعنى ) أَتَوْا ( مروا فلذلك عداه بعلى . وأفراد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن سدوم هي أم تلك القرى وأعظمها .
وقال مكي : الضمير في ) أَتَوْا ( عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوارً انتهى . وهم قريش وانتصب ) مَطَرَ ( على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت ، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء . ) أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا ( أن ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال ) وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ ( وقال ) وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ( وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك ، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة من يؤمن ، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون ) نُشُوراً ( كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون على اللغة التهامية . وقرأ زيد بن عليّ مطرت ثلاثي مبنياً للمفعول ومطر متعد . قال الشاعر : كمن بواديه بعد المحل ممطور
وقرأ أبو السماك ) مَطَرَ السَّوْء ( بضم السين .
الفرقان : ( 41 ) وإذا رأوك إن . . . . .
( وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ( لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وترك الإيمان به ، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار . حتى يقول بعبضهم لبعض ) أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( و ) ءانٍ ( نافية جواب ) إِذَا ( وانفردت ) إِذَا ( بأنه إذا كان جوابها منفياً بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع ، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من الفاء كما النافية ومعنى ) هزؤاً ( موضع هزء أو مهزواً به ) هُزُواً أَهَاذَا ( قبله قول محذوف أي يقولون وقال : جواب ) إِذَا ( ما أضمر من القول أي ) وَإِذَا رَأَوْكَ ( قالوا ) أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( و ) إِن يَتَّخِذُونَكَ جِمَالَةٌ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ( وجوابها .
قيل : ونزلت في أبي جهل كان إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ) أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( ؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيماً لقبح صنعه أو لكون جماعة معه قالوا ذلك : والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم أخرجوه بقولهم بعث الله رسولا في معرض التسليم والإقرار وهم على غاية الجحود(6/458)
" صفحة رقم 459 "
والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولاً .
الفرقان : ( 42 ) إن كاد ليضلنا . . . . .
وقولهم ) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا ( دليل على فرط مجاهدة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم . و ) لَوْلاَ ( في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظ مجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري . وقال أبو عبد الله الرازي : الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم ، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة والستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة والسلام انتهى . قيل : وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام عليهم كالمجانين استهزؤوا به أولاً ثم إنهم وصفوه بأنه ) كَادَ لَيُضِلُّنَا ( عن مذهبنا ) لَوْلاَ ( أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل ، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه الكيدودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلاّ بالعالم الكامل .
( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير ، ولما قالوا ) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا ( جاء قوله ) مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( أي سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه . والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول ) يَعْلَمُونَ ( إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين ، ويجوز أن تكون ) مِنْ ( موصولة مفعولة بيعلمون و ) أَضَلَّ ( خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل ، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء .
الفرقان : ( 43 ) أرأيت من اتخذ . . . . .
( أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه عليه السلام أن لا يتأسف عليهم ، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم ) أَضَلُّ سَبِيلاً ( من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله . والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح . و ) أَرَأَيْتَ ( استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و ) إِلَاهَهُ ( المفعول الأول لاتخذ ، و ) هَوَاهُ ( الثاني أي أقام مقام الأله الذي يعبده هواه فهو حار على ما يكون في ) هَوَاهُ ( والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن .
قيل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي ، كان إذا هوى شيئاً عبده ، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه ، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله . وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ آلهةً منونة على الجمع ، وفيه تقديم جعل هواه أنواعاً أسماء لأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلهاً آخر . وقرأ ابن هرمز : إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضاً تقديم أي هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة . فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت . وقيل : بل الإلاهة الشمس ويقال لها أُلاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح . ومفعول ) أَرَأَيْتَ ( الأول هو ) مِنْ ( والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني . وتقدم الكلام في ) أَرَأَيْتَ ( في أوائل الأنعام ومعنى ) وَكِيلاً ( أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام .
الفرقان : ( 44 ) أم تحسب أن . . . . .
و ) أَمْ ( منقطعة تتقدّر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال : بل أتحسب كان هذه المذمّة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً إلى تدبره عقلاً ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة ، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم ، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرّتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها ، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في(6/459)
" صفحة رقم 460 "
الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِىأَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ( ) ) 2 ( تكرار :
) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ). )
الفرقان : ( 45 - 46 ) ألم تر إلى . . . . .
لما بيِّن تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعاً من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه ، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته . وتقدم الكلام على ) أَلَمْ تَرَ ( في البقرة في قصة الذي حاج إبراهيم . والمعنى ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( صنع ) رَبَّكَ ( وقدرته . و ) كَيْفَ ( سؤال عن حال في موضع نصب بمد . والجملة في موضع متعلق ) أَلَمْ تَرَ ( لأن ) تَرَ ( معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام . فالمعنى ألم تر إلى مد ربك الظل .
وقال الجمهور : ) الظّلّ ( هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة . واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلاً . وقيل : ) الظّلّ ( الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها . وقيل : من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا . وقيل : ظلال الأشياء كلها كقوله ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ ). وقال أبو عبيدة : ) الظّلّ ( بالغداة والفيء بالعشي . وقال ابن السكيت : ) الظّلّ ( ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس . وقيل : ما لم تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء .
( وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه . وقال مجاهد : لا تصيبه ولا تزول . وقال الحسن : ) لَوْ شَاء ( لتركه ظلاً كما هو . وقيل : لأدامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها ، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو(6/460)
" صفحة رقم 461 "
النقصان في الظل ، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادتها ونقصه ، وكلما علت الشمس نقص الظل ، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ( يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصاناً يسيراً بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعم الأرض . كلها فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت .
وقال الزمخشري : ومعنى ) مَدَّ الظّلَّ ( أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس . ) وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( أي لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد ، سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً ومعنى كون الشمس دليلاً أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان وزائلاً ومتسعاً ومتقلصاً فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك . وقبضه إلى ه أن ينسخه بظل الشمس ) يَسِيراً ( أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً فإن قلت : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها ؟ قلت : موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت . ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحاً الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير .
( وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( مستقراً على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلاً متبوعاً لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ، ثم نسخه بها قبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير ، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله ) قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ( يدل عليه وكذلك قوله ) يَسِيراً ( كما قال ) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( انتهى وقوله : سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه لم يسم الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله : ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال ) مَدَّ الظّلَّ ( وعطف عليه ماضياً مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضياً مستداماً أمثاله .
وقال ابن عطية : ) وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( أي ثابتاً غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلاً عليه مبيناً لوجوده ولوجه العبرة فيه . وحكى الطبري : أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها . وقال ابن عباس : ) يَسِيراً ( معجلاً . وقال مجاهد لطيفاً أي شيئاً بعد شيء ، ويحتمل أن يريد سهلاً قريب التناول . وقال أبو عبد الله الرازي : أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين .
الأول : أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات ، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث السخونة القوية وهي مؤذية ، ولهذا قيل في الجنة ) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئاً سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمراً ثالثاً ولا معرفة به إلاّ إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية ، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها ، فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ولذلك قال ) ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ( أي جعلنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلاً على وجود الظل . ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ ( أي أزلناه لا دفعة بل ) يَسِيراً ( يسيراً كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب المغرب ، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً كان زوال الأظلال كذلك .
والثاني : أنه لما خلق السماء والأرض وقع السماء على الأرض فجعل الشمس دليلاً لأنه بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة(6/461)
" صفحة رقم 462 "
بينهما ، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر ، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء ، ولذلك جعل الشمس دليلاً عليه انتهى . ملخصاً وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ، ومحسن بعض تحسين . والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير .
وقال أيضاً : ) الظّلّ ( ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلام ، فهو أمر وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية انتهى . والآية في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه الحاجة .
الفرقان : ( 47 ) وهو الذي جعل . . . . .
( جَعَلَ الَّيْلَ لِبَاساً ( تشبيهاً بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر الأشياء . والسبات : ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضاً فشبه النوم به ، والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكوناً تاماً والنشور هنا الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين يتضمنهما النوم والسبات انتهى . ومن كلام ابن عطية وقال غيره : السبات الراحة جعل ) نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ( أي سبب راحة .
وقال الزمخشري : السبات الموت وهو كقوله ) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( فإن قلت : هلا فسرته بالراحة ؟ قلت : النشور في مقابلته يأباه انتهى . ولا يأباه إلاّ لو تعين تفسير خبر مبتدأ محذوف ، و ) الرَّحْمَنُ ( صفة له . أو يكون ) الَّذِى ( منصوباً على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون ) الرَّحْمَنُ ( مبتدأ . و ) فَاسْأَلِ ( خبره تخريجه على حد قول الشاعر : وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر . وعن لقمان أنه قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر .
الفرقان : ( 48 ) وهو الذي أرسل . . . . .
وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة . قال ابن عطية : وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن ههنا وههنا وشيئاً اثر شيء ، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً . ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه . قال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح : الجنوب ، والصبا ، والشمال . وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور . قال أي ابن عطية : يرد هذا قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إذا هبت الريح : ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) انتهى . ولا يسوغ أن يقال : هذه القراءة أوجه لأنه كلاً من القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم ، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز أن يريد بقوله عليه السلام : ( رياحاً ) . الثلاثة اللواقح وبقوله ( ولا تجعلها ريحاً ) الدبور . فيكون ما قاله الرماني مطابقاً للحديث على هذا المفهوم .
وتقدم الخلاف في قراءة ) نَشْراً ( وفي مدلوله في الأعراف ) بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ( استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلماً به . والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر ، وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور والفطور ، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه . والظاهر في قوله ) مَاء طَهُوراً ( أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه ، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر . وقال ثعلب : هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، فإن كان ما قاله شرحاً لمبالغته في الطهارة كان سديداً ويعضده ) وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ(6/462)
" صفحة رقم 463 "
وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل ، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى ) وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ). وقال الشاعر : إلى رحج الأكفال غيد من الظبا
عذاب الثنايا ريقهنّ طهور
الفرقان : ( 49 ) لنحيي به بلدة . . . . .
وقرأ عيسى وأبو جعفر ) مَيْتًا ( بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون في معنى البلد في قوله ) فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلاً من المصادر ، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للثاء إلاّ فيما خص المؤنث نحو طامث . وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما ) وَنُسْقِيَهِ ( بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب . وقرأ يحيى بن الحارث الذماري ) وَأَنَاسِىَّ ( بتخفيف الياء . ورويت عن الكسائي ) وَأَنَاسِىَّ ( جمع إنسان في مذهب سيبويه . وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج ، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة . وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين ، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهور وإكراماً له وتتميماً للنعمة عليه ، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش . وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم . ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيراً منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر ، وكذلك ) وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ( يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظانّ الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالباً عن سقي ماء المطر ، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم .
الفرقان : ( 50 ) ولقد صرفناه بينهم . . . . .
والضمير في ) صَرَّفْنَاهُ ( عائد على الماء المنزل من السماء ، أي جعلنا إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهو في كل عام بمقدار واحد قاله الجمهور منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد ، فعلى هذا التأويل ) إِلاَّ كُفُورًا ( هو قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة . وقيل ) كَفُورًا ( على الإطلاق لما تركوا التذكر . وقال ابن عباس أيضاً : عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده ) وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ( لتوافق الضمائر ، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن . وقال أبو مسلم : راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة . وقال الزمخشري : صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الأكتراث بها . وقيل : صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور . وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا رحمته وصنعته . وعن ابن عباس : ما من عام أقل مطراً من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية . ويروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ، ولكن يختلف في البلاد وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال : ليحي به بعض البلاد الميتة ، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى . وقرأ عكرمة ) صَرَّفْنَاهُ ( بتخفيف الراء .
الفرقان : ( 51 ) ولو شئنا لبعثنا . . . . .
( وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ( لما علم تعالى ما كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى لو أراد لبعث في كل قرية نذيراً فيخفف عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل إنذارك عاماً للناس كلهم ، وخصك بذلك ليكثر ثوابك لأنه على(6/463)
" صفحة رقم 464 "
كثرة المجاهدة يكون الثواب ، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها .
الفرقان : ( 52 ) فلا تطع الكافرين . . . . .
( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( يعنى كفار قريش فإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا أن يرجع إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالاً عظيماً فنهاه تعالى عن طاعتهم حتى يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك ، لكن رغبته في الدعاء إلى الله والإيمان به . ) وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ( أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك طاعتهم و ) جِهَاداً ( مصدر وصف بكبيراً لأنه يلزمه عليه السلام مجاهدة جميع العالم فهو جهاد كبير .
الفرقان : ( 53 ) وهو الذي مرج . . . . .
و ) مَرَجَ ( خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال ، والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح . وقيل : بحران معينان . فقيل : بحر فارس ، وبحر الروم . وقيل : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس . وقال مجاهد : مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من القول الأول . قال ابن عطية : والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهاً عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج ، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج ، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن . ويتمشى هذا على قول من قال أن ) مَرَجَ ( بمعنى أجرى . وقيل : البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلاّ بزوال الحاجز يوم القيامة . قال الأكثرون : الحاجز مانع من قدرة الله . قال الزجاج : فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله ، وسواد البصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة نحو البحر ، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلى الخضرة الشديدة ، وماء دجلة إلى الحمرة ، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقاً بحيث يبقى نهراً جارياً أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه ، وترى المياه قطعاً في وسط البحر المالح فيقولون : هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر .
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي ) مِلْحٌ ( بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر . قال أبو حاتم وهذا منكر في القراءة . وقال أبو الفتح أراد مالحاً وحذف الألف كما حذفت من برد أي بارد . وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة . وقيل : أراد مالح فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في الضفيان بأن يكون مملوحاً من جهة غيره ، ومالحاً لغيره وإن كان من صفته أن يقال : ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح ، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات .
قال الزمخشري : فإن قلت : ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( ما معناه ؟ قلت : هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز ، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( كما قال ) لاَّ يَبْغِيَانِ ( أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة ، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ ههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى .
والظاهر أن ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( معطوف على ) بَرْزَخاً ( عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي ، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي ، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه ) حِجْراً مَّحْجُوراً ).
الفرقان : ( 54 ) وهو الذي خلق . . . . .
والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع . وقيل : المراد بالنسب آدم وبالصهر حواء . وقيل : النسب البنون والصهر البنات و ) مِنَ الْمَاء ( إما النطفة ، وإما أنه أصل خلقة كل حي ، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين ، فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد ، والصهر هو نواشج المناكحة . وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع . وعن طاوس : الرضاعة من الصهر . وعن عليّ : الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه . وقال الضحاك : الصهر قرابة الرضاع . وقال ابن سيرين : نزلت في النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر . قال ابن عطية : فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة . ) وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ( حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين ذكراً وأنثى .
الفرقان : ( 55 ) ويعبدون من دون . . . . .
ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادة لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث(6/464)
" صفحة رقم 465 "
يعبدون الأصنام . والظاهر أن ) الْكَافِرُ ( اسم جنس فيعم . وقيل : هو أبو جهل والآية نزلت فيه . وقال عكرمة ) الْكَافِرُ ( هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد ، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن ) الْكَافِرُ ( يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك . وقيل : معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم : ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه ، وهذا نحو قوله ) أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ ( الآية قاله الطبري . وقيل : ) عَلَى رَبّهِ ( أي معيناً على أولياء الله . وقيل : معيناً للمشركين على أن لا يوحد الله .
الفرقان : ( 56 ) وما أرسلناك إلا . . . . .
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا ( سلى نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وإنما أنت رسول تبشر تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار ، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين .
الفرقان : ( 57 ) قل ما أسألكم . . . . .
ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلاً لوجوه التهم بقوله ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( أي لا أطلب مالاً ولا نفعاً يختص بي . والضمير في ) عَلَيْهِ ( عائد على التبشير والإنذار ، أو على القرآن ، أو على إبلاغ الرسالة أقوال . والظاهر في ) إِلاَّ مَن شَاء ( أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور . فعلى هذا قيل بعباده ) لَكِنِ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( فليفعل . وقيل : لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسؤولي . وقيل : هو متصل على حذف مضاف تقديره : إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلاً أي إلاّ أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني على ذلك . وقيل : إلاّ أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجراً إلاّ الإنفاق في سبيل الله ، فجعل الإنفاق أجراً .
الفرقان : ( 58 ) وتوكل على الحي . . . . .
ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئاً أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه . ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله ) الْحَىّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ ( لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال ) كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ). وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق ، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقروناً بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد . وفي الحديث : ( من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر . وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان ) .
( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ( أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا ، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم . وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد للكافر . وفي بعض الأخبار كفى بك ظفراً أن يكون عدوك عاصياً وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول : كفى بالعلم جمالاً . وكفى بالأدب مالاً ، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم .
الفرقان : ( 59 ) الذي خلق السماوات . . . . .
ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم . وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل ) الَّذِى ( أن يكون صفة للحي الذي لا يموت . ويتعين على قراءة زيد بن عليّ ) الرَّحْمَنُ ( بالجر وأما على قراءة الجمهور ) الرَّحْمَنُ ( بالرفع فإنه يحتمل أن يكون ) الَّذِى ( صفة للحي و ) الرَّحْمَنُ ( خبر مبتدأ محذوف . ويحتمل أن يكون ) الَّذِى ( مبتدأ و ) الرَّحْمَنُ ( خبره . وأن يكون ) الَّذِى ( ( سقط : منصوبا على إضمار أعني ، ويجوز على مذاهب الأخفش أن يكون الرحمن مبتدا وفاسأل خبره تخريجه على حده قول الشاعر وقائلة خولا فانكح فتاتهم ، وجوزوا أيضا في الرحمن أن يكون بدلا من الضمير المستكين في استوى والظاهر : تعلق به بقوله فاسأل وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن ، وخبيرا من صفات الله ، كما نقول لقيت بزيد أسدا ولقيت بزيد البحر تريد : أنه هو الأسد شجاعة والبحر رما ، والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير ، والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء )(6/465)
" صفحة رقم 466 "
العالم بحقائقها ، وقال ابن عطية : و ( خبيرا ) على هذا منصوب ، إما بوقوع السؤال ، وإما على الحال المؤكدة ، كما قال ( وهو الحق مصدقا ) ، وليس هذه الحال منتقلة إذ الصفة العلية لا تتغير انتهى . وبنى هذا الإعراب على أنه كما تقول لو لقيت فلانا للقيت به البحر كرما ، أي : لقيت منه والمعنى فاسأل الله عن كل أمر ، وكونه منصوبا على الحال المؤكدة على هذا التقدير لا يصح ، إنما يصح أن يكون مفعولا به ، ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن أي فاسأل عنه خبيرا كما قال الشاعر : فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وهو قول الأخفش والزجاج ويكون ( خبيرا ) ليس من صفات الله هنا ، كأنه قيل اسأل عن الرحمن الخبراء جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة ، وإن جعلت به متعلقا بخبيرا كان المعنى فسأل عن الله الخبراء به ، وقال الكلبي معناه فاسأل خبيرا به وبه يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش ، وذلك الخبير هو الله تعالى ، لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا يعلمها إلا الله ، وعن ابن عباس : الخبير جبريل وقدم لرؤوس الآي ، وقال الزمخشري : الباء في به صلة سل كقوله ) سأل سائل بعذاب ( [ المعارج : 1 ] كما يكون عن صلته في نحو : ) لتسألن يومئذ عن النعيم ( [ التكاثر : 8 ] أو صلة ( خبيرا به ) فتجعل خبيرا مفعولا أي فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته ، أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته ، أو فسل بسؤاله خبيرا ، كقولك رأيت به أسدا ، أي رأيت برؤيته ، والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا بجعله حالا عن به تريد فسل عنه عالما بكل شيء ، وقيل : الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه ، فقيل : فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره ، ومن ثم كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي في اليمامة يعنون ' مسيلمة ' ، وكان يقال له رحمن اليمامة انتهى .
الفرقان : ( 60 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن ( وكانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله ، غالطت قريش بذلك فقالت : إن محمدا يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة نزلت ( وإذا قيل لهم ) ، و ( ما ) سؤال عن المجهول فيجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم ، ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه لأنه لم يكن مستعملا كفي كلامهم ، كما يستعمل الرحيم والرحوم والراحم ، أو لأنهم أنكروا إطلاقا على الله قاله الزمخشري ، والذي يظهر أنهم لما قيل لهم اسجدوا للرحمن فذكرت الصفة المقتضية للمبالغة في الرحمة والكلمة عربية لا ينكر وضعها أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة منهم ووقاحة ، فقالوا وما الرحمن ، وهم عارفون به وبصفته الرحمانية ، وهذا كما قال فرعون : ) وما رب العالمين ( [ الشعراء : 23 ] حين قال له موسى : ) إني رسول من رب العالمين ( [ الأعراف : 104 ] على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين ، كما قال موسى ) لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ( [ الإسراء : 102 ] ، فكذلك كفار قريش استفهموا عن الرحمن استفهام من يجهله وهم عالمون به ، فعلى قول من قال لم يكونوا يعرفون الرحمن إلا مسيلمة ، وعلى قول من قال من لا يعرفون الرحمن إلا مسيلمة ، فالمعنى أنسجد لمسيلمة ؟ وعلى قول من قال من لا يعرفون الرحمن بالكلية فالمعنى أنسجد لما تأمرنا من غير علم ببيانه ، والقائل اسجدوا : الرسول أو الله على لسان رسله ، وقرأ ابن مسعود ، الأسود بن يزيد ، وحمزة ، والكسائي ( يأمر ) بالياء من تحت أي يأمرنا محمد والكناية عنه أو المسمى الرحمن ولا نعرفه ، وقرأ باقي السبعة بالتاء خطابا بالرسول ومفعول ( تأمرنا ) الثاني محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو قولهم ' أمرتك الخير ' وزادهم أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن زادهم ضلال يختص به مع ضلالهم السابق ، وكان حقه أن يكون باعثا على فعل السجود والقبول ، وقال الضحاك : سجد أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعثمان بن مظعون ، وعمرو بن غلسة ، فرآهم المشركون(6/466)
" صفحة رقم 467 "
فأخذوا في ناحية المسجد يستهزوؤن ، فهذا المراد بقوله ) وَزَادَهُمْ نُفُوراً ( ومعنى ) نُفُورًا ( فراراً .
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاٌّ رْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ( ) ) 2
) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ).
الفرقان : ( 61 ) تبارك الذي جعل . . . . .
لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته . ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ، ووصف نفسه بالرحمن ، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن ، ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها . والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . سميت بذلك لشبهها بما شبهت به . وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج لظهوره .
وقيل : البروج هنا القصور في الجنة . قال الأعمش . وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها ) فِى السَّمَاء ( قصوراً . وقال أبو صالح : البروج هنا الكواكب العظام . قال ابن عطية : والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل . والضمير في ) فِيهَا ( الظاهر أنه عائد على ) السَّمَاء ). وقيل : على البروج ، فالمعنى وجعل في جملتها ) سِرَاجاً ). وقرأ الجمهور ) سِرَاجاً ( على الإفراد وهو الشمس . وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والأخوان سُرُجاً بالجمع مضموم(6/467)
" صفحة رقم 468 "
الراء وهو يجمع الأنوار ، فيكون خص القمر بالذكر تشريفاً . وقرأ الأعمش أيضاً والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء . وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم ) وقُمر ( بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب . وقيل : جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال : وذا قمر منير لأن الليلة تكون قمراء بالقمر ، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان :
بردى يصفق بالرحيق السلسل
يريد ماء بردى . فمنيراً وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت ، ولو لم يراع المضاف لقال : تصفق بالتاء وقال ) وَقَمَراً مُّنِيراً ( أي مضيئاً ولم يجعله ) سِرَاجاً ( كالشمس لأنه لا توقد له .
الفرقان : ( 62 ) وهو الذي جعل . . . . .
وانتصب ) خِلْفَةً ( على الحال . فقيل : هو مصدر خلف خلفة . وقيل : هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالاً اسم الهيئة في قولهم : مررت بماء قعدة رجل ، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر . والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله ) وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( ويقال : بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير :
بها العيس والآرام يمشين خلفة
وقول الآخر
يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً : ولها بالما طرون إذا
أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتفعت
سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة
حولها الزيتون قد ينعا
وقيل ) خِلْفَةً ( في الزيادة والنقصان . وقال مجاهد وقتادة والكسائي : هذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير . ) لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ). قال عمر وابن عباس والحسن : معناه ) لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه . وقال مجاهد وغيره : أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم . وقال الزمخشري : وعن أبي بن كعب يتذكر والمعنى . لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير ، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى : ) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى به في الآخر . وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر خفيفاً .
الفرقان : ( 63 ) وعباد الرحمن الذين . . . . .
ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء ) لَّمّاً أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ( ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال : ) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ( وهذه إضافة تشريف وتفضل ، وهو جمع عبد . وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وراجل ورجال ، أي الذين يعبدونه حق عبادته .(6/468)
" صفحة رقم 469 "
والظاهر أن ) وَعِبَادُ ( مبتدأ و ) الَّذِينَ يَمْشُونَ ( الخبر . وقيل : أولئك الخبر و ) الَّذِينَ ( صفة ، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب . وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله . وقرأ اليماني : وعباد جمع عابد كضارب وضراب . وقرأ الحسن : وعُبَدُ بضم العين والباء . وقرأ السلمي واليماني ) يَمْشُونَ ( مبنياً للمفعول مشدداً . والهون : الرفق واللين . وانتصب ) هَوْناً ( على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال ، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق . وقال مجاهد : بالحلم والوقار . وقال ابن عباس : بالطاعة والعفاف والتواضع . وقال الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا . وقال ابن عطية ) هَوْناً ( عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال ) هَوْناً ( بمعنى أمره هون أي ليس بخشن ، وذهبت فرقة إلى أن ) هَوْناً ( مرتبط بقوله ) يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ ( أي إن المشي هو الهون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي ) هَوْناً ( مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينا ، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ، لأن رب ماش ) هَوْناً ( رويداً وهو ذنب أطلس . وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب . وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام : ( من مشى منكم في طمع فليمش رويداً ) . أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر : كلهم يمشي رويدا
كلهم يطلب صيداً
وقال الزهري : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه ، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط . وقال زيد بن أسلم : أنه رأى في النوم من فسر له ) الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض . وقال عياض بن موسى : كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعد وخطوة خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال : ( إنما ينحط من صبب ) . وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً .
( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ ( أي مما لا يسوغ الخطاب به ) قَالُواْ سَلاَماً ( أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه ) سَلَامٌ عَلَيْكَ ( قاله الأصم . وقال مجاهد : قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا . وقيل : هو على إضمار فعل تقديره سلمنا ) سَلاَماً ( فهو جزء من متعلق الجملة المحكية . قال ابن عطية : والذي أقوله أن ) قَالُواْ ( هو العامل في ) سَلاَماً ( لأن المعنى قالوا هذا اللفظ . وقال الزمخشري : تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم . وقيل : قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
انتهى . وقال الكلبي : وأبو العالية نسختها آية القتال . وقال ابن عطية : وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم القيامة ، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه . ورجح به أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة ، والآية مكية فنسختها آية السيف . وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة ، فقال له : إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك ، وكان حكى ذلك للمأمون قال : فما رأيت له(6/469)
" صفحة رقم 470 "
بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به ؟ قال : كان يقول لي سلاماً سلاماً ، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب . فخزي إبراهيم واستحيا ، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية .
والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم ، وهو خلاف الظلول وبجبيلة وأزد السراة يقولون : بيات وسائر العرب يقولون : يبيت ،
الفرقان : ( 64 ) والذين يبيتون لربهم . . . . .
ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره . وقيل : من قرأ شيئاً من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجداً وقائماً . وقيل : هما الركعتان بعد المغرب ، والركعتان بعد العشاء . وقيل : من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية . وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة . وقدم السجود وإن كان متأخراً في الفعل لأجل الفواصل ، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله . وقرأ أبو البرهثيم : سجوداً على وزن قعوداً .
الفرقان : ( 65 ) والذين يقولون ربنا . . . . .
ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء . قال ابن عباس : ) غَرَاماً ( فظيعاً وجيعاً . وقال الخدري : لازماً ملحاً دائماً . قال الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم . وقال السدّي : شديداً . وأنشدوا على أن ) غَرَاماً ( لازماً قوله الشاعر وهو بشر بن أبي خازم : ويوم اليسار ويوم الجفار
كانا عذاباً وكانا غراماً
وقال الأعشى . إن يعاقب يكن غراما
وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم .
الفرقان : ( 66 ) إنها ساءت مستقرا . . . . .
و ) سَاءتْ ( احتمل أن يكون بمعنى بئست . والمخصوص بالذم محذوف وفي ) سَاءتْ ( ضمير مبهم ويتعين أن يكون ) مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( تمييز . والتقدير ) سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبراً لأن . ويجوز أن يكون ) سَاءتْ ( بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفاً أي ساءتهم . والفاعل ضمير جهنم وجاز في ) مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر . والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولاً لزوم عذابها ، وثانياً مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان . وقيل : هما مترادفان ، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم . وقيل : هو من كلام الله ، ويظهر أن قوله ) وَمُقَاماً ( معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان . وقيل : المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون ، والإقامة للكفار . وقرأت فرقة ) وَمُقَاماً ( بفتح الميم أي مكان قيام ، والجمهور بالضم أي مكان إقامة .
الفرقان : ( 67 ) والذين إذا أنفقوا . . . . .
( لَمْ يُسْرِفُواْ ( ولم يقتروا . قال أبو عبد الرحمن الجيلي : الإنفاق في غير طاعة اسراف ، والإمساك عن طاعة إقتار . وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد . وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف فقال : لا إسراف في الخير . وقال عون بن عبد الله بن عتبة : الإسراف أن تنفق مال غيرك . وقال النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول : الناس قد أسرف . وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ قال له عمر : الحسنة بين(6/470)
" صفحة رقم 471 "
السيئتين . ثم تلا الآية . والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف . وعن أنس في سنن ابن ماجة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته ) . وقال الشاعر : ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي
دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال حاتم
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله
فرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم : يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع ، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق . وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعياً هنا . وقال أقتر إذا افتقر . ومنه ) وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره : من اقتر بمعنى ضيق ، والقوام الاعتدال بين الحالتين . وقرأ حسان بن عبد الرحمن ) قَوَاماً ( بالكسر . فقيل : هما لغتان بمعنى واحد . وقيل : بالكسر ما يقام به الشيء يقال : أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص . وقيل : ) قَوَاماً ( بالكسر مبلغاً وسداداً وملاك حال ، و ) بَيْنَ ذالِكَ ( و ) قَوَاماً ( يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر ) كَانَ ( وأن يكون ) بَيْنَ ( هو الخبر و ) قَوَاماً ( حال مؤكدة ، وأن يكون ) قَوَاماً ( خبراً و ) بَيْنَ ذالِكَ ( إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف ، وأن يكون حالاً من ) قَوَاماً ( لأنه لو تأخر لكان صفة ، وأجاز الفراء أن يكون ) بَيْنَ ذالِكَ ( اسم ) كَانَ ( وبُني لإضافته إلى مبني كقوله ) وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ ( في قراءة من فتح الميم و ) قَوَاماً ( الخبر .
قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى .
وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله خوطب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقوله ) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً ( الآية .
الفرقان : ( 68 - 70 ) والذين لا يدعون . . . . .
( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ ( الآية سأل ابن مسعود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي الذنب أعظم ؟ فقال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) . قال : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) . قال : ثم أي ؟ قال : ( أن تزاني حليلة جارك ) . فأنزل الله تصديقها ) وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ ( الآية . وقيل : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، فقالوا : إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى ) غَفُوراً رَّحِيماً ). وقيل : نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل . قال الزمخشري : نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدفين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم ، كأنه قيل : والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه . وقال ابن عطية : إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً انتهى . وتقدم تفسير نظير ) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( في(6/471)
" صفحة رقم 472 "
سورة الأنعام . وقرىء ) يَلْقَ ( بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء يلقى بألف ، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف . والآثام في اللغة العقاب وهو جزاء الإثم . قال الشاعر : جزى الله ابن عروة حيث أمسى
عقوق والعقوق له آثام أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد . وقال عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير : آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقاباً للكفرة . وقال أبو مسلم : الآثام الإثم ، ومعناه ) يَلْقَ ( جزاء آثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه . وقال الحسن : الآثام اسم من أسماء جهنم . وقيل : بئر فيها . وقيل : جبل . وقرأ ابن مسعود : يلق أياماً جمع يوم يعني شدائد . يقال : يوم ذو أيام لليوم العصيب . وذلك في قوله ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ( يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا ، فيكون التضعيف مرتباً على مجموع هذه المعاصي ، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها . ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم .
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( مبنياً للمفعول وبألف ) وَيَخْلُدْ ( مبنياً للفاعل . والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلاّ أنهم شددوا العين وطرحوا الألف . وقرأ أبو جعفر أيضاً وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون مضمومة وكسر العين مشددة ) الْعَذَابَ ( نصب . وطلحة بن مصرف ) يُضَاعِفُ ( بالياء مبنياً للفاعل ) الْعَذَابَ ( نصب . وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعاً أي وتخلد أيها الكافر . وقرأ أبو حيوة ) وَيَخْلُدْ ( مبنياً للمفعول مشدد اللام مجزوماً . ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففاً . وقرأ أبو بكر عن عاصم ) يُضَاعِفُ ( ) وَيَخْلُدْ ( بالرفع عنهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم ) يُضَاعِفُ ( ) وَيَخْلُدْ ( مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً . والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً . والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من ) يَلْقَ ). كما قال الشاعر : متى تأتنا تلمم بنافي ديارنا
تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً
والضمير في ) فِيهِ ( عائد على العذاب ، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير حق مقبولة خلافاً لابن عباس ، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس . وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة . وقال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنة ، ولكن السيئة تُمْحَى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات . وتأول ابن مسيب ومكحول أن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو . وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات . وقالا تُمحى السيئة ويثبت بدلها حسنة . وقال القفال والقاضي : يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما .
( إِلاَّ مَن تَابَ ( استثناء متصل من الجنس ، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( فيصير التقدير ) إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( فلا يضاعف له العذاب . ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعاً أي لكن من تاب وآمن عمل صالحاً ) فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة و ) سَيّئَاتِهِمْ ( هو المفعول الثاني ، وهو أصله أن يكون مقيداً بحرف الجر أي بسيئاتهم . و ) حَسَنَاتٍ ( هو المفعول الأول وهو المصرح كما قال تعالى ) وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ). وقال الشاعر :(6/472)
" صفحة رقم 473 "
تضحك مني أخت ذات النحيين
أبد لك الله بلون لونين
سواد وجه وبياض عينين
الفرقان : ( 71 ) ومن تاب وعمل . . . . .
الظاهر أن ) وَمَن تَابَ ( أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه وإحسانه . قال ابن عطية ) وَمَن تَابَ ( فإنه قد تمسك بأمر وثيق . كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر : لقد قلت يا فلان قولاً فكذلك الآية معناها مدح المتاب ، كأنه قال : فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيماً . وقال الزمخشري : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين ، ويفعل بهم ما يستوجبون ، والله يحب التوّابين ويحب المتطهرين . وقيل : من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليها ويتوجه بها إلى الله . وقيل ) مَن تَابَ ( من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . وقيل : ) وَمَن تَابَ ( استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقاً عند الله .
الفرقان : ( 72 ) والذين لا يشهدون . . . . .
( وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ( عاد إلى ذكر أوصاف ) عِبَادُ الرَّحْمَنِ ( والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور ، قاله عليّ والباقر فهو من الشهادة . وقيل : المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى . أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون ، أقوال . فالشرك قاله الضحاك وابن زيد ، والغناء قاله مجاهد ، والكذب قاله ابن جريج . وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل . وعن ابن الحنفية : اللهو والغناء . وعن مجاهد : أعياد المشركين و ) اللَّغْوَ ( كل ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح . والمعنى ) وَإِذَا مَرُّواْ ( بأهل اللغو ) مَرُّواْ ( معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم . والخوض معهم لقوله ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( انتهى .
الفرقان : ( 73 ) والذين إذا ذكروا . . . . .
( بآيَاتِ رَبّهِمْ ( هي القرآن . ) لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ( النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه ، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد ، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أَكَبّوا عليها حرصاً على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية ، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم ، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر ، وكانوا ) صُمّاً وَعُمْيَاناً ( حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها . قال ابن عطية : بل يكون خرورهم سجداً وبكياً كما تقول : لم يخرج زيد إلى الحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً معدماً ، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام وترتيب ، وإن كان قد أشبه الذي يَخّر ساجداً لكن أصله أنه على غير ترتيب انتهى . وقال السدّي ) لَمْ يَخِرُّواْ ( ) صُمّاً وَعُمْيَاناً ( هي صفة للكفار ، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك . وقرن ذلك بقولك : قعد فلان يتمنى ، وقام فلان يبكي ، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة .
الفرقان : ( 74 ) والذين يقولون ربنا . . . . .
( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( كناية عن السرور والفرح ، وهو مأخوذ من القر وهو البرد . يقال : دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، ويقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله عين العدو . وقال أبو تمام : فأما عيون العاشقين فأسخنت
وأما عيون الشامتين فقرت
وقيل : مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره . وقال أبو عمرو : وقرة العين النوم أي آمناً لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال ، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافروا والزوج والزوجة كافرة ، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم . وقال(6/473)
" صفحة رقم 474 "
ابن عباس : قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا بهم . وقيل : سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم انتهى . ويتضمن هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا . ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي ) هَبْ لَنَا ( من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح ، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال : كأنه قيل ) هَبْ لَنَا ( ) قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ثم بينت القرة وفسرت بقوله ) مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا ( ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك : رأيت منك أسداً أي أنت أسد انتهى . وتقدم لنا أن ) مِنْ ( التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين . ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس . والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن .
وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد . وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات على الجمع ، والجمهور على الإفراد . ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وجاء ) أَعْيُنِ ( بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري . وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع ، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جداً وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد . وأفرد ) إِمَاماً ( إما اكتفاء بالواحد عن الجمع ، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا لبس ، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد ) إِمَاماً ( وإما أن يكون جمع آمّ كحال وحلال ، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا : واجعلنا إماماً واحد ادعوا الله أن يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي . وقيل : في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب .
الفرقان : ( 75 ) أولئك يجزون الغرفة . . . . .
ونزلت في العشرة المبشرين بالجنة .
( أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة . و ) الْغُرْفَةَ ( اسم معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء ) وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامَنُواْ ( وهي العلالي . قال ابن عباس : وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت . وقيل ) الْغُرْفَةَ ( من أسماء الجنة . وقيل : السماء السابعة غرفة . وقيل : هي أعلى منازل الجنة . وقيل : المراد العلو في الدرجات والباء في ) بِمَا صَبَرُواْ ( للسبب . وقيل : للبدل أي بدل صبرهم كما قال :
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا
أي فليت لي بدلهم قوماً ولم يذكر متعلق الصبر مخصصاً ليعم جميع متعلقاته . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر ) وَيُلَقَّوْنَ ( بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة . وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف . والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة ، أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضاً . وقيل : يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم .
الفرقان : ( 76 ) خالدين فيها حسنت . . . . .
( حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( معادل لقوله في جهنم ) سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ).
الفرقان : ( 77 ) قل ما يعبأ . . . . .
ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في قوله ) لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ( هو العبادة والظاهر أن ) مَا ( نفي أي ليس ) يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ( ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي ، أي عبء يعبأ بكم ، و ) دُعَاؤُكُمْ ( مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلهة . وقيل : أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته . والذي يظهر أن قوله ) قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ ( خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد .
( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ( بما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )(6/474)
" صفحة رقم 475 "
، فتستحقون العقاب ) فَسَوْفَ يَكُونُ ( العقاب وهو ما أنتجه تكذبيكم ونفس لهم في حلوله بلفظة ) فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ( أي لازماً لهم لا ينفكون منه . وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير : فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا قرآن ، والأكثرون على أن اللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأُبَيّ . وقيل : عذاب الآخرة . وقيل : الموت ولا يحمل على الموت المعتاد بل القتل ببدر . وقيل : التقدير ) فَسَوْفَ يَكُونُ ( هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ ) فَسَوْفَ يَكُونُ ( العذاب ) لِزَاماً ( والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف . وعن ابن عباس ) فَسَوْفَ يَكُونُ ( هو أي التكذيب ) لِزَاماً ( أي لازماً لكم لا تعطون توبة ذكره الزهراوي . قال الزمخشري : والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون ، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب ) فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ( يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أنى لا أعتد إلاّ بعبادتهم ، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار . ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن عصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري ، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك . وقرأ ابن جريج : فسوف تكون بتاء التأنيث أي فسوف تكون العاقبة ، وقرأ الجمهور ) لِزَاماً ( بكسر اللام . وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السمال بفتحها مصدر يقول لزم لزوماً ولزاماً ، مثل ثبت ثبوتاً وثباتاً . وأنشد أبو عبيدة عليّ كسر اللام لصخر الغي : فإما ينج من حتف أرض
فقد لقيا حتوفهما لزاماً
ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار معدول عن الفجرة .(6/475)
" صفحة رقم 3 "
( سورة الشعراء )
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طسم تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاٌّ رْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأايَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاإِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِىأُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْم(7/3)
" صفحة رقم 4 "
ٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاّجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِىإِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَاؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَآءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاٌّ خَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّ قْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِىإِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِىأَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاٌّ خِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لاًّبِىإِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ(7/4)
" صفحة رقم 5 "
فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( )
الشعراء : ( 1 ) طسم
الشرذمة : الجمع القليل المحتقر ، وشرذمة كل شيء : بقيته الخسيسة : وأنشد أبو عبيدة :
في شراذم البغال وقال آخر :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه وقال الجوهري : الشرذمة : الطائفة من الناس ، والقطعة من الشيء ، وثوب شراذم : أي قطع . انتهى . وقيل : السفلة من الناس . كبكبه : قلب بعضه على بعض ، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين . وقال الزمخشري : الكبكبة : تكرير الكب ، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى . وقال ابن عطية : كبكب مضاعف من كب ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح ، لأن معناهما واحد ، والتضعيف في الفعل نحو : صر وصرصر . انتهى . وقول الزمخشري وابن عطية هو قول الزجاج ، وهو أنه يزعم أن نحو كبكبه مما يفهم المعنى بسقوط ثالثه ، هو مما ضوعف فيه الباء . وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني ، فكان أصله كبب ، فأبدل من الباء الثانية كاف ، الحميم : الولي القريب ، وحامة الرجل : خاصته . وقال الزمخشري : الحميم من الاحتمام ، وهو الاهتمام ، وهو الذي يهمه ما أهمك ؛ أو من الحامة بمعنى الخاصة ، وهو الصديق الخالص .
( طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِئَايَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ).
هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من : ) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( إلى آخر السورة ، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة . وقال مقاتل : ) أَوَّلُ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً ( ، الآية مدنية . ومناسبة أولها الآخر ما قبلها أنه قال تعالى : ) فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ( كذر تلهف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على كونهم لم يؤمنوا ، وكونهم كذبوا بالحق ، لما جاءهم . ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله : ) فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ( ، أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم ) أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ ). وتلك إشارة إلى آيات السورة ، أو آيات القرآن . وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي ، وأبو بكر وباقي السبعة : بالفتح ؛ وحمزة بإظهار نون سين ، وباقي السبعة بإدغامها ؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص ، وجاء كذلك عن نافع . وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع ، وهي قراءة أبي جعفر . وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي ، فتركت نقهل ، إذ لا دليل على(7/5)
" صفحة رقم 6 "
شيء مما قالوه .
( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( : هو القرآن ، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام والشرائع وسائر ما اشتمل عليه ، أو مبى ن إعجازه وصحة أنه من عند الله . وتقدم تفسير ) بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( في أول الكهل . ) أَلاَّ يَكُونُواْ ( : أي لئلا يؤمنوا ، أو خيفة أن لا يؤمنوا . وقرأ قتادة وزيد بن علي : باخع نفسك على الإضافة . ) إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ ( ، دخلت إن على نشأ وإن للممكن ، أو المحقق المنبهم زمانه . قال ابن عطية : ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حزينا ، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار ، وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ، ليهتدي من سبق في علمه هداه ، ويضل من سبق ضلاله ، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إذ لو كانت . انتهى . ومعنى آية : أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه . وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه : إن يشأ ينزل على الغيبة ، أي إن يشأ الله ينزل ، وفي المصاحف : لو شئنا لأنزلنا . وقرأ الجمهور : فظلت ، ماضياً بمعنى المستقبل ، لأنه معطوف على ينزل . وقرأ طلحة : فتظلل ، وأعناقهم . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق ؟ قلت ؛ أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، كان الأهل غير مذكور . انتهى . وقال مجاهد ، وابن زيد ، والأخفش : جماعاتهم ، يقال : جاءني عنق من الناس ، أي جماعة ، ومنه قول الشاعر : إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا وقيل : أعناق الناس : رؤساؤهم ، ومقدموهم شبهوا بالأعناق ، كما قيل :
لهم الرؤوس والنواصي والصدور قال الشاعر :
في مجفل من نواصي الخيل مشهود
وقيل : أريد الجارحة . فقال ابن عبسى : هو على حذف مضاف ، أي أصحاب للأعناق . وروعي هذا المحذوف في قوله : ) خَاضِعِينَ ( ، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل ، أولاً حذف ، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه ، فأخبر عنه إخباره ، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو :
كما شرقت صدر القناة من الدم
أولاً حذف ، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع ، جمعت جمعه كما جاء : ) أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). (7/6)
" صفحة رقم 7 "
وقرأ عيسى ، وابن أبي عبلة : خاضعة . وعن ابن عباس : فنزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ، ستكون لنا عليهم الدولة ، فتذل أعناقهم بعد معاوية ، ويلحقهم هوان بعد عز . ) وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ). تقدم تفسيره في الأنبياء . ) إِلاَّ كَانُواْ ( : جملة حالية ، أي إلا يكونوا عنها . وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد ، وهو الإعراض ؟ قلت : كان قبل حين أعرضوا عن الذكر ، فقد كذبوا به ، وحين كذبوا به ، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية ، لأن من كان قابلاً للتحق مقبلاً عليه ، كان مصدقاً به لا محالة ، ولم يظن به التكذيب . ومن كان مصدقاً به ، كان موقراً له . انتهى .
( فَسَيَأْتِيهِمْ ( : وعيد بعذاب الدنيا ، كيوم بدر ، وعذاب الآخرة . ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود ، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر ، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ، نبه تعالى على قدرته ، وأنه الخالق المنشيء الذي يستحق العبادة بقوله : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ ( ؟ والزوج : النوع . وقيل : الشيء وشكله . وقيل : أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض . وقال الفراء : الزوج : اللون . والكريم : الحسن ، قاله مجاهد وقتادة . وقيل : ما يأكله الناس والبهائم . وقيل : الكثير المنفعة . وقيل : الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد . وجه كريم : مرضي في حسنه وجماله ؛ وكتاب كريم : مرضي في معانيه وفوائده . وقال : حتى يشق الصفوف من كرمه ، أي من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور ، والأغذية والنباتات ، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين . قال تعالى : ) وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ). قال الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن صار إلى الجنة فهو كريم ، ومن صار إلى النار فبضد ذلك .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل ؟ ولو قيل : ) أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( قلت : دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ؟ فهذا معنى الجمع ، وبه نبه على كمال قدرته . انتهى . وأفرد ) لآيَةً ( ، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج ، وهو كم ، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج ، لأن المشار إليه واحد ، وهو الإنبات ، وإن اختلفت متعلقاته ، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية . ) وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( : تسجيل على أكثرهم بالكفر . ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( : أي الغالب القاهر . ولما كان الموضع موضع بيان القدرة ، قدم صفة العزة على صفة الرحمة . فالرحمة إذا كانت عن قدرة ، كانت أعظم وقعاً ، والمعنى : أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة . ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه ، ذكر قصة موسى عليه السلام ، وما قاسى مع فرعون وقومه ، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار قريش . وإذ كانت قريش . وإذ كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله ، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلاهاً ، وكان أتباع ملة موسى عليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بدأ بقصة موسى ، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص . والعامل في قال الزجاج ، اتل مضمرة ، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى ، ودليل ذلك ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ( إذ . وقيل : العامل اذكر ، وهو مثل واتل ، ومعنى نادى : دعا . وقيل : أمر . وأن : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون تفسيرية ، وسجل عليهم بالظلم ، لظلم أنفسهم بالكفر ، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد ، وذبح الأولاد ، و ) قَوْمِ فِرْعَونَ ( ، وقيل : بدل من ) الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، وسوغه مستقل بالإسناد . ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك ، أتى عطف البيان بإزالته(7/7)
" صفحة رقم 8 "
إذ هو أشهر . وقرأ الجمهور : ألا يتقون ، بالياء على الغيبة . وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وشقيق بن سلمة ، وحماد بن سلمة ، وأبو قلابة : بتاء الخطاب ، على طريقة الالتفات إليهم إنكاراً وغضباً عليهم ، وإن لم يكونوا حاضرين ، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم . قال ابن عطية : معناه قل لهم ، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : ) أَلا يَتَّقُونَ ( ؟ قلت : هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف ، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله . ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاً من الضمير في الظالمين ، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال . انتهى . وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين ، وقد أعرب هو ) قَوْمِ فِرْعَونَ ( عطف بيان ، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما ، لأن قوم فرعون معمول لقوله : ) ائْتَ ( والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين ، وذلك لا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله : قوم فرعون . لم يجز أن تكون الجملة حالاً ، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها . وقولك : جئت أمسرعاً ؟ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز ، فلو أضمرت عاملاً بعد الهمزة جاز . وقرىء : بفتح النون وكسرها ، التقدير : أفلا يتقونني ؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين ، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة . وقال الزمخشري : في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون ، كقوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). انتهى . يعني : وحذف ألف ياخطاً ونطقاً لالتقاء الساكنين ، وهذا تخريج بعيد . والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى ، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح ، وكذلك قول الزمخشري : إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار .
ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلاهية ، كثير المهابة ، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصاً من كان من بني إسرائيل ، قال موسى عليه السلام : ) إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ ). وقرأ الجمهور : ويضيق ، ولا ينطلق ( ، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف . فالمعنى : إنه يفيد ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان . وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن الأعمش ، ويعقوب : بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف . وحكى أبو عمرو الداني ، عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا ينطلق ، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان . وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر ، لم ينطلق اللسان .
فأرسل إلى هارون ( : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه . انتهى .(7/8)
" صفحة رقم 9 "
وقال الزمخشري : ومعنى ) ( ، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف . فالمعنى : إنه يفيد ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان . وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن الأعمش ، ويعقوب : بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف . وحكى أبو عمرو الداني ، عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا ينطلق ، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان . وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر ، لم ينطلق اللسان .
فأرسل إلى هارون ( : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه . انتهى . وقال الزمخشري : ومعنى ) ( : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه . انتهى . وقال الزمخشري : ومعنى ) فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( : أرسل إليه جبريل عليه السلام ، واجعله نبياً ، وأزرني به ، واشدد به عضدي ؛ وهذا كلام مختصر ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال : ) فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( ، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء . وقوله : ) إِنّى أَخَافُ ( إلى آخره ، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين ، ليس توقفاً فيما أمره الله تعالى به ، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه ، حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى ، وتبليغ رسالته ، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب . وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل ، ومفعول أرسل محذوف . فقيل جبريل ، كما تقدم ذكره ، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون ، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبياً بالشام . قال السدي : سار بأهله إلى مصر ، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال : أنا موسى ، فتعارفا ؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة ، فصاحت أمهما لخوفهما عليه ، فذهبا إليه .
( وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ ( : أي قبلي قود ذنب ، أو عقوبة ، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها ، أو سمى تبعة الذنب ذنباً ، كما سمى جزاء السيئة سيئة . وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة ، بل قال ذلك استدفاعاً لما يتوقعه منهم من القتل ، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ويدل على ذلك قوله : كلا ، وهي كلمة الردع ، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع . وكلا رد لقوله : ) إِنّى أَخَافُ ( ، أي لا تخف ذلك ، فإني قضيت بنصرك وظهورك . وقوله : ) فَاذْهَبَا ( ، أمر لهما بخطاب لموسى فقط ، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع ، ولكنه قال لموسى : ) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ ). قال الزمخشري : جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله : ) كَلاَّ فَاذْهَبَا ( ، لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده الدفع بردعه عن الخوف ، والتمس المؤازرة بأخيه ، فأجابه بقوله : اذهب ، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون . فإن قلت : علام عطف قوله اذهبا ؟ قلت : على الفعل الذي يدل عليه كلا ، كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت وهارون بآياتنا ، يعم جميع ما بعثهما الله به ، وأعظم ذلك العصا ، وبها وقع العجز . قال ابن عطية : ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها ، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له ووزيراً . انتهى . ومعكم ، قيل : من وضع الجمع موضع المثنى ، أي معكما . وقيل : هو على ظاهره من الجمع ، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه . وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى ، والخطاب لموسى وهارون فقط ، قال : لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً ، فإنه لا يقال الله معه . وعلى أنه أريد بالجمع التثنية ، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله ، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع ، إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته .
قال ابن عطية : ) مُّسْتَمِعُونَ ( اهتبالاً ، ليس في صيغة سامعون ، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع ، وإنما القصد إظهار التهم ليعظم أنس موسى ، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع . وقال الزمخشري : ) مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ ( من مجاز الكلام ، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه ، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه . انتهى . ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون ، وأن يكون خبراً ومستمعون خبر ثان . والمعية هنا مجاز ، وكذلك الاستماع ، لأنه بمعنى الإصغاء ، ولا يلزم من الاستماع السماع ، تقول : أسمع إليه ، فما سمع واستمع إليه ، فسمع كما قال : ) اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا ( ، وأفرد رسول هنا ولم يثن ، كما في قوله : ) إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ( ، إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة ، فجاز أن يقع مفرداً خبر المفرد فما فوقه ، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة ، فكأنهما رسول واحد . وأريد بقوله : أنا أوكل واحد منا رسول .
( وَرَسُولٌ رَبّ الْعَالَمِينَ ( فيه رد عليه ، وأنه مربوب لله تعالى ، بادهه(7/9)
" صفحة رقم 10 "
بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية ، ولذلك أنكر فقال : وما رب العالمين والمعنى إليك ، ( وَأَنْ أُرْسِلَ ( : يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول ، وأن تكون مصدرية ، وأرسل بمعنى أطلق وسرح ، كما تقول : أرسلت الحجر من يدي ، وأرسلت لصقر . وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين : إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية ، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين ، وكانت مسكن موسى وهارون .
( قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أُوْحِى لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ).
ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون ، ولم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه . فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى فقال له : ) أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون ، فقالا له ذلك . ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين ، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده ، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية . والوليد الصبي ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة . وقرأ أبو عمرو في رواية : من عمرك ، بإسكان الميم ، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه . وقرأ الجمهور : فعلتك ، بفتح الفاء ، إذ كانت وكزة واحدة ، والشعبي : بكسر الفاء ، يريد الهيئة ، لأن الوكزة نوع من القتل . عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال ، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل ، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي ، وعظم ذلك بقوله : ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ ( ، لأن هذا الإبهام ، بكونه لم يصرح أنها القتل ، تهويل للواقعة وتعظيم شأن . ) وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( : يجوز أن يكون حالاً ، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين ، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك ، والأنبياء عليهم السلام معصومون . ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون ، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان ، قاله ابن زيد ؛ أو من الكافرين بي في أنني إلاهك ، قاله الحسن ؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن ، قاله السدي .
( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً ( : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل ، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية ، لأنه فيه إزهاق النفس . قال ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ . انتهى . وليس بصلة ، بل هي حرف معنى . وقوله وكأنها بمعنى حينئذ ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى ، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ . وقال الزمخشري : فإن قلت : إذاً جواب وجزاء معاً ، والكلام وقع جواباً لفرعون ، فكيف وقع جزاء ؟ قلت : قول فرعون : ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ( فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت ؛ فقال له موسى : نعم فعلتها ، مجازياً لك تسليماً لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء . انتهى . وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً ، هو قول سيبويه ، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً ، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء . فالمعنى اللازم لها هو الجواب ، وقد يكون مع ذلك جزاء . وحملوا قوله : ) فَعَلْتُهَا إِذاً ( من المواضع التي جاءت فيها جواباً بالآخر ، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً ، وهذا كله محرر(7/10)
" صفحة رقم 11 "
فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل ، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح ، ولا قول الأكثرين .
( وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( ، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين ، بأن وكزني إياه تأتي على نفسه . وقال أبو عبيدة : من الناسين ، ونزع لقوله : ) أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا ). وفي قراءة عبد الله ، وابن عباس : وأنا من الجاهلين ، ويظهر أنه تفسير للضالين ، لا قراءة مروية عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل ، كما قال يوسف لإخوته : ) إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ( أو المخلصين ، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو الذاهبين عن تلك الصفة . انتهى . وقيل : من الضالين ، يعني عن النبوة ، ولم يأتني عن الله فيه شيء ، فليس على فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ . ومن غريب ما شرح به أن معنى ) وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( ، أي من المحبين لله ، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله . قيل : والضلال يطلق ويراد به المحبة ، كما في قوله : ) إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ( ، أي في محبتك القديمة . وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في : تمنها وعبدت ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، وإنما منه ومن ملته المذكورين قبل ) أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمِ فِرْعَونَ ( ، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله . ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ). وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب ، على قول سيبويه ، وظرفاً بمعنى حين ، على مذهب الفارسي . وقرأ حمزة في رواية : لما بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي يخوفكم . وقرأ عيسى : حكماً بضم الكاف ؛ والجمهور : بالإسكان . والحكم : النبوة . ) وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( : درجة ثانية للنبوة ، فرب نبي ليس برسول . وقيل : الحكم : العلم والفهم .
( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ ( : وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : ) أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( ؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله : ) أَلَمْ نُرَبّكَ بِكَ ). والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي . وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري . وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه يقول : أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك . وقرأ الضحاك : وتلك نعمة ماألك أن تمنها ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله . والقول الأول فيه إنصاف واعتراف . وقال الأخفش : والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت لدلالة المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً ، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك ، وحكى : ترى زيداً منطلقاً ، بمعنى : ألا ترى ؟ وكان الأخفش الأصغر يقول : أخذه من ألفاظ العامة . وقال(7/11)
" صفحة رقم 12 "
الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به . وقيل : اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها . وقال الزمخشري : وأبي ، يعني موسى عليه السلام ، أن يسمي نعمته أن لا نعمة ، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت . وتعبيدهم : تذليلهم واتخاذهم عبيداً ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبداً ، قال الشاعر : علام يعبدني قومي وقد كثرت
فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان
فإن قلت : وتلك إشارة إلى ماذا ؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب ؟ قلت : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة ، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ؛ ومحل أن عبدت الرفع ، عطف بيان لتلك ، ونظيره قوله تعالى : ) وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( ، والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ . وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة عليّ ، لأن عبدت بني إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم . انتهى . وقال الحوفي : ) أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ ( في موضع نصب مفعول من أجله . وقال أبو البقاء : بدل ، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم يسأل إذ ذاك فيقول : ) وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي . فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل ، وكان في قوله : رسول رب العالمين دعاء إلى الإقرار بربوبية الله ، وإلى طاعة رب العالم ، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده . والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة ، وكان عالماً بالله . ويدل عليه : ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ( ، ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية ، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء . قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس ، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن . انتهى . والموضع الآخر قوله : ) فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى ( ؟ ولما سأله فرعون ، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما . وقال الزمخشري : وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه ليس مما شاهد وعرف من الأجرام والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ ( شيء . وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك ؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق . والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه ، ألا نرى أنه يعلم حدوثه بعد العدم ؟ وأنه محل للحوادث ؟ وأنه لم يدعّ الإلاهية إلا في محل ملكه مصر ؟ وأنه لم يكن ملك الأرض ؟ بل كان فيها ملوك غيره ، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام ؟ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره ؟ وجاء قوله : ) وَمَا بَيْنَهُمَا ( على التثنية ، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين : جنس السماء ، وجنس الأرض ؛ كما ثنى المظهر في قوله :
بين رماحي مالك ونهشل
اعتباراً للجنسين : وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة . وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله ، وهو قوله : ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء ( الآية . ويحتمل أنه كان على(7/12)
" صفحة رقم 13 "
مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة إلاه لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم . ويحتمل أن يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات الإلاه تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإلاه سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلاهاً . انتهى . ومعنى : ) إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ، نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفعكم ؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله . وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد .
( قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ( : هم أشراف قومه . قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور ، وكانت للملوك خاصة . ) إِلا تَسْمَعُونَ ( : أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً ، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم . قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية . انتهى . يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلاهية ، وأقاموا ملوكاً بمصر ، من زمان المعز إلى زمان العاض ، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه ، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم . ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم ، وجاء في قوله : الأولين ، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم . وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلاهية ، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلاهاً هم .
( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ). قال أبو عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم ، وعدمهم بعد وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة . والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى عليه السلام : ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( : فعدل إلى طرق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق : طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار .
وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : ) رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( ، فأجابه نمروذ بقوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( ، فقال : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( : أي إن كنتم من العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال ابن عطية : زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلا ملك معصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية . وقرأ مجاهد ، وحميد ، والأعرج : أرسل إليكم ، على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم . وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، والأعمش : رب المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما . ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج ، رجع إلى الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه : ) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ). وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ، عجب قومه من جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى قومه وظنن به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : ) لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى ).
فإن قلت : كيف قال :(7/13)
" صفحة رقم 14 "
أولاً : ) إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( ، وآخراً : ) إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( ؟ قلت : لأين أولاً ، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله : ) إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ). فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من ) لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( ومؤدّياً مؤدّاه ؟ قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني . وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً ، لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل . انتهى . ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : ) أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ( ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني ؟ قال الزمخشري : أو لو جئتك ، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين ؟ انتهى . وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله : ) أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ ( ، فأغنى عن إعادته . وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى : أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها ؟ .
ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : ) فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا . قال الزمخشري : وفي قوله : ) إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا صدق الكاذب . ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل القبلة ، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات . انتهى . وتقديره : إن كنت من الصادقين فأئت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه . وقدره الزمخشري : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به . جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً ، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقوله : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم . وقال الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً . ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فائت به . وقول الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها . والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة ، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي ، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي ، أو على سبيل الإرهاص لنبي .
( فَأَلْقَى عَصَاهُ ( : رماها من يده ، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام . والثعبان : أعظم ما يكون من الحيات . ومعنى ) مُّبِينٌ ( : ظاهر الثعبانية ، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر . ) وَنَزَعَ يَدَهُ ( من جيبه ، فإذا هي تلألأ كأنها قطعة من الشمس . ومعنى ) لِلنَّاظِرِينَ ( : أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضاً نورانياً . روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : فهل غيرها ؟ فأخرج يده ، فقال : ما هذه ؟ قال : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق .
( قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْر(7/14)
" صفحة رقم 15 "
َ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ).
قال ابن عطية : وانتصب حوله على الظرف ، وهو في موضع الحال ، أي كائنين حوله ، فالعامل فيه محذوف ، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له ، قال : لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر ، نحو : مررت بهند ضاحكة . والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً ، فكأنه قيل : قال للذي حوله ، فلا موضع للعامل في الظرف ، لأنه وقع صلة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في حوله ؟ قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في المحل . فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف ، وذلك استقروا حوله ، وهذا يقدر في جميع الظروف ، والعامل في النصب المحلي ، وهو النصب على الحال . انتهى . وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية .
ولما رأى فرعون أمر العصا واليد ، وما ظهر فيهما من الآيات ، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر . وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من يقاومه ، أو كان علم صحة المعجزة . وعمى تلك الحجة على قومه ، برميه بالسحر ، وبأنه ) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ( ، ليقوي تنفيرهم عنه ، وابتغاؤهم الغوائل له ، وأن لا يقبلوا قوله ؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه ، ثم استأمرهم فيما يفعل معه ، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره ، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه ، فصار مأموراً بعد أن كان آمراً . وتقدم الكلام في ) مَاذَا تَأْمُرُونَ ( وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف ، فأغنى عن إعادته . ولما قال : ) إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ، عارضوا بقوله : ) بِكُلّ سَحَّارٍ ( ، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة ، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب . وقرأ الأعمش ، وعاصم في رواية : بكل ساحر . واليوم المعلوم : يوم الزينة ، وتقدم الكلام عليه في سورة طه . وقوله : ) هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ ( ، استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه استعجالهم ، كما يقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق ؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق ، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف ، ومنه قول تأبط شراً : هل أنت باعث ديناراً لحاجتناأو عند رب أخا عون بن مخراق
يريد : ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطىء به . وترجوا اتباع السحرة ، أي في دينهم ، إن غلبوا موسى عليه السلام ، ولا يتبعون موسى في دينه . وساقوا الكلام سياق الكناية ، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام . ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها ، وهي جواب وجزاء . ) قَالَ فِرْعَوْنُ ( : الظاهر أن الباء للقسم ، والذي تتعلق به الباء محذوف ، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً ، كما يقال للملوك : أمروا رضي الله عنهم بكذا ، فيخبر عنه إخبار الغائب ، وهذا من نوع إيمان الجاهلية . وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية ، لا يرضون بالقسم بالله ، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف ، فحينذ يستوثق منه . وقال ابن عطية : بعد أن ذكر أنه قسم قال : والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه ، إذ كانوا يعبدونه ؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء : بسم الله ، وعلى بركة الله ، ونحو هذا . وبين قوله : ) قَالَ لَهُمْ مُّوسَى ( ، وقوله : ) لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ، كلام محذوف ، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى . قال الزمخشري : فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به ؟ قلت : هو الله عز وجل ، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم ، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة ، ولك أن لا تقدر فاعلاً ، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا . انتهى . وهذا القول الآخر ليس بشيء . لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه ، أما أنه لا يقدر فاعل ، فقول ذاهب عن الصواب .(7/15)
" صفحة رقم 16 "
وقال ابن عطية : قرأ البزي ، وابن فليح ، عن ابن كثير : بشد التاء وفتح اللام وشد القاف ، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن حذف همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين . انتهى . كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكون الوصل مخالفاً للوقف ، والوقف مخالفاً للوصل ، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك .
( قَالُواْ لاَ ضَيْرَ ( : أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب ، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه . يقال : ضاره يضيره ضيراً ، وضاره يضوره ضوراً . إنا إلى ربنا : أي إلى عظيم ثوابه ، أو : لا ضير علينا ، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه . وقال أبو عبد الله الرازي : لما آمنوا بأجمعهم ، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون ، فبالغ في التنفير من جهة قوله : ) قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل . وبقوله : ) إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ( ، صرح بما رمزه أولاً من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم ، وبقوله : ) فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ، حيث أوعدهم وعيداً مطلقاً ، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب ، فأجابوا بأن ذلك إن وقع ، لن يضير ، وفي قولهم : ) إِنَّا إِلَى رَبَّكَ مُنقَلِبُونَ ( ، نكتة شريفة ، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة ، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته . انتهى ملخصاً . ويدفع هذا الأخير قولهم : ) إِنَّا نَطْمَعُ ( إلى آخره ، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا . والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله : ) وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ). وقيل : يحتمل اليقين . قيل : كقول إبراهيم عليه السلام : ) وَالَّذِى أَطْمَعُ ).
وقرأ الجمهور : ) أَن كُنَّا ( ، بفتح الهمزة ، وفيه الجزم بإيمانهم . وقرأ أبان بن تغلب ، وأبو معاذ : إن كنا ، بكسر الهمزة . قال صاحب اللوامح على الشرط : وجاز حذف الفاء من الجواب ، لأنه متقدم ، وتقديره : ) أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ( فإنا نطمع ، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان . انتهى . وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد ، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه ، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز ، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه . وقال الزمخشري : هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته ، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين . ونظيره قول العامل لمن يؤخر . جعله إن كنت عملت فوفني حقي ، ومنه قوله تعالى : ) إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى ( ، مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك . وقال ابن عطية بمعنى : أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط . انتهى . ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون ، فلا يحتمل النفي ، والتقدير : إن كنا لأول المؤمنين . وجاء في الحديث : ( إن كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يحب العسل ) ، أي ليحب . وقال الشاعر : ونحن أباة الضيم من آل مالك
وإن مالك كانت كرام المعادن
أي : وإن مالك لكانت كرام المعادن ، وأول يعني أول المؤمنين من القبط ، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك(7/16)
" صفحة رقم 17 "
المجمع . وقال الزمخشري : وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم ، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ). تقدم الخلاف في ) أَسَرَّ ( ، وأنه قرىء بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود . وقرأ اليماني : أن سر ، أمر من سار يسير . أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر إلى تجاه البحر ، وأخبره أنهم سيتبعون . فخرج سحراً ، جاعلاً طريق الشام على يساره ، وتوجه نحو البحر ، فيقال له في ترك الطريق ، فيقول : هكذا أمرت . فلما أصبح ، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل ، فخرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر . وذكروا أعداداً في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل ، الله أعلم بصحة ذلك . ) إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ ( : أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلاً ، جمع السلام الذي هو للقلة ، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ، والظاهر تقليل العدد . قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة والقماءة ، ولا يريد قلة العدد ، والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم ، ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه . انتهى . قال أبو حاتم : وقرأ من لا يؤخذ عنه : ) لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ( ، وليست هذه موقوفة . انتهى . يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : ) لَغَائِظُونَ ( : أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها ، وخرجوا هاربين . وقرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وزيد بن علي : ) حَاذِرُونَ ( ، بالألف ، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره ، وحذر متعد . قال تعالى : ) يَحْذَرُ الاْخِرَةَ ). وقال العباس بن مرداس :
وإني حاذر أنمي سلاحي
إلى أوصال ذيال صنيع
وقرأ باقي السبعة : بغير ألف وهو المتيقظ . وقال الزجاج : مؤذن ، أي ذوو أدوات وسلاح ، أي متسلحين . وقيل : حذرون في الحال ، وحادرون في المآل . وقال الفراء : الحاذر : الخائف ما يرى ، والحذر : المخلوق حذراً . وقال أبو عبيدة : رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد . وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة ، وأنه يعمل كما يعمل حاذر ، فينصب المفعول به ، وأنشد :
حذر أموراً لا تضير وآمن
ما ليس منجيه من الأقدار(7/17)
" صفحة رقم 18 "
وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو . وعن الفراء أيضاً ، والكسائي : رجل حذر ، إذا كان الحذر في خلقته ، فهو متيقظ منتبه . وقرأ سميط بن عجلان ، وابن أبي عمار ، وابن السميفع : حاذرون ، بالدال المهملة من قولهم : عين حدرة ، أي عظيمة ، والحادر : المتوارم . قال ابن عطية : فالمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة . وقال ابن خالوية : الحادر : السمين القوي الشديد ، يقال غلام حدر بدر . وقال صاحب اللوامح : حدر الرجل : قوي بأسه ، يقال : منه رجل حد بدر ، إذا كان شديد البأس في الحرب ، ويقال : رجل حدر ، بضم الدال للمبالغة ، مثل يقظ . وقال الشاعر : أحب الصبي السوء من أجل أمّة
وأبغضه من بغضها وهو حادر
أي سمين قوي . وقيل : مدجّجون في السلاح . ) فَأَخْرَجْنَاهُمْ ( : الضمير عائد على القبط . ) مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( : بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ، قاله ابن عمر وغيره ، والجمهور : على أنها عيون الماء . وقال ابن جبير : المراد عيون الذهب . ) وَكُنُوزٍ ( : هي الأموال التي خربوها . قال مجاهد : سماها كنوزاً لأنه لم ينفق في طاعة الله قط . وقال الضحاك : الكنوز : الأنهار . قال صاحب التحبير : وهذا فيه نظر ، لأن العيون تشملهما . وقيل : هي كنوز للقطم ومطالبة . قال ابن عطية : هي باقية إلى اليوم . انتهى .
وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية ، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه ، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب . فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل ، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر ، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت . وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر ، نحواً من خمسة وأربعين عاماً ، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر ؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء . يزعمون أن ثمر آباراً ، وأنه يكتب أسماء في شقفة ، فتلقى في البئر ، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر ، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً . فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشفقة ، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً ، ويستأكلونهم ، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم ، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات ، يركنون إليها ويقولون إليها ويقولون بها ، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل .
وقوله تعالى : ) وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ). قال ابن لهيعة : هو الفيوم . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : هو المنابر للخطباء . وقيل : الأسرة في الكلل . وقيل : مجالس الأمراء والأشراف والحكام . وقال النقاش : المساكن الحسان . وقيل : مرابط الخيل ، حكاه الماوردي . وقرأ قتادة ، والأعرج : ومقام ، بضم الميم من أقام كذلك . قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ، والجر على أنه وصف لمقام ، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك . انتهى . فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، ولا يشبه الشيء بنفسه .
والظاهر أن قوله : ) وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( ، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه ، لأنه اعتقب قوله : ) وَأَوْرَثْنَاهَا ( : قوله : ) وأخرجناهم ( ، وقاله الحسن ؛ قال : كما عبروا النهر ، رجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم . وقيل : ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان . وقرأ الجمهور : ) إِسْراءيلَ فَأَتْبَعُوهُم ( : أي فلحقوهم . وقرأ الحسن ، والذماري :(7/18)
" صفحة رقم 19 "
فاتبعوهم ، بوصل الألف وشد التاء . ) مشرفين ( : داخلين في وقت الشروق ، من شرقت الشمس شروقاً ، إذا طلعت ، كأصبح : دخل في وقت الصباح ، وأمسى : دخل في وقت المساء . وقال أبو عبيدة : فاتبعوهم نحو الشرق ، كأنجد : إذا قصد نحو نجد . والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل . وقيل : مشرقين : أي في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة ، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ، فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من المفعول .
فلما تراءى الجمعان ( : أي رأى أحدهما الآخر ، ( ( : أي رأى أحدهما الآخر ، ( الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( : أي ملحقون ، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم ، وساءت ظنونهم . وقرأ الأعمش : وابن وثاب : تراي الجمعان ، بغير همز ، على مذهب التخفيف بين بين ، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين ، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء ، والثانية اللام المعتلة من الفعل . فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة ، وذلك مما لا يكون أبداً ، قاله أبو الفضل الرازي . وقال ابن عطية : وقرأ حمزة : تريء ، بكسر الراء ويمد ثم يهمز ؛ وروى مثله عن عاصم ، وروي عنه أيضاً مفتوحاً ممدوداً ، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى ، وهذا هو الصواب ، لأنه تفاعل . وقال أبو حاتم : وقراءة حمزة هذا الحرف محال ، وحمل عليه ، قال : وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ . انتهى . وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، هو ابن الباذش ، في كتاب الإقناع من تأليفه : تراءى الجمعان في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي ، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة ؛ ففي قراءته إمالة الإمالة . وفي هذا الفعل ، وفي راءى ، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة ، حذف السبب وإبقاء المسبب ، كما قالوا : صعقى في النسب إلى الصعق . وقرأ الجمهور : لمدركون ، بإسكان الدال ؛ والأعرج ، وعبيد بن عمير : بفتح الدال مشددة وكسر الراء ، على وزن مفتعلون ، وهو لازم ، بمعنى الفناء والاضمحلال . يقال : منه ادّرك الشيء بنفسه ، إذا فني تتابعاً ، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة ؛ نص على كسرها أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) ، والزمخشري في ( كشافه ) وغيرهما . وقال أبو الفضل الرازي : وقد يكون ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعدياً ، فلو كانت القراءة من ذلك ، لوجب فتح الراء ، ولم يبلغني ذلك عنهما ، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير . قال الزمخشري : المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد ، ومنه بيت الحماسة : أبعد بني أمي الذين تتابعوا
أرجى الحياة أم من الموت أجزع
) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ( : زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا ، والمعنى : لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم ، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه . وقيل : سيكفيني أمرهم . ولما انتهى موسى إلى البحر ، قال له مؤمن آل فرعون ، وكان بين يدي موسى : أين أمرت ، وهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون ؟ قال : أمرت بالبحر ، ولا يدري موسى ما يصنع . ورويت هذه المقالة عن يوشع ، قالها لموسى عليه السلام ، فأوحى الله إليه ) أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ ( ، فحاض يوشع الماء . وضرب موسى بعصاه ، فصار فيه اثنا عشر طريقاً ، لكل سبط طريق . أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله ، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته ، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا ، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر .
( فَانفَلَقَ ( : ثم محذوف تقديره : فضرب فانفلق . وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق . والفاء في انفلق هي فاء ضرب ،(7/19)
" صفحة رقم 20 "
فأبقى من كل ما يدل على المحذوف ، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق ، ليدل على ضرب المحذوفة ، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه . وهذا قول شبيه بقول صاحب البرسام ، ويحتاج إلى وحي يسفر عن هذا القول . وإذا نظرت القرآن وجدت جملاً كثيرة محذوفة ، وفيها الفاء نحو قوله : ) فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ ( ، أي فأرسلوه ، فقال يوسف أيها الصديق ، والفرق الجزء المفصل . والطود : الجبل العظيم المنطاد في السماء . وحكى يعقوب عن بعض القراء ، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء .
( وَأَزْلَفْنَا ( : أي قربنا ، ( ثُمَّ ( : أي هناك ، وثم ظرف مكان للبعد . ) الاْخَرِينَ ( : أي قوم فرعون ، أي قربناهم ، ولم يذكر من قربوا منه ، فاحتمل أن يكون المعنى : قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل ، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد ، أو قربناهم من البحر . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : وزلفنا بغير ألف . وقرأ أبي ، وابن عباس ، وعبد الله بن الحارث : وأزلقنا بالقاف عوض الفاء ، أي أزللنا ، قاله صاحب اللوامح . قيل : من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه ، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة ، فالآخرون هم موسى وأصحابه ، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة . انتهى ، وفي الكلام حذف تقديره : ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا . قيل : دخلوا البحر بالطول ، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة ، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً ( : أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها . قال الزمخشري : ) وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( : أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا . وبنو إسرائيل ، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء ، قد سألوه بقرة يعبدونها ، واتخذوا العجل ، وطلبوا رؤية الله جهرة . انتهى . والذي يظهر أن قوله : ) وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( : أي أكثر قوم فرعون ، وهم القبط ، إذ قد آمن السحرة ، وآمنت آسية امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وعجوز اسمها مريم ، دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام ، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر .
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الاْقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الاْقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ وَلاَ تَحْزَنِى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام ، أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يتلو عليهم قصصه ، وما جرى له مع قومه . ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه ، وإذ : العامل فيه . قال الحوفي : أتل ، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبا ، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد . وقال أبو البقاء : العامل في إذ نبأ . والظاهر أن الضمير في ) وَقَوْمِهِ ( عائد على إبراهيم . وقيل : على أبيه ، أي وقوم أبيه ، كما قال : ) إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ). وما : استفهام بمعنى التحقير والتقرير . وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم(7/20)
" صفحة رقم 21 "
عبدة أصنام ، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة ، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة . ولما سألهم عن الذي يعبدونه ، ولم يقتصروا على ذكره فقط ، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم ، فقالوا : ) نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ( : على سبيل الابتهاج والافتخار ، فأتوا بقصتهم معهم كاملة ، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم : أصناماً ، كما جاء : ) مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا ( ، ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( ، ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم : ) فَنَظَلُّ ). قال : كما تقول لرئيس : ما تلبس ؟ فقال : ألبس مطرف الخز فاجر ذيوله ، يريد الجواب : وحاله مع ملبوسه . وقالوا : فنظل ، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل . ولما أجابوا إبراهيم ، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم ، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى .
وقرأ الجمهور : ) يَسْمَعُونَكُمْ ( ، من سمع ؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد ، نحو : سمعت كلام زيد ، وإن دخلت على غير مسموع ، فذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين ، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع ، نحو : سمعت زيداً يقرأ والصحيح أنها تتعدى إلى واحد ، وذلك الفعل في موضع الحال ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو . وهنا لم تدخل إلا على واحد ، ولكنه بمسموع ، فتأولوه على حذف مضاف تقديره : هل يسمعوانكم ، تدعون ؟ وقيل : ) هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ( بمعنى : يجيبونكم . وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بضم الياء وكسر الميم من أسمع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : الجواب ، أو الكلام . وإذ : ظرف لما مضى ، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا ، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي ، فيكون التقدير : هل سمعوكم هذ دعوتم ؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إلى جملة مصدرة بالمضارع ، ومثلوا بقوله : ) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ( ، أي وإذ قلت . وقال الزمخشري : وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها ، وقولوا : هل سمعوا ، أو اسمعوا قط ؟ وهذا أبلغ في التبكيت . انتهى . وقرىء : بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعونن . قال ابن عطية : ويجوز فيه قياس مذكر ، ولم يقرأ به أحد ؛ والقياس أن يكون اللفظ به ، إذ إتدعون . فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل ، فكثرة المتماثلات . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز ، لأن ذلك الإبدال ، وهو إبدال التاء دالاً ، لا يكون إلا في افتعل ، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال ، نحو : إذذكر ، وازدجر ، وادهن ، أصله : اذتكر ، وازتجر ، وادتهن ؛ أو جيم شذوذ ، قالوا : اجد مع في اجتمع ، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت : فزد ، وفي جلدت : جلدّ ، ومن تاء تولج شذوذاً قالوا : دولج ، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا ، فلا تبدل تاءه . وقول ابن عطية : والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره ، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء ، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها ، فكنت تقول : إذ تخرج : ادّخرج ، وذلك لا يقوله أحد ، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء ، فتقول : اتخرج .
( أَوْ يَنفَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( بترك عبادتكم إياهم ، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا ، فما معنى عبادتكم لها ؟ ) قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ( هذه حيدة عن جواب الاستفهام ، لأنهم لو قالوا : يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا ، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه ، ولو قالوا : يسمعوننا ولا يضروننا ، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض ، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة . والكاف في موضع نصب بيفعلون ، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله ، وهو عبادتهم ؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة . وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز .
( أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ( : وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادهم الأصنام فيهم ، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام ، فزمان من بعده ؟ وعدو : يكون للمفرد والجمع ، كما قال : ) هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ( ، قيل : شبه بالمصدر ، كالقبول والولوع . قال الزمخشري : وإنما قال : عدو لي ، تصوراً للمسألة في نفسه على(7/21)
" صفحة رقم 22 "
معنى : أي فكرت في أمري ، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا ويقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أرادو لروحه ، ليكون أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على استماع منه . ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنضوح . ما لا يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل إلى التقبل . ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه ، أن رجلاً واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب ؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم . انتهى . وهو كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن قوله : ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك . ألا ترى إلى قوله : ) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ( ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان ، وهو الشيطان . وقيل : لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم . وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدولي . والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير . وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى دون وسوى . انتهى . فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله : ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ). وجعله جماعة منهم الفراء ، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام . وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله ، وأجازوا في ) الَّذِى خَلَقَنِى ( النصب على الصفة لرب العالمين ، أو بإضمار ، أعني : والرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون ) الَّذِى خَلَقَنِى ( رفعاً بالابتداء ، ( فَهُوَ يَهْدِينِ ( : ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط . انتهى . وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص ، ولا يتخيل فيه العموم ، فليس نظير : الذي يأتيني فله درهم ، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم .
وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا ، لكنه لم يقل : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط . فإن كان أراد ذلك ، فليس بجيد لما ذكرناه ، وإن لم يرده ، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء ، على مذهب الأخفش في نحو : زيد فاضربه ؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته . وقيل : إلى جنته . وقال الزمخشري : فهو يهدين ، يريد أنه حين أتم خلقه ، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً ؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة ؟ وإلى معرفة مكانه ؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع ؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاذ . انتهى . والظاهر أن قوله : ) يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ( : الطعام المعروف المعهود ، والسقي المعهود ، وفيه تعديد نعمة الرزق . وقال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ، ويسيني بلا شراب ، كما جاء أني أبيت يطمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني ، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها . والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله : ) فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى ( ، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق ، وهو الغذاء والشرب . ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته ، بإزالة ما حدث من السقم ، وأضاف المرض إلى نفسه ، ولم يأت التركيب : وإذا أمر ضني ، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه . ولما لم يكن المرض منها ، لم يضفه إلى الله . وعن جعفر الصادق ، ولعله لا يصح : وإذا مرضت بالذنوب(7/22)
" صفحة رقم 23 "
شفاني بالتوبة . وقال الزمخشري : وإنما قال : مرضت دون أمر ضني ، لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك . ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم ، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب ، وإلى الدواء على سبيل المجاز ؛ كما قال : ) فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ ( ، أكد بقوله : ) فَهُوَ يَشْفِينِ ( : أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره .
ولما كانت الإماتة بعد البعث ، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله ، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ لإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة ، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في : ) وَالَّذِى أَطْمَعُ ). وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده ، وهي رواية عن نافع . والطمع عبارة عن الرجاء ، وإبراهيم عليه السلام كان جازماً بالمغفرة . فقال الزمخشري : لم يجزم القول بالمغفرة ، وفيه تعليم لأممهم ، وليكون لطفاً بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ، وطلب المغفرة مما يفرط منهم . انتهى . ورده الرازي قال : لأن حاصله يرجع إلى أنه ، ونطق بكلمة لا أذكرها ، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة ، وهو باطل قطعاً . وقال الجبائي : أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون . ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره ، مما يبطل نظم الكلام . وقال الحسن : المراد بالطمع اليقين . وقال الرازي : لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا ، حيث قلنا : إنه لا يجب على الله شيء ، وإنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله . وقال ابن عطية : أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته .
وقرأ الجمهور : خطيئتي على الإفراد ، والحسن : خطاياي على الجمع ، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله : ) إِنّى سَقِيمٌ ( ، و ) بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( ، وهي أختي في سارة . وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس ، قدرها في كل أمره من غير تعيين . قال ابن عطية : وهذا أظهر عندي ، لأن تلك الثكلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض . وقال الزمخشري : المراد ما يندر منه في بعض الصغائر ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين ، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض ، كلام وتخيلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار . فإن قلت : إذا لم يندر منهم إلا الصغائر ، وهي تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا ، وطمع أن يغفر له ؟ قلت : الجواب ما سبق ، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : اطمع ، ولم يجزم القول . انتهى . و ) يَوْمِ الدّينِ ( : ظرف ، والعامل فيه يعفر ، والغفران ، وإن كان في الدنيا ، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء ، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى . وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث ، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز ، وحمله على سبيل التواضع قال : لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال ، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، لأجل تنزيهه عن المعصية . قال : والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى خطأ . فإن من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار ، قيل : أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز . انتهى ، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة .
وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى ، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته ، ثم سأله تعالى فقال : ) رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( ، فدل على أن تقديم الثناء على المسلة من المهمات . والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق . وقيل : الحكم : الحكمة والنبوة ، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة ،(7/23)
" صفحة رقم 24 "
لأن النبي ذو حكمة وحكم بين الناس . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة ، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة ، إما عين الحاصلة أو غيرها . والأول محال ، لأن تحصيل الحاصل محال ، والثاني محال ، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين ، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية ، وذلك بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به . انتهى . وقال ابن عطية : وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة ، قال : ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام . وإلحاقه بالصالحين : توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم ، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة . وقد أجابه تعالى حيث قال : ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ).
قال أبو عبد الله الرازي : وإنما قدّم قوله : ) هَبْ لِى حُكْماً ( على قوله : ) وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( ، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية ، لأنه يمكنه أن يعلم الحق ، وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح ، والعمل صفة البدن ، وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الإصلاح . انتهى . ولسان الصدق ، قال ابن عطية : هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين . وكذلك أجاب الله دعوته ، فكل ملة تتمسك به وتعظمه ، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام ، وهذا معنى حسن ، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ . انتهى . ولما طلب سعادة الدنيا ، طلب سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث ، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة ، وقال تعالى : ) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ).
ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه ، طلب لأشد الناس التصاقاً به ، وهو أصله الذي كان ناشئاً عنه ، وهو أبوه ، فقال : ) وَاغْفِرْ لاِبِى ( ، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط ، فحاصله أنه دعا بالإسلام . وكان وعده ذلك يوضحه قوله : ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ اللَّهِ ( ، أي الموافاة على الكفر تبرأ منه . وقيل : كان قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً ، تقية وخوفاً ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، ولذلك قال في دعائه : ) وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ). فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك . ) وَلاَ تَحْزَنِى ( : إما من الخزي ، وهو الهوان ، وإما من الخزاية ، وهي الحياء . والضمير في ) يُبْعَثُونَ ( ضمير العباد ، لأنه معلوم ، أو ضمير ) الضَّالّينَ ( ، ويكون من جملة الاستغفار ، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث الضالون . وأتى فيهم : ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ( بدل من : ) يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). ) مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ( : أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه . وقيل : المراد بالبنين جميع الأعوان . وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها ، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر ، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا . والظاهر أن الاستثناء منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه . قال الزمخشري : ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد بها السلامة ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى . انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف ، كما ذكر ، إذ قدرناه ، لكن ) مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( ينفعه ذلك ، وقد جعله الزمخشري في أول توجيه متصلاً بتأويل قال : إلا من أتى الله : لا حال من أتى الله بقلب سليم ، وهو من قوله(7/24)
" صفحة رقم 25 "
تحية بينهم ضرب وجيع
وما ثوابه إلا السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون ؟ فيقول : ماله وبنوه سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك . وإن شئت حملت الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه . انتهى . وجعله بعضهم استثناء مفرغاً ، ف ( من ) مفعول ، والتقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم ، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر ، وبنوه الصلحاء ، إذ كان أنفقه في طاعة الله ، وأرشد بنيه إلى الدين ، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب ، خلوصه من الشرك والمعاصي ، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين . وقال سفيان : هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره ، وهذا يقتضي عمومه اللفظ ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم . وقال الجنيد : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ . وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير وصدق .
( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ( : قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها . ) وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ ( : أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله : ) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( ، وذلك على سبيل التوبيخ . هل ينفعونكم بنصرهم إياكم ، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها ، إذ هم وأنتم وقود النار ؟ وقرأ الأعمش : فبرزت بالفاء ، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه ، وذلك لأن الواو للجمع ، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر ، وهو من تقديم الرحمة على العذاب ، وهو حسن ، لو أن رسم المصحف بالواو . وقرأ مالك بن دينار : ) وَبُرّزَتِ ( بالفتح والتخفيف ؛ ) الْجَحِيمِ ( بالرفع ، بإسناد الفعل إليها اتساعاً . ولما وبخهم وقرعهم ، أخبر عن حال يوم القيامة ، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت . وقيل : ) فَكُبْكِبُواْ ( ، لتحقق وقوع ذلك ، وإن كان لم يقع . والضمير في : فكبكبوا عائد على الأصنام ، أجريت مجرى من يعقل . قال الكرماني : فكبكبوا : قذفوا فيها . وقيل : جمعوا . وقيل : هدروا . وقيل : نكسوا على رؤوسهم بموج بعضهم في بعض . وقيل : ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها . ) وَالْغَاوُونَ ( : هم الكفرة الذين شملتهم الغواية . وقيل : الضمير يعود على الكفار ، والغاوون : الشياطين . ) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ ( : قبيلة ، وكل من تبعه فهو جند له وعون . وقال السدّي : هم مشركو العرب ، والغاوون : سائر المشركين . وقيل : هم القادة والسفلة ، قالوا : أي عباد الأصنام ، والجملة بعده حال ، والمقول جملة القسم ومتعلقه ، والخطاب في ) نُسَوّيكُمْ ( للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق . قال ابن عطية : أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى ، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم . انتهى . وقوله : إن كنا إلا ضالين ، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد أن هنا نافية ، واللام في لفي بمعنى إلا ، فليس مذهب البصريين ، وإنما هو مذهب الكوفيين . ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة ، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة .
( وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ( : أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة ، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : ) أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ). وقال السدي : هم الأولون الذين اقتدوا بهم . وقيل : المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس . وقال ابن جريج : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي . وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان ، وشفاعة الصديق في(7/25)
" صفحة رقم 26 "
صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ، ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ). وقال ابن جريج : شافعين من الملائكة وصديق من الناس . ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء . والصديق يحتمل أن يكون نفياً لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون ، كما قال : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين ، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ، فصار المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة . ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق لقلته ، وأريد به الجمع ؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما يقال : هم عدو ، أي أعداء . والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، وفتكون الجواب ، كأنه قيل : يا ليت لنا كرة فنكون . وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون قوله : ) فَنَكُونَ ( معطوفاً على كرة ، أي فكونا من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب . والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها من حال قومه .
وقال ابن عطية : وهذه الآيات من قوله : ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ( هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام ، وهي إخبار من الله عز وجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه . انتهى . وكان ابن عطية قد أعرب ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ( بدلاً من ) يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل بعضه من كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخرمن لفظ الأول ، أو الأول . وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من كلام الله ، إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون . والإشارة بقوله ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً ( إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه . ) وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ ( : أي أكثر قوم إبراهيم . بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك مسلاة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في تكذيب قومه إياه عليه السلام .
( ) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاٌّ رْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِى e(7/26)
" صفحة رقم 27 "
1764 أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآ ءَامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاٌّ رْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاٌّ وَّلِينَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّىأَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِنَّهُ(7/27)
" صفحة رقم 28 "
لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّ مِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاٌّ وَّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاٌّ عْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاٌّ قْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } )
الشعراء : ( 105 ) كذبت قوم نوح . . . . .
المشحون : المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل ، يقال : شحنها عليها خيلاً ورجالاً ، الريع : بكسر الراء وفتحها : جمع ريعة ، وهو المكان المرتفع . قال ذو الرمة : طراق الخوافي مشرق فوق ريعه
بذي ليلة في ريشه يترقرق
وقال أبو عبيدة : الريع : الطريق . قال ابن المسيب بن علس يصف ظعناً : في الآل يخفضها ويرفعها
ريع يلوح كأنه سحل
الطلع : الكفري ، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته . وقال الزمخشري : الطلعة : هي التي تطلع(7/28)
" صفحة رقم 29 "
من النخلة ، كنصل السيف في جوفه . شماريخ القنو ، والقنو : اسم للخارج من الجذع ، كما هو بعرجونه . الفراهة : جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه . وقيل : الكيس والنشاط . القالي : المبغض ، قلى يقلي ويقلى ، ومجيئه على يفعل بفتح العين شاذ . الجبلة : الخلق المتجسد الغليظ ، مأخوذ من الجبل . قال الشاعر : والموت أعظم حادث
مما يمر على الجبله
ويقال : بسكون الباء مثلث الجيم . وقال الهروي : الجبل والجبل والجبل ، لغات ، وهو الجمع الكثير العدد من الناس . انتهى . هام : ذهب على وجهه ، قاله الكسائي . وقال أبو عبيدة : حاد عن القصد .
( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
القوم : مؤنث مجازي التأنيث ، ويصغر قويمة ، فلذلك جاء : ) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ). ولما كان مدلوله أفراداً ذكوراً عقلاء ، عاد الضمير عليه ، كما يعود على جمع المذكر العاقل . وقيل : قوم مذكر ، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة ، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين ، وإن كان المرسل إليهم واحداً في الفرقان في قوله : ) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ( ، وإخوة نوح قيل : في النسب . وقيل : في المجانسة ، كقوله :
يا أخيا تميم تريد يا واحد أمته
وقال الشاعر : لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
ومتعلق التقوى محذوف ، فقيل : ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم ؟ وقيل : ألا تتقون مخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته ، كونه مشهوراً في قومه بذلك ، أو مؤتمناً على أداء رسالة الله ؟ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال : ) أَلاَ تَتَّقُونَ ( ، انتقل من العرض إلى الأمر فقال : ) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( في نصحي لكم ، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة . ) وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ ( : أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه . وقيل : الضمير في عليه يعود على النصح ، أو(7/29)
" صفحة رقم 30 "
على التبليغ ، والمعنى : لا أسئلكم عليه شيئاً من أموالكم . وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام . ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة ، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم ، وإن اختلف التعليل ، جعل الأول معلولاً لأمانته ، والثاني لانتفاء أخذ الأجر . ثم لم ينظروا في أمر رسالته ، ولا تفكروا فيما أمرهم به ، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة ، وهي التي تطبع على قلوبهم . فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه ، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له ، كونه اتبعه الأرذلون .
وقوله : ) وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( ، جملة حالية ، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا ، فنتساوى معهم في اتباعك ؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب . والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء ، لأن أدهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا ، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء . وقرأ الجمهور : واتبعك فعلاً ماضياً . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والضحاك ، وابن السميفع ، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري ، وطلحة ، ويعقوب : واتباعك جمع تابع ، كصاحب وأصحاب . وقيل : جمع تبيع ، كشريف وأشراف . وقيل : . قيل : والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه ، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب ؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله : ) إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( ، وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه السلام ، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل ، كما ورد في حديث هرقل . وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى ، ولا شرف المكاسب ودناءتها .
وقال ابن عطية : ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين ، بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح : ) وَمَا عِلْمِى ( الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري ، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة ، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به ، ثم حسابهم على الله تعالى ، وهذا نحو ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلاه إلا الله ) ، الحديث بجملته انتهى . وقال الكرماني : لا أطلب العلم بما عملوه ، إنما على أن أدعوهم . وقال الزمخشري : وما علمي ، وأي شيء علمي ، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعه على سرائرهم ؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم ، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا هوى وبديهة ، كما حكى الله عنهم في قوله : ) الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( بادىء الرأي . ويجوز أن يتعالى لهم نوح عليه السلام ، فيفسر قولهم : الأرذلون ، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد ، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم . ثم بنى جوابه على ذلك فيقول : ما عليّ إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم ، وإن كان لهم شيء ، فالله محاسبهم ومجازيهم ، وما أنا إلا منذر لا محاسب ، ولا مجاز ، لو تشعرون ذلك ، ولكنكم تجهلون ، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم . وقصد بذلك رد اعتقادكم ، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً ، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً . فإن الغنى غنى الدين ، والنسب نسب التقوى . انتهى . وهو تكثير . وقال الحوفي : وما علمي ماانا فيه ، والباء متعلقة بعلمي . انتهى . وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث ، أردفه بقوله : ) لَوْ تَشْعُرُونَ ( ، أي بأن المعاد حق ، والحساب حق . وقرأ الجمهور : تشعرون بتاء الخطاب . وقرأ الأعرج ، وأبو زرعة ، وعيسى بن عمر الهمداني : بياء الغيبة .
( وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( : هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك ، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يطرد من آمن من الضعفاء ، فنزلت : ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الآية ، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم . ) إن أنا إلا نذير مبين : ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل . ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم ، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان ، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه ، أخذوا في التهديد والوعيد .
( قالوا لئن لم تنته يا نوح ( عن تقبيح ما نحن عليه ، وادعائك الرسالة من الله ، ( لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ( ، أي بالحجارة ، وقيل : بالشتم(7/30)
" صفحة رقم 31 "
وأيس إذ ذاك من فلاحهم ، فنادى ربه وهو أعلم بحاله فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني ، ولكن لأجل دينك . ) فَافْتَحْ ( ، أي فاحكم . ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة ، وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه ، أي : ) وَنَجّنِى ( مما يحل بهم . وقيل : ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة . والفلك واحد وجمع ، وغالب استعماله جمعاً لقوله : ) وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ( ، والفلك التي تجري في البحر ( ، فحيث أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعاً ، وحيث كان فاصلة ، استعمل مفرداً لمراعاة الفواصل ، كهذا الموضع . والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً ، أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع ؟ والمشحون ، قال ابن عباس : الموقر ، وقال عطاء : المثقل . ) ( ، فحيث أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعاً ، وحيث كان فاصلة ، استعمل مفرداً لمراعاة الفواصل ، كهذا الموضع . والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً ، أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع ؟ والمشحون ، قال ابن عباس : الموقر ، وقال عطاء : المثقل . ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ( : أي بعد نجاة نوح والمؤمنين .
( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْمَلُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
كان أخاهم من النسب ، وكان تاجراً جميلاً ، أشبه الخلق بآدم عليه السلام ، عاش أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة ، وبينه وبين ثمود مائة سنة . وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت . أمرع البلاد ، فجعلها الله مفاوز ورمالاً . أمرهم أولاً أمر به نوح قومه ، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم فقال : ) أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ( ؟ قال ابن عباس : هو رأس الزقاق . وقال مجاهد : فج بين جبلين . وقال عطاء : عيون فيها الماء . وقال ابن بحر : جبل . وقيل : الثنية الصغيرة . وقرأ الجمهور : ريع بكسر الراء ، وابن أبي عبلة : بفتحها . قال ابن عباس : ) ءايَةً ( : علماً . وقال مجاهد : أبراج الحمام . وقال النقاش وغيره : القصور الطوال . وقيل : بيت عشار . وقيل : نادياً للتصلف . وقيل : أعلاماً طوالاً ليهتدوا بها في أسفارهم ، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم . وقيل : علامة يجتمع إليها من يعبث بالمار في الطريق . وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث ، كما يفعل المترفون في الدنيا . والمصانع : جمع مصنعة . قيل : وهي البناء على الماء . وقيل : القصور المشيدة المحكمة . وقيل : الحصون . وقال قتادة : برك الماء . وقيل : بروج الحمام . وقيل : المنازل . واتخذ هنا بمعنى عمل ، أي ويعملون مصانع ، أي تبنون . وقال لبيد :
وتبقى جبال بعدنا ومصانع
) لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ( : الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء ، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود . وفي قراءة عبد الله : كي تخلدون ، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد ، فلذلك بتيتم واتخذتم . وقال ابن زيد : معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم ، أي هل أنتم تخلدون : وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي . وقال ابن عباس : المعنى كأنكم خالدون ، وفي حرف أبي : كأنكم تخلدون . وقرىء : كأنكم خالدون . وقرأ أبيّ ، وعلقمة ، وأبو العالية ، مبنياً للمفعول مشدداً ، كما قال الشاعر :(7/31)
" صفحة رقم 32 "
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وإذا بطشتم : أي أردتم البطش ، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه ، كقوله :
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
أي متى أردتم بعثها . قال الحسن : بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب . وقيل : المعنى أنكم كفار الغضب ، لكم السطوات المفرطة والبوادر . فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو ، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء ، والجبارية تدل على التفرد بالعلو ، وهذه صفات الإلاهية ، وهي ممتنعة الحصول للعبد . ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة . ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة ، أمرهم ثانياً بتقوى الله وطاعة نبيه . ثم أمرهم ثالثاً بالتقوى تنبيهاً لهم على إحسانه تعالى إليهم ، وسبوغ نعمته عليهم . وأبرز صلة ) الَّذِى ( متعلقة بعلمهم ، تنبيهاً لهم وتحريضاً على الطاعة والتقوى ، إذ شكر المحسن واجب ، وطاعته متعينة ، ومشيراً إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه ، وعلى تعذيب من لم يتقه ، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم ، وإنما هو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئاً بعد شيء . ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملاً محالاً على علمهم ، أتى به مفصلاً . فبدأ بالأنعام ، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا ، والقوة على من عاداهم ، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالباً لوجده . وبحصول القوة أيضاً بالبنين ، فلذلك قرنهم بالأنعام ، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها . واتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة ، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة .
( وبأنعام ( : ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله : ) خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ، وأعيد العامل كقوله : ) اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ ). والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلاً وإنما هو عندهم من تكرار الجمل ، وإن كان المعنى واحداً ، ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به ، نحو : مررت بزيد بأخيك ، ثم حذرهم عذاب الله ، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم ، إذ كان راجياً لإيمانهم ، فكان من جوابهم أن قالوا : ) سَوَاء عَلَيْنَا ( وعظك وعدمه ، وجعلوا قوله وعظاً ، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به ، وأنه كاذب فيما ادعاه ، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به . وقرأ الجمهور : وعظت ، بإظهار الظاء . وروي عن أبي عمرو ، والكسائي ، وعاصم : إدغام الظاء في التاء . وبالإدغام ، قرأ ابن محيصن ، والأعمش ، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ : أوعظتنا . وينبغي أن يكون إخفاء ، لأن الظاء مجهورة مطبقة ، والتاء مهموسة منفتحة ، فالظاء أقوى من التاء ، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين ، أو في المتقاربين ، إذا كان الأول أنقص من الثاني . وأما إدغام الأقوى في الأضعف ، فلا يحسن . على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات ، فوجب قبولها ، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس .
وعادل ) أَوَعَظْتَ ( بقوله : ) أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ ( ، وإن كان قد يعادله : أم لم تعظ . كما قال : ) سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ( لأجل الفاصلة ، كما عادلت في قوله : ) سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ، ولم يأت التركيب أم صمتم ، وكثيراً ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه . وقال الزمخشري : بينهما فرق ، يعني بين ما جاء في الآية وهي : أم لم تعظ ، قال : لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشرته ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظ من قولك : أم لم تعظ . ولما لم يبالوا بما أمرهم به ، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم ، أجابوه بأن قالوا : ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ). وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، والحسن ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي : خلق ، بفتح الخاء وسكون اللام ، فهو يحتمل أن يكون المعنى : إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبة(7/32)
" صفحة رقم 33 "
قبلك ، فأنت على مناهجهم . وروى علقمة عن عبد الله : أن هذا إلا اختلاق الأولين . ويحتمل أن يكون المعنى : ما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون ، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب . وقرأ باقي السبعة : خلق ، بضمتين ؛ وأبو قلابة ، والأصمعي عن نافع : بضم الخاء وسكون اللام ؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في خلق .
( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
) أَتُتْرَكُونَ ( : يجوز أن يكون إنكاراً لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزولون عنه ، وأن يكون تذكيراً بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات ، وغير ذلك مع الأمن والدعة ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : تخويف لهم ، بمعنى : أتطمعون إن كفرتم في النعم على معاصيكم ؟ وقيل : أتتركون ؟ استفهام في معنى التوبيخ ، أي أيترككم ربكم ؟ ) فِيمَا هَاهُنَا ( : أي فيما أنتم عليه في الدنيا ) ءامِنِينَ ( : لا تخافون بطشه . انتهى . وما موصولة ، وههنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب ، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم . وفي جنات : بدل من ما ههنا أجمل ، ثم فصل ، كما أجمل هود عليه السلام في قوله : ) أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ( ، ثم فصل في قوله : ) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ( ، وكانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل . والهضيم ، قال ابن عباس : إذا أينع وبلغ . وقال الزهري : الرخص اللطيف أول ما يخرج . وقال الزجاج : الذي رطبه بغير نوى . وقال الضحاك : المنضد بعضه على بعض . وقيل : الرطب المذنب . وقيل : النضيج من الرطب . وقيل : الرطب المتفتت . وقيل : الحماض الطلع ، ويقارب قشرته من الجانبين من قولهم : خصر هضيم . وقيل : العذق المتدلي . وقيل : الجمار الرخو . وجاء قوله : ) وَنَخْلٍ ( بعد قوله : ) فِي جَنَّاتِ ( ، وإن كانت الجنة تتناول النخل أول شيء ، ويطلقون الجنة ، ولا يريدون بها إلا النخل ، كما قال الشاعر : كان عيني في غربي مقتلة
من النواضح تسقي جنة سحقا
أراد هنا النخل . والسحق جمع سحوق ، وهي التي ذهبت بجردتها صعداً فطالت . فأفرد ) وَنَخْلٍ ( بالذكر بعد اندراجه في لفظ جنات ، تنبيهاً على انفارده عن شجر الجنة بفضله . أو أراد بجنات غير النخل من الشجر ، لأن اللفظ صالح لهذه الإرادة ، ثم عطف عليه ونخل ، ذكرهم تعالى في أن وهب لهم أجود النخل وأينعه ، لأن الإناث ولادة التمر ، وطلعها فيه لطف ، والهضيم : اللطيف الضامر ، والبرني ألطف من طلع اللون . ويحتمل اللطف في الطلع أن يكون بسبب كثرة الحمل ، فإنه متى كثر لطف فكان هضيماً ، وإذا قل الحمل جاء التمر فاخراً . ولما كانت منابت النخل جيدة ، وكان السقي لها كثيراً ، أوسلمت من العاهة ، كبر الحمل بلطف الحب . وقرأ الجمهور : ) وَتَنْحِتُونَ ( ، بالتاء للخطاب(7/33)
" صفحة رقم 34 "
وكسر الحاء ؛ وأبو حيوة ، وعيسى ، والحسن : بفتحها ، وتقدم ذكره ، وعنه بألف بعد الحاء إشباعاً . وعن عبد الرحمن بن محمد ، عن أبيه : بالياء من أسفل وكسر الحاء . وعن أبي حيوة ، والحسن أيضاً : بالياء من أسفل وفتح الحاء . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وزيد بن علي ، والكوفيون ، وابن عامر : فارهين بألف ، وباقي السبعة : بغير ألف ؛ ومجاهد : متفرهين ، اسم فاعل من تعزه ، والمعنى : نشطين مهتمين ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : شرهين . وقال ابن زيد : أقوياء . وقال ابن عباس أيضاً ، وأبو عمرو بن العلاء : أشرين بطرين . وقال عبد الله بن شداد : بمعنى مستفرهين ، أي مبالغين في استجادة المغارات ليحفظوا أموالهم فيها . وقال قتادة : آمنين . وقال الكلبي : متجبرين . وقال خصيف : معجبين . وقال عكرمة : ناعمين . وقال الضحاك : كيسين . وقال أبو صالح : حاذقين . وقال ابن بحر : قادرين . وقال أبو عبيدة : مرحين .
وظاهر هذه الآيات أن الغالب على قوم هود : اللذات الخيالية من طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر ، وعلى قوم صالح : اللذات الحسية من المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة . ) وَلاَ تُطِيعُواْ ( : خطاب الجمهور قومه . والمسرفون : هم كبراؤهم وأعلامهم في الكفر والإضلال ، وكانوا تسعة رهط . ) يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ ( : أي أرض ثمود . وقيل : في الأرض كلها ، لأن بمعاصيهم امتناع الغيث . ولما كانوا يفسدون دلالته دلالة المطلق ، أتى بقوله : ) وَلاَ يُصْلِحُونَ ( ، فنفى عنهم الصلاح ، وهو نفي لمطلق الصلاح ، فيلزم منه نفي الصلاح كائناً ما كان ، فلا يحصل منهم صلاح ألبتة . والمسحر : الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله . وقيل : من السحر ، وهو الرئة ، أي أنت بشر لا تصلح للرسالة . ويضعف هذا القول قولهم بعد : ) مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ، إذ تكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها ، والأصل التأسيس . ومثلنا : أي في الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر ، فلا اختصاص لك بالرسالة .
( يَأْتِىَ بِئَايَةٍ ( : أي بعلامة على صحة دعواك ، وفي الكلام حذف تقديره : قال آتي بها ، قالوا : ما هي ؟ ) قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ ( روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة تلد سقباً . فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل عليه السلام : صل ركعتين وسل ربك الناقة ، ففعل ؛ فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ، ونتجت سقباً مثلها في العظم . وتقدم في الأعراف طرف من قصة ثمود والناقة ، والشرب النصيب المشروب من الماء نحو السقي . وقرأ ابن أبي عبلة : شرب ، بضم الشين فيهما ، وظاهر هذا العذب أنه في الدنيا ، وكذا وقع ووصف بالعظم لحلول العذاب فيه ، ووصفه به أبلغ من وصف العذاب به ، لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب ، كان موقع العذاب من العظم أشد . ونسب العقر إلى جميعهم ، لكونهم راضين بذلك ، حتى روي أنهم استرضوا المرأة في خدرها والصبيان ، فرضوا جميعاً .
( فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ ( ، لا ندم توبة ، بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب عاجلاً ، وذلك عند معاينة العذاب في غير وقت التوبة . أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم حسبما كان أخبرهم به صالح عليه السلام ، وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم ، وانشقت قلوبهم ، وماتوا عن آخرهم ، وصب عليهم حجارة خلال ذلك . وقيل : كانت ندامتهم على ترك عقر الولد ، وهو قول بعيد . وأل في : ) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ( للعهد في العذاب السابق ، عذاب ذلك اليوم العظيم .
( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ(7/34)
" صفحة رقم 35 "
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لُوطٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاْخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
أتأتون : استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ؛ ) والذكران ( : جمع ذكر ، مقابل الأنثى . والإتيان : كناية عن وطء الرجال ، وقد سماه تعالى بالفاحشة فقال : ) لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( ، هو مخصوص بذكران بني آدم . وقيل : مخصوص بالغرباء . ) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ ( : ظاهر في كونهم لا يأتون النساء ، إما البتة ، وإما غلبة . ) مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ ( : يدل على الإباحة بشرطها . ) مّنْ أَزْواجِكُمْ ( : أي من الإناث . ومن إما للتبيين لقوله : ) مَا خَلَقَ ( ، وإما للتبعيض : أي العضو المخلوق للوطء ، وهو الفرج ، وهو على حذف مضاف ، أي وتذرون إتيان . فإن كان ما خلق لا يراد به العضو ، فلا بد من تقدير مضاف آخر ، أي وتذرون إتيان فروج ما خلق . ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ( : : أي متجاوزون الحد في الظلم ، وهو إضراب بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء ، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم واعتداؤهم ؛ إما في المعاصي التي هذه المعصية من جملتها ، أو من حيث ارتكاب هذه الفعلة الشنيعة . وجاء تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيماً لقبح فعلهم وتنبيهاً على أنهم هم مختصون بذلك ، كما تقول : أنت فعلت كذا ، أي لا غيرك . ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه بالإخراج ، وهو النفي من بلده الذي نشأ فيه ، أي : ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ( عن دعواك النبوة ، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكران ، فننفينك كما نفينا من نهانا قبلك . ودل قوله : ) مِنَ الْمُخْرَجِينَ ( على أنه سبق من نهاهم عن ذلك ، فنفوه بسبب النهي ، أو من المخرجين بسبب غير هذا السبب ، كأنه من خالفهم في شيء نفوه ، سواء كان الخلاف في هذا الفعل الخاص ، أم في غيره .
( قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ ( : أي للفاحشة التي أنتم تعملونها . ولعملكم يتعلق إما بالقالين ، وإن كان فيه أل ، لأنه يسوغ في المجرورات والظروف ما لا يسوغ في غيرها ، لاتساع العرب في تقديمها ، حيث لا يتقدم غيرها ؛ وإما بمحذوف دل عليه القالين وكونه بغض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره هو بعضهم ، ونبه ذلك على أن هذا الفعل موجب للبغض حتى يبغضه الناس . ومن القالين أبلغ من قال لما ذكرنا من أن الناس يبغضونه ، ولتضمنه أنه معدود ممن يبغضه . ألا ترى إن قولك : زيد من العلماء ، أبلغ من : زيد عالم ، لأن في ذلك شهادة بأنه معدود في زمرتهم . وقال أبو عبد الله الرازي : القلى : البغض الشديد ، كأنه بغض فقلي الفؤاد والكبد . انتهى . ولا يكون قلى بمعنى أبغض . وقلا من الطبخ ؛ والشيء من مادّة واحدة لاختلاف التركيب . فمادة قلا من الشيّ من ذوات الواو ، وتقول : قلوت اللحم فهو مقلو . ومادّة قلى من البغض من ذوات الياء ، قليت الرجل ، فهو مقلي . قال الشاعر :
ولست بمقلي الخلال ولا قال
ولما توعدوه بالإخراج ، أخبرهم ببغض عملهم ، ثم دعا ربه فقال : ) رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ ( : أي من عقوبة ما يعملو من المعاصي . ويحتمل أن يكون دعاء لأهله بالعصمة من أن يقع واحد منهم في مثل فعل قومه . ودل دعاؤه بالتنجية لأهله على أنهم كانوا مؤمنين . ولما كانت زوجته مندرجة في الأهل ، وكان ظاهر دعائه دخولها في التنجية ، وكانت كافرة استثنيت في قوله : ) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ( ، ودل قوله : عجوزاً ، على أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزاً . ومن الغابرين صفة ، أي من الباقين من لذاتها وأهل بيتها ، قاله أبو عبيدة .(7/35)
" صفحة رقم 36 "
وقال قتادة : من الباقين في العذاب النازل بهم . وتقدّم القول في غبر ، وأنه يستعمل بمعنى بقي ، وهو المشهور ، وبمعنى مضى . ونجاته عليه السلام أن أمره تعالى بالرّحلة ليلاً ، وكانت امرأته كافرة تعين عليه قومه ، فأصابها حجر ، فهلكت فيمن هلك . قال قتادة : أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم . وقال قتادة : أتبع الائتفاك مطراً من الحجارة . وساء : بمعنى بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي مطرهم . وقال مقاتل : خسف الله بقوم لوط ، وأرسل الحجارة إلى من كان خارجاً من القربة ، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط .
( كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
قرأ الحرميان وابن عامر : ليكة هنا ، وفي ) ص ( بغير لام ممنوع الصرف . وقرأ باقي السبعة الأيكة ، بلام التعريف . فأما قراءة الفتح ، فقال أبو عبيد : وجدنا في بعض التفسيران : ليكة : اسم للقرية ، والأيكة : البلاد كلها ، كمكة وبكة ، ورأيتها في الإمام مصحف عثمان في الحجر و ) ق ( : الأيكة ، وفي الشعراء و ) ص ( : ليكة ، واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد على ذلك ولم تختلف . انتهى . وقد طعن في هذه القراءة المبرد وابن قتيبة والزجاج وأبو عليّ الفارسي والنحاس ، وتبعهم الزمخشري ؛ ووهموا القراء وقالوا : حملهم على ذلك كون الذي كتب في هذين الموضعين على اللفظ في من نقل حركة الهمزة إلى اللام وأسقط الهمزة ، فتوهم أن اللام من بنية الكلمة ففتح الياء ، وكان الصواب أن يخيز ، ثم مادّة ل ي ك لم يوجد منها تركيب ، فهي مادّة مهملة . كما أهملوا مادّة خ ذ ج منقوطاً ، وهذه نزغة اعتزالية ، يعتقدون أن بعض القراءة بالرأي لا بالرواية ، وهذه قراءة متواترة لا يمكن الطعن فيها ، ويقرب إنكارها من الردّة ، والعياذ بالله . أما نافع ، فقرأ على سبعين من التابعين ، وهم عرب فصحاء ، ثم قراءة أهل المدينة قاطبة . وأما ابن كثير ، فقرأ على سادة التابعين ممن كان بمكة ، كمجاهد وغيره ، وقد قرأ عليه إمام البصرة أبو عمرو بن العلاء ، وسأله بعض العلماء : أقرأت على ابن كثير ؟ قال : نعم ، ختمت على ابن كثير بعدما ختمت على مجاهد ، وكان ابن كثير أعلم من مجاهد باللغة . قال أبو عمرو : ولم يكن بين القراءتين كبير يعني خلافاً . وأما ابن عامر فهو إمام أهل الشام ، وهو عربي قح ، قد سبق اللحن ، أخذ عن عثمان ، وعن أبي الدرداء وغيرهما . فهذه أمصار ثلاثة اجتمعت على هذه القراءة الحرمان مكة والمدينة والشام ، وأما كون هذه المادّة مفقودة في لسان العرب ، فإن صح ذلك كانت الكلمة عجمية ، ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب ، فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث .
وتقدم مدلول الأيكة في الحجر ، وكان شعيب عليه السلام من أهل مدين ، فلذلك جاء : ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ). ولم يكن من أهل الأيكة ، فلذلك قال هنا : ) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ). ومن غريب النقل ما روي عن ابن عباس ، أن ) كَذَّبَ أَصْحَابُ ( هم أصحاب مدين ، وعن غيره ، أن ) كَذَّبَ أَصْحَابُ ( هم أهل البادية ، وأصحاب مدين هم الحاضرة . وروي في الحديث : ( أن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ، أمرهم بإيفاء الكيل ، وهو الواجب ، ونهاهم عن الإخسار ، وهو التطفيف ، ولم يذكر الزيادة على الواجب ، لأن(7/36)
" صفحة رقم 37 "
النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن ، ومن تركه فلا حرج ) . وتقدم تفسير القسطاس في سورة الإسراء . وقال الزمخشري : إن كان من القسط ، وهو العدل ، وجعلت الغين مكررة ، فوزنه فعلاء ، وإلا فهو رباعي . انتهى . ولو تكرر ما يماثل العين في النطق ، لم يكن عند البصريين إلا رباعياً . وقال ابن عطية : هو مبالغة من القسط . انتهى . والظاهر أن قوله : ) وَزِنُواْ ( ، هو أمر بالوزن ، إذ عادل قوله : ) أَوْفُواْ الْكَيْلَ ( ، فشمل ما يكال وما يوزن مما هو معتاد فيه ذلك . وقال ابن عباس ومجاهد : معناه عدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله لعباده .
( وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ( : الجملة والتي تليها تقدم الكلام عليهما . ولما تقدم أمره عليه السلام إياهم بتقوى الله ، أمرهم ثانياً بتقوى من أوجدهم وأوجد من قبلهم ، تنبيهاً على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم . وعطف عليهم ) وَالْجِبِلَّةَ ( إيذاناً بذلك ، فكأنه قيل : يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم ، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه . وقرأ الجمهور : والجبلة بكسر الجيم والباء وشد اللام . وقرأ أبو حصين ، والأعمش ، والحسن : بخلاف عنه ، بضمها والشد للام . وقرأ السلمي : والجبلة ، بكسر الجيم وسكون الباء ، وفي نسخة عنه : فتح الجيم وسكون الباء ، وهي من جبلوا على كذا ، أي خلقوا . قيل : وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة . وعن ابن عباس : الجبلة : عشرة آلاف . ) وَمَا أَنتَ ( : جاء هنا بالواو ، وفي قصة هود : ) مَا أَنتَ ( ، بغير واو . فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان ، كلاهما مخالف للرسالة عندهم ، التسخير والبشرية ، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحراً ، ولا يجوز أن يكون بشراً ، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد ، وهو كونه مسحراً ، ثم قرر بكونه بشراً . انتهى .
( وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام في لمن هي الفارقة ، خلافاً للكوفيين ، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا ، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في قوله : ) وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ( في البقرة . ثم طلبوا منه إسقاط كسف ، من السماء عليهم ، وليس له ذلك ، فالمعنى : إن كنت صادقاً ، فادفع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفاً ، أي قطعة ، أو قطعاً على حسب التسكين والتحريك . وقال الزمخشري : وكلاهما جمع كسفة ، نحو : قطع وشذر . وقيل : الكسف والكسفة ، كالريع والريعة ، وهي القطعة وكسفة : قطعة ، والسماء : السحاب أو المظلة . ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب . ولما طلبوا منه ما طلبوا ، أحال علم ذلك إلى الله تعالى ، وأنه هو العالم بأعمالكم ، وبما تستوجبون عليها من العقاب ، فهو يعاقبكم بما شاء .
( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ( ، وهو نحو مما اقترحوا . ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم الظلة ، حتى أن ابن عباس قال : من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب ، وذكر في حديثها تطويلات . فروى أنه حبس عنهم الريح سبعاً ، فابتلوا بحرّ عظيم يأخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم ظل ولا ماء ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم ناراً فأحرقتهم . وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص ، تنبيهاً على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ورفض ما سواه ، وأنهم ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مشتركون في ذلك ، وأن ما جاء به ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو ما جاءت به الرسل قبله ، وتلك عادة الأنبياء .
قال ابن عطية : وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها ، إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحداً بعينه . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر ؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه ، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها . فكانت كل واحدة منها تدلى بحق ، إلى أن تفتتح بمثل ما افتتحت به صاحبتها ، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به ، ولأن التكرير تقرير للمعاني في النفوس ، وتثبيت لها في الصدور ، ولأن هذه القصص طرقت بهذا آذان ، وقر عن الأنصات للحق ، وقلوب(7/37)
" صفحة رقم 38 "
غلف عن تدبره ، فأوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير .
( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ).
الضمير في : ) وَأَنَّهُ ( عائد على القرآن ، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر ، بل هو من عند الله ، وكأنه عاد أيضاً إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وحفص : ) نَزَّلَ ( مخففاً ، و ) الرُّوحُ الاْمِينُ ( : مرفوعان ؛ وباقي السبعة : بالتشديد ونصبهما . والروح هنا : جبريل عليه السلام ، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح ، وبه قال ابن عطية : في موضع الحال كقوله : ) وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ). انتهى . والظاهر تعلق على ) قَلْبِكَ ( و ) لِتَكُونَ ( بنزل ، وخص القلب والمعنى عليك ، لأنه محل الوعي والتثبيت ، وليعلم أن المنزل على قلبه عليه السلام محفوظ ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير ، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها ، لأن ذلك أزجر للسامع ، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير . والظاهر تعلق ) بِلِسَانٍ ( بنزل ، فكان يسمع من جبريل حروفاً عربية . قال ابن عطية ، وهو القول الصحيح : وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه . ويمكن أن يتعلق بقوله : ) لِتَكُونَ ( ، وتمسك بهذا من رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان يسمع أحياناً مثل صلصلة الجرس ، يتفهم له منه القرآن ، وهو مردود . انتهى . وقال الزمخشري : ) بِلِسَانٍ ( ، إما أن يتعلق بالمنذرين ، فيكون المعنى : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان ، وهم خمسة : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليهم ؛ وإما أن يتعلق بنزل ، فيكون المعنى : نزله باللسان العربي المبين لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ، لتجافوا عنه أصلاً وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار به . وفي هذا الوجه ، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك ، تنزيل له على قلبك ، لأنك تفهمه ويفهمه قومك . ولو كان أعجمياً ، لكان نازلاً على سمعك دون قلبك ، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفاً بعده لغات ، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها ، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها بقلبه ، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت . وإن كلم بغير تلك اللغة ، وإن كان ماهراً بمعرفتها ، كان نظره أولاً في ألفاظها ، ثم في معانيها . فهذا تقرير أنه أنزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين . انتهى . وفيه تطويل .
وإنه ، أي القرآن ، ( لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ ( : أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة ، منبه عليه مشار إليه . وقيل : إن معانيه فيها ، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة ، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية ، حيث قيل : ) وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ ( ، لكون معانيه فيها . وقيل : الضمير عائد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة يكون التفاتاً ، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله : ) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ ( إلى ضمير الغيبة ، وكذلك قبل في أن يعلمه ، أي أن يعلم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح . وقرأ الأعمش : لفي زبر ، بسكون الباء ، والأصل الضم ، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره ، كون علماء بني إسرائيل يعلمونه ، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل به ؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى(7/38)
" صفحة رقم 39 "
بني إسرائيل ، ويسألونهم عنها ويقولون : هم أصحاب الكتب الإلهية . وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير ، لاعتقادهم في صحة دينهم . وذكر الثعلبي ، عن ابن عباس ، أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : هذا زمانه ، ووصفوا نعته ، وخلطوا في أمر محمد عليه السلام ، فنزلت الآية في ذلك ، ويؤيد هذا كون الآية مكية . وقال مقاتل : هي مدنية .
( مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ ( : عبد الله بن سلام ونحوه ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه السلام ، قال تعالى : ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا ( الآية . وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم . وقيل : أنبياؤهم ، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانة . وقرأ الجمهور : ) أَوَ لَمْ يَكُن ( ، بالياء من تحت ، ( ءايَةً ( : بالنصب ، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن ، و ) أَن يَعْلَمَهُ ( : هو الاسم . وقرأ ابن عامر ، والجحدري : تكن بالتاء من فوق ، آية : بالرفع . قال الزمخشري : جعلت آية اسماً ، وأن يعلمه خبراً ، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل : في تكن ضمير القصة ، وآية أن يعلمه جملة واقعة الخبر ، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن ، وأن يعلمه بدلاً من آية . انتهى . وقرأ ابن عباس : تكن بالتاء من فوق ، آية بالنصب ، كقراءة من قرأ : ثم ) لَمْ تَكُنْ ( ، بتاء التأنيث ، ( فِتْنَتُهُمْ ( بالنصب ، إلا أن قالوا ، وكقول لبيد : فمضى وقدمها وكانت عادة
منه إذا هي عردت أقدامها
ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة ، وتأويل ) إِلاَّ أَن قَالُواْ ( بالمقالة ، وتأويل الإقدام بالإقدامة . وقرأ الجحدري : أن تعلمه بتاء التأنيث ، كما قال الشاعر : قالت بنو عامر خالوا بني أسد
يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام
وكتب في المصحف : علموا بواو بين الميم والألف . قيل : على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو ، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلك اللغة . قال الزمخشري : الأعجمي الذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء بالنسبة زيادة توكيد . وقال ابن عطية : الأعجمون جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح ، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم ، وذلك يقال للحيوانات والجمادات ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( جرح العجماء جبار ) . وأسند الطبري ، عن عبد الله بن مطيع أنه قال ، حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة : ( جملي هذا أعجم ، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون ) . والعجمي هو الذي نسبته في العجم ، وإن كان أفصح الناس . انتهى . وفي التحرير : ) الاْعْجَمِينَ ( : جمع أعجم على التخفيف ، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة . قيل : والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على(7/39)
" صفحة رقم 40 "
العرب ، لم يؤمنوا به ، حيث لم يفهموه ، واستنكفوا من اتباعه . وقيل : ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم ، لم يؤمنوا ، لعنادهم لقوله تعالى : ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ ( الآية ، وجمع جمع السلامة ، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة ، وهو فعل العقلاء . وقيل : ولو نزل على بعض البهائم ، فقرأه عليهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لم تؤمن البهائم ، كذلك هؤلاء لأنهم : ) كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( انتهى .
ولما بين بما تقدم ، من أن هذا القرآن في كتب الأولين ، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك ، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل . ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي ، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له ، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعراً وتارة سحراً ؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، لكفروا به وتمحلوا بجحوده . وقال الفراء : الأعجمين جمع أعجم وأعجمي ، على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين ، وواحدهم أشعري . وقال ابن الجهم : قال الكميت : ولو جهزت قافية شرودا
لقد دخلت بيوت الأشعرينا
انتهى . وقرأ الحسن ، وابن مقسم : الأعجمين ، بياء النسب : جمع أعجمي . والضمير في ) سَلَكْنَاهُ ( ، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر . قيل : وهو القرآن ، وقاله الرماني . والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه . ) سَلَكْنَاهُ ( : أدخلناه ومكناه في ) قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ). والمعنى : ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه ، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفرا به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له ، كما وضعناه فيها . فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير ؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال : ) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ ( الآية . وقال الكرماني : أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ، وعجزهم عن الأتيان الإيمان بمثله ، ولم يؤمنوا به . وقال يحيى بن سلام : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي منعهم من الإيمان . انتهى . ويقويه قوله : ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ). وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : ) مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ). انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال عكرمة : سلكناه ، أي القسوة ، وأسند السلك تعالى إليه ، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو الهادي وخالق الضلال .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه . ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه ، وهو قوله : ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( به . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين ، يقتضي تغاير من حل به . والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب قريش ، سلكناه في قلوب من أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإحرام . قال ابن عطية : أراد بهم مجرمي كل أمّة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع ) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( من قوله : ) سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( ؟ قلت : موقعه منه موقع الموضح والملخص ، لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم ، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي سلكناه فيها غير مؤمن به . انتهى . ورؤيتهم العذاب ، قيل : في الدنيا ، وقيل : يوم القيامة . وقرأ الجمهور : ) فَيَأْتِيَهُم ( ، بياء ، أي العذاب .(7/40)
" صفحة رقم 41 "
وقرأ الحسن ، وعيسى : بتاء التأنيث ، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة ، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة ، كما قال : أتته كتابي ، فلما سئل قال : أو ليس بصحيفة ؟ قال الزمخشري : فتأتيهم بالتاء ، يعني الساعة . وقال أبو الفضل الرازي : أنث العذاب لاشتماله على الساعة ، فاكتسى منها التأنيث ، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيباً بها ، فلذلك أنث . ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثاً إلا إن كان مضافاً إليه نحو : اجتمعت أهل اليمامة ، وقطعت بعض أصابعه ، وشرقت صدر القناة ، وليس كذلك . وقرأ الحسن : بغتة ، بفتح الغين ، فتأتيهم بالتاء من فوق ، يعني الساعة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : ) فَتَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ( قلت : ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود ، وإنما المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها ، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه ، وهو سؤالهم النظرة . ومثل ذلك أن تقول : إن أسأت مقتك الصالحون ، فمتقك الله ، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين . فما هو أشد من مقتهم ؟ وهو مقت الله . ويرى ، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب ، فيحل موقعه . انتهى . ) فَيَقُولُواْ ( ، أي كل أمّة معذبة : ) هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ( : أي مؤخرون ، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة . ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفاً وغير ذلك ، وقولهم للرسول : أين ما تعدنا به ؟
وقال الزمخشري : ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم ، ومعناه : كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب فيه من جنس ، ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال ؟ طرفة عين فلا يجاب إليها . ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ ، يوبخون به عند استنظارهم يومئذ ، ويستعجلون هذا على الوجه ، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده ، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم ، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن . فقال عز وعلا : ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ؟ أشر أو بطر أو استهزاء واتكالاً على الأمل الطويل ؟ ثم قال : وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم ، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم ؟ انتهى . وقيل : اتبع قوله : فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة . ) فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ( ، كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجاً ، لكنهم يقولون ذلك استرواحاً . وقيل : يطلبون الرجعة حين يبغتهم عذاب الساعة ، فلا يجابون إليها .
( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( : خطاب للرسول عليه السلام بإقامة الحجة عليهم ، في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني إذا نزل العذاب بعدها . وقال عكرمة : سنين ، عمر الدنيا . انتهى . وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، تعدت إلى مفعولين ، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية . في الغالب تقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في أوائل سورة الأنعام . وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف ، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم ، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم . ويجوز أن يكون منصوباً بأرأيت على إعمال الأول ، وأضمر الفاعل في جاءهم . والمفعول الثاني هو قوله : ) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ ( ، وما استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها ؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل ، أي الموعود به ، وهو العذاب ؟ وظاهر ما(7/41)
" صفحة رقم 42 "
فسر به المفسرون ما أغنى : أن تكون ما نافية ، والاستفهام قد يأتي مضمناً معنى النفي كقوله : ) هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ؟ بعد قوله : ) أَرَأَيْتُكُم ( في سورة الأنعام ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون . وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاماً وننافية . وقرىء : يمتعون ، بإسكان الميم وتخفيف التاء .
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله ، إن هي عصت ولم تؤمن ، كما قال تعالى : ) وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ). وجمع منذرون ، لأن ) مِن قَرْيَةٍ ( عام في القرى الظالمة ، كأنه قيل : وما أهلكنا القرى الظالمة . والجملة من قوله : ) لَهَا مُنذِرُونَ ( ، في موضع الحال ) مِن قَرْيَةٍ ( ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال ، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون ، فيكون من مجيء الحال مفرداً لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقولك : ما مررت بأحد إلا قائماً ، فصيح . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنها في قوله : ) وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( ؟ قلت : الأصل عزل الواو ، لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : ) سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ). انتهى . ولو قدر نالها منذرون جملة ، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا . ومذهب الجمهور ، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو : ما جاءني أحد إلا راكب . وإذا سمع مثل هذا ، خرجوه على البدل ، أي : إلا رجل راكب . ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائماً ، ولا يحفظ من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم . فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة ، لو رد المفرد بعد إلا صفة لها . فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة ، جاءت الصفة بعد إلا نحو : ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو ، التقدير : ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد . وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، فغير معهود في كلام النحويين . لو قلت : جاءني رجل وعاقل ، على أن يكون وعاقل صفة لرجل ، لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض ، وتغاير مدلولها نحو : ) مررت ( بزيد الكريم والشجاع والشاعر . وأما ) سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( فتقدم الكلام عليه في موضعه .
( وَذِكْرَى ( : منصوب على الحال عند الكسائي ، وعلى المصدر عند الزجاج . فعلى الحال ، إما أن يقدر ذوي ذكرى ، أو مذكرين . وعلى المصدر ، فالعامل منذرون ، لأنه في معنى مذكرون ذكرى ، أي تذكرة . وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولاً له ، قال : على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة ، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها . وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية . قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له ، والمعنى : وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصوا مثل عصيانهم . ) وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ، فنهلك قوماً غير ظالمين ، وهذا الوجه عليه المعول . انتهى . وهذا لا معوّل عليه ، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعاً له غير معتمد على الأداة نحو : ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو . والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة ، فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا . ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش ، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته .
( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبّئُكُمْ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(7/42)
" صفحة رقم 43 "
تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ).
كان مشركو قريش يقولون : إن لمحمد تابعاً من الجن يخبره كما يخبر الكهنة ، فنزلت ، والضمير في ) بِهِ ( يعود على القرآن ، بل ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ). وقرأ الحسن : الشياطون ، وتقدمت في البقرة ، وقد ردها أبو حاتم والقراء ؛ قال أبو حاتم : هي غلط منه أو عليه . وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين . وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية . وقال الفراء : غلط الشيخ ، ظن أنها النون التي على هجائن . فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤية ، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه ، يريد محمد بن السميفع ، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه ؟ وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من ورائها بساتون ، فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن . انتهى . ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين ، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا : يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون ؛ أجرى ذلك في الشياطين تشبيهاً به فقالوا : الشياطين والشياطون . وقال أبو فيد مؤرج السدوسي : إن كان اشتقاقه من شاط ، أي احترق ، يشيط شوطة ، كان لقراء تهما وجه . قيل : ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط ، وجمعه الشياطون ، فخففا الياء ، وقد روي عنهما التشديد ، وقرأ به غيرهما . انتهى . وقرأ الأعمش : الشياطون ، كما قرأه الحسن وابن السميفع . فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن ، قرؤوا ذلك ، ولا يمكن أن يقال غلطوا ، لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان . وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل ؛ نفى أولاً تنزيل الشياطين به ، والنفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن ، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية ، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له ، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به ، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة ، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به ، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب .
ثم قال تعالى : ) فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ ( : والخطاب في الحقيقة للسامع ، لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولذلك قال المفسرون : المعنى قل يا محمد لمن كفر : لا تدع مع الله إلهاً آخر . ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته ، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، ونبه على العشيرة ، وإن كان مأموراً بإنذار الناس كافة . كما قال : ) أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ( ، لأن في إندارهم ، وهم عشيرته ، عدم محاباة ولطف بهم ، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار . فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة ، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل ، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده ، كما قال : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفَّارِ ). وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة : ( كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين ، فأول ما أضعه ربا العباس ، إذ العشيرة مظنة الطواعية ، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم ، وهم له أشد احتمالاً ) . وامتثل ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما أمره به ربه من إنذار عشيرته ، فنادى الأقرب فالأقرب فخذاً . وروي عنه في ذلك أحاديث . ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( : تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر ، وهو كناية عن التواضع . وقال بعض الشعراء : وأنت الشهير بخفض الجناح
فلا تك في رفعه أجدلا(7/43)
" صفحة رقم 44 "
نهاه عن التكبر بعد التواضع . والأجدل : الصقر ، ومن المؤمنين عام في عشيرته وغيرهم . ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان ، جاء التقسيم عليهما ، فكان المعنى : أن من اتبعك مؤمناً ، فتواضع له ؛ فلذلك جاء قسيمه : ) فَإِنْ عَصَوْكَ ( فتبرأ منهم ومن أعمالهم . وفي هذا موادعة نسختها آية السيف . والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك ، على أن من أمر بإنذارهم ، وهم العشيرة ، والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلهاً آخر . وقيل : الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين ، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك والإيمان بك ، ( فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ ( ، لا منكم ، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم . ولو أمره بالبراءة منهم ، ما بقي بعد هذا شفيعاً للعصاة ، ثم أمره تعالى بالتوكل . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وشيبة : فتوكل بالفاء ، وباقي السبعة : بالواو . وناسب الوصف بالعزيز ، وهو الذي لا يغالب ، والرحيم ، وهو الذي يرحمك . وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة . فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء وغيرهم ، فهو يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته . والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه . ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى ، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته ، وما تفعله من تهجدك . وأكثر المفسرين منهم ابن عباس ، على أن المعنى حين تقوم إلى الصلاة .
وقرأ الجمهور : ) وَتَقَلُّبَكَ ( مضارع قلب مشدداً ، عطفاً على ) يَرَاكَ ). وقال مجاهد وقتادة : ) فِى السَّاجِدِينَ ( : في المصلين . وقال ابن عباس : في أصلاب آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت . وقال عكرمة : يراك قائماً وساجداً . وقيل : معنى ) تَقُومُ ( : تخلو بنفسك . وعن مجاهد أيضاً : المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه ، كما قال : ( أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي ) . وفي الوجيز لابن عطية : ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات ، وهو تأويل مجاهد وقتادة . وفي الساجدين : أي صلاتك مع المصلين ، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما . وقال ابن عباس أيضاً ، وقتادة : أراد وتقلبك في المؤمنين ، فعبر عنهم بالساجدين . وقال ابن جبير : أراد الأنبياء ، أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء . وقال الزمخشري : ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم . كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل ، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون ، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة . والمراد بالساجدين : المصلون . وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلبه في الساجدين : تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم . وعن مقاتل ، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن ؟ فتلا هذه الآية . ويحتمل أن لا يخفى على حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين . انتهى .
( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ( لما تقوله ، ( الْعَلِيمُ ( بما تنوبه وتعمله ، وذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كانوا مؤمنين ، واستدلوا بقوله تعالى : ) وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ ( قالوا : فاحتمل الوجوه التي ذكرت ، واحتمل أن(7/44)
" صفحة رقم 45 "
يكون المراد أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، كما نقوله نحن . فإذا احتمل كل هذه الوجوه ، وجب حمل الآية على الكل ضرورة ، لأنه لا منافاة ولا رجحان . وبقوله عليه الصلاة والسلام : ( لم أزل أنقل من أصلال الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( فأما قوله تعالى : ) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ ( ، فلفظ الأب قد يطلق على العم ، كما قالوا أبناء يعقوب له : ) نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( ، . سموا إسماعيل أباً مع أنه كان عماً له .
( قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ ( : أي قل يا محمد : هل أخبركم ؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير . وعلى من متعلق بتنزل ، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم ، لأنه معلق ، لأنه بمعنى أعلمكم ، فإن قدرتها متعدية لاثنين ، كانت سادة مسد المفعول الثاني ؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة ، كانت سادة مسد الاثنين . والاستفهام إذا علق عنه العامل ، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام ، بل يؤول معناه إلى الخبر . ألا ترى أن قولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، كان المعنى : علمت أحدهما في الدار ؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم ، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو ، فالمعنى هنا : هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه ؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه .
ولما كان المعنى هذا ، جاء الإخبار بعده بقوله : ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ، كأنه لما قال : هل أخبركم بكذا ؟ قيل له : أخبر ، فقال : ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ ( ، وهو الكثير الإفك ، وهو الكذب ، أثيم : كثير الإثم . فأفاك أثيم : صيغتا مبالغة ، والمراد الكهنة . والضمير في ) يُلْقُون ( يحتمل أن يعود إلى الشياطين ، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ، ليسترقوا شيئاً مما يتكلم به الملائكة ، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة ، أو : ) يُلْقُونَ السَّمْعَ ( : أي المسموع إلى من يتنزلون عليه . ) وَأَكْثَرُهُمُ ( : أي وأكثر الشياطين الملقين ) كَاذِبُونَ ). فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف ، واحتمل أن يكون حالاً من الشياطين ، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا . ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم ، وجمع الضمير ، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد . واحتمل أن يكون المعنى : يلقون سمعهم إلى الشياطين ، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم ، وأن يكون يلقون السمع ، أي المسموع من الشياطين إلى الناس ؛ وأكثرهم ، أي أكثر الكهنة كاذبون . كما جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء ، فيخلطون معها مائة كذبة . فإذا صدقت تلك الكلمة ، كانت سبب ضلالة لمن سمعها . وعلى كون الضمير عائداً على كل أفاك ، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين ، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك ، ولا تعارض بين قوله : ) كُلّ أَفَّاكٍ ( ، وبين قوله : ) وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ، لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب ، ولا يدل ذلك على أنه لا ينطق إلا بالإفك ، فالمعنى : أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكى عن الجني ، فأكثرهم مغتر .
قال الزمخشري : فإن قلت : ) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( ، لم فرق بينهن وبين إخوان ؟ قلت : أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن ، ليرجع إلى المجيء بهن ، بطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لهم ، ومثاله : أن يحدث الرجل بحديث ، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه . انتهى . ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية ، نفى كلام القرآن ، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن : إنه شعر ، كما قالوا في الرسول : إنه كاهن ، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة ، كما قال تعالى : ) وَمَا هُوَ يِقُولُ كَاهِنٍ ( ، وقال : ) وما هو بقول شاعر ) .
فقال : ) والشعراء يتبعهم الغاوون ). قيل : هي في أمية بن أبي الصلت ، وأبي عزة ، ومسافع الجمحي ، وهبيرة بن أبي وهب ، وأبي سفيان بن الحرث ، وابن الزبعري . وقد أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان . والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر ، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة ، ويقذف المحصنات ، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعاً . وقرأ عيسى : والشعراء : نصباً على الاشتغال ؛ والجمهور : رفعاً على الابتداء والخبر . وقرأ السلمي ، والحسن(7/45)
" صفحة رقم 46 "
بخلاف عنه ، ونافع يتبعهم مخففاً ؛ وباقي السبعة مشدداً ؛ وسكن العين : الحسن ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو . وروى هارون : نصبها عن بعضهم ، وهو مشكل . ) وَالْغَاوُونَ ( ، قال ابن عباس : الرواة ، وقال أيضاً : المستحسنون لأشعارهم ، المصاحبون لهم . وقال عكرمة : الرعاع الذين يتبعون الشاعر . وقال مجاهد ، وقتادة : الشياطين . وقال عطية : السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( : تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول ، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشجهم علي حاتم ، ويبهتوا البريء ، ويفسقوا النفي . وقال ابن عباس : هو تقبيحهم الحسن ، وتحسينهم القبيح . ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ( ، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ، ولهجهم بالفصاحة والمعاني اللطيفة ، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم . وقد درأ الحد في الخمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النعمان بن عدي ، في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية ، وكان قد ولاه بيسان ، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق ، سليمان بن عبد الملك : فبتن كأنهن مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
فقال له سليمان : لقد وجب عليك الحد ، فقال : لقد درأ الله عني الجدّ بقوله : ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ). أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حالا النبوة ، إذ أمرهم ، كما ذكر ، من اتباع الغواة لهم ، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه ، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم ، وذلك بخلاف حال النبوة ، فإنها طريقة واحدة ، لا يتبعها إلا الراشدون . ودعوة الأنبياء واحدة ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ، والترغيب في الآخرة والصدق . وهذا مع أن ما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز . ولما كان ما سبق ذماً للشعراء ، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعراً كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم ، وكل ما يسوغ القول فيه شرعاً فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة . والشعر باب من الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .
وقال رجل علوي لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما لا بأس به . وقيل : المراد بالمستثنين : حسان ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير ، ومن كان ينافخ عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال عليه السلام لكعب بن مالك : ( اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل ) . وقال لحسان : ( قل وروح القدس معك ) ، وهذا معنى قوله : ) وَانتَصَرُواْ ( : أي بالقول فيمن ظلمهم . وقال عطاء بن يسار وغيره : لما ذم الشعراء بقوله : ) وَالشُّعَرَاء ( الآية ، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك ، وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام ، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص ابن زيد قوله : ) وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ( ، فقال : أي في شعرهم . وقال ابن عباس : صار خلقاً لهم وعادة ، كما قال لبيد ، حين طلب منه شعرة : إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيراً منه . ولما ذكر : ) وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ( ، توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله : ) أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ).
ولما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ، تلا عليه : ) وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ(7/46)
" صفحة رقم 47 "
يَنقَلِبُونَ ( ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها . والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار . وقال الزمخشري : وتفسير الظلم بالكفر تعليل ، وكان ذكر قبل أن الذين ظلموا مطلق ، وهذا منه على طريق الاعتزال . وقرأ ابن عباس ، وابن أرقم ، عن الحسن : أي منفلت ينفلتون ، بفاء وتاءين ، معناه : إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ، وهو النجاة . ) وَسَيَعْلَمْ ( هنا معلقة ، وأي منقلب : استفهام ، والناصب له ينقلبون ، وهو مصدر . والجملة في موضع المفعول لسيعلم . وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف ، والعامل ينقلبون انقلاباً ، أي منقلب ، ولا يعمل فيه يعلم ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . انتهى . وهذا تخليط ، لأن أياً ، إذا وصف بها ، لم تكن استفهاماً ، بل أي الموصوف بها قسم لأي المستفهم بها ، لا قسم . برأسه فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة ، ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو : مررت بأي معجب لك ، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو : يا أيها الرجل . والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة . ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه ، والصفة تقع حالاً من المعرفة ، فهذه أقسام أي ؛ فإذا قلت : قد علمت أي ضرب تضرب ، فهي استفهامية ، لا صفة لمصدر محذوف .(7/47)
" صفحة رقم 48 "
( سورة النمل )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طستِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاًّهْلِهِ إِنِّىآنَسْتُ نَاراً سَأاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىأَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِىأَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاّذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه(7/48)
" صفحة رقم 49 "
وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّىأُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِى فِىأَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاٌّ مْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِىأَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِىأَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } )
النمل : ( 1 ) طس تلك آيات . . . . .
الوزع : أصله الكف والمنع ، يقال : وزعه يزعه ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ( ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن ، وقول الحسن : لا بد للقاضي من وزعة ، وقول الشاعر : ومن لم يزعه لبه وحياؤه
فليس له من شيب فوديه وازع(7/49)
" صفحة رقم 50 "
النمل : جنس ، واحدة نملة ، ويقال بضم الميم فيهما ، وبضم النون مع ضم الميم ، وسمي بذلك لكثرة تنمله ، وهو حركته . الحطم : الكسر ، قاله النحاس . التبسم : ابتداء الضحك ، وتفعل فيه بمعنى المجرد ، وهو بسم . قال الشاعر : وتبسم عن ألمي كان منوّرا
تخلل حر الرمل دعص له ند
وقال آخر :
أبدى نواجذه لغير تبسم
التفقد : طلب ما فقدته وغاب عنك . الهدهد : طائر معروف ، وتصغيره على القياس هديهد ، وزعم بعضهم أن ياءه أبدلت ألفاً في التصغير ، فقيل : هداهد . قال الشاعر :
كهداهد كسر الرماة جناحه
كما قالوا : دوابة وشوابة ، يريدون : دويبة وشويبة . سبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وهو يصرف ولا يصرف إذا صار اسماً للحي والقبيلة ، أو البقعة التي تسمى مأرب سميت باسم الرجل . الخبء : الشيء المخبوء ، من خبأت الشيء خبأ بسترته ، وسمي المفعول بالمصدر . الهدية : ما سيق إلى الإنسان مما يتحف به على سبيل التكرمة . العفريت والعفر والعفرتة والعفارتة من الرجال : الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ، ومن الشياطين : الخبيث المارد . قال الشاعر : كأنه كوكب في إثر عفرية
مصوب في سواد الليل منقضب
الصرح : القصر ، أو صحن الدار ، أو ساحتها ، أو البركة ، أو البلاط المتخذ من القوارير ، أقوال تأتي في التفسير . الساق : معروف ، يجمع على أسوق في القلة ، وعلى سووق وسوق في الكثرة ، وهمزة لغة : الممرد : المملس ، ومنه الأمرد ، وشجرة مرداء : لا ورق عليها . القوارير : جمع قارورة .
( طس تِلْكَ ءايَاتُ الْقُرْءانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوء الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاْخِرَةِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ إِنّى آنَسْتُ نَاراً سَئَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَيْرٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ إِنّى آنَسْتُ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء فِى تِسْعِ ءايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ). (7/50)
" صفحة رقم 51 "
هذه السورة مكية بلا خلاف . ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه قال : ) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ، وقبله : ) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( ، وقال هنا : ) طس تِلْكَ ءايَاتُ الْقُرْءانِ ( : أي الذي هو تنزيل رب العالمين . وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم ، لأن المضاف إلى العظيم عظيم . والكتاب المبين ، إما اللوح ، وإبانته أن قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين ، وإما السورة ، وإما القرآن ، وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع . وأن إعجازهما ظاهر مكشوف ونكر . ) وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ، ليبهم بالتنكير ، فيكون أفخم له كقوله : ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ). وإذا أريد به القرآن ، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى ، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة ، من حيث أن مدلول القرآن الاجتماع ، ومدلول كتاب الكتابة . وقيل : القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فحيث جاء بلفظ التعريف ، فهو العلم ، وحيث جاء بوصف النكرة ، فهو الوصف ، وقيل : هما يجريان مجرى العباس ، وعباس فهو في الحالين اسم العلم . انتهى . وهذا خطأ ، إذ لو كان حاله نزع منه علماً ، ما جاز أن يوصف بالنكرة . ألا ترى إلى قوله : ) وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ، ( الرَ تِلْكَ ( ، وأنت لا تقول : مررت بعباس قائم ، تريد به الوصف ؟ وقرأ ابن أبي عبلة : وكتاب مبين ، برفعهما ، التقدير : وآيات كتاب ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فأعرب بإعرابه . وهنا تقدم القرآن على الكتاب ، وفي الحجر عكسه ، ولا يظهر فرق ، وهذا كالمعاطفين في نحو : ما جاء زيد وعمرو . فتارة يظهر ترجيح كقوله : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( ، وتارة لا يظهر كقوله : ) وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ).
قال يحيى بن سلام : ) هُدًى ( إلى الجنة ، ( وَبُشْرَى ( بالثواب . وقال الشعبي : هدى من الضلال ، وبشرى بالجنة ، وهدى وبشرى مقصوران ، فاحتمل أن يكونا منصوبين على الحال ، أي هادية ومبشرة . قيل : والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة ، واحتمل أن يكونا مصدرين ، واحتملا الرفع على إضمار مبتدأ . أي هي هدى وبشرى ؛ أو على البدل من آيات ؛ أو على خبر بعد خبر ، أي جمعت بين كونها آيات وهدى وبشرى . ومعنى كونها هدى للمؤمنين : زيادة هداهم . قال تعالى : ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ). وقيل : هدى لجميع الخلق ، ويكون الهدى بمعنى الدلالة والإرشاد والتبيين ، لا بمعنى تحصيل الهدى الذي هو مقابل الضلال . ) وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( خاصة ، وقيل : هدى للمؤمنين وبشرى للمؤمنين ، وخصهم بالذكر لانتفاعهم به .
( وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( : تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة ) الَّذِينَ ). ولما كان : ) يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ ( مما يتجدد ولا يستغرق الأزمان ، جاءت الصلة فعلاً . ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة ، جاءت الجملة اسمية ، وأكدت المسند إليه فيها بتكراره ، فقيل : ) وَبِالأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة ، واحتمل أن تكون الجملة استئناف إخبار . قال الزمخشري : ويحتمل أن تتم الصلة عنده ، أي عند قوله : ) وَهُمْ ( ، قال : وتكون الجملة اعتراضية ، كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وهو الوجه ، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم ، حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق . انتهى . وقوله : وتكون الجملة اعتراضية ، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من كونها لا تقع إلا بين شيئين متعلق بعضهما ببعض ، كوقوعها بين صلة موصول ، وبين جزأي إسناد ، وبين شرط وجزائه ، وبين نعت ومنعوت ، وبين(7/51)
" صفحة رقم 52 "
قسم ومقسم عليه ، وهنا ليست واقعة بين شيئين مما ذكر وقوله الخ . حتى صار معناها فيه دسيسة الاعتزال . وقال ابن عطية : والزكاة هنا يحتمل أن تكون غير المفروضة ؛ لأن السورة مكية قديمة ، ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير . وقيل : الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق . انتهى .
ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث ، ذكر المنكرين والإشارة إلى قريش ومن جرى مجراهم في إنكار البعث . والأعمال ، إما أن تكون أعمال الخير والتوحيد التي كان الواجب عليهم أن تكون أعمالهم ، فعموا عنها وتردّدوا وتجيزوا ، وينسب هذا القول إلى الحسن البصري ؛ أو أعمال الكفر والضلال ، فيكون تعالى قد حبب ذلك إليهم وزينه بأن خلقه في نفوسهم ، فرأوا تلك الأعمال القبيحة حسنة . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند تزين أعمالهم إلى ذاته ، وأسنده إلى الشيطان في قوله : ) وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( ؟ قلت : بين الإسنادين فرق ، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله تعالى مجاز ، وله طريقان في علم البيان : أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة . والثاني : أن يكون من المجاز المحكي .
فالطريق الأول : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، وجعلوا إنعام الله عليهم بذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، وإليه إشارة الملائكة بقولهم : ) وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ ). ) والطريق الثاني ( : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه ، لأنه المختار المحكي ببعض الملابسات . انتهى ، وهو تأويل على طريق الاعتزال .
( وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ ( : إشارة إلى منكري البعث ، و ) سُوء الْعَذَابِ ( : الظاهر أنه ليس مقيداً بالدنيا ، بل لهم ذلك في الدنيا والآخرة . وقيل : المعنى في الدنيا ، وفسر بما نالهم يوم بدر من القتل والأسر والنهب . وقيل : ما ينالونه عند الموت وما بعده من عذاب القبر . وسوء العذاب : شدته وعظمه . والظاهر أن ) الاْخْسَرُونَ ( أفعل التفضيل ، وذلك أن الكافر خسر الدنيا والآخرة ، كما أخبر عنه تعالى ، وهو في الآخرة أكثر خسراناً ، إذ مآله إلى عقاب دائم . وأما في الدنيا ، فإذا أصابه بلاء ، فقد يزول عنه وينكشف . فكثرة الخسران وزيادته ، إنما ذلك له في الآخرة ، وقد ترتب الأكثرية ، وإن كان المسند إليه واحداً بالنسبة إلى الزمان والمكان ، أو الهيئة ، أو غير ذلك مما يقبل الزيادة . وقال الكرماني : أفعل هنا للمبالغة لا للشركة ، كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران ألبتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة . وقال ابن عطية : والأخسرون جمع أخسر ، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف ، فتقوى رتبته في الأسماء ، وفي هذا نظر . انتهى . ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير . إذا كان بأل ، بل لا يجوز فيه إلا ذلك ، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول : الزيدون هم الأفضلون ، والأفاضل ، والهندات هنّ الفضليات والفضل . وأما قوله : لا يجمع إلا أن يضاف ، فلا يتعين إذ ذاك جمعه ، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه ، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو .
ولما تقدم : ) تِلْكَ ءايَاتُ الْقُرْءانِ ( ، خاطب نبيه بقوله : ) وَأَنَّكَ ( ، أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله تعالى ، وهو الحكيم العليم ، لا كما ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر ، وغير ذلك من تقوّلاتهم . وبنى(7/52)
" صفحة رقم 53 "
الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل ، وهو جبريل عليه السلام ، للدلالة عليه في قوله : ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ). ولقي يتعدى إلى واحد ، والتضعيف فيه للتعدية ، فيعدى به إلى اثنين ، وكأنه كان غائباً عنه فلقيه فتلقاه . قال ابن عطية : ومعناه يعطي ، كما قال : ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ ). وقال الحسن : المعنى وإنك لتقبل القرآن . وقيل : معناه تلقن . والحكمة : العلم بالأمور العملية ، والعلم أعم منه ، لأنه يكون عملياً ونظرياً ، وكمال العلم : تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات ، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى . وهذه الآية تمهيد لما يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية ، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة الله ، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى . قيل : وانتصب ) إِذْ ( باذكر مضمرة ، أو بعليم ؛ وليس انتصابه بعليم واضحاً ، إذ يصير الوصف مقيداً بالمعمول .
وقد تقدم طرف من قصة موسى عليه السلام في رحلته بأهله من مدين : في سورة طه ، وظاهر أهله جمع لقوله : ) سَئَاتِيكُمْ ( و ) تَصْطَلُونَ ( ، وروي أنه لم يكن معه غير امرأته . وقيل : كانت ولدت له ، وهو عند شعيب ، ولداً ، فكان مع أمه . فإن صح هذا النقل ، كان من باب خطاب الجمع على سبيل الإكرام والتعظيم . وكان الطريق قد اشتبه عليه ، والوقت بارد ، والسير في ليل ، فتشوقت نفسه ، إذ رأى النار إلى زوال ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال : ) إِذْ قَالَ بِخَيْرٍ ( : أي من موقدها بخبر يدل على الطريق ، ( إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ ( : أي إن لم يكن هناك من يخبر ، فإني أستصحب ما تدفؤون به منها . وهذا الترديد بأو ظاهر ، لأنه كان مطلوبه أولاً أن يلقي على النار من يخبره بالطريق ، فإنه مسافر ليس بمقيم . فإن لم يكن أحد ، فهو مقيم ، فيحتاجون لدفع ضرر البرد ، وهو أن يأتيهم بما يصطلون ، فليس محتاجاً للشيئين معاً ، بل لأحدهما الخبر إن وجد من يخبره فيرحل ، أو الاصطلاء إن لم يجد وأقام . فمقصوده إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، وهو معنى قوله : ) لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ).
وجاء هنا : ) إِذْ قَالَ مُوسَى ( ، وهو خبر ، وفي طه : ) لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ ( ، وفي القصص : ) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى بِخَيْرٍ ( ، وهو ترج ، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر . ولكن الرجاء إذا قوي ، جاز للراجي أن يخبر بذلك ، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع . وأتى بسين الاستقبال ، إما لأن المسافة كانت بعيدة ، وإما لأنه قد يمكن أن تبطىء لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه . والشهاب : الشعلة ، والقبس : النار المقبوسة ، فعل بمعنى مفعول ، وهو القطعة من النار في عود أو غيره ، وتقدم ذلك في طه . وقرأ الكوفيون : بشهاب منوناً ، فقبس بدل أو صفة ، لأنه بمعنى المقبوس . وقرأ باقي السبعة : بالإضافة ، وهي قراءة الحسن . قال الزمخشري : أضاف الشهاب إلى القبس ، ، واتبع في ذلك أبا الحسن . قال أبو الحسن : الإضافة أجود وأكثر في القراءة ، كما تقول : دار آجر ، وسوار ذهب . والظاهر أن الضمير في ) جَاءهَا ( عائد على النار ، وقيل : على الشجرة ، وكان قد رآها في شجرة سمر . وقيل : عليق ، وهي لا تحرقها ، كلما قرب منها بعدت . و ) نُودِىَ ( المفعول الذي لم يسم فاعله ، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام . و ) ءانٍ ( على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها ، ويجوز أن تكون مصدرية . أما الثنائية التي تنصب المضارع ، وبورك صلة لها ، والأصل حرف الجر ، أي بأن بورك ، وبورك خبر . وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وتقديره بأنه بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة ؟ قلت : لا ، لأنه لا بد من قد . فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ قلت : لا يصح ، لأنها علامة ولا تحذف . انتهى . ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وبورك فعل دعاء ، كما تقول : بارك الله فيك . وإذا كان دعاء ، لم يجز دخول قد عليه ، فيكون كقوله تعالى : ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا ( في قراءة من جعله فعلاً ماضياً ، وكقول العرب : إما أن جزاك الله خيراً ، وإما أن يغفر الله لك ، وكان الزمخشري بنى ذلك على ) أَن بُورِكَ ( خبر لا دعاء ، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأجاز(7/53)
" صفحة رقم 54 "
الزجاج أن تكون ) أَن بُورِكَ ( في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو على إسقاط الخافض ، أي نودي بأن بورك ، كما تقول : نودي بالرخص . ويجوز أن تكون أن الثنائية ، أو المخففة من الثقيلة ، فيكون بورك دعاء . وقيل : المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء ، أي نودي هو ، أي النداء ، ثم فسر بما بعده . وبورك معناه : قدّس وطهر وزيد خيره ، ويقال : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك . وقال الشاعر : فبوركت مولوداً وبوركت ناشئا
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال آخر :
بورك الميت الغريب كما
بورك نبع الرمان والزيتون
وقال عبد الله بن الزبير :
فبورك في بنيك وفي بنيهم
إذا ذكروا ونحن لك الفداء
و ) مِنْ ( : المشهور أنها لمن يعلم ، فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن وغيرهم : أراد تعالى بمن في النار ذاته ، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى . وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف ، أي بورك من قدرته وسلطانه في النار . وقيل لموسى عليه السلام : أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيه النار . وقال السدّي : من للملائكة الموكلين بها . وقيل : من تقع هنا على ما لا يعقل . فقال ابن عباس : أراد النور . وقيل : الشجرة التي تتقد فيها النار . وقيل : والظاهر في ) وَمَنْ حَوْلَهَا ( أنه لمن يعلم تفسير ) حَدِيثُ مُوسَى ( ، وفسر بالملائكة ، ويدل عليه قراءة أبي ؛ فيما نقل أبو عمرو الداني : وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ؛ ومن حولها من الملائكة ، وتحمل هذه القراءة على التفسير ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، وفسر أيضاً بموسى والملائكة عليهم السلام معاً . وقيل : تكون لما لا يعقل ، وفسر بالأمكنة التي حول النار ؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم ، وهو تكليم الله لموسى عليه السلام ؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته .
والظاهر أن قوله : ) وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( داخل تحت قوله : ) نُودِىَ ). أي لما نودي ببركة من ذكر ، نودي أيضاً بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال ، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير ابن عباس أن من أريد به الله تعالى ، فإن ذلك دال على التحيز ، فأتى بما يقتضي التنزيه . وقال السدّي : هو من كلام موسى ، لما سمع النداء قال : ) وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( تنزيهاً لله تعالى عن سمات المحدثين . وقال ابن شجرة : هو من كلام الله ، ومعناه : وبورك من سبح الله ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ . وقيل : ) وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( خطاب لمحمد عليه لصلاة والسلام ، وهو اعتراض بين الكلامين ، والمقصود به التنزيه .
ولما آنسه تعالى ، ناداه وأقبل عليه(7/54)
" صفحة رقم 55 "
فقال : ) يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). والظاهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن ، وأنا الله : جملة في موضع الخبر ، والعزيز الحكيم : صفتان ، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله ، يعني : إن مكلمك أنا ، والله بيان لأنا ، والعزيز الحكيم صفتان للبيان . انتهى . وإذا حذف الفاعل وبني الفعل مفعول ، فلا يجوز أن يعود على الضمير على ذلك المحذوف ، إذ قد غير الفعل عن بنائه له ، وعزم على أن لا يكون محدثاً عنه . فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك ، إذ يصير مقصوداً معتنى به ، وهذا النداء والإقبال والمخاطبة تمهيد لما أراد الله تعالى أن يظهره على يده من المعجز ، أي أنا القوي القادر على ما يبعد في الأوهام ، الفاعل ما أفعله بالحكمة . وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَلْقِ عَصَاكَ ( ؟ قلت : على بورك ، لأن المعنى : ) نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ). وقيل له : ألق عصاك ، والدليل على ذلك قوله : ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ( ، بعد قوله : ) أَن ياإِبْراهِيمُ مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ ( ، على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليه أن حج واعتمر ، وإن شئت أن حج وأن اعتمر . انتهى . وقوله : ) أَنَّهُ ( ، معطوف على بورك مناف لتقديره . وقيل له : ألق عصاك ، لأن هذه جملة معطوفة على بورك ، وليس جزؤها الذي هو . وقيل : معطوفاً على بورك ، وإنما احتيج إلى تقدير . وقيل له : ألق عصاك ، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها ، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين ، والصحيح أنه لا يشترط ذلك ، بل قوله : ) وَأَلْقِ عَصَاكَ ( معطوف على قوله : ) إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ، عطف جملة الأمر على جملة الخبر . وقد أجاز سيبويه : جاء زيد ومن عمرو .
( فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ ( : ثم محذوف تقديره : فألقاها من يده . وقرأ الحسن ، والزهري ، وعمرو بن عبيد : جأن ، بهمزة مكان الألف ، كأنه فر من التقاء الساكنين ؛ وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله : ولا الضألين ، بالهمز في قراءة عمرو بن عبيد . وجاء : ) فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ ( ، ( فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ، وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها ، وليس إعداماً لذاتها وخلقها لحية وثعبان ، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات . وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان ، فقيل : وهو صغار الحيات ، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها ، مع عظم جثتها . ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل ، ( وَلِيُّ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ ). قال مجاهد : ولم يرجع . وقال السدّي : لم يمكث . وقال قتادة : ولم يلتفت ، يقال : عقب الرجل : توجه إلى شيء كان ولى عنه ، كأنه انصرف على عقبيه ، ومنه : عقب المقاتل ، إذا كر بعد الفرار . قال الشاعر : فما عقبوا إذ قيل هل من معقب
ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمراً هائلاً جداً ، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى ، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها . قال الزمخشري : وإنما رغب لظنه أن ذلك لأمرٍ أريد به ، ويدل عليه : ) إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ ). انتهى . وقال ابن عطية : وناداه الله تعالى مؤنساً ومقوياً على الأمر : ) خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ ( ، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا يخافون غيري . فأخذ موسى عليه السلام الحية ، فرجعت عصا ، ثم صارت له عادة . انتهى . وقيل : لّالمعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليهم فيه ، وهم أخوف الناس من الله . وقيل : إذا أمرتهم بإظهار معجز ، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك ، فالمرسل يخاف الله لا محالة . انتهى .
والأظهر أن قوله : ) إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( ، استثناء منقطع ، والمعنى : لكن من ظلم غيرهم ، قاله الفراء وجماعة ، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم . وعن الفراء : إنه استثناء متصل من جمل محذوفة ، والتقدير : وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم . ورده النحاس وقال : الاستثناء من محذوف محال ، لو(7/55)
" صفحة رقم 56 "
جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيداً ، بمعنى : وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً ، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه . انتهى . وقالت فرقة : إلا بمعنى الواو ، والتقدير : ولا من ظلم ، وهذا ليس بشيء ، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة ، إذ الواو للإدخال ، وإلا للإخراج ، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر . وروي عن الحسن ، ومقاتل ، وابن جريج ، والضحاك ، ما يقتضي أنه استثناء متصل .
قال ابن عطية : وأجمع العلماء على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، واختلف فيما عداها ، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك . انتهى . وقال الزمخشري : وإلا بمعنى لكن ، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن المرسل كان ذلك مظنة لطرو الشبهة فاستدرك ذلك ، والمعنى : ولكن من ظلم منهم ، أي فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى ، بوكزة القبطي . ويوشك أن يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى ، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلماً ؛ كما قال موسى : ) رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى ). انتهى . وقرأ أبو جعفر ، وزيد بن أسلم : ألا من ظلم ، بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، حرف استفتاح . ومن : شرطية . والحسن : حسن التوبة ، والسوء : الظلم الذي ارتكبه . وقرأ الجمهور : حسناً ، بضم الحاء وإسكان السين منوناً . وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني : كذلك ، إلا أنه لم ينون ، جعله فعلى ، فامتنع الصرف ؛ وابن مقسم : بضم الحاء والسين منوناً . ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي ليلى ، والأعمش ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو زيد ، وعصمة ، وعبد الوارث ، وهارون ، وعياش : بفتحهما منوناً .
( وَأُدْخِلَ ( : أمر بما يترتب عليه من ظهور المعجز العظيم ، لما أظهر له معجزاً في غيره ، وهو العصا ، أظهر له معجزاً في نفسه ، وهو تلألؤ يده كأنها قطعة نور ، إذا فعل ما أمر به . وجواب الأمر الظاهر أنه تخرج ، لأن خروجها مترتب على إدخالها . وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج ، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول . قال قتادة : ) فِى جَيْبِكَ ( : قميصك ، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها . وقال ابن عباس ، ومجاهد : كان كمها إلى بعض يده . وقال السدي : في جيبك : أي تحت إبطك . والظاهر أن قوله : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ ( متعلق بمحذوف تقديره : اذهب بهاتين الآيتين : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ ( ، ويدل عليه قوله بعد : ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَةً ( ، وهذا الحذف مثل قوله : أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلاماً
وقلت إلى الطعام فقال منهم
فريق يحسد الإنس الطعاما
التقدير : هلموا إلى الطعام . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ، وأدخل يدك ، في ) تِسْعِ ءايَاتٍ ( ، أي في جملة تسع آيات . ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة ، ثنتان منها : اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجذب في بواديهم ، والنقصان من مزارعهم . انتهى . فعلى الأول يكون العصا واليد داخلتين في التسع ، وعلى الثاني تكون في بمعنى مع ، أي مع تسع آيات . وقال ابن عطية : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى ( متصل بقوله : ) أَلْقِ وَأُدْخِلَ ( ، وفيه اقتضاب وحذف تقديره : نمهد ذلك وتيسر لك في جملة تسع آيات وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمس ، والحجر ؛ وفي هذين الأخيرين اختلاف ، والمعنى : يجيء بهنّ إلى فرعون وقومه . وقال الزجاج : في تسع آيات ، أي من تسع آيات ، كما تقول : خذ ) لِى ( عشراً من الإبل فيها فحلان ، أي منها إلى فرعون ، أي مرسلاً إلى فرعون . انتهى . وانتصب ) مُبْصِرَةً ( على الحال ، أي بينة واضحة ، ونسب الإبصار إليها على(7/56)
" صفحة رقم 57 "
سبيل المجاز ، لما كان يبصر بها جعلت مبصرة ، أو لما كان معها الإبصار والوضوح . وقيل : لجعلهم بصراء ، من قولل : أبصرته المتعدية بهمزة النقل من بصر . وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، كماء دافق . وقرأ قتادة ، وعلي بن الحسين : مبصرة ، بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر ، كما تقول : الولد مجبنة ، وأقيم مقام الاسم ، وانتصب أيضاً على الحال ، وكثر هذا الوزن في صفات الأماكن نحو : أرض مسبعة ، ومكان مضنية . قال الزمخشري : أي مكاناً يكثر فيه التبصر . انتهى . والأبلغ في : ) وَاسْتَيْقَنَتْهَا ( أن تكون الواو واو الحال ، أي كفروا بها وأنكروها في الظاهر ، وقد استيقنت أنفسهم في الباطن أنها آيات من عند الله ، وكابروا وسموها سحراً . وقال تعالى ، حكاية عن موسى في محاورته لفرعون : ) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ). ) ظُلْماً ( : مجاوزة الحد ، ( وَعُلُوّاً ( : ارتفاعاً وتكبراً عن الإيمان ، وانتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي ظالمين عالين ؛ أو مفعولان من أجلهما ، أي لظلمهم وعلوهم ، أي الحامل لهم على الإنكار والجحود ، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم والعلو . واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو : استكبر في معنى تكبر . وقرأ عبد الله ، وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وأبان بن تغلب ، وعلياً : تقلب الواو ياء ، وكسر العين واللام ، وأصله فعول ، لكنهم كسروا العين اتباعاً ؛ وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة ، وتقدم الخلاف في كفر العناد ، هل يجوز أن يقع أم لا ؟ والعاقبة : ما آل إليه قوم فرعون من سوء المنقلب ، وما أعد لهم في الآخرة أشد ، وفي هذا تمثيل لكفار قريش ، إذ كانوا مفسدين مستعلين ، وتحذيرهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن كان قبلهم .
( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ وَقَالَ يأَبَتِ أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ).
هذا ابتداء قصص وأخبار بمغيبات وعبر ونكر . ) عِلْمًا ( لأنه طائفة من العلم . وقال قتادة : علماً : فهماً . وقال مقاتل : علماً بالقضاء . وقال ابن عطاء : علماً بالله تعالى . وقال الزمخشري : أو علماً سنياً عزيزاً . ) وَقَالاَ ( قال : فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ومنعته فصبر ؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه ، فأضمر ذلك ، ثم عطف عليه التحميد ، كأنه قال : ولقد آتيناهما علماً ، فعملا به وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، ( وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ( ، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً ، أو من يؤت مثل علمهما ، وفي الآية دليل على شرف العلم . انتهى . والموروث : الملك والنبوّة ، بمعنى : صار ذلك إليه بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً ، كما قيل : العلماء ورثة الأنبياء . وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا نورث مالاً ، وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً ، فنبىء سليمان من بينهم وملك . وقيل : ولاه على بني إسرائيل في حياته من بين سائر أولاده ، فكانت الولاية في معنى الوراثة . وقال الحسن : ورث المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث . وقيل : الملك والسياسة . وقيل : النبوة فقط ، والأظهر القول الأول ، ويؤيده قوله : ) عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( ، فهذا يدل على النبوة ؛ ) وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء ( يدل على الملك ، وكان هذا شرحاً للميراث . وقوله : ) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( يقوي ذلك ، ولا يناسب شيء من هذا وراثة المال .
وقوله : ) يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( تشهير لنعمة الله ، وتنويه بها واعتراف بمكانها ، ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم(7/57)
" صفحة رقم 58 "
الأمور . و ) مَنطِقَ الطَّيْرِ ( : استعارة لما يسمع منها من الأصوات ، وهو حقيقة في بني آدم ، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم ، كما يفهم بعض الطير من بعض ، أطلق عليه منطق . وقيل : كانت الطير تكلمه معجزة له ، كقصة الهدهد ، والظاهر أنه علم منطق الطير وعموم الطير . وقيل : علم منطق الحيوان . قيل : والنبات ، حتى كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ، وإنما نص على الطير ، لأنه كان جنداً من جنوده ، يحتاج إليه في التظليل من الشمس ، وفي البعث في الأمور . وقال قتادة : والشعبي : وكذلك كانت هذه النملة القائلة ذات جناحين . وأورد المفسرون مما ذكروا بأن سليمان عليه السلام أخبر عن كثير من الطير بأنواع من الكلام ، تقديس لله تعالى وعظات ، وعبر ما الله أعلم بصحته .
( وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء ( : ظاهره العموم ، والمراد الخصوص ، أي من كل شيء يصلح لنا ونتمناه ، وأريد به كثرة ما أوتي ، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء . كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، يريد كثرة فصاده ، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس : ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ( ؛ وبنى علمنا وأوتينا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تعالى . وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم ، لأنه إما إن أراد نفسه وأباه ، أو لما كان ملكاً مطاعاً خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها ، لا على سبيل التعاظم والتكبر .
( إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( : إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة .
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن ، ومثلها للإنس ، ومثلها للطير ، ومثلها للوحش ، وألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ، ومنبره في وسطه من ذهب ، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، تقعد الأنبياء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى صحة نقل ، وكان ملكه عظيماً ، ملأ الأرض ، وانقاد له أهل المعمور منها . وتقدم لنا أنه ملك الأرض بأسرها أربعة : مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : بختنصر ونمروذ . وحشر الجنود يقتضي سفراً وفسر الجنود أنهم الجن والإنس والطير ، وذكر المفسرون الوحش رابعاً .
( فَهُمْ يُوزَعُونَ ( : يحشر أولهم على آخرهم ، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي آخرهم فيجتمعون ، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ، أو يكفون عن المسير حتى يجتمعوا . وقيل : يجتمعون من كل جهة . وقيل : يساقون . وقيل : يدفعون . وقيل : يحبسون . كانت الجيوش تسير معه إذا سار ، تنزل إذا نزل . ) حَتَّى إِذَا أَتَوْا ( : هذه غاية لشيء مقدر ، أي وساروا حتى إذا أتوا ، أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له ، أي فهم يسيرون مكنوفاً بعضهم من مفارقة بعض . وعدى أتوا بعلى ، إما لأن إتيانهم كان من فوق ، وإما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء ، إذا أتى على آخره وأنفذه ، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم ، قاله الزمخشري .
وقال ابن عطية : والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض ، ولذلك يتهيأ حطم النمل بنزولهم في وادي النمل . ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح ، فأحست النمل بنزولهم في وادي النمل ، ووادي النمل قيل بالشام . وقيل : بأقصى اليمن ، وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها . وقال كعب : وادي السدر من الطائف . والظاهر صدور القول من النملة ، وفهم سليمان كلامها ، كما فهم منطق الطير . قال مقاتل : من ثلاثة أميال . وقال الضحاك بلغته : الريح كلامها . وقال ابن بحر : نطقت بالصوت معجزة لسليمان ، ككلام الضب والذراع للرسول . وقيل : فهمه إلهاماً من الله ، كما فهمه جنس النمل ، لا أنه سمع قولاً . وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك . قال الشاعر : لو كنت أوتيت كلام الحكل
علم سليمان كلام النمل(7/58)
" صفحة رقم 59 "
والحكل : ما لا يسمع صوته . وذكروا اختلافاً في صغر النملة وكبرها ، وفي اسمها العلم ما لفظه . وليت شعري ، من الذي وضع لها لفظاً يخصها ، أبنو آدم أم النمل ؟ وقالوا : كانت نملة عرجاء ، ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنث ، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة ، لأن نملة ، وإن كان بالتاء ، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث . وما كان كذلك ، كالنملة والقملة ، مما بينه في الجمع وبين واحدة من الحيوان تاء التأنيث ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق ، لا دالة على التأنيث الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس .
وقال الزمخشري ، وعن قتادة : أنه دخل الكوفة ، فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم . وكان أبو حنيقة حاضراً ، وهو غلام حدث ، فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكراً أم أنثى : فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى . فقيل له : من أين عرفت ؟ فقال : من كتاب الله ، وهو قوله : ) قَالَتْ نَمْلَةٌ ( ، ولو كان ذكراً لقال قال نملة . قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي . انتهى . وكان قتادة بن دعامة السدوسي بصيراً بالعربية ، وكونه أفحم ، يدل على معرفته باللسان ، إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث ، وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر ، إذ هو مما لا يتميز فيه أحد هذين ، فتذكيره وتأنيثه لا يعلم ذلك من إلحاق العلامة للفعل فتوقف ، إذ لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله . وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله من قوله : ) قَالَتْ نَمْلَةٌ ( ، ولو كان ذكراً لقال : قال نملة ، وكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث ، سواء كان ذكراً أم أنثى . وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ، فبينهما قدره مشترك ، وهو إطلاقهما على الذكر والمؤنث ، وبينهما فرق ، وهو أن الحمامة والشاة يتميز فيهما المذكر من المؤنث ، فيمكن أن تقول : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، فتميز بالصفة . وأما تمييزه بهو وهي ، فإنه لا يجوز . لا تقول : هو الحمامة ، ولا هو الشاة ؛ وأما النملة والقملة فلا يتيمز فيه المذكر من المؤنث ، فلا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث ، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان العاقل نحو : المرأة ، أو غير العاقل كالدابة ، إلا أن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك ، فيجوز أن تلحق العلامة الفعل ، ويجوز أن لا تلحق ، على ما قرر ذلك في باب الإخبار عن المؤنث في علم العربية .
وقرأ الحسن ، وطلحة ، ومعتمر بن سليمان ، وأبو سليمان التيمي : نملة ، بضم الميم كسمرة ، وكذلك النمل ، كالرجلة والرجل لعتان . وعن سليمان التيمي : نمل ونمل بضم النون والميم ، وجاء الخطاب بالأمر ، كخطاب من يعقل في قوله : ) أَدْخِلُواْ ( وما بعده ، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل ، وصدر من النمل الامتثال لأمرها . وقرأ شهر بن حوشب : مسكنكم ، على الإفراد . وعن أبي : أدخلن مساكنكن لا يحطمنكم : مخففة النونن التي قبل الكاف . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وعيسى بن عمر الهمداني ، الكوفي ، ونوح القاضي : بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون ، مضارع حطم مشدداً . وعن الحسن : بفتح الياء وإسكان الحاء وشد الطاء ، وعنه كذلك مع كسر الحاء ، وأصله : لا يحطتمنكم من الاحتطام . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وطلحة ، ويعقوب ، وأبو عمرو في رواية عبيد : كقراءة الجمهور ، إلا أنهم سكنوا نون التوكيد . وقرأ الأعمش : بحذف النون وجزم الميم ، والظاهر أن قوله : ) لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ( ، بالنون خفيفة أو شديدة ، نهي مستأنف ، وهو من باب : لا أرينك(7/59)
" صفحة رقم 60 "
ههنا ، بهن غير النمل ، والمراد النمل ، أي لا تظهروا بأرض الوادي فيحطمكم ، ولا تكن هنا فأراك . وقال الزمخشري : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون هنا بدلاً من الأمر ، والذي جوز أن يكون بدلاً منه ، لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا ، أرادت لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها . انتهى . وأما تخريجه على أنه أمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، إذ هو مجزوم ، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي ، وأما مع وجود نون التوكيد ، فإنه لا يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر . وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر ، فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر . وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في النحو ، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب الشرط ، قول الشاعر : نبتم نبات الخيزرانة في الثرى
حديثاً متى يأتك الخير ينفعا
وقول الآخر : مهما تشا منه فزارة يعطه
ومهما تشا منه فزارة يمنعا
قال سيبويه : وذلك قليل في الشعر ، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوماً غير واجب . انتهى . وقد تنبه أبو البقاء لشيء من هذا قال : وقيل هو جواب الأمر ، وهو ضعيف ، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار . وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن مدلول ) لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ( مخالف لمدلول ) أَدْخِلُواْ ). وأما قوله : لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ، فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، والبدل من صفة الألفاظ . نعم لو كان اللفظ القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل ، لأن الأمر بدخول المساكن نهى عن كونهم في ظاهر الأرض . وأما قوله : أنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخر ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو لا يجوز ، بل الظاهر إسناد الحطم إليه وإلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي خيل سليمان وجنوده ، أو نحو ذلك مما يصح تقديره . ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( : جملة حالية ، أي إن وقع حطم ، فليس ذلك بتعمد منهم ، إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا ، كقوله : ) فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( ، وهذا التفات حسن ، أي من عدل سليمان وأتباعه ورحمته ورفقه أن لا يحطم نملة فما فوقها إلا بأن لا يكون لهم شعور بذلك .
وما أحسن ما أتت به هذه النملة في قولها وأغربه وأفصحه وأجمعه للمعاني ، أدركت فخامة ملك سليمان ، فنادت وأمرت وأنذرت . وذكروا أنه جزى بينها وبين سليمان محاورات ، وأهدت له نبقة ، وأنشدوا أبياتاً في حقارة ما يهدى إلى العظيم ، والاستعذار من ذلك ، ودعاء سليمان للنمل بالبركة ، والله أعلم بصحة ذلك أو افتعاله . والنمل حيوان قوي الحس شمام جداً ، يدخر القوت ، ويشق الحبة قطعتين لئلا تنبت ، والكزبرة بأربع ، لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت ، وتأكل في عامها بعض ما(7/60)
" صفحة رقم 61 "
تجمع ، وتدخر الباقي عدة . وفي الحديث : ( النهي عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة ) ، خرجه أبو داود عن ابن عباس . وروي من حديث أبي هريرة : وتبسم سليمان عليه السلام ، إما للعجب بما دل عليه قولها : ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( ، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره ، وإما للسرور بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً ، وهو إدراكه قول ما همس به ، الذي هو مثل في الصغر ، ولذلك دعا أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه . وانتصب ضاحكاً على الحال ، أي شارعاً في الضحك ومتجاوزاً حد التبسم إلى الضحك ، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب ، كما يقولون ، تبسم تبسم الغضبان ، وتبسم تبسم المستهزىء ، وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح ، أتى بقوله : ) ضَاحِكاً ). وقرأ ابن السميفع : ضحكاً ، جعله مصدراً ، لأن تبسم في معنى ضحك ، فانتصابه على المصدر به ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، كقراءة ضاحكاً .
( وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى ( : أي اجعلني شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه ، حتى لا ينفلت عني ، حتى لا أنفك شاكراً لك . وقال ابن عباس : أوزعني : اجعلني أشكر . وقال ابن زيد : حرضني . وقال أبو عبيدة : أولعني . وقال الزجاج : امنعني عن الكفران . وقيل : ألهمني الشكر ، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما ، كما يشكر نعمة الله على نفسه ، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما ، ولا سيما إذا كان الولد تقياً لله صالحاً ، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما بسببه ، كقولهم : رحم الله من خلفك ، رضي الله عنك وعن والديك . ولما سأل ربه شيئاً خاصاً ، وهو شكر النعمة ، سأل شيئاً عاماً ، وهو أن يعمل عملاً يرضاه الله تعالى ، فاندرج فيه شكر النعمة ، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين ، ثم دعا أن يلحق بالصالحين . قال ابن زيد : هم الأنبياء والمؤمنون ، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا جعلهم من الصالحين ، كما قال يوسف عليه السلام : ) تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ). وقال تعالى ، عن إبراهيم عليه السلام : ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ). قيل : لأن كمال الصلاح أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية ، وهذه درجة عالية .
( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ).
الظاهر أنه تفقد جميع الطير ، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا . قيل : وكان يأتيه من كل صنف واحد ، فلم ير الهدهد . وقيل : كانت الطير تظله من الشمس ، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن ، فمسته الشمس ، فنظر إلى مكان الهدهد ، فلم يره . وعن عبد الله بن سلام : أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها ، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها ، وكان يخبر سليمان بذلك ، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة ، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة ، لاحتياجهم إلى الماء . وفي قوله ) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ( دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم . وقال عمر رضي الله عنه : لو أن سخلة على شاطىء الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر ، وفي الكلام محذوف ، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير .
قال ابن عطية وقوله : ) مَا لِى لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ( ، مقصد الكلام الهدهد ، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه ، وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله : ) مَا لِى ( ،(7/61)
" صفحة رقم 62 "
( سقط : ناب مناب الألف التي تختلجها أم ، انتهى فظاهر هذا الكلام أن أم متصلة ، وأن الاستفهام الذي في قوله ومالي ) ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه عنده : أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد ؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته ؟ وقال الزمخشري : أم هي المنقطعة ، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال : ) مَا لِى لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ( ؟ على معنى : أنه لا يراه ، وهو حاضر ، لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه سأل صحة ما لا ح له ، ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ؟ انتهى . والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة ، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام ، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة ، كانت أم منقطعة ، وهنا تقدم ما ، ففارت شرط المتصلة . وقيل : يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره : ما للهدهد لا أراه ؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب . وفي الكشاف ، أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس ، تجهز للحج ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، ثم عزم على المسير إلى اليمن ، فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغذى ويصلي ، فلم يجد الماء ، وكان الهدهد يأتيه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض . وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء .
( لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( : أبهم العذاب الشديد ، وفي تعيينه أقوال متعارضة ، والأجود أن يجعل أمثلة . فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جريج : نتف ريشه . وقال ابن جريج : ريشه كله . وقال يزيد بن رومان : جناحه . وقال ابن وهب : نصفه ويبقى نصفه . وقيل : يراد مع نتفه تركه للشمس . وقيل : يحبس في القفص . وقيل : يطلى بالقطران ويشمس . وقيل : ينتف ويلقى للنمل . وقيل : يجمع مع غير جنسه . وقيل : يبعد من خدمة سليمان عليه السلام . وقيل : يفرق بينه وبين إلفه . وقيل : يلزم خدمة امرأته ، وكان هذا القول من سليمان غضباً لله ، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده ، وأباح الله له ذلك للمصلحة ، كما أباح البهائم والطيور للأكل ، وكما سخر له الطير ، فله أن يؤدّيه إذا لم يأت ما سخر له .
وقرأ الجمهور : أو ليأتيني ، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم ، وابن كثير : بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء ؛ وعيسى بن عمر : بنون مشددة مفتوحة بغير ياء . والسلطان المبين : الحجة والعذر ، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم . وبدأ أولاً بأخف العقابين ، وهو التعذيب ؛ ثم أتبعه بالأشد ، وهو إذهاب المهجة بالذبح ، وأقسم على هذين لأنهما من فعله ، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بأو ، كأنه قال : ليكونن أحد الثلاثة ، والمعنى : إن أتى بالسلطان ، لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإلا كان أحدهما . ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان ، فيكون قوله : ) أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( عن دراية وإيقان .
وقرأ الجمهور : فمكث ، بضم الكاف ؛ وعاصم ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وسهل ، وروح : حّبضمها . وفي قراءة أبيّ : فيمكث ، ثم قال : وفي قراءة عبد الله : فيمكث ، فقال : وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة ، لمخالفة ذلك سواد المصحف ، وما روي عنهما بالنقل الثابت . والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد ، أي غبر زمن بعيد ، أي عن قرب . ووصف مكثه بقصر المدة ، للدلالة على إسراعه ، خوفاً من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له ، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة(7/62)
" صفحة رقم 63 "
الله . وقيل : وقف مكاناً غير بعيد من سليمان ، وكأنه فيما روي ، حين نزل سليمان حلق الهدهد ، فرأى هدهداً ، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر . وقيل : الضمير في فمكث لسليمان . وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد ، وفي الكلام حذف ، فإن كان غير بعيد زماناً ، فالتقدير : فجاء سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكاناً ، فالتقدير : فجاء فوقف مكاناً قريباً من سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان ، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له ، فقال : ) أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ( ، وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه بذلك ، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المهم ما هو . ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان .
قال الزمخشري : ألهم الله الهدهد ، فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به سليمان ، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته ، لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أعلم منه . انتهى .
ولما أبهم في قوله : ) بِمَا لَمْ تُحِطْ ( ، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً ، وهو قوله : ) وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( ، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر مستيقن له . وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفاً ، هذا وفي : ) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ( ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير مصروف فيهما ، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما . فمن صرفه جعله اسماً للحي أو الموضع أو للأب ، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة . والستة : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛ والأربعة : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان . وكان سبأ رجلاً من قحطان اسمه عبد شمس . وقيل : عامر ، وسمي سبأ لأنه أول من سبأ ، ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة ، وأنشدوا على الصرف : الواردون وتيم في ذرى سبأ
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن سكن الهمزة ، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف ، وإجراء للوصل مجرى الوقف . وقال مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي . انتهى . وقرأ الأعمش : من سبأ ، بكسر الهمزة من غير تنوين ، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية ، ويبعد توجيهها . وقرأ ابن كثير في رواية : من سبأ ، بتنوين الباء على وزن رحى ، جعله مقصوراً مصروفاً . وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة ، بناه على فعلى ، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم . وروى ابن حبيب ، عن اليزيدي : من سبأ ، بألف ساكنة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا . وقرأت فرقة : بنبأ ، بألف عوض الهمزة ، وكأنها قراءة من قرأ : لسبا ، بالألف ، لتتوازن الكلمتان ، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين . وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد ، وفي كتاب التفريع بفنون البديع . إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، ويسمى أيضاً التصدير ، فمثال الأول قوله : سريع إلى ابن العم يجبر كسره
وليس إلى داعي الخنا بسريع
ومثال الثاني قوله(7/63)
" صفحة رقم 64 "
والليالي إذا نأيتم طوال
والليالي إذا دنوتم قصار
وذكر أن مثل : ) مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ( ، يسمى تجنيس التصريف ، قال : وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ، ومنه قوله تعالى : ) ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ( ، وما ورد في الحديث : ( الخيل معقود في نواصيها الخير ) . وقال الشاعر : لله ما صنعت بنا
تلك المعاجر والمحاجر
وقال الزمخشري : وقوله : ) مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ( ، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعاً ، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده . ولقد جاء هنا زائداً على الصحة ، فحسن وبدع لفظاً ومعنى . ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً ؟ وهو كما جاء أصح ، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . انتهى . والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ، ولفظ الخبر مطلق ، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن .
ولما أبهم الهدهد أولاً ، ثم أبهم ثانياً دون الإبهام ، صرح بما كان أبهمه فقال : ) إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ). ولا يدل قوله : ) تَمْلِكُهُمْ ( على جواز أن تكون المرأة ملكة ، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس ، وهم كفار ، فلا حجة في ذلك . وفي صحيح البخاري ، من حديث ابن عباس ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) . ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح عنه . ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، لا على الإطلاق ، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة . ومعنى وجدت هنا : أصبت ، والضمير في تملكهم عائد على سبأ ، إن كان أريد القبيلة ، وإن أريد الموضع ، فهو على حذف ، أي وجئتك من أهل سبأ .
والمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك اليمن كلها ، وقد ولد له أربعون ملكاً ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس . واختلف في اسم أبيها اختلافاً كثيراً . قيل : وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن ، تزوجها أبوها ، إذ كان من عظميه لم ير أن يتزوج أحداً من ملوك زمانه ، فولدت له بلقيس ، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ، ولا الحديث الصحيح .
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها ، وأنها أوتيت من كل شيء ، وهذا على سبيل المبالغة ، والمعنى : من كل شيء احتاجت إليه ، أو من كل شيء في أرضها . وبين قول الهدهد ذلك ، وبين قول سليمان : ) وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء ( فرق ، وذلك أن سليمان عطف على قوله : ) عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( ، وهو معجزة ، فيرجع أولاً إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطف الهدهد على الملك ، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها . ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، قال ابن زيد : هو مجلسها . وقال سفيان : هو كرسيها ، وكان مرصعاً بالجواهر ، وعليه سبعة أبواب . وذكروا من وصف عرشها أشياء ، الله هو العالم بحقيقة ذلك ، واستعظام الهدهد عرشها ، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش ، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله ، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء ، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته .
ولما(7/64)
" صفحة رقم 65 "
كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم ، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك . ولم يلتفت سليمان لذلك ، إذ كان معرضاً عن أمور الدنيا . فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان ، تحصناً من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ، فتشوف السامع إلى علم ذلك . ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ . ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة ، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده . ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ( ، وقوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وكان سليمان له بساط قد صنع له ، وكان عظيماً . ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله ، إذ هو أمر دنياوي ، أخبره خامساً بما يهزه لطلب هذه الملكة ، ودعائها إلى الإيمان ، وإفراده بالعبادة فقال : ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ( ، وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوساً يعبدون الأنوار ، وهو قول الحسن . وقيل : كانوا زنادقة .
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان ، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به ، فكان ذلك عذراً واضحاً أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها . وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين ، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافياً عنه ، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها . وفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان ، وإن كانت المسافة بينهما قريبة ، كما خفي ملك يوسف على يعقوب ، وذلك لأمر أراده الله تعالى . قال الزمخشري : ومن نوكي القصاص من يقف على قوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وجدتها يريد أمر عظيم ، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله . انتهى . وقال أيضاً فإن قلت : من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له ، وإنكار السجود للشمس ، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ قلت : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها . ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصاً في زمان بني سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . انتهى .
وأسند التزيين إلى الشيطان ، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى . ) فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ( ، أي الشيطان ، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة . ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ، أي إلى الحق . وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، والزهري ، والسلمي ، والحسن ، وحميد ، والكسائي : ألا ، بتخفيف لام الألف ، فعلى هذا له أن يقف على : ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ، ويبتدىء على : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). قال الزمخشري : وإن شاء وقف على ألا يا ، ثم ابتدأ اسجدوا ، وباقي السبعة : بتشديدها ، وعلى هذا يصل قوله : ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( بقوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). وقال الزمخشري : وفي حرف عبد الله ، وهي قراءة الأعمش : هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا تسجدون ، على الخطاب . وفي قراءة أبي : ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السمائ والأرض ويعلم سركم وما تعلنون ، انتهى . وقال بن عطية : وقرأ الأعمش : هلا يسجدون ؛ وفي حرف عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون ، بالتاء أيضاً ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ، فتخريجها واضح . وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ( في موضع نصب ، على أن يكون بدلاً من قوله : ) أَعْمَالَهُمْ ( ، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا .(7/65)
" صفحة رقم 66 "
وما بين المبدل منه والبدل معترض ، أو في موضع جر ، على أن يكون بدلاً من السبيل ، أي قصدهم عن أن لا يسجدوا . وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة ، أي فصدهم عن أن يسدجوا لله ، ويكون ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( معترضاً بين المبدل منه والبدل ، ويكون التقدير : لأن لا يسجدوا . وتتعلق اللام إما بزين ، وإما بقصدهم ، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له ، أي علة تزيين الشيطان لهم ، أو صدهم عن السبيل ، هي انتفاء سجودهم لله ، أو لخوفه أن يسجدوا لله . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لا فريدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . انتهى . وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه ، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح ، ويا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، واسجدوا فعل أمر ، وسقطت ألف يا التي للنداء ، وألف الوصل في اسجدوا ، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقط لفظاً سقطا خطاً . ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب . قال الشاعر :
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد
وقال :
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال
وقال :
ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى
وقال : فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة
فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدروإن كان جباناً عدا آخر الدهر
وسمع بعض العرب يقول :
ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا
ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا ، ثم يبتدىء اسجدوا ، وهو وقف اختيار لا اختبار ، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يافيه للنداء ، وحذف المنادى ، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه . ولو حذفنا المنادى ، لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه وهو المنادي ، فكان ذلك إخلالاً كبيراً . وإذا أبقينا المنادي ولم نحذفه ، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء . وليس حرف النداء حرف جواب ، كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة . فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ، ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي(7/66)
" صفحة رقم 67 "
اللفظ العاملين في قوله :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
والمتفقي اللفظ العاملين في قوله :
ولا للما بهم أبداً دواء
وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين ، وهما مختلفا اللفظ ، يكون جائزاً ، وليس يا في قوله :
يا لعنة الله والأقوام كلهم
حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه . وقال الزمخشري : فإن قلت : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً ، أو في واحدة منهما : قلت : هي واجبة فيهما ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذمّ للتارك ؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه ، انتهى . والخبء : مصدر أطلق على المخبوء ، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه . وقرأ الجمهور : الخبء ، بسكون الباء والهمزة . وقرأ أبيّ ، وعيسى : بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة . وقرأ عكرمة : بألف بدل الهمزة ، فلزم فتح ما قبلها ، وهي قراءة عبد الله ، ومالك بن دينار . ويخرج على لغة من يقول في الوقف : هذا الخبو ، ومررت بالخبي ، ورأيت الخبا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . وأجاز الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة : المرأة والكمأة ، فيبدل من الهمزة ألفاً ، فتفتح ما قبلها ، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه . قيل : وهي لغة ضعيفة ، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضاً نادر قليل ، فيعادل التخريجان . ونقل الحركة إلى الباء ، وحذف الهمزة ، حكاه سيبويه ، عن قوم من بني تميم وبني أسد . وقراءة الخب بالألف ، طعن فيها أبو حاتم وقال : لا يجوز في العربية ، قال : لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : الخب ، وإن حولها قال : الخبي ، بسكون الباء وياء بعدها . قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه . والظاهر أن ) فِي السَّمَاوَاتِ ( متعلق بالخب ، أي المخبوء في السموات . وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم . انتهى . فعلى هذا يتعلق بيخرج ، أي من في السموات .
( ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره ، وألهمه الله تعالى ذلك ، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله : ) الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء ( ، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة ، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله ، ولذلك ورد ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله . وقرأ الحرميان والجمهور : ما يخفون وما يعلنون ، بياء الغيبة ، والضمير عائد على المرأة وقومها . وقرأ الكسائي وحفص : بتاء الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً لسليمان عليه السلام والحاضرين معه ، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان ، وهما ليس معهما أحد . وكما جاز له أن يخاطبه بقوله : ) أَحَطتُ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ( ، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله : ) مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( ، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب . والظاهر أن قوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ( إلى العظيم من كلام الهدهد . وقيل : من كلام الله تعالى(7/67)
" صفحة رقم 68 "
لأمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال صاحب الغنيان : لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم ، رد الله عز وجل عليه وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة ، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة . وقيل : إنه من تمام كلام الهدهد ، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم ؟ قلت : بين الوصفين فرق ، لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . انتهى . وقرأ ابن محيصن وجماعة : العظيم بالرفع ، فاحتمل أن تكون صفة للعرش ، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح ، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى . واحتمل أن تكون صفة للرب ، وخص العرش بالذكر ، لأنه أعظم المخلوقات ، وما عداه في ضمنه .
ولما فرغ الهدهد من كلامه ، وأبدى عذره في غيبته ، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال : ) سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ ( في أخبارك أم كذبت . والنظر هنا : التأمل والتصفح ، وأصدقت : جملة معلق عنها سننظر ، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، لأن نظر ، بمعنى التأمل والتفكر ، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في . وعادل بين الجملتين بأم ، ولم يكن التركيب أم كذبت ، لأن قوله : ) أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( أبلغ في نسبة الكذب إليه ، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب ، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به . وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب ، كان متهماً فيما أخبر به ، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به . وفي الكلام حذف تقديره : فأمر بكتابة كتاب إليهم ، وبذهاب الهدهد رسولاً إليهم بالكتاب ، فقال : ) اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا ( : أي الحاضر المكتوب الآن . ) فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ( : أي تنح عنهم إلى مكان قريب ، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول .
وفي قوله : ) اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ( دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام ، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى ازسلام . وقد كتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب . وقال وهب : أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك ، بمعنى : وكن قريباً بحيث تسمع مراجعاتهم . وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ، أي ألقه وارجع . قال : وقوله : ) فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( في معنى التقديم على قوله : ) ثُمَّ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ). انتهى . وقاله أبو علي ، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير ، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم . وقرىء في السبعة : فألقه ، بكسر الهاء وياء بعدها ، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء . وقرأ مسلم بن جندب : بضم الهاء وواو بعدها ، وجمع في قوله : ) إِلَيْهِمُ ( الهدهد قال : ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا ). وفي الكتاب أيضاً ضمير الجمع في قوله : ) أَن لا تَعْلُواْ عَلَىَّ ( ، والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها . ومعنى : ) فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( : أي تأمل واستحضره في ذهنك . وقيل معناه : فانتظر . ماذا : إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر ، كان انظر معلقاً ، وماذا : إما كلمة استفهام في موضع نصب ، وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي . فعلى الأول يكون يرجعون خبراً عن ماذا ، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا . وإن كان معنى فانظر : فانتظر ، فليس فعل قلب فيعلق ، بل يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي ، أي فانتظر الذي يرجعون ، والمعنى : فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول .
( قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَن لا تَعْلُواْ عَلَىَّ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّة(7/68)
" صفحة رقم 69 "
وَهُمْ صَاغِرُونَ ).
في الكلام حذف تقديره : فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم ، كما أمره سليمان . فقيل : أخذه بمنقاره . وقيل : علقه في عنقه ، فجاءها حتى وقف على رأسها ، وحولها جنودها ، فرفرف بجناحيه ، والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت رأسها ، فألقى الكتاب في حجرها . وقيل : كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة ، فألقي الكتاب على نحرها . وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم ، فإذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد فسدها بجناحه ، فرأت ذلك وقامت إليه ، فألقى الكتاب إليها ، وكانت قارئة عربية من قوم تبع . وقيل : ألقاه من كوة وتوارى فيها .
فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها : ) قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلاَ ). وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم ، وفي الحديث : ( كرم الكتاب ختمه ) أو لكونه من سليمان ، وكانت عالمة بملكه ، أو لكون الرسول به الطير ، فظنته كتاباً سماوياً ؛ أو لكونه تضمن لطفاً وليناً ، لا سباً ولا ما يغير النفس ، أو لبداءته باسم الله ، أقوال . ثم أخبرتهم فقالت : ) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ( ، كأنها قيل لها : ممن الكتاب وما هو ؟ فقالت : ) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ( ، وإنه كيت وكيت . أبهمت أولاً ثم فسرت ، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي ، حيث حذفته ، أو تحقيراً له ، حيث كان طائراً ، إن كانت شاهدته . والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم ، إلى آخر ما قص الله منه خاصة ، فاحتمل أن يكونن من سليمان مقدماً على بسم الله ، وهو الظاهر ، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق ، إذ كانت كافرة ، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى . أو كان عنواناً في ظاهر الكتاب ، وباطنه فيه بسم الله إلى آخره . واحتمل أن يكون مؤخراً في الكتابة عن بسم الله ، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله ، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها ، قدمته في الحكاية ، وإن لم يكن مقدماً في الكتابة .
وقال أبو بكر بن العربي : كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتاباً بدؤوا بأنفسهم ، من فلان إلى فلان ، وكذلك جاءت الإشارة . وعن أنس : ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتاباً بدؤوا بأنفسهم . وقال أبو الليث في ( كتاب البستان ) له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز ، لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه . وقرأ الجمهور : إنه من سليمان ، وإنه بكسر الهمزة فيهما . وقرأ عبد الله : وإنه من سليمان ، بزيادة واو عطفاً على ) إِنّى أُلْقِىَ ). وقرأ عكرمة ، وابن أبي عبلة : بفتحهما ، وخرج على البدل من كتاب ، أي ألقى إليّ أنه ، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها . عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله . وقرأ أبي : أن من سليمان وأن بسم الله ، بفتح الهمزة ونون ساكنة ، فخرج على أن أن هي المفسرة ، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول ، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة ، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم ، استفتاح شريف بارع المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع . وأن في قوله : ) أَن لا تَعْلُواْ ( ، قيل : في موضع رفع على البدل من كتاب . وقيل : في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا ، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل . وقال الزمخشري : وأن في ) أَن لا تَعْلُواْ عَلَىَّ ( مفسرة ، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي ، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه . وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا ، فيكون خبر مبتدأ محذوف . ومعنى لا تعلوا : لا تتكبروا ، كما يفعل الملوك . وقرأ ابن عباس ، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي : أن لا تعلوا ، بالغين المعجمة ، أي ألا تتجاوزوا الحد ، وهو من الغلو . والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا ، وتركوا الكفر وعبادة الشمس . وقيل : معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة(7/69)
" صفحة رقم 70 "
وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة ، وكذلك كتب الأنبياء .
والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط . واحتمل أن يكون مكتوباً بالعربي ، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن ، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي ، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري . واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به ، وكان عندها من يترجم لها ، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان . وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين . وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطيلون ولا يكثرون ، وطبع الكتاب بالمسك ، وختمه بخاتمة . وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان ، ولما قرأت على الملأ الكتاب ، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان ، استشارتهم في أمرها . قال قتادة : وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر ، وعنه : وثلاثة عشر ، كل رجل منهم على عشرة آلاف ، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام ، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا ، والله أعلم بذلك . وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف ، والمراد هنا : أشيروا عليّ بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير . وقصدت بإشارتهم : استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا .
( مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً ( : أي مبرمة وفاصلة أمراً ، ( حَتَّى تَشْهَدُونِ ( : أي تحضروا عندي ، فلا أستبد بأمر ، بل تكونون حاضرين معي . وفي قراءة عبد الله : ما كنت قاضية أمراً ، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي . وما كنت قاطعة أمراً ، عام في كل أمر ، أي إذا كانت عادتي هذه معكم ، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعاً ؟ فراجعها الملأ بما أقرعينها من قولهم : إنهم ) أُوْلُواْ قُوَّةٍ ( ، أي قوة بالعدد والعدد ، ( وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ( : أي أصحاب شجاعة ونجدة . أظهروا القوة العرضية ، ثم القوة الذاتية ، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث . ثم قالوا : ) وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ ( ، وذلك من حسن محاورتهم ، إذ وكلوا الأمر إليها ، وهو دليل على الطاعة المفرطة ، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ، ومع ذلك فالأمر موكول إليك ، كأنهم أشاروا أولاً عليه بالحرب ، أو أرادوا : نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة ، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن . فانظري ماذا تأمرين به ، نرجع إليك ونتبع رأيك ، وفانظري من التأمل والتفكر ، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين ، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى ، أي تأمريننا . والجملة معلق عنها انظري ، فهي في موضع مفعول لا نظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام .
ولما وصل إليها كتاب سليمان ، لا على يد رجل بل على طائر ، استعظمت ملك سليمان ، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب ، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها ، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت : ) إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً ( : أي تغلبوا عليها ، ( أَفْسَدُوهَا ( : أي خربوها بالهدم والحرق والقطع ، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر ، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب ، وخوف عليهم وحياطة لهم ، واستعظام لملك سليمان . والظاهر أن ) وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( هو من قولها ، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل ، وكانت ناشئة في بيت الملك ، فرأت ذلك وسمعت . ذكرت ذلك تأكيداً لما ذكرت من حال الملوك . وقيل : هو من كلام الله إعلاماً لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ، وتصديقاً لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا .
ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا ، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة ، قالت : ) وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ ( ، أي إلى سليمان ومن معه ، رسلاً بهدية ، وجاء لفظ الهدية مبهماً . وقد ذكروا في تعيينها أقوالاً مضطربة متعارضة ، وذكروا من حالها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية ، وكلامه مع رسولها ما الله أعلم به . و ) فَنَاظِرَةٌ ( معطوف على ) مُرْسِلَةٌ ). و ) بِمَ ( متعلق بيرجع . ووقع للحوفي أن البائ متعلقة بناظرة ، وهو وهم فاحش ، والنظر هنا معلق أيضاً . والجملة في موضع مفعول به ، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية ، بل جوزت الرد ، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان . والهدية : اسم لما يهدي ، كالعطية هي اسم لما يعطى . وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكاً دنياوياً ، أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبياً ، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه ، وفي الكلام حذف تقديره : فأرسلت الهدية ، فلما جاء ، أي الرسول سليمان ، والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد ، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع(7/70)
" صفحة رقم 71 "
والمفرد والمذكر والمؤنث . وقرأ عبد الله : فلما جاءوا ، قرأ : ارجعوا ، جعله عائداً على قوله : ) الْمُرْسَلُونَ ). و ) أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ( : استفهام إنكار واستقلال ، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا ، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بها .
ثم ذكر نعمة الله عليه ، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم ، بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون بحبكم الدنيا ، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي وإلى المهدي إليه ، وهي هنا مضافة للمهدي إليه ، وهذا هو الظاهر . ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي ، أي بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك ، فإنكم قدرتم على إهداء مثلها . ويجوز أن تكون عبارة عن الرد ، كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها . وقرأ جمهور السبعة : أتمدونني ، بنونين ، وأثبت بعض الياء . وقرأ حمزة : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم . وقرأ المسيبي ، عن نافع : بنون واحدة خفيفة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين قولك : أتمدونني بمال وأنا أغني منكم ، وبين أن يقوله بالفاء ؟ قلت : إذا قلته بالواو ، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى ، وهو مع ذلك يمدني بالمال ، وإذا قلته بالفاء ، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي ، وأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت ، فإني غني عنه وعليه . ورد قوله : ) فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ ). فإن قلت : فما وجه الإضراب ؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه ، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضاً ولا فرح إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها . انتهى .
( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ( : هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية ، وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد ، والمعنى : ارجع إليهم بهديتهم ، وتقدمت قراءة عبد الله : ارجعوا إليهم ، وارجعوا هنا لا تتعدى ، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم . وقيل : الخطاب بقوله : ارجع ، للهدهد محملاً كتاباً آخر . ثم أقسم سليمان فقال : ) فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ ( ، متوعداً لهم ، وفيه حذف ، أي إن لم يأتوني مسلمين . ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفاراً باقين على الكفر إذ ذاك . والضمير في ) بِهَا ( عائد على الجنود ، وهو جمع تكسير ، فيجوز أن يعود الضمير عليه ، كما يعود على الواحدة ، كما قالت العرب : الرجال وأعضادها . وقرأ عبد الله : بهم . ومعنى ) لاَّ قِبَلَ ( : لا طاقة ، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة ، أي لا تقدرون أن تقابلوهم . والضمير في منها عائد على سبأ ، وهي أرض بلقيس وقومها . وانتصب ) أَذِلَّةٍ ( على الحال . ) وَهُمْ صَاغِرُونَ ( : حال أخرى . والذل : ذهاب ما كانوا فيه من العز ، والصغار : وقوعهم في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً . وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد ، وهي مسألة خلاف ، ويمكن أن يقال : إن الثانية هنا جاءت توكيداً لقوله : ) أَذِلَّةٍ ( ، فكأنهما حال واحدة .
( قَالَ يَاءادَمُ أَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ ).
في الكلام حذف تقديره : فرجع المرسل إليها بالهدية ، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان ، فتجهزت للمسير إليه ، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي . فروي أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، بعضها في جوف بعض ، في آخر قصر من قصورها ، وغلقت الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه ، وتوجهت إلى سليمان في(7/71)
" صفحة رقم 72 "
أقيالها وأتباعهم .
قال عبد الله بن شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان ، قال : ) أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ( ؟ وقال ابن عباس : كان سليمان مهيباً ، لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه . فنظر ذات يوم رهجاً قريباً منه فقال : ما هذا ؟ فقالوا : بلقيس ، فقال ذلك . واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها . فقال قتادة ، وابن جريج : لما وصف له عظم عرشها وجودته ، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم ، والإسلام على هذا الدين ، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكاً لم يؤته غيره . وقال ابن عباس ، وابن زيد : استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله ، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام . وأشار الزمخشري لقول فقال : ولعله أوحي إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده ، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها . انتهى . وقال الطبري : أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وهذا فيه بعد ، لأنه قد ظهر صدقة في حمل الكتاب ، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية . وقيل : أراد أن يؤتي به ، فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره ، اختباراً لعقلها . والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود ، وهو قول الجمهور . وعن ابن عباس أنه قال : ) أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ( ؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ). ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير ، وفي قوله : ) أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ( دليل على جواز الاستعانة ببعض الاتباع في مقاصد الملوك ، ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم ، ودليل على مبادرة من طلبه منه الملوك قضاء حاجة ، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس ، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس . وقرأ الجمهور : عفريت ، وأبو حيوة : بفتح العين . وقرأ أبو رجاء ، وأبو السمال ، وعيسى ، ورويت عن أبي بكر الصديق : عفرية ، بكسر العين ، وسكون الفاء ، وكسر الراء ، بعدها ياء مفتوحة ، بعدها تاء التأنيث . وقال ذو الرمة : كأنه كوكب في إثر عفرية
مصوّب في سواد الليل مقتضب
وقرأت فرقة : عفر ، بلا ياء ولا تاء ، ويقال في لغة طيىء وتميم : عفراة بالألف وتاء التأنيث ، وفيه لغة سادسة عفارية ، ويوصف بها الرجل ، ولما كان قد يوصف به الإنس خص بقوله من الجن . وعن ابن عباس : اسمه صخر . وقيل : كوري . وقيل : ذكران . و ) ءاتِيكَ ( : يحتمل أن يكون مضارعاً واسم فاعل . وقال قتادة ، ومجاهد ، ووهب : ) مِن مَّقَامِكَ ( : أي من مجلس الحكم ، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم . وقيل : قبل أن تستوي من جلوسك قائماً . ) وَإِنّى عَلَيْهِ ( : أي على الإتيان به لقوي على حمله ؛ ) أَمِينٌ ( : لا أختلس منه شيئاً . قال الحسن : كان كافراً ، لكنه كان مسخراً ، والعفريت لا يكون إلا كافراً .
( قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ( ، قيل : هو من الملائكة ، وهو جبريل ، قاله النخعي . والكتاب : اللوح المحفوظ ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس . وقيل : ملك أيد الله به سليمان . وقيل : هو رجل من الإنس ، واسمه آصف بن برخيا ، كاتب(7/72)
" صفحة رقم 73 "
سليمان ، وكان صديقاً عالماً قاله الجمهور . أو اسطوام ، أو هود ، أو مليخا ، قاله قتادة . أو اسطورس ، أو الخضر عليه السلام ، قاله ابن لهيعة . وقالت جماعة : هو ضبة بن اد جد بني ضبة ، من العرب ، وكان فاضلاً يخدم سليمان ، كان على قطعة من خيله ، وهذه أقوال مضطربة ، وقد أبهم الله اسمه ، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى يخبر به نبي . ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام ، كأنه يقول لنفسه : ) قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ ( ، أو يكون خاطب بذلك العفريت ، حكى هذا القول الزمخشري وغيره ، كأنه استبطأ ما قال العفريت ، فقال له سليمان ذلك على تحقير العفريت . والكتاب : هو المنزل من عند الله ، أو اللوح المحفوظ ، قولان . والعلم الذي أوتيه ، قال : اسم الله الأعظم وهو : يا حي يا قيوم . وقيل : يا ذا الجلال والإكرام . وقيل بالعبرانية : أهيا شراهيا . وقال الحسن : الله ثم الرحمن . والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة ، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت ، ولذلك روي أن سليمان قال : أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت ، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال البصر ، كما قال الشاعر : وكنت متى أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
وصف برد الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد . فالمعنى أنك ترسل طرفك ، فقبل أن ترده أتيتك به ، وصار بين يديك . فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد طرفه فنظر نحو اليمن ، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله ، قبل أن يرد طرفه . وقال ابن جبير ، وقتادة : قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى . وقال مجاهد : قبل أن تحتاج إلى التغميض ، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض ، وذلك ارتداده . قال ابن عطية : وهذان القولان يقابلان قول من قال : إن القيام هو من مجلس الحكم ، ومن قال : إن القيام هو من الجلوس ، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف ، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما ، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد . انتهى . وقيل : طرفك مطروفك ، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك ، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم ، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك . وقال الماوردي : قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت ، فخبره أنه سيأتيه قبل موته ، وهذا تأويل بعيد ، بل المعنى آتيك به سريعاً . وقيل : ارتداد الطرف مجاز هنا ، وهو من باب مجاز التمثيل ، والمراد استقصار مدة الإتيان به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردة طرف ، وفي طرفة عين ، تريد به السرعة ، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت .
( فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً ( عنده : في الكلام حذف تقديره : فدعا الله فأتاه به ، فلما رآعه : أي عرش بلقيس . قيل : نزل على سليمان من الهواء . وقيل : نبع من الأرض . وقيل : من تحت عرش سليمان ، وانتصب مستقراً على الحال ، وعنده معمول له . والظرف إذا وقع في موضع الحال ، كان العامل فيه واجب الحذف . فقال ابن عطية : وظهر العامل في الظرف من قوله : ) مُسْتَقِرّاً ( ، وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف وقع في موضع الحال . وقال أبو البقاء : ومستقراً ، أي ثابتاً غر متقلقل ، وليس بمعنى الحضور المطلق ، إذ لو كان كذلك لم يذكر . انتهى . فأخذ في مستقراً أمراً زائداً على الاستقرار المطلق ، وهو كونه غير متقلقل ، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية ، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالاً ؛ وقد رد ذكر العامل في ما وقع خبراً من الجار والمجرور التام في قول الشاعر : لك العزان مولاك عزوان يهن
فأنت لدى بحبوحة الهون كائن
) قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى ( : أي هذا الإتيان بعرشها ، وتحصيل ما أردت من ذلك ، هو من فضل ربي عليّ وإحسانه ، ثم علل(7/73)
" صفحة رقم 74 "
ذلك بقوله : ) ( سقط : ليبلوني أأشكر أم أكفر ) ). قال ابن عباس : المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر ؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني . انتهى . وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر ، إذ ذاك نعمة متجددة ، والشكر قيد للنعم . وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني ، وهو معلق ، لأنه في معنى التمييز ، والتمييز في معنى العلم ، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم ، وإن لم يكن مرادفاً له ، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار . ) وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ( : أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه ، إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة ، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه . ) وَمَن كَفَرَ ( : أي فضل الله ونعمته عليه ، فإن ربي غني عن شكره ، لا يعود منفعتها إلى الله ، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته . والظاهر أن قوله : ) فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ ( هو جواب الشرط ، ولذلك أضمر فاء في قوله : ) غَنِىٌّ ( ، أي عن شكره . ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمة ، أي ومن كفر فلنفسه ، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه . ويجوز أن تكون ما موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط .
( قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ). روي أن الجن أحست من سليمان ، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس ، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة ، وأن رجلها كحافر دابة ، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش ، ورجلها بالصرح ، لتكشف عن ساقيها عنده . وتنكير عرشها ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأن زيد فيه ونقص منه . وقيل : بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر . وقيل : يجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره . والتنكير : جعله متنكراً متغيراً عن شكله وهيئته ، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه . وقرأ الجمهور : ننظر : بالجزم على جواب الأمر . وقرأ أبو حيوة : بالرفع على الاستئناف . أمر بالتنكير ، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر ، ومتعلق أتهتدي محذوف . والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحاً في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه ، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليه السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراساً .
( فَلَمَّا جَاءتْ ( ، في الكلام حذف ، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه . ) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ( : أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك ؟ ولم يأت التركيب : أهذا عرشك ؟ جاء بأداة التشبيه ، لئلا يكون ذلك تلقيناً لها . ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه ، وتميزت فيه أشياء من عرشها ، لم تجزم بأنه هو ، ولا نفته النفي البالغ ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت : ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، وذلك من جودة ذهنها ، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه ، وقابلت تشبيههم بتشبيهها . والظاهر أن قوله : ) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ( إلى قوله : ) مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ليس من كلام بلقيس ، وإن كان متصلاً بكلامها . فقيل : من كلام سليمان . وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه . فإن كان من قول سليمان فقيل : العلم هنا مخصوص ، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة . ) مِن قَبْلِهَا ( أي من قبل مجيئها . ) وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( : موحدين خاضعين . وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو ، وقال سليمان عند ذلك : ) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ( الآية ، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى ، وإنما قال ذلك بما علمت هي وفهمت ، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه . انتهى ملخصاً . وقال الزمخشري : وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه ، فإن قلت : علام عطف هذا الكلام وبما اتصل ؟ قلت : لما كان المقام الذي سئلت فيه عن(7/74)
" صفحة رقم 75 "
عرشها ، وأجابت بما أجابت به مقاماً ، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم : ) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ( ، نحو أن يقولوا عند قولها : ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، قد أصابت في جوابها ، فطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر .
وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل نحن على دين الإسلام ، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة . ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة ، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام . ثم قال الله تعالى : ) وَصَدَّهَا ( قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل . وقيل : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل . انتهى . أما قوله : ويجوز أن يكون من كلام بلقيس ، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجوار . قيل : والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة ، يعني إحضار العرش . وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك . والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله : ) مَا كَانَت تَّعْبُدُ ( ، وكونه الله أو سليمان ، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر ، قاله الطبري ، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، نحو قوله :
تمرون الديار ولم تعوجوا
أي عن الديار ، وليس من مواضع حذف حرف الجر . وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه ، الظاهر أنه الإسلام . وقال الرماني : التقدير التفطن للعرش ، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث . والظاهر أن قوله : ) وَصَدَّهَا ( معطوف على قوله : ) وَأُوتِينَا ( ، إذا كان من كلام سليمان ، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته . وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس ، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله : ) أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ). والواو في صدها للحال ، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة . وقرأ الجمهور : إنها بكسر الهمزة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : بفتحها ، فإما على تقدير حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلاً من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد .
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : لما وصلت بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً ، وهو السطح في الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنياً كالصهريج ومليء ماء ، وبث فيه السمك والضفادع ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي . فلما وصلته بلقيس ، ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِى ( إلى النبي عليه السلام ، فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فكشفت عن ساقيها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن . فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان : ) إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ ( ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأدغنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم . وفي هذه الحكاية زيادة ، وهو أنه وضع سريره في وصدره وجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس . قال الزمخشري : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وثباتاً على الدين . انتهى . والصرح : كل بناء عال ، ومنه : ) ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ ( ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ . وقال مجاهد : الصرح هنا : البركة . وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها . وقيل : الصرح هنا : القصر من(7/75)
" صفحة رقم 76 "
الزجاج ؛ وفي الكلام حذف ، أي فدخلته امتثالاً للأمر . واللجة : الماء الكثير . وكشف ساقيها عادة من كان لابساً وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر ، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصوداً . وقرأ ابن كثير : قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، وكذلك في قراءة قنبل : يكشف عن سأق ، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة . حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة ، وأنشد :
أحب المؤقدين إلى موسى
والظاهر أن الفاعل قال هو سليمان ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح . وظلمها نفسها ، قيل : بالكفر ، وقيل : بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها . وقال ابن عطية : ومع ، ظرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى . انتهى ، والصحيح أنها ظرف ، فتحت العين أو سكنت ، وليس التسكين مخصوصاً بالشعر ، كما زعم بعضهم ، بل ذلك لغة لبعض العرب ، والظرفية فيها مجاز ، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة .
2 ( ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَان(7/76)
" صفحة رقم 77 "
لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الاٌّ رْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الاٌّ رْضِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والاٌّ رْضِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والاٌّ رْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِىإِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاٌّ رْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِأايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِأايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِىأَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ(7/77)
" صفحة رقم 78 "
وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( )
النمل : ( 45 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . .
والحديقة : البستان ، كان عليه جدار أو لم يكن . الحاجز : الفاصل بين الشيئين . الفوج : الجماعة . الجمود : سكون الشيء وعدم حركته . الإتقان : الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق ، وهو مشتق من قول العرب : تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود ، والتقن : ما رمي به الماء في الغدير ، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة . كبيت الرجل : ألقيته لوجهه .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٍ لَّمْ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذالِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ).
ثمود هي عاد الأولى ، وصالح أخوهم في النسب . لما ذكر قصة موسى وداود وسليمان ، وهم من بني إسرائيل ، ذكر قصة من هو من العرب ، يذكر بها قريشاً والعرب ، وينبههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة ، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة الله ، وإن في : ) أَنِ اعْبُدُواْ ( يجوز أن تكون مفسرة ، لأن ) أَرْسَلْنَا ( تتضمن معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي بأن اعبدوا ، فحذف حرف الجر ، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني ففي موضعها خلاف ، أهو في موضع نصب أم في موضع جر ؟ والظاهر أن الضمير في ) فَإِذَا هُم ( عائد على ) ثَمُودُ ( ، وأن قومه انقسموا فريقين : مؤمناً وكافراً ، وقد جاء ذلك مفسراً في سورة الأعراف في قوله : ) قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ). وقال الزمخشري : أريد بالفريقين : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد . انتهى . فجعل الفريق الواحد هو صالح ، والفريق الآخر قومه ، وإذا هنا هي الفجائية ، وعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب لا المهلة ، فكان المعنى : أنهم بادروا بالاختصام ، متعقباً دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله . وجاء ) يَخْتَصِمُونَ ( على المعنى ، لأن الفريقين جمع ، فإن كان الفريقان من آمن ومن كفر ، فالجمعية حاصلة في كل فريق ، ويدل على أن فريق المؤمن جمع قوله : ) ( سقط : إنا بالذي آمنتم به كافرون ) ( فقال : آمنتم ، وهو ضمير الجمع . وإن كان الفريق المؤمن هو صالح وحده ، فإنه قد انضم إلى قومه ، والمجموع جمع ، وأوثر يختصمون على يختصمان ، وإن كان من حيث التثنية جائرا فصيحاً ، لأنه مقطع فصل ، واختصاصهم دعوى كل فريق أن الحق معه ، وقد ذكر الله(7/78)
" صفحة رقم 79 "
تخاصمهم في سورة الأعراف .
ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال منادياً لهم على جهة التحنن عليهم : ) لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَةِ ( ، أي بوقوع ما يسوؤكم قبل الحالة الحسنة ، وهي رحمة الله . وكان قد قال لهم في حديث الناقة : ) وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( فقالوا له : ) ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ). وقيل : لم تستعجلون بوقوع المعاصي منكم قبل الطاعة ؟ قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة ؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى ؟ قلت : كانوا يقولون بجهلهم : إن العقوبة التي يعدنا صالح ، إن وقعت على زعمه ، تبنا حينئذ واستغفرنا ، مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت ، وإن لم تقع ، فنحن على ما نحن عليه ، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم . انتهى . ثم حضهم على ما فيه درء السيئة عنهم ، وهو الإيمان واستغفار الله مما سبق من الكفر ، وناط ذلك يترجى الرحمة ، ولم يجزم بأنه يترتب على استغفارهم . وكان في التحضيض تنبيه على الخطأ منهم في استعجال العقوبة ، وتجهيل لهم في اعتقادهم .
ولما لاطفهم في الخطاب أغلظوا له وقالوا : ) اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ( : أي تشاء منا بك وبالذين آمنوا معك . ودل هذا العطف على أن الفريقين كانوا مؤمنين وكافرين لقوله : ) وَبِمَن مَّعَكَ ( ، وكانوا قد قحطوا . وتقدم الكلام في معنى التطير في سورة الأعراف ، جعلوا سبب قحطهم هو ذات صالح ومن آمن معه ، فرد عليهم بقوله : ) طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ( : أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو عند الله وبقضائه ، إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد عملكم مكتوب عند الله ، فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ، ومنه طائركم معكم ، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه . وقرىء : تطيرنا بك على الأصل ، ومعنى تطير به : تشاءم به ، وتطير منه : نفر عنه . انتهى . ثم انتقل إلى الإخبار عنهم بحالهم فقال : ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( ، أي تختبرون ، أو تعذبون ، أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة ، أو تفتنون بشهواته : أي تشفعون بها ، كما يقال : فتن فلان بفلان . وقال الشاعر : داء قديم في بني آدم
فتنة إنسان بإنسان
وهذه أقوال يحتملها لفظ تفتنون ، وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم ، وهو الكثير في لسان العرب . ويجوز يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم ، وهو قليل . تقول العرب : أنت رجل تأمر بالمعروف ، بتاء الخطاب وبياء الغيبة . والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم ، وهي الحجر . وذكر المفسرون أسماء التسعة ، وفي بعضها اختلاف ، ورأسهم : قدار بن سالف ، وأسماؤهم لا تنضبط بشكل ولا تتعين ، فلذلك ضربنا صفحاً عن ذكرها ، وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها . والرهط : من الثلاثة إلى العشرة ، والنفر : من الثلاثة إلى التسعة ، واتفق المفسرون على أن المعنى : تسعة رجال . وقال الزمخشري : إنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة ، فكأنه قيل : تسعة أنفس . انتهى . وتقدير غيره : تسعة رجال هو الأولى ، لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول : تسع أنفس ، على تأنيث النفس ، إذ الفصيح فيها التأنيث . ألا تراهم عدواً من الشذوذ قول الشاعر :(7/79)
" صفحة رقم 80 "
ثلاثة أنفس وثلاث ذود
فأدخل التاء في ثلاثة ؛ وكان الفصيح أن يقول : ثلاث أنفس . وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع ، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد ، لاختلاف صفاتهم وأحوالهم ، لا لاختلاف أجناسهم . انتهى . قيل : والرهط اسم الجماعة ، وكأنهم كانوا رؤساء ، مع كل واحد منهم رهط . وقال الكرماني : وأصله من الترهيط ، وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل . انتهى . ورهط : اسم جمع ، واتفقوا على أن فصله بمن هو الفصيح كقوله تعالى : ) فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطَّيْرِ ). واختلفوا في جواز إضافة العدد إليه ، فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس ، وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور . وقد صرح سيبويه أنه لا يقال : ثلاث غنم ، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس ، وهو مع ذلك قليل ، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجمع للقليل ، كرهط ونفر وذود ، فيجوز أن يضاف إليه ، أو للتكثير ، أو يستعمل لهما ، فلا تجوز إضافته إليه ، وهو قول المازني ، وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في ( شرح التسهيل ) .
و ) يُفْسِدُونَ ( : صفة لتسعة رهط ، والمعنى : أنهم يفسدون الفساد العظيم الذي لا يخالطه شيء من الإصلاح ، فلذلك قال : ) وَلاَ يُصْلِحُونَ ( ، لأن بعض من يقع منه إفساد قد يقع منه إصلاح في بعض الأحيان . وقرأ الجمهور : تقاسموا ، وابن أبي ليلى : تقسموا ، بغير ألف وتشديد السين ، وكلاهما من القسم والتقاسم والتقسيم ، كالتظاهر والتظهير . والظاهر أن قوله ) تَقَاسَمُواْ ( فعل أمر محكي بالقول ، وهو قول الجمهور ، أشار بعضهم على بعض بالحلف على تبييت صالح . وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في موضع الحال ، أي قالوا متقاسمين . قال الزمخشري : تقاسموا يحتمل أن يكون أمراً وخبراً على محل الحال بإضمار قد ، أي قالوا : متقاسمين . انتهى . أما قوله : وخبراً ، فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام ، إذ هو منقسم إلى الخبر والإنشاء ، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين . وقال بعد ذلك وقرىء لنبيتنه بالياء والتاء والنون ، فتقاسموا مع النون والتاء يصح فيه الوجهان ، يعني فيه : أي في تقاسموا بالله ، والوجهان هما الأمر والخبر عنده . قال : ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً . انتهى . والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد ، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد ، فإذا أطلق عليها الخير ، كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً ، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة قبله صلة أنها خبرية هو مجاز ، والمعنى : أنها لو لم تكن صلة ، لجاز أن تستعمل خبراً ، وهذا شيء فيه غموض ، ولا يحتاج إلى الإضمار ، فقد كثر وقوع الماضي حالاً بغير قد كثرة ينبغي القياس عليها . وعلى هذا الإعراب ، احتمل أن يكون ) بِاللَّهِ ( متعلقاً بتقاسموا الذي هو حال ، فهو من صلته ليس داخلاً تحت القول . والمقول : ) لَنُبَيّتَنَّهُ ( وما بعده احتمل أن يكون هو وما بعده هو المقول .
وقرأ الجمهور : ) لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ ( بالنون فيهما ، والحسن ، وحمزة ، والكسائي : بتاء خطاب الجمع ؛ ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بياء الغيبة ، والفعلان مسندان للجمع ؛ وحميد بن قيس : بياء الغيبة في الأول مسنداً للجمع ، أي ليبيتنه ، أي قوم منا ، وبالنون في الثاني ، أي جميعنا ما يقول لوليه ، والبيات : مباغتة العدو . وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من عادة الملوك استراق الظفر ، ووليه طالب ثأره إذا قتل . وقرأ الجمهور : مهلك ، بضم الميم وفتح اللام من أهلك . وقرأ حفص : مهلك ، بفتح الميم وكسر اللام ، وأبو بكر : بفتحهما . فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان ، أي ما شهدنا إهلاك أهله ، أو زمان إهلاكهم ، أو مكان إهلاكهم . ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك . وأما القراءة(7/80)
" صفحة رقم 81 "
الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان ، أي ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانة . والثالثة : تقتضي القياس أن يكون مصدراً ، أي ما شهدنا هلاكه . وقال الزمخشري : وقد ذكروا القراءات الثلاثة ، قال : ويحتمل المصدر والزمان والمكان . انتهى . والظاهر في الكلام حذف معطوف بدل عليه ما قبله ، والتقدير : ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ، ودل عليه قولهم : ) لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ( ، وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله ، وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر ، أي والبرد ، وقال الشاعر : لما كان بين الخير لو جاء سالما
أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني ، ويكون قولهم : ) وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( كذباً في الإخبار ، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سراً ، ولم يشعر بهم أحد ، وقالوا تلك المقالة ، أنهم صادقون وهم كاذبون . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه ؟ قلت : كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله ، فجمعوا بين البياتين ، ثم قالوا : ) مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ( ، فذكروا أحدهما كانوا صادقين ، فإنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما . وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ، ولا يخطر ببالهم . ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ، ولم يروا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب ؟ انتهى .
والعجب من هذا الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم ) وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( إخباراً بالصدق ؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحاً ، وعقروا الناقة التي كانت من أعظم الآيات ، وأقدموا على قتل نبي وأهله ؟ ولا يجوز عليهم الكذب ، وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم . ونص الله ذلك ، وكذبهم على من لا تخفى عليه خافية ، ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( ، وهو قولهم ، ( وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ، وقول الله تعالى : ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( ، وإنما هذا منه تحريف لكلام الله تعالى ، حتى ينصر مذهبه في قوله : إن الكذب قبيح عند الكفرة ، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في إخبارهم . وهذا الرجل ، وإن كان أوتي من علم القرآن ، أوفر حظ ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ . ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة ، وكنت قريباً من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيداً في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله ، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري ، فذكرت شيئاً من محاسنه ، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه ، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح ، فقلت بعد ذكر ما مدحته به : ولكنه فيه مجال لناقد
وزلات سوء قد أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا
ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
ولا سيما إن أولجوه المضايقا
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلا
وكان محباً في الخطابة وامقا(7/81)
" صفحة رقم 82 "
ويخطىء في تركيبه لكلامه
فليس لما قد ركبوه موافقا
وينسب إبداء المعاني لنفسه
ليوهم أغماراً وإن كان سارقا
ويخطىء في فهم القرآن لأنه
يجوز إعراباً أبى أن يطابقا
وكم بين من يؤتى البيان سليقة
وآخر عاناه فما هو لاحقا
ويحتال للألفاظ حتى يديرها
لمذهب سوء فيه أصبح مارقا
فيا خسرة شيخاً تخرق صيته
مغارب تخريق الصبا ومشارقا
لئن لم تداركه من الله رحمة
لسوف يرى للكافرين مرافقا
ومكرهم : ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله . ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون ، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة ، ومكرهم : أنبائهم أنهم مسافرون واختفاؤهم في غار . قيل : أو شعب ، أو عزمهم على قتله وقتل أهله ، وحلفهم أنهم ما حضروا ذلك . ومكر الله بهم : إطباق صخرة على فم الغار والشعب وإهلاكهم فيه ، أو رمي الملائكة إياهم بالحجارة ، يرونها ولا يرون الرامي حين شهروا أسيافهم بالليل ليقتلوه ، قولان . وقيل : إن الله أخبر صالحاً بمكرهم فيخرج عنه ، فذلك مكر الله في حقهم . وروي أن صالحاً ، بعد عقر الناقة ، أخبرهم بمجيء العذاب بعد ثلاثة أيام ، فاتفق هؤلاء التسعة على قتل صالح وأهله ليلاً وقالوا : إن كان كاذباً في وعيده ، كنا قد أوقعنا به ما يستحق ؛ وإن كان صادقاً ، كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا . واختفوا في غار ، وأهلكم الله ، كما تقدم ذكره ، وأهلك قومهم ، ولم يشعر كل فريق بهلاك الآخر . والظاهر أن كيف خبر كان ، وعاقبة الاسم ، والجملة في موضع نصب بانظر ، وهي معلقة ، وقرأ الجمهور : إنا ، بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، والكوفيون : بفتحها ، فأنا بدل من عاقبة ، أو خبر لكان ، ويكون في موضع الحال ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي ، أي العاقبة تدميرهم . أو يكون التقدير : لأنا وحذف حرف الجر . وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون ) كَانَ ( تامة و ) عَاقِبَةُ ( فاعل بها ، وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره ) كَيْفَ ). وقرأ أبي : أن دمّرناهم ، وهي أن التي من شأنها أن تنصب المضارع ، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا ، بفتح الهمزة . وحكى أبو البقاء : أن بعضهم أجاز في ) أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ( في قراءة من فتح الهمزة أن تكون بدلاً من كيف ، قال : وقال آخرون : لا يجوز ، لأن البدل من الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه ، كقوله : كيف زيد ، أصحيح أم مريض ؟
ولما أمر تعالى بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم ، بين ذلك بالإشارة إلى منازلهم وكيف خلت منهم ، وخراب البيوت وخلوها من أهلها ، حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة ، إذ يدل ذلك على استئصالهم . وفي التوراة : ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، وهو إشارة إلى هلاك الظالم ، إذ خراب بيته متعقب هلاكه ، وهذه البيوت هي التي قال فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأصحابه ، عام تبوك : ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ) ، الحديث . وقرأ الجمهور : خاوية ، بالنصب على الحال . قال الزمخشري : عمل فيها ما دل عليه تلك . وقرأ عيسى بن عمر : خاوية ، بالرفع . قال الزمخشري : على خبر المبتدأ المحذوف ، وقاله ابن عطية ، أي هي خاوية ، قال : أو على الخبر عن تلك ، وبيوتهم بدل ، أو على خبر ثان ، وخاوية خبرية بسبب ظلمهم ، وهو الكفر ، وهو من خلو البطن . وقال ابن عباس : خاوية ، أي ساقط أعلاها على أسفلها . ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : أي في(7/82)
" صفحة رقم 83 "
فعلنا بثمود ، وهو استئصالنا لهم بالتدمير ، وخلاء مساكنهم منهم ، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام .
( وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، أي بصالح من العذاب الذي حل بالكفار ، وكان الذين آمنوا به أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، وسميت حضرموت لأن صالحاً عليه السلام لما دخلها مات بها ، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها : حاضورا . وأما الهالكون فخرج بأبدانهم خراج مثل الحمص ، احمر في اليوم الأول ، ثم اصفر في الثاني ، ثم اسود في الثالث ، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء ، وهلكوا يوم الأحد . قال مقاتل : تفتقت تلك الخراجات ، وصاح جبريل عليه السلام بهم صيحة فحمدوا .
( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ).
) وَلُوطاً ( : عطف على ) صَالِحاً ( ، أي وأرسلنا لوطاً ، أو على ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، أي وأنجينا لوطاً ، أو باذكر مضمرة ، وإذ بدل منه ، أقوال . و ) أَتَأْتُونَ ( : استفهام إنكار وتوبيخ ، وأبهم أولاً في قوله : ) الْفَاحِشَةُ ( ، ثم عينها في قوله : ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ ( ، وقوله : ) وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ( : أي تعلمون قبح هذا الفعل المنكر الذي أحدثتموه ، وأنه من أعظم الخطايا ، والعلم بقبح الشيء مع إتيانه أعظم في الذنب ، أو آثار العصاة قبلكم ، أو ينظر بعضكم إلى بعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك مجانة وعدم اكتراث بالمعصية الشنعاء ، أقوال ثلاثة . وانتصب ) شَهْوَةً ( على أنه مفعول من أجله ، و ) تَجْهَلُونَ ( غلب فيه الخطاب ، كما غلب في ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ). ومعنى : ) تَجْهَلُونَ ( ، أي عاقبة ما أنتم عليه ، أو تفعلون فعل السفهاء المجان ، أو فعل من جهل أنها معصية عظيمة مع العلم أقوال . ولما أنكر عليهم ونسب إلى الجهل ، ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من الفاحشة ، عدلوا إلى المغالبة والإيذاء ، وتقدم معنى يتطهرون في الأعراف . وقرأ الجمهور : ) جَوَابَ ( بالنصب ؛ والحسن ، وابن أبي إسحاق : بالرفع ، والجمهور : ) قَدَّرْنَاهَا ( ، بتشديد الدال ؛ وأبو بكر بتخفيفها ، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف . وساء : بمعنى بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي مطرهم .
( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ ).
لما فرغ من قصص هذه السورة ، أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بحمده تعالى والسلام على المصطفين ، وأخذ في مباينة واجب الوجود ، الله تعالى ، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها . وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة ، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة . وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد الله ، والصلاة على محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن . وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر الرسول عليه السلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من(7/83)
" صفحة رقم 84 "
كفار الأمم ، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين .
وقيل : ) قُلْ ( ، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ، ( وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ). وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من الفراء . وقرأ أبو السمال : ) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ( ، وكذا : قل الحمد لله سيريكم ، بفتح اللام ، وعباده المصطفون ، يعم الأنبياء وأتباعهم . وقال ابن عباس : العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، اصطفاهم لنبيه ، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار . وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء ، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب ، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول ، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة ، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة . انتهى ، وفيه تلخيص .
وقوله : ) اللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( : استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم ، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان ، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم ، وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطا مرتكبه . والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خبرية الذوات ، فقيل : جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيراً بوجه مّا ، وقيل : في الكلام حذف في موضعين ، التقدير : أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون ؟ فيما في أم ما بمعنى الذي . وقيل : ما مصدرية ، والحذف من الأول ، أي أتوحيد الله خير أم شرككم ؟ وقيل : خير ليست للتفضيل ، فهي كما تقول : الصلاة خير ، يعني خيراً من الخيور . وقيل : التقدير ذو خير . والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل ، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم ، وتنبيهه على خطئه ، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد ، وانتفائه عن الآخر ، وقرأ الجمهور : تشركون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، وقتادة ، وعاصم ، وأبو عمرو : بياء الغيبة . وأم في أم ما متصلة ، لأن المعنى : أيهما خير ؟ وفي ) أَم مَّنْ خَلَقْنَا ( وما بعده منفصلة . ولما ذكر الله خيراً ، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في غير موضع من كتابه ، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات ، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى .
وقرأ الجمهور : ) أَمَّنْ خَلَقَ ( ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم من . وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره . قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا من المعنى . وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات . وقال أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه . وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق ، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ). انتهى . وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو مضمر من قبيل المفرد . وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال : ) لَكُمْ ( ، أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم . ثم قال : ) فَأَنبَتْنَا ( ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى . وقد رشح هذا الاختصاص بقوله : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ).
ولما كان خلق السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ لفاعل(7/84)
" صفحة رقم 85 "
السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ). ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلاً لها ؟ والبهجة : الجمال والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح . وقرأ الجمهور : ) ذَاتُ ( ، بالإفراد ، ( بَهْجَةٍ ( ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة ، كقوله : ) أَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( ، وهو على معنى جماعة . وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع ، بهجة بتحريك الهاء بالفتح .
( مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعاً ، أو لنفي الأولوية . والمعنى هنا : أن إنبات منكم محال ، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى . ولما ذكر منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال : ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ، إما التفاتاً ، وإما إخباراً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً . وقرىء : إلهاً ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون ؟ وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف . ولما ذكر تعالى أنه منشىء السموات والأرض ، ذكر شيئاً مشتركاً بين السماء والأرض ، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ، ذكر شيئاً مختصاً بالأرض ، وهو جعلها قراراً ، أي مستقراً لكم ، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ، ولا يديرها الفلك ، قيل : لأنها مضمحلة في جنب الفلك ، كالنقطة في الرحى .
( وَجَعَلَ خِلاَلَهَا ( : أي بين أماكنها ، في شعابها وأوديتها ، ( أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ ( : أي جبالا ثوابت حتى لا تتكفأ بكم وتميد . والبحران : العذب والملح ، والحاجز : الفاصل ، من قدرته تعالى ، قاله الضحاك . وقال مجاهد : بحر السماء والأرض ، والحاجز من الهواء . وقال الحسن : بحر فارس والروم ، وقال السدّي : بحر العراق والشام ، والحاجز من الأرض . قال ابن عطية : مختاراً لهذا القول في الحاجز : هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها ، على رقتها في بعض المواضع ، ولطافتها التي لولا قدرته لبلع الملح العذب . وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين : العذب بجملته ، والماء الأجاج بجملته ؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة ، تكرر فيها العامل في قوله : ) وَجَعَلَ ( ، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات . ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة ، والحكماء على زعمه ، خارج عن مذاهب العرب ، يوقف عليه في كتابه . والمضطر : اسم مفعول ، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه ، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه . وقال ابن عباس : هو المجهود . وقال السدّي : هو الذي لا حول ولا قوة له . وقيل : هو المذنب إذا استغفر ، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى ، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به . وقال الزمخشري : الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة ، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطاً فيه المصلحة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى .
( وَيَكْشِفُ السُّوء ( : هو كل ما يسوء ، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر ، وهو خاص إليّ أعم ، وهو ما يسوء ، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها . وخلفاء : أي الأمم السالفة ، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو خلفاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بعده ، أو خلفاء الكفار في أرضهم ، أو الملك والتسلط ، أقوال . وقرأ الحسن في رواية : ونجعلكم بنون المتكلم ، كأنه استئناف إخبار ووعد ، كما قال(7/85)
" صفحة رقم 86 "
تعالى : ) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ).
وقوله : ) وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الاْرْضِ ( : انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار ، وهي حالة الخلافة ، فهما ظرفان . وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكاً متسلطاً . وقرأ الجمهور : تذكرون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، والأعمش ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها . وقرأ أبو حيوة : تتذكرون ، بتاءين . وظلمة البر هي ظلمة الليل ، وهي الحقيقة ، وتنطلق مجازاً على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال : أظلم عليّ الأمر . وقال الشاعر :
تجلت عمايات الرجال عن الصبا
أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات ، وهداية البحر بالنجوم .
( وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ( : تقدم تفسير نظير هذه الجملة . وقرىء : عما تشركون ، بتاء الخطاب . ) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ( : الظاهر أن الخلق هو المخلوق ، وبدؤه : اختراعه وإنشاؤه . ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك ، لا عموم المخلوق . وقال ابن عطية : والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة ، والإعادة البعث من القبور ، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق ، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان ، كما تقول : فلان يبدىء ويعيد في أمركذا إذا كان يتقنه . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة ؟ قلت : قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار . انتهى .
ولما كان إيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإحساناً ، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال : ) وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء ( بالمطر ، ( والاْرْضِ ( بالنبات ؟ ) قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( : أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في أن مع الله إلهاً آخر . فأين دليلكم عليه ؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير ، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه .
لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله : ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ، أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع . ولما ذكر جعل الأرض مستقراً ، وتفجير الأنهار ، وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيهاً على تعقل ذلك والفكر فيه ، ختم بقوله : ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك . ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ، وكشف السوء ، واستخلافهم في الأرض ، ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة ، فختم بقوله : قليلاً ما تذكرون ، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه ، كما قال : ) نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ ). ولما ذكر الهداية في الظلمات ، وإرسال الرياح نشراً ، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل ، وهم يشركون بها الله ، قال تعالى : ) عَمَّا يُشْرِكُونَ ). واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله : ) مَّعَ الله بَلْ ( ، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى .
قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وألحوا عليه ، فنزل : ) قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، الآية . والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم ، والغيب مفعول ، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعاً على لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب . وعن عائشة ، رضي الله عنها : من زعم أن محمداً يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : ) قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات والأرض ظرفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما ، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها بعلمه ، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز ، وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره هو الصحيح . ومن أجاز ذلك فيصح(7/86)
" صفحة رقم 87 "
عنده أن يكون استثناء متصلاً ، وارتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ، والظاهر عموم الغيب . وقيل : المراد غيب الساعة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي ؟ يعني في كونه استثناء منقطعاً ، إذ ليس مندرجاً تحت من ، ولم أختر الرفع على لغة تميم ، ولم نختر النصب على لغة الحجاز ، قال : قلت : دعت إلى ذلك نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم . كما أن معنى : ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً ، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس . انتهى . وكان الزمخشري قد قدم قوله : فإن قلت : لم أرفع اسم الله ، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض ؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، كان أحداً لم يذكر ، ومنه قوله : عشية ما تغني الرماح مكانها
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
وقوله : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه . انتهى . وملخصه أنه يقول : لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه ، وإذا رفع كان بدلاً ، والمبدل منه في نية الطرح ، فصار العامل كأنه مفرغ له ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه قيل : قل لا يعلم الغيب إلا الله . ولو أعرب من مفعولاً ، والغيب يدل منه ، وإلا الله هو الفاعل ، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهم لا يعلمون بحدوثها ، أي لا يسبق علمهم بذلك ، لكان وجهاً حسناً ، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم . وأيان : تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف ، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى ، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق ، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به . وقرأ السلمي : إيان ، بكسر الهمزة ، وهي لغة قبيلته بني سليم . ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم ، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص ، وهو وقت الساعة والبعث ، فصار منتفياً مرتين ، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه .
وقرأ الجمهور : ) بَلِ ادرَكَ ( ، أصله ادارك ، فأدغمت التاء في الدال فسكنت ، فاجتلبت همزة الوصل . وقرأ أبي : أم تدارك ، على الأصل ، وجعل أم بدل . وقرأ سليمان بن يسار أخوه : بل ادّرك ، بنقل حركة الهمزة إلى اللام ، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل ، فأدغم الدال ، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً ، فصار قلب الثاني للأول لقولهم : اثرد ، وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام ، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل . وقرأ أبو رجاء والأعرج ، وشيبة ، وطلحة ، وتوبة العنبري : كذلك ، إلا أنهم كسروا لام بل ؛ وروي ذلك عن ابن عباس ، وعاصم ، والأعمش . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بل ادرك ، على وزن أفعل ، بمعنى تفاعل ، ورويت عن أبي بكر ، عن عاصم . وقرأ عبد الله في رواية ، وابن عباس في رواية ، وابن أبي جمرة ، وغيره عنه ، والحسن ، وقتادة ، وابن محيصن : بل آدرك ، بمدة بعد همزة الاستفهام ، وأصله أأدرك ، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً ، كراهة الجمع بين همزتين ، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها . وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد بل ، لأن بل إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : لم يكن كقوله تعالى : ) أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ( ، أي لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار . انتهى . وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل ، وشبهه بقول القائل : أخيراً أكلت بل أماء شربت ؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني . وقرأ مجاهد : أم ادرك ، جعل أم بدل بل ، وادرك على وزن أفعل . وقرأ ابن عباس أيضاً : بل إدّارك ،(7/87)
" صفحة رقم 88 "
بهمزة داخلة على ادارك ، فيسقط همزة الوصل المجتلبة ، لأجل الإدغام والنطق بالساكن . وقرأ ابن مسعود أيضاً : بل أأدرك ، بهمزتين ، همزة الاستفهام وهمزة أفعل . وقرأ الحسن أيضاً ، والأعرج : بل ادرج ، بهمزة وإدغام فاء الكلمة ، وهي الدال في تاء افتعل ، بعد صيرورة التاء دالاً . وقرأ ورش في رواية : بل ادّرك ، بحذف همزة ادرك ونقل حركتها إلى اللام . وقرأ ابن عباس أيضاً : بلى ادرك ، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي . وقرىء : بل آأدرك ، بألف بين الهمزتين . فأما قراءة من قرأ بالاستفهام ، فقال ابن عباس : هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم . وقال الزمخشري : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك قراءة من قرأ : أم ادّرك ، وأم تدارك ، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة . انتهى . وقال ابن عطية : هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم ، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم . وأما قراءة من قرأ على الخبر ، فقال ابن عباس : المعنى : بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا ، أي علموه في الآخرة ، بمعنى : تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق ، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم ، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا ، وكونه بمعنى المضي ، ومعناه الاستقبال ، لأن الإخبار به صدق ، فكأنه قد وقع . وقال ابن عطية : يحتمل معنيين : أحدهما : أنه تناهي علمهم ، كما تقول : أدرك النبات وغيره ، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون كاذبة ؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً ، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم ، وقد تعدّى العلم بالباء ، كما تقول : علمي بزيد كذا ، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف الاستفهام ، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً . والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك ، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها ، وأما في الدنيا فلا . وهذا تأويل ابن عباس ، ونحا إليه الزجاج ، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك . انتهى ، وفيه بعض تلخيص وزيادة . وقال الزمخشري : هو على وجهين : أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : ) بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ( ، يريد المشركين ممن في السموات والأرض ، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسل فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله ناس منهم . والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك ، على سبيل الهزء به ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك ، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته . وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر ، وهو أن يكون ادرك بمعنى انتهى وفني ، من قولهم : أدركت الثمرة ، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم . وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك . انتهى .
وقال الكرماني : العلم هنا بمعنى الحكم والقول ، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة ، وكثرة منهم الخوض فيها ، فنفاها بعضهم ، وشك فيها بعضهم ، واستبعدها بعضهم . وقال الفراء : بل ادرك ، فيصير بمعنى الجحد ، ولذلك نظائر ؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها ، ودل على ذلك ) بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا ( ، فصارت في في الكلام بمعنى الباء ، أي لم يدرك علمهم بالآخرة . قال الفراء : ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ : أدرك ، بالاستفهام . انتهى . وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل ، فقال أبو حاتم : إن كان بلى جواباً لكلام تقدم ، جاز أن يستفهم به ، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة ، فقيل لهم : بلى إيجاباً لما نفوا ، د ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : ) بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا ( ، بمعنى : أم هم في شك منها ، لأن حروف العطف قد تتناوب ، وكف عن الجملتين بقوله تعالى : ) بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ). انتهى . يعني أن المعنى : ادّرك علمهم بالآخرة أم شكو ؟ ف ( بل ) بمعنى أم ، عودل بها الهمزة ، وهذا ضعيف جداً ، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام .
قال الزمخشري : فإن قلت : فمن قرأ بلى ادرك ؟ قلت : لما جاء ببلى بعد قوله : ) وَمَا(7/88)
" صفحة رقم 89 "
يَشْعُرُونَ ( ، كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : ادرك علمهم في الآخرة ، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون ، كونها ، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون . وأما من قرأ : بلى أدّرك ، على الاستفهام فمعناه : يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها ، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن . فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاث ما معناه ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه ، والإزالة مستطاعة ، وقد جعل الآخر مبدأ عما هم ومنشأه ، فلذلك عداه بمن دون عن ، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون . انتهى .
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الاْرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ ).
لما تقدم أنه تعالى منفرد بعلم الغيب ، ومن جملتها وقت الساعة ، وأنهم لا شعور لهم بوقتها ، وأن الكفار في شك منها عمون ، ناسب ذكر مقالاتهم في استبعادها ، وأن ما وعدوا به من ذلك ليس بصحيح ، إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ) أئذا ، أئنا ( بالجمع بين الاستفهامين ؛ وقلب الثانية ياء ، وفصل بينهما بألف أبو عمرو ، وقرأهما عاصم وحمزة : بهمزتين ، ونافع : إذا بهمزة مكسورة ، آينا بهمزة الاستفهام ، وقلب الثانية ياء ، وبينهما مدة ، والباقون : آئذا ، باستفهام ممدود ، إننا : بنونين من غير استفهام ، والعامل في إذا محذوف دل على مضمون الجملة الثانية تقديره : يخرج ويمتنع إعمال لمخرجون فيه ، لأن كلاًّ من إن ولام الابتداء والاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله ، إلا اللام الواقعة في خبر إن ، فإنه يتقدم معمول الخبر عليها وعلى الخبر على ما قرر في علم النحو .
وآباؤنا : معطوف على اسم كان ، وحسن ذلك الفصل بخبر كان . والإخراج هنا من القبور أحياء ، مردوداً أرواحهم إلى الأجساد ، والجمع بين الاستفهام في إذا وفي إنا إنكار على إنكار ، ومبالغة في كون ذلك لا يكون ، والضمير في إننا لهم وآبائهم ، لأن صيرورتهم تراباً ، شامل للجميع . ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم ، فلم يقع شيء من هذا الموعود ، ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم . وجاء هنا تقديم الموعود به ، وهو هذا ، وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله . فحيث تأكد الإخبار عنهم بإنكار البعث والآخرة ، عمدوا إليها بالتقديم على سبيل الاعتناء ، وحيث لم يكن ذلك ، عمدوا إلى إنكار إيجاد المبعوث ، فقدموه وأخروا الموعود به ، ثم أمر نبيه أن يأمرهم بالسير في الأرض ؛ وتقدم الكلام في نظير هذه الآية في أوائل الأنعام . وأراد بالمجرمين : الكافرين ، ثم سلي نبيه فقال : ) أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ( : أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به ، ( وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ ( : أي في حرج وأمر شاق عليك مما يمكرون ( ، فإن مكرهم لاحق بهم ، لا بك ، والله يعصمك منهم . وتقدّمت قراءة ضيق ، بكسر الضاد وفيتحها ، وهما مصدران . وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد ، أصله ضيق ، بتشديد الياء فخفف ، كلين في لين ، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد . وأجاز ذلك الزمخشري ، قال : ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم .
ولما استعجلت قريش بأمر(7/89)
" صفحة رقم 90 "
الساعة ، أو بالعذاب الموعود به هم ، وسألوا عن وقت الموعود به على سبيل الاستهزاء ، قيل له : قل عسى أن يكون ردفكم بعضه : أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به ، وهو كان عذاب يوم بدر . وقيل : عذاب القبر . وقرأ الجمهور : ردف ، بكسر الدال . وقرأ ابن هرمز : بفتحها ، وهما لغتان ، وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق ، فاحتمل أن يكون مضمناً معنى اللازم ، ولذلك فسره ابن عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريباً منه ضمن معناه ، أو مزيداً اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه ، كما زيدت الباء في : ) ( ، فإن مكرهم لاحق بهم ، لا بك ، والله يعصمك منهم . وتقدّمت قراءة ضيق ، بكسر الضاد وفيتحها ، وهما مصدران . وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد ، أصله ضيق ، بتشديد الياء فخفف ، كلين في لين ، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد . وأجاز ذلك الزمخشري ، قال : ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم .
ولما استعجلت قريش بأمر الساعة ، أو بالعذاب الموعود به هم ، وسألوا عن وقت الموعود به على سبيل الاستهزاء ، قيل له : قل عسى أن يكون ردفكم بعضه : أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به ، وهو كان عذاب يوم بدر . وقيل : عذاب القبر . وقرأ الجمهور : ردف ، بكسر الدال . وقرأ ابن هرمز : بفتحها ، وهما لغتان ، وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق ، فاحتمل أن يكون مضمناً معنى اللازم ، ولذلك فسره ابن عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريباً منه ضمن معناه ، أو مزيداً اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه ، كما زيدت الباء في : ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ( ، قاله الزمخشري ، وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها ، وقال الشاعر : فلما ردّفنا من عمير وصحبه
تولوا سراعاً والمنية تعنق
أي دنوا من عمير . وقيل : ردفه وردف له ، لغتان . وقيل : الفعل محمول على المصدر ، أي الرادفة لكم . وبعض على تقدير ردافة بعض ما تستعجلون ، وهذا فيه تكلف ينزه القرآن عنه . وقيل : اللام في لكم داخلة على المفعول من أجله ، والمفعول به محذوف تقديره : ردف الخلق لأجلكم ، وهذا ضعيف . وقيل : الفاعل بردف ضمير يعود على الوعد ، ثم قال : لكم بعض ما تستعجلون على المبتدأ والخبر ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير حاجة تدعو إلى ذلك . ) لَذُو فَضْلٍ ( : أي إفضال عليهم بترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصينهم وكفرهم ، ومتعلق يشكرون محذوف ، أي لا يشكرون نعمه عندهم ، أو لا يشكرون بمعنى : لا يعرفون حق النعمة ، عبر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة ، بانتفاء ما يترتب على معرفتها ، وهو الشكر .
ثم أخبر تعالى بسعة علمه ، فبدأ بما يخص الإنسان ، ثم عم كل غائبة وعبر بالصدور ، وهي محل القلوب التي لها الفكر والتعقل ، كما قال : ) وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( عن الحال فيها ، وهي القلوب ، وأسند الإعلان إلى ذواتهم ، لأن الإعلان من أفعال الجوارح . ولما كان المضمر في الصدر هو الداعي لما يظهر على الجوارح ، والسبب في إظهاره قدم الإكنان على الإعلام . وقرأ الجمهور : ) مَا تُكِنُّ ( ، من أكن الشيء : أخفاه . وقرأ ابن محيصن ، وحميد ، وابن السميفع : بفتح التاء وضم الكاف ، من كن الشيء : ستره ، والمعنى : ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم . والظاهر عموم قوله : ) مِنْ غَائِبَةٍ ( ، أي ما من شيء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب عند الله ومكنون علمه . وقيل : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض . وقيل : هو يوم القيامة وأهوالها ، قاله الحسن . والكتاب : اللوح المحفوظ . وقيل : أعمال العباد أثبتت ليجازى عليها . وقال صاحب الغنيان : أي حادثة غائبة ، أو نازلة واقعة . وقال ابن عباس : أي ما من شيء سرّ في السموات والأرض وعلانية ، فاكتفى بذكر السر عن مقبلة . وقال الزمخشري : سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية ، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية ، ونظيرهما : النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة ، كالرواية في قولهم : ويل للشاعر من رواية السوء ، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء ، إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة . انتهى .
ولما ذكر تعالى المبدأ والمعاد ، ذكر ما يتعلق بالنبوة ، وكان المعتمد الكبير في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو القرآن . ومن جملة إعجازه إخباره بما تضمن من القصص ، الموافق لما في التوراة والإنجيل ، مع العلم بأنه أمي لم يخالط العلماء ولا اشتغل بالتعليم . وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى . قص فيه أكثر ما اختلفوا فيه على وجهه ، وبينه لهم ، ولو أنصفوا وأسلموا . ومما اختلفوا فيه أمر المسيح ، تحزبوا فيه ، فمن قائل هو الله ، ومن قائل ابن الله ، ومن قائل ثالث ثلاثة ، ومن قائل هو نبي كغيره من الأنبياء ، وقد عقدوا لهم اجتماعات ، وتباينوا في العقائد ، وتناكروا في أشياء حتى لعن بعضهم بعضاً(7/90)
" صفحة رقم 91 "
والظاهر عموم المؤمنين . وقيل لمن آمن من بني إسرائيل والقضاء والحكم ، وإن ظهر أنهما مترادفان ، فقيل : المراد به هنا العدل ، أي بعدله ، لأنه لا يقضي إلا بالعدل ، وقيل : المراد بحكمته والحكم . قيل : ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه ، بكسر الحاء وفتح الكاف ، جمع حكمة ، وهو جناح بن جيش . ولما كان القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به ، والعلم بما يحكم به ، جاءت هاتان الصفتان عقبه ، وهو العزة : أي الغلبة والقدرة والعلم ، ثم أمره تعالى بالتوكل عليه ، وأخبره أنه على الحق الواضح الذي لا شك فيه ، وهو كالتعليل للتوكل ، وفيه دليل على أن من كان على الحق يحق له أن يثق بالله ، فإنه ينصره ولا يخذله .
ولما كان القرآن وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم ، أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب ، أو شبهوا بالموتى ، وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار ، لأنهم إذا تلي عليهم لا تعيه آذانهم ، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ( هنا ، وفي الروم بضم التاء وكسر الميم ، الصم بالرفع ، ولما كان الميت لا يمكن أن يسمع ، لم يذكر له متعلق ، بل نفي الإسماع ، أي لا يقع منك إسماع لهم ألبتة لعدم القابلية . وأما الأصم فقد يكون في وقت يمكن إسماعه وسماعه ، فأتى بمتعلق الفعل وهو الدعاء . وإذا معمولة لتسمع ، وقيد نفي الإسماع أو السماع بهذا الطرف وما بعده على سبيل التأكيد لحال الأصم ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي مدبراً ، كان أبعد عن إدراك صوته .
شبههم أولاً بالموتى ، ثم بالصم في حالة ، ثم بالعمي ، فقال : ) وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ ( حيث يضلون الطريق ، فلا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويحولهم هداة بصراء إلا الله تعالى . وقرأ الجمهور : بهادي العمى ، اسم فاعل مضاف ؛ ويحيى بن الحارث ، وأبو حيوة : بهادٍ ، منوناً العمي ؛ والأعمش ، وطلحة ، وابن وثاب ، وابن يعمر ، وحمزة : تهدي ، مضارع هدي ، العمي بالنصب ؛ وابن مسعود : وما أنت تهتدي ، بزيادة أن بعد ما ، ويهتدي مضارع اهتدى ، والعمي بالرفع ، والمعنى : ليس في وسعك إدخال الهدى في قلب من عمي عن الحق ولم ينظر إليه بعين قلبه . ) وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ( ، وهم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته . ) فَهُم مُّسْلِمُونَ ( : منقادون للحق . وقال الزمخشري : مسلمون مخلصون ، من قوله : ) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( ، بمعنى جعله سالماً لله خالصاً . انتهى .
( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم ( : أي إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله ، كقوله : ) حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ( ، فالمعنى : إذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه فيهم من العذاب ، أخرج لهم دابة تنفذ من الأرض . ووقع : عبارة عن الثبوت واللزوم والقول ، إما على حذف مضاف ، أي مضمون القول ، وإما أنه أطلق القول على المقول ، لما كان المقول مؤدي بالقول ، وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب . وقال ابن مسعود : ) وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم ( يكون بموت العلماء ، وذهاب العلم ، ورفع القرآن . انتهى . وروي أن خروجها حين ينقطع الخبر ، ولا يؤمر بمعروف ، ولا ينهى عن منكر ، ولا يبقى منيب ولا نائب . وفي الحديث : ( أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط ) ، ولم يعين الأول ، وكذلك الدجال ؛ وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها ، والظاهر أن الدابة التي تخرج هي واحدة . وروي أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مثبوت نوعها في الأرض ، وليست واحدة ، فيكون قوله : ) دَابَّةٍ ( اسم جنس . واختلفوا في ماهيتها ، وشكلها ، ومحل خروجها ، وعدد خروجها ، ومقدار ما تخرج منها ، وما تفعل بالناس ، وما الذي تخرج به ، اختلافاً مضطرباً معارضاً بعضه بعضاً ، ويكذب بعضه بعضاً ؛ فاطرحنا ذكره ، لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح ، وتضييع لزمان نقله .
والظاهر أن قوله : ) تُكَلّمُهُمْ ( ، بالتشديد ، وهي قراءة الجمهور ، من الكلام ؛ ويؤيده قراءة أبيّ : تنبئهم ، وفي بعض القراءات : تحدثهم ، وهي قراءة يحيى بن سلام ؛ وقراءة عبد الله : بأن الناس . قال السدي : تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى الإسلام . وقيل : نخاطبهم ، فتقول للمؤمن : هذا مؤمن ، وللكافر : هذا كافر . وقيل معنى تكلمهم : تجرحهم من الكلم ، والتشديد للتكثير ؛ ويؤيده قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وأبي زرعة ،(7/91)
" صفحة رقم 92 "
والجحدري ، وأبي حيوة ، وابن أبي عبلة : تكلمهم ، بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام ، وقراءة من قرأ : تجرحهم مكان تكلمهم . وسأل أبو الحوراء ابن عباس : تكلم أو تكلم ؟ فقال : كل ذلك تفعل ، تكلم المؤمن وتكلم الكافر . انتهى . وروي : أنها تسم الكافر في جبهته وتربده ، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه .
وقرأ الكوفيون ، وزيد بن علي : ) إِنَّ النَّاسَ ( ، بفتح الهمزة ، وابن مسعود : بأن وتقدم ؛ وباقي السبعة : إن ، بكسر الهمزة ، فاحتمل الكسر أن يكون من كلام الله ، وهو الظاهر لقوله : ) بِئَايَاتِنَا ( ، واحتمل أن يكون من كلام الدابة . وروي هذا عن ابن عباس ، وكسرت إن هذا على القول ، إما على إضمار القول ، أو على إجراء تكلمهم إجراء تقول لهم . ويكون قوله : ) بِئَايَاتِنَا ( على حذف مضاف ، أو لاختصاصها بالله ؛ كما تقول بعض خواص الملك : خيلنا وبلادنا ، وعلى قراءة الفتح ، فالتقدير بأن كقراءة عبد الله ، والظاهر أنه متعلق بتكلمهم ، أي تخاطبهم بهذا الكلام . ويجوز أن تكون الباء المنطوق بها أو المقدرة سببية ، أي تخاطبهم أو تجرحهم بسبب انتفاء إيقانهم بآياتنا .
( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً مّمَّن يُكَذّبُ بِئَايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَكَذَّبْتُم بِئَايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ).
أي اذكر يوم نحشر ، والحشر : الجمع على عنف . ) مِن كُلّ أمَّةٍ ( : أي من الأمم ، ومن هي للتبعيض . ) فَوْجاً ( : أي جماعة كثيرة . ) مّمَّن يُكَذّبُ بِئَايَاتِنَا ( : من للبيان ، أي الذين يكذبون . والآيات : الأنبياء ، أو القرآن ، أو الدلائل ، أقوال . ) فَهُمْ يُوزَعُونَ ( : تقدم تفسيره في أول قصة سليمان من هذه السورة . وعن ابن مسعود ، أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : بين يدي أهل مكة ، كذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . ) حَتَّى إِذَا ( : أي إلى الموقف ؛ ) جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِئَايَاتِى ( : استفهام توبيخ وتقريع وإهانة ؛ ) وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً ( : الظاهر أن الواو للحال ، أي أوقع تكذيبكم بها غير متدبرين لها ولا محيطين علماً بكنهها ؟ ويجوز أن تكون الواو للعطف ، أي أجحدتموها : ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها ، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه إليه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويحيط بمعانيه علماً . وقيل : ) وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً ( ، أي يبطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين . وأم هنا منقطعة ، وينبغي أن تقدر ببل وحدها . انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضاً على جهة التوبيخ ، أي : أي شيء كنتم تعملون ؟ والمعنى : إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوا ، وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب . وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاماً منصوباً بخبر كان ، وهو تعملون ، وأن يكون ما هو الاستفهام ، وذا موصول بمعنى الذي ، فيكونان مبتدأ وخبراً ، وكان صلة لذا والعائد محذوف ، أي تعملونه . وقرأ أبو حيوة : أما ذا ، بتخفيف الميم ، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد .
( وَوَقَعَ الْقَوْلُ ( : أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات الله . ) فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ( : أي بحجة ولا عذر لما شغلهم من عذاب الله . وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون ، وانتفاء(7/92)
" صفحة رقم 93 "
نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة ، أو من فريق من الناس ، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن .
ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة ، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه ، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم ، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة إلى نور ، وفاعل ذلك واحد ، وهو الله تعالى ، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية . وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت ، ومن موت إلى حياة أخرى ، وفيه دليل أيضاً على النبوة ، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين ، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ( ، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق ؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز ، لما كان يقع فيه أضافه إليه ، كما تقول : ليلك نائم ، وعلل جعل الليل بقوله : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ( ، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم . قال بعض الرجاز : النوم راحة القوى الحسية
من حركات والقوى النفسية
ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته ، فيكون التركيب : والنهار لتبصروا فيه ، بل أتى بقوله : ) مُبْصِراً ( ، قيداً في جعل النهار ، لا علة للجعل . فقال الزمخشري : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصراً : لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب . انتهى . والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله ، وحذف من آخره ما أثبت في أوله ، فالتقدير : جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتنصرفوا فيه ؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون ، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ، ويدل عليه قوله تعالى : ) وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ( ؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلماً ، والتصرف علة لجعل النهار مبصراً وتقدم لنا : الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعاً في البقرة في قوله : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ ).
) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : أي في هذا الجعل ، ( لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( : لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون ، خصوا بالذكر ، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم . ) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ( : تقدم القول في الصور في سورة الأنعام ، وهذه النفخة هي نفخة الفزع . وروي أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور . وقيل : نفختان ، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة ، واستدلوا بقوله : ) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ( ، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله . وقال صاحب الغنيان : ) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ( للبعث من القبور والحشر ، وعبر هنا بالماضي في قوله : ) ففزغ ( ، وإن كان لم يقع إشعاراً بصحة وقوعه ، وأنه كائن لا محالة ، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل ، كقوله تعالى : ) الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ( ، بعد قوله : ) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
) إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( : أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه . فقال مقاتل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت عليهم السلام . وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم ، فهم حريون أن لا ينالهم هذا . وقال الضحاك : الحور العين ، وخزنة النار ، وحملة العرش . وعن جابر : منهم موسى ، لأنه صعق مرة . وقال أبو هريرة : هم الشهداء ، ورواه أبو هريرة حديثاً ، وهو : ( أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون ) ، وهو قول ابن جبير ، قال : هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش . وقيل : هم المؤمنون لقوله : ) وَهُمْ مّن فَزَعٍ(7/93)
" صفحة رقم 94 "
يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ). قال بعض العلماء : ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل . قال القرطبي : خفي عليه حديث أبي هريرة ، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي ، فيعول عليه في التعيين ، وغيره اجتهاد . وهذا النفخ هو حقيقة ، إما في القرن ، وإما في الصور ، وهو قول الأكثرين . وقيل : يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموتى ، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت ، فيكون ذلك مجازاً . والأول قول الأكثرين ، وهو الصواب ، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح . وقيل : ففزع ، ليس من الفزع بمعنى الخوف ، وإنما معناه : أجاب وأسرع إلى البقاء .
( وَكُلٌّ أَتَوْهُ ( : المضاف إليه كل محذوف تقديره : وكلهم . وقرأ الجمهور : آتوه ، اسم فاعل ؛ وعبد الله ؛ وحمزة ، وحفص : أتوه ، فعلاً ماضياً ، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع ، وقتادة : أتاه ، فعلاً ماضياً مسنداً الضمير كل على لفظها ، وجمع داخرين على معناها . وقرأ الحسن ، والأعمش : دخرين ، بغير ألف . قيل : ومعنى آتوه : حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له . ) وَتَرَى الْجِبَالَ ( : هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى ، أو من الجبال . وجامدة ، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه ، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور ، وهي أول أحوال الجبال ، تموج وتسير ، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن ، ثم تكون هباء منبثاً في آخر الأمر . ) وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( : جملة حالية ، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة ، وتشبيه مرورها بمر السحاب . قيل : في كونها تمر مراً حثيثاً ، كما مر السحاب ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد ، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها ، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش : نار عن مثل الطود تحسب أنهم
وقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً ، كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها ، قيل : لهول ذلك اليوم ، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة . وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة ، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت ، ظن الناظر إليها أنها واقفة ، وهي تمر مراً حثيثاً . انتهى . وقيل : وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة ، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه . فأول الصفات : ارتجاجها ، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ، ثم نسفها ، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها ، والأرض غير بارزة ، وبالنسف برزت ، ونفسها بإرسال الرياح عليها ، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار ، ثم كونها سراباً ، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئاً كالسراب . وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها .
وانتصب ) صُنْعَ اللَّهِ ( على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها ، فالعامل فيه مضمر من لفظه . وقال الزمخشري : ) صُنْعَ اللَّهِ ( من المصادر المؤكدة كقوله : ) وَعَدَ اللَّهُ ( و ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ، إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : ) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ( ، فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين ، وعاقب المجرمين ، ثم قال : ) صُنْعَ اللَّهِ ( ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، وجعل(7/94)
" صفحة رقم 95 "
هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : ) صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء ( ، يعني ؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب ، والسيئة بالعقاب ، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد ، وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك . ثم لخص ذلك بقوله : ) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ ( ، إلى آخر الآيتين . فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق ، ونحو هذا المصدر ، إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد لصحته ، والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان . ألا ترى إلى قوله : ) صُنْعَ اللَّهِ ( ، و ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ، و ) وَعَدَ اللَّهُ ( ، و ) عَبْدُ اللَّهِ ( ؟ بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم ، كيف تلاها بقوله : ) الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ( ، ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( ، ( لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( ؟ انتهى . وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام ، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه ، من مذاهب المعتزلة .
والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، وهي جملة الحال ، أي صنع الله بها ذلك ، وهو قلعها من الأرض ، ومرّها مرًّا مثل مر السحاب . وأما قوله : إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، فذلك لا يصح ، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته ، لأنه منصوب بفعل من لفظه ، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر ، وذلك حذف كثير مخل . ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة ، وجد الجمل مصرحاً بها ، لم يرد الحذف في شيء منها ، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد ، إذ الحذف ينافي التوكيد ، لأنه من حيث أكد معتني به ، ومن حيث حذف غير معتني به . وقيل : انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى ، انظروا صنع الله . وقرأ العربيان ، وابن كثير : يفعلون بالياء ؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب .
ولما ذكر علامات القيامة ، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة .
( والحسنة ( : الإيمان . وقال ابن عباس ، والنخعي ، وقتادة : هي لا إله إلا الله ، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين : أحدهما : أنه له خير منها ، ويظهر أن خيراً ليس أفعل تفضيل ، ومن لابتداء الغاية ، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها ، أي من جهة هذه الحسنة ، والخير هنا : الثواب . وهذا قول الحسن ، وابن جريج ، وعكرمة . قال عكرمة : ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله ، يريد أنها ليست أفعل التفضيل . وقيل : أفعل التفضيل . فقال الزمخشري : ) بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ( ، يريد الإضعاف ، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد . انتهى . وقوله : وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد ، تركيب مختلف فيه ، فبعض العلماء منعه ، والصحيح جوازه . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون للتفضيل ، ويكون في قوله : ) مِنْهَا ( ، حذف مضاف تقديره : خير من(7/95)
" صفحة رقم 96 "
قدرها واستحقاقها ، بمعنى : أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته . قال ابن زيد : يعطى بالواحدة عشراً ، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل . انتهى . وقيل : ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ، ولذة النظر إلى وجهه الكريم . وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ، ولو لم تحمل الآية على ذلك ، لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى ، وذلك لا يكون .
وقرأ الكوفيون : ) مّن فَزَعٍ ( ، بالتنوين ، ( وَيَوْمَئِذٍ ( ، منصوب على الظرف معمول لقوله : ) ءامِنُونَ ( ، أو لفزع . ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه ، أو في موضع الصفة لفزع ، أي كائن في ذلك الوقت . وقرأ باقي السبعة : بإضافة فزع إلى يومئذ ؛ فكسر الميم العربيان ، وابن كثير ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وفتحها ، بناء لإضافته إلى غير متمكن ؛ نافع ، في غير رواية إسماعيل . والتنوين في يومئذ تنوين العوض ، حذفت الجملة وعوض منها ، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف ، أي يوم ، إذ جاء بالحسنة ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ترى الجبال ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ينفخ في الصور ، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب ، ويكون الفزع إذ ذاك واحداً . وقال أبو عليّ ما معناه : من فزع ، بالتنوين ، أو بالإضافة ، ويجوز أن يراد به فزع واحد ، وأن يراد به الكثرة ، لأنه مصدر . فإن أريد لكثرة ، شمل كل فزع يكون في القيامة ، وإن أريد الواحد ، فهو الذي أشير إليه بقوله : ) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ).
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين ؟ قلت : الفزع الأول : ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة يقع ، وهو يفجأ من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به . والثاني : الخوف من العذاب . انتهى . والسيئة : الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار . وخصت الوجوه ، إذ كانت أشرف الأعضاء ، ويلزم من كبها في النار كب الجميع ، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان ، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة ، كما قال : ) فَكُبْكِبُواْ فِيهَا ( ، فكأنه قيل : فكبوا في النار . والظاهر من كبت ، أنهم يلقون في النار منكوسين ، قاله أبو العالية ، أعلاهم قبل أسفلهم . ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار ، قاله الضحاك . ) هَلْ تُجْزَوْنَ ( : خطاب لهم على إضمار القول ، أي يقال لهم وقت الكب : هل تجزون .
ثم أمر تعالى نبيه أن يقول : ) إِنَّمَا أُمِرْتُ ( ، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل ، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى . ) أَنْ أَعْبُدَ ( : أي أفرده بالعبادة ، ولا أتخذ معه شريكاً ، كما فعلت قريش ، وهذه إشارة تعظيم كقوله : ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ ( ، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه . والبلدة : مكة ، وأسند التحريم إليه تشريفاً لها واختصاصاً ، ولا تعارض بين قوله : ) الَّذِى حَرَّمَهَا ( ، وقوله عليه السلام : ( إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ) ، لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه ، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته . وفي قوله : ) حَرَّمَهَا ( ، تنبيه بنعمته على قريش ، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب ، وأهلك من أرادها بسوء . وقرأ الجمهور : الذي : صفة للرب . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : التي حرمها : صفة للبلدة ، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة ، أخبر أنه يملك كل شيء فقال : ) وَلَهُ كُلُّ شَىء ( ، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته ، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص ، وعلى جهة العموم . ) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( : أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله ، فاعبده كما أمرني ، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله : ) هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ( ، ( وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءانَ ( ، إما من التلاوة ، أي : وأن أتلو عليكم القرآن ، وهذا الظاهر ، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة ، وإما من المتلو ، أي : وأن أتبع القرآن ، كقوله : ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ). وقرأ الجمهور : وأن أتلو . وقرأ عبد الله : وأن اتل ، بغير واو ، أمراً من تلا ، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر ، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار : وأمرت أن أتل ، أي اتل . وقرأ أبي : واتل هذا القرآن ، جعله أمراً دون أن . ) فَمَنُ اهْتَدَى ( ، به ووحد الله وآمن بنبيه بما جاء به ، فثمرة هدايته مختصة به . ) وَمَن ضَلَّ ( ، فوبال إضلاله مختص به ، وحذف جواب من ضل لدلالة(7/96)
" صفحة رقم 97 "
جواب مقابله عليه ، أو يقدر في قوله : ) فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ ( ضمير حي يربط الجزاء بالشرط ، إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفاً ، فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر ، فتكون هذه الجملة هي جواب الشرط ، ويقدر الضمير من المنذرين له ، ليس علي إلا إنذاره ، وأما هدايته فإلى الله . ) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ( : أمر أن يقول ذلك ، فيحمد ربه على ما خصه به من شرف النبوة والرسالة ، واختصه من رفيع المنزلة . ) سَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ ( : تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها والإقرار أنها آيات الله . قال الحسن : وذلك في الآخرة حتى لا تنفعهم المعرفة . وقال الكلبي : في الدنيا ؛ وهي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من نقمات الله . وقيل : يوم بدر . وقيل : خروج الدابة ، ولو بعد حين . وقيل : آياته في أنفسكم وفي سائر ما خلق مثل قوله : ) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ). وقيل : معجزات الرسول ، وأضافها إليه لأنه هو مجريها على يدي رسوله ، ومظهرها من جهته . ) فَتَعْرِفُونَهَا ( : أي حقيقتها ، ولا يسعكم جحودها . وقرأ الجمهور : عما يعملون ، بياء الغيبة ، التفاتاً من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ؛ ونافع ، وابن عامر : بتاء الخطاب لقوله : ) سَيُرِيكُمْ ). ولما قسمهم إلى مهتد وضال ، أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم ، غير غافل عنها .(7/97)
" صفحة رقم 98 "
القصص : ( 1 ) طسم
98
الوكز : الضرب باليد مجموعاً كعقد ثلاث وسبعين . وقيل : بجمع كفه . وقيل : الوكز والنكز واللهز واللكز : الدفع بأطراف الأصابع . وقيل : الوكز على القلب ، واللكز على اللحى . وقيل : الوكز بأطراف الأصابع . ذاذ : طرد ودفع وقال الفراء : حبس جذوت الشيء جذواً : قطعته ، والجذوة : عود فيه نار بلا لهب . قال ابن مقبل : باتت حواطب ليلى يلتمسن لها
جزل الجذا غير خوّار ولا ذعر
الخوّار : الذي يتقصف ، والذعر الذي فيه تعب . وقال آخر :
وألقى على قبس من النار جذوة عليها حمئها وإلتهابها
وقيل : الجذوة مثلث الجيم ، العود الغليظ ، كانت في رأسه نار أو لم تكن . وقال السلمني يصف الصلى :
حمى حب هذي النار حب خليلتي وحب الغواني فهو دون الحبائب
وبدلت بعد المسك والبان شقوة ذخان الجذا في رأس أشمط شاحب
الشاطىء والشط : حفة الوادي . الفصاحة : بسط اللسان في إيضاح المعنى المقصود ، ومقابله : اللكن . الردء : المعين الذي يشد به في الأمر ، فعل بمعنى مفعول ، فهو اسم لما يعان به ، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به . قال سلامة بن حندل :
وردء كل أبيض مشرفي
شحيذ الحد عضب ذي فلول
ويقال : ردأت الحائط أردؤه ، إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط . وقال أبو عبيدة : العون ، ويقال : ردأته على عدوه : أعنته . المقبوح : المطرود ، وقال الشاعر :
ألا قبح الله البراجم كلها
وجدّع يربوعاً وعفر دارماً
ثوى يثوي ثواء : أقام ، قال الشاعر :
لقد كان في حول ثواء ثويته
تقضي لبانات ويسأم سائم
وقال العجاج :
فبات حيث يدخل الثوى
أي الضيف المقيم . البطر : الطغيان . السرمد : الدائم الذي لا ينقطع .
بسم الله الرحمن الرحيم
) طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ).
هذه السورة مكية كلها ، قاله الحسن وعطاء وعكرمة . وقال مقاتل : فيها من المدني ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ( إلى قوله : ) لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ). وقيل : نزلت بين مكة والجحفة . وقال ابن عباس : بالجحفة ، في خروجه عليه السلام للهجرة . وقال ابن سلام : نزل ) إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ( ، بالجحفة ، وقت الهجرة إلى المدينة . ومناسبة أول هذه السورة لآخر السورة قبلها أنه أمره تعالى بحمده ، ثم قال : ) سَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ ).
وكان مما فسر به آياته تعالى معجزات الرسول ، وأنه أضافها تعالى إليه ، إذ كان هو المخبر بها على قدمه فقال : ) تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ ( ، إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات ، والظاهر أن الكتاب هو القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ . ) نتلو ( : أي نقرأ عليك بقراءة جبريل ، أو نقص . ومفعول ) جَاءكَ مِن نَّبَإِ ( : أي بعض نبأ ، وبالحق متعلق بنتلو ، أي محقين ، أو في موضع الحال من نبأ ، أي متلبساً بالحق ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتلاوة . ) عَلاَ فِى الاْرْضِ ( : أي تجبر واستكبر حتى ادّعى الربوبية الإلهية . والأرض : أرض مصر ، والشيع : الفرق . ملك القبط واستعبد بني إسرائيل ، أي يشيعونه على ما يريد ، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته ، أو ناساً في بناء وناساً في حفر ، وغير ذلك من الحرف الممتهنة . ومن لم يستخدمه ، ضرب عليه الجزية ، أو أغرى بعضهم ببعض ليكونوا له أطوع ، والطائفة المستضعفة بنو إسرائيل . والظاهر أن(7/98)
" صفحة رقم 99 "
( سورة القصص )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طسم تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاٌّ رْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرون(7/99)
" صفحة رقم 100 "
) يَسْتَضْعِفُ ( استئناف يبين حال بعض الشيع ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير ، وجعل وأن تكون صفة لشيعاً ، ويذبح تبيين للاستضعاف ، وتفسير أو في موضع الحال من ضمير يستضعف ، أو في موضع الصفة لطائفة . وقرأ الجمهور : يذبح ، مضعفاً ؛ وأبو حيوة ، وابن محيصن : بفتح الياء وسكون الذال .
( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( : علة لتجبره ولتذبيح الأبناء ، إذ ليس في ذلك إلاّ مجرد الفساد . ) وَنُرِيدُ ( : حكاية حال ماضية ، والجملة معطوفة على قوله : ) إِنَّ فِرْعَوْنَ ( ، لأن كلتيهما تفسير للبناء ، ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في يستضعف ، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ ، أي ونحن نريد ، وهو ضعيف . وإذا كانت حالاً ، فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنة من الله ولا يمكن الاقتران ؟ فقيل : لما كانت المنة بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع ، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم . و ) أَن نَّمُنَّ ( : أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه . ) وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ( : أي مقتدى بهم في الدين والدنيا . وقال مجاهد : دعاة إلى الخير . وقال قتادة : ولاة ، كقولهم وجعلكم ملوكاً . وقال الضحاك : أنبياء .
( وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( : أي يرثون فرعون وقومه ، ملكهم وما كان لهم . وعن علي ، الوارثون هم : يوسف عليه السلام وولده ، وعن قتادة أيضاً : ورثوا أرض مصر والشام . وقرأ الجمهور : ) وَنُمَكّنَ ( ، عطفاً على نمن . وقرأ الأعمش : ولنمكن ، بلام كي ، أي وأردنا ذلك لنمكن ، أو ولنمكن فعلنا ذلك . والتمكين : التوطئة في الأرض ، هي أرض مصر والشام ، بحيث ينفذ أمرهم ويتسلطون على من سواهم . وقرأ الجمهور : ) وَنُرِىَ ( ، مضارع أرينا ، ونصب ما بعده . وعبد الله ، وحمزة ، والكسائي : ونرى ، مضارع رأى ، ورفع ما بعده . ) وَهَامَانَ ( : وزير فرعون وأحد رجاله ، وذكر لنباهته في قومه ومحله من الكفر . ألا ترى إلى قوله له : ) فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً ( ؟ ويحذرون أي زوال ملكهم وإهلاكهم على يدى مولود من بني إسرائيل .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ).
إيحاء الله إلى أم موسى : إلهام وقذف في القلب ، قاله ابن عباس وقتادة ؛ أو منام ، قاله قوم ؛ أو إرسال ملك ، قاله قطرب وقوم ، وهذا هو الظاهر لقوله : ) إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ). وأجمعوا على أنها لم تكن نبية ، فإن كان الوحي بإرسال ملك ، كما هو الظاهر ، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى ، وكما روي من تكليم الملائكة للناس . والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة ، فيكون ثم جملة محذوفة ، أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه . ) وَأَوْحَيْنَا ( ، و ) ءانٍ ( تفسيرية ، أو مصدرية . وقيل : كان الوحي قبل الولادة . وقرأ عمرو بن عبد الواحد ، وعمر بن عبد العزيز : أن ارضعيه ، بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس ، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة ، وهي الفتحة ، إلى النون ، كقراءة ورش .
( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ( من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأولاد ، ( فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ ). قال الجنيد : إذا خفت حفظه بواسطة ، فسلميه إلينا بإلقائه في البحر ، واقطعي عنك شفقتك وتدبيرك . وزمان إرضاعه ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، أو ثمانية ، أقوال . واليم هنا : نيل مصر . ) وَلاَ تَخَافِى ( : أي من غرقه وضياعه ، ومن التقاطه ، فيقتل ، ( وَلاَ تَحْزَنِى ( لمفارقتك إياه ، ( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ( ، وعد صادق يسكن قلبها ويبشرها بحياته وجعله رسولاً ، وقد تقدم في سورة طه طرف من حديث التابوت ورميه في اليم وكيفية التقاطه ، فأغنى عن إعادته . واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعراً فقالت : أبعد قوله تعالى ) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ(7/100)
" صفحة رقم 101 "
مُوسَى ( الآية ، فصاحة ؟ وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين .
( فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ ( : في الكلام حذف تقديره : ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن إلقائه في اليم . واللام في ) لِيَكُونَ ( للتعليل المجازي ، لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدواً لهم ) وَحَزَناً ( ، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني ، وكونه يكون حبيباً لهم ، ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة . وقرأ الجمهور : وحزناً ، بفتح الحاء والزاي ، وهي لغة قريش . وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وابن سعدان : بضم الحاء وإسكان الزاي . والخاطىء : المتعمد الخطأ ، والمخطىء : الذي لا يتعمده . واحتمل أن يكون في الكلام حذف ، وهو الظاهر ، أي فكان لهم عدواً وحزناً ، أي لأنهم كانوا خاطئين ، لم يرجعوا إلى دينه ، وتعمدوا الجرائم والكفر بالله . وقال المبرد : خاطئين على أنفسهم بالتقاطه . وقيل : بقتل أولاد بني إسرائيل . وقيل : في تربية عدوّهم .
وأضيف الجند هنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان ، وإن كان هامان لا جنود له ، لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير ، إذ بالوزير تحصل الأموال ، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها ، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال . وقرىء : خاطيين ، بغير همز ، فاحتمل أن يكون أصله الهمز . وحذفت ، وهو الظاهر . وقيل : من خطا يخطو ، أي خاطين الصواب .
ولما التقطوه ، هموا بقتله ، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه ، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون ، ونقلوا أنها رأت نوراً في التابوت ، وتسهل عليها فتحه بعد تعسر فتحه على يدي غيرها ، وأن بنت فرعون أحبته أيضاً لبرئها من دائها الذي كان بها ، وهو البرص ، بإخبار من أخبر أنه لا يبرئها إلا ريق إنسان يوجد في تابوت في البحر .
وقرة : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو قرة ، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر ) لاَ تَقْتُلُوهُ ( ؛ وتقدم شرح قرة في آخر الفرقان . وذكر أنها لما قالت لفرعون : ) قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ ( ، قال : لك لا لي . وروي أنها قالت له : لعله من قوم آخرين ليس من بني إسرائيلي ، وأتبعت النهي عن قتله برجائها أن ينفعهم لظهور مخايل الخير فيه من النور الذي رأته ، ومن برء البرص ، أو يتخذوه ولداً ، فإنه أهل لذلك . ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( : جملة حالية ، أي لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يديه ، قاله قتادة ؛ أو أنه عدو لهم ، قاله مجاهد ؛ أو أني أفعل ما أريد لا ما يريدون ، قاله محمد بن إسحاق . والظاهر أنه من كلام الله تعالى . وقيل : هو من كلام امرأة فرعون ، أي قالت ذلك لفرعون ، والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه ، لئلا يغروه بقتله .
وقال الزمخشري : تقدير الكلام : ) فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( ، و ) قَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنُ ( كذا ، ( وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . وقوله : ) إِنَّ فِرْعَوْنَ ( الآية ، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم . انتهى . ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن .
( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىءاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ).
) وَأَصْبَحَ ( : أي صار فارغاً من العقل ، وذلك حين بلغها أنه وقع في يد فرعون ، فدهمها أمر مثله لا يثبت معه العقل ، لا(7/101)
" صفحة رقم 102 "
سيما عقل امرأة خافت على ولدها حتى طرحته في اليم ، رجاء نجاته من الذبح ؛ هذا مع الوحي إليها أن الله يرده إليها ويجعله رسولاً ، ومع ذلك فطاش لبها وغلب عليها ما يغلب على البشر عند مفاجأة الخطب العظيم ، ثم استكانت بعد ذلك لموعود الله . وقرأ أحمد بن موسى ، عن أبي عمر وفؤاد : بالواو . وقال ابن عباس : فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى . وقال مالك : هو ذهاب العقل . وقالت فرقة : فارغاً من الصبر . وقال ابن زيد : فارغاً من وعد الله ووحيه إليها ، تناسته من الهم . وقال أبو عبيدة : فارغاً من الحزن ، إذ لم يغرق ، وهذا فيه بعد ، وتبعده القراآت الشواذ التي في اللفظة . وقرأ فضالة بن عبيد ، والحسن ، ويزيد بن قطيب ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير : فزعاً ، بالزاي والعين المهملة ، من الفزع ، وهو الخوف والقلق ؛ وابن عباس : قرعاً ، بالقاف وكسر الراء وإسكانها ، من قرع رأسه ، إذا انحسر شعره ، كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى . وقيل : قرعاً ، بالسكون ، مصدر ، أي يقرع قرعاً من القارعة ، وهي الهم العظيم . وقرأ بعض الصحابة : فزغاً ، بالفاء مكسورة وسكون الزاي والغين المنقوطة ، ومعناه : ذاهباً هدراً تالفاً من الهم والحزن . ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال : فإن يك قتلي قد أصيْبت نفوسهم
فلن تذهبوا فزغاً بقتل حبال
أي : بقتل حبال فزغاً ، أي هدراً لا يطلب له بثأر ولا يؤخذ . وقرأ الخليل بن أحمد : فرغاً ، بضم الفاء والراء . ) إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ ( : هي إن المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة . وقيل : إن نافية ، واللام بمعنى إلاّ ، وهذا قول كوفي ، والإبداء : إظهار الشيء . والظاهر أن الضمير في به عائد على موسى عليه السلام ، فقيل : الباء زائدة ، أي : لتظهره . وقيل : مفعول تبدي محذوف ، أي لتبدي القول به ، أي بسببه وأنه ولدها . وقيل : الضمير في به للوحي ، أي لتبدي بالوحي . وقال ابن عباس : كادت تصيح عند إلقائه في البحر وا ابناه . وقيل : عند رؤيتها تلاطم الأمواج به ) لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ). قال قتادة : بالإيمان . وقال السدي : بالعصمة . وقال الصادق : باليقين . وقال ابن عطاء : بالوحي ، و ) لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ). فعلنا ذلك ، أي المصدقين بوعد الله ، وأنه كائن لا محالة . والربط على القلب كناية عن قراره وإطمئنانه ، شبه بما يربط مخافة الانقلاب .
وقال الزمخشري : ويجوز : وأصبح فؤادها فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه . ) إِن كَادَتْ لَتُبْدِى ( بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت ، لولا أنا طمأنا قلبها وسكّنّا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج . ) لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الواثقين بوعد الله ، لا بتبني فرعون وتعطفه . انتهى . وما ذهب إليه الزمخشري من تجويز كونه فارغاً من الهم إلى آخره ، خلاف ما فهمه المفسرون من الآية ، وجواب لولا محذوف تقديره : لكادت تبدي به ، ودل عليه قوله : ) إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ ( ، وهذا تشبيه بقوله : ) وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ ).
) وَقَالَتْ لاخْتِهِ ( ، طمعاً منها في التعرف بحاله . ) قُصّيهِ ( : أي اتبعي أثره وتتبعي خبره . فروي أنها خرجت في سكك المدينة مختفية ، فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يتطلبون له امرأة ترضعه ، حين لم يقبل المراضع ، واسم أخته مريم ، وقيل : كلثمة ، وقيل : كلثوم ، وفي الكلام حذف ، أي فقصت أثره . ) فَبَصُرَتْ بِهِ ( : أي أبصرته ؛ ) عَن جُنُبٍ ( ، أي عن بعد ؛ ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( بتطلبها له ولا بإبصارها . وقيل : معنى ) عَن جُنُبٍ ( : عن شوق إليه ، حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال : هي لغة جذام ، يقولون : جنبت إليك : اشتقت . وقال الكرماني : جنب صفة لموصوف محذوف ، أي عن مكان جنب ، يريد بعيد .(7/102)
" صفحة رقم 103 "
وقيل : عن جانب ، لأنها كانت تمشي على الشط ، وهم لا يشعرون أنها تقص . وقيل : لا يشعرون أنها أخته . وقيل : لا يشعرون أنه عدو لهم ، قاله مجاهد . وقرأ الجمهور : عن جنب ، بضمتين . وقرأ قتادة : فبصرت ، بفتح الصاد ؛ وعيسى : بكسرها . وقرأ قتادة ، والحسن ، والأعرج ، وزيد بن علي : جنب ، بفتح الجيم وسكون النون . وعن قتادة : بفتحهما أيضاً . وعن الحسن : بضم الجيم وإسكان النون . وقرأ النعمان بن سالم : عن جانب ، والجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى واحد . وقال قتادة : معنى عن جنب : أنها تنظر إليه كأنها لا تريده . والتحريم هنا بمعنى المنع ، أي منعناه أن يرضع ثدي امرأة ؛ والمراضع جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع ؛ أو جمع مرضع ، وهو موضع الرضاع ، وهو الثدي ، أو الإرضاع . ) مِن قَبْلُ ( : أي من أول أمره . وقيل : من قبل قصها أثره وإتيانه على من هو عنده .
( فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ ( : أي أرشدكم إلى ) أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ( ، لكونهم فيهم شفقة ورحمة لمن يكفلونه وحسن تربية . ودل قوله : ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ( ، أنه عرض عليه جملة من المرضعات ، والظاهر أن الضمير في له عائد على موسى . قيل : ويحتمل أن يعود على الملك الذي كان الطفل في ظاهر أمْره من جملته . وقال ابن جريج : تأول القوم أن الضمير للطفل فقالوا لها : إنك قد عرفتيه ، فأخبرينا من هو ؟ فقالت : ما أردت ، إلا أنهم ناصحون للملك ، فتخلصت منهم بهذا التأويل . وفي الكلام حذف تقديره : فمرت بهم إلى أمه ، فكلموها في إضاعه ؛ أو فجاءت بأمه إليهم ، فكلموها في شأنه ، فأرضعته ، فالتقم ثديها . ويروى أن فرعون قال لها : ما سبب قبول هذا الطفل ثديك ، وقد أبى كل ثدي ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها ، وذهبت به إلى بيتها ، وأجرى لها كل يوم ديناراً . وجاز لها أخذه لأنه مال حربي ، فهو مباح ، وليس ذلك أجرة رضاع . ) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ ( ، كما قال تعالى : ) إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ( ، ودمع الفرح بارد ، وعين المهموم حرى سخنة ، وقال أبو تمام : فأما عيون العاشقين فأسخنت
وأما عيون الشامتين فقرت
لما أنجز تعالى وعده في الردّ ، ثبت عندها أنه سيكون نبياً رسولاً . ) وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ( ، فعلنا ذلك . ولا يعلمون ، أي أن وعد الله حق ، فهم مرتابون فيه ؛ أو لا يعلمون أن الرد إنما كان لعلمها بصدق وعد الله . ولكن أكثر الناس لا يعلمون بأن الرد كان لذلك ، وفي قوله : ) وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ( دلالة على ضعف من ذهب إلى أن الإيحاء إليها كان إلهاماً أو مناماً ، لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد . وقوله : ولتعلم وقوع ذلك فهو علم مشاهدة ، إذ كانت عالمة أن ذلك سيكون ، وأكثرهم هم القبط ، ولا يعلمون سرّ القضاء . وقال الضحاك : لا يعلمون مصالحهم وصلاح عواقبهم . وقال الضحاك أيضاً ، ومقاتل : لا يعلمون أن الله وعدها رده إليها ، وتقدم تفسير ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ( إلى ) الْمُحْسِنِينَ ( في سورة يوسف عليه السلام .
( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى ). ( سقط : من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو )(7/103)
" صفحة رقم 104 "
( سقط : الآية كاملة )
) الْمَدِينَةِ ( ، قال ابن عباس : هي منف . ركب فرعون يوماً وسار إليها ، فعلم موسى عليه السلام بركوبه ، فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة ، وعنه بين العشاء والعتمة . وقال ابن إسحاق : المدينة مصر بنفسها ، وكان موسى قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون ، فاختفى وخاف ، فدخلها متنكراً حذراً متغفلاً للناس . وقال ابن زيد : كان فرعون قد أخرجه من المدينة ، فغاب عنها سنين ، فُنسي ، فجاء والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به . وقيل : كان يوم عيد ، وهم مشغولون بلهوهم . وقيل : خرج من قصر فرعون ودخل مصر . وقيل : المدينة عين شمس . وقيل : قرية على فرسخين من مصر يقال لها حابين . وقيل : الإسكندرية . وقرأ أبو طالب القارىء : ) عَلَى حِينِ ( ، بنصب نون حين ، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل ، كأنه قال : على حين غفل أهلها ، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض ، كقوله :
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وهذا توجيه شذوذ . وقرأ نعيم بن ميسرة : يقتلان . بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف . قيل : كانا يقتتلان في الدين ، إذ أحدهما إسرائيل مؤمن والآخر قبطي . وقيل : يقتتلان ، في أن كلف القبطي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي ، ويقتتلان صفة لرجلين . وقال ابن عطية : يقتتلان في موضع الحال . انتهى . والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط . ) هَاذَا مِن شِيعَتِهِ ( : أي ممن شايعه على دينه ، وهو الإسرائيلي . قيل : وهو السامري ، وهذا من عدوه ، أي من القبط . وقيل : اسمه فاتون ، وهذا حكاية حال ، وقد كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما ، أو لحكاية الحال ، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر . وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب . قال جرير :(7/104)
" صفحة رقم 105 "
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت ساقكم إليّ قطينا
وقرأ الجمهور : ) فاستغاثة ( ، أي طلب غوثه ونصره على القبطي . وقرأ سيبويه ، وابن مقسم ، والزعفراني : بالعين المهملة والنون بدل الثاء ، أي طلب منه الإعانة على القبطي . قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة : والاختيار قراءة ابن مقسم ، لأن الإعانة أولى في هذا الباب . وقال ابن عطية : ذكرها الأخفش ، وهي تصحيف لا قراءة . انتهى . وليست تصحيفاً ، فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه ، وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني . وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، يعني الحطب ، فاشتد غضب موسى ، وكان قد أوتي قوة ، ( عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ ( ، فمات . وقرأ عبد الله فلكزه ، باللام ، وعنه : فنكزه ، بالنون . قال قتادة : وكزه بعصاه ؛ وغيره قال : بجمع كفه ، والظاهر أن فاعل ) فَقَضَى ( ضمير عائد على موسى . وقيل : يعود على الله ، أي فقضى الله عليه بالموت . ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه ، أي فقضى الوكز عليه ، وكان موسى لم يتعمد قتله ، ولكن وافقت وكزته الأجل ، فندم موسى . وروي أنه دفنه في الرمل وقال : ) هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( ، وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي ، وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه ، لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله . وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر . وقال كعب : كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، وكان قتله خطأ ، فإن الوكزة في الغالب لا تقتل . وقال النقاش : كان هذا قبل النبوة ، وقد انتهج موسى عليه السلام نهج آدم عليه السلام إذ قال : ) ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ). والباء في ) بِمَا أَنْعَمْتَ ( للقسم ، والتقدير : أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة ، والجواب محذوف ، أي لأتوبن ، ( فَلَنْ أَكُونَ ( ، أو متعلقة بمحذوف تقديره : اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة ، ( فَلَنْ أَكُونَ ( إن عصمتني ) ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ). وقيل : ) فَلَنْ أَكُونَ ( دعاء لا خبر ، ولن بمعنى لا في الدعاء ، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء ، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية ، وبقول الشاعر :
لن تزالوا كذاكم ثم ما زلت لهم خالداً خلود الجبال
والمظاهرة ، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على يده . وقيل : بما أنعمت عليّ من النبوّ ، فلن أستعملها إلاّ في مظاهرة أوليائك ، ولا أدع قبطياً يغلب إسرائيلياً . واحتج أهل العلم بهذه الآية على منع معونة أهل الظلم وخدمتهم ، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره . وقال رجل لعطاء : إن خي يضرب بعلمه ولا يعد ورزقه ، قال : فمن الرأس ، يعني من يكتب له ؟ قال : خالد بن عبد الله القسري ، قال : فأين قول موسى ؟ وتلا الآية : ) فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَائِفاً ( من قبل القبطي أن يؤخذ به ، يترقب وقوع المكروه ، به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه ؟ قيل : خائفاً من أنه يترقب المغفرة . وقيل : خائفاً يترقب نصرة ربه ، أو يترقب هداية قومه ، أو ينتظر أن يسلمه قومه . ) فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاْمْسِ ( : أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه . وإذا هنا للمفاجأة ، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ ، وهو معرب ، فحركة سينه حركة إعراب لأنه دخلته أل ، بخلاف حاله إذا عري منها ، فالحجاز تنبيه إذا كان معرفة ، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط ، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقاً ، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور . قال الشاعر :(7/105)
" صفحة رقم 106 "
وإني حسبت اليوم والأمس قبله
إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب
) يَسْتَصْرِخُهُ ( : يصيح به مستغيثاً من قبطيّ آخر ، ومنه قول الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الطنابيب
قال له موسى : الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي ) إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ ( لكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس ، قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب . وقيل : الضمير في له ، والخطاب للقبطي ، ودل عليه قوله : يستصرخه ، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي . ) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ ( : الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى . ) بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا ( : أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله : ) إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ ( هو على سبيل إرادة السوء به ، وظن أنه يسطو عليه . قال ، أي الإسرائيلي : ) قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ ( ، دفعاً لما ظنه من سطو موسى عليه ، وكان تعيين القائل القبطي قد خفي على الناس ، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى ، ونمى ذلك إلى فرعون ، فأمر بقتل موسى . وقيل : الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى ، وخاطبه بما يقبح ، وأن بعد لما يطرد زيادتها . وقيل : لو إذا سبق قسم كقوله : فأقسم أن لو التقينا وأنتم
لكان لكم يوم من الشر مظلم
وقرأ الجمهور : يبطش ، بكسر الطاء ؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها . ) إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( : وشأن الجبار أن يقتل بغير حق . وقال الشعبي : من قتل رجلين فهو جبار ، يعني بغير حق ، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح . ) وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ( ، قيل : هو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون . قال الكلبي : واسمه جبريل بن شمعون . وقال الضحاك : شمعون بن إسحاق . وقيل : هو غير مؤمن آل فرعون . ) يَسْعَى ( : يشتد في مشيه . ولما أمر فرعون بقتله ، خرج الجلاوزة من الشارع الأعظم ، فسلك هذا الرجل طريقاً أقرب إلى موسى . ومن أقصى المدينة ، ويسعى : صفتان ، ويجوز أن يكون يسعى حالاً ، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء . قال الزمخشري : وإذا جعل ، يعني ، من أقصى حالاً ، لجاء لم يجز في يسعى إلاّ الوصف . انتهى . يعني : أن رجلاً يكون نكرة لم توصف ، فلا يجوز منها الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه في كتابه من غير وصف . قال : ) إِنَّ الْمَلاَ ( ، وهم وجوه أهل دولة فرعون ، ( يَأْتَمِرُونَ ( : يتشاورون ، قال الشاعر ، وهو النمر بن تولب : أرى الناس قد أحدثوا شيمة
وفي كل حادثة يؤتمر(7/106)
" صفحة رقم 107 "
وقال ابن قتيبة : يأمر بعضهم بعضاً بقوله ، من قوله تعالى : ) وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ). ) فَاخْرُجْ إِنّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ). ولك : متعلق إما بمحذوف ، أي ناصح لك من الناصحين ، أو بمحذوف على جهة البيان ، أي لك أعني ، أو بالناصحين ، وإن كان في صلة أل ، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما . وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا ، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل ، وعلم صدقه ونصحه ، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه . وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق ، ولم يصحب أحداً ، فسلك مجهلاً ، واثقاً بالله تعالى ، داعياً راغباً إلى ربه في تنجيته من الظالمين .
( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا ).
) تَوَجَّهَ ( : رد وجهه . و ) تِلْقَاء ( : تقدم الكلام عليه في يونس ، أي ناحية وجهه . استعمل المصدر استعمال الظرف ، وكان هناك ثلاث طرق ، فأخذ موسى أوسطها ، وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا : المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلاّ بنياتها . فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حاف ، لا يطعم إلا ورق الشجر . والظاهر من قوله : ) عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ ( ، أنه كان لا يعرف الطريق ، فسأل ربه أن يهديه أقصد الطريق بحيث أنه لا يضل ، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه . وعن ابن عباس : قصد مدين وأخذ يمشي من غير معرفة ، فأوصله الله إلى مدين . وقيل : هداه جبريل إلى مدين . وقيل : ملك غيره . وقيل : أخذ طريقاً يأمن فيه ، فاتفق ذهابه إلى مدين . والظاهر أن سواء السبيل : وسط الطريق(7/107)
" صفحة رقم 108 "
الذي يسلكه إلى مكان مأمنه . وقال مجاهد : سواء السبيل : طريق مدين . وقال الحسن : هو سبيل الهدى ، فمشى موسى عليه السلام إلى أن وصل إلى مدين ، ولم يكن في طاعة فرعون .
( وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ ( : أي وصل إليه ، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء ، وبمعنى الدخول فيه . قيل : وكان هذا الماء بئراً . والأمة : الجمع الكثير ، ومعنى عليه : أي على شفيره وحاشيته . ) يُسْقَوْنَ ( : يعني مواشيهم . ) وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ( : أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة ، فهما من دونهم بالإضافة إليه ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : في مكان أسفل من مكانهم . ) تَذُودَانِ ( ، قال ابن عباس وغيره : تذودان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء . وقال قتادة : تذودان الناس عن غنمهما . قال الزجاج : وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء . وقيل : لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم . وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما . وقال الفراء : تحبسانها عن أن تتفرق ، واسم الصغرى عبرا ، واسم الكبر صبورا .
ولما رآهما موسى عليه السلام واقفتين لا تتقدمان للسقي ، سألهما فقال : ) مَا خَطْبُكُمَا ( ؟ قال ابن عطية : والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب ، أو مضطهد ، أو من يشفق عليه ، أو يأتي بمنكر من الأمر . قال الزمخشري : وحقيقته : ما مخطوبكما ؟ أي ما مطلوبكما من الذياد ؟ سمى المخطوب خطباً ، كما سمى الشؤون شأناً في قولك : ما شأنك ؟ يقال : شانت شأنه ، أي قصدت قصده . انتهى . وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعنّ ولم يكن لأبيهما أجير ، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء ، ولم تكن لهما قوة الإستقاء ، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم ، فإذا صدروا ، فإن بقي في الحوض شيء سقتا . فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء ، فرق عليهما وقال : ) مَا خَطْبُكُمَا ( ؟ وقرأ شمر : بكسر الخاء ، أي من زوجكما ؟ ولم لا يسقي هو ؟ وهذه قراءة شاذة نادرة .
( قَالَتَا لاَ نَسْقِى ). وقرأ ابن مصرف : لا نسقي ، بضم النون . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، وقتادة ، والعربيان : يصدر ، بفتح الياء وضم الدال ، أي يصدرون بأغنامهم ؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وطلحة ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى : بضم الياء وكسر الدال ، أي يصدرون أغنامهم . وقرأ الجمهور : الرعاء ، بكسر الراء : جمع تكسير . قال الزمخشري : وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام . انتهى . وليس بقياس ، لأنه جمع راع ؛ وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة ، كقاض وقضاة ، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس . وقرىء : الرعاء ، بضم الراء ، وهو اسم جمع ، كالرخال والثناء . قال أبو الفضل الرازي : وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : الرعاء ، بفتح الراء ، وهو مصدر أقيم مقام الصفة ، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه ، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف . ) وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ( : اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما ، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره ، واستعطاف لموسى في إعانتهما .
( فَسَقَى لَهُمَا ( : أي سقى غنمهما لأجلهما . وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا عدد من الرجال ، واضطرب النقل في العدد ، فأقل ما قالوا سبعة ، وأكثره مائة ، فأقله وحده . وقيل : كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون ، فنزع بها وحده . وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما ، كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع ، حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من البقل . وقيل : إنه مشى حتى سقط أصله ، وهو باطن القدم ، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما أمر السقي . وقد طابق جوابهما لسؤاله . سألهما عن سبب الذود ، فأجاباه : بأنا امرأتان ضعيفتان مستورتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فتؤخر السقي إلى فراغهم . ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور ، وعادة العرب وأهل البدو في ذلك غير عادة أهل الحضر والأعاجم ، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة . ) ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ ( ، قال ابن مسعود :(7/108)
" صفحة رقم 109 "
ظل شجرة . قيل : كانت سمرة . وقيل : إلى ظل جدار لا سقف له . وقيل : جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس . ) فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( ، قال المفسرون : تعرض لما يطعمه ، لما ناله من الجوع ، ولم يصرح بالسؤال ؛ وأنزلت هنا بمعنى تنزل . وقال الزمخشري : وعدى باللام فقير ، لأنه ضمن معنى سائل وطالب . ويحتمل أن يريد ، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين ، وهو النجاة من الظالمين ، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، قال ذلك رضا بالبدل السني وفرحاً به وشكراً له . وقال الحسن : سأل الزيادة في العلم والحكمة .
( فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء ( : في الكلام حذف ، والتقدير : فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي ، وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما ، فأمر إحداهما أن تدعوه له . ) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا ). قرأ ابن محيصن : فجاءته إحداهما ، بحذف الهمزة ، تخفيفاً على غير قياس ، مثل : ويل أمه في ويل أمه ، ويابا فلان ، والقياس أن يجعل بين بين ، وإحداهما مبهم . فقيل : الكبرى ، وقيل : كانتا توأمتين ، ولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار . وعلى استحياء : في موضع الحال ، أي مستحيية متحفزة . قال عمر بن الخطاب : قد سترت وجهها بكم درعها ؛ والجمهور : على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام ، وهما ابنتاه . وقال الحسن : هو ابن أخي شعيب ، واسمه مروان . وقال أبو عبيدة : هارون . وقيل : هو رجل صالح ليس من شعيب ينسب . وقيل : كان عمهما صاحب الغنم ، وهو المزوج ، عبرت عنه بالأب ، إذ كان بمثابته . ) لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ( ، في ذلك ما كان عليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملاً ، وإن لم يقصد العالم المكافأة .
( فَلَمَّا جَاءهُ ( : أي فذهب معهما إلى أبيهما ، وفي هذا دليل على اعتماد أخبار المرأة ، إذ ذهب معها موسى ، كما يعتمد على أخبارها في باب الرواية . ) وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ( : أي ما جرى له من خروجه من مصر ، وسبب ذلك . ) قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( : أي قبل الله دعاءك في قولك : ) رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ، أو أخبره بنجاته منهم ، فأنسه بقوله : ) لاَ تَخَفْ ( ، وقرب إليه طعاماً ، فقال له موسى : إنا أهل بيت ، لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً ، فقال له شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة آبائي قري الضيف وإطعام الطعام ؛ فحينئذ أكل موسى عليه السلام .
( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ( : أبهم القائلة ، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة ، ( إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( : أي لرعي الغنم وسقيها . ووصفته بالقوة : لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده ، وانتزع بتلك الدلو ، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء ؛ وبالأمانة : لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها ، فقال : ارجعي خلفي ودليني على الطريق . وقولها كلام حكيم جامع ، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر ، فقد تم المقصود ، وهو كلام جرى مجرى المثل ، وصار مطروقاً للناس ، وكان ذلك تعليلاً للاستئجار ، وكأنها قالت : استأجره لأمانته وقوته ، وصار الوصفات منبهين عليه . ونظير هذا التركيب قول الشاعر : ألا إن خير الناس حياً وهالكا
أسير ثقيف عندهم في السلاسل
جعل خير من استأجرت الاسم ، اعتناء به . وحكمت عليه بالقوة والأمانة . ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها : ومن أين عرفت هذا ؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده ، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح ؛ وقاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم . وقيل : قال لها موسى ابتداء : كوني ورائي ، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ، ودليني على الطريق يميناً أو يساراً .(7/109)
" صفحة رقم 110 "
وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله : ) عَسَى أَن يَنفَعَنَا ( ، وأبو بكر في عمر . وفي قولها : ) اسْتَجِرْهُ ( ، دليل على مشروعية الإجارة عندهم ، وكذا كانت في كل ملة ، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة ، خلافاً لابن علية والأصم ، حيث كانا لا يجيزانها ؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع ، وخلافهما خرق .
( قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ ( : رغب شعيب في مصاهرته ، لما وصفته به ، ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة . وقرأ ورش ، وأحمد بن موسى ، عن أبي عمرو : أنكحك إحدى ، بحذف الهمزة . وظاهر قوله : ) أَنْ أُنكِحَكَ ( ، أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأ فيه ، خلافاً لأبي حنيفة في بعض صوره ، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها ، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود ، وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج ، وقد فعل ذلك عمر ، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار ، وبه قال مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : إذا بلغت البكر ، فلا تزوج إلا برضاها . قيل : وفيه دليل على قول من قال : لا ينعقد إلا بلفظ التزويج ، أو الإنكاح ، وبه قال ربيعة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود . وإحدى ابنتي : مبهم ، وهذا عرض لا عقد . ألا ترى إلى قوله : ) إِنّى أُرِيدُ ( ؟ وحين العقد يعين من شاء منهما ، وكذلك لم بحدّ أول أمد الإجارة . والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة ، وبه قال الشافعي وأصحابه وابن حبيب . وقال الزمخشري : ) هَاتَيْنِ ( ، فيه دليل على أنه كانت له غيرهما . انتهى . ولا دليل في ذلك ، لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان ، وجاءته إحداهما ، فأشار إليهما ، والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما . ) عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ( في موضع الحال من ضمير أنكحك ، إما الفاعل ، وإما المفعول . وتأجرني ، من أجرته : كنت له أجيراً ، كقولك : أبوته : كنت له أباً ، ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسك . و ) ثَمَانِىَ حِجَجٍ ( : ظرف ، وقاله أبو البقاء . وقال الزمخشري : حجج : مفعول به ، ومعناه : رعيه ثماني حجج . ) فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ( : أي هو تبرع وتفضل لا اشتراط . ) وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ( بإلزام أيّم الأجلين ، ولا في المعاشرة والمناقشة في مراعاة الأوقات ، وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط . ) سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( : وعد صادق مقرون بالمشيئة من الصالحين في حسن المعاملة ووطاءة الخلق ، أو من الصالحين على العموم ، فيدخل تحته حسن المعاملة .
ولما فرغ شعيب مما حاور به موسى ، قال موسى : ) ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ ( ، على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثماني حجج . وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك ، إشارة إلى ما عاهده عليه ، أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه ، ثم قال : ) أَيَّمَا الاْجَلَيْنِ ( ، أي الثماني أو العشر ؟ ) فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ ( : أي لا يعتدى عليّ في طلب الزيادة ، وأي شرط ، وما زائدة . وقرأ الحسن ، والعباس ، عن أبي عمرو : أيما ، بحذف الياء الثانية ، كما قال الشاعر : تنظرت نصراً والسماكين أيما
علي من الغيث استهلت مواطره
وقرأ عبد الله : أي الأجلين ما قضيت ، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت . قال الزمخشري فإن قلت : ما الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين ؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام ، أي زائدة في شياعها وفي الشاذ ، تأكيداً للقضاء ، كأنه قال : أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له ؟ وقرأ أبو حيوة ، وابن قطيب : فلا عدوان ، بكسر العين . قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما ، ولكن جمعهما ، ليجعل الأول كالأتم في الوفاء . وقال الزمخشري :(7/110)
" صفحة رقم 111 "
تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً ؟ قلت : معناه : كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر ، كان عدواناً لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت في الزيادة على الثماني . أراد بذلك تقرير الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء ، إما هذا ، وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء . وأما التتمة فموكولة إلى رأيي ، إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها . وقيل : معناه فلا أكون متعدياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه ، كقولك : لا إثم عليّ ولا تبعة . انتهى ، وجوابه الأول فيه تكثير . ) وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ ( : أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا ، ( وَكِيلٌ ( : أي شاهد . وقال قتادة : حفيظ . وقال ابن شجرة : رقيب ، والوكيل الذي وكل إليه الأمر ، فلما ضمن معنى شاهد ونحوه عدى بعلى .
( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( : جاء على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه وفي أطول الأجلين ، وهو العشر . وعن مجاهد : وفي عشر أو عشراً بعدها ، وهذا ضعيف . ) وَسَارَ بِأَهْلِهِ ( : أي نحو مصر بلده وبلد قومه . والخلاف فيمن تزوّج ، الكبرى أم الصغرى ، وكذلك في اسمها . وتقدّم كيفية مسيره ، وإيناسه النار في سورة طه وغيرها . وقرأ الجمهور : جذوة ، بكسر الجيم ؛ والأعمش ، وطلحة ، وأبو حيوة ، وحمزة : بضها ؛ وعاص ، غير الجعفي : بفتحها . ) لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( : أي تتسخنون بها ، إذ كانت ليلة باردة ، وقد أضلوا الطريق .
( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ إِلَى ).
من ، في : من شاطىء ، لابتداء الغاية ، ومن الشجرة كذلك ، إذ هي بدل من الأولى ، أي من قبل الشجرة . والأيمن : يحتمل أن يكون صفة للشاطىء وللوادي ، على معنى اليمن والبركة ، أو الأيمن : يريد المعادل للعضو الأيسر ، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى ، لا للشاطىء ، ولا للوادي ، أي أيمن موسى في استقباله حتى يهبط الوادي ، أو بعكس ذلك ؛ وكل هذه الأقوال في الأيمن مقول . وقرأ الأشهب العقيلي ، ومسلمة : في البقعة ، بفتح الباء . قالأبو زيد : سمعت من العرب : هذه بقعة طيبة ، بفتح الباء ، ووصفت البقعة بالبركة ، لما خصت به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام ، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة . ويتعلق في البقعة بنودي ، أو تكون في موضع الحال من شاطىء . والشجرة عناب ، أو عليق ، أو سمرة ، أو عوسج ، أقوال . وأن : يحتمل أن تكون حرف تفسير ، وأن تكون مخففة من الثقيلة . وقرأت فرقة : ) إِنّى أَنَاْ ( ، بفتح الهمزة ، وفي إعرابه إشكال ، لأن إن ، إن كانت تفسيرية ، فينبغي كسر إني ، وإن(7/111)
" صفحة رقم 112 "
كانت مصدرية ، تتقدر بالمفرد ، والمفرد لا يكون خبراً لضمير الشأن ، فتخريج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية ، وإن معمول لمضمر تقديره : إني يا موسى أعلم إني أنا الله .
وجاء في طه : ) نُودِىَ يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( ، وفي النمل : ) نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ( ، وهنا : ) نُودِىَ مِن شَاطِىء ( ، ولا منافاة ، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء . والجمهور : على أنه تعالى كلمه في هذا المقام من غير واسطة . وقال الحسن : ناداه نداء الوحي ، لا نداء الكلام . وتقدم الكلام على نظير قوله : ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ ( ، ثم أمره فقال : ) اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( ، وهو فتح الجبة من حيث تخرج الرأس ، وكان كم الجبة في غاية الضيق . وتقدّم الكلام على : ) تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء ( وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف ، وبما أسفل من العضد إلى الرسغ ، وبجيب مدرعته . والرهب : الخوف ، وتأتي القراءات فيه . وقيل : بفتح الراء والهاء : الكم ، بلغة بني حنيفة وحمير ، وسمع الأصمعي قائلاً يقول : اعطني ما في رهبك ، أي في كمك ، والظاهر حمل : ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ( على الحقيقة .
قال الثوري : خاف موسى أن يكون حدث به سوء ، فأمره تعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى ، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءاً بل آية من الله . وقال مجاهد ، وابن زيد : أمره بضم عضده وذراعه ، وهو الجناح ، إلى جنبه ، ليخف بذلك فزعه . ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوي قلبه . وقيل : لما انقلبت العصا حية ، فزع موسى واضطرب ، فاتقاها بيده ، كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : أدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى ، وهذا القول بسطه الزمخشري ، لأنه كالتكرار لقوله : ) اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ). وقد قال هو والجناح هنا اليد ، قال : لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه . وقيل : المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها ، فاضممها إليك تسكن . وقالت فرقة : هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به ، كما تقول العرب : أشدد حيازيمك واربط جأشك ، أي شمر في أمرك ودع الرهب ، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن ، قاله أبو علي ، وكأنه طيره الفزع ، وآلة الطيران الجناح . فقيل له : اسكن ولا تخف ، وضم منشور جناحك من الخوف إليك ، وذكر هذا القول الزمخشري ، فقال والثاني أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران . ومعنى ) مِنَ الرَّهْبِ ( : من أجل الرهب ، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية ، فاضمم إليك جناحك . جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ( ، وقوله : ) اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( على أحد التفسيرين واحد ، ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب . فإن قلت : قد جعل الجناح ، وهو اليد ، في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ( ، ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( ، فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح . ومن بدع التفاسير أن الرهب : الكم ، بلغة حمير ، وأنهم يقولون : اعطني ما في رهبك ؛ وليت شعري ؛ كيف صحته في اللغة ؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي عربيتهم ؟ ثم ليت شعري : كيف موقعه في الآية ؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات التنزيل ؟ على أن موسى ، صلوات الله عليه ، ما كان عليه ليلة المناجاة إلاّ زرماتقة من صوف ، لا كمين لها . انتهى . أما قوله : وهل سمع من الأثبات ؟ وهذا مروي عن الأصمعي ، وهو ثقة ثبت . وأما قوله : كيف موقعه من الآية ؟ فقالوا : معناه أخرج يدك من كمك ، وكان قد أخذ العصا بالكم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : من الرهب ، بفتح الراء والهاء ؛ وحفص : بفتح الراء(7/112)
" صفحة رقم 113 "
وسكون الهاء ؛ وباقي السبعة : بضم الراء وإسكان الهاء . وقرأ قتادة ، والحسن ، وعيسى ، والجحدري : بضمهما .
( فَذَانِكَ ( : شارة إلى العصا واليد ، وهما مؤنثتان ، ولكن ذكرا لتذكير الخبر ، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر ، كقراءة من قرأ : ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا ، بالياء في تكن . ) بُرْهَانَانِ ( : حجتان نيرتان . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : فذانك ، بتشديد النون ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها . وقرأ ابن مسعود ، وعيسى ، وأبو نوفل ، وابن هرمز ، وشبل : فذانيك ، بياء بعد النون المكسورة ، وهي لغة هذيل . وقيل : بل لغة تميم ، ورواها شبل عن ابن كثير ، وعنه أيضاً : فذانيك ، بفتح النون قبل الياء ، على لغة من فتح نون التثنية ، نحو قوله : على أحوذيين استقلت عشية وقرأ ابن مسعود : بتشديد النون مكسورة بعدها ياء . قيل : وهي لغة هذيل . وقال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها . و ) إِلَى فِرْعَوْنَ ( : يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره : اذهب إلى فرعون . ) قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً ( : هو القبطي الذي وكزه فمات ، فطلب من ربه ما يزداد به قوة ، وذكر أخاه والعلة التي تكون له زيادة التبليغ . و ) أَفْصَحُ ( : يدل على أنه فيه فصاحة ، ولكن أخوة أفصح . ) فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ ( : أي معيناً يصدقني ، ليس المعنى أنه يقول لي : صدقت ، إذ يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح ، وإنما المعنى : أنه لزيادة فصاحته يبالغ في التبيان ، وفي الإجابة عن الشبهات ، وفي جداله الكفار . وقرأ الجمهور : ردأ ، بالهمزة ؛ وأبو جعفر ، ونافع ، والمدنيان : بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال ؛ والمشهور عن أبي جعفر بالنقل ، ولا همز ولا تنوين ، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف . وقرأ عاصم ، وحمزة : يصدقني ، بضم القاف ، فاحتمل الصفة لردأ ، والحال احتمل الاستئناف وقرأ باقي السبعة : بالإسكان . وقرأ أبي ، وزيد بن علي : يصدقوني ، والضمير لفرعون وقومه . قال ابن خالويه : هذا شاهد لمن جزم ، لأنهلو كان رفعاً لقال : يصدقونني . انتهى ، والجزم على جواب الأمر . والمعنى في يصدقوني : أرجو تصديقهم إياي ، فأجابه تعالى إلى طلبته وقال : ) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ). وقرأ زيد بن علي ، والحسن : عضدك ، بضمتين . وعن الحسن : بضم العين وإسكان الضاد . وعن بعضهم : بفتح العين وكسر الضاد ؛ وفتحهما ، قرأ به عيسى ، ويقال فيه : عضد ، بفتح العين وسكون الضاد ، ولا أعلم أحداً قرأ به . والعضد : العضو المعروف ، وهي قوام اليد ، ويشدتها يشتد . قال الشاعر :
أبني لبيني لستما بيد
إلا يداً ليست لها عضد
والمعنى فيه : سنقويك بأخيك . ويقال في الخير : شد الله عضدك ، وفي الشر : فتّ الله في عضدك . والسلطان : الحجة والغلبة والتسليط . ) فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ( : أي بسوء ، أو إلى إذايتكما . ويحتمل ) بِئَايَاتِنَا ( أن يتعلق بقوله : ويجعل ، أو بيصلون ، أو بالغالبون ، وإن كان موصولاً على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل ، وإن كان عنده موصولاً على سبيل الاتساع ، أو بفعل محذوف ، أي اذهبا بآياتنا . كما علق في تسع آيات باذهب ، أو على البيان ، فالعامل محذوف ، وهذه أعاريب منقولة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون قسماً جوابه ) فَلاَ يَصِلُونَ ( مقدماً عليه ، أو من لغو القسم . انتهى . أما أنه قسم جوابه ) فَلاَ يَصِلُونَ ( ، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور ، لأن جواب القسم لا تدخله الفاء . وأما قوله : أو من لغو القسم ، فكأنه يريد والله أعلم . إنه لم يذكر له جواب ، بل حذف لدلالة عليه ، أي بآياتنا لتغلبن .(7/113)
" صفحة رقم 114 "
) فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِىءابَائِنَا الاْوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ ).
) بِئَايَاتِنَا ( : هي العصا واليد . ) بَيّنَاتٍ ( : أي واضحات الدلالة على صدقه ، وأنه أمر خارق معجز ، كفوا عن مقاومته ومعارضته ، فرجعوا إلى البهت والكذب ، ونسبوه إلى أنه سحر ، لأنهم يرون الشيء على حالة ، ثم يرونه على حالة أخرى ، ثم يعود إلى الحالة الأولى ، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله ، فليس بمعجز . ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى ، وكذبهم في ذلك ، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم ، أي في زمان آبائهم وأيامهم . وفي آبائنا : حال ، أي بهذا ، أي بمثل هذا كائناً في أيام آبائنا . وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق ، ثبت أن ما ادّعاه موسى هو بدع لم يسبق إلى مثله ، فدل على أنه مفترى على الله ، وقد كذبوا في ذلك ، وطرق سمعهم أخبار الرسل السابقين موسى في الزمان . ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون : ) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ ( ؟
ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحراً ، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق ، ( قَالَ مُوسَى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ ( ، حيث أهله للرسالة ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبي ، ويعني بذلك نفسه ، ولو كان كما يزعمون لم يرسله . ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح ، وهي الظلم . وضع الشيء غير موضعه ، حيث دعوا إلى الإيمان بالله ، وأتوا بالمعجزات ، فادعوا الإلهية ، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر . وعاقبة الدار ، وإن كانت تصلح للمحمودة والمذمومة ، فقد كثر استعمالها في المحمودة ، فإن لم تقيد ، حملت عليها . ألاترى إلى قوله : ) أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( ؟ وقال : ) وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ( وقرأ ابن كثير : قال موسى ، بغير واو ؛ وباقي السبعة : بالواو . ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا : كيت وكيت ، وقال موسى : كيت وكيت ؛ فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما ، إذ قد تقابلا ، فيعلم يقيناً أن قول موسى هو الحق والهدى . ومناسبة قراءة ابن كثير ، أنه موضع قراءة لما قالوا : كيت وكيت ، قال موسى : كيت وكيت . ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ ، ويريد بذلك نفي وجوده ، أي ما لكم من إله غيري . ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم ، ولكنه مظنون ، فيكون النفي على ظاهره ، ويدل على ذلك قوله : ) وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره . ألا ترى إلى قوله حالة غرقه : ) وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا إِسْراءيلَ ( ؟ واستمر(7/114)
" صفحة رقم 115 "
فرعون في مخرقته ، ونادى وزيره هامان ، وأمره أن يوقد النار على الطين . قيل : وهو أول من عمل الآجر ، ولم يقل : أطبخ الآخر ، لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك ، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع .
( فَاجْعَل لّى صَرْحاً ( : أي ابن لي ، لعل أطلع إلى إله موسى . أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه ، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له ؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم ، يمكن ذلك عندهم ، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات ، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه ، ولكن يوافقه مخافه سطوه واعتدائه . كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء ، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل ، يوافقه على ذلك الحديث . ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك ، فقيل : بناه ، وذكر من وصفه بما الله أعلم به . وقيل : لم يبن . واطلع في معنى : اطلع ، يقال : طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد ، أي صعد ، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق ، إذ ليس لهم ذلك ، فهم مبطلون في استكبارهم ، حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك ؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو الله . وقرأ حمزة ، والكسائي ، ونافع : لا يرجون ، مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول . والأرض هنا أرض مصر . ) فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( : كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا ، شبهوا بحصيات . قذفها الرامي من يده ، ومنه نبذ النواة ، وقول الشاعر : نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلاً من نعالك باليا
وقوم فرعون وفرعون ، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلب بني إسرائيل ، فإن ما ضمهم من القدر السابق ، وإغراقهم في البحر ، هو نبذ الله إياهم . وجعل هنا بمعنى : صبر ، أي صيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم ، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم ، اشتهروا بذلك وبقي حديثهم . وقال الزمخشري : وجعلناهم : دعوناهم ، أئمة : دعاة إلى النار ، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار ، وهو من قولك : جعله بخيلاً وفاسقاً إذا دعاه فقال : إنه بخيل وفاسق . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلاً وفاسقاً ، ومنه قوله عز وجل : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ). ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر . انتهى . وإنما فسر جعلناهم بمعنى دعوناهم ، لا بمعنى صيرناهم ، جرياً على مذهبه من الاعتزال ، لأن في تصييرهم أئمة ، خلق ذلك لهم . وعلى مذهب المعتزلة ، لا يجوّزون ذلك من الله ، ولا ينسبونه إليه ، قال : ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر ، ومعنى الخذلان : منع الإلطاف ، وإنما يمنعها من علم أنه لا ينفع فيه ، وهو المصمم على الكفر ، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال أيضاً . ) لَّعْنَةُ ( : أي طرداً وإبعاداً ، وعطف يوم القيامة على : ) فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا ). ) مّنَ الْمَقْبُوحِينَ ( ، قال أبو عبيدة : من الهالكين . وقال ابن عباس : من المشوهين الخلقة ، لسواد الوجوه وزرقة العيون . وقيل : من المبعدين .
ولما ذكر تعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه ، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليه السلام فقال : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ( ، وهو التوراة ، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام . ) مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاْولَى ( : قوم نوح وهود وصالح ولوط ، ويقال : لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة . وانتصب بصائر على الحال ، أي طرائق هدي يستبصر بها .(7/115)
" صفحة رقم 116 "
) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ ).
لما قص الله تعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء ، ورميه في البحر في تابوت ، ورده إلى أمّه ، وتبني فرعون له ، وإيتائه الحكم والعلم ، وقتله القبطي ، وخروجه من منشئه فاراً ، وتصاهره مع شعيب ، ورعيه لغنمه السنين الطويلة ، وعوده إلى مصر ، وإضلاله الطريق ، ومناجاة الله له ، وإظهار تينك المعجزتين العظيمتين على يديه ، وهي العصا واليد ، وأمره بالذهاب إلى فرعون ، ومحاورته معه ، وتكذيب فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه ، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة ؛ وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك ، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال : ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ ).
والأمر ، قيل : النبوّة والحكم الذي آتاه الله موسى . وقيل : الأمر : أمر محمد عليه السلام أن يكون من أمته ، وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله : ) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً ). وقيل : الأمر : هلاك فرعون بالماء ، ويحمل بجانب الغربى على اليم ، وبدأ أولاً بنفي شيء خاص ، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر ، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين . والمعنى ، والله أعلم ؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به ، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى ، فكان عموماً بعد خصوص . وبجانب الغربي : من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم ، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم . فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي ، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي ، والترجيح بين القولين مذكور في النحو . والغربي ، قال قتادة : غربي الجبل ، وقال الحسن : بعث الله موسى بالغرب ، وقال أبو عبيدة : حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم . وقيل : هنا جبل غربي . وقيل : الغربي من الوادي ، وقيل : من البحر . قال ابن عطية : المعنى : لم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا ، أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك ، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمناً زمناً ، فعزبت حلومهم ، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم . وقال الزمخشري : الغرب : المكان الواقع في شق الغرب(7/116)
" صفحة رقم 117 "
وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور ، وكتب الله له في الألواح . والأمر المقضي إلى موسى : الوحي الذي أوحى إليه . والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يقول : وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه ، أو على الوحي إليه ، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات ، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته ، وكتب التوراة له في الألواح ، وغير ذلك . فإن قلت : كيف يتصل قوله : ) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً ( بهذا الكلام ، ومن أي جهة يكون استدراكاً ؟ قلت : اتصاله به وكونه استدراكاً من حيث أن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قروناً كثيرة ، فتطاول على آخرهم ، وهو القرن الذي أنت فيهم .
( الْعُمُرُ ( : أي أمد انقطاع الوحي ، واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى ، كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة ، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره . فإذن ، هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده . ) وَمَا كُنتَ ثَاوِياً ( : أي مقيماً في أهل مدين ، هم شعيب والمؤمنون . ) تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا ( : تقرأ عليهم تعلماً منهم ، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه . ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها . ) إِذْ نَادَيْنَا ( ، يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه ، ولكن علمناك . وقيل : ) فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ( ، وفترت النبوة ، ودرست الشرائع ، وحرف كثير منها ؛ وتمام الكلام مضمر تقديره : وأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار ، مميزاً للحق بما اختلف فيه منها ، رحمة منا . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : وما كنت من الشاهدين في ذلك الزمان ، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم ، وأنت تخبر الآن عن تلك الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا ، معجزة لك . وقيل : تتلو حال ، وقيل : مستأنف ، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب ، ولكنا أرسلناك رسولاً ، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم ، ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه .
وقال الفراء : ) وَمَا كُنتَ ثَاوِياً ( في أيهل مدين مع موسى ، فتراه وتسمع كلامه ، وها أنت ) تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا ( : أي على أمتك ، فهو منقطع . انتهى . قيل : وإذا لم يكن حاضراً في ذلك المكان ، فما معنى : ) وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ؟ فقال ابن عباس : التقدير : لم تحضر ذلك الموضع ، ولو حضرت ، فما شاهدت تلك الوقائع ، فإنه يجوز أن يكون هناك : ولا يشهد ولا يرى . وقال مقاتل : لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة ، وأنزلنا إليك هذه الأخبار ، ولولا ذلك ما علمت . وقال الضحاك : يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين ، تتلو عليهم آيات الكتاب ، وإنما كان غيرك ، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً ، فأرسلنا إلى مدين شعيباً ، وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء . انتهى .
وقال الطبري : ) إِذْ نَادَيْنَا ( بأن : ) خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ). وعن أبي هريرة : أنه نودي من السماء حينئذ يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني ، وغفرت لكم قبل أن تسألوني ، فحينئذ قال موسى عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد . فالمعنى : إذ نادينا بأمرك ، وأخبرناك بنبوتك . وقرأ الجمهور : ) رَحْمَةً ( ، بالنصب ، فقدر : ولكن جعلناك رحمة ، وقدر أعلمناك ونبأناك رحمة . وقرأ عيسى ، وأبو حيوة : بالرفع ، وقدر : ولكن هو رحمة ، أو هو رحمة ، أو أنت رحمة . ) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ ( : أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى ، وهو خمسمائة وخمسون عاماً ونحوه . وجواب ) لَوْلاَ ( محذوف . والمعنى : لولا أنهم قائلون ، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي ، هلا أرسلت إلينا رسولاً ؟ لولا أنهم قائلون ، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي ، هلا أرسلت إلينا رسولاً ؟ محتجين بذلك علينا ما أرسلنا إليهم : أي إنما أرسلنا الرسل إزالة لهذا العذر ، كما قال : ) لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( ، أن ) تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ). وتقدير الجواب : ما أرسلنا إليهم الرسل ، هو قول الزجاج . وقال ابن عطية : تقديره : لعاجلناهم بما يستحقونه . والمصيبة : العذاب . ولما كان أكثر الأعمال تزاول بالأيدي ، عبر عن كل عمل باجتراح الأيدي ، حتى أعمال القلوب ، اتساعاً في الكلام ، وتصيير الأقل تابعاً للأكثر ، وتغليب الأكثر على الأقل . والفاء في ) فَيَقُولُواْ ( للعطف على نصيبهم ، ولولا الثانية للتحضيض . وفنتبع : الفاء فيه جواب للتحضيض .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى ، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه ؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة ، لما كانت هي السبب للقول(7/117)
" صفحة رقم 118 "
فكان وجوده بوجودها ، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها لولا ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناها إلى قولك : ولولا قولهم هذا ، ( إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ ( لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة ، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم ، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين . لم يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولاً ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير ، لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم . وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى ، كقولهم : ) وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ). انتهى .
( وَالْحَقَّ ( : هو الرسول ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم . وقيل : القرآن ، ( مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى ). ) مِن قَبْلُ ( : أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة ، وانقلاب العصا حية ، وفلق البحر ، وغيرها من الآيات . اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ، كما قالوا : لولا أنزل عليه كنز ، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم . وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش ، قالوا لهم . ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى ، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى ، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول . فالضمير في : ) أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ ( لليهود ، قاله ابن عطية : وقيل : قائل ذلك العرب بالتعليم ، كما قلنا . وقيل : قائل ذلك اليهود ، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا : ) لَوْلا أُوتِىَ ( : أي محمد ، ( مَا أُوتِىَ مُوسَى ( ، وذلك أن تكذيبهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) تكذيب لموسى عليه السلام ، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى ، إذ الأنبياء هم من وادٍ واحد . فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق ، كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء . وتتناسق الضمائر كلها في هذا ، في قوله : ) قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني ، فقد ينطلق على الإعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات ، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر .
وقال الزمخشري : ) أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ ( ، يعني آباء جنسهم ، ومن مذهبهم مذهبهم ، وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى ) بِمَا أُوتِىَ مُوسَى ). وعن الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم ؟ قالوا في موسى وهارون : ) وَإِن تَظَاهَرَا ( ، أي تعاوناً . انتهى . ومن قبل : يحتمل أن يتعلق بيكفروا ، وبما أوتي . وقرأ الجمهور : ساحران . قال مجاهد : موسى وهارون . وقال الحسن : موسى وعيسى . وقال ابن عباس : موسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن أيضاً : عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . وقرأ عبد الله ، وزيد بن علي ، والكوفيون : سحران . قال ابن عباس : التوراة والقرآن . وقيل : التوراة والإنجيل ، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة . ) تَظَاهَرَا ( : تعاونا . قرأ الجمهور : تظاهرا : فعلاً ماضياً على وزن تفاعل . وقرأ طلحة ، والأعمش : اظاهرا ، بهمزة الوصل وشد الظاء ، وكذا هي في حرف عبد الله ، وأصله تظاهرا ، فأدغم التاء في الظاء ، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة . وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري ، وأبو حيوة ، وأبو خلاد عن اليزيدي : تظاهرا بالتاء ، وتشديدالظاء . قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض ، وإنما يشدد في المضارع . وقال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه . وقال صاحب الكامل في القراءات : ولا معنى له . انتهى . وله تخريج في اللسان ، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون ، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر ، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتما ساحران تتظاهران ؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون ، وروعي ضمير الخطاب . ولو قرىء : يظاهرا ، بالياء ، حملاً على مراعاة ساحران ، لكان له وجه ، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا .
( وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كَافِرُونَ ( : أي بكل من الساحرين أو السحرين ، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية ، وهي قوله : ) قُلْ فَأْتُواْ ( : أي أنتم أيها المكذبون ، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق ، ونهت عن الكفر والنقائص ، ووعد الله عليها الثواب الجزيل . إن كان تكذيبكم لمعنى ) فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( يهدي أكثر من هدي هذه ، أتبعه معكم . والضمير في منها عائد على ما أنزل على موسى ، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم ، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق(7/118)
" صفحة رقم 119 "
متيقن ، أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم ، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين . ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم . وقرأ زيد بن علي : أتبعه ، برفع العين الاستئناف ، أ ي أنا أتبعه . ) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ ( ، قال ابن عباس : يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج ، ولم يمكنهم أن يأوا بكتاب هو أفضل ، والاستجابة تقتضي دعاء ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) يدعو دائماً إلى الإيمان ، أي فإن لم يستجيبوا لك بعدما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل ، أو يكون قوله : ) فَأْتُواْ بِكِتَابٍ ( ، هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاء لهم بأن يأتوا به . ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله ، فاعلم أنه ليس لهم إلا اتباع هوى مجردغ ، لا اتباع دليل . واستجاب : بمعنى أجاب ، ويعدى للداعي باللام ودونها ، كما قال : ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ( ، ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ( ، ( فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ). وقال الشاعر : فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فعداه بغير لام . وقال الزمخشري : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب ، فيقال : استجاب الله دعاءه ، واستجاب له ، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه . وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاء ، على حذف المضاف . انتهى . ) وَمَنْ أَضَلُّ ( : أي لا أحد أضل ، و ) بِغَيْرِ هُدًى ( : في موضع الحال ، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى ، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه ، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله ، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى ، فلذلك قيد بهذه الحال . وقال الزمخشري : يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال .
( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقاً مّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ).
قرأ الجمهور : ) وَصَّلْنَا ( ، مشدد الصاد ؛ والحسن : بتخفيفها ، والضمير في لهم لقريش . وقال رفاعة القرظي : نزلت في عشرة من اليهود ، أنا أحدهم . قال الجمهور : وصلنا : تابعنا القرآن موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام . وقال الحسن : وفي ذكر الأمم المهلكة . وقال مجاهد : جعلناه أوصالاً من حيث كان أنواعاً من القول في معان مختلفة . وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة . وقال الأخفش : أتممنا لوصلك الشيء بالشيء ، وأصل التوصل في الحبل ، يوصل بعضه ببعض . وقال الشاعر(7/119)
" صفحة رقم 120 "
فقل لبني مروان ما بال ذمتي
بحبل ضعيف لا يزال يوصل
وهذه الأقوال معناها : توصيل المعاني فيه بها إليهم . وقالت فرقة : التوصيل بالنسبة إلى الألفاظ ، أي وصلنا لهم قولاً معجزاً دالاً على نبوتك . وأهل الكتاب هنا جماعة من اليهود أسلمت ، وكان الكفار يؤذونهم . أو بحيرا الراهب ، أو النجاشي ، أو سلمان الفارسي . وابن سلام ، وأبو رفاعة ، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا . أو أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول قبل مبعثه ، اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب ، وثمانية قدموا من الشام : بحيرا ، وأبرهة ، وأشرف ، وأربد ، وتمام ، وإدريس ، ونافع ، ورادأ ابن سلام ، وتميم الداري ، والجارود العبدي ، وسلمان ، سبعة أقوال آخرها لقتادة . والظاهر أنها أمثلة لمن آمن منهم ، والضمير في به عائد على القول ، وهو القرآن . وقال الفراء : عائد على الرسول ، وقال أيضاً : إن عاد على القرآن ، كان صواباً ، لأنهم قد قالوا : إنه الحق من ربنا . انتهى .
( إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا ( : تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن نؤمن به . ) إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( : بيان لقوله : ) بِهِ إِنَّهُ ( ، أي إيماننا به متقادم ، إذ كان الآباء الأقدمون إلى آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول ، وأعلموا بذلك الأبناء ، فنحن مسلمون من قبل نزوله وتلاوته علينا ، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي . وإيتاء الأجر مرتين ، لكونه آمن بكتابه وبالقرآن ؛ وعلل ذلك بصبرهم : أي على تكاليف الشريعة السابقة لهم ، وهذه الشريعة وما يلقون من الأذى . وفي الحديث : ( ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ) ، الحديث . ) ويدرأون ( : يدفعون ، ( وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ ( : بالطاعة ، ( السَّيّئَةُ ( : المعصية المتقدمة ، أو بالحلم الأذى ، وذلك من مكارم الأخلاق . وقال ابن مسعود : يدفعون بشهادة أن لا إله إلاّ الله الشرك . وقال ابن جبير : بالمعروف المنكر . وقال ابن زيد : بالخير الشر . وقال ابن سلام : بالعلم الجهل ، وبالكظم الغيظ . وفي وصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لمعاذ : ( أتبع السيئة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) . و ) اللَّغْوَ ( : سقط القول . وقال مجاهد : الأذى والسب . وقال الضحاك : الشرك . وقال ابن زيد : ما غيرته اليهود من وصف الرسول ، سمعه قوم منهم ، فكرهوا ذلك وأعرضوا . ) وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ( : خطاب لقائل اللغو المفهوم ذلك من قوله : ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ).
) سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( ، قال الزجاج : سلام متاركة لإسلام تحية . ) لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( : أي لا نطلب مخالطتهم . ) إِنَّكَ لاَ تَهْدِى ( من أحببت : أي لا تقدر على خلق الهداية فيه ، ولا تنافي بين هذا وبين قوله : ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ، لأن معنى هذا : وإنك لترشد . وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب ، وحديثه مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حالة أن مات ، مشهور . وقال الزمخشري : لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت ، لأنك لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ، ولكن الله يدخل في الإسلام من يشاء ، وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف تنفع فيه ، فتقرب به ألطافه حتى يدعوه إلى القبول . ) وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( : بالقابلين من الذين لا يقبلون . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في أمر الألطاف . وقالوا : الضمير في وقالوا لقريش . وقيل ، القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : إنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ، فذلك وإنما نحن أكلة رأس ، أي قليلون أن يتخطفونا من أرضنا .
وقولهم : ) الْهُدَى مَعَكَ ( : أي على زعمك ، فقطع الله حجتهم ، إذ كانوا ، وهم كفار بالله ، عباد أصنام قد أمنوا في حرمهم ، والناس في غيره يتقاتلون ، وهم مقيمون في بلد غير(7/120)
" صفحة رقم 121 "
ذي زرع ، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات ، فكيف إذا آمنوا واهتدوا ؟ فهو تعالى يمهد لهم الأرض ويملكهم الأرض ، كما وعدهم تعالى ، ووقع على وعد به ؛ ووصف الحرم بالأمن مجاز ، إذ الآمنون فيه هم ساكنوه . و ) ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء ( : عام مخصوص ، يراد به الكثرة . وقرأ المنقري : يتخطف ، برفع الفاء ، مثل قوله تعالى : ) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ( ، برفع الكاف ، أي فيدرككم ، أي فهو يدرككم . وقوله : من يفعل الحسنات الله يشكرها : أي فيتخطف ، وفالله يشكرها ، وهو تخريج شذوذ . وقرأ نافع وجماعة ، عن يعقوب ؛ وأبو حاتم ، عن عاصم : تجبى ، بتاء التأنيث ، والباقون بالياء . وقرأ الجمهور : ثمرات ، بفتحتين ؛ وأبان بن تغلب : بضمتين ؛ وبعضهم : بفتح الثاء وإسكان الميم . وانتصب رزقاً على أنه مصدر من المعنى ، لأن قوله : ) يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ ( : أي برزق ثمرات ، أو على أنه مفعول له ، وفاعل الفعل المعلل محذوف ، أي نسوق إليه ثمرات كل شيء ، وإن كان الرزق ليس مصدراً ، بل بمعنى المرزوق ، جاز انتصابه على الحال من ثمرات ، ويحسن لك تخصيصاً بالإضافة . و ) أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( : أي جهلة ، بأن ذلك الرزق هو من عندنا .
( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ).
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فعظموا النعمة ، وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمرهم الله وخرب ديارهم . و ) مَعِيشَتَهَا ( منصوب على التمييز ، على مذهب الكوفيين ؛ أو مشبه بالمفعول ، على مذهب بعضهم ؛ أو مفعول به على تضمين ) بَطِرَتْ ( معنى فعل متعد ، أي خسرت معيشتها ، على مذهب أكثر البصريين ؛ أو على إسقاط في ، أي في معيشتها ، على مذهب الأخفش ؛ أو على الظرف ، على تقدير أيام معيشتها ، كقولك : جئت خفوق النجم ، على قول الزجاج . ) فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ ( : أشار إليها ، أي ترونها خراباً ، تمرون عليها كحجر ثمود ، هلكوا وفنوا ، وتقدم ذكر المساكن . و ) تُسْكَن ( ، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( من المساكن : أي إلاّ سكنى قليلاً ، أي لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق . ) وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ( : أي لتلك المساكن وغيرها ، كقوله : ) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ ( ، خلت من ساكنيها فخربت . تتخلف الآثار عن أصحابها
حيناً ويدركها الفناء فتتبع
والظاهر أن القرى عامة في القرى التي هلكت ، فالمعنى أنه تعالى لا يهلكها في كل وقت . حتى يبعث في أم تلك القرى ، أي كبيرتها ، التي ترجع تلك القرى إليها ، ومنها يمتارون ، وفيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى . ) حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً ( ، لإلزام الحجة وقطع المعذرة . ويحتمل أن يراد بالقرى : القرى التي في عصر الرسول ، فيكون أم القرى :(7/121)
" صفحة رقم 122 "
مكة ، ويكون الرسول : محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، خاتم الأنبياء ، وظلم أهلها : هو بالكفر والمعاصي . ) وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء ( : أي حسن يسركم وتفخرون به ، ( فَمَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ( : تمتعون أياماً قلائل ، ( وَمَا عِندَ اللَّهِ ( : من النعيم الدائم الباقي المعد للمؤمنين ، ( خَيْرٌ ). من متاعكم ، ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( : توبيخ لهم . وقرأ أبو عمرو : يعقلون ، بالياء ، إعراض عن خطابهم وخطاب لغيرهم ، كأنه قال : انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم . وقرأ الجمهور : بالتاء من فوق ، على خطابهم وتوبيخهم ، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة . ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده ، وفي التحرير والتحبير بين الياء والتاء ، عن أبي عمرو . وقرىء : متاعاً الحياة الدنيا ، أي يمتعون متاعاً في الحياة الدنيا ، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف .
( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ ( : يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد ، ( وَعْداً حَسَناً ( ، وهو الثواب ، فلاقاه ، ومن متع في الحياة الدنيا ، ثم أحضر إلى النار . وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر . قيل : ونزلت في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأبي جهل . وقيل : في حمزة وأبي جهل . وقيل : في عليّ وأبي جهل . وقيل : في عمار والوليد بن المغيرة . وقيل : نزلت في المؤمن والكافر ، وغلب لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله : ) لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( ، ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ). والفاء في : ) أَفَمَنِ ( ، للعطف ، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع والزينة ، وما عند الله من الثواب ، قال : أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا ؟ والفاء في : ) فَهُوَ لاَقِيهِ ( ، للتسبيب ، لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخبر ، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته . وقرأ طلحة : أمن وعدناه ، بغير فاء .
( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ). (7/122)
" صفحة رقم 123 "
لما ذكر أن الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار ، ذكر شيئاً من أحوال يوم القيامة ، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله ، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة ؛ ) فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ ( ؟ أي على زعمكم ، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع ؛ والشركاء هم من عبدوه من دون الله ، من ملك ، أو جنّ ، أو إنس ، أو كوكب ، أو صنم ، أو غير ذلك . ومفعولاً ) تَزْعُمُونَ ( محذوفان ، أحدهما العائد على الموصول ، والتقدير : تزعمونهم شركاء . ولما كان هذا السؤال مسكتاً لهم ، إذ تلك الشركاء التي عمدوها مفقودون ، هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي .
( قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ( : أي الشياطين ، وأئمة الكفر ورؤوسه ؛ وحق : أي وجب عليهم القول ، أي مقتضاه ، وهو قوله : ) لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ). و ) هَؤُلاء ( : مبتدأ ، و ) الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ( : هم صفة ، و ) أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( : الخبر ، و ) كَمَا غَوَيْنَا ( : صفة لمطاوع أغويناهم ، أي فغووا كما غوينا ، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا . وهذا الإعراب قاله الزمخشري . وقال أبو عليّ : ولا يجوز هذا الوجه ، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ . قال : فإن قلت : قد وصلت بقوله : ) كَمَا غَوَيْنَا ( ، وفيه زيادة . قيل : الزيادة بالظرف لا تصيره أصلاً في الجملة ، لأن الظروف صلات ، وقال هو : ) الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ( هو الخبر ، و ) أَغْوَيْنَاهُمْ ( : مستأنف . وقال غير أبي علي : لا يمتنع الوجه الأول ، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم ، كقولك : زيد عمرو قائم في داره . انتهى . والمعنى : هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان ، كما آثرناه نحن ، ونحن كنا السبب في كفرهم ، فقبلوا منا . وقرأ أبان ، عن عاصم وبعض الشاميين : كما غوينا ، بكسر الواو . قال ابن خالويه : وليس ذلك مختاراً ، لأن كلام العرب : غويت من الضلالة ، وغويت من البشم . ثم قالوا : ) تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ( ، منهم ما كانوا يعبدوننا ، إنما عبدوا غيرنا ، و ) إِيَّانَا ( : مفعول ) يَعْبُدُونَ ( ، لما تقدّم الفصل ، وانفصاله لكون يعبدون فاصلة ، ولو اتصل ، ثم لم يكن فاصلة . وقال الزمخشري : إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم ؛ وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى . انتهى .
( وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ( : لما سئلوا ابن شركاؤكم وأجابوا بغير جواب ، سئلوا ثانياً فقيل : ادعوا شركاءكم ، وأضاف الشركاء إليهم ، أي الذين جعلتموهم شركاء لله . وقوله : ) ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ( ، على سبيل التهكم بهم ، لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم ، ( فَدَعَوْهُمْ ( ، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضاً ، إذ لم يعلموا أن من كان موجوداً منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم ، والضمير في ) وَرَأَوُاْ ). قال الضحاك ومقاتل : هو للتابع والمتبوع ، وجواب لو محذوف ، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه ، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا ، ما رأوا العذاب في الآخرة . وقيل : التقدير : لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل ، لدفعوا به العذاب . وقيل : لعلموا أن العذاب حق . وقيل : لتحيروا عند رؤيته من فظاعته ، وإن لم يعذبوا به ، وقيل : ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام . وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه : أحدها : أن الله إذا خاطبهم بقوله : ) ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ( ، اشتدّ خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئاً ، لا جرم ما رأوا العذاب . وثانيها : لما ذكر الشركاء ، وهي الأصنام ، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم ، قال في حقهم : ) وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ( ، لو كانوا من الأحياء المهتدين ، ولكنها ليست كذلك ، ولا جرم ما رأت العذاب . والضمير في رأوا ، وإن كان للعقلاء ، فقد قال : ودعوهم وهم للعقلاء . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقد أثنى على هذا الذي اختاره ، وليس بشيء ، لأنه بناه على أن الضمير(7/123)
" صفحة رقم 124 "
في رأوا عائد على المدعوين ، قال : وهم الأصنام . والظاهر أنه عائد على الداعين ، كقوله : ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ( ، ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد ، لأن ما قدره هو جواب ، ولا يشعر به أنه جواب ، إذ صار التقدير عنده : لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب ، لكنها ليست من الأحياء ، فلا ترى العذاب . ألا ترى إلى قوله : فلا جرم ما رأت العذاب ؟
) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ( : هذا النداء أيضاً قد يكون بواسطة من الملائكة ، أو بغير واسطة . حكى أولاً ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله رؤوس الكفر عند توبيخهم ، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزالة العلل . وقرأ الجمهور : ) فَعُمّيَتْ ( بفتح العين وتخفيف الميم . وقرأ الأعمش ، وجناح بن حبيش ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير : بضم العين وتشديد الميم ، والمعنى : أظلمت عليهم الأمور ، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ، وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه . ) فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ ( ، وقرأ طلحة : يساءلون ، بإدغام التاء في السين : أي لا يسأل بعضهم بعضاً فيما يتحاجون به ، إذا أيقنوا أنه لا حجة لهم ، فهم في عمى وعجز عن الجواب . والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله . ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة ، وما يكون منهم فيه ، أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحاً ، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة ، وهذا ترغيب للكافر في الإسلام ، وضمان له للفلاح . ويقال : إن عسى من الله واجبة .
( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ( : نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقول بعضهم : ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ، وقائل ذلك الوليد بن المغيرة . قال القرطبي : هذا متصل بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة ، أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء ، لا إلى المشركين . وقيل : هو جواب لليهود ، إذ قالوا : لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل ، لأمنا به ، ونص الزجاج ، وعليّ بن سليمان ، والنحاس : على أن الوقف على قوله : ) وَيَخْتَارُ ( تام ، والظاهر أن ما نافية ، أي ليس لهم الخيرة ، إنما هي لله تعالى ، كقوله : ) مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ( من أمرهم . وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار ، أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس ، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم ، ويفعلون ما لم يؤمروا به . وأنكر أن تكون ما نافية ، لئلا يكون المعنى : إنه لم تكن لهم الخير فيما مضى ، وهي لهم فيما يستقبل ، ولأنه لم يتقدّم كلام ينفي . وروي عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري ، وقد رد هذا القول تقدّم العائد على الموصول ، وأجيب بأن التقدير : ما كان لهم فيه الخيرة ، وحذف لدلالة المعنى . قال الزمخشري : كما حذف من قوله : ) إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( ، يعني : أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور . وأشد القاسم ابن معن بيت عنترة : أمن سمية دمع العين تذريف
لو كان ذا منك قبل اليوم معروف
وقرن الآية بهذا البيت . والرواية في البيت : لو أن ذا ، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن . فأما في الآية ، فقال ابن عطية : تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف . قال ابن عطية : ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة ، إذا قدرنا كان تامة ، أي أن الله تعالى يختار كل كائن ، ولا يكون شيء إلا بإذنه . وقوله : ) لَهُمُ الْخِيَرَةُ ( : جملة مستأنفة معناها : تعديد النعمة عليهم في اختيار الله لهم ، لو قبلوا وفهموا . انتهى . يعني : والله أعلم خيرة الله لهم ، أي لمصلحتهم . والخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، يستعملان بمعنى المصدر ؛ والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها . والحمد في الآخرة قولهم : ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( ، ( الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ ((7/124)
" صفحة رقم 125 "
) الْحَمْدُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ، والتحميد هنالك على سبيل اللذة ، لا التكليف . وفي الحديث : ( يلهمون التسبيح والتقديس ) . وقرأ ابن محيصن : ما تكن ، بفتح التاء وضم الكاف .
( وَلَهُ الْحُكْمُ ( : أي القضاء بين عباده والفصل . و ) أَرَءيْتُمْ ( : بمعنى أخبرون ، وقد يسلط على الليل ) أَرَءيْتُمْ ( و ) جَعَلَ ( ، إذ كان منهما يقتضيه ، فأعمل الثاني . وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام ، والعائد على الليل محذوف تقديره : من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده ، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقاً ، بل قد يختلف الطلب ، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية ، وهذا على جهة المفعولية ، وهذا على جهة المفعول ، وهذا على جهة الظرف . وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالباً ، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاماً ، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها ، كان ذلك المنتصب حالاً . و ) سَرْمَداً ( ، قيل : من السرمد ، فميمه زائدة ، ووزنه فعمل ، ولا يزاد وسطاً ولا آخراً بقياس ، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف . وأتى ) بِضِيَاء ( ، وهو نور الشمس ، ولم يجىء التركيب بنهار يتصرفون فيه ، كما جاء ) بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ( ، لأن منافع الضياء متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء . ) أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ( ؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل . ) أَفلاَ تُبْصِرُونَ ( ؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ، قال الزمخشري . و ) مّن رَّحْمَتِهِ ( ، من هنا للسبب ، أي وبسبب رحمته إياكم ، ( جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( ، ثم علل جعل كل واحد منهما ، فبدأ بعلة الأول ، وهو الليل ، وهو : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ( ، ثم بعلة الثاني وهو : ولتبتغوا من فضله ، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : ) وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( ، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : ) لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ، أي هذه الرحمة والنعمة . وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير ، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها ، ومنه قول ابن جيوش : ومقرطق يغني النديم بوجهه
عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها
في مقلتيه ووجنتيه وريقه
والضمير في ) فِيهِ ( عائد على الليل ، وفي ) فَضْلِهِ ( يجوز أن يكون عائداً على الله ، والتقدير : من فضله ، أي من فضل الله فيه ، أي في النهار ؛ وحذف لدلالة المعنى ، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه . ويحتمل أن يعود على النهار ، أي من فضل النهار ، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز . لما كان الفضل حاصلاً فيه ، أضيف إليه ، كقوله : ) بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ).
) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ إِنَّ قَارُونَ كُلٌّ مّنَ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ ( سقط : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين إلى آخر الآية ) ). (7/125)
" صفحة رقم 126 "
( سقط : الآية كاملة )
تقدم الكلام على قوله : ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ( : وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد . ) وَنَزَعْنَا ( : أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم . ) شَهِيداً ( : وهو نبي تلك الأمة ، لأنه هو الشهيد عليها ، كما قال : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ؟ وقيل : عدولاً وخياراً . والشهيد على هذا اسم الجنس ، والشهيد يشهد على تلك الأمّة بما صدر منها ، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد ، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم . ) فَقُلْنَا ( : أي للملأ ، ( هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( : أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد ، ( فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ( ، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله . ) وَضَلَّ عَنْهُم ( : أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ، ( مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( من الكذب والباطل .
وقارون أعجمي : منع الصرف للعجمة والعلمية . وقيل : ومعنى كان من قومه : أي ممن آمن به . قال ابن عطية : وهو إسرائيلي بإجماع . انتهى . واختلف في قرابته من موسى عليه السلام ، إختلافاً مضطرباً متكاذباً ، وأولاها : ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث ، جد موسى ، لأن النسابين ذكروا نسبة كذلك ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ، فنافق كما نافق السامري . ) فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( : ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ، ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغياً تكذب على موسى أنه تعرض لها ، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل ، ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبراً . ) إِنَّ قَارُونَ كَانَ ( ، قيل : أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام . وقيل : سميت أمواله كنوزاً ، إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة ، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته . وما موصوله ، صلتها إن ومعمولاها . وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يعني الأخفش الصغير ، يقول : ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات ، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه ، وفي القرآن : ) مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ ). انتهى . وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام ، وقالوا هنا : مقاليد خزائنه . وقال السدي : هي الخزائن نفسها . وقال الضحاك : ظروفه وأوعيته . وقرأ الأعمش : مفاتيحه ، بياء ، جمع مفتاح ، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب ، أو يقارب الكذب ، فلم أكتبه . قال أبو زيد : نؤت بالعمل إذا نهضت به . قال الشاعر : إذا وجدنا خلفاً بئس الخلف
عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
ويقول : ناء ينوء ، إذا نهض بثقل . قال الشاعر :(7/126)
" صفحة رقم 127 "
تنوء بأحراها فلأياً قيامها
وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
وقال أبو عبيدة : هو مقلوب وأصله : لتنوء بها العصبة ، أي تنهض ، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر . والصحيح أن الباء للتعدية ، أي لتنيء العصبة ، كما تقول : ذهبت به وأذهبته ، وجئت به وأجأته . ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء ، واختاره النحاس ، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وتقول العرب : ناء الحمل بالبعير إذا أثقله . قال ابن عطية : ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح ، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها ، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه ، فتأمله . وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء ، بالياء ، وتذكيره راعى المضاف المحذوف ، التقدير : ما إن حمل مفاتحه ، أو مقدارها ، أو نحو ذلك . وقال الزمخشري : ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال ، كقوله : ذهبت أهل اليمامة . انتهى . يعني : أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون ، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة ، فقيل فيه ، ذهبت . وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ : ما إن مفتاحه ، على الإفراد ، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل . وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام . وتقدم قبل تفسير المفاتح ، أهي المقاليد ، أو الخزائن نفسها ، أو الظروف والأوعية ؟ وعن ابن عباس والحسن : أن المفاتح هي الأموال .
قال ابن عباس : كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء ، وكانت أربعمائة ألف ، يحمل كل رجل عشرة آلاف . وقال أبو مسلم : المراد من المفاتح : العلم والإحاطة ، كقوله تعالى : ) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( ، والراد : وآتيناه من الكنوز ، ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ، يتعب حفظها القائمين على حفظها . ) إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ ( : نهوه عن الفرح المطغى الذي هو إنهماك وإنحلال نفس وأشر وإعجاب ، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة ، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب ، فلا يفرح بها . وقال أبو الطيب : أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
قال الزمخشري : ومحل إذ منصوب بتنوء . انتهى ، وهذا ضعيف جداً ، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له : ) لاَ تَفْرَحْ ). وقال ابن عطية : متعلق بقوله : ) فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( ، وهو ضعيف أيضاً ، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك الوقت . وقال الحوفي : الناصب له محذوف تقديره أذكر . وقال أبو البقاء : ) إِذْ قَالَ لَهُ ( ظرف لآتيناه ، وهو ضعيف أيضاً ، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول . وقال أيضاً : ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي بغى عليهم ، ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ ). انتهى . ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز ، ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ ). وقال تعالى : ) وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( ، والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير . وقال الشاعر : ولست بمفراح إذا الدهر سرني
ولا جازع من صرفه المتحول
وقال الآخر :(7/127)
" صفحة رقم 128 "
إن تلاق منفساً لا تلقنا
فرح الخير ولا نكبوا الضر
وقرىء : الفارحين ، حكاه عيسى بن سليمان الحجازى . و ) لاَ يُحِبُّ ( : صفة فعل ، لا صفة ذات ، بمعنى الإرادة ، لأن الفرح أمر قد وقع ، فالمعنى : لا يظهر عليهم بركته ، ولا يعمهم رحمته . ولما نهوه عن الفرح المطغى ، أمروه بأن يطلب ، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق ، ثواب الدار الآخرة ، بأن يفعل فيه أفعال البر ، وتجعله زادك إلى الآخرة . ) وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ( ، قال ابن عباس ، والجمهور : معناه : ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحاً في دنياك ، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ، وهذا التأويل فيه عظة . وقال الحسن ، وقتادة : معناه : لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك ، وفي هذا التأويل بعض رفق . وقال الحسن : معناه : قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به . وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف . وقيل : أرادوا بنصيبه الكفن ، وهذا وعظ متصل ، كأنهم قالوا : تترك جميع مالك ، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن ؛ كما قال الشاعر : نصيبك مما تجمع الدهر كله
رداءان تأوي فيهما وحنوط
وقال الزمخشري : أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك ، وهذا قريب من قول الحسن : ) وَأَحْسَنُ ( إلى عباد الله ، أو يكرك وطاعتك لله . ) كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( بتلك النعم التي خولكها ، والكاف للتشبيه ، وهو يكون في بعض الأوصاف ، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون ، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان ، أو تكون الكاف للتعليل ، أي أحسن لأجل إحسان الله إليك . ) وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ ( : أي ما أنت عليه من البغي والظلم . ) عَلَى عِلْمٍ ( ، علم : مصدر ، يحتمل أن يكون مضافاً إليه ومضافاً إلى الله . فقال الجمهور : ادّعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز . فقيل : علم التوراة وحفظها ، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات ، وكانت هذه مغالطة . وقال أبو سليمان الداني : أي علم التجارة ووجوه المكاسب ، أي أوتيته بإدراكي وسعيي . وقال ابن المسيب : علم الكيمياء ، قال ابن المسيب : وكان موسى عليه السلام يعلم الكيمياء ، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهباً . وعن ابن عباس : على علم الصنعة الذهب ، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن ابن المسيب . وأنكر الزجاج علم الكيمياء وقال : باطل لا حقيقة له . انتهى .
وكثيراً ما تولع أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات ؛ من ذلك : تغوير الماء ، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطاً ، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم لهم ، والكيمياء ؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم ، الذين هم عندهم بصورة الولاية ، يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة . وقال ابن زيد وغيره :(7/128)
" صفحة رقم 129 "
أراد : ) أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ( من الله وتخصيص من لدنه قصدني به ، أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم ، ثم جعل قوله : ) عِندِى ( ، كما يقول : في معتقدي وعلى ما أراه . وقال مقاتل : ) عَلَى عِلْمٍ ( ، أي على خير علمه الله عندي . والظاهر أن قوله : ) أَوَ لَمْ يَعْلَمْ ( ، تقرير لعلمه ذلك ، وتنبيه على خطئه في اغتراره ؛ أي قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه في التواريخ ، كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم ؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون نعتاً لعلمه بذلك ، لأنه لما قال : ) أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى ( ، فتنفح بالعلم وتعظم به ، قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافح حتى يقي نفسه مصارع الهالكين . انتهى . ) وَأَكْثَرُ جَمْعاً ( ، إما للمال ، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه . قال ابن عطية : ) أَوَ لَمْ يَعْلَمْ ( ، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه .
وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يَسْئَلُ ( ، مبنياً للمفعول و ) الْمُجْرِمُونَ ( : رفع به ، وهو متصل بما قبله ، قاله محمد بن كعب . والضمير في ) ذُنُوبِهِمُ ( عائد على من أهلك من القرون ، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم ، ولا ممن لم يجرم ، عمن أهلكه الله ، بل : ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ). وقيل : أهلك من أهلك من القرون ، عن علم منه بذنوبهم ، فلم يحتج إلى مسألتهم عنها . وقيل : هو مستأنف عن حال يوم القيامة . قال قتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، لأنهم يدخلون النار بغير حساب . وقال قتادة أيضاً ، ومجاهد : لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ، كقوله : ) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ). وقيل : لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع . وقرأ أبو جعفر في روايته : ولا تسأل ، بالتاء والجزم ، المجرمين : نصب . وقرأ ابن سيرين ، وأبو العالية : كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب ، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّز ذلك إلاّ أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب ، بوقوع الفعل عليه . قال صاحب اللوامح : فالظاهر ما قاله ، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء ، فإن تركاه على رفعه ، فله وجهان : أحدهما : أن تكون الهاء والميم في ) عَن ذُنُوبِهِمُ ( راجعة إلى ما تقدم من القرون ، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ ، وتقديره : هم المجرمون ، أو أولئك المجرمون ، ومثله ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( في التوبة . والثاني : أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في ذنوبهم ، لأنها ، وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها ، فإن أصلها الرفع ، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل ؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل ، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ : ) أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ( بالجر ، على أنها بدل من أصل ا لمثل ، وما زائدة فيه ، وتقديره : لا يستحي بضرب مثل بعوضة ، أي بضرب بعوضة . في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به ، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثراً لحال . فأما قوله : من ذنوبهم ، فذنوب جمع ، فإن كان جمع مصدر ، ففي إعماله خلاف . وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك ، ولا تعرف فيها أثراً ، فينبغي أن لا يجعلها قراءة .
ولما ذكر تعالى قارون ونعته ، وما آتاه من الكنوز ، وفرحه بذلك فرح البطرين ، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم ، ذكر ما هو ناشىء عن التكبر والسرور بما أوتي فقال : ) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ ( ، وكان يوم السبت : أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا . قال جابر ، ومجاهد : في ثياب حمر . وقال ابن زيد : هو وحشمه في ثياب معصفرة . وقيل : في ثياب الأرجوان . وقيل : على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام ، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلى والديباج . وقيل :(7/129)
" صفحة رقم 130 "
في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات ، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر . وقيل غير ذلك من الكيفيات .
( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( قيل : كانوا مؤمنين . وقال قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله . وقيل : رغبة في اليسارة والثروة . وقيل : كانوا كفارة ، وتمنوا ) مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ ( ، ولم يذكروا زوال نعمته ، وهذا من الغبطة . ) إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ ( : أي درجة عظيمة ، قاله الضحاك . وقيل : نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد ، يقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ . ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( ، منهم : يوشع ، والعلم : معرفة الثواب والعقاب ، أو التوكل ، أو الإخبار ، أقوال . ) وَيْلَكُمْ ( : دعاء بالشر . ) ثَوَابُ اللَّهِ ( : وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن ) خَيْرٌ ( مما أوتي قارون . ) وَلاَ يُلَقَّاهَا ( : أي هذه الحكمة ، وهي معرفة ثواب الله ، وقيل : الجنة ونعيمها . وقيل : هذه المقالة ، وهي قولهم : ) ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( ، وبخهم بها . ) إِلاَّ الصَّابِرُونَ ( على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات .
تقدم طرف من خبر قارون وحسده لموسى . ومن حسده أنه جعل لبغي جعلاً ، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها ، وأنها تابت إلى الله ، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلاً على رمي موسى بذلك ، فأمر الله الأرض أن يطيعه ، فقال : يا أرض خذيه وأتباعه ، فخسف بهم في حكاية طويلة ، الله أعلم بها . ولما خسف بقارون ومن معه ، فقال بنو إسرائيل : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله . ومن زائدة ، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات . وإذا انتفت الجملة ، ولم يقدر على نصره ، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ . ) وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ( : أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله .
( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاْمْسِ ( : بدل ، وأصبح ، إذا حمل على ظاهره ، أن الخسف به وبداره كان ليلاً ، وهو أفظع العذاب ، إذ الليل مقر الراحة والسكون ، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي ، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف ، وهو يوم التمني ، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله : ) فَخَسَفْنَا ( ، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته ، وفي ذلك تعجيل العذاب . ومكانه : منزلته في الدنيا من الثروة والحشم والأتباع . و : وي ، عند الخليل وسيبويه : اسم فعل مثل : صه ومه ، ومعناها : أعجب . قال الخليل : وذلك أن القوم ندموا فقالوا : متندمين على ما سلف منهم : وي ، وكل من ندم فأظهر ندامته قال : وي . وكأن : هي كاف التشبيه الداخلة على أن ، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال ، وأنشد سيبويه : وي كأن من يكن له نشب بح
سبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل . وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي . وقال الأخفش : هي ويك ، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب ، ولا موضع له من الإعراب ، والوقف عليه ويك ، ومنه قول عنترة : ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنتر اقدم
قال الأخفش : وأن عنده مفتوح بتقدير العلم ، أي أعلم أن الله ، وقال الشاعر :(7/130)
" صفحة رقم 131 "
ألا ويك المضرة لا تدوم
ولا يبقى على البؤس النعيم
وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك ، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة . فعلى المذهب الأول قيل : تكون الكاف خالية من معنى التشبيه ، كما قيل : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ). وعلى المذهب الثاني ، فالمعنى : أعجب لأن الله . وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن ، والمعنى أيضاً : لأن الله . وقال أبو زيد وفرقة معه : ويكأن ، حرف واحد بجملته ، وهو بمعنى : ألم تر . وبمعنى : ألم تر ، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد . وقال الفراء : ويك ، في كلام العرب ، كقوله الرجل : أما ترى إلى صنع الله ؟ وقال ابن قتيبة ، عن بعض أهل العلم أنه قال : معنى ويك : رحمة لك ، بلغة حمير .
ولما صدر منهم تمني حال قارون ، وشاهدوا الخسف ، كان ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ، وداعياً إلى الرضا بقدر الله ، فتنبهوا لخطئهم فقالوا : وي ، ثم قالوا : ) كَانَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( ، بحسب مشيئته وحكمته ، لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء ، لا لهوانه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء . وقرأ الأعمش : لولا منّ الله ، بحذف أن ، وهي مزادة . وروي عنه : منّ الله ، برفع النون والإضافة . وقرأ الجمهور : لخسف مبنياً للمفعول ؛ وحفص ، وعصمة ، وأبان عن عاصم ، وابن أبي حماد عن أبي بكر : مبنياً للفاعل ؛ وابن مسعود ، وطلحة ، والأعمش : لا تخسف بنا ، كقولك : انقطع بنا ، كأنه فعل مطاوع ، والمقام مقام الفاعل هو ) بِنَا ). ويجوز أن يكون المصدر : أي لا نخسف الانخساف ، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به ، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر . وعن ابن مسعود أيضاً : لتخسف ، بتاء وشد السين ، مبنياً للمفعول .
( تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنَّ ).
لما كان من قول أهل العلم والإيمان ثواب الله خير ، ذكر محل الثواب ، وهو الدار الآخرة . والمعنى : تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها . ) الدَّارُ الاْخِرَةُ ( : أي نعيم الدار الآخرة ، وهي الجنة ، والبقاء فيها سرمداً ، وعلق حصولها على مجرد الإرادة ، فكيف يمن بأشر العلوّ والفساد ؟ ثم جاء التركيب بلا في قوله : ) وَلاَ فَسَاداً ( ، فدل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود ، لا مجموعهما . قال الحسن : العلوّ : العز والشرف ، إن جر البغي الضحاك ، الظلم والفساد يعم أنواع الشر . وعن عليّ ، كرم الله وجهه : أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها .(7/131)
" صفحة رقم 132 "
وعن الفضيل ، أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني . وعن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يرددها حتى قبض . ) فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ( : يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل ، وأن يكون واحد الخيور ، أي فله خير بسبب فعلها ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : ) فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ( ، تهجيناً لحالهم وتبغيضاً للسيئة إلى قلوب السامعين ، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان : فلا يجزون بالصهر ، وما كانوا على حذف مثل ، أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون ، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها ، والحسنة بعشر أمثالها .
( إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ، قال عطاء : العمل به ؛ ومجاهد : أعطاكه ؛ ومقاتل : أنزله عليك ، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة . وقال الزمخشري : أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف . والمعاد ، قال الجمهور : في الآخرة ، أي باعثك بعد الموت ، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه . وعن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري : المعاد : الموت . وقيل : بيت المقدس . وقيل : الجنة ، وكان قد دخلها ليلة المعراج . وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد : المعاد : مكة ، أراد رده إليها يوم الفتح ، ونكره ، والمقصود التعظيم ، أي معاد أي معاد ، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافراً ظاهراً . وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره ، وقد اشتاق إليها ، فقال له جبريل : أتشتاق إليها ؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه . ومن منصوب بإضمار فعل ، أي يعلم من جاء بالهدى ، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل ، وأجاز مع ذلك أن ينصب به ، جاز أن ينتصب به ، إذ يؤوله بمعنى عالم ، ويعطيه حكمه من العمل .
ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد ، وأنه تعالى فرض عليه القرآن ، أمره أن يقول للمشركين ذلك ، أي هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبما يستحقه من الثواب في معاده ، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت . ويعني بقوله : ) وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( : المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك ، هو عالم بهم ، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم ، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ . ) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ( : هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله ، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه . وقيل : بل هو معلق بقوله : ) إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ، وأنت بحال من لا يرجو ذلك ، وانتصب رحمة على الاستثناء المنقطع ، أي لكن رحمة من ربك سبقت ، فألقى إليك الكتاب . وقال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك . انتهى . فيكون استثناء متصلاً ، إما من الأحوال ، وإما من المفعول له . وقرأ الجمهور : يصدنك ، مضارع صد وشدوا النون ، ويعقوب كذلك ، إلا أنه خففها . وقرىء : يصدنك ، مضارع أصد ، بمعنى صد ، حكاه أبو زيد ، عن رجل من كلب قال : وهي لغة قومه ، وقال الشاعر : أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم
صدود السواقي عن أنوف الحوائم
) بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ( : أي بعد وقت إنزالها ، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله : ) بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( ، ويومئذ ، وحينئذ . قال الضحاك : وذلك حين دعوه إلى دين إبائه ، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم ، فيصدونك عن اتباع آيات الله . ) وَادْعُ إِلَى رَبّكَ ( : أي دين ربك(7/132)
" صفحة رقم 133 "
وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول ، وهي في الحقيقة لأتباعه ، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض ، فالمعنى : أن الله يعدم كل شيء سواه . وبإزاء نفي الانتفاع به ، إما للإمانة ، أو بتفريق الأجزاء ، وإن كانت نافية يقال : هلك الثوب ، لا يريدون فناء أجزائه ، ولكن خروجه عن الانتفاع به . ومعنى : ) إِلاَّ وَجْهَهُ ( : إلا إياه ، قاله الزجاج . وقال مجاهد ، والسدي : هالك بالموت إلا العلماء ، فإن علمهم باق . انتهى . ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم ، فإنه باق . وقال الضحاك : إلا الله عز وجل ، والعرش ، والجنة ، والنار . وقيل : ملكه ، ومنه : ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ). وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه : جاهه الذي جعله في الناس . وقال سفيان الثوري : إلا وجهه ، ما عمل لذاته ، ومن طاعته ، وتوجه به نحوه ، ومنه قول الشاعر : رب العباد إليه الوجه والعمل وقوله : يريدون وجهه . ) لَهُ الْحُكْمُ ( : أي فصل القضاء . ) إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( : أي إلى جزائه . وقرأ عيسى : ترجعون ، مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول .(7/133)
" صفحة رقم 134 "
( سورة العنكبوت )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
هذه السورة مكية ، قاله جابر وعكرمة والحسن . وقال ابن عباس ، وقتادة : مدنية . وقال يحيى بن سلام : مكية إلا من أولها إلى ) وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( ، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة ، قاله السدي ؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله ، قاله ابن عمر ؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم ، قاله مجاهد ، و قريب(7/134)
" صفحة رقم 135 "
مما قبله ؛ أو في مهجع مولى عمر ، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه ، وقال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة ) ؛ أو في عياش أخي أبي جهل ، غدر فارتد .
و ) النَّاسِ ( : فسر بمن نزلت فيه الآية . وقال الحسن : الناس هنا المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا . وحسب يطلب مفعولين . فقال الحوفي ، وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا . وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا . وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : وإذا قدرت الباء كان حالاً . قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء كما تقول : تركت زيداً بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان . وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان ؟ قلت : هو في قوله : ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ ( ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
فتركته جزر السباع ينشنه
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ؟ فإن قلت : ) أَن يَقُولُواْ ( هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله : خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً ، تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . انتهى ، وهو كلام فيه اضطراب .
ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله : ) وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( ، وهذه جملة حالية . ثم ذكر ) أَن يُتْرَكُواْ ( هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم : ) وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( ، وهذا كلام لا يصح . وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية .
وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان .
وأما قوله : فإن قلت ) أَن يَقُولُواْ ( إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله : ) أَن يَقُولُواْ ( هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقاً ، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر غير المبتدأ . ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبره . وأما قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر ، أو كائن . ) وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( ، قال الشعبي : الفتنة(7/135)
" صفحة رقم 136 "
هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها . وقال الكلبي : هو مثال ، ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ). وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم .
و ) الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه . ) فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ( ، بالامتحان ، ( الَّذِينَ صَدَقُوا ( في إيمانهم ، ( وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ، ويستحيل حدوث العلم لله تعالى . فالمعنى : وليتعلقن علمه به موجوداً به كما كان متعلقاً به حين كان معدوماً . والمعنى : وليميزن الصادق منهم من الكاذب ، أو عبر بالعلم عن الجزاء ، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب . ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم ، والكاذبين ضد ذلك . وقرأ علي ، وجعفر بن محمد : فليعلمن ، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد ، والثاني محذوف ، أي منازلهم في الآخرة من ثواب وعقاب ؛ أو الأول محذوف ، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا ، أي يشهرهم هؤلاء في الخير ، وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد ، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم ، كقوله : ( من أسر سريرة ألبسه الله رداءها ) . وقرأ الزهري : الأولى كقراءة الجماعة ، والثانية كقراءة علي .
( أَمْ حَسِبَ ( ، قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : ) أَحَسِبَ ( ، وكأنه عز وجل قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك ، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه . انتهى . وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب ، كما ذكر ، لأنها إذ ذاك تكون متصلة ، ولها شرطان : أحدهما : أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام ، وهذا الشرط هنا موجود . والثاني : أن يكون بعدها مفرد ، أو ما هو في تقدير المفرد . مثال المفرد : أزيد قائم أم عمرو ؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد : أقام زيد أم قعد ؟ وجوابها : تعيين أحد الشيئين ، إن كان التعادل بين شيئين ؛ أو الأشياء ، إن كان بين أكثر من شيئين . وهنا بعد أم جملة ، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين ، بل أم هنا منقطعة ، بمعنى بل التي للإضراب ، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية ، لا بمعنى الإبطال . وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار ، فلا يقتضي جواباً ، لأنه في معنى : كيف وقع حسبان لك ؟
و ) الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( ، قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والأسود ، والعاصي بن هشام ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاصي بن وائل ، وأنظارهم من صناديد قريش . انتهى . والآية ، وإن نزلت على سبب ، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم . وقال مجاهد : ) أَن يَسْبِقُونَا ( : أي يعجزونا ، فلا نقدر على الانتقام ، وقيل : أن يعجلونا محتوم القضاء ، وقيل : أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم . وقال الزمخشري : ) أَن يَسْبِقُونَا ( : أن يفوتونا ، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدثوا به أنفسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة ، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه ؛ ونظيره : ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( ، ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ). فإن قلت : أين مفعولاً حسب ؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين ، كقولهم : ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ). ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، وأم منقطعة . ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه . انتهى .
أمّا قوله : وهو لم يطمعوا في الفوت ، إلى آخر قوله : ويطمع فيه ، فليس كما ذكر ، بل هم معتقدون أن لا بعث ولا جزاء ، ولا سيما السرية التي نص عليها ابن عباس ، وما ذكره ، كما الزمخشري ، هو على اعتقاد من يعلم أن الله(7/136)
" صفحة رقم 137 "
يجازيه ، ولكن طمع في عفو الله . وأما قوله : اشتمال صلة أن ، إلى آخره ، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله : ) أَن يُتْرَكُواْ ( ، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين ، ولم يقدر ما لا يصح تقديره ، وأمّا قوله : ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد ، والتضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه ، وهذا الإجابة إليه .
( سَاء مَا يَحْكُمُونَ ( ، قال الزمخشري ، وابن عطية ما معناه : أن ) مَا ( موصولة و ) يَحْكُمُونَ ( صلتها ، أو تمييز بمعنى شيء ، ويحكمون صفة ، والمخصوص بالذم محذوف ، فالتقدير : أي حكمهم . انتهى . وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء ، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو . وقال ابن كيسان : ما مصدرية ، فتقديره : بئس حكمهم . وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفاً ، أي ساء حكماً حكمهم . وساء هنا بمعنى : بئس ، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بهاما ، والفعل في قوله : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ( مشبعاً في البقرة . وجاء بالمضارع ، وهو ) يَحْكُمُونَ ( ، قيل : إشعاراً بأن حكمهم مذموم حالاً واستقبالاً ، وقيل : لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعاً . والظاهر أن ) يَرْجُو ( على بابها ، ومعنى ) لِقَاء اللَّهِ ( : الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء ؛ مثلت حاله بحالة عبد قدم على مولاه من سفر بعيد ، وقد اطلع مولاه على ما عمل في غيبته عنه ، فإن كان عمل خيراً ، تلقاه بإحسان أو شراً ، فبضد الإحسان .
( فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ ( : وهو ما أجله وجعل له أجلاً ، لا نفسه لا محالة ، فليبادر لما يصدق رجاءه . وقال أبو عبيدة : يرجو : يخاف ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، أي ) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ ( ، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه ، فإن ما أجله الله تعالى من لقاء جزائه لآت . والظاهر أن قوله : ) وَمَن جَاهَدَ ( ، معناه : ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات ، فثمرة جهاده ، وهو الثواب المعد له ، إنما هو له ، لا لله ، والله تعالى غني عنه وعن العالمين ، وإنما كلفهم ما كلفهم إحساناً إليهم . ) لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ( : يشتمل من كان كافراً فآمن وعمل صالحاً ، فأسقط عنه عقاب ما كان قبل الإيمان من كفر ومعصية ، ومن نشأ مؤمناً عاملاً للصالحات وأساء في بعض أعماله ، فكفر عنه ذلك ، وكانت سيئاته مغمورة بحسناته . ) وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى ( : أي أحسن جزاء أعمالهم . وقال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون . انتهى . وهذا التقدير لا يسوغ ، لأنه يقتضي أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم ، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه ، وهم يجزون ثواب الأحسن والحسن ، إلاّ إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل ، فيكون بمعنى حسن ، فإنه يسوغ ذلك . وأما التقدير الذي قبله فمعناه : أنه مجزي أحسن جزاء العمل ، فعمله يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها ، فجوزي أحسن جزائها ، وهي أن جعلت بعشر أمثالها . وفي هذه الآيات تحريك وهز المن تخلف عن الجهرة أن يبادر إلى استدراك ما فرط فيه منها ، وثناء على المؤمنين الذين بادروا إلى الهجرة ، وتنويه بقدرهم .
( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ ( ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت ، أو يكفر . وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث ، فشداه وثاقاً حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصد ليراها ، وجلده كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في حديث طويل ذكر في السير . ) وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ ( : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما . وانتصب ) حَسَنًا ( على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسناً ، أي ذا حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن . قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان . كما تقول : وصيتك خيراً ، وأوصيتك شراً ؛ وعبر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف الجر في قوله : ) بِوالِدَيْهِ ( ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ، ونظير هذا قول الشاعر :(7/137)
" صفحة رقم 138 "
عجبت من دهماء إذ تشكونا
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
انتهى . مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة : وصيت من برة قلباً حرا
بالكلب خيراً والحماة شراً
وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني . والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله : ) بِوالِدَيْهِ ( ، وينتصب ) حَسَنًا ( بفعل مضمر تقديره : يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر . وفي التحرير : حسناً نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسناً ، وقيل : على القطع ، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيراً ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن حرف الجر ، فانتصب . وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فيقدر له فعل . انتهى . وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند البصريين . وقال الزمخشري : وصيناه بايتاء والديه حسناً ، أو نائلاً والديه حسناً ، أي فعلاً ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله : ) وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ). انتهى . وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين . قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك : زيداً ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا أو لهما معروفاً . وقرأ عيسى ، والجحدري : حسناً ، بفتحتين ؛ والجمهور : بضم الحاء وإسكان السين ، وهما كالبَخَل . وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً ، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن . انتهى ، أي أمراً حسناً ، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه . وقوله : مطلقاً ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به ؛ والمطلق إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له ؛ وفي مصحف أبي : إحساناً .
( وَإِن جَاهَدَاكَ ( : أي وقلنا : إن جاهداك ) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي ) لِتُشْرِكَ ( به شيئاً ، لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم ، ( فَلاَ تُطِعْهُمَا ( فيما جاهداك عليه من الإشراك ؛ ) إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ( : شامل للموصي والموصي والمجاهد والمجاهد ، ( فَأُنَبِئُكُم ( : فأجازيكم ، ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان . وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم ) فِى الصَّالِحِينَ ( ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم . ومعنى ) فِى الصَّالِحِينَ ( : في جملتهم ، ومرتبة الصلاح شريفة ، أخبر الله بها عن إبراهيم ، وسألها سليمان ، عليهما السلام ، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع الله ورسوله معهم . ويجوز أن يكون التقدير : في ثواب الصالحين ، وهي الجنة . ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلص ، ذكر حال المنافقين ناساً آمنوا بألسنتهم ، فإذا آذاهم الكفار ، جعلوا ذلك الأذى ، وهو فتنة الناس ، صارفاً لهم عن الإيمان ؛ كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ؛ وكونها نزلت في منافقين ، قول ابن زيد . وقال الزجاج : جزع كما يجزع من عذاب الله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك . وقال قتادة : فيمن هاجر ، فردهم المشركون إلى مكة . وقيل : في مؤمنين أخرجهم إلى بدر(7/138)
" صفحة رقم 139 "
المشركون فارتدوا ، وهم الذين قال فيهم : ) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ).
) وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ ( : أي للمؤمنين ، ( لَّيَقُولَنَّ ( : أي القائلون أو ذيناً في الله ، ( إِنَّا مَعَكُمْ ( : أي متابعون لكم في دينكم ، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم ، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم . وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم ، إذ لو كان إيمانهم صحيحاً ، لصبروا على أذى الكفار ، وإن كانت فيمن هاجر ، وكانوا يحتالون في أمرهم ، وركبوا كل هول في هجرتهم . وقرىء : ليقولن ، بفتح اللام ، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري . وأعلم : أفعل تفضيل ، أي من أنفسهم ؛ وبما في صدورهم : أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق ، وهذا إستفهام معناه التقرير ، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر . ) وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( : ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين ، كما قال ابن زيد ، وعلمه بالمؤمن ، وعد له بالثواب ، وبالمنافق وعيد له بالعقاب . ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ، ذكر مقالة الكافرين قولاً واعتقاداً ، وهم رؤساء قريش . قال مجاهد : كانوا يقولن لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان عليكم شيء فهو علينا . وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف ، قالا لعمران : كان في الإقامة على دين الآباء إثم ، فنحن نحمله عنك ، وقيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة . قال ابن عطية : وقوله : ) وَلْنَحْمِلْ ( ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل ، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر ، لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة ، ومن هذا النوع قول الشاعر : فقلت ادعى وأدعو فإن أندى
لصوت أن ينادي داعيان
ولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه . وقال الزمخشري : أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا ، ليجتمع هذان الأمران في الحصول ، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى ، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . انتهى . وقوله : فإن عسى ، كان تركيب أعجمي لا عربي ، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى ، لأنه فعل جامد ، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد ؛ وأيضاً فإن عسى لا يليها كان ، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر ، ولم يستعملها تامة . وقرأ الحسن ، وعيسى ، ونوح القارىء : ولنحمل ، بكسر لام الأمر ؛ ورويت عن علي ، وهي لغة الحسن ، في لام الأمر . والحمل هنا مجاز ، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر ، والخطايا بالمحمول . وقال مجاهد : نحمل هنا من الحمالة ، لا من الحمل . وقرأ الجمهور : ) مِنْ خَطَايَاهُمْ ). وقرأ داود بن أبي هند ، فيما ذكر أبو الفضل الرازي : من خطيئتهم ، على التوحيد ، قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة . وذكر ابن خالويه ، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ : من خطيآتهم ، بجمع خطيئة جمع السلامة ، بالألف والتاء . وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ : من خطئهم ، بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين ، فأشبهت الياء ، لأن قياس تسهيلها هو ذلك .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ؟ وإنما ضمنوا شيئاً علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، ومن ضمن شيئاً لا يقدر على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً ، لا حين ضمن ، ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين ، وهو المخبر عن الشيء ، لا على ما هو عليه ؟ قلت : شبه الله حالهم ، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده ، لا على ما عليه بالكاذبين الذين خبرهم ، لا على ما عليه المخبر عنه . ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء ، وفي قلوبهم فيه الخلف . انتهى . وتقدم من قول ابن عطية أن قوله : ولنحمل خبر ، يعني أمراً ، ومعناه الخبر ، وهذان الأمران منزلة الشرط والجزاء ، إذ المعنى : أن تتبعوا سبيلنا ، ولحقكم في ذلك إثم على ما(7/139)
" صفحة رقم 140 "
تزعمون ، فنحن نحمل خطاياكم . وإذا كان المعنى على هذا ، كان إخباراً في الجزاء بما لا يطابق ، وكان كذباً .
( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ( : أثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم ، ( وَأَثْقَالاً ( أي أخر ، وهي أثقال الذين أغروهم ، فكانوا سبباً في كفرهم . ولم يبين من الذين يحملون أثقاله ، فأمكن اندراج أثقال المظلوم بحملها للظالم ، كما جاء في الحديث : ( أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطي من حسنات ظالمه ، فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيآت المظلوم فطرح عليه ) . وفي صحيح مسلم ما معناه : أيما داع دعا إلى ضلالة ، فأتبع عليها وعمل بها بعده ، فعليه أو زار من عمل بها ممن اتبعه ، لا ينقص ذلك من أوزاهم شيئاً . ) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً ( : أي سؤال توبيخ وتقريع .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا ءايَةً لّلْعَالَمِينَ وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ ).
ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما كان يلقى من أذى الكفار . فذكر ما لقي أول الرسل ، وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه . والواو في ) وَلَقَدْ ( واو عطف ، عطفت جملة على جملة . قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره . والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله . وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه . انتهى . وليس عندي محتملاً ، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين كان بعث وحين مات ، اختلافاً مضطرباً متكاذباً ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير . والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه . ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به ، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله : تسعمائة وخمسون عاماً ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع(7/140)
" صفحة رقم 141 "
ذلك التوهم المجازي .
وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا ، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة . والضمير في ) وَجَعَلْنَاهَا ( يحتمل أن يعود على ) السَّفِينَةِ ( ، وأن يعود على الحادثة والقصة ، وأفرد ) ءايَةً ( وجاء بالفاصلة ) لّلْعَالَمِينَ ( ، لأن إنجاء السفن أمر معهود . فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة ، ولأنها بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها ، فحصل العلم بها لهم ، فناسب ذلك قوله : ) لّلْعَالَمِينَ ( ، وانتصب ) إِبْرَاهِيمَ ( عطفاً على ) نُوحاً ). قال ابن عطية : أو على الضمير في ) فأَنْجَيْناهُ ). وقال هو والزمخشري : بتقدير اذكروا بدل منه ، إذ بدل اشتمال منه ، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف ، فلا يكون مفعولاً به ، وقد كثر تمثيل المعربين ، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر ، وإذا كانت ظرفاً لما مضي ، فهو لو كان منصرفاً ، لم يجز أن يكون معمولاً لا ذكر ، لأن المستقبل لا يقع في الماضي ، لا يجوز ثم أمس ، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه ، جاز أن يكون مفعولاً به ومعمولاً لا ذكر . وقرأ النحعي ، وأبو جعفر ، وأبو حنيفة ، وإبراهيم : بالرفع ، أي : ومن المرسلين إبراهيم . وهذه القصة تمثيل لقريش ، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام ، والدعوى إلى عبادة الله ، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام . وقرأ الجمهور : ) وَتَخْلُقُونَ ( ، مضارع خلق ، ( إِفْكاً ( ، بكسر الهمزة وسكون الفاء . وقرأ علي ، والسلمي ، وعون العقيلي ، وعبادة ، وابن أبي ليلى ، وزيد بن علي : بفتح التاء والخاء واللام مشددة . قال ابن مجاهد : رويت عن ابن الزبير ، أصله : تتخلقون ، بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة . وقرأ زيد بن علي أيضاً ، فيما ذكر الأهوازي : تخلقون ، من خلق المشدد . وقرأ ابن الزبير ، وفضيل بن زرقان : أفكاً ، بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب . قال ابن عباس : ) وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( ، هو نحت الأصنام وخلقها ، سماها إفكاً توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة . وقال مجاهد : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك . وقال الزمخشري : إفكاً فيه وجهان : أحدهما : أن تكون مصدراً نحو : كذب ولعب ، والإفك مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن تكون صفة على فعل ، أي خلقاً إفكاً ، ذا إفك وباطل ، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه ، أو سمي الأصنام إفكاً ، وعملهم لها نحتهم خلقاً للإفك . انتهى .
وهذا الترد بد منه في نحو : ) وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( ، قولان لابن عباس ومجاهد ، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله : ) لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ( على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر : لا يملكون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، واحتمل أن يكون اسم المرزوق ، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله ، وخص الرزق لمكانته من الخلق . ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه ، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه ، وعرفه بعد لدلالته على العموم ، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها . ) وَاشْكُرُواْ لَهُ ( على نعمة السابغة من الرزق وغيره . ) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( : أي إلى جزائه ، أخبر بالمعاد والحشر . ثم قال : ) وَإِن تُكَذّبُواْ ( : أي ليس هذا مبتكراً منكم ، وقد سبق ذلك من أمم الرسل ، قيل : قوم شيث وإدريس وغيرهم . وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة ، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه ، وباقيهم على التكذيب . ) وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، بخلاف عنه : تروا ، بتاء الخطاب ؛ وباقي السبعة : بالياء . والجمهور : يبديء ، مضارع أبدأ ؛ والزبير . وعيسى ، وأبو عمرو : بخلاف عنه : يبدأ ، مضارع بدأ . وقرأ الزهري : ) كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ( ، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفاً ، فذهبت في الوصل ، وهو تخفيف غير قياسي ، كما قال الشاعر :(7/141)
" صفحة رقم 142 "
فارعى فزارة لا هناك المرتع
وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ ( ، وفي : ) فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ( ، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات ، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود ، وقوله : ) ثُمَّ يُعِيدُهُ ( ، وقوله : ) ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء ( ، ليس داخلاً تحت الرؤية ولا تحت النظر ، فليس ) ثُمَّ يُعِيدُهُ ( معطوفاً على يبدىء ، ولا ) ثُمَّ يُنشِىء ( داخلاً تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان ، إخباراً من الله تعالى بالإعادة بعد الموت . وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجباً مقطوعاً بعامة ، ولا شك فيه . وقال قتادة : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ ( ، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت ؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر ، حتى إلى التراب ؟ وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة ؛ وباقي السبعة : النشأة ، على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي فتنشئون النشأة .
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله : ) كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( ، وهنا عكس أضمر في بدا ثم أبرزه في قوله : ) ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء ( ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه . ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي ) يُنشِىء النَّشْأَةَ الاْخِرَةَ ( ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه . والآخرة صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة . ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها . ثم أخبر بأنه ) يُعَذّبُ مَن يَشَاء ( ، أي تعذيبه ، ( وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء ( رحمته ، وبدأ بالعذاب ، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل . ) وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( : أي تردون . وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( : أي فائتين ما أراد الله لكم . ) فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ( ، إن حمل السماء على العلو فجائز ، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصاً بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ، أي لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى : ولو كنت في جب ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهزه
وتعلم أني فيك لست بمجرم
وقوله تعالى : ) إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، على تقدير الحكم لو كنتم فيها ، ( وَالاْرْضِ فَانفُذُواْ ). وقال ابن زيد ، والفراء : التقدير : ولا من في السماء ، أي يعجز إن عصى . وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وأنشد قول حسان :
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن ينصره ، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر ، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته . وأبعد من هذا(7/142)
" صفحة رقم 143 "
القول قول من زعم أن التقدير : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجنّ ، ولا من في السماء من الملائكة ، فكيف تعجزون الله ؟ وقرأ الجمهور : ) يَئِسُواْ ( ، بالهمز ؛ والذماري ، وأبو جعفر : بغير همز ، بل بياء بدل الهمزة ، وهو وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة . وقيل : ) مِن رَّحْمَتِى ). وقيل : من ديني ، فلا أهديهم . وقيل : هو وصف بحالهم ، لأن المؤمن يكون دائماً راجياً خائفاً ، والكافر لا يخطر بباله ذلك . شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة . والظاهر أن قول : ) وَإِن تُكَذّبُواْ ( ، من كلام الله ، حكاية عن إبراهيم ، إلى قوله : ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ). وقيل : هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه ، أي وإن تكذبوا محمداً ، فتقدير هذه الجملة اعتراضاً يردّ على أبي علي الفارسي ، حيث زعم أن الأعتراض لا يكون جملتين فأكثر ، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول لله ، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي ، من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله . وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد .
( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ ).
لما أمرهم بعبادة الله ، وبين سفههم في عبادة الأوثان ، وظهرت حجته عليهم ، رجعوا إلى الغلبة ، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم : ) اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ ). والآمرون بذلك ، إما بعضهم لبعض ، أو كبراؤهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه ،(7/143)
" صفحة رقم 144 "
فتستريحوا منه عاجلاً ، أو حرّقوه بالنار ؛ فإما أن يرجع إلى دينكم ، إذا أمضته النار ؛ وإما أن يموت بها ، إن أصر على قوله ودينه . وفي الكلام حذف ، أي حرّقوه في النار ، ( فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ). وتقدمت قصته في تحريقه في سورة ) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ). وجمع هنا فقال : الآيات ، لأن الإنجاء من النار ، وجعلها برداً وسلاماً ، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم ، وإن صح ما نقل من أن مكانها ، حالة الرمي ، صار بستاناً يانعاً ، هو مجموع آيات ، فناسب الجمع ، بخلاف الإنجاء من السفينة ، فإنه آية واحدة ، وتقدم الكلام على ذلك ، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه ؛ فيما قال كعب : لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به . وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه ، فقد يكون ذلك من قائلين : ناس أشاروا بالقتل ، وناس أشاروا بالإحراق . وفي اقترب قالوا : ) حَرّقُوهُ ( اقتصروا على أحد الشيئين ، وهو الذي فعلوه ، رموه في النار ولم يقتلوه .
وقرأ الجمهور : ) جَوَابَ ( ، بالنصب ؛ والحسن ، وسالم الأفطس : بالرفع ، اسما لكان . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، والأعمش عن أبي بكر : مودة بالرفع ، وبينكم بالنصب . فالرفع على خبر إن ، وما موصولة بمعنى الذي ، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودوداً ، أو سبب مودة ، أو مصدرية ، أي إن اتخاذكم أوثاناً مودة ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي مودة بينكم ، وما إذ ذاك مهيئة . وروى عن عاصم : مودة ، بالرفع من غير تنوين ؛ وبينكم بالفتح ، أي بفتح النون ، جعله مبنياً لإضافته إلى مبني ، وهو موضع خفض بالإضافة ، ولذلك سقط التنوين من مودة . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وابن كثير : كذلك ، إلا أنه خفض نون بينكم . وقرأ ابن عامر ، وعاصم : بنصب مودة منوناً ونصب بينكم ؛ وحمزة كذلك ، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض ، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة . واتخذ ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين ، والثاني هو مودة ، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم ، على حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودّة بينكم ، كقوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ ( ، أو مما تعدت إلى واحد ، وانتصب مودة على أنه مفعول له ، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها ، كما يجتمع ناس على مذهب ، فيقع التحاب بينهم . وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف ، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض ، فلذلك لم أذكر تلك القراءة . ) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( يقع بينكم التلاعن ، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام ، كقوله : و ) يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ). و ) بَيْنِكُمْ ( ، و ) وَقَالَ إِنَّمَا ( : يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما ، إذ هما ظرفاً مكان وزمان ، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين ، فيكونان في موضع الصفة ، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق ) وَقَالَ إِنَّمَا ). باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة ، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية ورفع موده ، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر . وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق ) وَقَالَ إِنَّمَا ( بمودة ، وأن يكون ) بَيْنِكُمْ ( صفة لمودة ، وهو لا يجوز ، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل ، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف ، بخلاف المفعول به . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم ، قال : لأن معناه : اجتماعكم أو وصلكم . وأجاز أيضاً أن يجعله حالاً من بينكم ، قال : لتعرفه بالإضافة . انتهى ، وهما إعرابان لا يتعقلان .
( فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ ( : لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام ، حين رأى النار لم تحرقه ، وكان ابن أخي سارة ، أو كانت بنت عمه . والضمير في ) وَقَالَ ( عائد على إبراهيم ، وهو الظاهر ، ليتناسق مع قوله : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ( ، وهو قول قتادة والنخعي . وقالت فرقة : يعود على لوط ، وهاجر ، وإبراهيم ، عليهم السلام ، من قريتهما كوني ، وهي في سواد العراق ، من أرض بابل ، إلى فلسطين من أرض الشأم . وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في الله . وقال ابن جريج : هاجر إلى حران ، ثم إلى الشام ، وفي هجرته هذه كانت معه سارة . والمهاجر : الفارغ عن الشيء ، وهو في عرف الشريعة : من ترك وطنه رغبة في رضا الله . وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، المهاجرون ، قبل فتح مكة . ) إِلَى رَبّى ( ، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها . وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي(7/144)
" صفحة رقم 145 "
وقيل : مهاجراً من خالفني من قومي ، متقرباً إلى ربي . ونزل إبراهيم قرية من أرض فلسطين ، وترك لوطاً في سدوم ، وهي المؤتفكة ، على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام . ) إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ( الذي لا يذل من عبده ، ( الْحَكِيمُ ( الذي يضع الأشياء مواضعها . والضمير في ) ذُرّيَّتَهُ ( عائد على إبراهيم . ) النُّبُوَّةَ ( : إسحاق ، ويعقوب ، وأنبياء بني إسرائى ل ، وإسماعيل ، ومحمد خاتمهم ، صلى الله وسلم عليهم أجمعين . ) وَالْكِتَابِ ( : اسم جنس يدخل فيه التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، والفرقان .
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( : أي في حياته قال مجاهد : نجاته من النار ، ومن الملك الجبار ، والعمل الصالح : والثناء الحسن ، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج : والولد الذي قرت به عينه ، قاله الحسن . وقال السدي : إنه رأى مكانه من الجنة . وقال ابن أبي بردة : ما وفق له من عمل الآخرة . وقال الماوردي : بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لنبي غيره . وقيل : النبوة والحكمة . وقيل : الصلاة عليه إلى آخر الدهر . وانتصب لوطاً بإضمار اذكر ، أو بالعطف على إبراهيم ، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم . والجمهور : على الاستفهام في أئنكم معاً . وقرىء : أنكم على الخبر ، والثاني على الاستفهام . وقال أبو عبيد : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين ، الياء والنون . ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة الله ، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب ، لأن لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه ، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة الله وتوحيده ، واشتهر أمره بذلك عند الخلق ، فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها . وأما إبراهيم وشعيب فجاآ بعد انقراض من كان يعبد الله ، فلذلك دعوا إلى عبادة الله .
قال الزمخشري : ) مَا سَبَقَكُمْ بِهَا ( جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة ؟ فقيل : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط . انتهى . ويظهر أن ) مَا سَبَقَكُمْ بِهَا ( جملة حالية ، كأنه قال : أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها ؟ واستفهم أولاً وثانياً استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله : ) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ( ، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله : ) مَا سَبَقَكُمْ بِهَا ( ، فقال : ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ ( : يعني في الأدبار ، ( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ( : الولد ، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال ، أو بإمساك الغرباء لذلك الفعل حتى انقطعت الطرق ، أو بالقتل وأخذ المال ، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في التجارات . ) وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ( : أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس ، إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة ، ولا يسمى نادياً إلاّ ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه ، لم يطلق عليه ناد إلاّ مجازاً .
و ) الْمُنْكَرَ ( : ما تنكره العقول والشرائع والمروآت ، حذف الناس بالحصباء ، والاستخفاف بالغريب الخاطر ، وروت أم هانىء ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً ، قاله منصور ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد ؛ أو تضارطهم ؛ أو تصافعهم فيها ، قاله ابن عباس ؛ أو لعب الحمام ؛ أو تطريف الأصابع بالحناء ، والصفير ، والحذف ، ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، قاله مجاهد أيضاً ، أو الحذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح ، قاله ابن عباس أيضاً مع شركهم بالله . كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة ، تظالم فيما بينهم ، وبشاعة ، ومضاريط في مجالسهم ، وحذف ، ولعب بالنرد والشطرنج ، ولبس المصبغات ، ولباس النساء للرجال ، والمكوس على كل عابر ؛ وهم أول من لاط ومن ساحق .
ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح ، أصروا على اللجاج في التكذيب ، فكان جوابهم له : ) أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن(7/145)
" صفحة رقم 146 "
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ، فيما تعدنا به من نزول العذاب ، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به . وفي آية أخرى : ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن ( ، الجمع بينهما أنهم أولاً قالواغ : ) ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ( ، ثم أنه كثر منه الإنكار ، وتكرر ذلك منه نهياً ووعظاً ووعيداً ، ( قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ ). ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي ، ويعد على ذلك بالعذاب ، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه ، ( قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ( ، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم : ) اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ ( ، لأنه كان لا يذم آلهتهم ، وعهد إلى أصنامهم فكسرها ، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه ، فكان جوابهم له : ) أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ ).
ثم استنصر لوط عليه السلام ، فبعث ملائكة لعذابهم ، ورجمهم بالحاصب ، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعاً وكرهاً ، وخصوصاً تلك المعصية المبتدعة . ) بِالْبُشْرَى ( : هي بشارته بولده إسحاق ، وبنافلته يعقوب ، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم ، و ) القَرْيَةِ ( : سدوم ، وفيها قيل : أَجْوَر من قاضي سدوم . ) كَانُواْ ظَالِمِينَ ( : أي قد سبق منهم الظلم . واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون ، وظلمهم : كفرهم وأنواع معاصيهم . ولما ذكروا لإبراهيم : ) إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ ( ، أشفق على لوط فقال : ) إِنَّ فِيهَا لُوطاً ). ولما عللوا الإهلاك بالظلم ، قال لهم : فيها من هو بريء من الظلم ، ( قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ( : أي منك ، وأخبر بحاله . ثم أخبروه بإنجائهم إياه ) وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ ). وقرأ حمزة ، والكسائي : ) لنجينه ( ، مضارع أنجى ؛ وباقي السبعة : مضارع نجى ؛ والجمهور : بشد النون ؛ وفرقة : بتخفيفها .
( الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ( : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلاّ أن هنا زيدت ، أن بعد لما ، وهو قياس مطرد . وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لما أحس بمجيئهم ، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه . انتهى . وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه ، إذ مذهبه . أن لما : حرف لا ظرف ، خلافاً للفارسي ، وهذا مذكور في علم النحو . وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : ) مُنَجُّوكَ ( ، مشدداً ؛ وباقي السبعة : مخففاً ، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر . ) وَأَهْلَكَ ( : منصوب على إضمار فعل ، أي وننجي أهلك . ومن راعى هذا الموضع ، عطفه على موضع الكاف ، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب ، وأهلك معطوف عليه ، لأن هذه النون كالتنوين ، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله . وقرأ الجمهور : سيء ، بكسر السين ؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي . وقرأ عيسى ، وطلحة : سوء ، بضمهما ، وهي لغة بني هذيل . وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما : قول وبوع . وقرىء : منزلون ، مخففاً ومشدداً ؛ وابن محيصن : رجزاً ، بضم الراء ؛ وأبو حيوة والأعمش : بكسر سين يفسقون . والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية ، فقال ابن عباس : منازلهم الخربة . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم ، إلا أن أساسها أعلاها ، وسقوفها أسفلها إلى الآن . وقال الفراء : المعنى تركناها آية ، يقول : إن في السماء لآية ، يريد أنها آية . انتهى ، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب ، نحو قوله : أمهرت منها جبة وتيساً ، يريد : أمهرتها ؛ وكذلك : ولقد تركناها آية ، وقيل : الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم ، فقيل : الآية : الحجارة التي أدركتها أوائل هذه(7/146)
" صفحة رقم 147 "
الأمة ، قاله قتادة ؛ وقيل : الماء الاسود على وجه الأرض ، قاله مجاهد ؛ وقيل : أنجز ما صنع بهم . و ) لِقَوْمٍ ( : متعلق بتركنا ، أو بينة .
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُّوسَى بِالْبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ ).
) وَإِلَى مَدْيَنَ ( : أي وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى . أمرهم بعبادة الله ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر . والأمر بالرجاء ، أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب . والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله ، أو يكون أمراً بالرجاء على تقدفير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان بالله . وقال أبو عبيدة : ) وَارْجُواْ ( : خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم إن لم تعبدوه . وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب ؛ كذلك جاء : ) فَكَذَّبُوهُ ( ، وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي : ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ، وتقدم تفسير مثل هذه الجمل . وانتصب ) وَعَاداً وَثَمُودَاْ ( أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه . وقيل : بالعطف على الضمير في فأخذتهم ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله : ) يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ). وقرأ : ثمود ، بغير تنوين ؛ حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص ، وباقي(7/147)
" صفحة رقم 148 "
السبعة : بالتنوين . وقرأ ابن وثاب : وعاد وثمود ، بالخفض فيهما ، والتنوين عطفاً على مدين ، أي وأرسلنا إلى عاد وثمود . ) وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم ( : أي ذلك ، أي ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم . وقرأ الأعمش : مساكنهم ، بالرفع من غير من ، فيكون فاعلاً بتبين .
( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ( : أي بوسوسته وإغوائه ، ( أَعْمَالَهُمْ ( القبيحة . ) فَصَدَّهُمْ عَنِ سَبِيلِ اللَّهِ ( ؛ وهي طريق الإيمان بالله ورسله . ) وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ( : أي في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك . وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عناداً ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم . ) وَقَشرُونَ ( : معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار اذكر . ) فَاسْتَكْبَرُواْ ( : أي عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة عقولهم ، لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله ، فكيف من في الأرض ؟ ) وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ ( الأمم إلى الكفر ، أي تلك عادة الأمم مع رسلهم . والحاصب لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصا ، وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة لمدين وثمود ، والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه . وقال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب ، لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول الفرزدق : مستقبلين شمال الشأم تضربهم
بحاصب كنديف القطن منثور
ومنه قول الأخطل : ترمي العضاة بحاصب من بلحها
حتى تبيت على العضاة حفالا
) الْعَنكَبُوتِ ( : حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره قول الشاعر : على هطالهم منهم بيوت
كأن العنكبوت هو ابتناها
ويجمع عناكب ، ويصغر عنيكيب . يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام ، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، وأمرها كله ضعيف ، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته ، فكذلك أمر أولئك ، وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد . وقال الزمخشري : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم ، وتولوه من دون الله ، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة ، وهو نسج العنكبوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه ، وهو قوله : ) ءانٍ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ( ؟ انتهى . يعني بقوله : ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولاً من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت ، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت ؟ والذي يظهر ، هو تشبيه المتخذ من دون الله ولياً ، بالعنكبوت المتخذة بيتاً ، أي فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله ، كما أن العنكبوت لا اعتمادها على بيتها في استظلال وسكنى ، بل لو دخلت فيه خرقته . ثم بين حال بيتها ، وأنه في غاية الوهن ، بحيث لا ينتفع به . كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئاً ألبتة ، وقوله : ) لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ( ، ليس مرتبطاً بقوله : ) وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ( ، لأن كل أحد يعلم ذلك ، فلا يقال فيه : لو كانوا يعلمون ؛ وإنما المعنى : لو كانوا يعلمون أن(7/148)
" صفحة رقم 149 "
هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه ، وما اتخذوا الأصنام آلهة .
وقال الزمخشري : إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون ؛ أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر . فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتاً ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها ديناً ديناً ، عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . انتهى .
وما ذكره من قوله : ولقائل أن يقول إلخ . لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله ، كعادته في كثير من تفسيره . وقرأ أبو عمرو ، وسلام : يعلم ما ، بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك ؛ والجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ؛ وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ، بياء الغيبة ؛ وجوزوا في ما أن يكون مفعولاً بيدعون ، أي يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء ، أي يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم . وأن تكون نافية ، أي لستم تدعون من دونه شيئاً له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئاً ، وأن يكون استفهاماً ، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من يعلم ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاماً منصوباً بيدعون ، ويعلم معلقة ؛ فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن الله يعلم أوثاناً تدعون من دونه ، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك . والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ما نافية ، كان في الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئاً . ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( : فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا لحكمة . ) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ( : أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها .
وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد . والإشارة بقوله : ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ ( إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور . وعن جابر ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، تلا هذه الآية فقال : ( العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ) .
( خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها . ومعنى ) بِالْحَقّ ( : بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته . والظاهر أن الصلاة هي المعهود ، والمعنى : من شأنها أنها إذا أدّيت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ، والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي الله تعالى ، أن ) تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ ). وقال ابن عباس ، والكلبي ، وابن جريج ، وحماد بن أبي سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها . وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن . وقال ابن بحر : الصلاة : الدعاء ، أي أقم الدعاء إلى أمر الله ، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم .
وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ( إن صلاتها تنهاه ) . فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ألم أقل لكم ؟ ) ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم . كما تقول : فلان يأمر بالمعروف ، أي من شأنه ذلك ، ولا(7/149)
" صفحة رقم 150 "
يلزم منه أن كل معروف يأمر به . والظاهر أن ) أَكْبَرَ ( أفعل تفضيل . فقال عبد الله ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو قرة : معناه ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه . وقال قتادة ، وابن زيد : أكبر من كل شيء ؛ وقيل : ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي أكبر ثواباً ؛ وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة ؛ وقيل : ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة ؛ وقيل : أكبر من كل العبادة . وقال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ، لأن الانتهاء لا يكون إلاّ من ذاكر الله مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره الله في ملأ خير من ملئه ، والحركات التي في الصلاة لا تأثيرلها في النهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله . وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى . وقال الزمخشري : يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : ) فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( ، وإنما قال : ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ ( ، لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ، لأنها ذكر الله مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة .
( وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ).
و ) أَهْلِ الْكِتَابِ ( : اليهود والنصارى . ) إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( : من الملاطفة في الدعاء إلى الله والتنبيه على آياته . ) إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : ممن لم يؤد جزية ونصب الحرب ، وصرح بأن لله ولداً أو شريكاً ، أو يده مغلولة ؛ فالآية منسوخة في مهادنة من لم يحارب ، قاله مجاهد ومؤمنو أهل الكتاب . ) إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( : أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أحبار أوائلهم . ) إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : من بقي منهم على كفره ، وعد لقريظة والنضير ، قاله ابن زيد ، والآية على هذا محكمة . وقيل : إلا الذين آذوا رسول(7/150)
" صفحة رقم 151 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال قتادة : الآية منسوخة بقوله : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الآية . وقرأ الجمهور : إلا ، حرف استثناء ؛ وابن عباس : ألا ، حرف تنبيه واستفتاح ، وتقديره : ألا جادلوهم بالتي هي أحسن . ) وَقُولُواْ ءامَنَّا ( : هذا من المجادلة بالأحسن . ) بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا ( ، وهو القرآن ، ( وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ( ، وهو التوراة والزبور والإنجيل .
وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة : كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) . ) وَكَذالِكَ ( : أي مثل ذلك الإنزال الذي للكتب السابقة ، ( أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( : أي القرآن . ) فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( هم : عبد الله بن سلام ومن آمن معه . ) وَمِنْ هَؤُلاء ( : أي من أهل مكة . وقيل : ) فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( : أي الذين تقدموا عهد الرسول ، يؤمنون به : أي بالقرآن ، إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَمِنْ هَؤُلاء ( : أي ممن في عهده منهم . ) وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا ( ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، ( إِلاَّ الْكَافِرونَ ( : أي من بني إسرائيل وغيرهم .
قال مجاهد : كان أهل الكتاب يقرأون في كتبهم أن محمداً عليه السلام ، لا يحظ ولا يقرأ كتاباً ، فنزلت : ) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ( : أي من قبل نزوله عليك ، ( مِن كِتَابِ ( : أي كتاباً ، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي ، ( وَلاَ تَخُطُّهُ ( : أي لا تقرأ ولا تكتب ، ( بِيَمِينِكَ ( : وهي الجارحة التي يكتب بها ، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة ، لما ذكر إنزال الكتاب عليه ، متضمناً من البلاغة والفصاحة والإخبار عن الأمم السابقة والأمور المغيبة ما أعجز البشر أن يأتوا بسورة مثله . أخذ يحقق ، كونه نازلاً من عند الله ، بأنه ظهر عن رجل أمي ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يخالط أهل العلم . وظهور هذا القرآن المنزل عليه أعظم دليل على صدقه ، وأكثر المسلمين على أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يكتب قط ، ولم يقرأ بالنظر في كتاب .
وروي عن الشعبي أنه قال : ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى كتب وأسند النقاش . حديث أبي كبشة السلولي : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حصن وأخبر بمعناها . وفي صحيح مسلم ما ظاهره : أنه كتب مباشرة ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة ، منهم أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي ، والقاضي أبو الوليد الباجي وغيرهما . واشتد نكير كثير من علماء بلادنا على أبي الوليد الباجي ، حتى كان بعضهم يسبه ويطعن فيه على المنبر . وتأول أكثر العلماء ما ورد من أنه كتب على أن معناه : أمر بالكتابة ، كما تقول : كتب السلطان لفلان بكذا ، أي أمر بالكتب . ) إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( : أي لو كان يقرأ كتباً قبل نزول القرآن عليه ، أو يكتب ، لحصلت الريبة للمبطلين ، إذا كانوا يقولون : حصل ذلك الذي يتلوه مما قرأه ، قيل : وخطه واستحفظه ؛ فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة ، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده . والمبطلون : أهل الكتاب ، قاله قتادة ؛ أو كفار قريش ، قاله مجاهد . وسموا مبطلين ، لأنهم كفروا به ، وهو أمي بعيد من الريب . ولما لم يكن قارئاً ولا كاتباً ، كان ارتيابهم لا وجه له .
( بَلْ هُوَ ( : أي القرآن : ) بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ ( : واضحات الإعجاز ، ( فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( : أي مستقرة ، مؤمن من بها ، محفوظة في صدورهم ، يتلوها أكثر الأمة ظاهراً ، بخلاف غيره من الكتب ، فليس بمعجز ، ولا يقرأ إلا من الصحف . وجاء في صفة هذه الأمة صدورهم : أنا جيلهم ، وكونه القرآن ، يؤيده قراءة عبد الله ، بل هي آيات . وقيل : بل هو ، أي النبي وأمورة ، آيات بينات ، قاله قتادة . وقرأ : بل هو آية بينة على التوحيد ؛ وقيل : بل هو ، أي كونه لا يقرأ ولا يكتب . ويقال : جحدته وجحدت به ، وكفرته وكفرت به ، قيل : والجحود الأول معلق بالواحدنية ، والثاني معلق بالنبوّة ، وختمت تلك(7/151)
" صفحة رقم 152 "
بالكافر . ولأنه قسيم المؤمنين في قوله : ) يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ ( ، وهذه بالظالمين ، لأنه جحد بعد إقامة الدليل على كون الرسول صدر منه القرآن منزل عليه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فهم الظالمون بعد ظهور المعجزة .
( وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبّهِ ( : أي قريش ، وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشاً مثل هذا الاقتراح يقولون له : ألا يأتيكم بآية مثل آيات موسى من العصا وغيرها ؟ وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : آيات ، على الجمع ؛ وباقي السبعة : على التوحيد . ) قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( ، ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل . ) وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ ( بما أعطيت من الآيات . وذكر يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : ( كفر بها جماعة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم ) ، فنزلت : ) أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ ).
والذي يظهر أنه رد على الذين قالوا : ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( : أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان ؟ فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل ، كما تزول كل آية بعد وجودها ، ويكون في مكان دون مكان . إن في هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان لرحمة لنعمة عظيمة لا تنكر وتذكر . وقيل : ) أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ ( : يعني اليهود ، ( أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ( : أي قد بلغت وأنذرت ، وأنكم جحدتم وكذبتم ، وهو العالم ) مَا فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ ( ، فيعلم أمري وأمركم ، ( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ ). قال ابن عباس : بغير الله . وقال مقاتل : بعبادة الشيطان . وقيل : بالضم .
( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ( : أي كفار قريش في قولهم : ) ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( ، وقول النضر : ) فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ( ، وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول . والأجل المسمى : ما سماه الله وأثبته في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره . وقال ابن جبير : يوم القيامة . وقال ابن سلام : أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر . ) وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ( : أي فجأة ، وهو ما ظهر يوم بدر ، وفي السنين السبع . ثم كرر فعلهم وقبحه ، وأخبر أن وراءهم جهنم ، تحيط بهم . وانتصب ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ( بمحيطة . وقرأ الكوفيون ، ونافع : ) وَيَقُولُ ( : أي الله ؛ وباقي السبعة : بالنون ، نون العظمة ، أو نون جماعة الملائكة ؛ وأبو البرهثيم : بالتاء ، أي جهنم ؛ كما نسب القول إليها في : ) وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ). وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : ويقال ، مبنياً للمفعول .
( تَعْمَلُونَ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن(7/152)
" صفحة رقم 153 "
نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ).
أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله : ) فِى عِبَادِى ( الآية ، نزلت فيمن كان مقيماً بمكة ؛ أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة ، أي جانبوا أهل الشرك ، واطلبوا أهل الإيمان . وقال أبو العالية : سافر والطلب أوليائه . وقال ابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك بن أنس : الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق . وقال مطرف بن الشخير : ) إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ ( عدة بسعة الرزق في جميع الأرض . وقيل : أرض الجنة واسعة أعطيكم . وقال مجاهد : سافروا لجهاد أعدائه . ) فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ ( ، من باب الاشتغال : أي فإياي اعبدوا فاعبدون . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الفاء في فاعبدون ، وتقدم المفعول ؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض ، فاخلصوها في غيرها . ثم حذف الشرط وعوض من حذفة تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص . انتهى . ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل .
ولما أخبر تعالى بسعة أرضه ، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة ، وأمر بعبادته ، فكأن قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام ، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه ، وربما أدى ذلك إلى هلاكه . أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه ، وتموت في أي مكان حل ، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم القيامة . وقرأ علي : ) تُرْجَعُونَ ( ، مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، بتاء الخطاب . وروى عن عاصم : بياء الغيبة . وقرأ أبو حيوة : ) ذَائِقَةُ ( ، بالتنوين ؛ ) الْمَوْتُ ( : بالنصب . وقرأ : ) لَنُبَوّئَنَّهُمْ ( ، من المباءة . وقرأ علي ، وعبد الله ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : من الثواء ؛ وبوّأ يتعدى لاثنين . قال تعالى : ) وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( مقاعد للقتال ، وقد جاء متعدي بالام . قال تعالى : ) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ( ، والمعنى : ليجعلنّ لهم مكان مباءة ، أي مرجعاً يأوون إليه . ) غُرَفَاً ( : أي علالي ، وأما ثوى فمعناه : أقام ، وهو فعل لازم ، فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد ، وقد قرىء مشدداً عدى بالتضعيف ، فانتصب غرفاً ، إما على إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ، فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل . وروي عن ابن عامر : غرفاً ، بضم الراء . وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء ؛ والجمهور : بغير فاء . ) الَّذِينَ صَبَرُواْ ( : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي . ) وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى .
ولما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا(7/153)
" صفحة رقم 154 "
غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم . فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّي في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في إدخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر . والإدخار جاء في حديث : ( كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين ؟ ) قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى . وقال الحسن : ) لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ( : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها الله . وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال : للعقعق مخابىء ، إلا أنه ينساها . وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها . ) وَإِيَّاكُمْ ( : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو الله ، ( وَهُوَ السَّمِيعُ ( لقولكم : نخشى الفقر ، ( الْعَلِيمُ ( بما انطوت عليه ضمائركم .
ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله . وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال : ) اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء ( أن يبسطه ، ( وَيَقْدِرُ ( لمن يشاء أن يقدره . والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت . ويجوز أن يكون الضمير عائداً عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير : ) وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ( : أي من عمر معمر آخر . وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق . وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، ( عَلِيمٌ ( : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم .
ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله ، كان ذلك الإقرار ملزماً لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به . وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام . ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره .
( وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ( : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا ؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون . والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع . قال مجاهد : لا موت فيها . وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر . وجعلت الدار الآخرة حياً على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة . ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذاً ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها . وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللهيان ، والجولان ، والطوفان . والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة .
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا : من خلق العالم ؟ ) وَمِنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء ( ؟ ذكر أيضاً حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : ) فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ ( ؟ قلت : بمحذوف(7/154)
" صفحة رقم 155 "
دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد . ) فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون مع الله آخر . وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و ) إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( : جواب لما ، أي فاجأ السحية إشراكهم بالله ، أي لم يتأخر عنها ولا وقتاً . والظاهر في ) لِيَكْفُرُواْ ( أنها لام كي ، وعطف عليه ) وَلِيَتَمَتَّعُواْ ( في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ، والمعنى : عادوا إلى شركهم . ) لِيَكْفُرُواْ ( : أي الحامل لهم على الشرك هو كفرهم بما أعطاهم الله تعالى ، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة ، كان ذلك جالب شكر الله تعالى ، وطاعة له مزدادة . وقيل : اللام في : ) لِيَكْفُرُواْ ( ، ( وَلِيَتَمَتَّعُواْ ( ، لام الأمر ، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم : ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد ، كقوله : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ).
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر ، وبأن يعمل العصاة ما شاوؤا ، وهوناه عن ذلك ومتوعد عليه ؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتحلية ، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية . انتهى . والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة . وقرأ ابن مسعود : فتمتعوا فسوف تعلمون ، بالتاء فيهما : أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون ، وكذا في مصحف أبيّ . وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنياً للمفعول . ومن قرأ : وليتمتعوا ، بسكون اللام ، وكان عنده اللام في : ليكفروا ، لام كي ، فالواو عاطفة كلاماً على كلام ، لا عاطفة فعلا على فعل . وحكى ابن عطية ، عن ابن مسعود : لسوف تعلمون ، باللام ، ثم ذكرهم تعالى بنعمه ، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها ، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم ، مع كونهم قليلي العدد ، قارين في مكان لا زرع فيه ، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى . وقرأ الجمهور : ) يُؤْمِنُونَ ( ، و ) يَكْفُرُونَ ( ، بالياء فيهما . وقرأ السلمي ، والحسن : بتاء الخطاب فيهما . وافتراؤهم الكذب : زعمهم أن لله شريكاً ، وتكذيبهم بالحق : كفرهم بالرسول والقرآن . وفي قوله : ) لَمَّا جَاءهُ ( : إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم ، بخلاف العاقل ، فإنه إذا بلغه خبر ، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب . وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله :
ألستم خير من ركب المطايا
و ) لِلْكَافِرِينَ ( من وضع الظاهر موضع المضمر : أي مثواهم . ) وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا ( : أطلق المجاهدة ، ولم يقيدها بمتعلق ، ليتناول المجاهدة في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ، وما ورد من أقوال العلماء ، فالمقصود بها المثال . قال ابن عباس : جاهدوا أهواءهم في طاعة الله وشكر آلائه والصبر على بلائه . ) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( : لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير ، كقوله : ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ). وقال السدي : جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان ، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة . وقال أبو سليمان الداراني : جاهدوا فيما علموا ، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا . وقيل : جاهدوا في الغزو ، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة . وقال ابن عباس : المحسنين الموحدين . وقال غيره : المجاهدون . وقال عبد الله بن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثغور عنها ، كقوله تعالى : ) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ). ) وَالَّذِينَ ( : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه : وهو لنهدينهم وبهذا ، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبراً للمبتدأ ، ونظيره : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ). (7/155)
" صفحة رقم 156 "
( سورة الروم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِىأَدْنَى الاٌّ رْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاٌّ مْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاٌّ خِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِىأَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الاٌّ رْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى أَن كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَّخِرَةِ فَأُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية وغيره ، بلا خلاف . وقال الزمخشري : إلا قوله : ) فَسُبْحَانَ اللَّهِ ). وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلى الروم ، وأمر عليهم رجلاً ، واختلف النقلة في اسمه ؛ فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى ، وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم . وقال مجاهد : التقت(7/156)
" صفحة رقم 157 "
بالجزيرة . وقال السدي : بأرض الأردن وفلسطين ، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب ، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب . وأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أن الروم ) سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ ).
ونزلت أوائل الروم ، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة : ) الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ ). فقال ناس من مشركي قريش : زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان . فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص ، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال : ( هلا اختطبت ؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان ) . فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام . فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة ، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف . فلما أراد أبو بكر الهجرة ، طلب منه أبيّ كفيلاً بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن . فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلاً ومات أبيّ من جرح جرحه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وظهر الروم على فارس يوم الحديبية . وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال له : ( تصدق به ) .
وسبب ظهور الروم ، أن كسرى بعث إلى شهريزان ، وهو الذي ولاه على محاربة الروم ، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها ، وهي قوله : لقد رأيتني جالساً على سرير كسرى ، فلم يقتله . فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان ، وكتب إليه : إذا ولي ، أن يقتل أخاه شهريزان ، فأراد قتله ، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان . قال : وراجعته في أمرك مراراً ، ثم تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه . وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم ، فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ، وجاء الخبر ، ففرح المسلمون . وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله .
وقرأ علي ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن : ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( : مبنياً للفاعل ، ( سَيَغْلِبُونَ ( : مبنياً للمفعول ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، سيغلبون : مبنياً للفاعل . وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشأم ، يعنى : بالريف السواد . وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين . انتهى . فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ، فيكون غلبهم مرتين . قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح . وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم . وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات . انتهى . وقوله : وأجمعوا ، ليس كذلك . ألا ترى أن الذين قرؤا غلبت بفتح الغين هم الذين قرؤا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر ؟ وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها ؛ والقياس عن ابن عمر : وغلابهم ، على وزن كتاب . والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقر بها : فإن كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله : تنوّرتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت بالجزيرة ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى . فإن كانت بالاردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم . وقرأ الكلبي : ) فِى أَدْنَى الاْرْضِ ( ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين . ففي غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافا(7/157)
" صفحة رقم 158 "
للمفعول ؛ وبالفتح ، يكون مضافاً للفاعل ، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع .
أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : ) الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( إلى قوله : ) فِى بِضْعِ سِنِينَ ( ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معيناً زمانه ويومه ، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح ، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم . وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا ، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله .
( للَّهِ الاْمْرُ ( : أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد . وقرأ الجمهور : ) مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( ، بضمهما : أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها . ولما كانا مضافين إلى معرفة ، وحذفت بنيا على الضم ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو . وقرأ أبو السمال ، والجحدري ، وعون العقيلي : من قبل ومن بعد ، بالكسر والتنوين فيهما . قال الزمخشري : على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه ، كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أولاً وآخراً . انتهى . وقال ابن عطية : ومن العرب من يقول : من قبل ومن بعد ، بالخفض والتنوين . قال الفراء : ويجوز ترك التنوين ، فيبقى كما هو في الإضافة ، وإن حذف المضاف . انتهى . وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده ، وقال الفراء في كتابه : في القرآن أشياء كثيرة من الغلط ، منها : أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد ، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان ، والمعنى : من متقدم ومن متأخر . وحكى الكسائي عن بعض بني أسد لله : الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن ، والثاني مضموم بلا تنوين . والظاهر أن يومئذ ظرف ) يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( ، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون .
وقيل : ) وَيَوْمَئِذٍ ( عطف على : ) مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر . و ) بِنَصْرِ اللَّهِ ( : أي الروم على فارس ، أو المسلمين على عدوهم ، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس ، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض ، حتى تفانوا وتناكصوا ، احتمالات . وفي الحديث : ( فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها أبداً ، والروم ذات القرون ، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد ) .
وقال ابن عباس : يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران ، وقال معناه أبو سعيد الخدري ، وقيل : ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى ، فسر المسلمون بحرب المشركين ، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن . وهو ) الْعَزِيزُ ( بانتقامه من أعدائه ، ( الرَّحِيمِ ( لأوليائه . وانتصب ) وَعَدَ اللَّهُ ( على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت ، وهو قوله : ) سَيَغْلِبُونَ ( ، وقوله : ) يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ). ) وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ( الكفار من قريش وغيرهم ، ( لاَّ يَعْلَمُونَ ( : نفي عنهم العلم النافع للآخرة ، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا . قيل : والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلفه ، وأن ما يورده بعينه / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حق . ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً ( : أي بيناً ، أي ما أدّته إليهم حواسهم ، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم . وقال ابن عباس ، والحسن ، والجمهور : معناه ما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات ، ونحو هذا . وقالت فرقة : معناه ذاهباً زائلاً ، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة . وقال الهذلي : وعيرها الواشون أني أحبها
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي : زائل . وقال ابن جبير : ) ظَاهِراً ( ، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين . وقال الرماني : كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر ، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن . وقال الزمخشري : ) يَعْلَمُونَ ( بدل من قول : ) لاَّ يَعْلَمُونَ ( ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : ) ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( : يفيد أن للدنيا ظاهراً اً وباطناً ، فظاهرها ما(7/158)
" صفحة رقم 159 "
يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة ؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ . وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا ينفكون عنها . و ) فِى أَنفُسِهِمْ ( : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع .
ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛ وأما على أن يكون ) فِى أَنفُسِهِمْ ( ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون ) فِى أَنفُسِهِمْ ( توكيداً لقوله : ) يَتَفَكَّرُونَ ( ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأدنك . وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم ؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر . والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك . وقال أيضاً : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الإمر وأجال فكره . و ) مَّا خَلَقَ اللَّهُ ( متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول ؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه . انتهى . والدليل هو قوله : ) أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ ). وقيل : ) أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ ( متصل بما بعده ، ومثله : ثم ) يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ ( ، ومثله : ) وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ ( ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم ) يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن ( ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا . انتهى . ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : ) مَا خَلَقَ ( إلى آخرها . و ) فِى أَنفُسِهِمْ ( : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد . و ) بِالْحَقّ ( : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله : ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ). كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً ؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى .
وقال ابن عطية : ) إِلاَّ بِالْحَقّ ( ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك . ) وَأَجَلٌ ( عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة . ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم . ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة . انتهى .
وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي : ) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين . والمستفيد يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى . وفي ) أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ ( بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولاً ، ثم ارتقى إليه ثانياً . وفي ) سَنُرِيهِمْ ( أسند إلى المفيد ، فذكر أولاً ، الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعي في ) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( الآية . بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق . وقال أيضاً هنا : ) وَإِنَّ كَثِيرًا ( ، ( وَقَبْلَ ( ، ( وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ( ، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : ) أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ ( ، و ) مَّا خَلَقَ اللَّهُ ). والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر . انتهى ، وفيه تلخيص . ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل ) فِى أَنفُسِهِمْ ( محلاً للتفكر ، وجعل ) مَا خَلَقَ ( أيضاً محلاً ثانياً .
( أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك . قال مجاهداً : ) وَأَثَارُواْ الاْرْضَ ( : حرثوها . وقال الفراء : قلبوها للزراعة . وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه . وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة . وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله :
ومن ذم الزمان بمنتزاح(7/159)
" صفحة رقم 160 "
وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن . وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء . وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثاراً . ) وَعَمَرُوهَا ( : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة . قال الزمخشري : ) أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ( : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ، ولا عمارة لهم رأساً ، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى . ) فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ( : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : ) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ( بالرفع اسما لكان ، وخبرها ) السوأى ( ، أو هو تأنيث الأسوإ ، افعل من السوء . ) السُّوءى أَن كَذَّبُواْ ( : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر . ) السوأى ( : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم . ويجوز أن تكون ) السوأى ( مصدراً على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبراً أيضاً . ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان ) السُّوءى أَن كَذَّبُواْ ). وقرأ الأعمش والحسن : السوى ، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ : ) بِالسُّوء ( ، بالإدغام في يوسف . وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير . وقرأ الكوفيون وابن عامر : ) عَاقِبَةُ ( ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ، وكذبوا الاسم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب . ووجه آخر ، وهو أن يكون ) أساؤا السوأى ( بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، ( وَأَنْ كَذَّبُواْ ( عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام . انتهى . وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً . وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ . وأما قوله : ) وَأَنْ كَذَّبُواْ ( عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف الخ . فهذا فهم أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفاً يدل عليه دليل . وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، إلا إن ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه .
وقرأ عبد الله وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال ؛ والجمهور : بفتحها ؛ والأبوان : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه ؛ والجمهور : يبلس ، بكسر اللام ؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته ؛ والجمهور : ولم يكن ، بالياء ؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة : بتاء التأنيث . ) مّن شُرَكَائِهِمْ ( : من الذين عبدوهم من دون الله ، وهي الأوثان ، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ، وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله . وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء لله ، كما زعموا : ) مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ). ) وَكَانُواْ ( معناه : ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه . وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في ) يَوْمَئِذٍ ( ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ( ، يوم إذ ) يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ). والضمير في ) يَتَفَرَّقُونَ ( للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه . قال الزمخشري : ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله : ) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ). قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها .
( فِى رَوْضَةٍ ( ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب(7/160)
" صفحة رقم 161 "
العرب ، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم . ) يُحْبَرُونَ ( : يسرون . حبره : سره سروراً ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره . يحبر بالضم ، حبراً وحبرة وحبوراً ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة . وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته . وقال علي بن سليمان : هو من قولهم : على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة . وقيل : من التحبير ، وهو التحسين ، أي يحسنون . ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلاً حسن الهيئة . وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون . وقال يحيى بن أبي كثير ، والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني . وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على رؤوسهم . وقال ابن كيسان : يحلون . ومعنى ) مُحْضَرُونَ ( : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله : ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ( ، وجاء في روضة منكراً وفي معرفاً . قال الزمخشري : والتنكير لإيهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة . وجاء ) مُحْضَرُونَ ( باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لاذم لهم .
( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ ).
لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء . والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات ، لما يتجدد فيها من النعم . ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد ، وهو أن يكون ذاكراً ربه ، واصفه بما يجب له على كل حال .
وقال الزمخشري : لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد . وقيل : المراد هنا بالتسبيح : الصلاة . فعن ابن عباس وقتادة : المغرب والصبح والعصر والظهر ، وأما العشاء ففي قوله : ) وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ). وعن ابن عباس : الخمس ، وجعل ) حِينَ تُمْسُونَ ( شاملاً للمغرب والعشاء . ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : اعتراض بين الوقتين ،(7/161)
" صفحة رقم 162 "
ومعناه : أن الحمد واجب على أهل السموات وأهل الأرض ، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية ، لأنه كان يقول : فرضت الخمس بالمدينة . وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة ؛ وفي التحرير ، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية . وعن ابن عباس : ما ذكرت الخمس إلا فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح ، كما قدم في قول ) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( ، والظلمات على النور ، وقابل بالعشي الإمساء ، وبالإظهار الإصباح ، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله ؛ فالعشي يعقبه الإمساء ، والإصباح يعقبه الإظهار . ولما لم يتصرف من العشي فعل ، لا يقال أعشى ، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر ، جاء التركيب ) وَعَشِيّاً ). وقرأ عكرمة : حينا تمسون وحينا تصبحون ، بتنوين حين ، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه . ولما ذكر الإبداء والإعادة ، ناسب ذكره : ) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ ( ، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران . ) وَكَذالِكَ ( : أي مثل ذلك الإخراج ، والمعنى : تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى . وقرأ الجمهور : ) تُخْرَجُونَ ( ، بالتاء المضمومة ، مبنياً للمفعول ؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش : بفتح تاء الخطاب وضم الراء .
ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان ، آية آية ، إلى حين بعثه من القبر فقال : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( : جعل خلقهم من تراب ، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب . و ) تَنتَشِرُونَ ( : تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي . ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب ، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء ، لأنه بارد يابس ، والحياة بالحرارة والرطوبة ، وكذا الروح نير وثقيل ، والروح خفيف وساكن ، والحيوان متحرك إلى الجهات الست ، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام . ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( : فيها قولاً ) وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( ، إما كون حواء خلقت من ضلع آدم ، وأما من جنسكم ونوعكم . وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها ، وهو الإلف . فمتى كان من الجنس ، كان بينهما تألف ، بخلاف الجنسين ، فإن يكون بينهما التنافر ، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم . ويقال : سكن إليه : مال ، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول . ) مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ( : أي بالأزواج ، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد . وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح ، والرحمة : الولد ، كنى بذلك عنهما . وقيل : مودّة للشابة ، ورحمة للعجوز . وقيل : مودة للكبير ، ورحمة للصغير . وقيل : هما اشتباك الرحم . وقيل : المودة من الله ، والبغض من الشيطان .
( وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ ( : أي لغاتكم ، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها ، مع اتحاد المدلول ، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات . وعن وهب : أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً ، في ولد حام سبعة عشر ، وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون . وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم . وقال الزمخشري : الألسنة : اللذات وأجناس النطف وأشكاله . خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله . انتهى . ) وَأَلْوانِكُمْ ( : السواد والبياض وغيرهما ، والأنواع والضروب بتخطيط الصور ، ولولا ذلك الاختلاف ، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها . وفيه آية بينة ، حيث فرعوا من أصل واحد ، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم . وقرأ الجمهور : ) لّلْعَالَمِينَ ( ، بفتح اللام ، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم . وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر ، وعلقمة عن عاصم ، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام ، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم ، كقوله : ) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ). والظاهر أن ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ ( متعلق ) بمنامكم ( ، فامتن تعالى بذلك ، لأن النهار قد يقام فيه ، وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل . ) وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ ( : أي فيهما ، أي في الليل والنهار معاً ، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل ، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم .
وقال الزمخشري : هذا من باب اللف ، وترتيبه : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ ( ، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك ، ويجوز أن يراد ) مَنَامُكُم ( في الزمانين ، ( وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ ( فيهما . والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن ، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن . وقال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا ضعيف ، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار ، ولفظ الآية لا يعطي ذلك . ) وَمِنْ(7/162)
" صفحة رقم 163 "
ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً ( : إما أن يتعلق من آياته بيريكم ، فيكون في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، أو يكون يريكم على إضمار أن ، كما قال :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوعى
برفع أحضر ، والتقدير أن أحضر ، فلما حذف أن ، ارتفع الفعل ، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً ، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له ، كما قال الخليل في قول :
أريد لأنسى حبها
أي أرادني لأنسى حبها ، فيكون التقدير في هذين الوجهين : ومن آياته إراءته إياكم البرق ، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ . وقال الرماني : يحتمل أن يكون التقدير : ومن آياته يريكم البرق بها ، وحذف لدلالة من عليها ، كما قال الشاعر : وما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي : فمنهما تارة أموات ، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض . وانتصب ) خَوْفًا وَطَمَعًا ( على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي خائفين وطامعين . وقيل : مفعول من أجله . وقال الزجاج : وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع ، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف ، ولا يصح أن يكون العامل يريكم ، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر . وقال الزمخشري : المفعولون فاعلون في المعنى ، لأنهم راؤون مكانه ، فكأنه قيل : لجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً . انتهى . وكونه فاعلاً ، قيل : همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها ، على أن المسألة فيها خلاف . مذهب الجمهور : اشتراط اتحاد الفاعل ، ومن النحويين من لا يشترطه . ولو قيل : على مذهب من يشترطه . أن التقدير : يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً ، فحذف العامل للدلالة ، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل . وقال الضحاك : خوفاً من صواعقه ، وطمعاً في مطره . وقال قتادة : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم . وقيل : خوفاً أن يكون خلباً ، وطمعاً أن يكون ماطراً . وقال الشاعر : لا يكن برقك برقاً خلبا
إن خير البرق ما العيث معه
وقال ابن سلام : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعاً في المطر أن يحييه . ) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ ( : أن تثبت وتمسك ، مثل : وإذا أظلم عليهم قاموا : أي ثبتوا بأمره ، أي بإرادته . وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة جواب الشرط ، والمعنى : أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه ، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه ، كما قال الشاعر :
دعوت كليباً دعوة فكأنمادعوت قرين الطود أو هو أسرع(7/163)
" صفحة رقم 164 "
قرين الطود : الصد ، أو الحجر ان أيد هذا . والطود : الجبل . و ) الدعوة ( : البعث من القبور ، و ) دَعْوَةً مّنَ الاْرْضِ ( يتعلق بدعاكم ، و ) دَعْوَةُ ( : أي مرة ، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة . وقيل : ) مّنَ الاْرْضِ ( صفة لدعوة . وقال ابن عطية : ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية ، كما يقول : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل . انتهى . وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا . وعن نافع ويعقوب : أنهما وقفا على دعوة ، وابتد آمن الأرض . ) إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ( علقاً من الأرض بتخرجون ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه ، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وهو لا يجوز . وقال الزمخشري : وقوله : ) إِذَا دَعَاكُمْ ( بمنزلة قوله : ) يُرِيكُمْ ( في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور أخرجوا ، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم ، بياناً لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر . انتهى . وقرأ حمزة والكسائي : تخرجون ، بفتح التاء وضم الراء ؛ وباقي السبعة : بضمها وفتح الراء .
وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى ، وهي خلق الإنسان من التراب ، ثم كونه بشراً منتشراً ، وهو خلق حي من جماد ، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً ، وجعل بينهما تواد ، وذلك خلق حي من عضو حي . وقال : ) لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم ، وهو خلق السموات والأرض ، واختلاف اللغات والألوان ، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه . وقال : ) لّلْعَالَمِينَ ( ، لأنها آية مكشوفة للعالم ، ثم اتبعه بالمنام والابتغاء ، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات ، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان . وقال : ) لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد ، فنبه على السماع ، وجعل البال من كلام المرشد . ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ، ذكر عرضيأ الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر ، وقدمها على ما هو من الأرض ، وهو الإتيان والإحياء ، كما قدم السموات على الأرض ، وقدم البرق على الإنزال ، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم . والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة ، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب . وقال : ) لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ، لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة ، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى ، ووقتاً دون وقت ، وقوياً وضعيفاً ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال : هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً .
ثم ختم هذه الآيات بقيام السموات الأرض ، وذلك من العوارض اللازمة ، فإن كلاً من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه ، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد . ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى ، وهي الخروج من الأرض ، وذكر تعالى من كل باب أمرين : من الأنفس خلقكم وخلق لكم ، ومن الآفاق السماء والأرض ، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ، ومن خواصه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض .
( وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ(7/164)
" صفحة رقم 165 "
النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ ).
) مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : عام في كونهم تحت ملكه وقهره . وقال الحسن : ) قَانِتُونَ ( : قائمون بالشهادة على وحدانيته ، كما قال الشاعر : وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وقال ابن عباس : مطيعون ، أي في تصريفه ، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم ، من حياة وموت وصحة ومرض ، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة . وقيل : قائمون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين . وإذا حمل القنوت على الإخلاص ، كما قال ابن جبير ، أ على الإقرار بالعبودية ، أو قانتون من ملك ومؤمن ، لأن كل عام مخصوص . ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( : أي والعود أهون عليه ، وليست أهون أفعل تفصيل ، لأنه تفاوت عند الله في النشأتين : الإبداء والإعادة ، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين ، وكذا هو في مصحف عبد الله . والضمير في عليه عائد على الله . وقيل : أهون للتفضيل ، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة ، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة ؛ وهذا ، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد . وقيل : الضمير في عليه عائد على الخلق ، أي والعود أهون على الخلق : بمعنى أسرع ، لأن البداءة فيها تدرج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار ، إنما يدعوه الله فيخرج ، فكأنه قال : وهو أيسر عليه ، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً . وقيل : المعنى وهو أهون على المخلوق ، أي يعيد شيئاً بعد إنشائه ، فهذا عرف المخلوقين ، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق ؟ قال ابن عطية : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ، ويؤيده قوله تعالى : ) وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( ، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق ، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم ، خلص جانب العظمة ، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به ، فكيف ولا تمثال مع شيء ؟ انتهى . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( ، وقدمت في قوله : ) هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( ؟ قلت : هنالك قصد الاختصاص ، وهو تجبره ، فقيل : وهو على هين ، وإن كان مستصعباً عندك ، وإن تولد بين هرم وعاقر . وأما هنا لا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء ؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . انتهى . ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص ، وقد تكلمنا معه في ذلك ، ولم نسلمه في قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ).
) وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( ، قيل : هو متعلق بما قبله ، قاله الزجاج ، وهو قوله : ) وَهُوَ أَهْوَنُ ( ؛ قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل أو يصعب . وقيل : بما بعده من قوله : ) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ ). وقيل : المثل : الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما . ) وَهُوَ الْعَزِيزُ ( : أي القاهر لكل شيء ، الحكيم الذي أفعالى على مقتضى حكمته . وعن مجاهد : المثل الأعلى قوله : ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ ( ، وله الوصف بالوحدانية ، ويؤيده قول : ) ضَرَبَ لَكُمْ ).
وقال ابن عباس وغيره : بين تعالى أمر الأصنام(7/165)
" صفحة رقم 166 "
وفساد معتقد من يشركها بالله ، بضربه هذا المثل ، ومعناه : أنكم أيها الناس ، إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم ، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم ، كما يفعل بعضكم ببعض ؛ فإذا كان هذا فيكم ، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم ؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير . وقال السدي : كانوا يورثون آلهتهم ، فنزلت . وقيل : لما نزلت ، قال أهل مكة : لا يكون ذلك أبداً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( فلم يجوز لربكم ) ؟ ومن في : ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( لابتداء الغاية ، كأنه قال : أخذ مثلاً ، وافترى من أقرب شيء منكم ، وهو أنفسكم ، ولا يبعد . ومن في : ) مِمَّا مَلَكَتْ ( للتبعيض ، ومن في : ) مّن شُرَكَاء ( زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . يقول : ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله ، فكيف ترضون شريكاً لله ، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ؟
وقال أبو عبد الله الرازي : وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفة . فالمشابهة معلومة ، والمخالفة من وجوه : قوله : ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( : أي من نسلكم ، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها . وقوله : ) مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( : أي عبيدكم ، والملك ما قبل النقل بالبيع ، والزوال بالعتق ، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك . فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم ، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية ، حالة الرق ، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية ؟ وقوله : ) فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ ( : يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة ، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم ، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة ؟ انتهى ، وفيه بعض تلخيص . و ) شُرَكَاء ( في موضع رفع بالابتداء ، و ) فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ ( متعلق به ، و ) لَكُمْ ( الخبر ، و ) مِمَّا مَلَكَتْ ( في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور ، والواقع خبراً ، وهو مقدر بعد المبتدأ . وما في فيما ) رَزَقْنَاكُمْ ( واقعة على النوع ، والتقدير : هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم ؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء ، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر ، كما تقول : لزيد في المدينة مبغض ، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ ، وفي المدينة الخبر ، و ) فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء ( جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي ، وفيه متعلق بسواء ، و ) تَخَافُونَهُمْ ( خبر ثان لأنتم ، والتقدير : فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم ، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضاً أيها السادة . والمقصود نفي الشركة والإستواء والخوف ، وليس النفي منسحباً على الجواب وما بعده فقط ، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما تأتينا فتحدثنا ، إنما تأتي ولا تحدث ، بل هو على الوجه الآخر ، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا ؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث . وكذلك هذا ليس لهم شريك ، فلا استواء ولا خوف . وقرأ الجمهور : ، بالنصب ، أضيف المصدر إلى الفاعل ؛ وابن أبي عبيدة : بالرفع ، أضيف المصدر للمفعول ، وهما وجهان حسنان ، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل .
( كَذالِكَ ( : أي مثل ذلك التفصيل ، ( نُفَصّلُ الآيَاتِ ( : أي نبينها ، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها . ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة ؟ وقرأ الجمهور : نفصل ، بالنون ، حملاً على رزقناكم ؛ وعباس عن ابن عمر : بياء الغيبة ، رعياً لضرب ، إذ هو مسند للغائب . وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، كأنه يقول : الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم ؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح . والإضراب ببل في قوله : ) بَلِ اتَّبَعَ ( جاء على ما تضمنته الآية ، إذ المعنى : ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله ، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم ، لأنه قد يكون هوى للإنسان ، وهو يعلم . و ) الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : هم المشركون ، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم ، لا يرغمهم عن هواهم علم ، إذ هم خالون من العلم(7/166)
" صفحة رقم 167 "
الذي قد يردع متبع الهوى . ) فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ( : أي لا أحد يهدي من أضله الله ، أي هؤلاء ممن أضلهم الله ، فلا هادي لهم . وقال الزمخشري : من أضل الله : من خذله الله ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله . ) وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( : دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ ( : فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت ، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه . فإن من اهتم بالشيء ، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلاً به عليه ، والدين دين الإسلام . وذكر الوجه ، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه . و ) حَنِيفاً ( : حال من الضمير في أقم ، أو من الوجه ، أو من الدين ، ومعناه : مائلاً عن الأديان المحرفة المنسوخة . ) فِطْرَةَ اللَّهِ ( : منصوب على المصدر ، كقوله : ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ، وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : التزم فطرة الله . وقال الزمخشري : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله . وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله : ) مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ( ، ومنيبين حال من الضمير في الزموا . وقوله : ) وَأَقِيمُواْ ( ، ( وَلاَ تَكُونُواْ ( ، معطوف على هذا المضمر . انتهى . وقيل : ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ ( ، المراد به : فأقيموا وجوهكم ، وليس مخصوصاً بالرسول وحده ، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع ، أي : فأقم أيها المخاطب ، ثم جمع على المعنى ، لأنه لا يراد به مخاطب واحد . فإذا كان هذا ، فقوله : ) مُّنِيبِينَ ( ، ( وَأَقِيمُواْ ( ، ( وَلاَ تَكُونُواْ ( ملحوظ فيه معنى الجمع . وقول الزمخشري : أو عليكم فطرة الله لا يجوز ، لأن فيه حذف كلمة الإغراء ، ولا يجوز حذفها ، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه . فلو جاء حذفه لكان إجحافاً ، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه .
والفطرة ، قيل : دين الإسلام ، والناس مخصوصون بالمؤمنين . وقيل : العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ورجح الحذاق . إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله ، والاستدلال بها على موجده ، فيؤمن به ويتبع شرائعه ، لكن قد عتعرض له عوارض تصرفه عن ذلك ، كتهويد أبويه له ، وتنصيرهما ، إغواء شياطين الإنس والجن .
( لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( : أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق . وقال مجاهد ، وابن جبير ، والضحاك ، والنخعي ، وابن زيد : لا تبديل لدين الله ، والمعنى : لمعتقدات الأديان ، إذ هي متفقة في ذلك . وقال الزمخشري : أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير . وقال ابن عباس : لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم ، وقيل : هو نفي معناه : النهي ، أي لا تبدلوا ذلك الدين . وقيل : ) لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( بمعنى : الواحدانية مترشحة فيه ، لا تغير لها ، حتى لو سألته : من خلق السموات والأرض ؟ تقول : الله . ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى ) لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( : النهي عن خصاء الفحول من الحيوان . وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة ، اعترض به أثناء الكلام ، كأنه يقول : أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر ، و ) لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( : أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له ، هو الدين المبالغ في الاستقامة . والقيم : بياء مبالغة ، من القيام ، بمعنى الاستقامة ، ووزنه فعيل ، أصله قيوم كيد ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فيها ، وهو بناء مختص بالمعتل العين ، لم يجىء منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة .
( مُّنِيبِينَ ( : حال من ) النَّاسِ ( ، ولا سيما إذا أريد بالناس : المؤمنون ، أو من الضمير في : الزموا فطرة الله ، وهو تقدير الزمخشري ، أو من الضمير في : ) فَأَقِمْ ( ، إذ المقصود : الرسول وأمته ، وكأنه حذف معطوف ، أي فأقم وجهك وأمتك . وكذا زعم الزجاج في : ) الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ( : أي يا أيها النبي والناس ، ودل على ذلك مجيء الحال في ) مُّنِيبِينَ ( جمعاً ، وفي ) إِذَا طَلَّقْتُمُ ( جاء الخطاب فيه وفي ما بعده . جمعاً ، أو على خبر كان مضمرة ، أي كونوا منيبين ، ويدل عليه قوله بعد ) وَلاَ تَكُونُواْ ( ، وهذه احتمالات منقولة كلها . ) مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( : من اليهود والنصارى ، قاله قتادة . وقال ابن زيد : هم اليهود ؛ وعن أبي هريرة وعائشة : أنهم أهل القبلة ، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقاً . والظاهر أن المشركين : كل من(7/167)
" صفحة رقم 168 "
أشرك ، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم . و ) مِنَ الَّذِينَ ( : بدل من المشركين ، ( فَرَّقُواْ دِينَهُمْ ( : أي دين الإسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم . ) وَكَانُواْ شِيَعاً ( : كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها . ) كُلُّ حِزْبٍ ( : أي منهم فرح بمذهبه مفتون به . والظاهر أن ) كُلُّ حِزْبٍ ( مبتدأ و ) فَرِحُونَ ( الخبر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ) مِنَ الَّذِينَ ( منقطعاً مما قبله ومعناه : من المفارقين دينهم . كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله :
وكل خليل غيرها ضم نفسه
انتهى . قدر أولاً فرحين مجرورة صفة لحزب ، ثم قال : ولكنه رفع على الوصف لكل ، لأنك إذا قلت : من قومك كل رجل صالح ، جاز في صالح الخفض نعتاً لرجل ، وهو الأكثر ، كقوله : جادت عليه كل عين ترة
فتركن كل حديقة كالدرهم
وجاز الرفع نعتاً لكل ، كقوله : وعليه هبت كل معصفة
هو جاء ليس للبها دبر
يرفع هو جاء صفة لكل .
( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ ).
الضر : الشدة ، من فقر ، أو مرض ، أو قحط ، أو غير ذلك ؛ والرحمة : الخلاص من ذلك الضر . ) دَعَوْاْ رَبَّهُمْ ( : أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر ، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى ، فلهم في ذلك الوقت(7/168)
" صفحة رقم 169 "
إنابة وخضوع ، وإذا خلصهم من ذلك الضر ، أشرك فريق ممن اخلص ، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام . قال ابن عطية : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين ، إذ جاءهم فرج بعد شدة ، علقوا ذلك بمخلوقين ، أو بحذق آرائهم ، أو بغير ذلك ، ففيه قلة شكر الله ، ويسمى مجازاً . وقال أبو عبد الله الرازي : يقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني ، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً ، فإنه شرك خفي . انتهى . و ) إِذَا فَرِيقٌ ( : جواب ) إِذَا أَذَاقَهُمْ ( ، الأولى شرطية ، والثانية للمفاجأة ، وتقدم نظيره ، وجاء هنا فريق ، لأن قوله : ) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ( عام للمؤمن والكافر ، فلا يشرك إلا الكافر . وضر هنا مطلق ، وفي آخر العنكبوت ) إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام ، والضر هناك معين ، وهو ما يتخوف من ركوب البحر . ) إِذَا هُمْ ( : أي ركاب البحر عبدة الأصنام ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده . واللام في ) لِيَكْفُرُواْ ( لام كي ، أو لام الأمر للتهديد ، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت .
وقرأ الجمهور : ) فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ، بالتاء فيهما . وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بياء قبل التاء ، عطف أيضاً على ) لِيَكْفُرُواْ ( ، أي لتطول أعمارهم على الكفر ؛ وعنه وعن عبد الله : فليتمتعوا . وقال هارون في مصحف عبد الله : يمتعوا . ) أَمْ أَنزَلْنَا ( ، أم : بمعنى بل ، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق ، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ . والسلطان : البرهان ، من كتاب أو نحوه . ) فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ( : أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم ، والتكلم مجاز لقوله : ) هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ). وهو يتكلم : جواب للاستفهام الذي تضمنه أم ، كأنه قال : بل أنزلنا عليهم سلطاناً ، أي برهاناً شاهداً لكم بالشرك ، فهو يشهد بصحة ذلك ، وإن قدر ذا سلطان ، أي ملكاً ذا برهان ، كان التكلم حقيقة .
( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ( : أي نعمة ، من مطر ، أو سعة ، أو صحة . ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ ( : أي بلاء ، من حدث ، أو ضيق ، أو مرض . ) بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنْ ( المعاصي . ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( ، ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم ، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء . و ) إِذَا هُمْ ( جواب : ) وَإِن تُصِبْهُمْ ( ، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جواباً للشرط . وحين ذكر إذاقة الرحمة ، لم يذكر سببها ، وهو زيادة الإحسان والتفضل . وحين ذكر إصابة السيئة ، ذكر سببها ، وهو العصيان ، ليتحقق بدله . ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله ، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض ، فينبغي أن لا يقنط ، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء ، والشكر في النعماء ، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها ، حتى تعود إليه رحمة ربه .
ومناسبة ) فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى ( لما قبله : أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض ، وجعل في ذلك آية للمؤمن ، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج ، لأن من الإيمان الشفقة على خلق الله ، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال ، وصرفه إلى من يقرب منه من حج ، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل . وقال الحسن : هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم ، ( وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ). وقيل : للرسول ، عليه السلام . وذو القربى : بنو هاشم وبنو المطلب ، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء . وقال الحسن : حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما . واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب . أثبت تعالى لذي القربى حقاً ، وللمسكين وابن السبيل حقهما .
والسورة مكية ، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة ، وإنما يصير حقاً بجهة الإحسان والمواساة . وللاهتمام بذي القربى ، قدم على المسكين وابن السبيل ، لأن بره صدقة وصلة . ) ذالِكَ ( : أي الإيتاء ، ( خَيْرٌ ( : أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة ، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه الله ، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره . ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله غلى غير الجهة المرضية فقال ؛ ) وَمَا ءاتَيْتُمْ ( أكلة اليربو ، ليزيد ويزكو في المال ، فلا يزكو عند الله ، ولا يبارك فيه لقوله : ) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ). قال السدّي : نزلت في ربا ثقيف ، كانوا يعملون بالربا ، ويعمله فيهم قريش . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وطاوس : هذه الآية نزلت(7/169)
" صفحة رقم 170 "
في هبات ، للثواب . وقال ابن عطية : وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة ، كالسلم وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه ، فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله . وقال ابن عباس أيضاً ، والنخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به ، فذلك النفع لهم . وقال الشعبي قريباً من هذا وهو : أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به ، فذلك النفع لهم . وقال الشعبي أيضاً قريباً من هذا وهو : أن لا يربو عند الله ، والظاهر القول الأول ، وهو النهي عن الربا . وقرأ الجمهور : ) وَمَا ءاتَيْتُمْ ( ، الأول بمد الهمزة ، أي وما أعطيتم ؛ وابن كثير : بقصرها ، أي وما جئتم . وقرأ الجمهور : ليربو ، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا ؛ وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والشعبي ، ونافع ، وأبو حيوة : بالتاء مضمومة ، وإسناد الفعل إليهم . وقرأ أبو مالك : ليربوها ، بضمير المؤنث .
والمضعف : ذو أضعاف في الأجر . قال الفراء : هم أصحاب المضاعفة ، كما تقول : هو مسمن ، أي صاحب إبل سمان ، ومعطش : أي صاحب إبل عطشى . وقرأ أبي : ) الْمُضْعِفُونَ ( ، بفتح العين ، اسم مفعول . وقال الزمخشري : ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( ، التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون ، والمعنى : المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأول أملأ بالفائدة : انتهى . وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر ، لأن اسم الشرط ليس بظرف ، لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط .
( اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَانَهُ ).
كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم ، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك ، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم . و ) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ( : مبتدأ وخبر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ) الَّذِى خَلَقَكُمْ ( صفة للمبتدأ ، والخبر : ) هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ ( ؛ وقوله : ) مّن ذالِكُمُ ( هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه : من أفعاله . انتهى . والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا كان أشير به إلى المبتدأ . وأما ) ذالِكُمْ ( هنا فليس إشارة إلى المبتدأ ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى ، وخالفه الناس ، وذلك في قوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ ( ، قال التقدير : يتربصن أزواجهم ، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين ، فحصل به الربط ، كذلك قدر الزمخشري ) مّن ذالِكُمُ ( : من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ . وقال الزمخشري أيضاً : هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئاً ، قط(7/170)
" صفحة رقم 171 "
من تلك الأفعال ، حتى يصح ما ذهبتم إليه ؟ فاستعمل قط في غير موضعها ، لأنها ظرف للماضي ، وهنا جعلها معمولة ليفعل . وقال الزمخشري أيضاً : ومن الأولى والثانية ، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم ؛ فمن الأولى للتبعيض ، والجار والمجرور خبر المبتدأ ؛ ومن يفعل هو المبتدأ ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام ، التقدير : من يفعل شيئاً من ذلكم ، أي من تلك الأفعال .
وقرأ الجمهور : ) يُشْرِكُونَ ( ، بياء الغيبة ؛ والأعمش ، وابن وثاب : بتاء الخطاب ، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر . وقال الحسن : وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات ، ونزول رزايات ، وحدوث فتن ، وتقلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر . وقال ابن عباس : ) الْفَسَادُ فِى الْبَرّ ( ، القطاع فتسده . وقال مجاهد : ) فِى الْبَرّ ( ، بقتل أحد بني آدم لأخيه ، وفي البحر : بأخذ السفن غصباً ، وعنه أيضاً : البر : البلاد البعيدة من البحر ، والبحر : السوواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار . وقال قتادة : البر : الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور ، والبحر : المدن ، جمع بحرة ، ومنه : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه ، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ويؤيد هذا قراءة عكرمة . والبحور بالجمع ، ورويت عن ابن عباس ، وكان قد ظهر الفساد براً وبحراً وقت بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان الظلم عم الأرض ، فأظهر الله به الدين ، وأزال الفساد ، وأخمده ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال النحاس : فيه قولان ، أحدهما : ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر ، أي في مدن البحر ، مثل : ) وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( أي ظهر قلة العشب ، وغلاً السعر . والثاني : ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم ، فهذا هو الفساد على الحقيقة ، والأول مجاز ، وقيل : إذا قل المطر قل الغوص ، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر . وقال ابن عباس : إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر ، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ .
( بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ ( : أي بسبب معاصيهم وذنوبهم . ) لِيُذِيقَهُمْ ( : أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بها جميعاً في الآخرة . ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( عما هم فيه . وقال ابن عطية : ) بِمَا كَسَبَتْ ( : جزاء ما كسبت ، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر ، أي بكسبهم المعاصي في البر والبحر ، وهو نفس الفساد الظاهر . وقرأ السلمي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ، وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبو الفضل الواسطي عنه ، ومحبوب عن أبي عمر . و : لنذيقهم ، بالنون ؛ والجمهور : بالياء ، ثم أمرهم بالمسير في الأرض ، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم ، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم ، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم . ) كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ ( : أهلكهم كلهم بسبب الشرك ، وقوم بسبب المعاصي ، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي ، كما يهلك بالشرك ، كأصحاب السبت . أو أهلكهم كلهم ، المشرك والمؤمن ، كقوله تعالى : ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ( ، وأهلكهم كلهم ، وهم كفار ، فأكثرهم مشركون ، وبعضهم معطل . وحين ذكر امتنانه قال : ) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ( ، فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق . وحين ذكر خذلانهم بالطغيان ، بسبب البقاء بإظهار الفساد ، ثم بسبب الوجود بالإهلاك . ) مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( : يوم القيامة ، وفيه تحذير(7/171)
" صفحة رقم 172 "
يعم الناس ، ( لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ( ، المرد : مصدر رد ، ومن الله : يحتمل أن يتعلق بيأتي ، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله : ) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ( ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد ، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به ، ولا رد له من جهته . ) يَوْمَئِذٍ ( : أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم . ) يَصَّدَّعُونَ ( : يتفرقون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه الصداع ، لأنه يفرق شعب الرأس ، وقال الشاعر : وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
ثم ذكر حالتي المتفرقين : ) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ( : أي جزاء كفره ، وعبر عن حالة الكافر بعليه ، وهي تدل على الفعل والمشقة ، وعن حال المؤمن بقوله : ) فَلاِنفُسِهِمْ ( ، باللام التي هي لام الملك . و ) يَمْهَدُونَ ( : يوطئون ، وهي استعارة من الفرش ، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به ، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة . وقال مجاهد : هو التمهيد للقبر . وقال الزمخشري : وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه . انتهى . وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص ، وأما على مذهبنا فيدل على الاهتام ، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها : ) وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ). واللام في ) لِيَجْزِىَ ( ، قال الزمخشري : متعلق بيمهدون ، تعليل له وتكرير ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( ، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله : ) أَن لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( ، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس . وقال ابن عطية : ليجزي متعلق بيصدعون ، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى : ) مَن كَفَرَ ( ، ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً ). انتهى . ويكون قسم ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفاً تقديره : كأنه قال : والكافرون بعد له ، ودل على حذف هذا القسيم قوله : ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ). ومعنى نفي الحب هنا : أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته ، ولا يرضى الكفر لهم ديناً . وقال الزمخشري : ) مِن فَضْلِهِ ( : بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ، وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو أراد من عطائه ، وهو ثوابه ، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب .
( وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ اللَّهُ ( سقط : الذي يرسل الرياح إلى آخر الآية ) ). (7/172)
" صفحة رقم 173 "
( سقط : يكفرون ، فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمى عن ظلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بأياتنا فهم مسلمون )
لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ، ذكر ظهور الصلاح . والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم ؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر ، لأنها متقدمة . والمبشرات : رياح الرحمة ، الجنوب والشمال والصبا ، وأما الدبور ، فريح العذاب ، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر ، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها ، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام ، وهو التبشير . وقرأ الأعمش : الريح ، مفرداً ، وأراد معنى الجمع ، ولذلك قرأ : ) مُبَشّراتٍ ). ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ، ويتبعه حصول الخصب ، والريح الذي معه الهبوب ، وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك . ) وَلِيُذِيقَكُمْ ( : عطف على معنى مبشرات ، فالعامل أن يرسل ، ويكون عطفاً على التوهم ، كأنه قيل : ليبشروكم ، والحال والصفة قد يجيئان ، وفيهما معنى التعليل . تقول : أهن زيد سيئا وأكرم زيداً العالم ، تريد لإماءته ولعلمه . وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف ، أي ولكنا أرسلناها . وقيل : الواو في وليذيقكم زائدة . و ) بِأَمْرِهِ ( : أي بأمر الله ، يعني أن جريانها ، لما كان مسنداً إليها ، أخبر أنه بأمره تعالى . ) مِن فَضْلِهِ ( : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر ، ومن غنائم أهل الشرك . ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، ولما كان تعالى بين الأصلين : المبدأ والمعاد ، بين ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوّة ؛ وفي الكلام حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض ، ( فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ).
وفي قوله : ) وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( : تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر ، إذا أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا ، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم ، وتكريم للمؤمنين ، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان ، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر . والظاهر أن ) حَقّاً ( خبر كان ، و ) نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( الاسم ، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء ، إذ هو محط الفائدة . وقال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم ، ثم استأنف جملة من قوله : ) عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( ، وهذا قول ضعيف ، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية . وقال الزمخشري : وقد يوقف على ) حَقّاً ( ، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ علينا ) نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ). انتهى . وفي الوقف على ) وَكَانَ حَقّاً ( بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً ، بل عدلاً ، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر ، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث .
( اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( ، هذا متعلق بقوله : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( ، والجملة التي بينهما اعتراض ، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر ، وفي إرسالها قدرة وحكمة . أما القدرة ، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء ، وهو ليس بذاته يفعل ذلك ، بل بفاعل مختار . وأما الحكمة ، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب ، وإخراج الماء منه ، وإنبات الزرع ، ودر الضرع ، واختصاصه بناس دون ناس ؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة ، تحريكها وتسييرها . والبسط : نشرها في الآفاق ، والكسف : القطع . وتقدم الكلام على قوله : ) فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ( ، وذكر الخلاف في ) كِسَفًا ( وحاله من جهة القراء . والضمير في : ) مِنْ خِلاَلِهِ ( ، الظاهر أنه عائد على السحاب ، إذ هو المحدث عنه ، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه . قيل : ويحتمل أن يعود على ) كِسَفًا ( في قراءة من سكن العين ، والمراد بالسماء : سمت السماء ، كقوله : ) وَفَرْعُهَا(7/173)
" صفحة رقم 174 "
فِى السَّمَاء ). ) فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء ( : أي أرض من يشاء إصابتها ، فاجأهم الاستبشار ، ولم يتأخر سرورهم . وقال الأخفش : ) مِن قَبْلِهِ ( تأكيد لقوله : ) مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ).
وقال ابن عطية : أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن قوله : ) مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ( يحتمل الفسحة في الزمان ، أي من قبل أن ينزل بكثير ، كالأيام ونحوه ، فجاء قوله : ) مِن قَبْلُ ( بمعنى : أن ذلك متصل بالمطر ، فهو تأكيد مقيد . وقال الزمخشري : وبمعنى التوكيد ، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك . انتهى . وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : ) مِن قَبْلِهِ ( غير ظاهر ، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد ، ويفيد رفع المجاز فقط . وقال قطرب : التقدير : وإن كانوا من قبل التنزيل ، من قبل المطر . انتهى . وصار من قبل إنزال المطر : من قبل المطر ، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح ، فضلاً عن القرآن . وقيل : التقدير : من قبل تنزيل الغيث : من قبل أن يزرعوا ، ودل المطر على الزرع ، لأنه يخرج بسبب المطر ؛ ودل على ذلك قوله : ) فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً ( ، يعني الزرع . انتهى . وهذا لا يستقيم ، لأن ) مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ( متعلق بقوله : ) لَمُبْلِسِينَ ). ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين ، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف ، أو على جهة البدل . وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف ، ولا يصح فيه البدل ، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع ، ولا الزرع بعضه . وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف . أما لاشتمال الإنزال على الزرع ، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال ، فكأن الإنزال مشتمل عليه ، وهذا على مذهب من يقول : الأول يشتمل على الثاني . وقال المبرد : الثاني السحاب ، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين . وقال علي بن عيسى : من قبل الإرسال . وقال الكرماني : ومن قبل الاستبشار ، لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار . انتهى . ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف ، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف ، أمكن ، لكن في حذف حرف العطف خلاف ، أينقاس أم لا ينقاس ؟ أما حذفه مع الجمل فجائز ، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف .
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : إلى أثر ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع ؛ وسلام : بكسر الهمزة وإسكان الثاء . وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوة : تحيي ، بالتاء للتأنيث ، والضمير عائد على الرحمة . وقال صاحب اللوامح : وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها ، فاكتسب التأنيث منها ، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه ، أو من سببه . وأما إذا كان أجنبياً ، فلا يجوز بحال . انتهى . وقرأ زيد بن علي : نحيي ، بنون العظمة ؛ والجمهور : ) يُحْىِ ( ، بياء الغيبة ، والضمير لله ، ويدل عليه قراءة ) ءاثَارِ ( بالجمع ، وقيل : يعود على أثر في قراءة من أفرد . وقال ابن جني : ) كَيْفَ يُحْىِ ( جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى ، كأنه قال : محيياً ، وهذا فيه نظر . ) إِنَّ ذالِكَ ( : أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها ، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم . وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث ، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى .
( وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا ( : أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم ، أنه بعد الاستبشار بالمطر ، بعث الله ريحاً ، فاصفر بها النبات . لظلوا يكفرون قلقاً منهم ، والريح التي تصفر النبات صر حرور ، وهما مما يصبح به النبات هشيماً ، والحرور جنب الشمال إذا عصفت . والضمير في ) فَرَأَوْهُ ( عائد على ما يفهم من سياق الكلام ، وهو النبات . وقيل : إلى الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث ، وأثرها هو النبات . ومن قرأ : آثار ، بالجمع ، رجع الضمير إلى آثار الرحمة ، وهو النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمى به ما ينبت . وقال ابن عيسى : الضمير في ) فَرَأَوْهُ ( عائد على السحاب ، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر ؛ وقيل : على الريح ، وهذان قولان ضعيفان . وقرأ صباح بن حبيش : مصفاراً ، بألف بعد الفاء . واللام في ) وَلَئِنِ ( مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا ، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره : ليظلن ، ونظيره قوله تعالى : ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ( : أي ما(7/174)
" صفحة رقم 175 "
يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم ، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا ، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار ، وإن تصبروا على بلائه كفروا . والضمير في ) مِن بَعْدِهِ ( عائد على الاصفرار ، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته . وتقدم الكلام على قوله : ) فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( إلى قوله : ) فَهُم مُّسْلِمُونَ ( في أواخر النمل ، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله : ) فَإِنَّكَ ).
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ).
لما ذكر دلائل الآفاق ، ذكر شيئاً من دلائل الأنفس ، وجعل الخلق من ضعف ، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته ، كقوله : ) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ). والقوة التي تلت الضعف ، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال . والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم . وقيل : ) مّن ضَعْفٍ ( : من النطفة ، كقوله : ) مّن مَّاء مَّهِينٍ ). والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه . وقرأ الجمهور : بضم الضاد في ضعف معاً ؛ وعاصم وحمزة : بفتحها فيهما ، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء . وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك : الضم والفتح في الثاني . وقرأ عيسى : بضمتين فيهما . والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك ، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف . وقال كثير من اللغويين : الضم في البدن ، والفتح في العقل . ) مَا لَبِثُواْ ( : هو جواب ، وهو على المعنى ، إذ لو حكى قولهم ، كان يكون التركيب : ما لبثنا غير ساعة ، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة ، وما لبثوا في الدنيا : استقلوها لما عاينوا من الآخرة ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم ، أو على جهة النسيان ، أو الكذب . ) يُؤْفَكُونَ ( : أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق .
( الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون . ) فِى كِتَابِ اللَّهِ ( : فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره ، ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محله من العلم . وقيل : ) فِى كِتَابِ اللَّهِ ( : اللوح المحفوظ ، وقيل : في علمه ، وقيل : في حكمه . وقرأ الحسن : البعث ، بفتح العين فيهما ، وقرىء : بكسرها ، وهو اسم ، والمفتوح مصدر . وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره : أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان . ) لَقَدْ لَبِثْتُمْ ( : وعلى هذا تكون في بمعنى الباء ، أي العلم بكتاب الله ، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكاً للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح ، فكيف يسوغ في كلام الله ؟ وكان قتادة موصوفاً بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا القول . والفاء في : ) فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ( عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها ، وهي : ) لَقَدْ لَبِثْتُمْ ( ، اعتقبها في الذكر . قال الزمخشري : فإن قلت : ما هذه الفاء ، وما حقيقتها ؟ قلت : هي التي في قوله :(7/175)
" صفحة رقم 176 "
فقد جئنا خراساناً
وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول : قد جئنا خراساناً ، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة ، لم يتكلف إضمار شرط ، وجعل الفاء جواباً لذلك الشرط المحذوف ، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه . وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعرفون به ، فصار مصيركم إلى النار ، فتطلبون التأخير . ) فَيَوْمَئِذٍ ( : أي يوم إذ ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم . وقرأ الكوفيون : ) لاَّ ينفَعُ ( ، بالياء هنا وفي الطول ، ووافقهم نافع في الطول ؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث . ) وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ، قال الزمخشري : من قولك : استعتبنى فلان فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كان جانياً عليه ، وحقيقته : أعتبته : أزلت عتبه . ألا ترى إلى قوله : غضبت تميم أن يقتل عامر
يوم النثار فأعتبوا بالصيلم
كيف جعلهم غضاباً . ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : ) فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ). فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ؟ وقوله : ) وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ ( ؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين ، فهذا معناه ؛ وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه ؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني ، غير راضى ن منه . فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته . وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة ، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعطون عتبى ، وهو الرضا . ويستعتبون بمعنى : يعتبون ، كما تقول : يملك ويستملك . والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه ، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه ، ولا يطلب منهم عتبى . انتهى . فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد ، وهو عتب ، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب . وقد قيل : لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون . وقيل : لا يطلب لهم العتبى . وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة ، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار . وقال الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقال لهم ، وما لا يقع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل ؟ انتهى . و ) أَنتُمْ ( : خطاب للرسول والمؤمنين ، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء . وقال أبو عبد الله الرازي : وفي توحيد الخطاب بقول : ) وَلَئِن جِئْتَهُمْ ( ، والجمع في قوله : ) إِنْ أَنتُمْ ( لطيفة ، وهي : أن الله عز وجل قال : ) وَلَئِن جِئْتَهُمْ ( بكل آية جاءت بها الرسل ، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون .
( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ ( : أي مثل هذا الطبع يطبع الله ، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم الله عليهم الكفر في الأزل ، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى ، إذ هو فاعل ذلك ومقدره . وقال الزمخشري : ومعنى طبع الله : صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم ، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به ، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك ، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة . وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب : ولا يستحقنك : بحاء مهملة وقاف ، من الاستحقاق ؛ والجمهور : بخاء معجمة وفاء ، من الاستخفاف ؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب ، والمعنى : لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين .(7/176)
" صفحة رقم 177 "
لقمان : ( 1 ) الم
177 لقمان : اسم علم ، فإن كان أعجمياً فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية ، وإن كان عربياً فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون ، ويكون مشتقاً من اللقم مرتجلاً ، إذ لا يعلم له وضع في النكرات . صعر : مشدد العين ، لغة بني تميم . قال شاعرهم : وكنا إذا الجبار صعر خده
أقمنا له من ميله فيقوم
فيقوم : أمر بالاستقامة للقوافي في المخفوضة ، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وانشاد الطبري فيقوما فعلاً ماضياً خطأ ، وتصاعر لغة الحجاز ، ويقال : يصعر . قال الشاعر :
أقمنا له من خده المتصعر
ويقال : أصعر خده . قال الفضل : هو الميل ، وقال اليزيدي : هو التشدق في الكلام . وقال أبو عبيدة : أصل هذا من الصعر ، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها ، فتلتوى منه أعناقها . القلم : معروف . الختار : شديد الغدر ، ومنه قولهم : إنك لا تمد إلينا شبراً من غدر
إلا مددنا لك باعاً من ختر
وقال عمرو بن معدي كرب : وإنك لو رأيت أبا عمير
ملأت يديك من غدر وختر
وقال الأعشى : فالأيلق الفرد من تيماء منزله
حصن حصين وجار غير ختار(7/177)
" صفحة رقم 178 "
) الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات ، أولهنّ : ) وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ ). وقال قتادة : إلا آيتين ، أوّلهما : ) وَلَوْ أَنَّ ( إلى آخر الآيتين ، وسبب نزولها أن قريشاً سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت . وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاث : ) وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ ( إلى آخرهنّ ، لما نزل ) وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ). وقول اليهود : إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا ، فقال الرسول : ( التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله ) ، فنزل : ) وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ ). ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى : ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ ( ، فأشار إلى ذلك بقوله : ) الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ؛ وكان في آخر تلك : ) وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ ( ، وهنا : ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ( ، وتلك إشارة إلى البعيد ، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه .
و ) الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( : القرآن واللوح المحفوط . ووصف الكتاب بالحكيم ، إما لتضمنه للحكمة ، قيل : أو فعيل بمعنى المحكم ، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، ومنه عقدت العسل فهو عقيد ، أي معقد ، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم . وقال الزمخشري : الحكيم : ذو الحكمة ؛ أو وصف لصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي ، ويجوز أن يكون(7/178)