الدنيا مطلقًا، وسواءٌ في ذلكَ نعيمُ الأبدانِ بالأكلِ والشربِ والجماع، ونعيمُ
القلوبِ والأرواح بالمعارفِ والعلومِ والقربِ والاتصالِ والأنسِ والمشاهدةِ.
فظهرَ بهذا أن قولَهُ تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منْهَا) ، هو على
ظاهره من غيرِ حاجةٍ إلى تأويلٍ ولا تكلُّفٍ فإنَّ كثيرًا من المفسرينَ فسروا
الحسنةَ بكلمةِ التوحيدِ والجزاءَ عليهم بالجنةِ، ثم استشكلُوا تفضيلَ الجنَّةِ على
التوحيدِ، وبما ذكرناه يزولُ الإشكالُ.
ويتبين؛ أن التوحيدَ الذي في الجنةِ أكملُ من التوحيدِ الذي في الدنيا وهو
جزاءٌ له، وكذلكَ المعرفةُ والمحبةُ والشوقُ أيضًا، فقد جاءَ في بعضِ أحاديثِ
يومِ المزيدِ: أنَّهم ليسُوا إلى شيءٍ أشوقَ منهم إلى يومِ الجمعةِ، وسبب بهذا
الغلطِ الذي أشرنَا إليه من قولِ من قالَ:
إنَّ العارفينَ لا يشتاقونَ إلى اللَّهِ عز وجل في الدُّنيا لأنَّهم يشهدونهُ بقلوبِهِم حاضرًا، وتباشرُ قلوبَهُم أنوارُه ويتجلَّى لها فيستأنسونَ بِهِ ويطمئنونَ إليهِ. وهذا؛ وإنْ كانَ نُقِلً عن بعضِ السلفِ المتقدمينَ فهو أيضًا غلطٌ، ولعلَهُ صدرَ من قائِلهِ في حالِ استغراقهِ في مشاهدة ما شاهدَهُ فظنَّ أنه ليسَ وراءَ ذلك مطلبٌ، وهذا كما قالَ بعضُهم:
"إنه تمرُّ بي أوقاتٌ أقولُ: إنْ كانَ أهلُ الجنةِ في مثلِ ما أنا فيه، إنَّهم لِفي
عيشٍ طيب ".
ومعلومٌ أنَّ أهلَ الجنةِ في أضعافِ أضعافِ ما هو فيه من النعيم واللذةِ.
ولكنَّه لما استعظمَ ما حصلَ له من النعيم ظنَّ أنه ليس وراءَهُ شيءٌ، وعند
التحقيقِ يتبينُ أنَّ ما حصلَ في الدنيا للقلوبِ من تجلِّي أنوارِ الإيمان يدلُّ على
عظمةِ ما يحصلُ في الجنةِ، وليسَ بينهما نسبةٌ فيتزايدُ بذلكَ الشوقُ إلى ما
وراءَه، ولهذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسألُ ربه الشوقَ إلى لقائِهِ، مع أنَّه أَكملُ الخلقِ مشاهدةً ومعرفةً، وكانَ يقولُ في الوصالِ:
"إني لستُ كهيئتكُمْ، إنِّي أظَل عِندَ ربِّي يُطعمُني ويسقِيني ".(2/61)
ويشيرُ إلى ما تجلَّى لقلْبه من آثارِ القرب والأنسِ بما
يقوِّيةِ ويغذِّيهِ ويُغْنِيهِ عنِ الطعامِ والشرابِ. ً
* * *
وإنَّما شرعَ اللَهُ إقامَ الصَّلاةِ لذكرِه، وكذلكَ الحجَّ والطَّوافَ.
وأفضلُ أهلِ العباداتِ: أكثرهم للَّهِ ذكرًا فِيها، فهذا كلُّه ليسَ من الدنيا المذمومةِ، وهو المقصودُ من إيجادِ الدُّنيا، وأهلِها، كمَا قال تعالى:
(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) .
وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاءِ والصُّوفيَّةِ أنَّ ما يُوجدُ في الدنيا من هذه
العباداتِ أفضلُ ممَّا يُوجدُ في الجنَّة مِنَ النَّعيم، قالُوا: لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حظُّ
العبدِ، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد.
وهذا غلطٌ، ويقوِّي غلطهم قولُ كثيرٍ منَ المفسِّرين في قوله تعالى:
(مَن جَاءَ بِالحسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِّنْهَا) ، قالُوا: الحسنةُ: لا إله إلا اللَّه، وليس
شيء خيرًا منها. ولكن الكلام على التَّقديم والتَّأخير.
والمراد: فله منها خيرٌ، أي: له خيرٌ بسببها ولأجلها.
والصَّوابُ: إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتابِ والسنةِ، أنَّ الآخرةَ خيرٌ
منَ الأُولى مطلقًا.
وفي "صحيح الحاكم " عن المُستوردِ بن شدَّادٍ، قالَ: كنَّا عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكرُوا الدُّنيا والآخرةَ، فقالَ بعضُهم: إنَّما الدنيا بلاغٌ للآخرةِ، -(2/62)
وفيها العملُ، وفيها الصَّلاةُ، وفيها الزكَاةُ.
وقالتْ طائفةٌ منهم: الآخرةُ فيها الجنَّةُ، وقالوا ما شاءَ اللَّهُ.
فقالَ رسولُ اللَّه، - صلى الله عليه وسلم -:
"ما الدُّنيا في الآخرةِ إلا كما يمشي أحدُكم إلى اليمِّ، فأدخلَ أصبعَهُ فيه، فما خرجَ منه فهو الدّنيا".
فهذا نصٌّ بتفضيلِ الآخرةِ على الدُّنيا، وما فيها من الأعمالِ.
ووجه ذلك: أنَّ كمالَ الدُّنيا إنما هو في العلم والعملِ، والعلمُ مقصودُ
الأعمالِ، يتضاعفُ في الآخرةِ بما لا نسبةَ لما في الدّنيا إليه، فإنَّ العلمَ أصلُه
العلمُ باللهِ وأسمائهِ وصفاتهِ، وفي الآخرةِ ينكشفُ الغطاءُ، ويصيرُ الخبرُ
عيانًا، ويصيرُ علمُ اليقينِ عينَ اليقينِ، وتصيرُ المعرفةُ باللَّهِ رؤيةً له ومشاهدةً.
فأينَ هذا مما في الدنيا؟
وأما الأعمالُ البدنيةِ، فإن لها في الدنيا مقصدينِ:
أحدهما: اشتغالُ الجوارح بالطَّاعةِ، وكدُّها بالعبادةِ.
والثاني: اتِّصالُ القلوبِ باللَّه وتنويرُها بذكرِه.
فالأولُ؛ قد رُفعَ عن أهلِ الجنَّة، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همّوا بالسجودِ للَّه
عند تجلِّيه لهُم يقالُ لهم:
ارفعوا رؤوسكُم فإنَّكم لسْتُم في دارِ مجاهدةٍ.
وأما المقصودُ الثاني؛ فحاصل لأهلِ الجنَّةِ على أكملِ الوُجُوه وأتمِّها، ولا
نسبةَ لما حصلَ لقلوبِهِم في الدُّنيا من لطائفِ القُرْبِ والأنسِ والاتًّصالِ إلى ما
يُشاهدونه في الآخرةِ عيانًا، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرب اللَّهِ.
ورؤيته " وسماع كلامهِ، لا سيَّما في أوقاتِ الصلوات في الدّنيا، كالجُمع
والأعيادِ، والمقرَّبون منهم يحصُلُ ذلك لهم كلَّ يوم مرَّتينِ بكرةً وعشيًا في
وقتِ صلاةِ الصبح وصلاةِ العصرِ.(2/63)
ولهذا، لمَّا ذكَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهلَ الجنةِ يرونَ ربَّهم، حضَّ عقيبَ ذلكَ على المحافظةِ على صلاةِ العصرِ وصلاة الفجرِ؛ لأنَّ وقتَ هاتين الصَّلاتينِ وقتٌ لرؤيةِ خواصِّ أهلِ الجنةَ ربَهم وزيارتهم لهُ، وكذلكَ نعيمُ الذِّكرِ وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهُم أبدًا، فيُلهمونَ التَّسبيحَ كَما يُلهمونَ النَّفسَ.
قال ابنُ عيينة: لا إله إلا اللَّه لأهلِ الجنَّةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدُّنيا.
فأينَ لذَّةُ الذكَرِ للعارفينَ في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم بهِ في الجنَّةِ؟!.
فتبيَّن بهذا أن قولَهُ تعالَى:: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منْهَا) .
على ظاهرِه، فإنَّ ثوابَ كلمةِ التَوحيدِ في الدُّنيا أن يصِلَ صاحبُها إلى قولها
في الجنَّةِ على الوجهِ الذي يختصُّ به أهلُ الجنَّةِ.
وبكلِّ حال، فالذي يحصُلُ لأهلِ الجنة مِن تفاصيلِ العلم باللَّه وأسمائهِ
وصفاتهِ وأفعالهِ، ومن قُربهِ ومشاهدتِهِ ولذةِ ذكرِه هو أمرٌ لا يمكنُ التَّعبيرُ عن
كُنْهِهِ في الدُّنيا، لأنَّ أهلَها لم يُدركوه على وجهِهِ، بل هو ممَّا لا عينٌ رأتْ.
ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، واللَّهُ تعالى المسئول أن لا يحرمنا
خير ما عنده بشر ما عندنا، بمنِّه وكرمِه ورحمته، آمين.
* * *(2/64)
سُورَةُ القَصَصِ
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، وفي الآية التي تليها
(أَفَلا تبْصِرُونَ) ، قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل والإبصار
عند ذكر النهار؛ لأن الإنسان يدرك سمعه في الليل أكثر من إدراكه بالنهار.
ويرى بالنهار أكثر مما يرى بالليل.
قال المبرد: سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لمَنْ آمَنَ) :
قال: إيثار(2/65)
ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم.
ومن آثر العاجل على الآجل فليس بعالم.
* * *
قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
مدحَ اللَّهُ تعالَى في كتابِه منْ لا يُريدُ العلوَّ في الأرضِ ولا الفسادَ، فقالَ:
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) .
وروى ابنُ جريرٍ بإسنادٍ فيه نظر عن على - رضي الله عنه -، قالَ: إنَّ الرجلَ ليعجبهُ من شراكِ نعلهِ أن يكونَ أجودَ من شراكِ صاحبهِ، فيدخلَ في قولهِ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) .
وكذا رُويَ عن الفضيلِ بنِ عياضٍ في هذه الآيةِ.
قالَ: لا يُحِبُّ أن يكونَ نعلُه أجودَ من نعلِ غيرِه، ولا شراكُهُ أجودَ مِنْ
شراك غيره.
وقد قيل: إن هذا محمولٌ على أنه أرادَ الفخرَ على غيرِه لا مجرَّدَ
التجملِ، قال عكرمةُ وغيرُه من المفسرينَ في هذه الآيةِ: العلوُّ في الأرضِ:
التكبُّر، وطلبُ الشرفِ والمنزلةِ عندَ ذي سلطانِها.
والفسادُ: العملُ بالمعاصِي.
وقد وردَ ما يَدُلُّ على أنه لا يأثمُ مَنْ كره أن يفوقَه أحد من الناس في
الجمالِ، فخرَّج الإمامُ أحمدُ - رحمه اللَّه - والحاكم في "صحيحهِ " من(2/66)
حديث ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعندُه مالكُ بنُ مرارةَ الرَّهاويُّ، فأدركتُه وهو يقولُ: يا رسول اللَّه، قد قُسمَ لي من الجمالِ ما ترى، فما أحبُّ أحدًا من النَّاسِ فضلني بشِراكين فما فوقَهُما، أليسَ ذلكَ هو من البغي؟
فقالَ: "لا، ليسَ ذلك بالبغْي، ولكنَّ البغيَ مَنْ بطرَ - أو قال: سفه - الحقَّ وغمط الناسَ ".
وخرَّج أبو داود من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه، وفي حديثه: " الكبرُ " بدل " البغى ".
فنفى أن تكونَ كراهتُه لأن يفوقَهُ في الجمالِ بغيًا أو كبرًا، وفسَّر الكبرَ
والبغيَ ببطرِ الحقِّ، وهو التكبُّر عليه، والامتناعُ من قبوله كبرًا إذا خالفَ
هواهُ.
ومن هنا قالَ بعض - السلفِ: التواضعُ: أن تقبلَ الحقَّ من كلِّ من جاءَ به، وإن كانَ صغيرًا، فمن قبلَ الحقَّ ممَّن جاءَ به، سواءٌ كانَ صغيرا أو كبيرًا
وسواءٌ كان يحبُّه أو لا يحبُّه، فهو متواضعٌ، ومن أبى قبُولَ الحقِّ تعاظُمًا
عليه، فهو متكبِّرٌ.
وغمصُ الناسِ: هو احتقارُهم وازدراؤُهم، وذلك يحصُلُ
مِنَ النَّظرِ إلى النَّفسِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيرهِ بعينِ النَّقصِ.
* * *(2/67)
سُورَةُ الرُّومِ
قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
قالت بعضُ العارفاتِ من السلف: مَنْ عملَ للهِ على المُشاهدةِ، فهو
عارفٌ، ومن عملَ على مشاهدةِ اللَّه إَيَّاه فهو مخلصٌ.
فأشارتْ إلى المقامينَ اللذين تقدَّم ذكرهُما:
أحدَهما: مقامُ الإخلاصِ، وهو: أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مُشاهدةِ
اللَّهِ إياهُ، واطّلاعِهِ عليهِ، وقربِهِ منهُ، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عملِهِ.
وعَملَ عليه، فهو مخلص للَّه، لأنَّ استحضارَهُ ذلكَ في عملهِ يمنعُهُ من
الالتفاتِ إلى غيرِ اللَّه وإرادتِهِ بالعملِ.
والثاني: مقامُ المشاهدةِ، وهو: أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدتِهِ للَّهِ
تعالى بقلبِهِ، وهو أن يتنوَّرَ القلبُ بالإيمانِ، وَتَنْفُذُ البصيرةُ في العرفان، حتَّى
يصيرَ الغيبُ كالعيانِ.
وهذا هو حقيقةُ مقامِ الإحسانِ المشارِ إليه في حديثِ جبريلَ عليه السلامُ.
ويتفاوت أهلُ هذا المقامِ فيه بحسبِ قوةِ نفوذِ البصائرِ.
وقد فسَّر طائفةٌ مِنَ العُلماءِ المثلَ الأعْلى المذكورَ في قولهِ عزَّ وجل: (وَلَهُ
الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، بهذا المعنى، ومثلُه: قولُه تعالى:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ،(2/68)
والمرادُ: مثلُ نورِه في قلبِ المؤمنِ، كذا قاله أُبيُّ بنُ كعبٍ وغيرُه منَ السَّلف.
وقد سبقَ حديثُ: "أفضلُ الإيمانِ أن تعلمَ أنَّ اللَّه معكَ حيثُ كنت ".
وحديثُ ما تزكيةُ المرءِ نفسه؛، قال:
"أن يعلمَ أنَّ اللَّهَ معه حيثُ كانَ ".
وخرَج الطبرانيُّ من حديثِ أبي أُمامةَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة في ظلِّ اللَّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: رجل حيثُ توجَّه عَلِمَ أنَّ اللَّه معه "، وذكر الحديث.
وقد دلَّ القرآنُ على هذا المعنى في مواضِعَ متعدده، كقوله تعالى:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .
وقولِه تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كنتُمْ) .
وقولِه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) .
وقولِه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) .
وقولِه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) .
وقولِه: (وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) .
* * *
وبهذا فُسِّر المثلُ الأعلَى المذكورُ في قولهِ تعالى:
(وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) .(2/69)
ومثلُه: قولُه تعالى: (
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) .
قال أبيُّ بنُ كعبٍ وغيرُه من السلفِ: مَثَلُ نورِه في قلبِ المؤمنِ.
فمن وصلَ إلى هذا المقامِ فقد وصلَ إلى نهايةِ الإحسانِ، وصارَ الإيمانُ
لقلبهِ بمنزلةِ العيانِ، فعرفَ ربَّه، وأنسَ به في خلوتهِ، وتنعَّمَ بذكره ومناجاتهِ
ودعائه، حتَّى ربَّما استوحشَ من خلقهِ.
كما قالَ بعضُهم: عجبتُ للخليقة، كيفَ أنستْ بسواكَ؟!
بل عجبتُ للخليقةِ كيف استنارت قلوبُها بذكرِ سواك؟!.
وقيلَ لآخرَ: أما تستوحشُ؟
قال: كيفَ أستوحشُ، وهو يقولُ: أنا جليسُ من ذكرني؟!.
وقيل لآخرَ: أما تستوحشُ وحدَك؟
قالَ: ويستوحشُ مع اللَّهِ أحدٌ؟!
وكان حبيب أبو محمدٍ يخلُو في بيتِهِ، ويقولُ: من لم تقرَّ عينُه بكَ فلا
قرَت عينُه، ومن لمْ يأنسْ بكَ فلا أنسَ.
وقال الفضيلُ: طوبَى لمن استوحشَ من الناسِ وكان اللَّه جليسَه. "
وقال معروفٌ لرجلٍ: توكلْ على اللَّهِ، حتَّى يكونَ جليسَك وأنيسَك
وموضعَ شكواكَ.(2/70)
وقال ذو النونِ: علامةُ المحبينَ للَّهِ: أن لا يأنسُوا بسواهُ، ولا يستوحشُوا
معهُ، ثم قالَ: إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللَّه أنسَ باللَّه؛ لأن اللَّهَ أجلُّ في
صدورِ العارفينَ أن يحبُّوا غيرَه.
* * *
ثبتَ في "الصحيحينِ " و"السننِ " و"المسانيدِ" من غيرِ وجه أن جبريلَ -
عليه السلامُ - سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسانِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"الإحسانُ: أنْ تعبدَ اللَّهَ كأنكَ تراهُ، فإن لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ ".
وقال بعضُ العارفينَ من السلف: "منْ عملَ للَّهِ على المشاهدةِ فهو عارف.
ومنْ عملَ على مشاهدةِ اللَّهِ إياه فهو مخلِصٌ".
فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاصُ، وهو أن يعملَ العبدُ على استحضارِ
مشاهدةِ اللَّهِ إياه، واطلاعِهِ عليه وقربِهِ منه، فإذا استحضَر العبدُ ذلكَ في
عملِهِ، وعملَ على هذا المقامِ فهو مخلصٌ للَّه، لأنَّ استحضارَهُ ذلكَ يمنعُهُ من
الالتفاتِ إلى غيرِ اللَّهِ وإرادتهِ بالعملِ.
والثاني: المعرفةُ التي تستلزمُ المحبةَ الخاصةَ، وهو: أن يعملَ العبدُ على
مشاهدةِ اللَّهِ بقلبهِ، وهو أنْ يتنورَ قلبُه بنورِ الإيمانِ وتنفذَ بصيرتُه في العرفانِ.
حتَّى يصيرَ الغيبُ عنده كالعيانِ، وهذا هو مقامُ الإحسانِ المشارُ إليه في
حديثِ جبريلَ - عليه السلامُ -، ويتفاوتُ أهلُ هذا المقامِ فيه بحسبِ قوةِ نفوذِ البصائرِ.
وقدْ فسَّرَ طائفة من العلماءِ المثلَ الأعلى المذكورَ في قولِهِ تعالى:(2/71)
(وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، بهذا
ومثلُه قولُه تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَل نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) الآية، وقد فسَّرها أبيُّ ابنُ كعبٍ وغيرُه من السلفِ بأنَّ المرادَ:
مثلُ نورِ اللَّهِ في قلبِ المؤمنِ.
ومِن هذا حديثُ حارثةَ المشهورُ لما قالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "وكأنَّي أنظر إلى عرشِ ربِّي بارِزًا؛ وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنةِ يتزاورونَ فيها، وإلى أهلِ النارِ يتعاوونَ فِيها" فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"عرفتَ فالزمْ، عبدٌ نوَّرَ اللَهُ الإيمانَ في قلبهِ ".
وهذا الحديثُ مروي مرسلاً، ورُويَ مسندًا متَّصِلاً لكن من وجوهٍ ضعيفةٍ.
وخطبَ عروةُ إلى ابنِ عمرَ ابنتَهُ وهما في الطوافِ فلم يجبْهُ بشيءٍ، ثم رآهُ
بعدَ ذلك فاعتذرَ إليه وقال: "كنَا فى الطوافِ نتخايلُ اللَّه بين أعينِنا".
خرَّجَّهُ أبو نُعيمٍ وغيرُه.
ويتولَّدَ من هذينِ المقامينِ للعارفينَ مقامُ الحياءِ من اللَّهِ - عز وجل -، وقد
أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلكَ في حديث بهزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جده أنه سئلُ عن كشفِ العورةِ خاليًا؟
فقال: "اللهُ أحَقُّ أنْ يُستحيَا منهُ "
وقد ندبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى دوامِ استحضارِ معيةِ اللَّهِ وقربِهِ وإلى الحياء منه بذلكَ في غيرِ حديثٍ.
كما دلَّ عليه قولُه تعالى: (وَهُوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كَنتُمْ) الآية.
وقوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) .
وخرَّج البزار من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن معاويةَ الغاضريِّ أنَّ رجلاً قالَ:(2/72)
يا رسولَ اللَّهِ، ما تزكيةُ المرءِ نفسَهُ؟
قالَ: "أن يعلمَ أنَّ اللَّه حيثُ كانَ معهُ ".
وخرجَ الطبرانيُّ من حديثِ عبادةَ بنِ الصامتِ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أفضلُ الإيمانِ: أنْ تعلمَ أنَّ اللَّه معكَ حيثُ كنتَ".
وبإسناد فيه نظرٌ من حديثِ أبي أمامةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ثلاثةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ تعالى يوْم لا ظل إلا ظلُّهُ:
رجُلٌ حيثُ توجَّهَ علمَ أنَّ اللَّه معهُ " إلخ.
ومن حديثِ سعيدِ بنِ يزيدَ الأزدي أنه قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني، قال: "أُوصِيكَ أنْ تستَحِي منَ اللَّه كمَا تستَحِي رَجُلاً صالحًا مِنْ صالحِي قومِكَ ".
ورويناه بإسناد فيه ضعفٌ من حديثِ أبي أمامةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتَحِ مِنْ اللَّه استحياؤُكَ مِنْ رجُلينِ مِنْ صالحِي عشيرتكَ هُما معكَ لا يُفارقانِكَ ".
* * *
قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
[قال البخاري] : باب: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)(2/73)
فأمره بإقامةِ وجهِهِ، وهو إخلاصُ قصدِه وعزمِه وهمِّه للدينِ الحنيفِ، وهوَ
الدينُ القيِّم، وهو فطرةُ اللَّهِ التي فطرَ العبادَ عليها، فإنَّ اللَّهَ ركَب في قلوبِ
عبادِه كلِّهم قبولَ توحيدِه والإخلاصِ لَه، وإنَّما يغيرهم عن ذلك تعليمُ منْ
علمهم الخروج عنه.
ولمَّا كان الخطابُ له - صلى الله عليه وسلم - لم تدخل فيه أمتُهُ معه قالَ بعدَ ذلكَ: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، فجعلَ ذلكَ حالاً له ولأمتِهِ، وهو إنابتُهُم إليه.
ويعني به: رجوعَهم إليهِ، وأمرهم بتقواه، والتقوى تتضمنُ فعلَ جميع الطاعاتِ وتركَ المعاصِي والمخالفاتِ.
وخصَّ من ذلكَ إقامَ الصلاةِ، فلم يذكرْ من أعمالِ الجوارح باسمِهِ الخاصِ
سواها، والمرادُ بإقامتها: الإتيانُ بها قائمةً على وجهِها التامِّ، وفي ذلكَ دليلٌ
على شرَفِ الصلاةِ وفضلها، وأنها أهمُّ أعمالِ الجوارح.
ومن جملة إقامتِهَا المأمورِ به: المحافظةُ على مواقيتِهَا، فمن صَلَّى الصلاةَ
لغير مواقيتِهَا التي وَقَّتها اللَهُ فلم يُقم الصلاةَ، بل ضيَّعها وفرَّط فيها وسَها
عنها.
قال ابنُ عبَّاسٍ في قوله تعالى: (الَّذِينَ يقِيمونَ الصَّلاةَ) .
قال: يقيمون الصلاةَ بفرضِهَا.
وقال قتادة: إقامةُ الصلاةِ؛ المحافظةُ على مواقيتها ووضوئِها،(2/74)
ورُكُوعِها وسجُودِها.
وقال مُقاتل بنُ حيَّان: إقامتُها: المحافظةُ على مواقيتِهَا، وإسباغُ الطهورِ
فيها، وتمامُ ركوعِها وسجودِها، وتلاوةُ القرآنِ فيها، والتشهدُ، والصلاةُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهذا إقامتُها.
خرَّجه كلَّه ابنُ أبي حاتمٍ.
ولهذا مدَحَ سبحانهُ الذين هُم على صلاتِهم يحافظونَ والذينَ هم على
صلاتِهم دائمونَ، وقد فسَّره ابنُ مسعودٍ وغيرُه بالمحافظةِ على مواقيتهَا، وفسَّره بذلك مسروق والنخعيُّ وغيرُهما.
وقيل لابنِ مسعودٍ: إن اللَّهَ يكثر ذكرَ الصلاةِ في القرآنِ: (الَّذينَ هُمْ عَلَى
صَلاتِهِم دَائِمونَ) ، و (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) ؟
قال: ذاكَ على مواقيتِها.
قيل لهُ: ما كنَّا نرَى ذلكَ إلا على تركها؟
قال: تركُها الكفرُ.
خرَّجه ابنُ أبي حاتم ومحمدُ بنُ نصرٍ المروزي وغيرُهما.
وكذلك فسَّرَ سعدُ بنُ أبي وقاص ومسروق وغيرُهما السَّهوَ عن الصلاةِ
بالسهوِ عن مواقيتها.
ورُويَ عن سعدٍ مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ.(2/75)
قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
قال اللَّهُ تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) .
وقالَ تعالى: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) .
قال بعضُ السلفِ: في القبرِ، يعني: أن العملَ الصالحَ يكونُ مِهَادًا
لصحابِه في القبرِ، حيث لا يكونُ للعبدِ من متاع الدنيا فراشٌ ولا وسادٌ ولا
مهادٌ، بل كلُّ عاملٍ يفترشُ عملَهَ ويتوسَّده من خير أو شرٍّ.
* * *(2/76)
سُورَةُ لُقْمَانَ
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)
فأمَّا تحريمُ الغناءِ: فقد استُنبطَ من القرآنِ من آياتِ متعدّدة.
فمن ذلكَ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية.
قالَ ابن مسعود - رضي الله عنه -: هوَ - واللَّهِ - الغناء.
وقال ابنُ عباسِ: هو الغناءُ وأشباهُه، وفسَّره أيضًا بالغناءِ خَلقٌ من التابعينَ منهُم: مجاهد وعكرمةُ والحسنُ وسعيدُ بنُ جبير وقتادةُ والنَّخعيُ وغيرُهم، وقال مجاهد في قولِهِ تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ) :
قالَ: الغناءُ والمزاميرُ.
وقالَ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - في قولِهِ تعالى: (وَأَنتُمْ سَامِدُونَ)
قال: هو الغناءُ - بالحِمْيَريةِ.
وقال بعضُ التابعينَ في قولِهِ تعالى: (وَإِذَا مَروا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)
قالَ: إن اللغوَ هنا: الغناءُ.
وعن أبي أمامَة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا تبيعُوا القَيْناتِ، ولا تشتروهُنَّ، ولا تُعلموهُنَّ، ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهُن حَرامٌ.
في مثلِ هذا أنزلت هذه الآيةُ: (وَمِنَ الناسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيتِ) الآية".(2/77)
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من روايةِ عبيْدِ اللَّهِ بن زحر عن عليِّ بن يزيد
عن القاسم عن أبي أمامةَ، وقال: قد تكلمَ بعضُ أهلِ العلمِ في عليِّ بنِ يزيدَ
وضعَّفهُ، وهوَ شاميّ.
وذكرَ في كتابِ "العللِ " أنه سَأل البخاريَّ عن هذا الحديثِ فقالَ:
عليٌّ بنُ يزيدَ ذاهبُ الحديثِ، ووثّقَ عبيدَ اللَّهِ بنَ زحرٍ والقاسمَ
ابنَ عبدِ الرحمنِ، وخرَّجه محمدُ بنُ يحيى الهمذانيُّ الحافظُ الفقيهُ الشافعيّ
في "صحيحِهِ "، وقالَ: عبيدُ اللَّهِ بن زحر: قال أبو زرعةَ: لا بأسَ به صَدوقٌ.
قلتُ: عليٌّ بنُ يزيدَ لم يتفقوا علي ضَعْفِهِ.
بل قالَ فيه أبو مُسْهرٍ - وهوَ من بلدِهِ وهو أعلمُ بأهلِ بلدِهِ من غيرِهِم -
قالَ فيه: ما أعلمُ فيه إلا خيرًا.
وقال ابنُ عديً: هو في نفسهِ صالحٌ، إلا أنْ يروي عنه ضعيفٌ فيُؤتَى من قبلِ
ذلكَ الضعيفِ.
وهذا الحديثُ قد رواه عنه غيرُ واحدٍ من الثقاتِ.
وقد خرَّجَ الإمامُ أحمدُ من روايةِ فرج بنِ فضالةَ عن علي بنِ يزيدَ عن القاسم عن أبي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن اللَّه بعثَني رحمةً وهدًى للعالمينَ، وأمرَني أن أمحقَ المزاميرَ والبرابِطَ والمعازفَ والأوثانَ ":
وذكرَ بقيةَ الحديثِ، وفي آخرِه: "ولا يحلُّ بيعُهُنَّ، ولا شراؤهن، ولا تعليمُهن، ولا تجارةٌ فيهنَّ، وثمنُهنَ حرامٌ".
يعني: الضاربات.
وفرجُ بنُ فضالةَ مختلفٌ فيه أيضًا.
ووثقه الإمامُ أحمدُ وغيرُه.
وخرَّجَ الإسماعيليُّ وغيرهُ، من حديث عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ثمنُ المغنيةِ حرامٌ، وغناؤُها حرامٌ " َ.
وإسنادُه كلُّهم ثقاتٌ متفقٌ عليهِم.
سوى يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ النوفليِّ.
فإنه مُختلفٌ في أمرِه.
وخرَّجَ حديثَه هذا محمدُ بنُ يحيى الهمذاني في صحيحهِ وقال: في النفسِ منْ يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ.(2/78)
مع أن ابن معين قالَ: ما كانَ به بأسٌ.
وبوَبَ الهمذانيُ هذا في "صحيحِهِ " على: تحريمِ بيع المغنياتِ وشرائِهنَّ.
وهو من أصحابِ ابنِ خزيمةَ
وكانَ عالمًا بأنواع العلومِ. وهو أولُ منْ أظهرَ مذهبَ الشافعيِّ بهمذانَ واجتهدَ في ذلكَ بمالِهِ ونفسِهِ.
وكانَ وفاتُه سنةَ سبع وأربعينَ وثلاثمائةٍ - رحمه اللَّه تعالى -.
وخرَّجَ في بابِ تحريمِ ثمنِ المغنيةِ من روايةِ أبي نعيم الحلبيِّ عن ابنِ
المباركِ عن مالكٍ عن ابنِ المنكدرِ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من قعدَ إلى قينةٍ يستمعُ منها، صُبَّ في أذنيهِ الآنُكُ يومَ القيامةِ".
وقال: أبو نُعيمٍ الحلبيُّ اسمه عبيدُ بنُ هشامٍ.
قلتُ: قد وثقه أبو داودَ وقالَ: إنه تغيَّر بآخرةٍ.
وقد أنكرَ عليه أحاديثَ تفردَ بها، منها هذا الحديثُ.
وفي النهي عن بيع المغنياتِ أحاديثُ أُخرُ عن عليٍّ وعائشةَ - رضي الله عنهما - وغيرِهما، وفي أسانيدِهَا مقالٌ.
وروى عامرُ بنُ سعدٍ البجليُّ قال: دخلتُ على قرظةَ بنِ كعبٍ وأبي مسعودٍ
الأنصاريِّ في عُرْس، فإذا جواري يتغنينَ، فقلتُ: أنتم أصحابُ محمدٍ وأهلُ
بدر، ويُفعلُ هذا عندكُم؟!
قال: اجلسْ إن شئْتَ واسمعْ، وإن شئتَ فاذهبْ؛ فإنَّه قد رُخِّصَ لنا في اللهوِ عندَ العرسِ.
خرَّجَه النسائيُّ والحاكم وقال: صحيح على شرطِهما.
والرخصةُ في اللهوِ عند العرسِ تدلُّ على النهيِّ عنهُ في غيرِ العُرسِ، ويدل
عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - المتفقِّ عليه في "الصحيحينِ:
" لمَّا دخلَ عليها وعندَها جاريتانِ تغنيانِ وتدفانِ.
فانتهرهُما أبو بكر الصِّديقُ - رضي الله عنه -،(2/79)
وقالَ: مَزمورُ الشيطانِ عندَ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟!
فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "دعهُما، فإنها أيامُ عيدٍ".
فلم يُنكرْ قولَ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -.
وإنّما علَّل الرخصةَ بكونهِ في يومِ عيدٍ؛ فدلَّ على أنَّه يُباح في أيامِ
السرورِ: كأيامِ العيدِ، وأيامِ الأفراح: كالأعراسِ وقدومِ الغُيَّابِ، ما لا يُباحُ في غيرِها من اللهوِ.
وإنما كانتْ دفوفُهم نحوَ الغرابيلِ وغناؤُهم بإنشادِ أشعارِ
الجاهليةِ في أيامِ حروبهِم وما أشبهَ ذلكَ.
فمن قاسَ على ذلكَ سماعَ أشعارِ الغزلِ مع الدفوفِ المصلصلةِ، فقدْ أخطأ
غايةَ الخطأ، وقاسَ مع ظهورِ الفرقِ بين الفرع والأصلِ.
وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
" الغناءُ يُنبتُ النفاقَ في القلبِ، كما ينبتُ الماءُ البقل ".
وقد رُوي عنه مرفوعًا.
خرَّجَه أبو داود في بعضِ نسخ السنن.
وخرَّجَه ابنُ أبي الدنيا والبيهقيُّ وغيرُهما.
وفي إسنادِ المرفوع من لا يُعرفُ، والموقوفُ أشبهُ.
وأما تحريمُ آلاتِ الملاهِي: فقد تقدَّم عن مجاهدٍ أنَّه أدخلَها في صوتِ
الشيطانِ المذكورِ في قولِ اللَّهِ تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهم بِصَوْتِكَ) .
* * *(2/80)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
وأما قول جبريلَ: "أخبرني عن الساعةِ؟
فقال: ما المسئولُ عنها بأعلمَ منَ السائلِ ".
فمعناه: أن الناسَ كلَّهم في وقتِ الساعةِ سواءٌ، وكلّهم غيرُ عالمينَ به على
الحقيقةِ.
ولهذا قال: "خمسٌ لا يعلمُهنَّ إلا اللَهُ "، ثم تلا: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)
الآية.
وهذه مفاتيحُ الغيبِ، الذي لا يعلمُها إلا اللَّهُ.
وقد جاءَ عن ابنِ مسعود:
"أن نبيَّنا أوتِيَ علمَ كلِّ شيءٍ سوى هذه الخمسِ".
ورُوي ذلك مرفوعًا من حديثِ ابنِ عمرَ.
وكلاهُما في "مسندِ الإمامِ أحمدَ".
وذُكرَ عندَ عَمرِو بنِ العاصِ العلمُ بوقتِ الكسوفِ قبلَ ظهورهِ، فأنكرهُ
بعضُ مَن حضرَه، فقال عَمرو: إنمَا الغيبُ خمسٌ، ثم تلا هذه الآيةَ.
قال: وما سوى ذلك يعلمُه قومٌ ويجهلُه قومٌ.
خرَّجَه حميدُ بنُ زنجويهِ.
وقد زعمَ بعضُهم كالقرطبيِّ، أن هذه الخمسَ لا سبيلَ لمخلوقٍ إلى علم بها(2/81)
قاطع، وأما الظنُّ بشيءٍ منها بأمارةٍ قد يخطئ ويصيبُ، فليسَ ذلكَ بممتنع.
ولا نفيه مراد من هذه النصوص.
* * *(2/82)
سُورَةُ السَّجْدَة
قوله تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)
وقولُه تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِهِ) .
والمرادُ بالإنسانِ: آدمُ - عليه السلامُ -، ومعلوم أنَّ تسويتَهُ، ونفخَ الرُّوح فيهِ، كان قبلَ جعلِ نسلِهِ من سُلالة من ماء مهينٍ، لكنْ لما كانَ المقصودُ ذكرَ قدرةِ اللهِ عزَ وجلٌ في مبدأ خلقِ آدمَ وخلقِ نسلِهِ، عطفَ ذكرَ أحدِهِما على الآخرِ، وأخَّر ذكرَ تسويةِ آدمَ ونفخ الروح فيه، وإن كانَ ذلك متوسطا بين خلقِ آدمَ من طينٍ وبينَ خلقِ نسلِهِ. واللهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
عنْ مُعاذ - رضي الله عنه - قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّه، أخبرنِي بعمل يُدخلُنِي الجنَّةَ ويُباعِدُنِي منَ النَّارِ.(2/83)
قالَ: "لقدْ سألتَ عنْ عظيمٍ، وإنهُ ليسيرٌ على من يسرهُ اللَّه عليه:
تعبدُ الله لا تُشركُ بهِ شيئًا، وتقيمُ الصلاةَ، وتؤتِي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ ".
ثُمَّ قالَ: "ألا أدُلكَ على أبوابِ الخيرِ؛ الصَّومُ جُنَّة والصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جوفِ الليلِ، ثُمَّ تَلا:
(تَتَجَافَى جُنُوبهمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتى بلغ: (يَعْمَلُونَ) ".
ثم قالَ: "ألا أخبرُكَ برأسِ الأمرِ وعمودِه وذروةِ سنامِه؟ ".
قُلتُ: بلى يا رسولَ الله.
قال: " رأسُ الأمرِ: الإسلامُ، وعمودُهُ: الصلاةُ، وذروةُ سنامِهِ: الجهادُ ".
ثُمَّ قالَ: "ألا أُخبركَ بملاكِ ذلكَ كلِّهِ؟ ".
قُلتُ: بلى يا رسولَ اللَّه.
فأخذَ بلسانهِ، قالَ: "كُفَّ عليكَ هذَا".
قُلتُ: يا نَبِيَّ الله، وَإِنَّا لمؤُاخذُونَ بما نتكلَّمُ بهِ؟.
فقال: "ثكلتْكَ أُمُّكَ، وهل يكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ على وجوهِهِم، - أوْ على
مناخرهِم - إلا حصائِدُ ألسنتهِم ".
رواهُ الترمذيُّ وقالَ: حديثٌ حسن صحيحٌ.
هذا الحديثُ، خرَّجَه: الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابنُ ماجةَ.
من روايةِ معمرٍ، عن عاصم بنِ أبي النجودِ، عن أبي وائلٍ، عن مُعاذِ بنِ
جبلٍ، وقالَ الترمذيُّ: "حسنٌ صحيح".(2/84)
وفيما قالهُ - رحمه اللَّهُ - نظر من وجهينِ:
أحدهما: أنَه لم يثبتْ سماعُ أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركهُ بالسِّنِّ.
وكانَ معاد بالشام، وأبو وائلٍ بالكوفةِ، وما زالَ الأئمةُ - كأحمدَ وغيرِه -
يستدلُّون على انتفاءِ السّماع بمثلِ هذا، وقد قال أبو حاتمٍ الرازىُّ في سماع أبي وائل من أبي الدرداءِ: قد أدركهُ، وكان بالكُوفةِ، وأبو الدُّردَاءِ بالشامِ - يعني: أنه لم يصحَّ له سماع منهُ.
وقد حكَى أبو زُرعةَ الدِّمشقيُّ عن قومٍ أنهم توقَّفُوا
في سماع أبي وائل من عمرَ، أو نفوه، فسماعُه من معاذ أبعدُ.
والثاني: أنَّه قد رواهُ حمَّادُ بنُ سلمةَ عن عاصمٍ بنِ أبي النَّجودِ عن شهرِ
ابن حوشب عن معاذ، خرَّجه الإمامُ أحمدُ مختصرًا، قال الدارقطني:
وهو أشبهُ بالصَّوابِ؛ لأنَّ الحديثَ معروف من رواية شهر على اختلافٍ عليه
قلت: ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف في توثيقهِ
وتضعيفه.
وقد خرَّجه الإمامُ أحمدُ من روايةِ شهرٍ عن عبدِ الرحمنِ بن غنمٍ
عن معاذ.
وخرَّجه الإمامُ أحمدَ - أيضا - من روايةِ عُروة بن النزال - أو النزالِ
ابنِ عروةَ -، وميمونِ بنِ أبي شبيب، كلاهما: عن معاذ. ولم يسمعْ عروةُ
ولا ميمونُ من معاذٍ.
وله طرق أخرى عن معاذٍ كلُّها ضعيفة.
وقولُه: "ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
يعني: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هاتينِ الآيتينِ عندَ ذكرِه فضلَ صلاةِ الليلِ، ليبيِّنَ بذلكَ فضلَ صلاةِ الليلِ.(2/85)
وقد رُويَ عن أنسٍ أن هذه الآيةَ نزلتْ في انتظارِ صلاةِ العشاءِ.
خرَّجه الترمذيُّ وصححه.
ورُويَ عنه أنه قالَ في هذه الآيةِ: كانُوا يتنفلونَ بينَ المغربِ والعشاءِ.
خرَّجه أبو داود.
ورويَ نحوُه عن بلالٍ، خرَّجه البزارُ بإسنادٍ ضعيف.
وكلُّ هذا يًدخلُ في عمومِ لفظِ الآيةِ، فإنَّ اللَّهَ مدحَ الذين تتجافَى جنوبُهم
عن المضاجع لدعائه، فيشملُ ذلكَ كل من تركَ النَّومَ بالليلِ لذكرِ اللَهِ ودُعائهِ، فيدخلُ فيه مَن صلًّى بينَ العشاءينِ، ومن انتظرَ صلاةَ العشاءِ فلم ينَمْ حتَّى يُصلِّيَهَا، لاسيَّما مع حاجتِهِ إلى النومِ ومجاهدةِ نفسهِ على تركهِ لأداءِ
الفريضةِ، وقد قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنِ انتظرَ صلاةَ العشاءِ: "إنَّكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتُمُ الصَّلاةَ".
ويدخلُ فيه من نامَ ثمَّ قامَ مِن نومه باللَّيلِ للتهجُّد، وهو أفضلُ أنواع
التطوع بالصلاةِ مطلقًا.
وربما دخلَ فيهِ من تركَ النوم عندَ طلوع الفجرِ، وقامَ إلى أداء صلاةِ
الصُّبح، لاسيما مع غلبةِ النَّوم عليهِ، ولهذا يُشرعُ للمؤذِّن في أذانِ الفجرِ أن
يقولَ في أذانهِ: الصلاةُ خيرٌ من النومِ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"وصلاةُ الرَّجُلِ من جوفِ الليلِ "
ذكرَ أفضلَ أوقاتِ التهجُّدِ بالليلِ، وهو جوفُ الليلِ.
وخرَّج النسائيُّ والترمذيُّ من حديثِ أبي أمامةَ،(2/86)
قالَ: قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟
قالَ: " جوفُ اللَّيلِ الآخرِ، ودُبرُ الصلواتِ المكتوباتِ ".
وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، ولفظُه: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: أيُّ الصلاةِ أفضلُ؟
قالَ: "جوفُ اللَّيلِ الأوسطِ ".
قالَ: أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟
قالَ: "دُبرُ المكتوباتِ ".
وخرَّج النسائيُّ من حديث أبي ذرٍّ قالَ:
سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الليلِ خير؟
قالَ: "خيرُ الليلِ: جوفُه ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي مسلمٍ قالَ: قلتُ لأبي ذرٍّ:
أيُّ قيامِ الليلِ أفضلُ؟
قالَ: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما سألْتنَي، فقالَ:
"جوفُ الليلِ الغابرِ أو نصفُ اللَّيلِ، وقليلٌ فاعلُه ".
وخرَّجهُ البزارُ، والطبرانيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، قالَ:
سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
أيُّ الليلِ أجوبُ دعوةً؟
قالَ: "جوفُ الليلِ، "
زادَ البزارُ في روايتهِ: "الآخِرِ".
وخرَّجَ الترمذيُّ من حديثِ عمرِو بنِ عبسةَ سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"أقربُ ما يكونُ الرَّبُّ من العبدِ: في جوفِ الليلِ الآخِر.
فإنْ استطعتَ أن تكونَ ممَّن يذكرُ اللَّهَ في تلكَ الساعةِ فكنْ ".
وصححهُ.
وخرَّجه الإمامُ أحمدُ، ولفظُه: قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الساعاتِ
أفضل؟(2/87)
قالَ: "جوفُ الليلِ الآخِرِ" وفي روايةٍ لهُ - أيضًا -: قالَ:
"جوفُ الليلِ الآخِرِ أجوبُه دعوة".
وفي روايةٍ له: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هل مِنْ ساعةٍ أقربُ
إلى اللَّهِ من أُخرى؟
قال: "جوفُ الليلِ الآخِرِ".
وخرَّجه ابنُ ماجةَ، وعندَهُ:
"جوفُ اللَّيلِ الأوسطِ ".
وفي روايةٍ للإمامِ أحمدَ عن عمرِو بنِ عبسةَ، قالَ:
قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هل منْ ساعةٍ أفضلُ من ساعةٍ؟
قالَ: "إنَّ اللهَ ليتدلَّى في جوفِ الليلِ، فيغفرُ، إلا ما كانَ من الشركِ ".
وقد قيلَ: إن جوفَ اللَّيلِ إذا أطلقَ فالمرادُ به: وسطُه.
وإن قيلَ: جوفُ الليلِ الآخرِ، فالمرادُ وسطُ النِّصفِ الثانِي، وهو السُّدسُ الخامسُ من أسداسِ الليلِ، وهو الوقتُ الذي ورد فيه النُّزولُ الإلهي.
* * *
وروَى عطيةُ، عن أبي سعيد، قال: إنَّ اللَّهَ خَلق جنَّة عدنٍ من ياقوتةٍ
حمراءَ، ثم قال لها: تزيَّني فتزينت، ثم قالَ لها: تكلَّمِي، فقالت: طُوبى لمن
رضيتَ عنه، ثم أطبقها وعلَّقها بالعرشِ، فهي تُفتحُ في كلِّ سحرٍ، فذلك بردُ
السحرِ. -
وعن ابن عبَّاس، قال: كان عرشُ اللَّه على الماءِ، ثم اتخذَ لنفسِه جنَّةً، ثم
اتخذَ دونها أخرى، وطبَّقهما بلؤلؤةٍ واحدةٍ لا يعلمُ الخلائقُ ما فيهما وهما
اللتانِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
وذكرَ صفوانُ بنُ عمرٍو، عن بعضِ مشايخهِ، قال: الجنةُ مائةُ درجةٍ:
أولها: درجةُ فِضةٍ، وأرضُها فِضةٌ، ومساكنُها فضةٌ، وترابها المسكُ.(2/88)
والثانية: ذهبٌ، وأرضُها ذهبٌ، وآنيتها ذهبٌ، وترابُها المسكُ.
والثالثة: لؤلؤ، وأرضُها لؤلؤ، وآنيتُها لؤلؤ، وترابُها المسكُ، وسبعٌ
وتسعونَ بعد ذلك ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ
بشرٍ، ثم تلا: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"يقولُ اللهُ عر وجلَّ: أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عين رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ".
ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرءُوا إن شئتم:
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) .
وفي "صحيح مسلمٍ" عن المغيرةِ بنِ شعبة - يرفعه:
"سألَ موسى ربَّه، قال: ياربّ، ما أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً؟
قال: هو رجل يجيءُ بعدما أُدخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ.
فيقالُ له: ادخُلِ الجنَّةَ، فيقولُ: ياربِّ، كيفَ وقد أخذَ الئاسُ منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟
فيقالُ له: أترضى أن يكون لكَ مثلُ مُلكِ ملكٍ من مُلُوكِ الدُّنيا؟
فيقولُ: رضيتُ يا ربِّ.
فيقولُ: لك ذلك ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ، فقال له في الخامسة:
رضيتُ يا ربِّ، فيقالُ: هذا لكَ وعشرةُ أمثالهِ، ولكَ ما اشتهتْ نفسُك ولذَّت عينُك، فيقولُ: رضيتُ ربِّ.
قال: فأعلاهُم منزلةً؟
قال: أولئك الذينَ أردتُ، غرستُ كرامتَهُم بيدِي، وختمتُ عليها، فلم
ترَ عينٌ ولم تسمعْ أذنٌ ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ.
قال: ومصداقُهُ في كتاب الله:
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ".
* * *(2/89)
سُورَةُ الأحْزَاب
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
كانت مجالسُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه عامتُها مجالسَ تذكيرٍ باللَّهِ وترغيبٍ وترهيبٍ، إمَّا بتلاوةِ القرآنِ، أو بما آتاهُ اللَّه من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفعُ في الدِّين، كما أمَرَه اللَّهُ تعالى في كتابه أن يذكِّرَ ويعِظَ ويقُصَّ، وأن يدعوَ إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشَر ويُنذرَ، وسمَّاه اللَّهُ: (وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ) .
والتبشير والإنذارُ هو الترغيبُ والترهيبُ، فلذلك كانتْ تلك المجالسُ
توجبُ لأصحابِهِ رقَّةَ القلوبِ والزهُدَ في الدُّنيا والرَّغبةَ في الآخرةِ.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
و"الجِلْباب ": قال ابن مسعودٍ ومجاهدٌ وغيرُهما: هو الرِّداءُ، ومعنى ذلك:
أنه للمرأة كالرداءِ للرجلِ، يسترُ أعلاها، إلا أنه يُقَنِّعُها فوقَ رأسِهَا، كما(2/90)
يضعُ الرجلُ رداءَه على منْكِبَيْه.
وقد فسَّر عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ قولَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ)
: بأنها تُدنيه من فوقِ رأسِهَا، فلا تُظْهِر إلا عَيْنَها، وهذا كانَ بعد
نزولِ الحجابِ، وقد كُنَّ قبلَ الحجابِ يَظهرن بغيرِ جلبابٍ، ويُرى من المرأةِ
وجهُها وكَفَّاها، وكان ذلك ما ظهرَ منها من الزينة في قولِهِ عزَّ وجلَّ:
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) .
ثم أُمِرَتْ بستْرِ وجهِها وكفيها، وكان الأمْرُ بذلك مختصًا بالحرائرِ دونَ
الإماءِ، ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) .
يعني: حتى تُعرفَ الحرةُ فلا يتَعَرَّضُ لها الفُسَّاقُ، فصارتِ المرأةُ الحرةُ لا تخرج
بين الناسِ إلا بالجلبابِ، فلهذا سُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما أمَرَ النساءَ بالخروج في العيدين، وقيل له: المرأةُ منا ليسَ لها جلبابٌ؟
فقال: "لتُلبسْها صاحبتُها من جلبابها" يعني: تُعِيرُها جلبابًا تخرجُ فيه.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
خرَّج البخاريُّ من حديثِ: مَعْمَر، عنْ همَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، عن أبي هريرة عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"كان بنو إسرائيل يغْتَسِلُونَ عُرَاةً، ينظرُ بعضُهُم إلى بعضٍ، وكان
مُوسى - عليه السلامُ - يَغْتسلُ وحْدَهُ، فقالوا: واللَّهِ، ما يمنع مُوسَى أنْ يغْتَسِلَ معنا، إلا أنَّهُ آدَرُ،(2/91)
فذهبَ مرَّة" يغتسلُ، فوضعَ ثوبَهُ على حَجَرٍ، ففر الحجَرُ بثَوْبِهِ، فخَرَجَ مُوسَى في إثْرِه، يقولُ: ثَوْبَي يا حَجَرُ، ثَوْبِي يا حجرُ، حتَّى نظرتْ بَنُو إسرائيل إلى مُوسى، فقالوا: واللًّه، ما بمُوسَى بأسٌ، وأخَذَ ثوْبَهُ، فطَفِقَ بالحَجَرِ ضرْبًا".
قالَ أبو هريرة: واللَّهِ، إنَّهُ لندَبٌ بالحَجَرِ - ستَّةٌ أوْ سبْعَةٌ - ضربًا بالحَجَرِ.
وعن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "بيْنَا أيُّوبُ - عليهِ السلامُ - يغْتَسِلُ عُرْيَانًا فخرَّ عليه جَرَادٌ من ذَهَبٍ، فجعل أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثوبهِ، فناداهُ ربُّه: يا أيُّوبُ، ألم أكُنْ أغْنَيتُك عمَّا تَرى؟
قال: بلى وعِزتكَ، ولكنْ لا غِنَى بي عنْ بَرَكتِكَ".
ورواه إبراهيمُ، عن موسى بن عُقْبةَ، عن صفْوَانَ بنِ سُلَيْم، عن عطاءِ بنِ
يسارٍ، عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"بَيْنَا أيُّوبُ - عليه السلامُ - يغْتَسِلُ عُرْيَانًا ".
وخرَّجَ البخاريُّ في "أخبار الأنبياءِ" من "صحيحِهِ " هذا قصةَ موسى -
عليه السلامُ - من وجهٍ آخر، من روايةِ عوف، عن ابنِ سيرينَ والحسنِ
وخلاسٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ موسى - عليه السلام - كان رجلاً حيِيًّا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء، استحياءً منه، فآذاه من آذَاه من بني إسرائيل، فقالوا:
ما يستترُ هذا السترَ إلا من عيب بجلدِهِ، إما برصٌ وإما أدرةٌ وإما آفةٌ، وإن اللَّه أرادَ أن يُبرَئه، فخلا يومًا وحدَه، فوضعَ ثيابَه على الحَجَرِ، ثم اغتسلَ، فلما فرغَ أقبلَ إلى ثيابِهِ، ليأخذها، وإن الحجرَ عدا بثوبِهِ، فأخذَ موسى عصاهُ، وطلبَ الحجرَ، فجعلَ يقولُ: ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ، حتى انتهى إلى ملإِ بني إسرائيلَ، فرأوْهُ عُريانًا، أحسنَ ما خلَقَ اللهُ،(2/92)
وأبرأهُ اللَّه مما يقولونَ، وقامَ الحجرُ، فأخذَ ثوبَهُ فلبسَهُ، وطفقَ بالحجر ضربًا - ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا -، فذلك قولُهُ تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) .
"الأدرةُ": انتفاخُ الخصيةِ.
و"الندبُ ": الأثرُ الباقي في الحجرِ، من ضربِ موسى - عليه السلامُ - له.
قال الخطابيُّ: وفيه من الفقهِ: جوازُ الاطلاع على عوراتِ البالغينَ، لإقامة
حقًّ واجبٍ كالختانِ ونحوه.
قلتُ: هذا فيه نظرٌ " فإن موسى - عليه السلامُ - لم يقصدِ التعرِّي عندَ بني
إسرائيل " لينظرُوا إليه، وإنَّما قدَّر اللَّهُ له ذلك حتى يبرئَه عندهم مما آذوْه به.
وقد يقالُ: إنَّ اللَّهَ لا يقدِّرُ لنبيِّه ما ليسَ بجائزٍ في شرعِهِ.
وأما الاستدلالُ به على جوازِ الاغتسالِ في الخلوةِ عُريانًا، فهو مبنيٌّ على
القولِ بأن شرعَ مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا، ما لم يأتِ شرْعُنا بخلافِهِ.
وقد استدلَّ بهذا على جوازِ الغسلِ في الخلوةِ عُريانًا: إسحاقُ بنُ راهويه -
أيضًا -، وذكر أنه وإنْ كان شرعَ من قبلنا، إلا أنه لم يردْ شرعُنا بخلافِهِ.
وقد يمنعُ هذا من يقولُ: قد ورد شرعُنا بالتسترِ في الخلوةِ - أيضًا -.
وسيأتي بيانُ ذلك في البابِ الآتي - إن شاء اللَّه تعالى.
وقد روى حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
قال: "إنَّ موسى بنَ عمران - عليه السلامُ - كان إذا أراد أن يدخلَ الماءَ لم يُلقِ ثوبَهُ، حتى يواريَ عورتَهُ في الماء".(2/93)
خرَّجه الإمامُ أحمد.
وعليٌّ بنُ زيد، هو: ابنُ جُدْعَانٍ، متكلَّمٌ فيه.
وكذا القولُ في الاحتجاج بحديثِ أيوبَ - عليه السلامُ - عُريانًا.
وأمَّا الطريق الذي ذكره البخاريُّ تعليقًا لحديثِ اغتسالِ أيوبَ - عليه
السلامُ -؛ فخرَّجه الإمام (1) .
* * *
سُورَةُ سَبَأٍ
قوله تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَة أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول: في قوله تعالى:
(إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُوموا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) .
قال: المعنى: أن يكون قيامكم خالصًا للَّه عزَّ وجلّ، لا لغلبة خصومكم، فحينئذ تفوزون بالهدى.
* * *
__________
(1) "فتحِ الباري " (1/ 0 33 - 333) . وَهَاهُنا انتهى البابُ في الأصلِ، والظَّاهِرُ: أن سقطًا وقع يَطول أو يقصر. واللهُ أعلمُ.
(1) في الكتاب المطبوع وضعت هذه الآية في آخر سورة فاطر صفحة 142، واللائق إلحاقها بسورتها، وهذا ما فعلناه. (مصحح النسخة الإلكترونية) .(2/94)
سُورَةُ فَاطِرٍ
قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)
قال ابنُ الجَوزِي فِي "المُقتَبَسِ ": سَمِعتُ الوَزير يقولُ في قَولِهِ تَعالى
(اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) .
قالَ: فَطَلَبتُ الفِكرَ في المُناسَبَةِ بَين ذكْرِ النِّعمَةِ وَبَين قوله تعالى:
(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ، فرأيت أنَّ كُلَّ نعمة ينالها العبدُ فاللًّه خالقُها، فقد أنعمَ بخلقه لتلك النعمة، وَبِسَوقِهَا إلى المُنعَم عليه. ً
* * *
قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)
وقولُهُ: "والطيباتُ "، فُسرتْ بالكلماتِ الطيباتِ، كما في قولِهِ تعالى:
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ، فالمعنى: إنَّ ما كان من الكلامِ فإنَّه للَّه.
يُثنَى به عليه ويُمجَّدُ به.
وفُسرتِ "الطيبات " بالأعمال الصالحة كلِّها، فإنها توصفُ بالطيّب.
فتكونُ كلُّها للَّه، بمعنى: أنه يُعبدُ بها ويُتقرت بها إليه.
* * *(2/95)
قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
أما سماعُ الموتى لكلامِ الأحياءِ: ففي "الصحيحينِ " عن أنسٍ، عن أبي
طلحةَ، قال: لمَّا كانَ يومُ بدرٍ وظهرَ عليهم رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ ببضعةٍ وعشرينَ رجلاً، وفي رواية أربعةً وعشرينَ رجلاً من صناديدِ قريشٍ، فألقُوا في طوىً من أطواءِ بدرٍ، وإنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نادَاهم قالَ: "يا أبا جهلِ بنَ هشامٍ، يا أميَّة بنَ خلفٍ، يا عتبةَ بنَ ربيعةَ، يا شيبةَ بنَ ربيعةَ، أليسَ قدْ وجدتُم ما وعدَ ربُّكم حقًّا؟
فإنِّي قد وجدتُ ما وعدنِي ربِّي حقَّا"
فقال عمرُ: يا رسولَ اللَّه ما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواحَ فيها، فقال: "والذي نفسِي بيدِهِ ما أنتُم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم ".
وفي "صحيح مسلم" من حديث أنسٍ نحوُهُ من غيرِ ذكرِ أبي طلحةَ.
وفي حديثِهِ قال:
"والذي نفسِي بيدِهِ، ما أنتُم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم، ولكنهم لا
يقدرونَ أن يجيبُوا".
وفيه - أيضًا - عن أنسٍ، عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القصة بمعناها.
وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -، قال: اطَّلع رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على أهلِ القَليبِ، فقالَ:
"وجدتُم ما وعدَكُم حقًّا؟ "
فقيلَ له: أتدعُو أمواتًا؟
قال: "ما أنتُم بأسمعَ منهم، ولكنَّهم لا يجيبون "
وفي روايةٍ قالَ: "إنهم الآنَ يسمعونَ ما أقولُ ".
وقد أنكرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - ذلك، كما في "الصحيحينِ "(2/96)
عن عروةَ، عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالتْ: ما قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليسمعونَ الآنَ ما أقولُ ".
وقد وهِمَ - يعني ابن عمرَ - إنما قال: "إنهم ليعلمونَ الآنَ ما كنتُ أقولُ لهُم إنه حقٌّ " ثم قرأت قولَه: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) .
(وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبورِ) .
وقد وافقَ عائشةَ على نفي سماع الموتى كلامَ الأحياءِ طائفة من العلماءِ.
ورجَّحَهُ القاضي أبو يعْلى من أصحابِنا، في كتابِ "الجامعِ الكبيرِ" له.
واحتجّوا بما احتجتْ به عائشةُ - رضي الله عنها -، وأجابُوا عن حديثِ قليبِ بدرٍ بما أجابتْ به عائشة - رضي الله عنها - وبأنه يجوزُ أن يكونَ ذلك معجزةً مختصةً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
دون غيرِهِ، وهو سماعُ الموتى لكلامِهِ.
وفي "صحيح البخاريِّ " عن قتادةَ قالَ: أحياهُم اللَّهُ تعالى يعني أهلَ
القليبِ حتى أسمعَهُم قولَه، توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا.
وذهب طوائفُ من أهلِ العلم إلى سماع الموتى في الجملةِ.
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: ذهبَ إلى ذلكَ جماعة من أهلِ العلم - وهم الأكثرونَ - وهو اختيارُ الطبريِّ وغيره، ويعني بالطبريِّ: ابنَ جريرٍ، وكذلكَ ذكرَهُ ابنُ قتيبةَ وغيرُه من العلماءِ، وهؤلاءِ يحتجونَ بحديثِ القليبِ، كما سبق، وليسَ هو بوهم ممن رواه، فإن عمرَ وأبا طلحةَ وغيرَهما ممن شهدَ القصةَ حكاه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وعائشةُ لم تشهدْ ذلك، وروايتُها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنهم ليعلمونَ الآنَ أن ما كنتُ أقولُ لهم حق" يؤيد روايةَ من رَوى: "إنهم ليسمعون "، ولا ينافيه، فإن الميتَ إذا جازَ أن يعلمَ جازَ أن يسمعَ، لأنَّ الموتَ ينافي العلمَ، كما ينافي(2/97)
السمعَ والبصرَ، فلو كان مانِعًا من البعضِ لكانَ مانعًا من الجميع.
وروى أبو الشيخ الأصبهانيُ بإسناده عن عبيدِ بنِ مرزوق، قالَ: كانتِ
امرأة بالمدينةِ يقالُ لها: أمُّ محجنٍ، تقمُّ المسجدَ، فماتتْ، فلم يعلمْ بها النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - فمرَّ على قبرِها، فقال: "ما هذا القبرُ؟ "
فقالوا: قبرُ أمِّ محجنٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"التي كانتْ تقمُّ المسجدَ؟ "
قالوا: نعم، فصفَّ الناسَ وصلَّى عليها، ثم قالَ:
"أيَّ العملِ وجدتِ أفضل؟ "
قالوا: يا رسولَ اللَّهَ أتسمع؟
قالَ: "ما أنتم بأسمعَ منها".
فذكرَ أنها أجابتْهُ، قَمُّ المسجدِ، وهذا مرسل.
وأمَّا أنَّ ذلك خاصّ بكلامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فليسَ كذلكَ، وقد ثبت في الصحيحينِ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن العبدَ إذا وُضِعَ في قبر وتولَّى عنه أصحابُهُ، إنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهِم "، وقد سبقَ ذكرُهُ، وسنذكر الأحاديثَ الواردةَ بسماع الموتى سلامَ من يسلِّمُ عليهم فيما بعدُ إن شاء اللَّه تعالى.
وأما قولُهُ تعالى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) .
وقولُه: (وَمَا أَنتَ بِمسْمِعٍ من فِي الْقُبُورِ) فإنَّ السماعَ يطلقُ ويرادُ به إدراكُ
الكلامِ وفهمُهُ، ويرادُ به أيضًا الانتفاعُ به، والاستجابة لهُ، والمرادُ بهذه الآية.
نفيُ الثاني دون الأولِ، فإنَّها في سياقِ خطابِ الكفَّارِ الذينَ لا يستجيبونَ
للهُدى ولا للإيمانِ إذا دُعوا إليه، كما قالَ اللَّهُ تعالى:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) ، الآيةُ في نفي السماع والإبصارِ عنهم، لأنَّ الشيءَ
قد ينفى لانتفاءِ فائدتِهِ وثمرتِهِ، فإذا لم ينتفع المرءُ بما سمعَهُ وأبصرَهُ،(2/98)
فكأنَّه لم يسمعْ ولم يبصرْ، وسماعُ الموتى هو بهذه المثابةِ، وكذلكَ سماعُ الكفَّارِ لمن دعاهُم إلى الإيمانِ والهُدى.
وقولُ قتادةَ في أهلِ القليبِ: أحياهُمُ اللَّهُ تعالى حتى أسمعَهُم.
قولُهُ يدلُّ على أنَّ الميتَ لا يسمعُ القولَ إلا بعد إعادةِ الروح إلى جسده، كذلك قال طوائفُ من السلفِ كثيرةٌ أنه لا يُسأل في قبره إلا بعد إعادةِ الروح إلى جسدهِ، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وقد سبقَ ذكرُ بعضِه، وفيه في حقِّ الكافرِ: "وتُعَاد روحُهُ إلى جسدِه".
وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" من حديث الأعمشِ عن المنهالِ، عن زاذانَ.
عن البراءِ، فَي حقِّ المؤمنِ والكافرِ في كل منهما، قال:
"وتُعاد روحُهُ إلى جسده".
وكذلك عند ابنِ منده، إعادتُها إلى جسدِهِ عند ضربِ الملَكِ له، بعد أن
يضربه فيصيرُ ترابًا، من روايةِ يونسَ بنِ خبابٍ، عن المنهالِ، وقد سبقَ ذلك
كلُّه.
وخرَّج ابنُ ماجةَ وغيرُه، من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ قبضِ الروح والمسألةِ، وقال في روح الكافرِ: "فتصيرُ إلى القبرِ" وقد سبقَ أيضًا.
وخرَّج ابنُ منده بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا - عن ابنِ عباسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في(2/99)
صفةِ قبضِ الروح، وفيه قالَ: "فيهبطونَ بها - يعني الروح - على قدرِ فراغِهم من غسلِهِ وأكفانِهِ، فيدخلونَ ذلك الروحَ بين جسده وأكفانِهِ " وهذا لا يثبتُ.
وخرَّج الخلالُ في كتابِ "شرح السنة" من طريقِ أبي هاشمٍ، عن أبي
إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ، قال:
إنَّ المؤمنَ إذا نزلَ به الموتُ أتاهُ ملَكُ الموتِ ينادِيه: يا روح طيبة اخرجِي من الجسدِ الطيبِ، قال: فإذا خرجتْ روحُه لفّتْ في خرقةٍ حمراءَ، فإذا غسِّل وكفِّن، وحملَ على السريرِ وارتفعتِ الروحُ فوقَ السريرِ حيثُ تحولَ السريرُ، تحولتْ حتى يوضعَ في قبره، فإذا وُضِعَ في قبر أُجْلسَ، وجيءَ بالروح، فَجُعِلَتْ فيه، فقيل له: من ربُّك، وما دينُك، ومن نبيُّك؟
فيقولُ: ربي اللَّهُ، وديني الإسلامُ، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقالُ له: صدقَتَ، فيوسَعُّ له في قبر مدَّ البصرِ، ثم ترفعُ
روحُه، فتجعَلُ في أعْلَى عليينَ، ثم تلا عبدُ اللَّهِ هذه الآيةَ: (إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ
لَفِي عِلِّيِّينَ) .
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ سالم بنِ أبي الجعدِ، قال: قال حذيفةُ:
الروحُ بيدِ ملَكٍ، وإن الجسدَ ليغسَّلَ، وإنَّ الملَكَ ليمشِي معه إلى القبرِ، فإذا
سُوي عليه سلَكَ فيه، فذلكَ حين يخاطبُ.
ومن طريقِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي الزنادِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى.
قال: الروحُ بيد ملَكٍ يمشي مع الجنازةِ، يقولُ: اسمعْ ما يقالُ لك، فإذا بلغ
حفرتَهُ دفنَ معه.
ومن طريقِ داودَ العطارِ، عن أبي نجيحِ، قإل: ما مِنْ ميِّت يموتُ إلا روحُهُ
في يد مَلَكٍ ينظرُ إلى جسدِهِ، كيف يغسلُ ويكفَّنُ، وكيف يُمشَى به إلى
قبر، ثم تُعاد إليه روحُه، فيجلسُ في قبره.(2/100)
وكذا قال أبو صالح وغيرُه من السلفِ في قوله تعالى: (كَيفَ تَكْفرونَ
بِاللَّهِ وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأحْيَاكمْ ثمَّ يمِيتكمْ ثمَّ يحْيِيكمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترْجَعونَ) ، فدلَّ
على أنَّ الحياةَ الأولى هي القبرُ للسؤالِ، وإنْ كانَ الأكثرونَ خالفُوا في ذلك.
فهؤلاء السلفُ كلُّهم صرَّحُوا بأن الروح تعادُ إلى البدنِ عند السؤالِ.
وصرَّح بمثلِ ذلك طوائفُ من الفقهاءِ والمتكلمينَ من أصحابِنا وغيرِهِم.
كالقاضي أبي يعْلى وأصحابِهِ، وأنكر ذلك طائفة منهم ابنُ حزمٍ وغيرُه.
وذكرَ أن السؤال للروح خاصةً، وكذلك سماعُ الخطابِ، وأنكر أن تعادَ الروحُ إلى الجسدِ في القبرِ للعذابِ وغيرِه، وقالُوا: لو كان ذلك حقًّا للزمَ أن يموتَ الإنسانُ ثلاثَ مراتٍ ويحيى ثلاثَ مراتٍ، والقرآنُ دلَّ على أنَهما موتتانِ وحياتانِ فقط، وهذا ضعيف جدًّا، فإنَّ حياةَ البرزخ ليستْ حياةً تامةً مستقلة كحياةِ الدنيا وكالحياةِ الآخرةِ بعدَ البعثِ، وإنما فيها نوعُ اتصالِ الروح في البدنِ بحيثُ يحصلُ بذلكَ شعورُ البدنِ وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرِهما، وليستْ هي حياةً تامةً حتى يكونَ انفصالُ الروح به موتًا تامًّا، وإنًّما هو شبيهٌ بانفصالِ روح النائم عنه، ورجوعِها إليه، فإنَّ ذلك يسمَّى موتًا وحياةً.
كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ إذا استيقظَ من منامِهِ: "الحمدُ للهِ الذي أحيانَا بعد ما أماتنا، وإليه النشور"
وسماه اللَّهُ تعالى وفاةً، لقوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى) ، مع هذا فلا ينافي ذلكَ أن يكونَ النائمُ حيًّا، وكذلك اتصالُ روح الميتِ ببدنه وانفصالها عنه لا يوجبُ أن يصيرَ للميتِ(2/101)
حياةً مطلقةً.
وممن رجَّح هذا القولَ - أعني السؤالَ والنعيمَ والعذابَ للروح خاصةً - من
أصحابِنا ابنُ عقيلٍ وأبو الفرج ابن الجوزيِّ. في بعضِ تصانيفِهما.
واستدلَّ ابنُ عقيلٍ بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ تنعمُ في حواصلِ طيرٍ خضرٍ، وأرواح الكافرينَ تعذَّب في حواصلِ طيرٍ سودٍ، وهذه الأجسادُ تبْلَى فدلَّ ذلك على أنَّ الأرواحَ تعذبُ وتنعمُ في أجسادٍ أخرَ، وهذا لا حجةَ فيه لأنَّه لا ينافي اتصالَ الروح ببدنِها أحيانًا مع بقائِهِ واستحالتِهِ.
واستدل طائفة ممن ذهبَ إلى هذا القول بما روى منصورُ بنُ عبدِ الرحمنِ.
عن أبي أُمامة قال: دخلَ ابنُ عمرَ المسجدَ، وابنُ الزبيرِ قد قتلَ وصلبَ.
فقيلَ له: هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ في المسجدِ، فقال لها: اصبري فإنًّ هذه
الجثث ليستْ بشيءٍ، وإنَّما الأرواحُ عند اللَّهِ، فقالت: وما يمنعنِي من الصبرِ، وقد أُهدِيَ رأسُ يحيى بنِ زكريا إلى بغيٍّ من بَغايا بني إسرائيلَ.
وروى ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ ابنِ عمرَ - صاحبِ السقيا - قال: نزلَ ابنُ
عمرَ إلى جانبِ قبورٍ قد درستْ، فنظرَ إلى قبر منها، فإذا بجمجمةٍ بادية.
فأمرَ رجلاً فواراهَا، ثم قال: إنَّ هذه الأبدانَ ليست يضرُّها هذا الثرى شيئًا، وإنَّما الأرواح التي تُعاقَبُ وتثابُ إلى يوم القيامةِ.
وروى محمدُ بنُ سعدٍ، عن الواقديِّ، حدثني ثورُ بنُ يزيدَ، عن خالدِ بنِ
معدانَ قال: لما انهزمتِ الرومُ يومَ أجنادينَ، انتهَوا إلى موضع لا يعبرُه إلا
إنسان، فجعلت الروم تقاتل عليه، فتقدَّم هشام بن العاصِ فقاتلهم حتى
قُتِل، ووقع على تلك الثلمة فسدَّها، فلما انتهى المسلمون إليها، هابوا أن(2/102)
يوطئه الخيل، فقال عمرو بنُ العاص: إنَّ اللَّهَ قد استشهدَهُ ورفعَ روحَهُ وإنما
هو جثةٌ فأوطِئوهُ الخيلَ، ثم أوطأه وتبِعَهُ الناسُ حتى قَطَّعوهُ.
وهذه الآثارُ لا تدلُّ على أنَّ الأرواح لا تتصلُ بالأبدانِ بعد الموتِ، وإنَّما
تدلُّ على أنَّ الأجسادَ لا تتضررُ بما ينالها من عذابِ الناسِ لها ومن أكل
الترابِ لها، وهذا حقٌّ، فإنَّ عذابَ القبرِ ليسَ من جنسِ عذابِ الدنيا، وإنَّما
هو نوعٌ آخرُ يصلُ إلى الميتِ بمشيئةِ اللَّهِ وقدرتِهِ.
وقولهم: إنَّ الأرواحَ عندَ اللَّهِ تعالى تعاقَبُ وتثابُ لا ينافي أنْ تتصلَ
بالبدنِ أحيانًا، فيحصلُ بذلكَ إلى الجسدِ نعيمٌ أو عذابٌ، وقد تستقلُّ الروحُ
أحيانًا بالنعيم والعذابِ، إما عند استحالةِ الجسدِ أو قبلَ ذلك.
وقد أثبتَ طائفة أخرى النعيمَ والعذابَ للجسدِ بمجرَّدِهِ، من غيرِ اتصالِ
الروح به، وممن ذكرَ ذلك من أصحابِنا: ابنُ عقيلٍ في كتابِ "الإرشادِ" له
وابنُ الزاغوني، وحُكي عن ابنِ جريرٍ الطبريِّ - أيضًا - وذكرَ القاضي
أبو يعْلى أنه ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ، فإنه قال في روايةِ حنبلٍ: أرواحُ
المؤمنينَ في الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ في النارِ، والأبدانُ في الدنيا يعذَب اللَّهُ من
يشاءُ، ويرحمُ من يشاءُ منها بعفوه.
قال القاضي: ظاهرُ هذا أن الأرواحَ تعذَّبُ وتنعمُ على الانفرادِ وكذلكَ
الأبدانُ إذا كانتْ باقيةً أدَّى إلى الأجزاءِ التي استحالتْ، قال: فلا يمتنعُ أن
يُخلقَ في الأبدانِ إدراك تحسُّ به النعيمَ والعذابَ، كما خُلقَ في الجبلِ لما تجلَّى
له ربُّه ثم جعلَهُ دكًّا.
وقال ابنُه القاضي أبو الحسين: ولأنه لمَّا لم يستحِلْ نطقُ الذراع المسمومةِ،(2/103)
لم يستحلْ عذابُ الجسدِ البالي وإيصالُ العذابِ إليه بقدرةِ اللَّهِ عزَّ وجل.
وقد يستدلُّ لهذا أيضًا بأنَّ عمرَ بن الخطابِ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم كلَّم أهلَ القليب: كيف تكلِّمُ أجسادًا لا أرواحَ فيها؟
فلم ينكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنَما قالَ:
"ما أنتُم بأسمعَ لما أقولُ منهم "
فدلَّ على أنَّ سماعَهُم حصل مع أجسامِهِم والأرواح فيها.
وقد دلَّ القرآنُ على سجودِ الجماداتِ وعلى تسبيحها للَّهِ عزَّ وجل.
وخشوعِها له، فدلَّ على أنَّ فيها حياةً وإدراكًا، فلا يمتنعُ مثلُ ذلك في جسدِ ابنِ آدمَ بعد مفارقة الروح له، واللَّهُ أعلم.
ويدلُّ على ذلكَ: ما أخبرَ اللَّهُ عن شهاداتِ الجلودِ والأعضاءِ يومَ القيامةِ
وما رُويَ عن ابن عباسٍ في اختصامِ الروح والجسدِ يومَ القيامةِ، فيدلُّ على
أنَّ الجسدَ يخاصمُ الروحَ ويكلِّمها وتكلِّمُه، وممّا يدلُّ على وقوع العذابِ على الأجسادِ، الأحاديثُ الكثيرةُ في تضييقِ القبرِ على الميتِ، حتى تختلفَ
أضلاعُهُ، ولا"نه لو كانَ العذابُ على الروح خاصّةً لم يختصَّ العذابُ بالقبرِ
ولم يُنسبْ إليه.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
في قولِه تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
دلَّت هذه الآيةُ على إثباتِ الخشيةِ للعلماءِ بالاتفاقِ وعلى نفْيِها عنْ غيرِهم على أصح القولينِ، وعلى نفْي العِلْم عنْ غيرِ أهلِ الخشيةِ أيضًا.(2/104)
أما الأول: فلا ريبَ فيه فإنَّ صيغة "إنما" تقتضِي تأكد ثبوتِ المذكورِ
بالاتِّفاق؛ لأنَّ خصوصيةَ "إن" إفادةُ التأكيدِ وأمَّا "ما": فالجمهور على أنَّها
كافةٌ، ثُمَّ قالَ جمهورُ النحاةِ: هيَ الزائدةُ التي تدخلُ على إنَّ، وأنَّ، وليتَ، ولعلَّ، وكأن، فتكفها عن العملِ لأنَّ الأصلَ في الحروفِ العاملة أن تكونَ
محضةً فإذا اختصتْ بالاسم أو الفعلِ ولم يكنْ كالجزءِ منهُ عملت فيه، وإنَّ
وأخواتُها مختصةٌ بالاسم فتعملُ فيه فإذا دخلتْ عليها "ما" زالتْ اختصاصُها
فصارَتْ تدخلُ على الجملة الاسميةِ والفعليةِ فبَطلَ عملُها وإنَما عملتْ "ما"
النافيةُ على اللغةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ وهي لغةُ أهل الحجازِ استحْسانًا
لمشَابَهتِها لـ "ليس " وذهبَ بعضُ الكوفيينَ، وابنُ درستويه إلى أنَّ "ما" مع
هذهِ الحروفِ اسمٌ مبهمٌ بمنزلةِ ضميرِ الشأنِ في التفخيم والإبهامِ وفي أنَّ
الجملةَ بعدَهُ مفسرةٌ له ومخبَرٌ بها عنْهُ، وذهبتْ طائفةٌ من الأصوليينَ وأهلِ
البيانِ إلى أن "ما" هذه نافيةٌ واستدلُّوا بذلكَ على إفادتِها الحصرَ.
وأنَّ "إن" أفادت الإثباتَ في المذكورِ، و"ما" النفيَ فيما عداهُ وهذا باطلٌ
باتفاقِ أهلِ المعرفةِ باللسانِ فإنَّ "إن" إنما تفيدُ توكيدَ الكلامِ إثباتًا كان أو نفيًا
لا يفيدُ الإثباتَ.
و"ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلةُ على سائر أخواتِ إنَّ: لكنَّ وكأنَ
وليتَ ولعلَّ، وليستْ في دخولها على هذه الحروفِ نافيةً بالاتفاقِ فكذلكَ
الداخلةُ على إنَّ وأنَّ، وقد نُسِبَ القولُ بأنها نافيةٌ إلى أبي علي الفارسي
لقولِهِ في كتابِ "الشيرازيات ": إنَّ العربَ عاملُوا "إنما" معاملةَ النفيِّ و"إلا"
في فصلِ الضميرِ لقولِهِ:
"وإنَّما يدافعُ عن أحسابِهِم أنا أوْ مِثْلِي ".(2/105)
وهذا لا يدل على أنَّ "ما" نافيةٌ على ما لا يخفَى وإنَما مرادُه أنَّهم أجرَوا
"إنما" مَجْرى النفي و"إلاَّ" في هذا الحكم لما فيها معنى النفى ولم يصرِّحْ بأنَّ
النفيَ مستفادٌ منْ "ما" وحْدَهَا، وقيلَ: إنه لا يمتنعُ أنْ يكون "ما" في هذه
الآيةِ بمعنى الذي والعلماءُ خبرٌ والعائدُ مستترٌ في يخشى.
وأُطلقتْ "ما" على جماعةِ العقلاءِ كما في قولِهِ تعالى: (أَو ما مَلَكَت
أَيْمَانُكُم) ، و (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) .
وأما دلالةُ إلا على التأكيد وهو نفيُ الخشيةِ عنْ غيرِ العلماءِ فمِنْ صيغةِ
"إنَّما" أمَّا على قولِ الجمهورِ وأنَّ "ما" هي الكافةُ فيقولُ إذا دخلتْ "ما"
الكافةُ على "إنَّ " أفادت الحصرَ هذا هو الصحيحُ، وقدْ حكاهُ بعضُ العلماءِ
عن جمهورِ الناسِ وهو قولُ أصحابِنا كالقاضي، وابنِ عقيلٍ، والحلواني.
والشيخ موفق الدين، وفخرِ الدِّين إسماعيلَ بنِ علي صاحبِ ابن المِنّي، وهوَ
قولُ أكثرِ الشافعية كأبي حامدٍ وأبي الطيب، والغزالي والهرَّاسي، وقولُ طائفةٍ
من الحنفيةِ كالجرجاني، وكثيرٌ من المتكلمينَ كالقاضي أبي بكرٍ، وغيرِهِ، وكثيرٌ من النحاةِ وغيرِهِم، بلْ قدْ حكاهُ أبو علي فيما ذكرَهُ الرازيُّ عن النحاةِ جملةً، ولكن اختلفُوا في دلالتها على النفي هلْ هُوَ بطريقِ المنطوقِ، أو
بطريقِ المفهوم؟
فقال كثيرٌ من أصحابِنا، كالقاضي في أحدِ قوليه وصاحبُ ابنِ المنّي والشيخُ موفَّقُ الدِّين: إنَّ دلالَتَها على النفي بالمنطوقِ كالاستثناءِ سواء
وهو قولُ أبي حامد، وأبي الطيب منَ الشافعية، والجرجاني من الحنفية.
وذهبتْ طائفةٌ من أصحابِنا كالقاضِي في قولِهِ الآخرِ وابنِ عقيلٍ والحلواني.
إلى أنَّ دلالتها على النفي بطريقِ المفهومِ وهُوَ قولُ كثيرٍ من الحنفيةِ،(2/106)
والمتكلمينَ، واختلفُوا أيْضًا هلْ دلالتُها على النفي بطريقِ النَّصِ، أو الظاهر.
فقالتْ طائفة: إنَّما تدلُّ على الحصرِ ظاهِرًا، أو يحتملُ التأكيد، وهذا الذي
حكاهُ الآمديُّ عن القاضي أبي بكرٍ، والغزاليِّ، والهرَّاسيِّ، وغيرِهم من
الفقهاء وهُوَ يشبهُ قولَ من يقولُ إنَّ دلالتَها بطريقِ المفهومِ فإنَّ أكثرَ دلالاتِ
المفهومِ بطريقِ الظاهرِ لا النَّص، وظاهرُ كلامِ كثيرٍ من أصحابنا وغيرِهِم، أنَ
دلالتَها على النَّفي والإثباتِ كليهما بطريقِ النَّصِ لأنَّهم جعلُوا "إنَّما" كالمسْتَثْنى والمستثنى منه سواء وعندهم أنَ الاستثناءَ منَ الإثباتِ نفْيٌ ومنَ النفي إثْباتٌ، نصًّا لا محلاً.
وأمَّا من قالَ: إنَّ الاستثناءَ ليسَ لإثباتِ النقيضِ بَلْ لرفع الحكْمِ إما مطلقًا
أوْ في الاستثناءِ منَ الإثباتِ وحده كما يُذكرُ عن الحنفيةِ وجعلُوه من بابِ
المفهومِ الذي ينفونَهُ، فهُوَ يقولُ ذلكَ في "إنَّما" بطريقِ الأوْلَى فظَهَرَ بهذا أنَّ
المخالف في إفادَتِهَا الحصرَ هوَ من القائلينَ بأنَّ دلالتَها على النفيِّ بالمفهومِ وهم
قسمان:
أحدهما: مَنْ لا يَرى كونَ المفهومِ حُجَّةً بالكليةِ كالحنفيةِ، ومَنْ وافقَهُم منَ
المتكلمينَ.
والثاني: مَنْ يراهُ حجةً من الجملةِ، ولكنْ ينفيه هَاهُنا لقيامِ الدليلِ عندَهُ على
أنَّه لا مفهومَ لها، واختارَهُ بعضُ المتأخرينَ منْ أصحابِنا، وغيرِهم، وبيانُ
ذلكَ أنَّ "إنَّما" مركبةٌ منْ "إنَّ " المؤكدةِ و"ما" الزائدةِ الكافةِ فيُستفادُ التوكيدُ منْ "إنَّ " والزائدُ لا معنى له نعم أكثرُ ما يُقالُ "إنَّ " تفيدُ تقويةَ التوكيدِ كما في الباءِ الزائدةِ ونحوها، فأمَّا أنْ يُحدِثَ معنًى آخرَ فلا، وقد يعدم بيان بطلانِ(2/107)
قولِ منْ ادَّعى أنَّ "ما" نافية وأنَّ النفيَ فيمَا عدا المذكورِ مُستفادٌ منها.
وأيضًا فورودُها لغيرِ الحصرِ كثيرٌ جدًّا كقولهِ تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) .
وقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -
"إنما الرِّبا في النسيئة"
وقولِهِ: "إنَّما الشهرُ تِسعٌ وعشرونَ "
وغيرِ ذلكَ منَ النصوصِ ويُقالُ:
"إَنَّما العالِمُ زيد"
ومثلُ هذا لو أُريدَ به الحصرُ لكانَ هذا.
وقد يُقالُ: إن أغلبَ مواردِهَا لا تكونُ فيها للحصرِ
فإنَّ قولَهَ تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا تفيدُ الحصرَ مُطْلقًا فإنَّه
سبحانَهُ وتعالَى لهُ أسماءٌ وصفاتٌ كثيرةٌ غيرَ توحُّدِهِ بالإلهيةِ، وكذلك قولُهُ:
(قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) .
فإنَّه لم ينحصر الوحيُ إليه في هذا وحده.
وكذلكَ قوله: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ) ومثلُ
هذا كثيرٌ جدًّا وممَّا يبيّنُ عدمَ إفادتِها للحصرِ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ نبي من الأنبياءِ إلا قد أوتيَ منَ الآياتِ ما آمنَ على مثلِهِ البشرُ، وإنَّما كان الذي أوتيتُهُ وحيًا أوحاهُ اللَهُ إليَّ.
فأرجُو أنْ أكونَ أكثرُهُم تابِعًا يومَ القيامةِ"
فلَوْ كانتْ "إنَّما" للحصرِ لبَطَلَتْ أنْ تكونَ سائرُ آياتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاتِهِ سوى القرآنِ آياتٍ لهُ تدلُّ على صدقِهِ
لاعْترافِهِ بنَفْي ذلكَ وهذا باطلٌ قطْعًا فدلَّ على أنَّ "إنَما" لا تفيدُ الحصرَ في
مثلِ هذا الكلامِ وشبهِهِ.
والصوابُ: أنَّها تدلُّ على الحصرِ، ودلالَتها عليه معلومٌ بالاضطرارِ منْ لغةِ
العربِ، كما يُعلمُ منْ لغتِهِم بالاضطرارِ معانِي حروفِ الشرطِ والاسْتفهامِ(2/108)
والنفىِ والنَّهْي وغيرِ ذلكَ ولهذا يَتواردُ "إنَّما" وحروفُ الشرطِ والاستفهامُ
والنَّفْيُ الاستثناء كما في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا تجْزَوْنَ مَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) .
وقوله: (إِنَّمَا إِلهكم إِلَهٌ وَاحِدٌ) .
وقوله: (إِنَّمَا اللَّه إِلَهٌ وَاحِدٌ)
(إِنَّمَا إِلَهكمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) .
فإنه كقولِهِ: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ) .
وقولِهِ: (مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، ونحوِ ذلكَ.
ولهذا كانتْ كُلُّها واردةً في سياقِ نفْي الشركِ وإبطالِ إلهيةِ سوى اللَّهِ
سبحانَهُ، وأمَّا أنَّها مركبةٌ من "إنَّ " و"ما" الكافةِ فمُسلَّم، ولكنَّ قولَهُم إنَّ "ما" الكافةَ أكثرُ ما تفيدُهُ قوةُ التوكيدِ لا تُثْبتُ مَعْنى زائدًا، يجابُ عنهُ من وجوه:
أحدها: أنَّ "ما" الكافةَ قدْ تُثبتُ بدخولِهَا على الحروفِ معْنىً زائِدًا، وقدْ
ذكرَ ابنُ مالك أنَها إذا دَخَلتْ على الباءِ أحدَثَتْ معنى التقليلِ، كقولِ
الشاعرِ:
فالآن صِرْتَ لا تَحِيدُ جَوَابًا. . . بما قدْ يُرى وأنتَ حَطِيبُ
قالَ: وكذلك تُحدِثُ في "الكافِ " معْنَى التعْليلِ، في نحوِ قولِهِ تعالى:
(وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكمْ) ، ولكِنْ قد نُوزِعَ في ذلك وادَّعى أنَّ "الباءَ"
و"الكافَ " للسببيةِ، وأنَّ "الكافَ " بمجردِهَا تفيدُ التعليلَ.
والثاني: أن يُقالَ: لا ريبَ أنَّ "إنَّ " تفيدُ توكيدَ الكلامِ، و"ما" الزائِدةُ تُقوِّي هذا التوكيدَ وتثبتُ مَعْنى الكلامِ فتفيدُ ثبوتَ ذلكَ المعْنى المذكورِ في اللفظِ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيرُهُ واختصَاصُهُ به، وهَذا منْ نوع التوكيدِ والثبوتِ ليسَ معنىً آخرَ مغايرًا لهُ وهوَ الحصرُ المدَّعى ثبوتُهُ بدخولِ "ما" يخرجُ عنْ إفادةِ قوَّةِ معنى التوكيدِ وليسَ ذلكَ بمُنْكرٍ إذ المستنكرُ ثبوتُ مَعْنى آخرَ بدخولِ الحرفِ الزائدِ منْ غيرِ جنسِ ما يُفيدُهُ الحرفُ الأوَّلُ.(2/109)
الوجه الثالث: أنَّ "إن" المكفوفةُ "بما" استُعْملتْ في الحصرِ فصارتْ حقيقةً
عرفيَّةً فيه، واللفظُ يصيرُ لَهُ بالاسْتعمالِ مَعْنى غيرَ مَا كانَ يقْتضِيهِ أصلُ
الوضع، وهكذا يُقالُ في الاستثناءِ فإنَه وإنْ كانَ في الأصلِ للإخراج منَ
الحكْم لكنْ صارَ حقيقة عرفيةً في مناقضةِ المستَثْنى فيه، وهذا شبية بنقلِ اللفظِ
عنِ المعنى الخاصِ إلى العامِ إذا صارَ حقيقة عرفيةً فيه لِقَوْلِهِم "لا أشربُ له
شربةَ ماءٍ" ونحوِ ذلكَ، ولنقلِ الأمثالِ السائرةِ ونحوِهَا مما ليسَ هذا موضعُ
بَسْطِهِ، وهذا الجوابُ ذكرَهُ أبو العباسِ ابنِ تيميةَ في بعضِ كلامِهِ القديمِ وهُوَ
يقْتضِي أنَّ دلالةَ "إنَّما" على الحصرِ إنَّما هوَ بطريقِ العُرفِ والاستعمالِ لا
بأصلِ وضعْ اللغةِ، وهو قولٌ حكاهُ غيرُهُ في المسألةِ.
وأمَّا قولُه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الربا في النسيئةِ"، و"إنَّما الشهرُ تِسع وعشرونَ " وقولُهُم: "إنَّما العالِمُ زيد" ونحوُ ذلك، فيُقالَ: معلومٌ منْ كلامِ العربِ أنَّهم ينفونَ الشيءَ في صِيغ الحصْرِ وغيرِهَا تارةً لانتفاءِ ذاتِهِ وتارةً لانتفاءِ فائدتِهِ ومقصودِهِ، ويحصرونَ الشيءَ في غيرِه تارةً لانحصارِ جميع الجنسِ فيه وتارةً لانحصارِ
المفيدِ أو الكاملِ فيه، ثمَّ إنهم تارة يعيدونَ النفيَ إلى المسمَّى وتارةً إلى الاسم
وإنْ كان ثابِتًا في اللغةِ إذا كان المقصودُ الحقيقيُّ بالاسْم منتَفِئا عنه ثابِتًا لغير
لقولِهِ تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَوْرَاةَ وَالاٍنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبكمْ) ، فنَفَى عنهُم مسمَّى الشيءِ معَ أنَّه في الأصلِ شامل لكلِّ موجودٍ مِنْ حق وباطلٍ كما كانَ ما لا يفيدُ ولا منفعةَ فيه يَؤُولُ إلى الباطلِ الذي هو العدمُ فيصيرُ بمنزلةِ المعدومِ بلْ قدْ يكونُ أولَى بالعدمِ منْ المعدَمِ المستمرِ عدمُهُ لأنَه قدْ يكونُ فيه ضررٌ فجنْ قال الكذبَ فلم يَقُل شيئًا(2/110)
ولم يعملْ ما ينفعُهُ بلْ ما يضرُّه، ولهذا لمَّا سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكفارِ فقالَ: "ليسُوا بشيء".
ويقولُ أهلُ الحديثِ عنْ بعض الرواةِ المجروحينِ والأحاديثِ
الواهيةِ: "ليسَ بشيءٍ " إذا لم يكنْ مما يُنتفعُ بِهِ في الروايةِ لظهورِ كذبِهِ عمْدًا
أوْ خطأ، ويقال أيضًا لمن خرجَ عنْ موجب الإنسانيةِ في الأخلاقِ ونحوِهَا:
هذا ليسَ بآدميّ ولا إنسانٍ وما فيه إنسانية، ومنه قولُ النِّسوَةِ في يوسفَ عليه السلامُ: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) .
وكَذلكَ قولُ اللَّهِ تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"ليس المسكينُ بهذا الطوَّافُ الذي تردُّه اللقمةُ واللقْمتانِ والتمرةُ
والتمرتانِ إنَّما المسكينُ الذي لا يجد ما يُغنيه ولا يُفْطَنُ له فيُتصدَّقُ عليه ولا يسْألُ الناسَ إلحافًا" وكذلك قال: "ما تعدُّونَ المفلِسَ فيكُم؟ " قالُوا: الذي لا دِرهَم له ولا دِينار قالَ: "ليس ذلكَ بالمفلِسِ، ولكنَّ المفلِسَ من يأتِي يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ الجبالِ ويجيءُ وقد شتمَ هذا وضَرَبَ هذا وأخذَ مالَ هذا فيأخُذُ هذا منْ حسناتِهِ وهذا منْ حسَنَاتِهِ فإذا لم يتبقَّ لَهُ حسنةٌ أُخِذَ منْ سيئاتِهِم فَطُرِحَتْ عليه ثُمَّ ألقي في النارِ"
وقالَ: "ما تعُدُّون الرقوبَ فيكُم؟ "
قالُوا: الرقوبُ منْ لا يُولدُ لهُ.
قال: "الرقوبُ منْ لم يُقدِّم منْ ولدِهِ شيئا".
وكذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"ليسَ الشديد بالصُّرعةِ ولكنَّ الشديدَ الذي يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ "
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"ليسَ الغِنَى عن كثْرةِ العَرَضِ وإنَّما الغِنَى غِنَى النفْسِ".(2/111)
وأمثال ذلك، فهذا كلُّه نفيٌ لحقيقةِ الاسم منْ جهَةِ المُضِيِّ الذي يجب
اعتبارُه، فإنَّ اسمَ الرقوبِ والمفلسِ والغني والشديد ونحوِ ذلك إنَّما يتعارفُه
الناسُ فيمنْ عَدِمَ مالَهُ وولدَهُ أوْ حصلَ له مال أو قوَّةٌ في بدنِهِ، والنفوسُ تجزعُ من الأوَّلَيْن وترغب في الآخرَيْنِ، فيعتقدُ أنَّه هو المستحقُّ لهذا الاسم دونَ غير فبين - صلى الله عليه وسلم - أنَّ حقيقةَ ذلك المعْنَى ثابتةٌ لغير هذا المتوهمِ على وجْهٍ ينبغي بعلو الاعتقاد والقصدِ بذلكَ الغيرِ فإن مَنْ عدِمَ المال والولدَ يومَ القيامةِ حيثُ يضرُ عدمُهُ أحقُّ باسم المفلس والرقوبِ ممن يُعدمهُمَا حيثُ قدْ لا يتضرر بذلكَ تضررًا معتبرًا ولذلك وجودُ غِنى النفسِ وقوتِها أحقُّ بالمدح والطلبِ منْ قوَّةِ البدنِ وغِنَى المال وهكذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما الرِّبا في النسيئةِ" أوْ لا "رِبَا إلا في النسيئة".
فإنَّ الرِّبا العام الشاملُ للجنسينِ، والجنسُ الواحدُ المتفقةُ صفاتُهُ إنَّما
يكونُ في النسيئةِ وأمَّا رِبَا الفضلِ فلا يكونُ إلا في الجنسِ الواحدِ ولا يفعلُهُ
أحدٌ إلا إذا اختلفت الصفاتُ، كالمضروب بالتِّبْرِ، والجيدِ بالرديءِ، فأمَّا مع
استواءِ الصفاتِ فلا يبيعُ أحد دِرْهمًا بدرهمينِ، وأيضًا فرِبَا الفضلِ إنَّما حُرِّم
لأنه ذريعةٌ إلى رِبا النسيئة كما في "المسند" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لاتبيعُوا الدرهمَ بالدرهمينِ، إنِّي أخافُ عليكُمُ الرِّبا".
فالربا المقصود بالقصد الأول هُوَ رِبَا النسيئةِ، فإذا بِيعَ مائة بمائةٍ وعشرينَ
مع اتَفاقِ الصفاتِ ظهرتْ أن الزيادةَ قابلتِ الأجلَ الذي لا منفعة فيه وإنَّما
دخل فيه للحاجة، ولهذا لا يضمنُ الآجال باليد فلو بقيت العينُ في يَده، أو
المال في ذمتِهِ مدةً لم يضمن الأجلَ بخلافِ زيادةِ الصفةِ، فإنَها مضمونةٌ في
الإتلافِ والغصْبِ وفي المبيع إذا قابلتْ غيرَ الجنسِ، فلهذا قِيلَ: إنَّما الرِّبا في(2/112)
النَّسيئةِ ولا رِبَا إلا في النسيئةِ، فإنَّ المستحقَّ لاسم الرِّبا في الحقيقةِ هو رِبَا
النسيئةِ ولذلكَ نَفى الأسماءَ الشرعيةَ لانتفاءِ بعضِ واجباتِهَا لقولِهِ: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..) إلى قوله: (أولَئِكَ هُمُ المؤْمِنُونَ حَقًّا) ، وهؤلاءِ همُ المستحقونَ لهذا الاسم على الحقيقةِ الواجبةِ دون
منْ أخلَّ بشيءٍ من واجباتِ الإيمانِ والإسلامِ عمن انتفَى عنهُ بعض واجباتِهما
لقولِهِ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث.
وقولِهِ: "المسلم منْ سلِم المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ، والمهاجرُ من هَجَرَ ما نهى الله عنه"
وقولِه: "المؤمن من أمنَهُ الناس على دمائهِم وأموالِهِم، والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في ذاتِ اللَّهِ ".
ومثلُ هذا كثير، وكذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّما الشهرُ تِسع وعشرون "
فإنَّ هذا هو عددُ الشَّهرِ اللازمِ الدائم، واليومُ الزائدُ على ذلكَ أمر جائز يكون في بعضِ الشهورِ ولا يكونُ في بعضِها، بخلافِ التسعةِ والعشرين، فإنَّه يجبُ عددُها واعتبارُها بكلِّ حال، وهذا كما يُقال: الإسلامُ شهادةُ أن لا إله إلا اللَّهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللَّهِ. َ
فهذا هو الذي لا بدَّ منه، وما زاد على ذلك فقدْ يجبُ على الإنسانِ، وقد
يموتُ قبلَ التمكنِ، فلا يكونُ الإسلامُ في حقِّه إلا ما تكلَّمَ به، وحاصلُ الأمرِ أن الكلامَ الخبريَّ هو إمَّا إثباث أو نفيٌ فكما أنهم في الإثباتِ يثبتونَ - للشيءِ اسمَ الشيءِ إذا حصلَ فيه مقصودُ الاسم وإن انتفتْ صورةُ المسمَّى، فكذلكَ(2/113)
في النَّفي، فإنَّ أدواتِ النَّفي تدل على انتفاءِ الاسمِ بانتفاءِ مسمَّاه فذلك، تارةً لأنه لم يُوجدْ أصلاً، وتارةً لأنه لم توجدِ الحقيقةُ المقصودةُ بالمسمَّى، وتارةً
لأنه لم تكنْ تلكَ الحقيقةُ، وتارةً لأن ذلك المسمَّى مما لا ينبغي أنْ يكونَ
مقصودًا بل المقصودُ غيرُه، وتارةً لأسبابٍ أُخرَ وهذا كلُّه إنَّما يظهرُ من سياقِ الكلامِ وما اقترنَ به من القرائنِ اللفظية التي لا تخرجُهُ عن كونِهِ حقيقةً عندَ الجمهورِ ولكونِ المركبِ قد صارَ موضوعًا لذلكَ المعْنى، أوْ مِنَ القرائنِ الحاليةِ التي تجعلُه مجازًا عند الجمهور، وأمَّا إذا أطلقَ الكلامُ مجرَّدًا عن القرينتينِ فمعناهُ السلبُ المطلقُ وهوَ أكثرُ الكلامِ وهذا الجوابُ ملَّخصٌ من كلامِ شيخ الإسلام أبي العباسِ ابن تيمية - رحمه اللَّه.
وأما قولُهُ تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، وقولُهُ: (إِنَّمَا أًنتَ مُنذِرٌ) .
ونحو ذلك، فالجواب عنهُ أن يُقال: الحصر تارةً يكونُ عامًا
كقولِهِ: (إِنَّمَا إِلَهُكمْ اللَّه الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ، ونحوِ ذلك.
وتارةً يكونُ خاصًّا بما يدل عليه سياقُ الكلامِ فليسَ الحصرُ أن ينفيَ عن الأوَّل كل ما سوى الثاني مطلقًا، بلْ قد ينْفِي عنه ما يُتوهَمُ أنه ثابتٌ لهُ مِنْ ذلك النوع الذي أثبتَ له في الكلامِ.
فقولُه: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، فيه نفيُ تعددِ الإلهيّةِ في حقِّه
سبحانَهُ وأنَّه لا إله غيره، ليسَ المرادُ أنه لا صفةَ له سوى وحدانيةِ الإلهيةِ.
وكذلك قولُهُ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) .
فإنَّ المراد به أنه لم يُوحَ إليَّ في أمرِ الإلهيةِ إلا التوحيدَ لا الإشراكَ.
والعجبُ أن أبا حيَّان الأندلسيّ أنكر على الزمخشريّ ادعاءَه الحصرَ في
هذه الآيةِ لاستلزامهِ عندَهُ أنَّه لم يوحَ إليه غيرَ التوحيدِ، قال: لأنَّ الحصرَ إنما(2/114)
يلقى من جهة: "أنما" المفتوحةِ الهمزةِ، قالَ: ولا يُعرفُ القولُ بإفادتها الحصرَ
إلا عندَ الزمخشريِّ وحده.
وردَّ ذلك عليه شيخُنا أبو محمدٍ بنِ هشامٍ بناءً على أنَّ (أنَّ) المفتوحةَ فرع
عن "إن " المكسورةِ على الصحيح، قال: ولهذا صحَّ للزمخشريِّ أن يدَّعي أنها تفيدُ الحصرَ "إنَّما" انتهى.
وهذا كلُّه لا حاجةَ إليه في هذه الآيةِ فإنَّ الحصرَ مستفاد فيها مِنْ "إنما"
المكسورةِ التي في أولِ الآيةِ فلو فرض أن "أنما" المفتوحةَ لا تفيد الحصرَ لم
ينتفِ بذلكَ الحصرُ في الآيةِ على ما لا يخْفى، وكذلكَ قولُهُ تعالى:
(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر) ، أي لستَ ربًّا لهم ولا مُجازِيًا ولا محاسِبًا، وليسَ عليكَ
أن تجبرَهُم على الإيمانِ، ولا أن تتكلفَ لهم طلبَ الآياتِ التي يقترحونَها
عليكَ (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر) ، فليسَ عليكَ إلا الإنذارُ، كما قال:
(فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) وقالَ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) .
ومنْ هَا هُنا يظهرُ الجوابُ عن قولِه:
"إنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاهُ اللَّهُ إليَّ "
فإنَّه قالَ: "ما مِنْ نبى إلا وقد أوتي من الَآياتِ ما آمنَ على مثلِهِ البشرُ، وإنَّما كانَ الذي أوتيتُه وحيًا أوحاهُ اللَهُ إليَّ، فأرجُو أنْ أكونَ أكثرُهم تابعًا يومَ القيامةِ"
فالكلامُ إنما سِيقَ لبيانِ آياتِ الأنبياء العظامِ الذي آمن لهم بسببها الخَلْقُ الكثيرُ، ومعلومٌ أن أعظمَ آياتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن عليها أكثرُ أُمَّتِهِ هي الوحيُ وهوَ الذي كان يدعو به الخلقَ كلَّهم، ومنْ أسلمَ في حياتِهِ خوفًا فأكثرُهم دخلَ الإيمانُ في قلبهِ بعد ذلك بسببِ سماع الوحي لمسلمي الفتح وغيرِهِم، فالنفيُ توجه إلى(2/115)
أنه لم تكنْ آياتُهُ التي أوجبتْ إسلامَ الخلقِ الكثيرِ من جنسِ ما كانِ لمن قبله
مثلَ ناقةِ صالح وعصا موسى ويدِهِ وإبراءِ المسيح الأكمه والأبرصَ وإحياءِ
الموتى ونحو ذلك، فإنَّ هذه أعظمَ آياتِ الأنبياءِ قبلَه وبها آمن البشرُ لهم.
وأمَّا آيتُه هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمنَ البشرُ عليها في حياتِهِ وبعدَ وفاتِهِ فهيَ الوحيُ التي أُوحِي إليه وهيَ التي توجبُ إيمانَ البشرِ إلى يومِ القيامةِ كما قال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقرْآن لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) .
ولهذا قيل: إنَّ آياتِ الأنبياءِ انقطعتْ بموتِهِم وآياتِهِ - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يومِ القيامةِ، ومما يبيِّن أنَّ الحصرَ لم ينتفِ عنْ "إنَّما" في شيء من هذه الأنواع التي توهمُوها، أنَّ الحصرَ قد جاءَ فيها وفي مثلِها بِإلاَّ كما جاء بـ "إنَّما" فإنه جاء "لا ربا إلا في النسيئة"
كما جاء "إنما الربا في النسيئة"
وجاءَ في القرآن (وَمَا محَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل) .
كما جاء: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ)
وكذلك قوله: (مَا الْمَسِيحُ ابْن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) .
ومثلُ ذلك كثير فهذا وجهُ إفادتِهَا الحصر في هذهِ الآيةِ على القولِ المشهور
وهو "إنما" في قولِهِ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، هي الكافةُ.
وأما على قولِ منْ جعلَهَا موصولةً فتفيدُ الحصرَ منْ جهةٍ أُخرى وهو أنَّها إذا
كانتْ موصولةً فتقديرُ الكلامِ "إن الذين يخشون الله هم العلماء" وهذا أيضًا
يفيدُ الحصرَ" فإنَّ الموصولَ يقتضي العمومَ لتعريفِهِ، وإذا كان عامًّا لزمَ أنْ
يكونَ خبرُهُ عامًّا أيضًا لئلا يكونَ الخبرُ أخصَّ من المبتدأ، وهذا النوعُ من
الحصرِ يسمَّى حصرَ المبتدأ في الخبرِ، ومتى كان المبتدأ عامًّا فلا ريبَ إفادتهُ
الحصرَ، وأمَّا دلالة الآيةِ على الثالثِ، وهو نفي العلم من غيرِ أهلِ الخشيةِ.
فمن جهةِ الحصرِ أيضا فإنَّ الحصرَ المعروفَ المطردَ فهو حصرُ الأولِ في الثاني،(2/116)
وهو هَاهُنا حصرُ الخشيةِ في العلماءِ، وأما حصرُ الثاني في الأولِ فقد ذكره
الشيخُ أبو العباسِ ابنِ تيمية - رحمه الله - وأنه قدْ يكونُ مرادًا أيضًا فيصيرُ
الحصرُ من الطرفينِ ويكونانِ متلازمينِ، ومثلُ ذلك كقولِهِ: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ
اتَبَعَ الذكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) ، و (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) .
قالَ: وكذلك الحصرُ في هذه الآيةِ أعني قولِهِ:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
فتقتضي أنَّ كلَّ من خشيَ اللَّهَ فهو عالِم، وتقتضي أيضًا أنَّ العالِمَ منْ يخشى
اللَّهَ، وبيانُ الحصرِ الذي ذكره الشيخُ - رحمه اللَّه - في هذهِ الآياتِ أنَّ قولَه: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) فيه الحصرُ من
الطرفينِ، فإن اقتضى أن إنذارَهُ مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشيَ الرحمنَ
بالغيبِ فإن هذا هو المختصُّ بقبولِ الإنذارِ، والانتفاع به فلذلك نفَى الإنذارَ
عن غيرِهِ، والقرآنُ مملوء بأنَّ الإنذارَ إنما هو للعاقلِ له خاصةً، ويقتضي أنه لا يتبعُ الذكرَ ويخشى الرحمنَ بالغيبِ إلا منْ أنذره أيْ مَنْ قَبِلَ إنذارَهُ وانتفعَ به فإنَّ اتباعَ الذكرِ، وخشيةَ الرحمنِ بالغيبِ مختصة بمن قَبِلَ الإنذارَ كما يختصُ قبولُ الإنذارِ والانتفاعُ بأهلِ الخشيةِ واتباع الذكرِ.
وكذلك قولُه: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا) .
وقولُه: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) الآية.
فإن انحصارَ الإنذارِ في أهلِ الخشيةِ، كانحصارِ أهلِ الخشيةِ في أهلِ الإنذارِ، والذين خرُّوا سجدًا في أهل الإيمانِ ونحوِ ذلك فكذلكَ قولُه:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
وقد فسَّرها السلفُ بذلك أيضًا كما سنذكرُهُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى -
ونذكرُ شواهدَهُ.(2/117)
وهَاهُنا نكتةٌ حسنةٌ، وهيَ أنَّ قولَهُ تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ) قد عُلِمَ أنه يقتضي ثبوتَ الخشيةِ للعلماءِ للرهطِ (1) يقتضِي ثبوتَها
لجنسِ العلماءِ، كما يُقال: إنما يحج المسلمونَ، أو: لا يحج إلا مسلم.
فيقتضي ثبوتَ الحجِّ لجنسِ المسلمينَ لا لكلِّ فرد فردٍْ منهم أو يقتضي ثبوتَ
الخشيةِ لكلِّ واحدٍ من العلماءِ، هذا الثاني هو الصَّحَيحُ وتقريرُه من جهتين:
الجهة الأولى: أن الحصرَ هَاهُنا من الطرفينِ، حصرُ الأول في الثاني وحصرُ
الثاني في الأول، كما تقدَّم بيانُه، فحصْرُ الخشيةِ في العلماءِ يفيدُ أنَّ كلَّ من
خشيَ اللَّهَ فهو عالِمٌ وإنْ لم يُفِدْ لمجردِهِ أنَّ كلَّ عالِم فهو يخشى اللَّهَ وتفيدُ أنَّ
من لا يخشى فليسَ بعالم، وحصْرُ العلماءِ في أهلِ الخشيةِ يفيدُ أنَّ كلَّ عالِم
فهو خاشٍ، فاجتمعَ من مجموع الحصرينِ ثبوتُ الخشيةِ لكلِّ فردٍ من أفرادِ
العلماء.
والجهة الثانية: أن المحصورَ هلْ هوَ مقتضٍ للمحصورِ فيه أوْ هوَ شرطٌ له؟
قال الشيخُ أبو العباس - رحمه اللَّه -: وفي هذه الآيةِ وأمثالها هو مقتضٍ فهو
عامٌّ فإنَّ العلمَ بما أنذرتْ به الرسلُ يوجبُ الخوفَ، ومرادُه بالمقتَضي - العلة
المقتضيةَ - وهي التي يتوقفُ تأثيرُها على وجودِ شروط وانتفاءِ موانعَ كأسبابِ الوعدِ والوعيدِ ونحوِهما فإنها مقتضياتٌ وهي عامةٌ، ومرادُهُ بالشرطِ ما يتوقفُ تأثيرُ السببِ عليه بعدَ وجودِ السببِ وهو الذي يلزمُ من عدمِهِ عدمُ
المشروطِ ولا يلزمُ من وجودِهِ وجودُ المشروطِ، كالإسلامِ بالنسبةِ إلى الحجِّ.
والمانعُ بخلافِ الشرطِ، وهوَ ما يلزمُ من وجودِهِ العدمُ ولا يلزمُ من عدمه
الوجودُ وهذا الفرقُ بين السببِ والشرطِ وعدمِ المانِع إنَّما يتمُ على قولِ من
__________
(1) في الأصل [للرهطِ] ولعل الصواب ما أثبتناه. (مصحح النسخة الألكترونية)
قال محقق الكتاب:
ولعل الصواب: "للرب فهل".(2/118)
يُجوِّزُ تخصيصَ العلةِ وأما من لا يُسمِّي علةً إلا ما استلزمَ الحكمَ ولزمَ من
وجودِها وجودُه على كلِّ حال، فهؤلاءِ عندهم الشرطُ وعدمُ المانع من جملةِ
أجزاءِ العلةِ، والمقصودُ هنا أنَّ العلمَ إذا كان سببًا مقتضيًا للخشيةِ كان ثبوتُ
الخشيةِ عامًا لجميع أفرادِ العلماءِ لا يتخلفُ إلا لوجودِ مانع ونحوهِ.
وقد تقدَّم بيانُ دلالةِ الآية على أنَّ منْ خَشِي اللَّهَ وأطاعه وامتثل أوامره
واجتنب نواهيه فهو عالِم لأنه لا يخشاه إلا عالِمٌ، وعلى نفي الخشيةِ عن غيرِ
العلماءِ، ونفي العلْم عن غير أولي الخشيةِ أيضًا، وأنَّ من لم يخشَ اللَّهَ
فليسَ بعالِم وبذلك فسَّرها السلفُ.
فعنِ ابنِ عباس قال: "يريدُ: إنما يخافُني مِنْ خلقِي مَنْ عَلِمَ جبروتِي
وعزَّتي وجَلالِي وسلْطَاني ".
وعنْ مجاهدٍ والشعبيِّ: "العالِمُ من خافَ اللَّهَ ".
وعن ابنِ مسعودٍ قال: "كفى بخشيةِ اللَّهِ علمًا وكفَى بالاغترارِ باللَّهِ
جهلاً".
وذكرَ ابنُ أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيِّ في هذه الآيةِ: "العلماءُ باللَّهِ
الذين يخافونَهُ ".
وعن الربيع بنِ أنسٍ في هذه الآيةِ قال: منْ لم يخشَ اللَّهَ فليسَ بعالمٍ.
ألا ترى أنَّ داود قال: ذلكَ بأنَّك جعلتَ العلمَ خشيتَكَ، والحكمةَ والإيمانَ
بك وما عَلِمَ منْ لم يخشَكَ وما حكم من لم يؤمنْ بك.
وعن الربيع عن أبي العاليةِ في قولِهِ تعالى: (يؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ) .
قال: "الحكمةُ الخشيةُ فإنَّ خشيةَ اللَّهِ رأسُ كلِّ حكمةٍ".(2/119)
وروى الدارميُّ من طريقِ عكرمة عن ابنِ عباسٍ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ) قال: "مَنْ خشيَ اللَّهَ فهو عالِمٌ ".
وعن يحيى بن جعدةَ، عن عليٍّ قالَ: "يا حملةَ العلم، اعملوا به فإنَّما
العالِمُ من عملَ بما علمَ فوافقَ علمُهُ عملَه، وسيكونُ أقوامٌ يحملونَ العلمَ ولا
يجاوزُ تراقيهم، يخالفُ علمُهم عملَهم، وتخالفُ سريرتُهم علانيتَهم.
يجلسونَ حِلَقًا فيُباهي بعضُهم بعضًا، حتَى إنَّ الرجلَ ليغضبُ على جليسِهِ أنْ
يجلسَ إلى غير ويدعَهُ، أولئك لا تصعدُ أعمالُهم في مجالسِهِم تلكَ إلى
اللَّه عزَّ وجلَّ ".
وعن مسروقٍ قالَ: " كفى بالمرءِ علمًا أن يخشى اللَّهَ عزَّ وجل وكفى بالمرءِ
جهْلاً أنْ يُعجبَ بعلمه ".
وعن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - قال:
"لا يكونُ الرجلُ عالما حتَّى لا يحسدَ من فوقَهُ ولا يحقرَ من دونَهُ، ولا يبتغي بعلمِهِ ثمنًا".
وعن أبي حازمٍ نحوه.
منه قولُ الحسنِ: "إنما الفقيهُ الزاهدُ في الدُّنيا، الراغبُ في الآخرةِ، البصيرُ
بدينِهِ، المداومُ على عبادةِ ربِّه ".
وعن عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ سألَ عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ: "مَنْ
أربابُ ألعلم؟
قال: الذين يعملونَ بما يعلمُونَ ".
وقال رجلٌ للشعبي: أفتني أيها العالم فقال: "إنما العالمُ من يخافُ اللَّهَ ".
وعن الربيع بنِ أنس عن بعضِ أصحابِهِ قال: "علامةُ العلم: خشيةُ اللَّهِ
عزَ وجل ".(2/120)
وسئلَ سعدُ بنُ إبراهيم -: من أفقهُ أهلِ المدينةِ؟
قال: "أتقاهم لربِّه ".
وسئل الإمامُ أحمدُ عن معروفٍ، وقيلَ له: هلْ كان معه علمٌ؟
فقال: "كان معه أصلُ العلم، خشيةُ اللَّهِ عزَّ وجلّ ".
ويشهد لهذا قولُه تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . وكذلك قولُهُ تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) .
وقولُهُ: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
وقولُهُ: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) .
قال أبو العاليةَ: "سألتُ أصحابَ محمدٍ عن هذه الآيةِ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)
فقالُوا: كلُّ منْ عَصَى اللَّهَ فهو جاهلٌ، وكلُّ من تاب قبل الموتِ فقدْ تابَ من قريبٍ ".
وعن قتادةَ قال: "أجمع أصحابُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ كلَّ من عصى ربَّه فهو جاهلٌ جهالةً، عمدًا كان أو لم يكنْ، وكلُّ من عَصَى ربَّه فهو جاهلٌ ".
وقال مجاهدٌ: "منْ عمِلَ ذنبًا من شيخ أو شابٍ فهو بجهالةٍ"، وقال
أيضًا: "من عصى ربَّه فهو جاهلٌ حتى ينزعَ عن معصيتِهِ "، وقال أيضًا:
"من عملَ سوءًا خطأً أو إثمًا فهو جاهلٌ حتى ينزعَ منه ".
وقال أيضًا هو وعطاء: "الجهالةُ: العمدُ".
رواهنَّ ابنُ أبي حازمٍ وغيرُه، وقال: ورُوي عن قتادةَ،(2/121)
وعمرِو بنِ مرةَ، والثوريِّ نحو ذلك.
ورُوي عن مجاهدٍ، والضحاكِ، قالا: "ليسَ من جهالتِهِ أن لا يعلَمَ حلالاً
ولا حرامًا، ولكن مِنْ جهالتِهِ حينَ دخلَ فيه ".
وقال عكرمةُ: "الدنيا كلُّها جهالةٌ".
وعن الحسنِ البصريِّ أنَه سُئلَ عنها فقال: "هم قومٌ لم يعلمُوا ما لهم مما
عليهم، قيل له: أرأيتَ لو كانوا علموا؟
قال: فليخرجُوا منها فإنها جهالةٌ".
ومما يبيِّنُ أنَّ العلمَ يوجبُ الخشيةَ وأنَّ فقدَهُ يستلزمُ فقْدَ الخشيةَ وجوه:
إحداها: أن العلم باللَّه تعالى وما لَهُ من الأسماءِ والصفات كالكبرياءِ
والعظمةِ والجبروتِ، والعزة وغيرِ ذلك يوجبُ خشيتَهُ، وعدمُ ذلك يستلزمُ
فقْدَ هذه الخشيةِ، وبهذا فسَّر الآيةَ ابنُ عباسٍ، فقال: "يريدُ إنما يخافني مَنْ
علِمَ جبروتِي، وعِزَتي، وجلالِي، وسلْطَاني "، ويشهدُ لهذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إني لأعلمكم باللَّهِ وأشدُّكم له خشيةً" وكذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا"
وفي "المسند" وكتابِ الترمذيِّ وابنِ ماجةَ
منْ حديثِ أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إني أرَى ما لا ترونَ وأسمعُ ما لا تسمعونَ.
إنَّ السماءَ أطَّتْ وحُقَّ لها أن تئِطَّ، ليسَ فيها موضعُ أربع أصابعَ إلا وملكٌ
واضعٌ جبهتَهَ ساجدٌ للَّهِ - عز وجلَّ - واللَّه لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا، وما تلذذتُم بالنساءِ على الفُرشِ، ولخرجتُم إلى الصعداتِ تجأرونَ إلى الله عزَّ وجلَّ ".(2/122)
وقال الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ.
قال: ويُروى عن أبي ذرٍّ موقوفًا وذكر أبو نُعيمٍ وغيرُه بالإسنادِ عن ابنِ
عباسٍ، أنه قالَ للنفرِ الذين كانوا يختصمون ويتمارون:
"أو ما علمتُم أنَّ للَّه عبادًا أصمتَتْهم خشيةُ اللَّهِ من غير بكمٍ ولا عَيًّ، وإنهم لَهُمُ العلماءُ والفصحاءُ والطلقاءُ والنبلاءُ، العلماءُ بأيامِ اللَّه غيرَ أنهم إذا تذكَّروا عظمةَ اللَّهِ طاشتْ لذلكَ عقولُهم، وانكسرتْ قلوبُهم، وانقطعتْ ألسنتُهم، حتَّى إذا استفاقُوا من ذلك، تسارعُوا إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالأعمالِ الزكيَّةِ، يعدونَ أنفسهم مع المفرطين، وإنهم لأكياسٌ أقوياءُ مع الظالمينَ والخاطئين، وإنهم لأبرارٌ بُرءاءُ، إلا أنهم لا يستكثرونَ إلا الكثيرَ، ولا يرضونَ له بالقليلِ، ولا يدلون عليه بالأعمالِ هم حيثُ ما لقيتموهُم مهتمُّونَ مشفقونَ وجِلُونَ خائفون ".
وروى ابنُ أبي الدنيا أثرًا عن زنادِ بن أبي حبيبٍ أنه بلغه: "أن من حملةِ
العرشِ من سالَ من عينه أمثالُ الأنهارِ من البكاءِ فإذا رفعَ رأسَهُ قالَ:
سبحانَك ما تُخشى حقَّ خشيتِكَ، قال تعالى ذكرُه: لكن الذين يحلفونَ
باسمي كاذبين لا يعلمونَ ذلك ".
وعن يزيد الرقاشيِّ قالَ: "إن للَّه تبارك وتعالى ملائكةً حولَ العرشِ.
تجري أعينهم مثلَ الأنهارِ إلى يومِ القيامةِ، يميدونَ كأنَّهم ينفضهم الريحُ من
خشيةِ اللَّهِ، فيقول الربُّ عزَّ وجلَّ: يا ملائكتي، ما الذي يُخيفكُم وأنتم
عِنْدِي؟
فيقولون: يا ربِّ، لو أنَّ أهلَ الأرضِ اطَّلعوا من عِزَّتك وعظمتكَ
على ما اطَّلعنا عليها، ما أساغوا طعامًا ولا شرابًا، ولا انبسطُوا في فُرُشِهِم.
ولخرجُوا إلى الصَّحاري يخورونَ كما تخورُ البقرُ". ومثل هذا كثيرٌ جدًّا،(2/123)
والمقصود أنَّ العلمَ باللَّهِ وأسمائهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ منْ قدره، وخلقِهِ، والتفكيرَ
في عجائبِ آياتِهِ المسموعةِ المتلوةِ، وآياتِهِ المشاهدةِ المرئيةِ من عجائبِ
مصنوعاتِهِ، وحِكمِ مبتدعاتِهِ ونحو ذلك مما يوجبُ خشيتَهُ وإجلالَهُ، ويمنعُ من
ارتكابِ نهيهِ، والتفريطِ في أوامره؛ هو أصلُ العلم النافع، ولهذا قالَ طائفةٌ
من السلفِ لعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وسفيان بن عيينةَ:
"أعجبُ الأشياءِ قلبٌ عَرَفَ ربَه ثمَ عصاهُ ".
وقال بشرُ بنُ الحارثِ: "لو يفكرُ الناسُ في عظمةِ اللَّهِ لما عصوا اللَّه "
وفي هذا المعنى يقولُ الشاعرُ:
فواعجبًا كيف يُعصى الإله. . . وكيفَ يجحدُهُ الجاحدُ
وللَّهِ في كلِّ تحريكةٍ. . . وتسكينةٍ أبدًا شاهِدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ. . . تدل على أنَه واحِدُ
الوجه الثاني: أنَّ العلمَ بتفاصيلِ أمرِ اللَّهِ ونهيه، والتصديقَ الجازمَ بذلك.
ومما يترتبُ عليه من الوعدِ والوعيدِ والثوابِ والعقابِ، مع تيقنِ مراقبة اللَّهِ
واطِّلاعهِ، ومشاهدَتِهِ، ومقتِهِ لعاصِيهِ وحضورِ الكرامِ الكاتبينَ، كلُّ هذا
يوجبُ الخشيةَ، وفعلَ المأمورِ وتركَ المحظورِ، وإنَّما يمنعُ الخشيةَ ويوجبُ
الوقوعَ في المحظوراتِ الغفلةُ عن استحضارِ هذه الأمورِ، والغفلةُ من أضدادِ
العلمِ، والغفلةُ والشهوةُ أصلُ الشرِّ، قالَ تعالى:
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) .
والشهوةُ وحدُها، لا يستقلُّ بفعلِ السيئاتِ إلا مع الجهلِ، فإنَّ صاحبَ الهوى لو استحضرَ هذه الأمورَ المذكورةَ وكانتْ موجودةً في ذكره، لأوجبتْ له الخشيةَ القامعةَ لهواهُ، ولكنَّ غفلتَه عنها مما يوجبُ نقصَ إيمانِهِ الذي أصلُه التصديقُ الجازمُ المترتبُ على(2/124)
التصورِ التامِ، ولهذا كان ذكرُ اللَّهِ وتوحيدُه والثناءُ عليه يزيدُ الإيمانَ، والغفلةُ والإعراضُ عن ذلك يضعفُهُ وينقصُهُ، كما كان يقولُ منْ يقولُ من الصحابةِ:
"اجلسُوا بنا نؤمنُ ساعة".
وفي الأثرِ المشهورِ عن حماد بنِ سلمةَ عن أبي جعفرٍ الخطميِّ عن جدِّه
عميرِ بن حبيبٍ وكان من الصحابةِ، قال:
"الإيمانُ يزيدُ وينقصُ قيلَ: وما زيادتُهُ ونقصانُهُ؟
قال: إذا ذكرَنا اللَّه ووحَّدْناه وسبَّحْنَاهُ، فتلك زيادتُهُ.
وإذا غفلنا ونسينا، فذلك نقصانُهُ ".
وفي مسندي الإمام أحمدَ والبزارِ من حديث أبي هريرةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"جدِّدُوا إيمانَكُم " قالُوا: وكيفَ نجددُ إيمانَنا يا رسولَ اللَّهِ؟
قال: "قولُوا: لا إله إلا اللَّه ".
ولهذا كان الصحيحُ المشهورُ عن الإمامِ أحمدَ الذي عليه أكثرُ أصحابِهِ
وأكثرُ علماءِ السنة من جميع الطوائف؛ أنَّ ما في القلبِ من التصديقِ والمعرفةِ
يقبلُ الزيادةَ والنقصانَ، فالمؤمنُ يحتاجُ دائمًا كلَّ وقتٍ إلى تحديدِ إيمانِهِ وتقويةِ
يقينِهِ، وطلبِ الزيادةِ في معارفهِ، والحذرِ من أسبابِ الشكِّ والريبِ والشبهةِ، ومنْ هُنا يُعلمُ معنى قولِ النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمن ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن "
فإنه لو كان مستحضِرًا في تلك الحال لاطِّلاع اللَّهِ عليه ومقتِهِ له جمع ما توعَّدَهُ اللَّهُ به من العقابِ المجملِ والمفصلِ استحضارًا تامًّا لامتنعَ منه بعدَ ذلكَ وقوعُ هذا المحظورِ وإنما وقعَ فيما وقعَ فيه لضعفِ إيمانِهِ ونقصِهِ.(2/125)
الوجهُ الثالث: أنَّ تصورَ حقيقةِ المخوفِ يوجبُ الهربَ منه، وتصورَ حقيقة
المحبوبِ توجبُ طلبَهُ فإذا لم يهربْ منْ هذا ولم يطلبْ هذا دلَّ على أنًّ
تصورَهُ لذلك ليسَ تامًّا، وإن كانَ قد يصور الخبر عنه، وتصورُ الخبرِ
وتصديقِهِ وحفظُ حروفِهِ غيرُ تصوُّرِ المخبَرِ به فإذا أخبر بما هو محبوبٌ أو
مكروهٌ له، ولم يكذِّبِ الخبرَ بل عرفَ صدقَهُ لكن قلبَهُ مشغولٌ بأمور أخرى
عن تصورِ ما أخبرَ به، فهذا لا يتحركُ للهربِ ولا للطلبِ، في الأثر المعروف
عن الحسن وروي مرسلاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"العلمُ علمانِ، فعلم في القلب، فذاك العلمُ النافعُ، وعلمٌ على اللسانِ، فذاك حجةُ اللهِ على ابنِ آدم ".
الوجه الرابع: أنَّ كثيرًا من الذنوبِ قد يكونُ سببُ وقوعِهِ جهلَ فاعلِهِ بحقيقةِ
قبحه وبُغضِ اللَّهِ له وتفاصيل الوعيدِ عليه وإنْ كانَ عالمًا بأصل تحريمه وقبحِه
لكنَّه يكونُ جاهِلاً بما وردَ فيه من التغليظ والتشديد ونهايةِ القبح، فجهلُه
بذلكَ هو الذي جرَّأهُ عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقةِ قبحِهِ لأوجبَ
ذلك العلمُ تركَهُ خشيةً من عقابِهِ، ولهذا كان القولُ الصحيحُ الذي عليه
السلفُ وأئمةُ السنةِ أنه يصحُّ التوبةُ من بعضِ الذنوبِ دون بعضٍ خلافًا
لبعضِ المعتزلةِ، فإنَّ أحدَ الذنبينِ قد يَعلمُ قبحَه فيتوبُ منه ويستهينُ بالآخرِ
لجهلِهِ بقبحِهِ وحقيقةِ مرتبتِه فلا يقلعُ عنه، ولذلك قد يقهرُهُ هواهُ ويغلبُه في
أحدِهما دون الآخر فيقلعُ عما لم يغلبْه هواه دون ما غلبه فيه هواهُ، ولا يقالُ
لو كانتِ الخشية عندَهُ موجودةً لأقلعَ عن الجميع، لأن أصلَ الخشيةِ عنده
موجودةٌ، ولكنها غيرُ تامةٍ، وسبب نقصها إما نقصُ علمِهِ، وإما غلبةُ
هواه، فتبعُّضُ توبتِه نشأ من كونِ المقتضِي للتوبةِ من أحدِ الذنبين أقوى من
المقتضي للتوبةِ من الآخرِ، أو كونِ المانع من التوبةِ من أحدِهما أشدَّ من(2/126)
المانع من الآخرِ.
الخامس: أنَّ كل ما علمَ عِلمًا تامًّا جازِمًا بانَّ فعلَ شيئًا يضرُّه ضررًا راجحًا
لم يفعلْه، فإنَّ هذا خاصةُ العاقلِ، فإنَّ نفسه تنصرفُ عمَّا يعلمُ رجحانَ ضررهِ
بالطبع، فإنَّ اللَّه جعلَ في النفس حبًّا لما ينفعُها وبغْضًا لما يضرُّها، فلا يفعلُ
ما يجزم بأنه يضرُّها ضررًا راجحًا، ولا يقعُ ذلك إلا مَعَ ضعيفِ العقلِ؛ فإنَّ
السقوطَ مَنْ موضع عالٍ، أو في نهر مغرقٍ، والمرورَ تحتَ حائطٍ يُخشى
سقوطُه، ودخولَ نارٍ متأججةٍ، ورميَ المالِ في البحرِ، ونحو ذلك، لا يفعلهُ
من هو تامُّ العقل لعلمِهِ بأن هذا ضرر ولا منفعةَ فيه، وإنَّما يفعلُه من لم يعلمْ
ضررُهُ كالصبيِّ، والمجنونِ، والسَّاهي، والغافلِ، وأمَّا العاقلُ فلا يُقدمُ على ما يضرّه مع علمه بما فيه من الضررِ إلا لظنِّه أنَّ منفعتَهُ راجحة إمَّا بأن يجزمَ بأن ضررَهُ مرجوح، أو يظنُّ أن خيرَهُ راجح، كالذي يركبُ البحرَ ويسافرُ الأسفارَ الخطرةَ للربح فإنه لو جزمَ بأنه يغرقُ أو يخسرُ لما فعلَ ذلكَ وإنَّما أقدمَ عليه لترجيح السلامةِ عندَهُ والربح، وإن كانَ قد يكونُ مخطئًا في هذا الظنِّ.
وكذلك الزاني والسارقُ ونحوُهما، لو حصلَ لهم جزم بإقامةِ الحدودِ
عليهم من الرجم والقطعْ ونحو ذلك، لم يُقدموا على ذلكَ، فإذا عُلم هذا
فاصلُ ما يوقعُ الناسَ في السيئاتِ الجهلُ وعدمُ العلم بأنها تضرُهم ضررًا
راجحًا، أو ظنُّ أنها تنفعُهم نفعًا راجحًا، وذلك كلُّه جهل إما بسيط وإمَّا
مركب، ولهذا يسمَّى حالُ فعلِ السيئاتِ الجاهليةَ، فإن صاحبَها في حالِ
جاهليةٍ، ولهذا كانَ الشيطانُ يزيِّنُ السيئاتِ ويأمرُ بها، ويذكرُ ما فيها من
المحاسنِ التي يُظنُّ أنها منافعُ لا مضارّ كما أخبرَ اللَّهُ عنه في قصةِ آدمَ أنه
(يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) .(2/127)
قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) .
وقال تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) .
وقال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) .
وقال: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) .
وتزيينُ أعمالِهم يكونُ بواسطةِ الملائكةِ والأنبياءِ والمؤمنينَ للخيرِ.
وتزيينُ شياطينِ الإنسِ والجن للشر، وقال تعالى:
(وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) .
ومثلُ هذا كثيرٌ فالفاعلُ للذنبِ لو جزمَ بأنه يحصلُ له به الضررُ الراجحُ لم
يفعلْه، لكنه يزينُ له ما فيه من اللذةِ التي يظنُّ أنها مصلحة، ولا يجزمُ بوقوع
عقوبتِهِ، بل يرجو العفوَ بحسناتٍ أو توبةٍ أو بعفوِ اللهِ ونحوِ ذلك، وهذا كله
من اتباع الظن وما تهوى الأنفسُ، ولو كان له علم كامل لعرفَ به رجحانَ
ضررِ السيئة، فأوجبَ له ذلك الخشيةَ المانعةَ له من مواقعتِها، ونبينُ هذا
بـ: الوجه السادس: وهو أن لَذَّاتِ الذنوبِ لا نسبةَ لها إلى ما فيها من الآلامِ والمفاسد ألبتةَ فإنَّ لذاتها سريعةُ الانقضاءِ وعقوباتِها وآلامِها أضعافُ ذلك ولهذا قيل: "إن الصبرَ على المعاصِي أهونُ من الصبرِ على عذابِ اللَّه، وقيل:
"رُبَّ شهوةِ ساعو أورثتْ حزنًا طويلاً"
وما في الذنوبِ من اللذاتِ كما في الطعامِ الطيبِ المسموم من اللذةِ، فهي مغمورة بما فيه من المفسدةِ ومؤثرُ لذة الذنبِ كمؤثر لذة الطعامِ المسمومِ الذي فيه من السموم ما يمرضُ أو يقتلُ ومن هاهُنا يُعلمُ أنه لا يُؤثِرُ لذاتِ الذنوبِ إلا من هو جاهل بحقيقةِ عواقبَها، كما لا يؤثرُ أكلَ الطعامِ المسمومِ للِذَّتِهِ إلا من هو جاهل بحالهِ أو غير عاقل، ورجاؤه التخلصَ من شرفا بتوبةٍ أو عفو أو غيرِ ذلك كرجاءِ آكلِ الطعامِ(2/128)
المسمومِ الطيب للخلاصِ من شرِّ سُمِّه بعلاج أو غيره، وهو في غايةِ الحمقِ
والجهلِ، فقدْ لا يتمكنُ من التخلصِ منه بالكليةِ، فيقتلُهُ سمّه، وقد لا
يتخلصُ منه تخلصًا تامًّا فيطولُ مرضُهُ، وكذلكَ المذنبُ قد لا يتمكنُ من
التوبةِ، فإنَّ من وقعَ في ذنبٍ تجرَّأ عليه عمرَهُ وهان عليه خوضُ الذنوبِ
وعَسُرَ عليه الخلاصُ منها ولهذا قيل: "من عقوبةِ الذنب: الذنبُ بعدَهُ ".
وقد دلَّ على ذلك القرآنُ في غيرِ موضع، وإذا قُدِّرَ أنه تابَ منه فقدْ لا
يتمكنُ من التوبةِ النصوح الخالصةِ التي تمحو أثرَه بالكليةِ، وإنْ قدِّر أنه تمكنَ
من ذلكَ، فلا يقاومُ اللذةَ الحاصلةَ بالمعصيةِ ما في التوبةِ النصوح المشتملةِ
على النَّدمِ والحزنِ والخوفِ والبكاءِ وتجشم الأعمالِ الصالحةِ؛ من الألم
والمشقةِ، ولهذا قال الحسنُ:
"تركُ الذنبِ أيسرُ من طلبِ التوبةِ"
ويكفي المذنبُ ما فاته في حالِ اشتغالِهِ بالذنوبِ من الأعمالِ الصالحةِ الَّتي كانَ يمكنُه تحصيلَ الدرجاتِ بها.
وقد اختلفَ الناسُ في التائبِ، هل يمكنُ عودُهُ إلى ما كانَ عليه قبل
المعصية؟
على قولينِ معروفينِ، والقولُ بأنه لا يمكنُ عودُهُ إلى ما كانَ عليه
قولُ أبي سليمان الدَّرانيّ وغيرِهِ، وكذلكَ اختلفُوا في التوبةِ إذا استكملتْ
شروطَها، هل يُجزمُ بقبولها؟
على قولين: فالقاضي أبو بكر وغيرُهُ من المتكلمينِ على أنَّه لا يُجزمُ بذلك، ولكنَّ أكثرَ أهلِ السنةِ والمعتزلةِ وغيرَهم على أنه يُقطعُ بقبولها، وإنْ قُدِّر أنه عفِيَ عنه من غيرِ توبةٍ فإنْ كانَ ذلك بسببِ أمرٍ مكفرٍ عنه كالمصائبِ الدنيويةِ، وفتنةِ القبرِ، وأهوالِ البرزخ، وأهوالِ الموقفِ، ونحوِ ذلكَ، فلا يستريبُ عاقلٌ أن ما في هذه الأمورِ من الآلامِ والشدائدِ أضعاف أضعاف ما حصلَ في المعصيةِ من اللذةِ.
وإنْ عُفِيَ عنه بغيرِ سببٍ من هذه الأسباب المكفرةِ ونحوِها، فإنه لابَّد أن(2/129)
يلحقَهُ عقوبات كثيرة منها: ما فاتَهُ من ثوابِ المحسنينِ، فإن اللَّه تعالى وإن عفا عن المذنبِ فلا يجعلْه كالذينَ آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) .
وقال: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) .
ولهذا قالَ بعضُ السلفِ: عُدَّ أن المسيءَ قد عُفِيَ عنه.
أليسَ قد فاتَهُ ثوابُ المحسنينَ؟
ولولا أنَّ اللَّه تعالى رضَّى أهلَ الجنةِ كلَّهم بما حصلَ لهم من
المنازلِ لتقطعتْ أصحابَ اليمينَ حسرات مما فاتَهُم من منازلِ المقربينَ مع
إمكانَ مشاركتِهِم لهم في أعمالِهِم التي نالُوا بها منازلَهُم العاليةَ، وقد جاء في
الأحاديثِ والآثارِ أنهم يقولون: ألم نكن مع هؤلاءِ في الدنيا؟
فيقالُ: كنتُم تفطرونَ، وكانوا يصومونَ، وكنتُم تنامونَ، وكانوا يقومون، وكنتم تبخلون، وكانوا ينفقون، ونحوُ ذلك.
وكذلكَ جاءَ: "أنَّ الرجلَ من أهلِ عليين ليخرجُ فيسيرُ في ملكِهِ فما تبقى خيمة من خيمِ الجنةِ إلا دخلَها من ضوءِ وجهه، فيستبشرونَ بريحه فيقولونَ: واهًا لهذه الريح، هذا رجل من أهلِ عليينَ قدْ خرجَ يسيرُ في ملكِه ".
هذا قد رُوي من حديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا، ورُويَ من كلامِ كعبٍ.
ومنها: ما يلحقُهُ من الخجلِ والحياءِ منَ اللَّهِ عزَ وجلَّ عند عرضِهِ عليه.
وتقريره بأعمالِهِ، وربما كان ذلك أصعبُ عليه من دخولِ النارِ ابتداءً، وقد
أخبرَ بذلكَ بعضُ المحتضرينَ في زمانِ السلفِ عند احتضاره وكان أُغميَ عليه
حتَى ظُنَّ أنه مات، ثم أفاقَ فأخبرَ بذلك.(2/130)
وجاء تصديقُ ذلكَ في الأحاديثِ والآثارِ كما روى عبدُ اللَهِ بنُ الإمامِ
أحمدَ في كتابِ "الزهدِ" بإسنادِهِ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: "يُدْنِي اللَّه عزَّ وجلَّ العبدَ يومَ القيامةِ، فيضعُ عليه كنفَهُ، فيسترُهُ من الخلائقِ كلها، ويدفعُ إليه كتابَهُ في ذلكَ السترِ، فيقول: اقرأْ يا ابنَ آدمَ كتابَكَ، قال: فيمرّ بالحسنةِ، فيبيضُّ لها وجْهُه ويُسَرُّ بها قلبُهُ قال: فيقولُ اللَهُ عزَ وجل: أتعرفُ يا عبدِي؟
فيقول: نعم، يا ربَ أعرفُ، فيقول: إني قد قبلتُها منك.
قال: فيخرُّ للَّه ساجدًا، قال: فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
ارفع رأسَك يا ابنَ آدمَ وعُدْ في كتابِكَ، قال: فيمرُّ بالسيئةِ فيسودُ لها وجْهُه، ويوجلُ منها قلبُه وترتعدُ منها فرائصُه، ويأخذه من الحياءِ من ربه ما لا يعملُه غيرُهُ، قال: فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: أتعرفُ يا عبدِي؟
قال: فيقول: نعم، يا ربَ أعرفُ، قال: فيقول: إني قد غفرتُها لك؟
قال: فلا يزال حسنةٌ تُقبلُ فيسجدُ، وسيئةٌ تُغفرُ فيسجدُ، فلا
ترى الخلائقُ منه إلا السجودَ، قال: حتى تنادي الخلائقُ بعضها بعضًا: طوبى
لهذا العبدِ الذي لم يعصِ اللَّهَ قط، ولا يدرونَ ما قد لقي فيما بينه وبين اللَّهِ
عزَ وجلَ ".
ومما قدْ وقفه عليه ورُوي معنى ذلك عن أبي موسى، وعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ.
وغيرِهِما، ويشهدُ لهذا حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ الثابتُ في "الصحيح "
- حديثُ النجوى - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا كان يوم القيامةِ دعا اللَّهُ بعبدِهِ فيضعُ عليه كنَفَهَ فيقولُ: ألم تعملْ يومَ كذا وكذا ذنبَ كذا وكذا؟
فيقولُ: بلى يا ربِّ، فيقول: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا وغفرتُ ذلك لك اليومَ " وهذا كلُّه في حقِّ من يريدُ اللَّهُ أن يعفوَ عنه ويغفرَ له فما الظنُّ بغيره؟
ولهذا في "مراسيل الحسنِ " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(2/131)
"إذا أرادَ اللَّهُ أن يسترَ على عبدِهِ يومَ القيامة أراه ذنوبَهُ فيما بينه وبينه ثمَّ غفرَهَا له "
ولهذا كانَ أشهرُ القولينِ أنَّ هذا الحكمَ عامٌّ في حقِّ التائبِ وغيره، وقد ذكرَهُ
أبو سليمانَ الدمشقيُّ عن أكثرِ العلماءِ، واحتجُّوا بعمومِ هذه الأحاديثِ مع
قولِهِ تعالى: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كبِيرَة إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) .
وقد نُقِلَ ذلك صريحًا عن غيرِ واحدٍ من السلفِ كالحسنِ البصريِّ وبلالِ بنِ سعد - حكيم أهلِ الشامِ -
كما روى ابنُ أبي الدنيا، وابنُ المنادِي وغيرُهُما عن الحسنِ:
"أنه سُئل عن الرجلِ يذنبُ ثم يتوبُ هل يُمحى من صحيفتِهِ؟
قال: لا، دون أن يوقِفَهُ عليه ثم يسألُهُ عنه "
ثم في رواية ابنِ المنادِي وغير: "ثم بكى الحسنُ، وقال:
لو لم تبكِ الأحياءُ من ذلكَ المقامِ لكانَ يحقُّ لنا أن نبْكِي فنطيلَ البكاءَ".
وذكرَ ابنُ أبي الدنيا عنْ بعضِ السلفِ أنه قال:
"ما يمرُّ عليَّ أشدُ من الحياءِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ ".
وفي الأثرِ المعروفِ الذي رواه أبو نُعيمٍ وغيرُهُ عن علقمةَ بنِ مرثدٍ:
"أنَّ الأسودَ بنَ يزيدَ لما احتُضِرَ بكى، فقيلَ له: ما هذا الجزعُ؟
قالَ: ما لي لا أجزعُ، ومن أحقُّ بذلكَ منَي.
واللَّهِ لو أُتيتُ بالمغفرةِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لهمَّني الحياءُ منه
مما قدْ صنعتُه، إنَّ الرجلَ ليكونُ بينه وبين الرجلِ الذنبُ الصغيرُ
فيعفو عنه فلا يزالُ مستَحِيًا منه ".
ومن هذا قولُ الفضيلِ بنِ عياضٍ:
"بالموقفِ واسوءتاهُ منكَ وإنْ عفوتَ ".
المقصود هنا أن آلام الذنوبِ ومشاقَّها وشداتها التي تزيدُ على لذاتِها
أضعافًا مضاعفةً، لا يتخلفُ عن صاحِبها، لا مع توبة ولا عفوٍ، فكيفَ إذا
لم يُوجدْ واحدٌ منهما، ويتضحُ هذا بما نذكرُهُ في الوجهِ السابع.(2/132)
الوجه السابع: وهو أن المقْدِمَ على مواقعةِ المحظورِ إنما أوجبَ إقدامَهُ عليه ما
فيه من اللذةِ الحاصلةِ له به، فظنَّ أنَّه يحصلُ له لذتُهُ العاجلةُ، ورجَى أنْ
يتخلصَ من تبعتِهِ بسببٍ من الأسبابِ ولو بالعفوِ المجردِ فينالُ به لذةً ولا
يلحقُهُ به مضرةٌ، وهذا من أعظم الجهلِ، والأمر تجلس (1) باطنه، فإن الذنوبَ تتبعُها ولابدَّ من الهمومِ والآلامِ وضيقِ الصدرِ والنكدِ، وظلمةِ القلبِ، وقسوتِهِ أضعافُ أضعافُ ما فيها منَ اللذةِ، ويفوتُ بها من حلاوةِ الطاعاتِ، وأنوارِ الإيمانِ، وسرورِ القلبِ ببهجةِ الحقائقِ والمعارفِ، ما لا يُوازي الذرةَ منه جميعُ لذاتِ الدنيا، فيحصلُ لصاحبِ المعصيةِ العيشةُ الضنكُ، وتفوتُهُ الحياةُ الطيبةُ، فينعكسُ قصدُهُ بارتكابِ المعصيةِ، فإنَّ اللَّهَ ضمِنَ لأهلِ الطاعةِ الحياةَ الطيبةَ، ولأهلِ المعصيةِ العيشةَ الضنكَ، قالَ تعالى:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) .
وقال: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِن أَكثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .
وقال: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .
وقال في أهلِ الطاعةِ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) .
قال الحسنُ وغيرُهُ من السلفِ: "لنرزقنَّه عبادةً يجدُ حلاوتَها في قلبِهِ ".
ومن فسَّرها بالقناعةِ، فهو صحيح أيضًا، ومن أنواع الحياةِ الطيبةِ الرضى
بالمعيشةِ فإنَّ الرِّضى، كما قالَ عبدُ الواحدِ بنُ زيدٍ:
"جنةُ الدنيا ومستراحُ العابدين ".
وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) .
__________
(1) هكذا في المطبوع، ولعلها: " تُحِسُّ ".(2/133)
وقال: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) .
كما قالَ عن إبراهيمَ عليه السلام:
(وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) .
ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ.
فما في الطاعةِ من اللذةِ والسرورِ والابتهاج والطمأنينةِ وقرة العينِ.
أمر ثابتٌ بالنصوصِ المستفيضة وهو مشهودٌ محسوسٌ يدركُهُ بالذوقِ والوجدِ مَنْ حصلَ له ولا يمكنُ التعبيرُ بالكلامِ عن حقيقتِهِ، والآثارُ عن السلفِ والمشايخ العارفينَ في هذا البابِ كثيرةٌ موجودةٌ حتَّى كان بعضُ السلفِ يقولُ: لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه لجالدُونا عليه بالسيوفِ ".
وقال آخرُ: "لو علِموا ما نحن فيه لقتلُونا ودخلوا فيه ".
وقال أبو سليمانَ: "أهلُ الليلِ في ليلهم ألذ من أهلِ اللهو في لهوهِم.
ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا".
وقال: "إنه ليمرُّ على القلبِ أوقاتٌ يضحكُ فيها ضحِكًا".
وقال ابنُ المباركِ وغيرُهُ: "مساكينُ أهلِ الدنيا خرجُوا منها ولم يذوقوا
أطيبَ ما فيها، قيل: ما أطيب ما فيها؟
قال: معرفةُ اللَّهِ ".
وقال آخرُ: "أوجدني اللَّه قلبًا طيبًا حتى قلتُ: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ
هذا فإنَّهم في عيشٍ طيب ".
وقال مالكُ بنُ دينار: "ما تنعمَ المتنعمونَ بمثلِ ذكرِ اللَّهِ ".
وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا، والمعاصي تقطعُ هذه الموادَّ، وتغلقُ أبوابَ هذه الجنةِ
المعجلةِ، وتفتحُ أبوابَ الجحيم العاجلةِ من الهمِّ والغمِّ، والضيقِ والحزنِ(2/134)
والتكدرِ وقسوةِ القلبِ وظلمتِهِ وبعدِهِ عن الربِّ - عزَّ وجلَّ - وعن مواهبِهِ
السَّنيَّةِ الخاصةِ بأهلِ التقوى.
كما ذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِه عن علي - رضي الله عنه - قال:
"جزاءُ المعصيةِ الوهنُ في العبادةِ، والضيقُ في المعيشةِ، والتعسُ في اللذةِ.
قيل: وما التعسُ في اللذةِ؟
قال: لا ينال شهوةً حلالاً، إلا جاءَه ما يبغِّضُهُ إيَّاها".
وعن الحسنِ قال: "العملُ بالحسنةِ نورٌ في القلبِ وقوةٌ في البدنِ، والعملُ
بالسيئةِ ظلمةٌ في القلبِ ووهن في البدن ".
وروى ابن المنادِي وغيرُهُ عن الحسنِ، قال: "إن للحسنةِ ثوابًا فى الدنيا
وثوابًا في الآخرةِ، وإنَّ للسيئة ثوابًا في الدنيا، وثوابًا في الآخرةِ، فثوابُ
الحسنةِ في الدنيا البصرُ في الدِّين، والنورُ في القلبِ، والقوةُ في البدنِ مع
صحبةٍ حسنةٍ جميلةٍ، وثوابُها في الآخرةِ رضوانُ اللَّه عزَّ وجلَّ وثوابُ السيئةِ
في الدنيا العمَى في الدنيا، والظلمةُ في القلبِ، والوهنُ في البدنِ مع
عقوباتٍ ونقماتٍ، وثوابُها في الآخرةِ سخطُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والنارُ".
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن مالكِ بن دينارٍ، قال:
"إن للَّهِ عقوبات فتعاهدُوهنَّ من أنفسكم في القلوبِ والأبدانِ: ضنكٌ في المعيشةِ، ووهن فى العبادةِ، وسخطٌ في الرزقِ ".
وعنه أنه قال: "ما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمُ من قسوةِ القلبِ ".
ومثلُ هذا كثيرٌ جدًّا، وحاصلُ الأمر ما قاله قتادةُ وغيرُهُ من السلفِ: "إن
اللَّهَ لم يأمرْ العبادَ بما أمرَهُم به لحاجتِهِ إليه، ولا نهاهُم عمَّا نهاهُم عنه بخلاً
به، بل أمرهُم بما فيه صلاحُهم، ونهاهُم عمَّا فيه فسادُهُم، وهذا هو الذي(2/135)
عليه المحققون من الفقهاءِ من أصحابِنا وغيرُهُم، كالقاضي أبي يَعْلَى وغيرِهِ.
وإن كان بينهم في جوازِ وقوع خلافِ ذلكَ عقلاً نزاعٌ مبنيّ على أن العقلَ هل له مدخل في التحسينِ والتقبيح أم لا؟
وكثير منهم كأبي الحسنِ التميمي وأبي الخطابِ على أنَّ ذلك لا يجوزُ
عقْلاً أيضًا وأما منْ قال بوقوع مثلِ ذلك شرعًا فقولُهُ شاذٌ مردودٌ.
والصوابُ: أنَّ ما أمرَ اللَّهُ به عبادَهُ فهو عينُ صلاحِهِم وفلاحِهِم في دنياهُم
وآخرتِهم، فإنَّ نفسَ الإيمانِ باللَّهِ ومعرفتِهِ وتوحيدِهِ وعبادتِهِ ومحبتِهِ وإجلالِه
وخشيتهِ وذكره وشكره؛ هو غذاءُ القلوبِ وقوتُها وصلاحُها وقوامُها، فلا
صلاحَ للنفوسِ، ولا قرةَ للعيونِ ولا طمأنينةَ، ولا نعيمَ للأرواح ولا لذةَ لها
في الدنيا على الحقيقةِ، إلا بذلكَ، فحاجتُها إلى ذلك أعظمُ من حاجةِ
الأبدانِ إلى الطعامِ والشرابِ والنَّفَسِ، بكثيرٍ، فإنَّ حقيقةَ العبدِ وخاصيتِهِ هي
قلبُه وروحُهُ ولا صلاحَ له إلا بتألهِهِ لإلهه الحقّ الذي لا إله إلا هو، ومتى
فقدَ ذلكَ هلكَ وفسدَ، ولم يصلحْهُ بعد ذلك شيء ألبتة، وكذلكَ ما حرَّمه
اللَّهُ على عبادِهِ وهو عينُ فسادِهِم وضررِهم في دينهِم ودنياهم، ولهذا حرَّم
عليهم ما يصدُّهم عن ذكره وعبادتِهِ كما حرم الخمرَ والميسرَ، وبيَن أنه يصدّ
عن ذكرِهِ وعن الصلاة مع مفاسدَ أُخرَ ذكرَها فيهما، وكذلك سائرُ ما حرَّمه
اللَّه فإنَّ فيه مضرةً لعبادِهِ في دينهم ودنياهم وآخرتِهِم، كما ذكر ذلك
السلفُ، وإذا تبيَّن هذا وعُلِمَ أنَّ صلاحَ العبادِ ومنافعِهم ولذاتِهم في امتثالِ ما أمرهُم اللَهُ به، واجتنابِ ما نهاهم اللَّهُ عنه تبيَّن أن من طلبَ حصولَ اللذةِ
والراحةِ مِنْ فعلِ المحظورِ أو تَرْكِ المأمورِ، فهو في غايةِ الجهلِ والحمقِ، وتبيَّن
أنَّ كلَّ من عصى اللَّهَ هو جاهل، كما قاله السلفُ ودلَّ عليه القرآنُ كما(2/136)
تقدم، ولهذا قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) .
وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) .
وقال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) .
فأخبر أنهم علموا أنَّ من اشتراه أي تعوَضَ به في الدنيا
فلا خَلاقَ له في الآخرةِ ثم قالَ: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فيدلُّ هذا على أنَّهم لم يعلموا سوء ما شرَوا به أنفسَهُم.
وقد اختلفَ المفسرونَ في الجمع بين إثباتِ العلم ونفيه هاهنا.
فقالت طائفة منهم: الذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرةِ من خلاق، هم الشياطينُ الذين يُعلِّمونَ الناسَ السحرَ، والذين قيلَ فيهم: (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) هم الناسُ الذين يتعلمون.
قال ابنُ جرير: وهذا القولُ خطأٌ مخالفٌ لإجماع أهلِ التأويلِ على
أنَّ قولَهُ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) عائدٌ على اليهودِ الذين اتبعوا ما تتلو الشياطينُ على
ملكِ سليمانَ - ثم أخبرَ ابنُ جرير أنَّ الذين علموا أنه لا خلاقَ لمن اشتراه هم اليهودُ، والذين قيل فيهم: لو كانوا يعلمون، هم الذين يتعلمون من الملكينِ، وكثيرًا ما يكون فيهم الجهالُ بأمرِ اللَّه ووعدِهِ ووعيدِه، وهذا أيضًا ضعيفٌ فإنَّ(2/137)
الضميرَ فيهما عائدٌ إلى واحدٍ، وأيضًا فإن الملكينِ يقولانِ لمن يعلمانِهِ: إنما
نحن فتنة فلا تكفر، فقد أعلماه تحريمَه وسوءَ عاقبتِهِ.
وقالتْ طائفة: إنما نفىَ عنهم العلمَ بعدما أثبته لانتفاءِ ثمرتِهِ وفائدتِهِ، وهو
العملُ بموجبِهِ ومقضتاهُ، فلمَّا انتفَى عنهم العملُ بعلمهِم جعلَهم جُهَّالاً
لا يعلمونَ، كما يقالُ: لا عِلْمَ إلا ما نفعَ، وهذا حكاه ابنُ جريرٍ وغيرُهُ، وحكى الماورديُ قولاً بمعناه، لكنه جعلَ العملَ مضمرا، وتقديرُهُ لو كانوا يعملون بما يعلمون.
وقيلَ: إنهم علموا أنَّ منْ اشتراه فلا خلاقَ له، أي لا نصيبَ له في
الآخرةِ من الثوابِ، لكنهم لم يعلموا أنه يستحق عليه العقاب مع حرمانِهِ
الثوابَ، وهذا حكاه الماورديُّ وغيرُهُ، وهو ضعيف أيضًا، فإنَّ الضميرَ إن عادَ إلى اليهودِ، فاليهودُ لا يخفى عليهم تحريمُ السحرِ واستحقاقِ صاحبِه العقوبةَ، وإن عادَ إلى الذين يتعلمونَ من الملكينِ فالملكانِ يقولانِ لهم: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) والكفرُ لا يخْفَى على أحدٍ أن صاحبَه يستحقُّ العقوبةَ، وإن عادَ إليهما، وهو الظاهرُ، فواضح، وأيضًا فإذا علموا أنَّ من اشتراهُ ما لهُ في الآخرةِ من خلاقٍ فقدْ علمُوا أنه يستحقُّ العقوبةَ، لأنَّ الخلاقَ: النصيبُ من الخيرِ، فإذا عَلِمَ أنه ليس له نصيب في الخيرِ بالكليةِ فقدْ علم أن له نصيبًا من الشرِّ، لأنَّ أهلَ التكليفِ في الآخرةِ لا يخلو واحد منهم عن أن يحصلَ له خير أو شرّ لا يمكنُ انتكاله عنهما جميعًا ألبتة.
وقالتْ طائفة: علموا أنَّ من اشتراه فلا خلاقَ له في الآخرةِ، لكنهم ظنُّوا
أنهم ينتفعونَ به في الدنيا، ولهذا اختاروه وتعوَّضُوا به عن بوارِ الآخرةِ
وشرَوا به أنفسَهُم، وجهلُوا أنه في الدنيا يضرُّهم أيضًا ولا ينفعُهم،(2/138)
فبئسَ ما شروا به أنفسَهُم لو كانوا يعلمون ذلك، وأنَّهم إنما باعُوا أنفسَهم وحظَّهم من الآخرةِ بما يضرُّهم في الدنيا أيضًا ولا ينفعهم، وهذا القولُ حكاه الماورديّ وغيرُهُ، وهو الصحيحُ، فإنَّ اللَّه تعالى قال:
(وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضرّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ)
أي هو في نفس الأمرِ يضرُّهم ولا ينفعُهم بحالٍ في الدنيا وفي الآخرةِ.
ولكنَّهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يُقدِمُوا عليه إلا لظنَّهم أنه ينفعُهم في
الدنيا.
ثمَ قال: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)
أي قد تيقَّنوا أنَّ صاحبَ السحرِ لا حظَّ له في الآخرةِ، وإنما يختارُهُ لما يرجو من نفعِهِ في الدنيا، وقدْ يسمُّون ذلك العقلَ المعيشي أي العقلَ الذي يعيشُ به الإنسانُ في الدنيا عيشةً طيبةً، قال اللَّه تعالى:
(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
أي: إن هذا الذي يعوضوا به عن ثوابِ الآخرةِ في الدنيا أمرٌ
مذمومٌ مُضِر لا ينفع لو كانوا يعلمونَ ذلك ثمَ قال:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنوا وَاتَّقَوْا لَمَثوبَةٌ مِنْ عِندِ اللَّهِ خَيْر لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
يعني: أنهم لو اختارُوا الإيمانَ والتقْوى بدلَ السِّحرِ لكانَ اللَّهُ يثيبُهم على ذلكَ ما هو خير لهم مما طلبُوه في الدنيا لو كانوا يعلمون، فيحصُلُ لهم في الدنيا من ثوابِ الإيمانِ والتقْوى من الخير الذي هُو جلبُ المنفعةِ ودفعُ المضرَّةِ ما هو أعظمُ مما يُحَصِّلُونَهُ بالسِّحرِ من خيرِ الدنيا مع ما يُدَّخَرُ لهم من الثوابِ في الآخرةِ.
والمقصودُ هنا: أن كل من آثرَ معصيةَ اللَّهِ على طاعتِهِ ظانًّا أنه ينتفعُ بإيثارِ
المعصيةِ في الدنيا، فهُوَ من جنسِ من آثرَ السحرَ - الذي ظنَّ أنه ينفعُه في
الدنيا - على التقوى والإيمان، ولو اتَّقى وآمنَ لكانَ خيرًا له وأرجى لحصولِ
مقاصدِهِ ومطالبِهِ ودفع مضارِّه ومكروهاتِهِ، ويشهدُ كذلك
أيضًا ما في "مسندِ البزارِ"(2/139)
عن حذيفةَ قال: "قامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناسَ فقال: هلمُّوا إليَّ، فأقبلوا إليه فجلسُوا، فقال: "هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريلُ - عليه السلامُ. - نفثَ في رُوعي: أنَّه لا تموتُ نفسٌ حتى تستكملَ رزقَها وإن أبْطأَ عليها، فاتقوا اللَّهَ وأجمِلُوا في الطلبِ ولا يحملنَّكُم استبطاءُ الرّزْقِ أنْ تأخذُوه بمعصيةِ اللَهِ، فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعَتِهِ ".
إذا تبيَن هذا؛ فقدْ عُلِمَ أن العلمَ مستلزِم للخشيةِ منْ هذه الوجوهِ كُلِّها.
لكن على الوجهِ الأولِ يستلزمُ الخشيةَ العلمُ باللَّهِ وجلالِهِ وعظمتِهِ، وهو الذي فسرَ الآيةَ به جماعةٌ من السلفِ، كما تقدَّم، وعلى الوجوهِ الأُخرِ تكون الخشيةُ ملازمةٌ للعلم بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ وأحكامِهِ وشرائعِهِ وأسرارِ دينه
وشرعِهِ وخلقِهِ وقَدَره، ولا تَنافي بينَ هذا العلم والعلم باللَّهِ؛ فإنَّهما قد
يجتمعانِ وقد ينفردُ أحدُهما عن الآخرِ، وأكملُ الأحوال اجتماعُهما جميعًا
وهي حالةُ الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وخواصُّ الصديقينَ ومتى اجتمعا كانتِ
الخشيةُ حاصلةٌ من تلكَ الوجوهِ كلها، وإن انفردَ أحدُهما حصلَ من الخشيةِ
بحسبِ ما حصَّل من ذلك العلم، والعلماءُ الكُمَّلُ أولو العلم في الحقيقةِ
الذين جمعُوا الأمرين.
وقد ذكر الحافظُ أبو أحمدَ بنُ عديٍّ: ثنا أحمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ صالح بنِ
شيخ بنِ عميرةَ: ثنا إسحاقُ بن بهلول قال: قال لي إسحاقُ بنُ الطباع: قال
لي سفيانُ بن عيينةَ: "عالمٌ باللَّه عالِمٌ بالعلم، عالمٌ باللَّه ليس بعالِمٍ بالعلم.
عالمٌ بالعلم ليس بعالم باللَّه "، قال: قلتُ لإسحاقَ: فهمنيه واشرحه لي،(2/140)
قالَ: عالمٌ باللَّهِ عالمٌ بالعلم، حمادُ بن سلمةَ، عالمٌ باللَّه ليس بعالم بالعلم
مثل أبي الحجاج العابدِ، عالمٌ بالعلم ليسَ بعالم باللَّه فلانٌ وفلانٌ وذكر
بعضَ الفقهاءِ.
وروى الثوريُّ عن أبي حيَّان التميمي سعيدِ بنِ حيَّانَ عن رجلٍ قالَ: كانَ
يُقال: العلماءُ ثلاثةٌ: "فعالمٌ باللَّه ليس عالمًا بأمرِ اللَّهِ، وعالمٌ بأمرِ اللَّهِ ليس
عالمًا باللَّهِ، وعالمٌ باللَّه عالمٌ بأمرِ اللَّهِ ".
فالعالمُ باللَّهِ وبأوامر اللَّه: الذي يخشى اللَّهَ ويعلمُ الحدودَ والفرائضَ.
والعالمُ باللَّه ليس بعالم بأمرِ اللَّه: الذي يخشى اللَّهَ ولا يعلمُ الحدودَ
والفرائضَ.
والعالمُ بأمرِ اللَّه ليس بعالم باللَّهَ: الذي يعلمُ الحدودَ والفرائضَ، ولا
يخشى اللَّهَ عزَّ وجلًّ.
وأما بيانُ أنَّ انتفاءَ الخشيةِ ينتفي مع العلم، فإنَّ العلمَ له موجب ومقتضى.
وهو اتباعُهُ والاهتداءُ به وصدُّه الجهل، فإذا انتفتْ فائدتُهُ ومقتضاهُ، صارَ
حالُهُ كحالِهِ عند عدمِهِ وهو الجهلُ، وقد تقدَّم أن الذنوبَ إنَّما تقعُ عن
جهالةٍ، وبيَّنا دلالةَ القرآنِ على ذلكَ وتفسيرَ السلفِ له بذلكَ، فيلزمُ حينئذٍ أن ينتفي العلمُ ويثبتُ الجهلُ عند انتفاءِ فائدةِ العلم ومقتضاهُ وهو اتباعُهُ، وم
هذا البابِ قولُهُ تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) .
وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا كان أحدُكُم صائمًا فلا يرفثْ ولا يجهلْ فإنِ امرؤٌ شاتَمَه أو قاتَلهُ
فليقلْ: إني امرؤٌ صائمٌ "
وهذا كما يوصفُ من لا ينتفعُ بسمْعِهِ وبصر وعقلِهِ(2/141)
في معرفة الحقِّ والانقيادِ له بأنه أصمُ أبكمُ أعْمَى قال تعالى:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) .
ويُقال أيضًا: إنه لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يعقلُ
كما قال اللَّهُ تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) .
فسَلْبُ العلم والعقلِ والسمع والبصرِ وإثباتُ الجهلِ والبكم والصم والعَمَى في حقِّ مَنْ فقدَ حقائقَ هذه الصفاتِ وفوائدَها
من الكفَّارِ أو المنافقينَ أو مَنْ يشركُهم في بعضِ ذلك كلِّه؛ من باب واحدٍ
وهو سلْبُ اسم الشيءِ أو مسمَّاهُ لانتفاءِ مقصوده وفائدتِهِ وإنْ كان موجودًا، وهو بابٌ واسعٌ وأمثلته كثيرةٌ في الكتاب والسُّنَّةِ.
* * *(2/142)
سُورَةُ يس
قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
[قال البخاري] : "باب احتساب الآثار": حدثنا محمد بن عبد الله بن
حوشب: ثنا عبد الوهاب، قال: حدثني حميد عن أنس، قال: قال النبي
- صلى الله عليه وسلم -:
"يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ ".
وقال ابن أبي مريم: أنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد: حدثني أنس، أن
بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
فكرِهَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْرُوا مَنَازِلَهم، فقال:
"ألا تحتسبون آثاركم؟ ".
قال مجاهد: خطاهم: آثار المشي في الأرض بأرجلهم.
ساقه أولاً من حديث عبد الوهاب الثقفي، عن حميد مختصرًا، ثم ذكر
من رواية يحيى بن أيوب المصري - وهو ثقة، عن حميد مختصرا، ثم ذكر
من رواية يحيى بن أيوب المصري وهو ثقة، لكنَّه كثير الوهم - مطوَّلاً، وزاد
فيه تصريح حميد بالسماع له من أنسٍ فإن حميدًا قد قيل: إنه لم يسمع من
أنس إلا قليلاً وأكثر رواياته عنه مرسلة، وقد سبق ذكر ذلك، وما قاله
الإسماعيلي في تسامح المصريين والشاميين في لفظة "حدثنا"
وأنهم لا يضبطون ذلك.(2/143)
وقد خرَّجه في "كتاب الحج " من طريق الفزاري، عن حميد، عن أنس.
قال: أراد بَنُو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة، فقال:
"يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ ".
وبنو سلمة: قوم من الأنصار، كانت دورهم بعيدة من المسجد، فأرادوا أن
يتحولوا إلى قرب المسجد، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمة دورهم، وأخبرهم أنَّ خطاهم يُكتب لهم أجرها في المشي إلى المسجد.
وخرَّج مسلم في "صحيحه " من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال:
كانت دارنا نائيةً من المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتَنَا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"إن لكم بكل خطوةٍ درجة".
ومن حديث أبي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى
قرب المسجد، والبقاع خالية. قال: فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم ".
فقالوا: ما يسرنا أنا كنَّا تحولنا.
وقوله: "ديارَكم " بفتح الراء على الإغراء، أي الزموا دياركم.
وخرَّجه الترمذيُّ من حديثِ أبي سُفيانَ السعدي، عن أبي نضرةَ عن أبي
سعيدٍ، قالَ: كانتْ بنو سَلمةَ في ناحيةِ المدينةِ، فأرادوا النُقلةَ إلى قُرْبِ
المَسْجِدِ، فنزلتْ هذه الآية ُ: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ آثارَكُمْ تُكْتَبُ "، فلَمْ ينتقْلُوا.
وأبو سفيانُ، فيه ضعْفٌ.(2/144)
والصحيحُ: رواية مسلم، عن أبي نضْرةَ عن جابرٍ، وكذا قالَهُ الدارقطني
وغيرُهُ.
وخرَّج ابنُ ماجةَ من روايةِ سِماكٍ، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ:
كانت الأنصارُ بَعِيدةً منازلُهم مِنَ المسجدِ، فأرادوا أنْ يَقْربوا، فنزلتْ:
(نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) ، قال: فَثَبَتُوا.
وقد ذكرَ البخاريُّ عن مجاهدٍ، أنه فسَّر الآثار - يعني: في هذه الآية ِ
بالخُطا، وزاد - أيضًا - بقوله: آثارُ المَشْي في الأرضِ بأرْجُلهم.
وفي حديثِ أنسٍ: "فكَرِهَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُعرُوا المدينةَ أو منازلَهم ".
يَعني: يُخلوها فتصيرُ عراةً منَ الأرضِ.
والعَرَاءُ: الفضاءُ الخالي مِنَ الأرضِ، ومنه: قوله تعالى: (فَنَبَذْناه بِالْعَرَاءِ) .
وروى يحيى بن سعيد الأنصاريُّ هذا الحديثَ، عن حميدٍ، عن أنسٍ.
وقال: "فَكَرِهَ أن يُعروا المسجدَ".
قالَ الإمامُ أحمدُ: وَهِمَ فيه، إنما هو: "كرِهَ أن يُعرْوا المدينةَ".
* * *(2/145)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
واعلمْ أنَّ الصفوفَ في الصلاةِ ممَّا خصَّ اللَّهُ به هذه الأمةَ وشرَّفها به.
فإنهم أشَبْهوا بذلك صُفوفَ الملائكةِ في السَّماءِ، كما أخبر اللَهُ عنهم أنَّه
قالوا: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ) ، وأقْسَمَ بالصافّاتِ صفًّا، وهُم الملائكة.
وفي "صحيح مسلم" عنِ حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فُضلنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعلت صُفوفُنا كصفوفِ الملائكة" الحديث.
وفيه - أيضًا - عن جابرِ بنِ سَمُرةَ، قال: خرَجَ علينا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
"ألا تصفون كما تصفُّ الملائكةُ عِندَ ربِّها؟
فقلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تصفُّ الملائكةُ عِندَ ربِّها؟
قال: "يُتمُّون الصفوفَ الأولَى، ويتراصُّون في الصفِّ".
وروى ابنُ أبي حاتم من روايةِ أبي نضرةَ، قال: كان ابنُ عمرَ إذا أُقيمتِ
الصلاةُ استقبلَ الناسُ بِوَجْههِ، ثم قالَ: أقيموا صُفُوفكم، استَوُوا قِيَامًا، يريدُ اللَّهُ بِكُمْ هدْيَ الملائكةِ.
ثم يقول: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) ، تأخَّرْ فُلانٌ، تقدَّمْ فلانٌ، ثم يتقدَّمُ فيُكَبِّرُ.(2/146)
وروى ابنُ جُريجٍ، عن الوليدِ بنِ عبدِ اللَّهِ بن أبي مغيثٍ، قال: كانوا لا
يَصُفُّون في الصلاةِ، حتَّى نزلتْ: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) .
وقد رُوي أن مِنْ صِفَةِ هذه الأُمَّةِ في الكتبِ السالفةِ: صفَّهم في الصلاةِ.
كصفِّهم في القتالِ.
* * *(2/147)
سُورَةُ (ص)
قوله تعالى: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
خرَّج الإمامُ أحمد رحمه اللَّه تعالى منْ حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ - رضي الله عنه - قال:
"احتبسَ عنَّا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذاتِ غداةٍ في صلاةِ الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمسِ، فخرج رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - سريعًا، فثوَّبَ بالصلاةِ وصلَّى وتجوَّزَ في
صلاته، فلما سلَّم قال: "كما أنْتُم على مَصَافِّكم " ثم أقبلَ إلينا فقال:
"إني سأحدَثكُم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمتُ مِنَ الليلِ فصليتُ ما قُدِّر لي، فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ فإذا أنا بربِّي عزَّ وجلَّ في أحسنِ صورةٍ فقال: يا محمدٌ أتدري فيم يختصمُ الملأُ الأعلى؟.
قلتُ: لا أدري ربِّ، قال: يا محمدُ فيم يختصم الملأُ الأعلى؟.
قلتُ: لا أدري ربِّ، قال: يا محمدُ فيم يختصمُ الملاُ الأعلى؟.
قلتُ: لا أدري ربِّ فرأيتُهُ وضعَ كفَّه بينَ كتفي حتى وجدتُ بَرَدَ أنامِلِهِ في صدرِي وتجلَّى لي كل شيءٍ وعرفتُ.
فقال: يا محمد فيم يختصمُ الملأُ الأعلى؟.
قلتُ: في الكفَّاراتِ والدرجاتِ، قال: وما الكفَّاراتِ؟.
قلتُ: نقْلُ الأقدام إلى الجمعاتِ، والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصلواتِ، وإسباغُ الوضوءِ عند الكريهاتِ، قال: وما الدرجاتُ؟.
قلتُ: إطعامُ الطعام، ولينُ الكلام، والصلاةُ والناسُ نيامٌ.
قال: سَلْ؟.
قلتُ: اللَّهُمَ إني أسْألكَ إطعامُ الطعام، ولينُ الكلامِ، والصلاةُ والناسُ نيامٌ، قال: سَلْ؟
قلت: قلتُْ اللَّهم إنِّي(2/148)
أسْألكَ فِعْلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحبَّ المساكينِ، وأنْ تَغْفِرَ لي وترْحمني، وإذا أردتَ فتنة في قومٍ فتوفَّني غيرَ مفتونٍ، وأسألك حبَكَ وحبَّ مَن يحبُّك، وحبَّ عملٍ يُقَرّبُني إلى حبِّكَ "
وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنها حقٌّ فادْرسوها وتعقَمُوها"
وخرَّجَه الترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، قال: وسألتُ محمدَ بنِ إسماعيلِ البخاريَّ عَنْ هذا؟
فقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قلتُ: وفي إسنادِهِ اختلافٌ، وله طرقٌ متعددةٌ، وفي بعضها زيادةٌ وفي
بعضها نُقصانٌ، وقد ذكرتُ عامةَ أسانيدِهِ وبعضَ ألفاظه المختلفةِ في كتابي
"شرح الترمذي "، وفي بعض ألفاظه عند الإمامِ أحمدَ، والترمذي أيضًا:
"المشيُ على الأقدام إلى الجماعاتِ " بدل: "الجُمُعات " وفيه أيضًا عندهما بعد ذكْر الكفَّاراتِ زيادةُ: "ومَنْ فعلَ ذلك عاشَ بخير، وماتَ بخير، وكان مِنْ خطيئتِهِ كيوم ولدتْه أُمُّهُ "، وفيه أيضًا عندهما: " والدرجاتُ إفشاءُ السلام" بدل: (الين الكلا أ"
وفي بعض رواياتِهِ: "فعلمتُ ما في السماءِ والأرضِ، ثم تلا: (وَكَذَلِكَ نرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) "
وفي رواية أخرى:
"فتجلَّى لي ما بيْنَ السماءِ والأرضِ ".
وفي رواية: "ما بيْنَ المشرقِ ".
وفي بعضها زيادة في الدعاء وهي: "وتتوب عليَّ ".
وفي بعضِها: "إسباغُ الوضوءِ في السبراتِ "
وفي بعضها: "وقال: يا محمد إذا صليتَ، فقُلْ: اللَهُمَّ إني أسألك فِعْلَ
الخيراتِ " فذكره.
والمقصودُ هنا شرحُ الحديثِ وما يُستنبطُ منه مِنَ المعارفِ والأحْكامِ وغيرِ
ذلك.
ففي الحديثِ دلالةٌ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عادتِهِ تأخيرُ صلاةِ(2/149)
الصبح إلى قريبِ طلوع الشمسِ، وإنَّما كانتْ عادتُهُ التغليسَ بها، وكان
أحيانًا يُسْفرُ بها عند انتشارِ الضوءِ على وجهِ الأرض، وأما تأخيرُها إلى قريبِ
طلوع الشمسِ فلم يكنْ مِنْ عادتِهِ، ولهذا اعتذرَ لهم عَنْهُ في هذا الحديث.
وقد قيل: إن تأخيرَها إلى هذا الإسْفارِ الفاحشِ لا يجوزُ لغيرِ عذرٍ، وأنَّه
وقتُ ضرورةٍ، كتأخير العصر إلى بعد اصفرار الشمسِ وهو قولُ القاضي من
أصحابِنا في بعضِ كتبه، وقد أوَمأ إليه الإمامُ أحمدُ وقال: هذهِ صلاةُ مفرط.
إنَّما الإسْفارُ أن ينتشرَ الضوءُ على الأرضِ.
وفي الحديثِ دلالةٌ على أنَّ من أخرَ الصلاةَ إلى آخر الوقتِ لعذرٍ أو غيره
وخافَ خروجَ الوقتِ في الصلاةِ إنْ طَوَّلها أنْ يخففها حتَّى يُدْركها كُلَّها في
الوقتِ.
وأمَّا قولُ أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - لمَّا طوَّل في صلاةِ الفجرِ وقرأ بالبقرةِ فقيل له: كادت الشمسُ أنْ تطلعَ، فقال: لو طلعتْ لم تجدْنَا غافلين، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يتعمَّدِ التأخيرَ إلى طلوع الشمسِ ولا أنْ يمدَّها ويُطيلها حتَّى تطلعَ الشمسُ؛ لأنه دخلَ فيها بغلسٍ، وأطالَ القراءةَ، وربما كان قد استغرقَ في تلاوتِهِ، فلو طلعتِ الشمسُ حينئذٍ لم يضرَّه، لأنه لم يكنْ متعمدًا لذلك.
وهذا يدلُّ على أنَّه كان يرى صحةَ الصلاةِ لمن طلعتْ عليه الشمس وهو في صلاتِهِ كما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ طلعت عليه الشمسُ وقد صلَّى ركعة من الفجرِ أنْ يُضيفَ إليها أُخرى.
وفي حديثِ معاذ دليل على أنَّ من رأى رُؤيا تَسُرُه فإنه يقَصُهُّا على
أصحابِهِ وإخوانه المُحبينَ له، ولا سِيَّما إنْ تضمنتْ رُؤياه بشارةً لهم وتعليمًا(2/150)
لما ينفعهم، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الفجرَ يقولُ لأصحابِهِ: "من رأى منكم الليلة رؤيا"
وفيه أيضًا: أن من استثقل نومه في تهجده بالليل حتَّى رأى رؤيا
تَسُرُّه، فإنَّ في ذلك بُشْرى له.
وفي "مراسيلِ الحسنِ ":
"إذا نام - العبدُ وهو ساجدٌ باهى اللَّهُ الملائكةَ يقول: يا ملائكتي انظرُوا إلى عبدِي، جسَدُهُ في طاعتِي وروحُهُ عندي "
وفيه دلالةٌ على شرفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
وتفضيلِهِ بتعليمِهِ ما في السماواتِ والأرضِ، وتجلَّى ذلك له مما تختصمُ فيه الملائكةُ في السماء وغير ذلك كما أُري إبراهيمُ ملكوتَ السماواتِ.
وقد وردَ في غيرِ حديثٍ مرفوعًا، وموقوفًا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أعْطِي عِلْمَ كلِّ شيءٍ خلا مفاتيح الغيبِ الخمسِ التي اختصَّ اللَّهُ عزَّ
وجلَّ بعلمِها، وهي المذكورةُ في قولِهِ عزَّ وجل: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) .
وأمَّا وصفُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لربِّه عزَّ وجلَّ بما وصفَهُ به فكُل ما وصف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه عزَّ وجلَّ به فهو حقٌّ وصدق يجبُ الإيمانُ والتصديقُ به كما وصفَ الله عزَّ وجلَّ به نفْسَهُ، مع نَفْي التمثيل عنه، ومَنْ أشكِلَ عليه فهْمُ شيءٍ مِنْ ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدحَ اللَهُ تعالى به الراسخينَ في العلم وأخبرَ عنهم أنهم عند المتشابه (آمَنا بِهِ كلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا) ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن:
"وما جهلتُمْ منه فَكِلُوهُ إلى عالِمِه "
خرَّجه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ وغيرُهُما.
ولا يتكلَّفُ ما لا عِلْمَ له به، فإنه يخشى عليه مِنْ ذلك الهلكة.(2/151)
سمِعَ ابنُ عباسِ يومًا منْ يروي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مِنْ هذه الأحاديثِ، فانتفضَ رجلٌ استنكارًا لذلك فقال ابنُ عباسٍ:
ما فرقُ هؤلاءِ يجدونَ رِقَّةً عندَ مُحْكمه ويهلكونَ عندَ مُتَشابِهه "
خرَّجه عبدُ الرزاقُ في كتابه عن معمرٍ
عن ابنِ طاوسِ عن أبيه عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، كلما سمعَ المؤمنون شيئًا منْ هذه الكلامِ قالوا: هذا ما أخبرنا اللَّهُ ورسولُه وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليمًا.
وفيه دلالةٌ على أنَّ الملأَ الأعْلى وهُم الملائكةُ أو المُقرَّبونَ منهم يختصمونَ
فيما بينهم ويتراجعونَ القولَ في الأعمالِ التي تُقربُ بني آدمَ إلى اللَّهِ عزَّ
وجلَّ وتُكَفَّرُ بها عنهم خطاياهُم وقد أخبرَ اللَّهُ عنهم بأنهم يستغفرون للذين
آمنوا ويدْعون لهُمْ.
وفي الحديثِ الصحيح: "إنَّ اللَّهَ إذا أحبَّ عبْدًا نادى إنِّي
أحبُّ فلانًا فأحبَّه، فيحبُّه جبريلُ ثم ينادِي في السماءِ أنَّ اللَّهَ يحبُّ فلانًا فأحبِّوه فيحبَّه أهلُ السماءِ، ثم يوضعُ له القَبولُ في الأرضِ ".
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -:
إذا ماتَ ابنُ آدمَ قال الناسُ: ما خلفَ؟
وقالتْ الملائكةُ: ما قدَّمَ؛ فالملائكةُ يسألون عن أعمالِ بني آدمَ ولهُمْ اعتناءٌ بذلك واهتمامٌ به، وبقي الكلامُ على المقصودِ من الحديثِ، وهو ذِكْرُ الكفَّاراتِ والدرجاتِ والدعواتِ، ونعقدُ لكلِّ واحدةٍ منها فصْلاً مُفْردًا.
الفصل الأول: في ذكر الكفَّاراتِ:
وهو إسباغُ الوضوءِ في الكريهاتِ، ونقْلُ الأقدامِ إلى الجُمعاتِ أو
الجَماعاتِ، والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصلواتِ، وسُميِّتْ هذه كفَّاراتٌ لأنها
تُكَفِّرُ الخطايا والسيئاتِ، ولذلك جاء في بعضِ الرواياتِ:
"مَنْ فعل ذلك عاشَ(2/152)
بخيرٍ، وماتَ بخير، وكان مِنْ خطيئتِه كيوم ولدتْهُ أمُّه "
وهذه الخصال المذكورةُ الأغلبُ عليها تكفيرُ السيئات، ويحصلُ بها أيضًا رفعُ الدرجاتِ كما في "صحيح مسلمٍ " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ألا أدلكم على ما يمحُو اللَّهُ به الخطايا ويرفعُ به الدرجاتِ؟ "
قالُوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:
"إسباغُ الوضوءِ على المكارِهِ، وكثرة الخطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ، فذلكُم الرباطُ فذلِكُم الرباط ".
وقد رُوي هذا المعنى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة، فهذه ثلاثةُ أسبابُ يُكفِّر اللَّهُ بها الذنوبَ:
أحدها: الوضوء، وقد دلَّ القرآنُ على تكفيره الذنوب في قولهِ عزَّ وجلَّ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) إلى قوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) .
فقولُهُ تعالى: (لِيطَهِّرَكمْ) يشمل طهارةَ ظاهرِ البدنِ بالماءِ.
وطهارةَ الباطنِ من الذنوبِ والخطايا، وإتمامُ النعمةِ إنما يحصلُ بمغفرةِ الذنوبِ وتكفيرها كما قال تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -:
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) .
وقد استنبط هذا المعنى محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ، ويشهدُ له الحديثُ الذي
خرَّجه الترمذيُّ وغيرُه، عن معاذٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعَ رجلاً يدعو يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك تمامَ النعمة، فقال له: "أتدري ما تمامُ النعمة؟ " قال: دعوةٌ دعوتُ بها أرْجو بها الخيرَ.
فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ تمامَ النعمة: النجاةُ منَ النارِ ودخولُ الجنةِ"،(2/153)
فلا تتم نعمةُ اللَّهِ على عبدِهِ إلا بتكفيرِ سيئاتِهِ.
وقد تكاثرتِ النصوصُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتكفيرِ الخطايا بالوضوءِ كما في "صحيح مسلم " عن عُثمانَ - رضي الله عنه -: أنه توضَّأ، ثم قال: رأيتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ مِثْلَ وضوئي هذا، ثم قال: "من توضَّأ هكذا غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبه.
وكانتْ صلاتُهُ ومَشْيُهُ إلى المسجدِ نافلةً"، وفيه أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"منْ توضّأ فأحْسنَ الوضوءَ خرجتْ خطاياهُ منْ جَسَدِهِ حتَّى تخرجَ منْ تحتِ أظفارِهِ "
وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا توضَّأ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغَسَلَ وجهَهُ خرَجَ من وجههِ كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماءِ أو مع آخِرِ قَطرِ الماءِ، فإذا غَسَلَ يديه خرجَ منْ يديه كلُّ خطيئةٍ بطشتْها يدَاهُ مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماء، فإذا غَسَلَ
رجْليه خرجتْ كل خطيئةٍ مشتْها رِجْلاه مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماءِ، حتى يخرجَ نقيًّا من الذنوبِ "
وفيه أيضًا عن عمرو بنَ عَبْسةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما مِنكُم من رجل يقربُ وضوءَه فيمضمضُ ويستنشقُ فينتثرُ إلا خرجتْ خطايا وجهِهِ وفيه وخياشيمِهِ، ثُمَّ إذا غسلَ وجههُ كما أمره اللَّهُ إلا خرجتْ خطايا وجهه من أطرافِ لحيتِهِ مع الماءِ، ثم يغسلُ يديه إلى المرفقينِ إلا خرجتْ خطايا يديه من أنامِلِهِ مع الماءِ، ثم يمسحُ رأسَهُ إلا خرجتْ خطايا رأسِهِ من أطرافِ شعرِهِ مع الماءِ ثم يغسلُ قدميهِ إلى الكعبينِ إلا خرجتْ خطايا رجليه من أنامِلِهِ مع الماءِ، فإنْ هو قامَ فصلَّى فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ومجَّدهُ بالذي هو له أهل وفرغًّ قلبَهُ للهِ إلا انصرفَ من خطيئته كهيئتِهِ يومَ ولدتْهُ أُمُّهُ ".(2/154)
وفي "الموطأ"، و"مسند الإمامِ أحمدَ" و"سنن النسائيّ " وابن ماجةَ عن
الصنابحيِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا توضأ العبدُ المؤمنُ فمضمضَ خرجتِ الخطايا من
فِيه، فإذا استنشقَ خرجتِ الخطايا من أنفِهِ، فإذا غسلَ وجهَه خرجتِ الخطايا من وجهِهِ حتَّى تخرجَ من تحتِ أشفارِ عينيه، فإذا غسلَ يديه خرجتِ الخطايا من يديه حتَّى تخرجَ من تحتِ أظفارِ يديه، فإذا مسحَ برأسِهِ خرجت الخطايا من رأسِهِ حتَّى تخرجَ من أذنيه، فإذا غسلَ رجليهِ خرجتِ الخطايا من رجليْهِ حَتَّى تخرجَ من تحتِ أظفارِ رجليِه، ثمَّ كان مشيُهُ إلى المسجدِ وصلاتُهُ نافلةً له ".
وفي "المسندِ" عن أبي أُمامة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ما من مسلمٍ يتوضأ فيغسلُ يديه ويمضمضُ فاه ويتوضأ كما أُمِرَ إلا حطَّ اللَهُ عنه يومئذ ما نطقَ به فمُهُ، وما مسَّ بيده، وما مشى إليه، حتَّى إنَّ الخطايا تحادَرُ من أطرافِهِ، ثم هو إذا مشى إلى المسجدِ فَرِجْل تكتبُ حسنةً، وأُخرى تمحُو سيئة".
وفيه أيضًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أيُّما رجلٍ قامَ إلى وضوئِهِ يريدُ الصلاةَ ثم غسلَ كفَّيهِ، نزلتْ خطئيتُهُ من كفيه مع أولِ قطرة، فإذا مضمضَ واستنشقَ واستنثرَ نزلتْ
خطيئتُهُ من لسانِهِ وشفتيهِ مع أولِ قطرةٍ، فإذا غسلَ وجهَهُ نزلتْ خطيئتُهُ من سمعِهِ وبصرِهِ مع أولِ قطرة، فإذا غسلَ يديه إلى المرفقينِ ورجليه إلى الكعبينِ سلم من كلِّ ذنبٍ هو له وكان من كلِّ خطيئةٍ كهيئتِهِ يومَ ولدتْهُ أمُّهُ فإذا قامَ إلى الصلاةِ رفعَ اللَّهُ درجتَهُ وإن قعدَ قعدَ سالما".
وفي المعنى أحاديثُ أُخرُ وفيما ذكرناه كفايةً وللَّه الحمدُ والمنة.(2/155)
وقد وردتِ النصوص أيضًا بحصول الثوابِ على الوضوء وهذا زيادة على
تكفيرِ السيئاتِ، ففي "صحيح مسلم " عن عمرَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من توضَّأ فاحسنَ الوضوءَ ثم قالَ: أشهدُ أن لا إله إلا اللَهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، فتحتْ له أبوابُ الجنةِ الثمانيةِ يدخلُ من أيِّها شاءَ".
وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"تبلغُ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوءُ".
وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
" أنتم الغر المحجلونَ يومَ القيامةِ من إسباغِ الوضوءِ ".
وخرَّجه البخاريُّ ولفظُهُ:
"إن أمَّتي يُدعون يوم القيامةِ غرًّا محجلينَ من آثارِ الوضوءِ ".
واعلمْ أن حديثَ معاذِ بنِ جبلٍ في المنامِ إنما فيه ذكرُ إسباغ الوضوءِ على
الكريهاتِ: وكذا في حديثِ أبي هريرةَ المبدوءِ بذكرهِ في هذا الفصلِ فههنا
أمرانِ:
أحدهما: إسباغُ الوضوءِ، وهو: إتمامُهُ وإبلاغُهُ مواضِعَهُ الشرعيةَ كالثوبِ
السابِغ المغطي للبدنِ كله. وفي "مسند البزارِ" عن عثمانَ مرفوعًا:
"من توضَّأ فأسبغَ الوضوءَ غفرَ له ما تقدَّم من ذنبهِ وما تأخرَ"
وإسنادُهُ لا بأس به وخرَّجه ابنُ أبي عاصم من وجهٍ آخرَ عن عثمانَ، وخرجَ النسائيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إسباغُ الوضوءِ شطرُ الإيمانِ "(2/156)
وخرَّجه "مسلم" ولفظُهُ: "الطهورُ شطرُ الإيمانِ ".
وثانيهما: أن يكونَ إسباغُهُ على الكريهاتِ، والمرادُ أن يكونَ على حالة تكرهُ النفسُ فيها الوضوءَ وقد فُسِّرَ بحال نزول المصائبِ فإن النفسَ حينئذ تطلبُ الجزعَ فالاشتغال عنه بالصبرِ والمبادرةِ إلى الوضوءِ والصلاةِ من علامة الإيمانِ، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشعِينَ) ، وقال تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللًهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) .
والوضوءُ مفتاح الصلاة وقد يُطفأ به حرارةُ القلبِ الناشئةِ عن ألمِ المصائبِ
كما يُؤمرُ مَنْ غضِبَ بإطفاءِ غضبِهِ بالوضوءِ، وفسرتِ الكريهاتُ بالبردِ الشديدِ ويشهدُ له أنَّ في بعضِ رواياتِ حديثِ معاذ
"إسباغُ الوضوءِ على السبرات "
والسبرةُ: شدةُ البردِ، ولا ريبَ أنَّ إسباغَ الوضوءِ في شدة البردِ يشقُّ على
النفسِ وتتألمُ به، وكلُّ ما يؤلمُ النفسَ ويشقُّ عليها فإنه كفارةَ للذنوبِ وإنْ لم
يكنْ للإنسان فيه صنعٌ ولا تسببٌ، كالمرضِ ونحوِه كما دلتِ النصوصُ
الكثيرةُ على ذلك.
وأما إن كان ناشئًا عن فعلٍ هو طاعةٌ للَّه تعالى، فإنه يكتبُ لصاحبِهِ به
أجرٌ وترفعُ به درجاتُهُ كالألم الحاصلِ للمجاهدِ في سبيلِ اللَّهِ تعالى قال اللَّهَ
عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) .
وكذلك ألم الجوع والعطشِ الذي يحصلُ
.(2/157)
للصائم، فكذا التألمُ بإسباغ الوضوءِ في البردِ، ويجبُ الصبرُ على الألم
بذلك، فإن حصلَ به رضى، فذلك مقامُ خواصِّ العارفين المحبينَ، وينشأ
الرضى بذلكَ عن ملاحظةِ أمورٍ:
أحدها: تَذَكُّرُ فضلِ الوضوءِ من حطِّه الخطايا ورفعِهِ الدرجاتِ، وحصولِ
الغرة والتحجيل به وبلوغ الحليةِ في الجنّة إلى حيث يبلغ، وهذا كما انكسرَ
ظفرُ بعضِ الصالحاتِ من السلفِ من عثرة عثرتْها فضحكتْ وقالتْ: أنسانِي
حلاوةُ ثوابِهِ مرارةَ وجعِهِ.
وقال بعضُ العارفينَ: من لم يعرفْ ثوابَ الأعمالِ
ثقلتْ عليه في جميع الأحوالِ.
الثاني: تَذَكُّرُ ما أعدَّه اللَّه عزَّ وجلَّ لمن عصاهُ من العذابِ بالبردِ والزمهريرِ
في الآخرةِ، فإنَّ شدةَ بردِ الدنيا يذكرُ زمهريرَ جهنم، وفي الحديث الصحيح: "إنَّ أشدَّ ما تجدونَ من البردِ من زمهريرِ جهنَّم "
فملاحظةُ هذا الألم الموعود يهونُ الإحساسَ بألم بردِ الماءِ كما رُوي عن زبيد الياميِّ أنه قام ليلةً للتهجدِ وكان البردُ شديدًا، فلمَّا أدخلَ يده في الإناءِ وجدَ شدةَ بردِهِ فذكرَ زمهرير جهنم، فلم يشْعُر ببردِ الماءِ بعد ذلك، وبقيتْ يدُه في الماءِ حتى أصبح، فقالتْ له جاريتُهُ: مالَكَ لم تصلِّ الليلةَ
كما كنتَ تصلِّي؟
فقال: إني لما وجدتُ شدةَ بردِ الماءِ ذكرتُ زمهريرَ جهنَّم فما شعرتُ به حتىَ أصبحتُ، فلا تخبري بهذا أحدًا ما دمتُ حيًّا.
الثالث: ملاحظةُ جلالِ مَنْ أمرَ بالوضوءِ، ومطالعةُ عظمتِهِ وكبريائهِ، وتذكرُ
التهيئ للقيامِ بين يديه ومناجاتِهِ في الصلاةِ، فذلك يهونُ كلَّ ألمٍ ينالُ العبدَ(2/158)
في طلبِ مرضاتِهِ من بردِ الماءِ وغير وربَّما لم يشعر بالماءِ بالكليةِ، كما قال
بعضُ العارفين: بالمعرفة هانتْ على العاملينَ العبادةُ قال سعيدُ بنُ عامرِ:
بلغَني أنَّ إبراهيمَ الخليلَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا توضا سُمِعَ لعظامِهِ قعقعةٌ.
وكان علي بن الحسينُ إذا توضأ اصفرَّ، فيقال له: ما هذا الذي يعتريكَ
عندَ الوضوء؛ فيقولُ: أتدرونَ بين يدي منْ أريدُ أن أقومَ له؟.
وكان منصورُ بنُ زاذانَ إذا فرغَ من وضوئِهِ يبكي حتَى يرتفعَ صوتُهُ، فقيلَ
له: ما شأنُك؟
فقالَ: وأيُّ شيءِ أعظم من شأني إني أريد أن أقومَ بين يدي
من لا تأخذُهُ سنةٌ ولا نومٌ، فلعله يرضى عني.
وكان عطاءٌ السلميُّ إذا فرغَ من وضوئِه ارتعد وانتفضَ وبكى بكاءً شديدًا.
فقيلَ له في ذلك، فقال: إني أريدُ أن أتقدًّمَ إلى أمرٍ عظيمٍ، إني أريدُ أن أقومَ
بين يدي اللَّهِ عزَّ وجل.
الرابع: استحضارُ اطلاع اللَّهِ عزَّ وجلَّ على عبده في حالِ العملِ له.
وتحملُ المشاقِ لأجلِهِ فمن تيقنَ أن البلاءَ بعينِ من يحبُّه هانَ عليه الألمُ كما
أشارَ تعالى إلى ذلك بقولِهِ عزَّ وجلَّ لنبيَّه - صلى الله عليه وسلم -:
(وَاصْبِرْ لِحُكْم رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) .
وقولُهُ تعالى لموسى وهارونَ عليهما السلامُ:
(لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وَأَرَى) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"اعبد الله كأنك تراهُ فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراك "
قال أبو سليمانَ: قرأتُ في بعضِ الكتبِ، يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
بعيني ما تحمَّلَ المتحملونَ من أجلي، وكابدَ المكابدونَ في طلبِ مرضَاتِي، فكيفَ بهم وقد صارُوا في جوارِي وتبحبَحُوا في رياضِ خلدِي؛ فهنالك فليستبشرِ المصفونَ للَّه أعمالهم بالمنظرِ العجيب من الحبيبِ القريبِ، أترونَ أنَي أضيعُ لهم عملاً؟ فكيف وأنا أجود على الموَلِّين عئي فكيفَ بالمقبلينَ إليَّ.(2/159)
فإسباغُ الوضوءِ في البردِ لاسيَّما في الليل يطلعُ اللَّهُ عليه ويرضَى به
ويباهي به الملائكةَ، فاستحضارُ ذلك يهونُ ألم بردِ الماءِ.
وفي "المسندِ" و"صحيح ابن حبانَ " عن عقبةَ بنِ عامرٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رجلانِ من أُمَّتي، يقومُ أحدُهُما من الليلِ يعالجُ نفسَهُ إلى الطهورِ وعليه عقدٌ فيتوضأ، فإذا وضَّأ يديه انحلتْ عقدة، وإذا وضأ وجهَهُ انحلتْ عقدة، وإذا مسحَ رأسَهُ انحلتْ عقدة، وإذا وضَّأ رجليه انحلتْ عقدة، فيقول الرب عزَّ وجل للذي وراء الحجابِ: انظرُوا إلى عبدِي هذا يعالجُ نفسَهُ يسألني، ما سألني عبدِي هذا فهو لَهُ "
وذكرَ بقيةَ الحديثِ.
وَرُوي عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله يضحكُ إلى ثلاثةِ نفرٍ، رجل قامَ من جوفِ الليلِ فأحسنَ الطهورَ فصلَّى" وذكر الحديث.
كان بعضُ السلفِ له وِرْدٌ بالليلِ ففترَ عنهُ فهتفَ به هاتفٌ: ينظرُ اللَّه في
الليلِ لما يصنعُ خدامُهُ إذا قامُوا أوحشتهم على الخدمةِ أحكامُهُ.
الخامس: الاستغراقُ في محبةِ من أمرَ بهذه الطاعةِ وأنَّه يرضَى بهَا ويحبُّها.
كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، فمن امتلأ
قلبُه من محبةِ اللَّه عزَّ وجلَّ أحبَّ ما يحبُّهُ وإنْ شقَّ على النفسِ وتألَّمتْ به.
كما يُقال: المحبةُ تهونُ الأثقالَ.
وقال بعضُ السلفِ في مرضِهِ: أحبُّه إليَّ أحبُّه إليه.
وكما قيل:
فَمَا لِجُرْح إِذَا أَرْضَاكُم أَلَمٌ(2/160)
وكما قيل أيضًا:
فِي حبكم يهونُ ماقد ألقَى. . . يسعدُ بالنعيم من لايشقَى
من خدَمَ من يحبُّ تلذذَ بشقائهِ في خدمتهِ.
وقال بعضُهم: القلبُ المحبُّ للَّهِ يحبُّ النصبَ له.
وقالَ عبدُ الصمد: أوجدَ لهم في عذابهِ عذوبةً.
إسباغُ الوضوءِ على المكاره من علاماتِ المحبينَ، كما في كِتابِ "الزهدِ"
للإمامِ أحمدَ عن عطاء بن يسارٍ قال: قال موسى عليه السلام:
"يا ربِّ من أهلُكَ الذينَ هم أهلُكَ الذينَ تظلهم في ظل عرشِكَ؟
قالَ: هم البريئةُ أبدانُهم الطاهرةُ قلوبُهم الذينَ يتحابُّون بجلالي، الذين إذا ذُكرتُ ذُكرُوا بي وإذا ذُكِروا ذكرتُ بذكرِهم، الذينَ يسبغونَ الوضوءَ في المكارهِ وينيبونَ إلى ذكْري كما تنيبُ النسورُ إلى أوكارِها، ويكلفُون بحبِّي كما يكلفُ الصبيّ بحبِ الناسِ ويغضبُونَ لمحارِمي إذا استحلَّت، كما يغضبُ النمرُ إذا حربَ ".
وقد يخرقُ اللَّهُ العادةَ لبعضِ المحبينَ له فلا يجدُ ألمَ بردِ الماءِ، كما كانَ
بعضُ السلفِ قد دعَا اللَّهَ أن يهوِّن عليه الطهورُ في الشتاءِ فكانَ يؤتى بالماء
وله بخارٌ، وربما سُلِبَ بعضهُم الإحساسَ في الحرِّ والبردِ مطلقًا، وكانَ عليُّ
ابنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قد دعَا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذهبَ اللَّهُ عنه الحرَّ والبردَ فكانَ يلبسُ في الصيفِ لباسَ الشِتَاءِ وفي الشتاءِ لباسَ الصيفِ وقالَ - صلى الله عليه وسلم - فيه:
"إنه يحبُّ اللهَ ورسولَهُ ويحبُّه اللَهُ ورسولُهُ ".
ورأى أبو سليمانَ الدارانيُّ في طريقِ الحج في شدّةِ بردِ الشتاءِ شيخًا عليه
أخلاقٌ رثةٌ وهو يرشحُ عَرقًا فسألهُ عن حالِهِ فقالَ: إنما الحرُّ والبرد خلقانِ للَّهِ(2/161)
عز وجل، فإنْ أمرَهما أن يغشياني أصاباني وإن أمرهمَا أن يتركاني تركاني.
وقالَ: أنا في هذِه البريةِ منذُ ثلاثينَ سنة يلبسُني في البردِ فيحًا من محبتِهِ
ويلبسُني في الصيفِ بردًا من محبَّتهِ، وقيَّل لآخرَ وعليه خرقتان في بردٍ شديدٍ
لو استترتْ في موضع يكنُّكَ من البردِ فأنشدَ:
ويحسن ظنّي أنني في فنائهِ. . . وهلْ أحدٌ في كنِّهِ يجد البردَا
السبب الثانِي: من مكفرات الذنوبِ المشيُ على الأقدامِ إلى الجماعاتِ وإلى
الجمعاتِ، ولاسيَّما إن توضًّأ الرجلُ في بيتِهِ ثم خرجَ إلى المسجدِ لا يريدُ
بخروجِه إلا الصلاةَ فيه، كما في "الصحيحينِ " عن أبىِ هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تضعفُ على صلاتِهِ في بيتِهِ وفي سوقِهِ
خمسًا وعشرينَ ضعفًا، وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسَنَ الوضوءَ، ثم خرجَ إلى المسجدِ لا يخرَّجَهُ إلا الصلاةُ، لم يخط خطوةً إلا رُفِعت له بها درجة وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزلِ الملائكةُ تصلِّي عليهِ مادام في مصلاَّه، اللَّهم صلِّ عليه اللهم ارحمه، ولا يزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما انتظر الصلاةَ".
وفي "صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ تطهَّرَ في بيته، ثمَّ مشى إلى بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ ليقضِي فريضةً من فرائضِ اللَّهِ، كانتْ خطوتاهُ إحداهُما تحطُّ خطيئةً والأخرى ترفَعُ درجةً"، وفي "الصحيحين " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كل خطوة مشيهَا إلى الصلاة صدقة ".
وفي "المسندِ" و "صحيح ابنِ حبانَ " عن عقبةَ بنِ عامرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذَا تطهرَ الرجلُ ثمَّ أتَى(2/162)
المسجدَ يرعى الصلاةَ كتبَ له كاتباهُ بكل خطوةٍ يخطوهَا إلى المسجدِ عشرَ حسناتٍ ".
وفيهما أيضًا عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " من راحَ إلى مسجدِ جماعة فخطوتاهُ خطوة تمحو سيئةً وخطوة تكتبُ حسنةً ذاهبًا وراجعًا"
وفي "سنن أبي داودَ" عن أبي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من خرجَ من بيتهِ متطهرًا إلى صلاةٍ مكتوبةٍ فأجرُه كأجرِ الحاجِّ المحرم"
وفيه أيضًا عن رجلٍ من الأنصار عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"منْ توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم خرجَ إلى الصلاةِ، لم يرفع قدمَهُ
اليمنى إلا كتبَ اللَّهُ له بها حسنةً، ولم يضعْ قدمَهُ اليُسرى إلا حطَّ اللَّهُ عنه بها خطيئةً، فليقرب أو ليبعد، فإنْ أتَى المسجدَ فصلَّى في جماعةٍ غُفِرَ لهُ " والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا.
فالمشي إلى الجمعاتِ له مزيدُ فضلٍ لاسيَّما إن كانَ بعد الاغتسالِ كما في
"السنن " عن أوسِ بنِ أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من غسَّلَ يومَ الجمعةِ واغتسلَ، وبكَّرَ وابتكَرَ، ومشى ولم يركبْ، ودنا من الإمام واستمعَ ولم يلغُ، كان لهُ بكلِّ خطوةٍ أجرُ سنةٍ صيامُها وقيامُها".
كلما بعُدَ المكانُ الذي يمشي منه إلى المسجدِ كانَ أفضل لكثرةِ الخُطا، وفي
"صحيح مسلم" عن جابرٍ قال: "كانتْ دارُنا نائيةً عن المسجدِ، فأردْنا أن
نبيعَ بيوتنَا فنقرب من المسجدِ، فنهانا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إنَ لكم بكلِّ خطوةٍ حسنةً"(2/163)
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أنس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني سلمةَ ألا تحتسبونَ آثارَكم".
وفي "الصحيحينِ " عن أبي موسى أنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ أعظمَ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعدُهمُ إليها ممشى فأبعدُهم ".
ومع هذا فنفسُ الدارِ القريبة من المسجدِ أفضلُ من الدارِ البعيدةِ عنه، لكنَّ المشي من الدار البعيدةِ أفضلُ، ففي "المسندِ" عن حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"فضلُ الدارِ القريبةِ من المسجدِ على الدارِ البعيدةِ الشاسعةِ، كفضلِ الغازي على القاعدِ" وإسنادُه منقطعٌ.
والمشيُّ إلى المسجدِ أفضلُ من الركوبِ كما تقدَّم في حديثِ أوسٍ في
الجمع، ولهذا جاءَ في حديثِ معاذٍ ذكرُ المشي على الأقدامِ، وكادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرجُ إلى الصلاة إلا ماشيًا حتَّى العيد يخرجُ إلى المصلَّى ماشيًا، فإنَّ الآتي للمسجدِ زائرُ اللَّهِ، والزيارةُ على الأقدامِ أقربُ إلى الخضوع والتذللِ، كما قِيل:
لو جئتكم زائرًا أسْعى على بصرِي. . . لم أؤدَ حقا وأيَّ الحق أديتُ
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من غدا إلى المسجدِ أو راحَ، أعدَّ اللَّهُ له نزلاً في الجنةِ كلَّما غدا أو راحَ " والنزلُ هو ما يعدُّ للزائرِ عندَ قدومهِ.
وفي الطبراني من حديثِ سلمانَ مرفوعًا:
"من توضَّأ في بيتهِ فأحسنَ الوضوء ثمَ أتى المسجدَ فهو زائرُ اللَّهِ تعالي وحقّ على المزورِ أن يكرمَ الزائرَ"(2/164)
وفي "صحيح مسلم " عن أبيِّ بن كعبٍ قال: كانَ رجل لا أعلمُ رجلاً أبعدَ
من المسجدِ منهُ وكانَ لا تخطئُهُ صلاةٌ في المسجدِ، قالَ: فقيل له: أو قلت
لهُ: لو اشتريتَ حمارًا تركبُه في الظلماءِ أو في الرمضاء فقال: ما يسرّني أن
منزلي إلى جنبِ المسجدِ، إني أريدُ أنْ يكتبَ لي ممشاي إلى المسجدِ.
ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي، فقال: رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"قد جمعَ اللَّهُ لكَ ذلك كلَّه ".
وكلما شقَّ المشيُ إلى المسجدِ كانَ أفضل ولهذا فُضِّلَ المشي إلى صلاةِ
العشاءِ وصلاةِ الصبح وعدلَ بقيامِ الليلِ كله كما في "صحيح مسلمٍ " عن
عثمانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من صلى العشاءَ في جماعة فكأنَّما قامَ نصفَ الليل.
ومن صلي الصبح في جماعةٍ فكأنما قامَ الليلَ ".
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أثقلُ صلاةٍ على المنافقينَ صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ، ولو
يعلمونَ ما فيهمَا لأتوهُما ولو حبوًا".
وإنما ثقلتْ هاتان الصلاتانِ على المنافقينَ لأنَّ المنافقَ لا ينشطُ للصلاةِ إلا إذا
رآهُ الناسُ، كما قالَ تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسَالَى يرَاءُونَ الناسَ وَلا يَذْكرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) .
وصلاة العشاءِ والصبحِ يقعان في ظلمةٍ فلا ينشطُ للمشي إليهما إلا كلُّ مخلص يكتفي برؤيةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وحده لعلمِهِ
وثوابُ المشي إلي الصلاة في الظُّلَمِ النورُ التامُّ في ظُلَم القيامةِ، كما في(2/165)
"سنن أبي داودَ"، والترمذي عن بريدةَ عنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
" بشِّر المشائينَ في الظل إلي المساجدِ بالنورِ التامِّ يومَ القيامةِ "
وخرَّجهُ ابنُ ماجة من حديثِ سهلِ بن سعدٍ، وقد رُوي من وجوه كثيره. وفي بعضهَا زيادةٌ "يفزعُ النَّاس ولا يفزعونَ "
قال النخعيُّ: وكانُوا يرونَ أنَّ المشيَ في الليلةِ الظلماء إلى الصلاة
موجبةٌ - يعني: توجبُ المغفرةَ.
وروينا عن الحسنِ قالَ: أهلُ التوحيدِ في النار لا يقيدونَ فيقولُ الخزنةُ
بعضُهم لبعضٍ: ما بالُ هؤلاءِ لا يُقيَّدون، وهؤلاءِ يُقيَّدون؟
فينادِيهم مُنادٍ: إنَّ هؤلاءِ كانوا يمشونَ في ظُلَم الليل إلى المساجدِ، كما أنَّ مواضعَ السجودِ من عصاةِ الموحدينَ في النارِ لا تأكلهَا النَّارُ، فكذلك الأقدامُ التي تمشي إلى المساجدِ في الظلم لا تقيدُ في النار.
ولا يسوِّي في العذابِ بينَ من خدمَهُ وبين من لم يخدِمه وإن عذَّبه.
ومن كانَ في سخطهِ محسنًا. . . فكيف يكونُ إذا ما رضِي
لمَّا كانتِ الصلاةُ صلةً بين العبدِ وبينَ ربَه، ومناجاةً تظهرُ فيها آثارُ تحلِّيهِ
لقلوبِ العارفينَ وقربِهِ شرعَ قبلَ الدخولِ فيها الطهارةُ، فإنَّه لا يصلحُ للوقوفِ بين يدي اللَّه عز وجل والخلوةِ بمناجاتِهِ إلا طاهرٌ، فأمَّا المتلوثُ بالأوساخ الظاهرةِ والباطنةِ فلا يصلحُ للقربِ، فشرعَ اللَّهُ عز وجل للمصلِّي غسلَ أعضائِهِ بالماءِ ورتبَ عليها طهارةً ظاهرةً وباطنةً، ثمَّ شرعَ المشي إلى المساجدِ.
وفيه أيضًا تكفيرُ الخطايا حتَّى تكملَ طهارةُ الذنوبِ إن بقي منها شيءٌ بعد
الوضوءِ حتَّى لا يقفَ العبدُ في مقامِ المناجاةِ إلا بعدَ كمالِ طهارةٍ ظاهرةٍ(2/166)
وباطنة من درنِ الأوساخ والذنوبِ، ولهذا شَرعَ لهُ تجديدَ التوبة والاستغفارَ
عقب وضوءٍ حتَّى تكملَ طهارةُ ذنوبهِ، كما خرَّج النسائيُّ من حديثِ
أبي سعيدٍ مرفوعًا وموقوفًا:
"من توضَّا فأسبغَ الوضوءَ ثمَّ قالَ عندَ فراغِه من وضوئه: سبحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ أستغفرُكَ وأتوبُ إليكُ، ختمَ عليها بخاتمٍ فوضعتْ
تحتَ العرشِ فلم تُكسرْ إلى يوم القيامةِ".
ومتى اجتهدَ العبدُ على تكميلِ طهارتهِ ومشيهِ إلى المسجدِ ولم يقوَ ذلكَ
على تكفير ذنوبهِ، فإنَّ الصلاةَ يكملُ بها التكفيرُ، كما في "الصحيحينِ "
عن أبي هريرةَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدكُم يغتسلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درنهِ شيء؟ "
قالوا: لايبقى من درنهِ شيءٌ، قال:
"فذلكَ مثلُ الصلواتِ الخمس يمحو اللَّهُ بهنَّ الخطايا".
وإنْ قويَ الوضوءُ وحدهُ على تكفيرِ الخطايا، فالمشيُ إلى المسجدِ والصلاةُ
بعده تكونُ زيادةُ حسناتٍ وهذا هو المرادُ من قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمانَ والصنابحي "وكان مشيهُ إلى المسجدِ وصلاتُه نافلةً"، وقد سبقَ ذكرُ الحديثين.
واعلم أنَّ جمهورَ العلماءِ على أنَّ هذهِ الأسبابَ كلَّها إنما تكفَر الصغائرَ
دونَ الكبائرِ وقد استدلَّ بذلكَ عطاءٌ وغيرهُ من السلفِ في الوضوءِ، وقال
سلمانُ الفارسيُّ - رضي الله عنه -: الوضوءُ يكفِّرُ الجراحاتِ الصغارَ، والمشيُ إلى المسجدِ يكفِّرُ أكثرَ من ذلكَ والصلاة تكفر أكثر من ذلك.
خرَّجهُ محمدُ بن نصر المروزيُّ، ويدل على أنَّ الكبائرَ لا تكفَّرُ بذلكَ ما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:(2/167)
"الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلي
رمضانَ، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبتِ الكبائرُ".
وفي "صحيح مسلم " عن عثمانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرهُ صلاة مكتوبة فيحسنُ وضوءها وخشوعَها وركوعَها وسجودَها، إلا كانتْ كفارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم تؤتَ كبيرة وذلكَ الدهرَ كلَّهُ ".
فانظرْ إلى كم تيسرَ لك أسبابُ تكفيرِ الخطايا لعلكَ تُطهَّرُ منها قبلَ الموتِ
فتلقاهُ طاهرًا فتصلحُ لمجاورتِهِ في دارِ السلام، وأنتَ تأبى إلا أن تموتَ على
خبثِ الذنوبِ فتحتاجُ إلى تطهيرها في كيرِ جهنَّم، يا هذا أما علمتَ أنه لا
يصلحُ لقربنا إلا طاهر، فإذا أردت قربَنا ومناجاتِنا اليومَ فطهِّر ظاهرَكَ وباطنَكَ لتصلُحَ لذلكَ، وإن أردتَ قربَنا ومناجاتِنَا غدًا فطهِّرْ قلبك من سوانَا لتصلحَ لمجاورتنَا (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) .
والقلبُ السليمُ الذي ليسَ فيه غيرُ محبةِ اللَّهِ ومحبَّةِ ما يحبّه اللَّهُ
"إن اللهَ طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا"
فما كلُّ أحدٍ يصلُح لمجاورةِ اللَّهِ تعالى غدًا، ولا كل عبدٍ يصلحُ لمناجاةِ اللَّهِ اليوم ولا على كلِّ الحالات تحسنُ المناجاةُ.
الناسُ من الهوَى علَى أصنافِ. . . هذا نَقِضُ العهدِ وهذا وافي
هيهاتَ من الكدورِ تبغي الصافي. . . ما يصلحُ للحضرةِ قلبٌ جَافي
السبب الثالث: من مكفراتِ الذنوبِ الجلوسُ في المساجدِ بعد الصلواتِ.
والمراد بهذا الجلوسِ انتظارُ صلاة أخرى كما في حديثِ أبي هريرةَ "وانتظارُ(2/168)
الصلاة بعد الصلاةِ فذلكُمُ الرباطُ فذلكُمُ الرباطُ "
فجعل هذا من الرباطِ في سبيلِ اللَّه عز وجل، وهذا أفضلُ من الجلوسِ قبلَ الصلاةِ لانتظارهَا، فإنَّ الجالسَ لانتظارِ الصلاةِ ليؤدِّيها ثم يذهبُ تقصُرُ مدةُ انتظاره بخلافِ من صلَّى صلاةً ثمَّ جلسَ ينتظرُ أخرى فإنَّ مدَّتَهُ تطولُ فإن كانَ كلما صلَّي صلاةً جلسَ ينتظرُ ما بعَدهَا استغرقَ عمرَهُ بالطاعةِ وكانَ ذلكَْ بمنزلةِ الرباطِ في سبيلِ اللَّه عز وجل.
وفي "المسندِ"، و"سنن ابنِ ماجةَ " عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو - رضي الله عنهما - قالَ: "صلَّيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغربَ فرجعَ منْ رجعَ وعقبَ من عقبَ، فجاءَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مسرعًا قد حفزهُ النفَسُ وقد حسر عن ركبتيهِ فقالَ:
"أبشرُوا هذا ربُّكم قد فتحَ بابا من أبواب السماءِ، يباهِي بكُمُ الملائكةَ، يقولُ: انظُروا إلي عبادِي قد قضَوا فريضة وهم ينتظرونَ أُخري ".
وفي "المسندِ" عن أبي هريرةَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"منتظرُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ كفارسٍ اشتدَّ به فرسُهُ في سبيلِ الله على كشحِهِ تصلِّي عليهِ ملائكةُ الله ما لم يحدثْ أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر ".
ويدخلُ في قولهِ: "والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصلواتِ "
الجلوسُ للذكرِ والقراءةِ وسماع العلم وتعليمهِ ونحو ذلكَ لاسيَّما بعدَ صلاة الصبح حتى تطلعَ الشمسُ؛ فإنَّ النصوصَ قد وردتْ بفضلِ ذلكَ، وهو شبيه بمن جلسَ ينتظرُ صلاةً أخرى، لأنهَّ قد قضى ما جاءَ إلى المسجدِ لأجلِهِ من الصلاةِ وجلسَ ينتظر طاعةً أخرى.
وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما اجتمعَ قوم في بيتٍ(2/169)
من بيوتِ اللَّه تعالى يتلونَ كتاب اللَّه، ويتدارسونَهُ بينَهُم، إلاَّ نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتهُم الرحمةُ، وحفتهُمُ الملائكةُ، وذكرهُمُ اللَهُ فيمنْ عندَهُ ".
وأما الجالسُ قبلَ الصلاةِ في المسجدِ لانتظار تلكَ الصلاةِ خاصةً فهو في
صلاةٍ حتَّى يصلِّي.
وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"أنه لما أخَّرَ صلاةَ العشاءِ الآخِرةَ، ثمَّ خرج فصلَّى بهم، قالَ لهم:
"إنكم لم تزالُوا في صلاةٍ ما انتظرتُمُ الصلاةَ ".
وفيهما أيضًا عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الملائكةُ تصلِّي على أحدِكم ما دام في مصلاه ما لم يحدثْ، اللهم اغفرْ لهُ اللهم ارحمْهُ، ولا يزال أحدُكم في صلاةٍ ما كانتِ الصلاةُ تحبسُهُ لا يمنعهُ أن ينقلبَ إلى أهله إلا الصلاةُ"
وفي روايةٍ لمسلمِ
"ما لم يؤذِ فيه ما لم يحدِثْ فيهِ ".
وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالحدثِ حدثُ اللسانِ ونحوِه من الأذَى، وفسرهُ
أبو هريرةَ بحدثِ الفرج، وقيلَ: إنه يشملُ الحدثينِ.
وفي "المسندِ" عن عقبةَ بن عامرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "القاعدُ يراعي الصلاةَ كالقانت ويكتُب من المصلينَ من حين يخرجُ من بيتِهِ حتَّى يرجعَ إليه "
وفي روايةٍ له:
"فإذا صَلَّى في المسجد ثم قعدَ فيه كانَ كالصائم القانتِ حتَى يرجع ".
وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرةٌ، وبالجملةِ فالجلوسُ في المساجدِ للطاعاتِ له
فضلٌ عظيمٌ.(2/170)
وفي حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا يوطِّن رجل المساجدَ للصلاةِ والذكر إلا تبشبش اللَّهُ عز وجل به كما يتبشبشُ أهلُ الغائب إذا قدمَ عليهم غائبُهُم ".
ورَوى دراجٌ عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من ألِفَ المسجدَ ألِفَهُ اللَّه ".
وقال سعيدُ بنُ المسيبِ: من جلسَ في المسجدِ فإنَّما يجالسُ اللَّه عز
وجلَ.
وصحَّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه عدَّ من السبعةِ الذينَ يظلُّهُمُ اللَّه في ظلَّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه رجلٌ قلبُهُ معلَّق بالمسجدِ إذا خرجَ منه حتى يعودَ إليه.
وإنَّما كانتْ ملازمةُ المسجدِ للطاعاتِ مكفرةً للذنوبِ؛ لأنَّ فيها مجاهدةَ
النفسِ وكفًّا لها عن أهوائِها؛ فإنها لا تميلُ إلا إلى الانتشار في الأرضِ لابتغِاء
الكسب؛ أو لمجالسةِ الناس، أو لمحادثتهم، أو للتنزه في الدور الأنيقةِ
والمساكنِ الحسنةِ ومواطنِ النزهِ، ونحو ذلكَ.
فمن حبسَ نفسَهُ في المساجدِ على الطاعةِ فهوَ مرابطٌ لها في سبيلِ اللَّه مخالِفٌ لهواهَا، وذلكَ من أفضلِ أنواع الصبرِ والجهادِ.
وهذا الجنسُ - أعني ما يؤلمُ النفسَ ويخالفُ هواهَا - فيه كفارةٌ للذنوبِ
وإنْ كانَ لا صنعَ فيه للعبدِ كالمرضِ ونحوِه فكيفَ بما كانَ حاصِلاً عن فعلِ
العبدِ واختياره إذا قصدَ به التقربَ إلي اللَّه عزَّ وجل، فإنَّ هذا من نوع الجهادِ في سبيلِ اللَّه الذي يقتضِي تكفيرَ الذنوبِ كلها ولهذا المعنى كانَ المشيُ إلى(2/171)
المساجدِ كفارةً للذنوبِ أيضًا هو نوعٌ منَ الجهادِ في سبيلِ اللَّه أيضًا، كما
خرَّجَهُ الطبرانيّ من حديثِ أبي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
" الغدو والرواح إلي المساجد من الجهادِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجل ".
كان زياد مولَى ابن عباس أحد العبادِ الصالحينَ، وكانَ يلازمُ مسجدَ المدينةِ
فسمعوهُ يومًا يعاتب نفسَهُ ويقولُ لها: أين تريدينَ أنْ تذهِبي، إلي أحسنَ من
هذا المسجدِ؛ تريدينَ أن تبصرِي دارَ فلانِ ودار فلانِ.
لما كانت المساجد في الأرضِ بيوتَ الله أضافَها اللَهُ إلى نفسِه تشريفًا لها
وتعلقتْ قلوبُ المحبينَ للَّهِ عز وجلَّ بها لنسبتها إلي محبوبِهِم، وارتاحتْ إلى
ملازمِتها لإظهارِ ذكرهِ فيها، قالَ تعالى:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) .
أين يذهبُ المحبونَ عن بيوتِ مولاهُم؛ قلوبُ المحبينَ ببيوتِ محبوبهِم
متعلقةٌ، وأقدامُ العابدينَ إلي بيوتِ معبودِهم مترددةٌ.
يا حبذَا العرعرُ النًجدي والبانُ. . . ودارُ قوم بأكناف الحِمى بانُوا
وأطيبُ الأرضِ ما للقلبِ فيه هوى. . . سَمُّ الخياطِ مع الأحبابِ ميدانُ
لا يُذْكرُ الرَّملُ إلا حنَّ مغتربٌ. . . له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ
يهفُو إلى البانِ من قلبي نوازعهُ. . . وما بي البانُ بل مَنْ دارُه البانُ(2/172)
الفصل الثاني في ذكرِ الدرجاتِ المذكورة في حديثِ معاذٍ:
وهي ثلاثٌ:
أحدها: إطعامُ الطعامِ وقد جعلَهَ اللَّه في كتابهِ من الأسبابِ الموجبِة للجنةِ
ونعيمِهَا، قالَ اللَّهُ عز وجل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) .
إلى قولهِ: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) .
فوصفَ فاكهتَهُم وشرابَهُم جزاء لإطعامِهِمُ الطعامَ.
وفي الترمذيِّ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما مؤمن أطعمَ مؤمنًا على جوع، أطعمَهُ اللَّهُ منْ ثمارِ الجنة، ومنْ سقى مؤمنًا على ظمإٍ سقاهُ اللَّهُ من الرحيقِ المختوم"
وفي "المسندِ" و "الترمذيِّ" عن علي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في الجنةِ غرفا يُرى ظاهُرها من باطِنِها وباطنُها من ظاهرِهَا، قالوا: لمن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟
قالَ: لمن أطعمَ الطعامَ، وأطابَ الكلامَ، وصلَّي بالليلِ والناسُ نيامُ ".
وفي حديثِ عبدِ اللَّه بنِ سلامٍ الذي خرَّجهُ أهلُ السنن أنه سمعَ النبيَّ
- صلى الله عليه وسلم - أولَ قدومِهِ المدينةَ يقولُ: "أيها الناسُ، أفشوا السلامَ، وأطعمُوا الطعامَ، وصِلوا الأرحامَ،(2/173)
وصلُّوا بالليل والناسُ نيام تدخلُوا الجنةَ بسلامٍ ".
وفي حديث عبادةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنه سُئلَ أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟
قال: " إيمان باللهِ وجهاد في سبيله وحجّ مبرورٌ، وأهونُ من ذلكَ إطعامُ الطعام ولينُ الكلامِ "
خرَّجهُ الإمامُ أحمد.
وفي حديثِ هانئ بن يزيد أنَ رجلاً قال: يارسولَ اللَّه، دلَّني على عملٍ
يدخلني الجنةَ ويباعدُني من النارِ، قال:
" تطعم الطعامَ وتفشِي السلامَ ".
وفي حديثِ حُذيفةَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من خُتم لهُ بإطعام مسكينٍ دخلَ الجنةَ".
وفي "الصحيحين " من حديثِ عبد اللَّهِ بن عمروٍ أنَّ رجلاً قالَ:
يا رسولَ الله، أيُّ الإسلامِ خير؟
قالَ: "تطعمُ الطعامَ وتقرئُ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرفْ ".
وفي حديث صهيبٍ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"خيرُكم من أطعمَ الطعامَ "
خرَّجهُ الإمامُ أحمد.
فإطعامُ الطعامِ يوجبُ دخولَ الجنةِ، ويباعدُ من النارِ، وينجي منها كما قالَ
تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) .(2/174)
وفي الحديثْ الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"اتقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ"
وكان أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - يقولُ لولدِهِ: اذكرُوا صاحبَ الرغيفِ، ثم ذكرَ أنَّ رجلاً من بني إسرائيلَ عبدَ اللَّهَ سبعينَ سنةً ثمَّ إنَّ الشيطانَ حسَّنَ في عينيهِ امرأةً فأقامَ معها سبعةَ أيامٍ ثمَّ خرجَ هارباً فأقامَ مع مساكينَ فتُصُدِّقَ عليهِ برغيفٍ، كان بعضُ أولئكَ المساكين يريدهُ فآثره بهِ ثم ماتَ، فوزِنَ عبادتُهُ بالسبعةِ الأيام التي مع المرأةِ فرجحتِ الأيامُ السبعةُ بعبادَتِهِ، ثم وزنَ الرغيفُ بالسبعةِ الأيامِ فرجحَ بها.
ويتأكدُ إطعامُ الطعامِ للجائع وللجيرانِ خصوصًا، وفي "الصحيح " عن
أبي موسى الأشعريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أطعموا الجائعَ وعودُوا المريضَ وفكُّوا العاني ".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهُ: "إذا طبختَ مرقةً فأكثرْ ماءها وتعاهدْ جيرانَكَ ".
وفي المسندِ، وصحيح ابن حِبانَ عن عمرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما عرصةٍ أصبحَ فيهم امرؤ جائعًا، فقد برئتْ منهم ذمةُ اللَّه عزَّ وجلَ ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
" لا يشبعُ المؤمنُ دونَ جاره ".
وفي "صحيح الحاكم " عن ابن عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ بالمؤمنِ الذي يشبعُ وجارُه جائغ "
وفي رواية: "ما آمن من بات شبعانا وجاره طاويًا ".
فأفضلُ أنواع إطعامِ الطعامِ الإيثارُ مع الحاجةِ كما وصفَ اللَهُ تعالى(2/175)
بذلكَ الأنصارَ - رضي الله عنهم - فقال:
(وَيُؤْثِرونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهم خَصَاصَة)
وقدْ صحَّ أنَّ سبَب نزولها أنَّ رجلاً منهم أخذ ضيفاً من عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يضيفُه فلم يجدْ عندَهُ إلا قوتَ صبيانِهِ، فاحتالَ هوَ وامرأتُهُ حتَّى نوَّما صبيانَهُمَا وقامَ إلى السراج كأنه يصلحُهُ فأطفأهُ، ثم جلسَ مع الضيفِ يريهِ أنه يأكلُ معهُ ولم يأكلْ فلما غدًا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهُ:
"عجبَ اللَّهُ من صنيعِكُما الليلةَ"
ونزلتْ هذه الآيةُ.
وكان كثيرٌ من السلفِ يؤثرُ بفطورِه غيرَه وهو صائمٌ ويصبحُ صائمًا.
منهم عبدُ اللَّه بنُ عمرَ - رضي الله عنهما -، وداودُ الطائيُّ، وعبدُ العزيز بنُ سليمانَ، ومالك بنُ دينارٍ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وغيرُهم، وكان ابنُ عمرَ لا يفطرُ إلا مع اليتامَى والمساكينِ وربما عَلمَ أن أهلَهُ قد ردُّوهم عنه فلم يفطرْ تلكَ الليلةَ.
ومنهم من كانَ لا يأكلُ إلا مع ضيفٍ له.
قال أبو السوارِ العدويُّ: كانَ رجالاً من بني عدي يصلُّون في المسجدِ ما أفطرَ أحدٌ منهُم على طعامٍ قط وحدَهُ، إن وجدَ من يأكلُ معه أكلَ، وإلا أخرجَ طعامَهُ إلى المسجدِ فأكلهُ مع الناسِ وأكلَ الناسُ معهُ.
وكانَ منهُم من يطعمُ إخوانهُ الطعامَ وهو صائم ويجلسُ يخدمهُم.
ويروحهُم، منهمُ الحسنُ، وابنُ المباركِ، وكان ابنُ المباركِ ربما يشتهي الشيءَ فلا يصنعُهُ إلا لضيفٍ ينزلُ به فيأكلُهُ مع ضيفِهِ، وكانَ كثير منهُم يفضلُ إطعامَ الإخوانِ على الصدقةِ على المساكينِ.
وقد رُويَ هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ، ولاسيَّما إن كان الإخوانُ لا يجدونَ مثل ذلكَ الطعامِ.
كانَ بعضُهم يعملُ الأطعمةَ الفاخرةَ ثم يطعمُها إخوانَهُ الفقراءَ ويقولُ: إنهم(2/176)
لا يجدونَها، وبعضُهم يُصنَعُ له طعامٌ ولا يأكلُ ويقولُ: إني لا أشتهيهِ وإنما
صنعتُهُ لأجلِكمُ، وبعضُهم اتخذَ حلاوةً فأطعمَهُا المعتوهَ، فقالَ له أهلهُ: إن هذا لا يدري ما يأكلُ، فقال: لكن اللَّهَ يدرِي.
واشتَهى الربيعُ بنُ خثيم حلواءَ، فلما صنعتْ لهُ دعَا بالفقراءِ فأكلُوا، فقالَ
له أهلُه: أتعبتَنا ولم تأكل، فقالَ: ومن أكلَهُ غيرِي، وقالَ آخرُ منهُم وجَرَى له نحوٌ من ذلكَ: إذا أكلتُهُ كانَ في الحشِّ وإذا أطعمتُهُ كانَ عندَ اللهِ مدخوراً.
ورُوي عن علي قالَ: لأنْ أجمعَ أناسًا من إخواني على صاع من طعامٍ
أحب إليَّ من أن أدخلَ سوقكُم هذه فابتاعُ نسمةً فأعتقُها.
وعن أبي جعفرٍ محمد بن على قالَ: لأن أدْعُو عشرةً من أصحابي
فأطعمهُمُ طعامًا يشتهونَهُ، أحبَّ إليَّ منْ أن أعتقَ عشرةً من ولد إسماعيل.
أأصفُ الإيثارَ لمن يبخلُ بأداء الحقوقِ الواجبةِ عليهِ، أأطلبُ الشجاعةَ من
الجبانِ، وأستشهِدُ على رؤيةِ الهلالِ من هوَ من جملةِ العميانِ، كم بينَ من
قيلَ فيه: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) ، وبين من قيلَ فيهِ: (وَيؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) .
بيننا وبين القومِ كما بينَ اليقظةِ والنوم.
لا تعرضنَّ لذكرِنَا في ذكرِهِم. . . ليسَ الصحيحُ إذا مشىَ كالمقعدِ
فيا من يطمعُ في علوّ الدرجاتِ من غيرِ عمل صالح هيهاتَ هيهاتَ
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
نزلواُ بمكةَ في قبائل نوفلٍ. . . ونزلت بالبيداءِ أبعدَ منزلِ
الفصل الثالث من الدرجاتِ: لينُ الكلامِ وفي رواية: "إفشاءُ السلام " وهو(2/177)
داخل في لينِ الكلامِ، وقد قالَ اللَهُ عز وجل: (وَقُولُوا لِلناسِ حُسْنًا) .
وقال تعالى: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولوا التِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وقالَ تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) .
وقالَ تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وقالَ تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) .
ولما قالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:
"الحجُّ المبرورُ ليسَ له جزاء إلا الجنةَ، قالوا له: وما الحج المبرورُ يا رسول اللَّه؟
قال: إطعامُ الطعام ولينُ الكلام "
خرَّجهُ الإمامُ أحمد، وقد تقدَّم في ذكر إطعامِ الطعامِ
أحاديثُ أخرُ في طيبِ الكلامِ.
وفي الحديث الصحيح عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
"والكلمةُ الطيبةُ صدقة "
وفيه أيضًا اتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةِ فمن لم يجدْ فبكلمةِ طيبةٍ،.
وأما كونُ إفشاء السلامِ من موجباتِ الجنةِ ففي "صحيح مسلم"
عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"والذي نفسي بيدِهِ لا تدخلُوا الجنةَ حتى تؤمنُوا ولا تؤمنُوا
حتى تحابَّوا ألا أدلُّكُم على شيء إذا فعلتُمُوه تحاببتُم
أفشوا السلامَ فيما بينَكُم "
وخرَّجَ أبو داود من حديثِ أبي أُمامةَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ أوْلَى الناسِ باللَّهِ تعالي منْ بدأهُم بالسلامِ.
ويُروَي من حديثِ ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا
"إذا مرَّ الرجلُ بالقوم فسلَّم عليهِم فردُّوا عليهِ كانَ لهُ عليهِم فضلُ درجة، لأنَّه ذكَّرهُم بالسلامِ، وإن لم يردُّوا عليهِ ردَّ عليهِ ملأٌ خيرٌ منهُم وأطيبُ،.(2/178)
وقد رُويَ من حديثِ عمرانَ بن حصينٍ وغيرِه "أنَّ رجلاً دخلَ على النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - فقاَلَ: السلامُ عليكم، فقالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "عشر"، ثم جاءَ آخرُ فقالَ: السلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ، فقالَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "عشرونَ ".
ثم جاءَ آخرُ فقال: السلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ، فقالَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "ثلاثون "
خرَّجهُ الترمذيُّ وغيرُه، وخرَّجهُ أبو داود وزادَ
"ثمَ جاءَ آخرُ فقالَ: السلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ ومغفرتهُ، فقالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "أربعون "، ثم قالَ: "هكذا تكون الفضائل ".
وقد سبقَ حديثُ
"أنْ تقرأ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرفْ "
وفي حديثِ ابن مسعود مرفوعًا
"من أشراطِ الساعةِ السلامُ بالمعرفةِ "
خرَّجهُ الإمامُ أحمد.
وإنما جمعَ بينَ إطعامِ الطعامِ ولين الكلامِ ليكملَ بذلكَ الإحسانُ إلى الخلقِ
بالقولِ والفعلِ فلا يتمُّ الإحسانُ بإطعامِ الطعامِ إلا بلينِ الكلامِْ وإفشاءِ
السلامِ، فإنْ أساءَ بالقولِ بطلَ الإحسانُ بالفعلِ من الإطعامِ وغيرِه كما قالَ اللَّهُ تعالي: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) .
وربما كانَ معاملةُ الناسِ بالقولِ الحسنِ أحبَّ إليهم من إطعامِ الطعامِ
والإحسانِ بإعطاءِ المال، كما قالَ لقمانُ لابنهِ: يا بنيَّ لأن تكنْ كلمتُكَ طيبةً
ووجهُكَ منبسطَا تكنْ أحبَّ إلى الناسِ ممن يعطِيهِم الذهبَ والفضةَ، وقد كانَ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يلينُ القولَ حتى لمن يشهدُ له بالشر فينتفي بذلكَ شرُّهُ، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - لايواجهُ أحدًا بما يكرهُ في وجهِهِ ولم يكنْ - صلى الله عليه وسلم - فحاشًا ولا متفحشًا.
ورُويَ عن ابن عمرَ أنَّه كانَ ينشدُ:(2/179)
بنيَّ إن البرَّ شيءٌ هينُ. . . وجهٌ طليقٌ وكلامٌ لينُ
ولبعضهِم:
خذِ العفوَ وأمرْ بعرفٍ كَما. . . أُمرْتَ وأعرضْ عن الجاهلينَ
ولِنْ في الكلامِ لكلَّ الأنامِ. . . فمستحسن من ذوي الجاهِ لينِ
وقد وصفَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في كتابِهِ أهلَ الجنةِ بمعاملة الخلقِ بالإحسانِ بالمالِ
واحتمالِ الأَذَي فقالَ تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) .
فالإنفاقُ في السراءِ والضراءِ يقتضي غاية الإحسان بالمالِ من الكثرةِ والقلَّة، وكظم الغيظ والعفوِ عن الناسِ يقتضِي عدمَ المقابلةِ على السيئةِ من قولٍ وفعلٍ وذلك يتضمنُ إلانةَ القولِ واجتنابَ الفحشِ والإغلاظَ في المقالِ، ولو كانَ مباحًا، وهذا نهايةُ الإحسانِ فلهذا قالَ تعالَى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
ومن هذا قولُ بعضهم وقد سُئِلَ عن حُسنِ الخلقِ فقالَ:
بذلُ النَّدى وكفُّ الأذَى.
وهذا الوصفُ المذكورُ في القرآنِ أكملُ من هذا، لأنَّه وصفهُم ببذلِ الندى
واحتمالِ الأذى، وحُسنِ الخلقِ يبلغُ به العبدُ درجاتِ المجتهدينَ في العبادةِ.
كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجلَ ليدرِكُ بحسنِ خلقِهِ درجةَ الصائم النهارَ القائم الليلَ ".
ورؤيَ بعضُ السلفِ في المنامِ فسئلَ عن بعضِ إخوانِهِ الصالحينَ
فقالَ: وأينَ ذلكَ رُفعَ في الجنةِ بحسنِ خلقِهِ.(2/180)
ومما يندبُ إلى إلانةِ القولِ فيه الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ وأنْ يكونَ
برفقٍ، كما قالَ تعالَى: (وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
قال بعضُ السلفِ: ما أغضبتَ أحدًا فَقَبِلَ مِنْكَ، وكانَ أصحابُ ابنِ
مسعودِ إذا رأوا قومًا على ما يكرهُ يقولونَ لهم: مهلاً مهلاً باركَ اللَهُ فيكم.
ورأى بعضُ التابعينَ رجلاً واقفًا مع امرأة فقالَ لهما: إن اللهَ يراكمُا سترنا اللهُ
وإيَّاكما، ودُعي الحسنُ إلى دعو فجيء بآنيةِ فضة فيها حلواءُ، قأخذَ الحسنُ
الحلواءَ فقلبهَا على رغيف وأكلَ منهَا، فقالَ بعضُ من حضرَ: هذا نهى في
سكون.
ورأى الفضيلُ رجلاً يعبثُ في صلاتِهِ فزبرهُ، فقالَ له الرجلُ: يا
هذا ينبغي لمنْ يقومُ للهِ أن يكونَ ذليلاً، فبكى الفضيلُ وقالَ له: صدقتَ.
قال شعيبُ بنُ حرب: ربما مرَّ سفيانُ الثوريُّ بقومٍ يلعبونَ بالشطرنج
فيقولُ: ما يصنعُ هؤلاءِ؟
فيقالُ له: يا عبد اللهِ ينظرونَ في كتاب، فيطاطئ
رأسَهُ ويمضي، وإنما يريدُ بذلكَ ليُعلمَ أنَّه قد أنكَرَ.
وقالَ سفيانُ: لا يأمرُ بالمعروفِ ولا ينهى عن المنكرِ إلا من كانَ فيهِ خصالٌ
ثلاث: رفيقٌ بما يأمرُ، رفيق بما يَنهى، عدلٌ بما يأمرُ، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما
يأمرُ، عالم بما يَنهَى.
وقالَ الإمامُ أحمدُ: الناسُ يحتاجونَ إلى مداراةٍ ورفقٍ في الأمر بالمعروفِ بلا غلظةٍ إلا رجلاً معلنًا بالفسقِ، فإنَهُ لا صبرَ عليه.
وكانَ كثير من السلفِ لا يأمرُ بالمعروفِ ولا ينهى عن المنكرِ إلا سرًّا فيما
بينه وبينَ من يأمُرُه وينهاهُ. وقالَ أبو الدرداءِ: من وعظَ أخاهُ سرًّا فقد زانهُ
ومن وعظه علانية فقد شانهُ.
وكذلك مقابلةُ الأذى بإلانةِ القولِ كما قالَ تعالَى:
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن السَّيئَةَ)(2/181)
وقالَ تعالَى: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَة السَّيئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) .
قال بعضُ السلفِ: هو الرجلُ يسبُّه الرجلُ، فيقولُ له: إن
كنتَ صادقًا فغفر اللَّهُ لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفرَ اللَّهُ لكَ.
قالَ رجل لسالم بنِ عبد اللَّهِ وقد زحمتْ راحلتُه في سفر: ما أراك إلا
رجلَ سوءٍ، فقال له سالمٌ: ما أراكَ أبعدتَ.
وقالت امرأةٌ لمالكِ بن دينارٍ: يا مُرائي، قال: متى عرفتِ اسمي؟
ما عرفَه أحدٌ من أهلِ البصرةِ غيرُكِ.
ومرَّ بعضُهم على صبيانٍ يلعبونَ بجوزٍ فوطئَ على بعضِ الجوز بغير
اختيارهِ فكسرَهُ، فقالَ له الصبيّ: يا شيخُ، النارَ، فجلسَ الشيخُ يبكي
ويقولُ: ما عرفني غيرُهُ. ومر بعضُهم مع أصحابهِ في طريقٍ فرموا عليهِم
رمادًا، فقالَ الشيخ لأصحابِهِ: من يستحق النَّارَ فصالحُوه على الرمادِ، يعني
فهو رابح.
ورأى جنديٌّ إبراهيمَ بنَ أدهمَ خارج البلدِ فسألهُ عن العمرانِ فأشارَ له إلى
القبورِ فضربَ رأسهُ ومضَى فقيلَ له: إنَّه إبراهيمُ بنُ أدهمَ فرجعَ يعتذرُ إليهِ.
فقالَ له إبراهيم: الرأسُ الذي يحتاجُ إلى اعتذاركَ تركتُه ببلخ، ومرَّ به جنديٌّ آخر وهو ينظرُ بستانًا لقومٍ بأجرةٍ فسألهُ أن يناولَهُ شيئا فلم يفعل وقالَ: إنَّ أصحابَهُ لم يأذنوا في ذلك، فضربَ رأسَهُ فجعلَ إبراهيمُ يطأطئ رأسَهُ وهو يقولُ: اضربْ رأسًا طالمَا عَصى اللَّهَ.
من أجلكَ قد جعلتُ خدِّي أرضًا. . . للشامتِ والحسودِ حتى ترضَى
الثالثُ من الدرجات:
الصلاةُ بالليلِ والناسُ نيام: فالصلاةُ بالليلِ من موجباتِ الجنةِ كما سبقَ ذكرُه(2/182)
في غيرِ حديثٍ، وقد دلَّ عليه قولُه عز وجل:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) .
فوصفَهم بالتيقظِ بالليلِ والاستغفارِ بالأسحارِ وبالإنفاقِ من
أموالهِم.
كانَ بعضُ السلفِ نائمًا فأتاه آتٍ في منامِه فقالَ له: قمْ فصلِّ أما علمتَ
أن مفاتيحَ الجنةِ مع أصحابِ الليلِ هم خزانهَا؟!
وقيام الليلِ يوجب علو الدرجات في الجنةِ قالَ اللَّهُ تعالَى لنبيهِ - صلى الله عليه وسلم -.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَتَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا) .
فجعلَ جزاءَهُ على التهجدِ بالقرآنِ بالليلِ أن يبعثَهُ المقامَ المحمودَ وهو أعْلى
درجاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ: " إنَّ اللهَ يُدخلُ الجنةَ أقوامًا فيعطِيهم حتى يملُّوا
وفوقَهم ناسٌ في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهُم فقالُوا: ربنا.
إخواننا كنَّا معهُم فبم فضًّلْتهم علينا؟
فيقولُ: هيهاتَ هيهاتَ إنَّهم كانُوا يجوعونَ حين تشبعونَ، ويظمؤونَ حين تروونَ، ويقومونَ حينَ تنامون، ويشخصونَ حينَ تخفضونَ ".
ويوجبُ أيضًا نعيمَ الجنةِ ما لم يطلعْ عليه العبادُ في الدنيا قالَ اللَّهُ عز وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"يقول اللهُ عز وجل: أعددتُ لعبادِي الصالحينَ ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشر اقرؤوا إن شئتمُ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) ".(2/183)
قال بعضُ السلفِ: أخفَوا للَّهِ العملَ فأخفَى اللَّهُ لهم
الجزاءَ فلو قدموا عليهِ لأقرَّ تلكَ الأعينَ عندَهُ.
ومما يجزي به المتهجدينَ في الليلِ كثرةَ الأزواج من الحورِ العين في الجنةِ
فإنَّ المتهجدَ قَد تركَ لذةَ النومِ بالليلِ ولذةَ التمتع بأزواجِهِ طلبًا لما عندَ اللَّهِ عز وجل فعوَّضَهُ اللَّهُ تعالَى خيرًا مما تركَهُ وهوَ الحورُ العينِ في الجنةِ، ومن هُنا
قال بعضُهم: طول التهجدِ مهورُ الحورِ العينِ في الجنةِ.
وكانَ بعضُ السلفِ يُحيي الليلَ بالصلاة، فَفَتُرَ عن ذلك فأتاه آتٍ، فقال
له: قد كنتَ يا فلانُ تدأبُ في الخطبةِ، فما الذي قصرَ بكَ عن ذاكَ؟
كنتَ تقومُ من الليلِ أوَ ما علمتَ أن المتهجدَ إذا قامَ إلى التهجدِ قالتِ الملائكةُ: قد قامَ الخاطبُ إلى خطبتِهِ؟!
ورأى بعضُهم في منامهِ امرأةً لا تشبهُ نساءَ الدُّنيا فقال لها: من أنتِ؟
قالتْ: حوراءُ أمةُ اللَّهِ، فقال لها: زوِّجِيني نفسَكِ، قالتْ: اخطُبني إلى سيدي وامهُرني، قال: وما مهرُكِ؟
قالتْ: طول التهجدِ.
قامَ بعضُ المتهجدينَ ذاتَ ليلةٍ فرأى في منامهِ حوراءَ تنشدُ:
أتخطبُ مثْلي وعني تنامُ. . . ونومُ المحبينَ عنَّا حرامُ
لأنا خلقْنَا لكلِّ امرئٍ. . . كثيرِ الصلاةِ براهُ الصيامُ
وكانَ لبعضِ السلفِ وِرْدٌ من الليلِ فنَامَ عنهُ ليلةً فرأى في منامِه جاريةً كأنَّ
وجهها القمرُ، ومعَها رقٌّ فيه كتابٌ فقالتْ: أتقرأ؟
قال: نعم، فأعطتهُ إياهُ ففتحهُ فإذا فيه مكتوبٌْ
أتلهُو بالكَرَى عن طيبِ عيشٍ. . . مع الخيراتِ في غرفِ الجنانِ(2/184)
تعيش مخلَّدًا لا موت فيهِ. . . وتنعمُ في الجنانِ مع الحسانِ
تيقظ من منامِكَ إن خيرًا. . . من النومِ التهجد بالقرانِ
فاستيقظَ قالَ: فواللهِ ما ذكرتُها إلا ذهبَ عنِّي النومُ.
كان بعضُ الصالحينَ له وِرْدٌ فنامَ عنه فوقفَ عليه فتى في منامِهِ فقال لهُ
لصوتٍ محزونٍ:
تيقظْ لساعاتٍ من الليلِ يا فتى. . . لعلكَ تحظَى في الجنانِ بحورِها
فتنعمُ في دار يدومُ نعيمُهَا. . . محمدٌ فيها والخليل يزورهَا
فقم فتيقظْ ساعةً بعد ساعةٍ. . . عساكَ توفَّى ما بقيَ من مهورِها
كان بعضُ السلفِ الصالحينَ كثيرُ التعبدِ، فبكى شوقًا إلى اللهِ عز وجل
ستينَ سنةً فرأى في منامهِ كأنّهُ على ضفةِ نهر يجرِي بالمسكِ حافتاهُ شجرُ لؤلؤ
ونبتٌ من قضبانِ الذهبِ، فإذا بجوارٍ مُزَيَّناتٍ يقلنَ بصوتٍ واحد: سبحانَ
المسبَّح بكل لسانٍ سبحانَهُ. سبحان الموحَّدِ بكل مكانٍ سبحانه. سبحان الدائم في كلِّ الأزمانِ سبحانه. فقال لهنَّ: ما تصنعن ههنا؟
فقلن:
برانَا إلهُ الناسِ ربّ محمدٍ. . . لقومٍ على الأقدامِ بالليلِ قوَّمُ
يناجونَ ربَّ العالمينَ إلههم. . . وتسري همومُ القومِ والناسُ نوَّمُ
فقال: بَخ بَخ لهؤلاءِ، من هم، لقد أقر اللَّهُ أعينهُم بكنَّ؟
فقلنَ: أو ما - تعرفَهم؟
قالَ: لا، فقلنَ: بلى هؤلاءِ المتهجدونَ أصحابُ القرآنِ والسهرِ.
وكان بعضُ الصالحينَ ربما نامَ في تهجدهِ، فتوقظُه الحوراءُ في منامِهِ
فيستيقظُ بإيقاظها.
وُرويَ عن أبي سليمان الداراني أنه قالَ: ذهبَ بي النومُ(2/185)
ذاتَ ليلةٍ في صلاتي فإذا بها - يعني الحوراء - تنبهني وتقولُ: يا أبا سليمانَ
أترقدُ وأنا أُربَّى لك في الخدرِ منذ خمسمائة سنة.
وفي رواية عنهُ: أنه نام ليلةً في سجودهِ قالَ: فإذا بها قدْ ركضتني بِرِجْلِهَا وقالتْ: حبيبي أترقدُ عيناكَ والملكُ يقظانُ ينظرُ إلى المتهجدينَ في تهجدِهم؟ بؤسًا لعينٍ آثرت لذةَ نومٍ على مناجاةِ العزيزِ، قمْ فقدْ دنا الفراغُ ولقيَ المحبونَ بعضهم بعضًا، فما هذا الرقادُ يا حبيبي وقرةَ عيني؟
أترقدُ عيناكَ وأنا أُربَّى لكَ في الخدورِ منذ خمسمائةِ عامٍ؟
فوثبَ فزعًا وقد عرقَ من توبيخهَا له، قالَ:
وإن حلاوةَ منطقها لفي سمعي وقلبي.
وكان أبو سليمانَ يقولُ: أهلُ الليلِ في ليلهِم ألذ من أهل اللهو في
لهوهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدنيا.
وقال يزيدُ الرقاشي لحبيبٍ العجميِّ: ما أعلمُ شيئًا أقرّ لعيونِ العابدينَ في
الدنيا من التهجدِ في ظلمةِ الليلِ، وما أعلم شيئًا من نعيم الجنانِ وسرورها
ألذُّ عند العابدينَ ولا أقرَّ لعيونِهم من النظرِ إلى ذي الكبرياءِ العظيم إذا رُفعتْ
تلكَ الحجب، وتجلَّى لهم الكريم، فصاحَ حبيبٌ عندَ ذلكَ وخرَّ مغشيا عليه.
وكانَ السريُّ يقول: رأيتُ الفوائدَ تردُ في ظلامِ الليلِ.
وقالَ أبو سليمان: إذا جنَّ الليلُ وخلا كلُّ محبٍّ بحبيبهِ افترشَ أهلُ المحبةِ
أقدامَهُم، وجرتْ دموعُهم على خدودهِم، أشرفَ الجليلُ جل جلالهُ فنادَى يا جبريلُ بعيني من تلذذَ بكلامي واستروحَ إلى مناجاتي، نادِ فيهم يا جبريلُ ما
هذا البكاءُ هل رأيتُم حبيبًا يعذِّب أحباءَهُ أم كيفَ يجملُ بي أن أعذِّبَ قومًا إذا
جنَّهُمُ الليلُ تملَّقُوني، فبي حلفتُ، إذا قدِموا عليَّ يوم القيامةِ لأكشفنَّ لهمْ(2/186)
عن وجهي، ينظرونَ إليَّ وأنظر إليهم.
وسئلَ الحسنُ البصريُّ لم كانَ المتهجدون أحسنُ الناس وجوهًا؟
قال:
لأنَّهُم خلَوا بالرحمنِ فألبسَهُم نورًا من نوره.
رأتِ امرأةٌ من الصالحاتِ في منامِهَا كأنَّ حللاً قد فرِّقتْ على أهلِ مسجدِ
محمدِ بنِ جحادةَ، فلما انتهَى الذي يفرِّقها إليه دعَا بسفطٍ مختومٍ فأخرجَ منه
حلةً صفراء، قالت: فلم يقُمْ لها بصرِي فكساهُ إياها وقال: هذه لكَ بطول
السهرِ، قالتْ: فواللَّهِ لقد كنتُ أراه - تعني محمدَ بن جحادةَ - بعد ذلكَ
فأتخايلُها عليهِ - تعني: تلكَ الحلةَ -.
قالَ كرزُ بنُ وبرةَ: بلغَنِي أنَّ كعبا قالَ: إنَّ الملائكةَ ينظرونَ من السماءِ إلى
الذينَ يتهجدونَ بالليلِ كما تنظرونَ أنتم إلى نجومِ السماء.
يا نفسُ فازَ الصالحونَ بالتُّقى. . . وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عمِي
يا حُسْنَهُم والليلُ قد أجنَّهُم. . . ونورُهُم يفوقُ نورَ الأنجم
ترنَّمُوا بالذكرِ في ليلِهم. . . فعيشُهُم قدْ طابَ بالترنمِ
قلوبُهُم للذِّكْرِ قد تفرغتْ. . . دموعُهم كلؤلؤٍ منظَّم
أسحارُهُم بهم لهم قد أشرقتْ. . . وخلَعُ الغفرانِ خيرُ المقسمم
في بعضِ الآثارِ يقولُ اللَّهُ عز وجل كلَّ ليلةٍ: ياجبريلُ أقمْ فلاناً وأنمْ
فلاناً.
قام بعضُ الصالحينَ في ليلةٍ بارده وكانَ عليه خلقانُ رثةٌ فضربهُ البردُ
فبكى فسمعَ هاتفاً يقول: أقمناكَ وأنمناهُم ثمَّ تبكي علينا.
تنبهوا يا أهلَ وادي المنحنى. . . كم ذا الكرى هبَّ نسيم وجدي
كم بين خالٍ وجوٍ وساهرٍ. . . وراقدٍ وكاتمٍ ومعبدي(2/187)
قيلَ لابنِ مسعودٍ: ما نستطيع قيامَ الليلِ، قال: أبعدَتْكُم ذنوبُكُم.
وقيلَ للحسنِ: أعجزنا قيامُ الليل، قال: قيدتْكُم خطاياكُم، إنما يؤهَّلُ الملوكُ للخلوةِ بهم ومخاطبتِهِم منْ يخلصُ في ودادِهِم ومعاملتِهِم، فأمَّا من كانَ من أهلِ مخالفتِهِم فلا يرضونَهُ لذلكَ.
الليلُ لي ولأحبابي أحادثُهُم. . . قد اصطفيتُهُم كَي يسمعُوا ويعُوا
لَهم قلوبٌ بأسرارٍ لَها مُلئتْ. . . على ودادِي وإرشَادِي لهُم طُبعُوا
قد أثمرتْ سْجراتُ الفهم عندهُمُ. . . فما جَنوا إذ جَنوا مما بهِ ارتفعُوا
سرَوا فما وهَنُوا عجزًا وما ضعُفُوا. . . وواصلُوا حبلَ تقرِيبي فما انقطَعُوا
الفصل الثالث في ذكرِ الدعواتِ المذكورةِ في هذا الحديثِ:
وهيَ:
" اللَّهمَّ إني أسألكَ فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحبَّ المساكين، وأن تغفرَ لي وترحمني، وإذا أردتَ بقومٍ فتنة فاقبضْني إليكَ غيرَ مفتون وأسألكَ حُبَّكَ وحبَّ من يحبُّك وحبَّ العملِ الذي يبلغُني حبَّك"، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " تعلموهنَ وادرُسُوهنَّ فإنهن حقًّا ".
هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعيةِ وأكملِهَا، فقولهُ - صلى الله عليه وسلم -. "أسألُكَ فعلَ الخيرات وتركَ المنكراتِ "
يتضمنُ طلبَ كلِّ خيرٍ وتركَ كلِّ شر، فإنَّ الخيراتِ تجمعُ كلًّ ما يحبُّه اللَّهُ تعالَى ويقربُ منهُ منَ الأعمال والأقوال من الواجباتِ
والمستحباتِ، والمنكراتِ تشملُ كلَّ ما يكرههُ اللَّهُ تعالَى ويباعدُ عنهُ من
الأقوال والأعمال، فمنْ حصلَ له هذا المطلوبُ حصلَ له خيرُ الدنيا والآخرةِ، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ مثلَ هذه الأدعيةِ الجامعةِ، قالتْ عائشةُ: "كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -(2/188)
يعجبهُ الجوامعَ من الدعاءِ ويدعُ ما بينَ ذلكَ ".
خرَّجه أبو داود.
وقوله: "وحب المساكين " هذا قد يقال إنهُ من جملةِ فعلِ الخيراتِ وإنَّما أفرده
بالذكرِ لشرفهِ وقوةِ الاهتمامِ به، كما أفردَ أيضًا ذكرَ حبِّ اللَّهِ تعالى وحبِّ
من يحبُّه وحبِّ عملٍ يبلِّغهُ إلى حبِّه، وذلكَ أصلُ فعلِ الخيراتِ كلِّها، وقد
يُقال: إنه طلبَ من اللَّهِ عز وجل أن يرزقهُ أعمال الطاعاتِ بالجوارح، وتركَ
المنكراتِ بالجوارح، وأن يرزقَهُ ما يوجبُ له ذلكَ وهو حبُّه وحبُّ من يحبُّه.
حبُّ عملٍ يبلغهُ حبَّه، فهذه المحبةُ بالقلبِ موجبة لفعل الخيراتِ بالجوارح
ولتركِ المنكراتِ بالجوارح، وسأل اللَّهَ تعالى أن يرزقَهُ المحبةَ فيه، فقد تضمنَ
هذا الدعاءُ سؤال حبِّ اللهِ عز وجل وحبِّ أحبابِهِ، وحبِّ الأعمال التي
تقرِّبُ من حبِّه والحبِّ فيه، وذلكَ يقتضي فعلَ الخيراتِ كلِّها ويتضمنُ تركَ
المنكراِت، والسلامةَ من الفتنِ، وذلكَ يتضمنُ اجتنابَ الشرّ كلِّه فجمعَ هذا
الدعاءُ طلبَ خير الدنيا وتضمنَ سؤال المغفرةِ والرحمةِ وذلكَ يجمعُ خيرَ
الآخرةِ كلَّه فجمعَ هذا الدعاءُ خيري الدنيا والآخرةِ.
والمقصودُ أنَّ حبَّ المساكين أصل الحبِّ في اللَّهِ تعالى؛ لأن المساكينَ ليسَ
عندهم من الدنيا ما يوجبُ محبَّتهم لأجلهِ فلا يحبونَ إلا للَّهِ عز وجل والحبُّ
في اللَّهِ من أوثقِ عُرى الإيمان، ومن علاماتِ ذوقِ حلاوةِ الإيمانِ، وهو
صريحُ الإيمانِ، وهو أفضلُ الإيمانِ، وهذا كلُّه مرويّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه وصفَ به الحبَّ في اللَّهِ تعالى.
ورُويَ عن ابن عباسٍ أنه قال:
"به تنال ولايةُ اللَّهِ وبه يوجدُ طعم الإيمانِ ".
وحبُّ المساكين قد أوصَى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ واحدٍ من أصحابهِ،(2/189)
قال أبو ذرٍّ: "أوصانِي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أحبَّ المساكينَ وأنْ أدنوَ منهُم "
خرَّجهُ الإمامُ أحمد.
وخرَّج الترمذي عن عائشةَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ لها:
"يا عائشةُ أحبي المساكينَ وقربيهم فإن اللَّهَ يقربكِ يومَ القيامةِ ".
ويروى أن داودَ عليه السلام كانَ يجالسُ المساكين ويقولُ: ياربِّ مسكين
بين مساكين.
ولم يزلِ السلفُ الصالحُ يوصونَ بحب المساكينِ - كتبَ سفيانُ
الثوريُ إلى بعضِ إخوانِهِ - عليكَ بالفقراءِ والمساكينِ والدنو منهمُ فإنَّ رسولَ
الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يسأل ربه حبَّ المساكين، وحبَّ المساكينِ مستلزم لإخلاصِ العمل للَّهِ تعالَى، والإخلاصُ هو أساسُ الأعمالِ الذي لا تثبتُ الأعمالُ إلا عليهِ، فإن حبَّ المساكين يقتضِي إسداءَ النفع إليهِم بما يمكنُ من منافع الدينِ والدنيا، فإذا حصلَ إسداءُ النفع إليهِم حبًّا لَهُم، والإحسانُ إليهم كان هذا العملُ خالصًا وقد دلَّ القرآنُ على ذلكَ، قالَ اللَهُ تعالَى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) .
وقالَ عز وجل (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) .
وقالَ تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
قالَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ: نزلتْ هذه الآية ُ في ستةٍ: فيَّ، وفي ابن
مسعود، وصهيبٍ، وعمار، والمقدادِ، وبلال.
قالتْ قريشٌ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:(2/190)
إنا لا نرضَى أن نكونَ أتباعًا لَهُم فاطردْهُم عنكَ، فأنزلَ اللَّهُ عز وجل.، (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُون رَبَّهم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) .
وقالَ خبابُ بنُ الأرتِ في هذه الآيةِ "جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ وعيينةُ بنُ
حصنٍ، فوجدَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مع صهيبٍ وعمارٍ وبلالٍ وخبابٍ قاعداً في ناسٍ من الضعفاءِ منَ المؤمنينَ، فلما رأوهُم حولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حقروهُم، فأتوه فخَلوا بهِ وقالوا: إنا نريدُ أن نجعلَ لنا منكَ مجلسًا تعرفُ لنا به العربُ فضلَنَا، فإن وفودَ العربِ تأتيكَ فنستحي أن ترانا مع هولاءِ الأعبدِ، فإذَا نحنُ جئناكَ فأقمهُم عنكَ، فإذا نحنُ فرغنَا فاقعدْ معهم إن شئت، قالَ "نعم ".
قالوا: فاكتبْ لنا عليكَ كتابا، قالَ فدعا بصحيفةٍ، ودعا عليًّا ليكتبَ ونحن
قعودٌ في ناحيةٍ فنزلَ جبريلُ - عليه السلام - فقال:
(وَلا تَطْرد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْردَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، ثم ذكرَ الأقرعَ بنَ حابس، وعيينةَ ابنَ حصنٍ فقالَ:
(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) .
ثم قالَ: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يؤمِنَونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كتَبَ رَبُكمْ عَلَى نَفْسِةِ الرَّحْمَةَ) .
قالَ: فدنونا منهُ حتَّى وضعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتَيهِ، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسُ معنا فإذا أرادَ أنَّ يقومَ قامَ وتركَنَا، فأنزلَ اللَّهُ عز وجل (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) .
ولا تجالسِ الأشرافَ (وَلا تُطِعْ مَن أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكرِنَا) يعني عيينةَ، والأقرع.
قالَ خبابٌ: فكنَّا(2/191)
نقعدُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغنَا الساعةَ التي يقومُ قمنا وتركناهُ حتى يقومَ "
خرَّجه ابنُ ماجَة، وغيره.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعودُ المرضَى من مساكينِ أهلِ المدينةِ ويشيعُ جنائزهُم وكان
لا يأنفُ أن يمشِيَ مع الأرملةِ والمسكينِ حتى يقضيَ حاجتَهُما وعلى هذا الهَدْي
كانَ أصحابُهُ مِن بعدهِ والتابعون لهم بإحسانٍ.
وروي عن أبي هريرة قال: "كان جعفر بن أبي طالبٍ يحبُّ المساكينَ
ويجلسُ إليهم ويحدِّثهم ويحدّثونه، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكنيه أبا المساكين ".
وفي رواية "أنهُ كان يعمهم وربما أخرج لهم عكةً فيها العسل فشقُّوها ولعقوها".
وكانتْ زينبُ بنْتُ خزيمةَ أمُّ المؤمنينَ - رضي الله عنها - تسمَّى أمَّ المساكينَ لكثرةِ إحسانهِا إليهم وتوفيتْ في حياةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقالَ ضرارُ بن مُرَّةَ في وصف عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - في أيامِ خلافتِهِ:
كان يعظمُ أهلَ الدينِ ويحبُّ المساكينَ، ومرَّ ابنهُ الحسنُ - رضي الله عنه - على مساكينَ يأكلونَ فدعُوه فأجابهمُ وأكلَ معهُم، وتلا
(إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْتَكبِرِينَ) ، ثم دعاهم إلى منزِلِهِ فأطعمهم وأكرمهمُ.
وكان ابنُ عمر لا يأكلُ غالبًا إلا معَ المساكينِ وكانَ يقُولُ لعلَّ بعضَ هؤلاءِ أن يكونَ ملِكًا يومَ القيامةِ.
وجاءَ مسكين أعمى إلى ابن مسعودٍ وقد ازدحَم الناسُ عندَهُ فنادَاهُ يا أبا
عبدِ الرحمنِ آويتَ أربابَ الخزِّ واليمنيةِ وأقصيتنِي لأجلِ أنِّي مسكين؟
فقالَ له: ادْنُهْ فلم يزلْ يُدْنِيهِ حتى أجلسهُ إلى جانبهِ أو بِقُرْبهِ.
وكانَ مطرفُ بنُ عبدِ اللَّهِ يلبسُ الثيابُ الحسنةَ ثم يأتِي المساكينَ ويجالسهم.(2/192)
وكان سفيانُ الثوريُّ يعظمُ المساكينَ ويجفو أهلَ الدنيا فكانَ الفقراءُ في مجلسِهِ
همُ الأغنياءُ والأغنياءُ همُ الفقراءُ.
وقال سليمانُ التيمي: كنَّا إذَا طلبنَا عليةَ أصحابنا وجدْناهُم عندَ الفقراءِ والمساكينِ.
وقالَ الفضيلُ: من أراد عزَّ الآخرةِ فليكن مجلسهُ مع المساكينِ.
ومن فضائلِ المساكينِ أنهُم أكثرُ أهلِ الجنةِ.
كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"قمتُ على بابِ الجنةِ فإذا عامةُ من دخلَها المساكينُ "
وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"تحاجتِ الجنةُ والنَّارُ، فقالتِ الجنةُ: لا يدخلني إلا الضعفاءُ والمساكينُ ".
وسئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنةِ فقالَ:
"كلُّ ضعيفٍ مستضعفٍ "
وهم أولُ الناسِ دخولاً الجنةَ كما صحَ عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الفقراءَ يسبقونَ الأغنياءَ إلى الجنةِ بأربعين عاماً" -
وفي روايةٍ - "أنهم يدخلون الجنةَ بنصفِ يومٍ وهو خمسمائةِ سنةً"
وهم أولُ الناسِ إجازةً على الصراطِ كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنهُ سئلَ من أولُ الناسِ إجازةً على الصراط؟
فقالَ: "فقراءُ المهاجرينَ "
وهم أولُ الناسِ ورودًا على الحوضِ كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"أولُ الناسِ ورودًا عليهِ فقراءُ المهاجرينَ الدَّنسةُ رءوسُهم، الشعثةُ ثيابهُم الذينَ لا ينكحونَ المتنعماتِ ولا تفتحُ لهم السددُ" وهم(2/193)
أتباعُ الرسلِ كما أخبرَ اللَّهُ تعالى عن نوح عليه السلامُ أن قومَهُ عيرُوهُ باتباع
الضعفاءِ له فقالُوا: (أَنؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ) .
وكذلكَ قالَ هرقلُ لأبي سفيانَ لما سألهُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهل يتَّبعهُ أشرافُ الناسِ أم ضعفاؤهم؟
فقال: بل ضعفاؤهم، قالَ هرقلُ: هم أتباعُ الرسلِ.
وهم أفضلُ من الأغنياءِ عندَ كثيرٍ من العلماءِ أو أكثرهم، وقد دلَّ على
ذلكَ أدلة كثيرة منها قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ مرَّ به الغنيُّ والمسكينُ في المسجدِ:
"هذا - يعني المسكينَ - خير من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا - يعني الغنيَّ "
وقد خرَّجه البخاريُّ وغيرُه.
ومنهُم من لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرهُ كما في "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ في أهلِ الجنةِ:
"كلُّ ضعيفٍ مستضعفٍ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبَرَّهُ "
وفي روايةٍ " أشعثَ ذو طمرينِ "
وفي روايةٍ خرَّجَها ابنُ ماجةَ
"أنَّهم ملوكُ أهلِ الجنةِ"
وفي الحديثِ المشهورِ
"رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طمرينِ مدفوعٌ بالأبوابِ لو أقسمَ على اللَّهِ
لأبَرَّه "
خرَّجهُ الحاكمُ وغيرهُ.
ربَّ ذي طمرينِ نضوٍ. . . يأمنُ العالمُ شرَّهُ
لا يُرى إلا غنيًّا. . . وهوَ لا يملك ذرَّهُ
ثم لوأقسمَ في شيءٍ. . . على اللَّهِ أبرَّهُ(2/194)
قال ابنُ مسعودٍ: كونُوا جدَدَ القلوبِ، خلقانَ الثيابِ.
سرجَ الليلِ مصابيحَ الظلامِ، تعرفونَ في أهلِ السماءِ
وتخفونَ على أهلِ الأرضِ.
طُوبى لعبدٍ بحبلِ اللَّهِ معتصمه. . . على صراطٍ سويٍّ ثابتٌ قدمُه
رث اللباسِ جديد القلبِ مستترٍ. . . في الأرضِ مشتهر فوقَ السماء وسمُه
ما زالَ يستحقرُ الأولى بهمتهِ. . . حتَى يرقى إلى الأخرى به هممُه
فذاكَ أعظمُ من التاج متكئًا. . . على النمارقِ محتفا به خدمُهُ
واعلم أنَّ محبةَ المساكينِ لها فوائدٌ كثيرة:
منها: أنَّها توجبُ إخلاصَ العملِ للهِ عز وجل، لأنَّ الإحسانَ إليهم
لمحبَّتهم لا يكونُ إلا للَّهِ عز وجل، لأنَّ نفعهُم في الدنيا لا يُرجَى غالبًا فأما
من أحسنَ إليهم ليمدحَ بذلكَ فما أحسنَ إليهم حبًّا لهم بل حبًّا لأهلِ الدُّنيا
وطلبًا لمدحهِم له بحبِّ المساكينِ.
ومنها: أنها تزيلُ الكِبْرَ، فإن المتكبرَ لا يرضى مجالسةَ المساكينِ كما سبقَ عن
رؤساءِ قريشٍ والأعرابِ، ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبهَ بهم حتى
أنَّ بعضَ علماءِ السوءِ كان لا يشهدُ الصلاةَ في جماعةٍ خشيةَ أن تزاحمَهُ
المساكينُ في الصفِّ، ويمتنعُ بسببِ هذا الكبرِ فيفوتُهُ خيرٌ كثيرٌ جدا، فإنَّ
مجالسَ الذكرِ والعلم تقعُ فيها كثيرًا مجالسةُ المساكينِ فإنهم أكثرُ هذه المجالسِ
فيمتنعُ المتكبرُ من هذه المجالسِ بتكبر، وربما كانَ المسموعُ منه الذكرُ والعلمُ
من جملة المساكينِ فيأنف أهلُ الكبرِ من التردد إلى مجلسهِ كذلكَ فيفوتهُم
خيرٌ كثير، وقد أخبرَ اللَهُ تعالى عن المشركينَ أنهم قالوا:
(لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) .(2/195)
يشيرونَ إلى عظماءِ مكةَ والطائفِ كعتبةَ بنِ ربيعةَ وأخيهِ شيبةَ ونحوهما من
صناديد قريشٍ وثقيفٍ ذوي الأموالِ والشرفِ فيهم ممن كانَ أكثرَ مالاً من
محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأعظمَ رياسةً عندهُم.
وردَّ عليهم سبحانهُ بأنهُ يقسِّم رحمتَهُ كما يشاءُ وأنه كما رفَع درجاتِ بعضهم على بعضٍ في الدنيا، فكذلكَ يرفَعُها في الآخرة بالنبوةِ والعلم والإيمانِ خيرٌ مما يجمعونَهُ من الأموالِ التي تَفْنَى، فهو يخصّ بهذه الرحمةِ الدينيةِ من يشاءُ ويرفعُهُ على أهلِ النعم الدنيويةِ وقد خصَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بما لم يشركهُ فيه غيرهُ من هذه النعم كما قالَ تعالَى له:
(وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) .
وكانَ عليٌّ بنُ الحسينِ يجلسُ في مجلسِ زيدِ بنِ أسلمَ فيعاتَبُ على ذلكَ
فيقولُ: إنما يجلسُ المرء حيثُ يكونُ له فيه نفعٌ، أو كما قالَ يشيرُ إلى أنَّه
ينتفعُ بسماع ما يسمعُهُ من العلم والحكمةِ، وزيدُ بنُ أسلمَ أبوه مولى لعمرَ.
وعلي بنُ الحسينِ سيدُ بني هاشم وشريفِهم.
ولما اجتمع الزهريُّ وأبو حازمٍ الزاهدُ بالمدينةِ عند بعضِ بني أميةَ - لما
حجَّ - وسمعَ الزهريُّ كلامَ أبي حازمٍ وحكمتهُ أعجبهُ ذلكَ، وقالَ: هو جارِي منذُ كذا وكَذا وما جالسْتُهُ ولا عرفتُ أن هذا عندَهُ، فقالَ له أبو حازم: أجلْ إنَي من المساكينِ ولو كنتُ من الأغنياءِ لعرفتني، فوبخهُ بذلكَ، وفي رواية عنه أنه قالَ له: لو أحببتَ اللَّهَ أحببتني ولكنَّكَ نسيتَ اللَّهَ فنسيتني، يشيرُ إلى أنَّ من أحبَّ اللَّهَ تعالى أحبَّ المساكينَ من أهلِ العلم والحكمةِ لأجلِ محبتهِ للهِ تعالى ومن غفلَ عن اللَّهِ تعالَى غفلَ عن أوليائه من المساكينِ فلمْ يرفعْ لهم رأسًا، ولم ينتفعْ بما اختصَّهمُ اللَّهُ عز وجل بهِ من الحكمةِ والعلومِ النَّافعِةِ(2/196)
التي لا توجدُ عند غيرِهم من أهلِ الدُّنيا.
وقد كانَ علماءُ السلفِ يأخذونَ العلمَ عن أهلِهِ والغالبِ عليهمُ المسكنةُ
وعدمُ المال والرفعةِ في الدنيا ويَدَعُونَ أهلَ الرياسات والولاياتِ فلا يأخذونَ
عنهم ما عندهُم من العلم بالكليةِ.
ومنها: أنَّه يوجبُ صلاحَ القلبِ وخشوعِهِ، وفي "المسندِ" عن أبي هريرةَ
أن رجلاً شكى إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قسوةَ قلبهِ فقال له: "إن أحببتَ أن يلينَ قلبُكَ فأطعِم المسكينَ وامْسحْ رأس اليتيم ".
ومنها: أن مجالسةَ المساكينِ توجبُ رضى من يجالسُهُم برزقِ اللَّهِ عز وجل
وتعظمُ عنده نعمةُ اللَّهِ عز وجل عليهِ بنظرهِ في الدنيا إلى من دونَه، ومجالسةُ
الأغنياءِ توجبُ التسخطَ بالرزقِ ومدَّ العينِ إلى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى
اللَّهُ عز وجل نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ّ عن ذلكَ فقال تعالَى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) .
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"انظرُوا إلى من دونكمُ ولا تنظُروا إلى منْ فوقَكم فإنَّه أجدر أن لا تزدرُوا
نعمةَ اللَّهِ عليكم "
قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -:
"أوصانِي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أن أنظر إلى من
دوني ولا أنظرَ إلى من فوقِي وأوصانِي أن أحبَّ المساكينَ وأن أدنوَ منهم ".
وكان عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عتبةَ بنِ مسعودٍ يجالسُ الأغنياءَ فلا يزال في
غمٍّ، لأنَه لا يزال يَرى من هو أحسنُ منه لباسًا ومركبًا ومسكنًا وطعامًا.
فتركَهُم وجالسَ المساكينَ فاستراحَ من ذلك.(2/197)
وقد رُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهَى عائشةَ عن مخالطةِ الأغنياءِ.
وقالَ عمر: إيَّاكم والدخولَ على أهلِ السعةِ فإنَه مسخطةٌ للرزقِ.
واعلمْ أن المسكينَ إذا أُطلقَ يرادُ به غالبًا من لا مال لهُ يكفيه، فإنَّ الحاجةَ
توجبُ السكونَ والتواضعَ بخلافِ الغنِي فإنَّه يُوجبُ الطغيانَ، ولهذا ذمَّ الفقيرَ
المختالَ وعظَّم وعيدهُ؛ لأنَهُ عصَى بما ينافي فقرهُ وهو الاختيالُ والزهو والكبرُ، ولما كانَ المسكينُ عندَ الإطلاقِ لا ينصرفُ إلا إلى من لا كفايةَ لهُ من المال
وصى اللَّهُ تعالى بإيثارِ المساكينِ وإطعامهم الطعامَ، ومدحَ من يطعمُهم، وذمًّ
من لا يحضُّ على إطعامهِم، وجعلَ لهم حقًّا في أموالِ الصدقاتِ والفيء
وخمسِ الغنائمِ وحضورِ قمسةِ الأموالِ.
وهؤلاءِ المساكينُ على قسمينِ:
أحدُهما: من هو محتاجٌ في الباطنِ وقد أظهرَ حاجَتهُ للنَّاس.
والثاني: من يكتُم حاجتَهُ ويظهرُ للناسِ أنه غَني فهذا أشرَفُ القسمينِ، وقد
مدحَ اللَّهُ عز وجل هذا في قولِه تعالى:
(لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) .
وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ليس المسكينُ بهذا الطواف الذي تردُّه اللقمةُ واللقمتان والتمرةُ والتمرتانِ، ولكن المسكينَ من لا يجدُ ما يغنيهِ، ولا يفطنُ له فيتصدَّقُ عليه "
وقالَ بعضُهم: هذا المحرومُ المذكورُ في قولِه عز وجل: (لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
فأخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن من كتمَ حاجتَهُ
فلم يفطنْ لهُ أحقُّ باسم المسكين من(2/198)
الذي أظهرَ حاجتَهُ بالسؤالِ وأنَّه أحقُّ بالبرِّ منه وهذا يدلُّ على أنَّهم كانُوا لا
يعرفونَ من المساكينِ إلا من أظهرَ حاجتَهُ بالسؤالِ، وبهذا فرَّقَ طائفةٌ من
العلماءِ بين الفقيرِ والمسكينِ فقالوا: من أظهرَ حاجتَهُ فهو مسكينٌ ومن كتمَها
فهو فقيرٌ، وفي كلامِ الإمامِ أحمدَ إيماءٌ إلى ذلك وإن كانَ المشهورُ عنه أن
التفريقَ بينهما بكثرةِ الحاجةِ وقلَّتِهَا كقولِ كثير من الفقهاءِ.
وهذا حيثُ جمعَ بينَ ذِكْرِ الفقيرِ والمسكينِ كما في آيةِ الصدقاتِ، فأمَّا إذا
أفردَ أحدُ الاسمينِ دخلَ فيهِ الآخر عنَد الأكثرينَ، وقد كانَ كثيرٌ من السلفِ
يكتمُ حاجتَهُ ويظهرُ الغِنى تعففًا وتكرمًا، منهم إبراهيم النخعيّ كانَ يلبسُ ثيابًا حسناءَ ويخرجُ إلى الناسِ وهم يرونَ أنه تحل له الميتةَ من الحاجةَ.
كانَ بعضُ الصالحينَ يلبسُ الثيابَ الجميلةَ وفي كمهِ مفتاحُ دارٍ كبيرةٍ ولا
مأوى لهُ إلا المساجدُ، وكانَ آخرُ لا يلبسُ جبةً في الشتاءِ لفقرهِ ويقولُ: بي
علةٌ تمنعني من لبسِ المحشو وإنَّما يعني بها الفقرَ - شعر:
إن الكريمَ لُيخفي عنك عسرتَهُ. . . حتى تراهُ غنيًّا وهوَ مجهودُ
وكان بعكس هؤلاءِ من يلبسُ ثيابَ المساكينِ مع الغِنَى تواضعاً للهِ عز وجل
وبُعْدًا من الكبرِ كما كانَ يفعلُهُ الخلفاءُ الراشدونَ الأربعةُ وبعدَهم عمرُ بنُ عبد العزيز، وكذلكَ كانَ جماعةٌ من الصحابةِ منهم عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ وغيرُهما - رضي الله عنه -.
ورويَ أنَ أبا بكر الصدِّيقِ - رضي الله عنه - كانَ ينشدُ:
إذا أردتَ شريفَ الناسِ كلهم. . . فانظرْ إلى ملك في زي مسكينِ
ذاكَ الذي حسنت في الناسِ سيرتُهُ. . . وذاكَ يصلحُ للدُّنيا وللدينِ
وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يُعاتَبُ على لباسِهِ فيقولُ: هو أبعدُ عن الكبرِ وأجدرُ أن يقتدي بي المسلمُ.
وعوتبَ عمرُ بنُ عبد العزيزِ على ذلكَ فقالَ: إن أفضلَ(2/199)
القصدِ عندَ الجدةِ، يعني أفضلَ ما اقتصدَ الرجلُ في لباسِهِ مع قدرتِهِ
ووجدانهِ.
وفي "سنن أبِي داودَ" وغيرِه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "البذاذةُ من الإيمانُ "
يعني: التقشفَ. وفي الترمذي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"من تركَ اللباسَ تواضعًا للَّهِ عز وجل وهو يقدرُ عليه دعاهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ حتَّى يخيرهُ من أيِّ حُللِ الجنةِ شاء يلبسُهَا"
وخرَّجهُ أبو داود من وجهٍ آخرَ ولفظه:
"من تركَ ثوبَ جمالٍ وهو يقدرُ عليه - أحسبهُ قالَ: تواضعاً - كساهُ اللَهُ حلَّة الكرامةِ".
وإنَّما يذمّ من تركَ اللباسَ مع قدرتِهِ عليهِ بخلاً على نفسه أو كتمانًا لنعمةِ
اللَّهِ عز وجل وفي هذا جاءَ الحديثُ المشهورُ:
"إن اللهَ إذا أنعم على عبدٍ أحبَّ أن يرَى أثرَ نعمتِهِ على عبدِهِ "
ومن لبسَ لباسًا حسنًا إظهارًا لنعمةِ اللَّهِ ولم يفعلْهُ اختيالاً كانَ حسنًا.
وكان كثيرٌ من الصحابةِ والتابعينَ يلبسونَ لباسًا حسنًا، منهم: ابنُ عباس.
والحسنُ البصريّ، وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه سُئِلَ عن الرجلِ يحبُّ أن يكونَ لباسهُ حسنًا ونعلُه حسنًا، قالَ:
"ليس ذلك بالكبر، إنما الكبر بطر الحق وغمط الناس "
يعني التكبرَ عن قبولِ الحقِّ والانقيادِ لهُ واحتقارَ الناسِ
وازدراءهمُ فهذا هُوَ الكبرُ وأمَّا مجردُ اللباسِ الحسنِ الخالي عن الخيلاءِ فليسَ(2/200)
بكبرٍ، واحتقارُ الناسِ مع رثاثةِ اللباسِ كبر.
وقد رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ ماشيًا في طريقٍ وهناكَ أمة سوداءُ، فقال لها رجل: الطريقَ الطريقَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: الطريقُ يمنةً ويسرةً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"دعُوهَا فإنَّها جبَّارةٌ"
خرَّجهُ النسائيُّ وغيرُه، وفي روايةِ الطبرانيِّ قالُوا:
يا رسولَ اللَّهِ إنها يعني مسكينة، قالَ:
"إنَّ ذاكَ في قلبها"
يعني أنَّ الكبرَ في قلبهَا وإنْ كانَ لباسهَا لباسَ المساكينِ.
وقالَ الحسنُ: إن قومًا جعلوا التواضعَ في لباسِهم والكبرَ في صدورهم إن
أحدَهم أشدُ كبرًا بمدرعتهِ من صاحبِ السريرِ بسريره، وصاحبِ المنبرِ بمنبرِهِ، قالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريّ: قالَ لي سليمانُ بنُ أبي سليمانَ
وكانَ يعدلُ بأبيه: أيَّ شيء أرادوا بثيابِ الصوفِ؟
قلت: التواضعَ، قالَ: وما يتكبرُ أحدُهم إلا إذا لبسَ الصوفَ؟
وقالَ أبو سليمانَ: يكونُ ظاهرُكَ قطنيا وباطنكَ صوفيًا.
وقالَ أبو الحسينِ ابن بشارِ: صوِّف قلبَكَ والبس القوهيَ على القوهي يعني رفيعَ الثيابِ، فمتَى أظهرَ الإنسانُ لباسَ المساكينِ لدعوى الصلاح ليشتهرَ بذلكَ عندَ الناسِ كانَ ذلكَ كبرًا ورياءً، ومن هُنا تركَ كثيرٌ من السلفِ المخلصينَ اللباسَ المختصَّ بالفقراءِ والصالحينَ وقالُوا: إنه شهرة، ولما قدمَ سيارُ أبو الحكم البصرةَ لزيارةِ مالك بنِ دينار، لبسَ ثيابًا حسنةً ثمَ دخلَ المسجدَ فصلَّى صلاةً حسنةً فرآه مالكٌ ولم يعرفْهُ فقالَ له: يا شيخُ إنِّي أرغبُ بك عن هذه الثيابِ مع هذه الصلاةِ، فقالَ له: يا مالك ثيابي هذه تضعُني عندكَ أم ترفعُني؟(2/201)
قالَ: بل تضعكَ، فقالَ: نِعمَ الثوبُ ثوبٌ يضعُ صاحبهُ عندَ الناسِ، ولكن انظرْ يا مالكُ لعلَّ ثوبيكَ هذين يعني الصوفَ أنزلاكَ عندَ الناسِ ما لم ينزلاكَ من اللَّهِ، فبكى مالكٌ وقام إليه واعتنقهُ وقال له: أنشدكَ اللَّهَ أنت سيارُ أبو
الحكم؟
قالَ: نعم.
فلهذا كرهَ من كرهَ من السلفِ كابنِ سيرينَ وغيره لباسَ الصوفِ حيثُ صارَ
شعارَ الزاهدينَ فيكونُ لباسُهُ إشهارًا للنفسِ وإظهارًا للزهدِ، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانَ يلبسُ لباسَ الأغنياءِ من حللِ اليمنِ وثيابِ الشامِ ونحوهَا، وتارةً يلبسُ لباسَ المساكينِ، فيلبسُ جبةً من صوفٍ أحيانًا وأحيانًا يتزر بعباءه، ويهيئُ إبلَ الصدقةِ بيدهِ يعني أنه يطليَها بيدِهِ ويصلحهَا كما يفعلُ أربابُ الإبلِ بها، ولم يبعثِ اللَّهُ نبيًا من أهلِ الكبرِ، وإنَّما يبعثُ من لا كبرَ عندَهُ ولا يتكبرُ عن معالجةِ الأشياءِ التي يأنفُ منها المتكبرونَ كرعايةِ الإبلِ والغنم، وإجارةِ نفسِهِ عندَ الحاجةِ إلى الاكتسابِ، ومن أعطاهُ اللَّهُ منهم مُلكًا فإنهُ لم يزل دأبهُ التواضعَ للَّهِ عز وجل كداودَ وسليمانَ ومحمدٍ صلَّى اللَّهُ عليهم وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وقد يطلقُ اسمُ المسكينِ ويرادُ بهِ من استكانَ قلبُه للهِ عز وجل وانكسر لهُ
وتواضعَ لجلالهِ وكبريائهِ وعظمتهِ وخشيتهِ ومحبتِهِ ومهابتِهِ، وعلى هذا المعنى
حملَ بعضُهم الحديثَ المرويَّ عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللَّهم أحيني مسكينا وأمتْني مسكينا واحشرنِي في زمرةِ المساكينِ "
خرَّجهُ الترمذيُّ من حديثِ أنسٍ وخرَّجَهُ ابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ عباسٍ، وفي حملهِ على ذلكَ نظرٌ؛ لأن(2/202)
في تمامِ حديثيهما ما يدل على أن المرادَ به المساكينُ من المال؛ لأنهُ ذكرَ سبقَهم الأغنياء إلى الجنةِ مع أنَّ في إسنادِ الحديثين ضعفًا، وقد خُيِّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ أن يكونَ نبيًّا ملكًا أو عبدًا رسولاً فأشارَ إليهِ جبريلُ أنْ تواضعَ، فقالَ: بل عبدًا رسولاً، وكانَ بعدَ ذلكَ لا يأكلُ متكئًا ويقولُ: "آكل كما يأكلُ العبدُ وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ".
قالَ الحسنُ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"فأعطاني اللهُ لذلكَ أن جعلَني سيدَ ولدِ آدمَ وأولَ شافع وأولَ مشفع وأولَ من تنشقُّ عنه الأرضُ "
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ:
"إنَّما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللَّهِ ورسولُه "
فأشرفُ أسمائهِ عبدُ اللَّهِ ولهذا سُمِّي بهذا الاسم في القرآنِ في أفخرِ مقاماتِه، فلما حققَ - صلى الله عليه وسلم - عبوديته لربِّه حصلتْ له
السيادةُ على جميع الخلقِ.
كانَ كثير من العارفينَ يقولُ في مناجاتهِ لربِّه:
كفى بي فخرًا أنِّي لكَ عبدٌ وكفَى بي شرفًا أنكَ لي ربٌّ.
وكانَ بعضُهُم يقولُ:
كلَّما ذكرتُ أنه ربِّي وأنا عبدُه حصلَ لي من السرور ما يصلحُ به بدَني:
شرفُ النفوسِ دخولُها في رقِّهم. . . والعبدُ يحوِي الفخرَ بالمتملكِ
وكان أبو يزيدِ البسطاميُّ ينشدُ:
يا ليتني صرتُ شيئًا. . . من غيرِ شيء أعد
أصبحتُ للكلِّ مولى. . . لأنَّني لكَ عبدُ(2/203)
فمنِ انكسَرَ قلبُه للهِ عز وجل واستكانَ وخشع وتواضعَ جبرهُ اللَّهُ عز وجل
رفعهُ بقدرِ ذلكَ، وفي الأثرِ المشهورِ أن اللَّهَ عز وجل قالَ لموسى على نبيِّنا
وعليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلامِ حينَ سألَهُ أينَ أجدكَ؟
قالَ: عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم من أجلي، فإني أدْنو منهُم كلَّ يوم باعًا ولولا ذلكَ انهدَموا.
وروِي عن عبدِ اللَّهِ بي سلامٍ أنه فسرهُ فقال: هم المنكسرة قلوبُهُم بحبِّ
اللَّهِ عن حبِّ غيرهِ، وفي الحديثِ المشهورِ المرفوع:
"أنَّ اللَهَ تعالى إذا تجلَّى لشيء من خلقِهِ خشعَ له "
فإذا تجلَّى لقلوبِ العارفينَ عظمةُ اللَّهِ وجلالهُ وكبرياؤه
اندكت قلوبهم من هيبتِهِ وخشعتْ وانكسرتْ من محبَّتِهِ ومخافتِهِ:
مساكينُ أهلِ الحبِّ حتى قبورُهم. . . عليها ترابُ الذلِّ بينَ المقابرِ
فالمسكينُ في الحقيقةِ من استكانَ قلبُهُ لربه وخشعَ من خشيتِهِ ولا يكونُ
المسكينُ ممدوحًا بدونِ هذه الصفةِ، فإنَّ من لم يخشعْ قلبُهُ معَ فقرِه وحاجتِهِ
فهوَ جبار كتلكَ الأمة السوداء التي قالَ فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها جبَّارةٌ"
وهو إما عائلٌ مستكبر أو فقير مختالٌ، وكلاهما لا ينظرُ اللَهُ إليه يومَ القيامةِ، فالمؤمنُ من يستكينُ قلبُهُ لربِّه ويخشعُ له ويتواضعُ ويظهرُ مسكنتهُ وفاقتَه إليهِ في الشدَّةِ والرخاءِ، أما في حالِ الرخاءِ فإظهارُ الذل والعبوديةِ والفاقةِ والحاجةِ إلى كشفِ الضر قالَ تعالى:
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَعُونَ) ، فذمَّ من لا يستكينُ لربِّهِ عندَ الشدةِ، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
يخرجُ عندَ الاستسقاءِ متخشعًا متمسكنًا.
وحُبسَ لمطرفِ بنِ عبد اللَّهِ قريبٌ له لبسَ خلقانَ ثيابهِ، وأخذ بيده قصبةً(2/204)
وقالَ: أتمسكنُ لربِّي لعلَّهُ يشفعني فيه.
ومما يشرعُ فيه التمسكنُ للَّهِ عز وجل حالَ الصلاةِ كما في حديثِ الفضلِ
بنِ عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"الصلاةُ مثْنَي مثْنَي تشهدُ في كلِّ ركعتينِ وتخشعُ وتضرع وتمسكنُ وتقنعْ يديكَ - يقولُ ترفعهُما - وتقولُ: ياربِّ ثلاثا، فمن لم يفعلْ ذلكَ
فهي خداجٌ "
خرَّجهُ الترمذيُّ وغيره.
وكذلكَ يشرعُ إظهارُ المسكنةِ في الدعاءِ، خرَّجَ الطبراني من حديثِ ابنِ
عباسٍ قالَ: "رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدعوُ بعرفةَ ويداهُ إلى صدره كاستطعامِ المسكينِ ".
ومن حديثِهِ أيضاً أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في دعائِهِ عشيةَ عرفةَ:
"أنا البائسُ الفقيرُ المسغيثُ المستجيرُ الوجلُ المشفقُ المقرُّ المعترفُ بذنبِهِ، أسألكَ مسألةَ المسكينِ، وأبتهلُ إليكَ ابتهالَ المذنبِ الذليلِ، وأدعوكَ دعاءَ الخائفِ الضرير ".
وكان بعضُ السلفِ يجلسُ بالليلِ مطرقًا رأسَهُ ويمدُّ يديهِ وهو ساكَتٌ كحالِ
المسكينِ المستعطِي.
وقالَ طاوس: دخلَ عليٌّ بنُ الحسينِ الحِجْرَ ليلةً فصلَّى
فسمعتُهُ يقولُ في سجودِهِ: عُبيدُكَ بفنائِكَ، مسكينُكَ بفنائِكَ، فقيرُكَ
بفنائِكَ، سائلُكَ بفنائِكَ، قالَ طاوس: فحفظتُهنَّ فما دعوتُ بهنَّ في كربٍ
إلاَّ فرجَ عنَّي.
وكان بعضُ العبادِ قد حجَّ ثمانينَ حجةً على قدميهِ فبينَما هوَ
في الطوافِ وهوَ يقولُ: ياحبيبي ياحبيبي، فهتفَ هاتفٌ: ليسَ ترضَى أن
تكونَ مسكينًا حتى تكون حبيبا فغشيَ عليه، فكانَ بعد ذلكَ يقولُ:
مسكينُك، مسكينُك.(2/205)
شعرٌ لابنِ تيميةَ شيخ الإسلامِ رحمهُ الله:
أنا الفقيرُ إلى ربِّ السماواتِ. . . أنا المستكينُ في مجموع حالاتي
أنا الظلومُ لنفسِي وهي ظالمتي. . . والخيرُ إن جاءَهَا من عندِهِ ياتي
قولهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"وأن تغفَر لي وترحمني "
المغفرةُ والرحمةُ يجمعانِ خيرَ الآخرةِ كلَّهُ؛ لأن المغفرةَ سترُ الذنبِ مع وقايةِ شرِّه، وقد قيلَ: إنه لا تجتمعُ المغفرةُ مع عقوبةِ الذنبِ حيثُ كانتِ المغفرةُ وقايةً لشرِّ الذنبِ، وهذا لا يكونُ مع عقوبةٍ عليهِ، ولذلكَ سمِّي المغفرُ مغفرًا لأنه يستُرُ الرأسَ ويقيهِ الأذَى، وهذا بخلافِ العفوِ فإنَه يكونُ تارةً قبلَ العقوبةِ وتارةً بعدها.
وأمَّا الرحمةُ فهيَ دخولُ الجنةِ، وعلو درجاتِها، وجميع ما في الجنةِ من النعيم بالمخلوقاتِ ومنْ رضَى اللَّهِ عزَ وجل وقربِهِ ومشاهدتِهِ وزيارتِهِ فإنَّه من رحمةِ اللَّهِ تعالَى، وفي الحديثِ الصحيح:
"إنَّ اللَّهَ عز وجل يقولُ للجنةِ: أنتِ رحمتِي أرحمُ بكِ من أشاءُ من عبادِي "
فكلُّ ما في الجنةِ فهُو من رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وإنَّما تُنالُ برحمِتِه
لا بالعملِ كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"لن يدخلَ أحدٌ منكُمُ الجنةَ بعمله، قالُواْ ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟
قالَ: ولا أنا إلا أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ ".
قولُه - صلى الله عليه وسلم -:
"وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبضْنِي إليكَ غيرَ مفتونٍ ".
المقصودُ من هذا الدعاءِ سلامةُ العبدِ من فتن الدنيا مدةَ حياتِهِ فإنْ قدَّر اللَّهُ عز وجل على عبادِه فتنة قبضَ عبدَهُ إليهِ قبلَ وقوعها وهذا من أهمِّ الأدعيةِ فإنَّ المؤمن إذا عاشَ سليمًا من الفتن ثم قبضَهُ اللَّهُ قبل وقوعِهَا وحصولِ الناسِ فيها كانَ في ذلكَ نجاةٌ له من الشرِّ وقد أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهُ أن يتعوَّذوا من الفتن ما ظهرَ منها(2/206)
وما بطَنَ، وفي حديثٍ آخرَ "وجنِّبنا الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ "، وكانَ يخصُّ بعضَ الفتنِ العظيمة بالذكرِ، وكان يتعوذُ باللَّهِ في صلاتهِ من
أربع ويأمرُ بالتعوذِ منها
"أعوذُ باللًّهِ من عذابِ جهنمَ، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ
المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيح الدجال "
ففتنةُ المحيا تدخلُ فيها فتنُ الدِّينِ والدنيا كلُّها كالكفرِ والبدع والفسوقِ والعصيانِ، وفتن المماتِ يدخلُ فيها سوءُ الخاتمةِ، وفتنةُ الملكينِ في القبرِ فإنَّ الناسَ يفتنونَ في قبورهم مثلَ أو قريبًا من فتنة الدجالِ، ثم خصَّ فتنةَ الدجالِ بالذكرِ لعظم موقِعهَا فإنه لم يكن في الدُّنَيا فتنةٌ قبل يومِ القيامةِ أعظمُ منها وكلما قربَ الزمانُ من الساعةِ كثُرتِ الفتن.
وفي حديث معاويةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّهُ قالَ:
"إنه لم يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنةٌ "
وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفتنِ التي كقطع الليلِ المظلم يصبح الرجل فيها مؤمِنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا يبيعُ دينَهُ بعرِضٍ من الدنيا.
وكان أولُ هذه الفتنِ ما حدثَ بعدَ عمرَ - رضي الله عنه - ونشأ من تلكَ قتلُ عثمانَ - رضي الله عنه - وما ترتبَ عليهِ من إراقةِ الدماءِ وتفرق القلوبِ وظهورِ فتن الدينِ كبدع الخوارج المارقينَ من الدينِ وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهورُ بدع أهلِ القدرِ والرفضِ ونحوِهِم، وهذه هي الفتنُ التي تموجُ كموج البحرِ المذكورةُ في حديثِ حذيفةَ المشهورِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ سألَهُ عنها عمرُ وكان حذيفةُ - رضي الله عنه -
.(2/207)
من أكثرِ الناسِ سؤالاً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن خوفا من الوقوع فيها، ولما حضرَهُ الموتُ قال: حبيبٌ جاءَ على فاقةٍ لا أفلَحَ من ندِمَ، الحمدُ للَّهِ الذي سبقت بي الفتنة قادتها وعلوجها.
وكان موتُه قبلَ قتلِ عثمانَ بنحو من أربعين يومًا وقيلَ: بل ماتَ بعدَ قتلِ
عثمانَ.
وكانَ في تلكَ الأيامِ رجلٌ من الصحابةِ نائمًا فأتاهُ آتٍ في منامهِ فقال
له: قمْ، فاسأل اللَّهَ أن يعيذَك من الفتنةِ التي أعاذَ منها صالحَ عبادِهِ، فقام
فتوضَّأ وصلَّى ثم اشتكَى وماتَ بعد قليلٍ.
وقد رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قال لرجل:
"إذا مت أنا وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ فإن استطعتَ أنْ تموتَ فمُتْ "
وهذا إشارةٌ إلى هذه الفتن التي وقدتْ بمقتلِ عثمانَ - رضي الله عنه -.
والدعاءُ بالموتِ خشيةَ الفتنةِ في الدينِ جائزٌ وقد دعا به الصحابةُ - رضي الله عنهم - والصالحونَ بعدَهم، ولما حجَّ عمرُ - رضي الله عنه - آخرَ حجَّة حجَّها استلقى بالأبطح ثم رفعَ يديهِ وقالَ: اللهمُّ إنه قد كبرَ سنِّي ورقَّ عظمي وانتشرتْ رعيتي فاقبضني إليكَ غيرَ مُضيِّع ولا مفتون، ثم رجع إلى المدينة، فما انسلخَ حتى قتلَ - رضي الله عنه -.
ودعا عليٌّ ربَّهُ أن يريحهُ من رعيتِه حيثُ سَئمَ منهم فقتلَ عن قريبٍ.
ودعتْ زينبُ بنتُ جحشٍ - رضي الله عنها - لما جاءَها عطاءُ عمرَ من المال فاستكثرتهُ وقالتْ: اللهمَّ لا يدركني عطاءٌ لعمرَ بعدَها فماتت قبلَ العطاءِ الثاني.
ولما ضجَرَ عمرُ بنُ عبدُ العزيزِ من رعيتِهِ حيثُ ثقلَ عليهم قيامُهُ فيهِم بالحقِّ(2/208)
طلبَ من رجلٍ كان معروفًا بإجابةِ الدعوةِ أن يدعوَ له بالموتِ فدعَا له ولنفسِه
بالموتِ فماتا.
ودُعي طائفةٌ من السلفِ الصالح إلى ولايةِ القضاءِ فاستُمهلوا ثلاثةَ أيامٍ
فدعَوا اللَّهَ لأنفسِهِم بالموتِ فماتوا.
واطُّلعَ على حال بعض الصالحينَ ومعاملاتِهِ التي كانتْ سرًّا بينه وبينَ ربِّه.
فدعا اللَّهَ أن يقبضهُ إليه خوفًا من فتنةِ الاشتهارِ، فماتَ فإنَّ الشهرةَ بالخيرِ
فتنةٌ، كما جاءَ فى الحديثِ
"كفَى بالمرءِ فتنة أن يشارَ إليه بالأصابع فإنَّها فتنةٌ"
وكان سفيانُ الثوريّ يتمنَّى الموتَ كثيرًا فسئل عن ذلكَ فقال: ما يدريني لعلِّي أدخلُ في بدعةٍ، لعلِّي أدخلُ فيما لا يحلَّ لي، لعلي أدخلُ في فتنةٍ أكون قدْ متُّ فسبقتُ هذا.
واعلم أن الإنسانَ لا يخلو من فتنةٍ.
قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -:
لا يقلْ أحدُكم أعوذُ باللَّهِ من الفتنِ ولكن ليقلْ: أعوذُ باللَّهِ من مضلاتِ الفتنِ ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يشيرُ إلى أنه لا يستعاذُ
من المال والولد وهما فتنةٌ.
وفي "المسندِ" أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أمَّ سلمةَ أن تقولَ:
"اللهمَّ ربَّ النبيًّ محمدٍ اغفرْ لي ذنبي، وأذهِبْ غيظ قلبِي، وأجرنِي من مضلات الفتنِ ما أبقيتَنِي "
وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النساءَ والأموال فتنةً ففي "الصحيح " عنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "
مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ"
وفيه أيضًا أنهُ - صلى الله عليه وسلم -(2/209)
قالَ: "واللَّهِ ما الفقرُ أخشَى عليكم، ولكنْ أخشَى أن تبسطَ عليكُم الدُّنيا كما بسطَتْ على من كانَ قبلَكم، فتنافسوها كما تنافسوهَا فتهلكهمُ كما أهلكتهُم ".
وفي "صحيح مسلم " عنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"اتَّقوا النساءَ فإنَّ أولَ فتنةَ بني إسرائيلَ
كانتْ في النساء" وفي الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لكلِّ أمةٍ فتنةٌ، وفتنةُ أمَّتي المالُ "
وقد قالَ اللًّهُ عز وجل:
(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُون وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) .
فالرجلُ فتنة للمرأةِ، والمرأةُ فتنة للرجلِ، والغني فتنة للفقير، والفقيرُ فتنة
للغنيِّ، والفاجرُ فتنة للبرِّ، والبرُّ فتنة للفاجرِ، والكافرُ فتنة للمؤمنِ، والمؤمنُ
فتنة للكافرِ، كما قالَ اللَّهُ تعاليَ: (وَكذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشاكِرِينَ) .
وقالَ عز وجل: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّر وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) .
فجعلَ كلَّ ما يصيبُ الإنسانَ من شر أو خيرٍ فتنةً يعني أنهُ محنة يمتحنُ بها
فإنْ أصيبَ بخير استحقَّ به شكرَه، وإن أصيبَ بسوءٍ استحقَّ به صبره، وفتنةُ
السراءِ أشدُّ من فتنةِ الضراءِ.
قالَ عبدُ الرحمنِ بن عوفٍ - رضي الله عنه -
بُلينا بفتنةِ الضراءِ فصبرْنَا، وبُلينا بفتنةِ السراءِ فلم نصبرْ.
قالَ بعضُهُم: فتنةُ الضراءِ يصبرُ عليها البر والفاجرُ ولا يصبرُ على فتنةِ السراءِ إلاَّ صدِّيقٌ.
ولما ابتليَ الإمامُ أحمدُ بفتنةِ الضراءِ صبرَ ولم يجزعْ وقالَ: كانتْ زيادةً في
إيماني، فلما ابتلي بفتنةِ السراءِ جزعَ وتَمَنَّى الموتَ صباحة ومساءً وخَشيَ أنْ
يكونَ نقصًا في دينهِ.(2/210)
ثمَّ إن المؤمنَ لابدَّ أنْ يفتنَ بشي من الفتن - المؤلمةِ الشاقةِ عليه ليمُتحنَ
إيمانهُ، كما قالَ اللَّهُ تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) .
ولكنَّ اللَّهَ يلطُفُ بعباده المؤمنينَ في هذهِ الفتن ويصبرُهُم عليها، ويثيبُهُم
فيها، ولا يلقيهم في فتنةٍ مهلكةٍ مضلةٍ تذهبُ بدينِهم، بل تمرّ عليهِم الفتنُ
وهم منها في عافية.
وأخرجَ ابنُ أبي الدنيا من حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعا
" إنَّ للهِ ضنائنُ منْ عبادِهِ يغذُوهُم في رحمتِهِ ويحييهم في عافيةٍ ويتوفاهُم إلي جنتهِ أولئكَ الذينَ تمرّ عليهِم الفتنُ كقطع الليل المظلم، وهم منهَا في عافية" والفتن الصغارُ التي يُبْتَلى بها المرءُ في أهلهِ ومالِهِ وولدِهِ وجاره تكفِّرُها الطًاعاتُ من الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ، لذا جاءَ في حديثِ حذيفةَ.
ورُويَ عنهُ أنَّه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
إن في لساني ذرباً وإنَّ عامةَ ذلكَ على أهلي؟
فقالَ لهُ: " أينَ أنتَ منَ الاستغفارِ؟ ".
وأما الفتنُ المضلةُ التي يُخشَى منها فسادُ الدينِ فهيَ التي يُستعاذُ مِنْهَا
ويسألُ الموتُ قبلَهَا، فمنْ ماتَ قبلَ وقوعِهِ في شيء من هذهِ الفتن فقدْ حفظَهُ
اللَّهُ تعالَى وحماهُ.
وفي "المسندِ" عن محمودِ بن لبيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"اثنتان يكرَهُهُمَا ابنُ آدمَ: يكرهُ الموتَ، والموتُ خيرٌ للمؤمنِ من الفتنِ، ويكرهُ قلةَ المالِ، وقلة المالِ أقلُّ للحسابِ ".(2/211)
قولهُ - صلى الله عليه وسلم -
"وأسألكَ حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ العملِ الذَّي يُبلغُني حبَّك"
هذا الدعاءُ يجمعُ كلَّ خيرٍ، فإن الأفعالَ الاختياريةَ من العبادِ إنما تنشأُ عن محبةٍ وإرادةٍ، فإنْ كانتْ محبةُ الله ثابتةً في قلبِ العبدِ نشأتْ عنهَا حركاتُ الجوارح فكانتْ بحسبِ ما يحبُّه اللَّهُ ويرتضِيهِ، فأحبَّ ما يحبُّه اللَّهُ عز وجلَّ من الأعمالِ والأقوالِ كُلِّها، ففعلَ حينئذٍ الخيراتِ كُلَّها وتركَ المنكراتِ كلَّها، وأحبَّ من يحبُّه الله من خلقه، وهذا الدعاءُ كانتِ الأنبياءُ عليهم السلامُ
يدعونَ به كما في الترمذي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أن داودَ عليهِ السلام كان يقولُ:
اللهمَّ إنِّي أسألكَ حبَّكَ وحبَّ من يحبُّكَ، وحبَّ عملٍ يبلغني إلى حبِّك، اللهُم اجعلْ حبَّكَ أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلِي ومن الماء الباردِ"
وفيه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو:
"اللهمَّ ارزقني حبَّكَ، وحبَّ من يحبُّكَ، وحبَّ عملٍ يبلغني إلى حبك، اللهمَّ ما رزقتَني مما أحبُّ فاجعلهُ قوةً لي فيما تحبُّ.
وما زويتَ عني مما أحبُّ فاجعلهُ فراغًا لي فيما تحبُّ ".
وفي حديثٍ مرسلٍ خرَّجهُ ابنُ أبي الدنيا وغيرُه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَان يقولُ:
"اللهمَّ اجعلْ حبَّكَ أحبَّ الأشياءِ إليَّ، وخشيتَكَ أخوفُ الأشياءِ عنْدِي واقطعْ عنِّي حاجاتِ الدُّنيا بالشوقِ إلى لقائكَ وإذا أقررتَ أعينَ أهلِ الدنيا من دنياهم فأقررْ عيني في عبادتكَ "
ومن كانَ همُّه طلبَ محبةِ اللهِ عز وجل أعطاهُ اللَّهُ فوق ما يريدُهُ
من الدُّنيا تبعًا.
قال بعضُ السلفِ: لما توفِّي داودُ عليه السلامُ أرسلَ اللَّهُ عز وجل إلى
سليمانَ عليهِ السلامُ ألكَ حاجةٌ تسألني إيَّاها؟
فقالَ سليمانُ: أسألُ اللَّهَ أن يجعلَ قلبي يحبُّه كما كانَ قلبُ أبي داودَ يحبُّه، وأن يجعلَ قلبِي يخشاهُ كما(2/212)
كانَ قلبُ أبي داودَ يخشاهُ، فشكرَ اللَّهُ لهُ ذلكَ وأعطاهُ مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ
من بعده.
ومحبةُ اللَّهِ تعالَى على درجتينِ:
إحداهما: واجبةٌ وهيَ المحبةُ التي توجبُ للعبِد محبةَ ما يحبُّه اللَّهُ من
الواجباتِ وكراهةِ ما يكرهُهُ من المحرماتِ، فإنَّ المحبةَ التامةَ تقتضِي الموافقةَ
لمن يحبُّه في محبةِ ما يحبُّه وكراهةِ ما يكرههُ خصوصًا فيما يحبُّه ويكرهُهُ من
المحبِّ نفسِهِ، فلا تصحُّ المحبةُ بدونِ فعلِ ما يحبُّه المحبوب من مُحبَهِ وكراهةِ
ما يكرهُهُ المحبوبُ من محبيهِ، وسئلَ بعضُ العارفينَ عن المحبةِ فقالَ: الموافقةُ
في جميع الأحوالِ وأنشدَ:
ولو قلتَ لي مُتْ مُتُّ سمعًا وطاعة. . . وقلتُ لداعي الموتِ أهلاً ومرحبًا
وأنشدَ بعضُهُم:
تعصِي الإلهَ وأنتَ تزعمُ حبَّهُ. . . هذا لعمري في القِياسِ فظيعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقًا لأطعتهُ. . . إن المحبَّ لمنْ يحبُّ مطيعُ
ومتى أخلَّ العبدُ ببعضِ الواجباتِ أو ارتكبَ بعضَ المحرماتِ فمحبّته لربِّهِ
غيرُ تامَّةٍ، فالواجبُ عليهِ المبادرةُ بالتوبةِ، والاجتهادُ في تكميلِ المحبةِ المفضيةِ
لفعلِ الواجباتِ كلِّها، واجتنابِ المحرماتِ كلِّها، وهذا معنى قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
" لا يزني الزانِي حينَ يزني وهو مؤمن ولا يسرقُ السارقُ حينَ يسرقُ وهوَ مؤمن ولا يشربُ الخمرَ حينَ يشربُها وهو مؤمنٌ "
فإنَّ الإيمانَ الكاملَ يقتضِي محبَّة ما يحبُّه اللَّهُ، وكراهةَ ما يكرهُهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، والعملَ بمقتضَى ذلكَ فلا يرتكب أحدٌ(2/213)
شيئًا من المحرماتِ أو يخلّ بشيءٍ من الواجباتِ إلا لتقديمِ هوى النفسِ
المقتضي لارتكابِ ذلكَ على محبةِ اللَّهِ تعالَى المقتضيةِ لخلافِهِ.
الدرجةُ الثانيةُ من المحبةِ: درجةٌ المقربينَ وهيَ: أنْ يمتلئَ القلبُ بمحبةِ اللَّهِ
تعالِى حتى توجبَ له محبةَ النوافلِ والاجتهادَ فيها وكراهةَ المكروهاتِ
والانكفافَ عنها، والرِّضا بالأقضيةِ والأقدارِ المؤلمةِ للنفوسِ لصدورها عن
المحبوبِ، كما قالَ عامرُ بنُ قيس:
أحببتُ اللَّهَ حبًا هوَّنَ عليَّ كلَّ مصيبةٍ، ورضَّاني بكلِّ بليةٍ، فلا أبالي معًّ حَبِّي إياهُ على ما أصبحتُ ولا على ما أمسيتُ.
وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز لما ماتَ ولدُهُ الصالحُ: إن اللَّهَ أحبَّ قبضَهُ، وإني
أعوذُ باللَّهِ أن يكونَ لي محبةٌ في شيءٍ من الأمورِ يخالفُ محبةَ اللَّهِ، وكانَ
يقولُ:
إذا أصبحتُ فما لي سرورٌ. . . إلا في مواقع القضاءِ والقدرِ.
يا من يعَزُّ علينا أن نفارِقَهم. . . وجداننَا كل شيءٍ بعدَكُم عدمُ
إن كانَ سرَّكم ما قد بليتُ بهِ. . . فما لجُرحٍ إذا أرضَاكمُ ألمُ
وحسبُ سلطانِ الهوى أن يلذَّ فيه كلُّ ما يؤلمُ.
كان عمارُ بنُ ياسرٍ يقولُ: اللهمَّ لو أعلمُ أنَّه أرْضَى لك أن أرمي بنفسِي
من هذا الجبلِ فأتردَّى فأسقطُ فعلتُ، ولو أعلمُ أنَّه أرضى لكَ أن أوقدَ نارًا
عظيمَةً فأقعُ فيها فعلتُ، ولو أعلمُ أنَّه أرْضى لكَ عنِّي أن ألقِي نفسي في الماءِ
فأغرِق نفسي فعلتُ، ولا أقولُ هذا إلا وأريدُ وجهَكَ وأنا أرجو أن لا تخيبني
وأنا أريدُ وجهَكَ.
وقُتِلَ لبعضِ الصالحين ولدانِ في الجهادِ فعزاهُ الناسُ فيهما فبكى وقالَ:(2/214)
إنِّي ما أبْكِي لفقدهمَا إنما أبكانِي كيفَ كانَ رضاهُما عن اللهِ حيثُ أخذْتهُما
السيوفُ.
وكانَ بعضُ العارفينَ يطوفُ بالبيتِ فتجمعتِ القرامطةُ على الناس قتلُوهم
في الطوافِ فوصلُوا إليه فلم يقطع الطوافَ حتى سقطَ من ظربِ السيوفِ
صريعًا وأنشدَ:
واللَّهِ لو حلفَ العشاقُ أنهُمُ موتى. . . من الحبِّ ما ماتُوا وما حنثُوا
ترى المحبِّين صرْعى في ديارِهمُ. . . كَفِتْيةِ الكهفِ لا يدرونَ كم لبِثوا
أقلُّ ثمنِ المحبةِ بذل الروح.
بدمِ المحبِّ يُبَاعُ وصلُهُم. . . فمن الذي يبْتَاعُ بالثمنِ
قال بعضُ العارفينَ: إن كنت تسمحُ ببذل روحكَ في هذه الطريقِ وإلا فلا
تشتغلْ بالتُرَّهَات:
خاطرْ بروحكَ في هَوانَا واسترحْ. . . إنْ شئتَ تحظى بالمحل الأعظمِ
لا يشغلنَّكَ شاغِلٌ عن وصلِنا. . . وانهضْ على قدمِ الرجاءِ واقدمِ
ولما كانتْ محبةُ اللَّهِ عز وجل لها لوازمٌ وهي محبةُ ما يحبُّه اللَّهُ عز وجل
من الأشخاصِ والأعمال، وكراهةِ ما يكرههُ من ذلكَ سأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهَ تعالَى مع محبته محبةَ شيئينِ آخرينِ:
أحدُهما: محبةُ من يحبُّ ما يحبُّه اللَّهُ تَعالى فإن من أحبَّ اللَّهَ أحبَّ أحباءهَ
فيهِ ووالاهم وأبغضَ أعداءَهُ وعاداهم.
كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ، أن يكونَ اللَهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهُما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للَّهِ، وأن يكرَه أنْ يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ اْنقذهُ اللَّهُ منه كما يكرهُ أن يلقَى في النارِ".(2/215)
وأعظم من تجبُ محبّتهُ في اللَّهِ تعالَى أنبياؤهُ ورسلهُ وأعظمُهم نبيُّه محمدٌ
- صلى الله عليه وسلم - الذي افترضَ اللَّهُ على الخلقِ كلِّهم متابعتَهُ، وجعلَ متابعتَهُ علامةً لصحةِ محبتِهِ، كما قالَ تعالى:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
وتوعدَ من قدَّم محبةَ شيءٍ من المخلوقينَ على محبتهِ ومحبةِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - ومحبة الجهادِ في سبيلِهِ في قوله تعالى:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) .
ووصفَ المحبينَ لهُ باللينِ للمؤمنينَ والرأفةِ بهم والمحبةِ لهم والشدةِ
على الكافرينَ والبغضِ لهم والجهادِ في سبيله فقال:
(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) الآية.
والثاني: محبة ما يحبُّه اللَّهُ تعالى من الأعمالِ وبها يبلغُ إلى حبِّه وفي هذا
إشارةٌ إلى أنَّ درجةَ المحبةِ للَّهِ تعالَى إنَّما تنالُ بطاعتِهِ وبفعلِ ما يحبُّه فإذا
امتثلَ العبدُ أوامرَ مولاهُ وفعلَ ما يحبُّه أحبَّهُ اللَّهُ تعالَى ورقَّاه إلى درجةِ
محبتهِ، كما في الحديثِ الإلهي الذي خرَّجهُ البخاريُّ:
"وما تقربَ إليَّ عبدي بمثلِ ما افترضتُ عليهِ ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه".
فأفضلُ ما تُستجلبُ به محبةُ اللَّهِ عز وجل فعلُ الواجباتِ وتركُ
المحرماتِ، ولهذا جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من علاماتِ وجدانِ حلاوةِ الإيمان أن تكرَهَ(2/216)
أنْ ترجعَ إلى الكفرِ كما تكرهُ أن تُلقَى في النار.
وسئلَ ذو النونِ متى أحبُّ ربِّي؟
قالَ: إذا كان ما يكرههُ عندَكَ أمرُّ من الصبرِ، ثمَّ بعدَ ذلكَ الاجتهادُ في
نوافلِ الطاعاتِ وتركُ دقائقِ المكروهاتِ والمشتبهاتِ، ومن أعظم ما تحصُلُ به
محبةُ اللَّهِ من النوافلِ تلاوةُ القرآنِ وخصوصًا مع التدبرِ.
قال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
لا يسألُ أحدُكم عن نفسِهِ إلا القرآنَ، فمنْ أحبَّ القرآنَ فهو يحبُّ اللَّهُ ورسولَه.
ولهذا قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنْ قالَ إني أحبُّ سورةَ
"قلْ هو اللَّهُ أحدٌ" لأنَّها صفةُ الرحمنِ فقالَ: "أخبروه أنَّ اللَّهَ يحبُّه ".
وقالَ أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمنِ: لما قدِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ خطبَ فقالَ في خطبتهِ:
"إنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللَّهِ، قد أفلحَ من زينَهُ اللَّهُ في قلبهِ وأدخَلَهُ في الإسلامِ بعدَ الكفرِ، واختارَهُ على ما سواهُ من الأحاديث، إنه أحسنُ الحديث وأبلغهُ، أحبُوا من أحبَّ اللَّهَ وأحبُّوا اللَّه من كلِّ قلوبكم ".
وكان بعضُهم يكثرُ من تلاوةِ القرآنِ ثمَّ فترَ عن ذلك فرأى في المنامِ قائلاً
يقولُ له:
إن كنتَ تزعمُ حبِّي. . . فلم جفوتَ كتابي
أما تدبرتَ ما فيه. . . من لطيف عِتابِي
فاستيقظ وعادَ إلى تلاوتِه:
ومن الأعمالِ التي توصِّلُ إلى محبةِ اللهِ تعالَى وهيَ من أعظمِ علامات
المحبينَ كثرةُ ذِكرِ اللَّهِ عز وجل بالقلبِ واللسان.
قالَ بعضُهم: ما أدمنَ أحد ذكرَ اللَّهِ إلا أفادتْهُ منهُ محبةَ اللَّهِ تعالَى.
وقالَ ذو النونِ: من أدمن ذكرَ اللَّهِ(2/217)
قذفَ اللَّهُ في قلبِهِ نورَ الاشتياقِ إليهِ، وقالَ بعضُ التابعينَ: علامةُ حبِّ اللَّه
كثرةُ ذكر، فإنكَ لن تحبَّ شيئًا إلا أكثرتَ ذكرَهُ، وقالَ فتحٌ الموصليُّ: المحبُّ للهِ لا يجدُ مع حبِّ اللهِ للدنيا لذةً ولا يغفلُ عن ذكرِ اللَّهِ طرفَة عينٍ.
المحبونَ إن نطقوا نطقُوا بالذكرِ، وإن سكتُوا اشتغلوا بالفكرِ:
فإن نطقتُ فلم ألفظْ بغيركم. . . وإن سكتُّ فأنتم عند إضْمارِي
ومن علامات المحبينَ للهِ وهو مما يحصلُ به المحبةُ أيضًا حبُّ الخلوةِ بمناجاةِ
اللَّهِ تعالى وخصوصًا في ظلمةِ الليلِ:
الليلُ لي ولأحبابي أسامرُهم. . . قد اصطفيتُهم كي يسمعوا ويعوا
قالَ الفضيلُ: يقولُ اللَهُ عز وجل:
كذبَ من ادَعَى محبَّتي فإذا جَنَّهُ الليلُ نام عنِّي.
أليسَ كل حبيبٍ يحبُّ الخلوةَ بحبيبهِ؟
ها أنا مُطَّلعٌ على أحبابي إذا جنَّهُمُ الليلُ جعلتُ أبصارهُم في قلوبهم، ومثلتُ نفسِي بينَ أعينِهم فخاطبوني على المشاهدةِ، وكلَّموني على حضوري، غدًا أقرُّ عينَ أحبَابي في جنَاتي:
تنامُ عيناكَ وتشكُو الهوى. . . لو كنتَ صبًّا لم تكنْ نائمًا
قلوبُ المحبينَ جمرةٌ تحتَ فحمةِ الليلِ كلما هبَّ عليها نسيمُ السحرِ
التهبَتْ، وأنشد:
يذكِّرُني مرُّ النسيم عهودكمُ. . . فأزدادُ شوقًا كلَّما هبتِ الريحُ
أرَاني إذا ما أظلمَ الليلُ أشرقتْ. . . بقلبِي منْ نارِ الغرامِ مصابيحُ
كلما جنَ الغاسقُ حن العاشقُ.
لو أنَّكَ أبصرتَ أهلَ الهوى. . . إذا غابتِ الأنجمُ الطُّلعُ(2/218)
فهذا ينوحُ على ذنبِهِ. . . وهذا يصلِّي وذا يركعُ
من لم يكنْ له مثلُ تقواهُم لم يدرِ ما الذي أبكاهُم، ومن لم يشاهدْ جمالَ
يوسفَ لم يدرِ ما الذي آلمَ قلبَ يعقوبَ، وسئلَ السّريُّ السقَطيُّ عن حالِهِ
فأنشدَ:
من لم يبتْ والحبُّ حشوَ فؤادِهِ. . . لم يدرِكيفَ تفتتُ الأكبادُ
أين رجالُ الليلِ؛ أين ابنُ أدهمَ والفضيلُ؛ ذهبَ الأبطالُ وبقيَ كلُّ بطالٍ.
يا من رضِيَ من الزهدِ بالزي، ومن الفقرِ بالاسم، ومن التصوفِ بالصوف.
ومن التسبيح بالسبح، أينَ فضلُ الفضيل؟ أين جدُّ الجنيدِ؟ أين سرُّ السريًّ؟ أين بشر أين إبراهيم بن أدهمَ؟ ويحَكَ إن لم تقدرْ على معرفةِ معروفٍ فاندُبْ على ربع رابعةَ وأنشد:
هاتيكَ رُبوعَهم وفيها كانُوا. . . بانُوا عنْهَا فَلْيَتَّهِم ما بانوا
ناديتُ وفي حشَاشتي نيرانُ. . . يا دارُ متى تحوَّلَ السكانُ
يا من كان له قلبٌ فانقلبَ، يا من كان له وقتٌ مع اللَّهِ فذهبَ، قيامُ
الأسحارِ يستوحشُ لكَ، صيامُ النهارِ يسألُ عنكَ، ليالي الوصالِ تعاتبكَ على انقطاعكَ:
تشَاغلتمُ عنَّا بصحبةِ غيرِنا. . . وأظهرتُم الهجْرَانَ ما هكذا كنَّا
وأقسمتُم أن لا تحولُوا عَنِ الهوى. . . فقد وحياةِ الحبِّ حلتُم وما حُلنا
ليالي كنَّا نجتَني من ثمارِكم. . . فقلبي إلى تلكَ الليالِي لقدْ حنَّا
إخواني مجَالسُ الذكرِ شرابُ المحبينَ وترياقُ المذنبينَ، قد علمَ كلُّ أناسٍ
مشرَبهم، مجالسُ الذكرِ مآتم الأحزانِ فهذا يبكي لذنوبِه، وهذا يندبُ(2/219)
لعيوبِهِ، وهذا يتأسفُ على فواتِ مطلوبهِ، وهذا يتلهفُ لإعراضِ محبوبِهِ.
وهذا يبوحُ بوجودِهِ وهذا ينوحُ على فقدِهِ وأنشدَ:
ما أذكر عيشَنَا الذي قد سلفا. . . إلا وجفَّ القلبُ وكم قد وَجَفا
واهًا لزمانِنَا الذي كان صفَا. . . بل وأسفًا لفقدِهِ وأسفا
غيره:
يا ليتَنَا بزمزم والحجر. . . يا جيرتَنَا قبيلَ يومِ النفرِ
فهلْ يعودُ ما مضَى من عمري. . . ما كنتُ أدْرِي يا ليتَنِي لا أدرى
كأنِّي أرَى الخلعَ قد خُلِعَتْ على المقبولينَ، كأنِّي أرَى الملائكةَ تصافحُ
التائبينَ، فتعالوا نجتمعُ نبْكي على المطرودينَ:
ما زلتُ دهْرًا للّقَا متعرضًا. . . ولَطَالما قد كنتَ عنَا معرِضًا
جانبتَنا دهرًا فلما لم تجدْ. . . عوضًا سوانَا صرتَ تبْكي محرضًا
واحسرتَاهُ عليكَ من متقلبٍ. . . حق الوبالُ عليهِ من سوءِ القضَا
لو كنتَ من أحبَابِنَا للزمتَنا. . . فكُسيتَ من إحسَانِنا خلعَ الرضا
لكنْ غمطتَ حقوقَنَا وتركتنَا. . . فلذاكَ ضاقَ عليكَ متسعُ الفضَا
* * *
قوله تعالى: (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:(2/220)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) .
قال: ليس هذا بإجابة سؤاله وإنَّما سألَ الإنظار.
فقيلَ لهُ: كذا قُدِّرَ، لا أنَّه جواب سؤالك، لكنَّه مما فُهِم.
* * *(2/221)
سُورَةُ الزُّمَر
قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قالَ تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
والصبرُ ثلاثةُ أنواع: صبرٌ على طاعةِ اللَّهِ، وصبْرٌ عن محارمِ اللَّهِ، وصبرٌ
على أقدارِ اللَّهِ المؤلمةِ. وتجتمعُ الثلاثةُ كلُّها في الصوم،؛ فإنَّ فيه صَبرًا على
طاعةِ اللَّهِ، وصَبرًا عمَّا حرَّمَ اللَّهُ على الصائم من الشَّهواتِ، وصبرًا على ما
يحصُلُ للصَّائم فيه من ألم الجوع والعطشِ، وضعْفِ النفسِ والبدنِ.
ثبتَ في "الصحيحين "
عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له؛ الحسَنةُ بعشْرِ أمثالها إلي سبعمائةِ ضِعفٍ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إلا الصَّيامَ فإنَّه لي وأنا أجزِي به، إنَه تَرَكَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي. للصائم فرحتانِ: فَرْحَةٌ عند فطرِه، وفَرْحَةٌ عند لقاءِ ربَّهِ، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ".
وفي روايةٍ "كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فإنَّه لي "
وفي رواية للبخاريِّ
"لكلِّ عملٍ كَفَّارةٌ، والصَّوم لي وأنا أجزي به ".
وخرَّجهُ الإمامُ أحمد من هذا الوجهِ، ولفظهُ:
"كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له كفارةٌ إلا الصَّومَ، والصَّومُ لي، وأنا أَجْزِي به "
فعلى الروايةِ الأولى: يكونُ استثناءُ الصومِ من الأعمالِ المُضَاعَفَةِ، فتكونُ
الأعمالُ كلُّها تُضاعَفُ بعَشرِ أمثالهِا إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلا الصيامَ(2/222)
فإنَّه لا ينحصِرُ تضعيفُه في هذا العددِ، بل يُضاعِفُه اللَّهُ عزَّ وجلَّ أضعافًا كثيرةً بغير حَصْرِ عددٍ؛ فإنَّ الصيامَ من الصَّبرِ.
ولهذا وَرَدَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سمَّى شهرَ رمضانَ شهرَ الصبر وفي حديثٍ آخرَ عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"الصَّومُ نِصْفُ الصَّبْرِ"
خرَّجهُ الترمذيُ.
وهذا الألمُ الناشئُ من أعمالِ الطَّاعَاتِ يُثابُ عليه صاحبُه، كما قالَ اللَّهُ
تعالى في المجاهدينَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) .
وفي حديثِ سلمانَ المرفوع الذي أخرَجَهُ ابنُ خُزيمةَ في "صحيحِهِ " في فضلِ شهرِ رمضانَ
"وهو شهرُ الصَّبرِ، والصَّبْرُ ثوابُه الجَنَّةُ ".
وفي الطبراني عن ابنِ عُمَرَ مرفوعا:
" الصيامُ لله لا يَعْلَمُ ثَوابَ عملهِ إلا اللَهُ عزَّ وجلَّ ".
ورُوي مرسلاً وهو أصحُّ.
* * *
قوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)
وأما سعةُ جهَنم طولاً وعرْضًا، فروى مجاهد عن ابنِ عباسٍ، قالَ:
أتدرونَ ما سعةُ جهنَم؟
قلنا: لا، قالَ: أجلْ واللَّهِ ما تدرونَ أنَّ ما بينَ شحمةِ(2/223)
أذنِ أحدِهم وأنفِهِ مسيرةُ سبعينَ خريفًا تجري في أوديةُ القيح والدمِ.
قلنَا: أنهار؟
قال: لا، بل أوديةٌ، ثمَّ قالَ: أتدرونَ ما سعةُ جهنَّمَ؟
قلنا: لا، قالَ: حدثتنِي عائشةُ أنها سألتْ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى:
(وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) .
فأين الناسُ يومئذٍ؟
قال: "على جسر جهنَّم"
خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ، وخرجَ النسائيُّ والترمذيُّ منه المرفوعَ وصححهُ الترمذيُّ وخرَّجهُ الحاكمُ وقالَ صحيحُ الإسنادِ.
* * *
وقالَ - أي ابن الجوزي -: كانَ أبو القاسم بنِ السَّمرقندي يقولُ: إنَّ أبا
بكر بنَ الخاضبةِ كانَ يُسَمِّي ابنَ الفاعوسِ الحجَريَّ؛ لأته كانَ يقولُ: الحجرُ
الأسودُ يمينُ اللهِ حقيقةً.
قلت: إنْ صحَّ عن ابنِ الفاعوسِ أنَّه كانَ يقولُ: الحجرُ الأسودُ يمينُ اللَّهِ
حقيقةً، فأصلُ ذلكَ: أنَّ طائفَةً من أصحابنا وغيرِهم نَفوا وقُوعَ المجاز في
القرآنِ، ولكنْ لا يعلمُ منهم مَن نفَى المجاز في اللُّغةِ كقولِ أبي إسحاقَ
الإسفرائيني. ولكنْ قد يسمعُ بعضُ صالحِيهم إنكارَ المجازِ في القرآنِ، فيعتقدُ
إنكارَهُ مطلقًا.
ويؤيدُ ذلكَ: أنَّ المُتبادرَ إلى فهم أكثرِ النَّاسِ مِن لفظِ الحقيقةِ والمجازِ:
المعَاني والحقائقُ دونَ الألفاظِ.(2/224)
فإذَا قيلَ: "إن هذا مجاز" فهمُوا إنَه ليسَ تحتَه معنى، ولا له حقيقة.
فينكرونَ ذلك، وينفِّرون منه.
ومن أنكرَ المجازَ من العلماءِ فقدْ ينكرُ إطلاقَ اسم المجاز؛ لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد، ويصيرَ ذريعةً لمن يريدُ حقائقَ الكتابِ والسنةِ ومدلولاتِهمَا.
ويقولُ: غالبُ من تكلمَ بالحقيقةِ والمجاز همُ المعتزلةُ ونحوهم من أهلِ
البدع وتطرقُوا بذلكَ إلى تحريفِ الكلم عن مواضعِهِ، فيمنعُ من التسميةِ
بالمجاز، يجعلُ جميع الألفاظِ حقائقَ، ويقولُ: اللَّفظُ إن دل بنفسه فهو
حقيقة لذلكَ المعنى، وإن دلَّ بقرينةٍ فدلالتُه بالقرينةِ حقيقة للمعنى الآخرِ.
فهو حقيقة في الحالينِ.
وإن كانَ المعنى المدلولُ عليه مختلفًا فحينئذٍ يُقَالُ: لفظ اليمينُ في قولِه سبحانَه وتعالى: (وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ) حقيقة.
وهو دالٌّ على الصفةِ الذاتيةِ.
ولفظُ اليمينِ في الحديثِ المعروفِ:
"الحجرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ.
فمنْ صافَحهُ فكأنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ عز وجل.
وقيلَ: يمينُه يُرادُ به - مع هذهِ القرائنِ المحتفة بهِ - محلُّ الاستلام والتقبيل.
وهو حقيقةٌ في هذا المعنى في هذه الصورةِ، وليسَ فيه ما يُوهم الصفَة الذاتية
أصلاً، بل دلالتُه على معناه الخاصِ قطيعة لا تحتملُ النقيضَ بوجهٍ، ولا
تحتاج إلى تأويل ولا غيرهِ.
وإذا قيلَ: فابنُ الفاعوسِ لمْ يكن من أهلِ هذا الشأنِ - أعني: البحثَ عن
مدلولاتِ الألفاظ؟
قيلَ: ولا ابنُ الخاضبة كانَ من أهلِه، وإن كانَ محدِّثًا.
وإنَّما سمعَ من ابنِ الفاعوسِ،(2/225)
أو بلغَه عنه إنكارُ أن يكونَ هذا مجاز، لِما سمعَه من إنكارِ لفظِ
المجازِ، فحملهُ السامعُ لقصورهِ أو لهواه على أنَّه إذا كانَ حقيقةً لزمَ أن يكونَ
هو يدُ الربِّ عزَّ وجلَّ، التي هي صفتُه.
وهذا باطلٌ. واللَّهُ أعلم.
* * *(2/226)
سُورَةُ غَافِر
قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعتُ الوَزِير13) يقولُ فِي قَولِهِ تعالَى:
(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعوا سَبِيلَكَ) .
قال: علمتِ المَلائكةُ انَّ اللَّهَ عز وجل يحبُّ عبادَهُ المُؤمِنِينَ، فَتَقَرّبوا إليه
بالشفاعةِ فِيهِم. وأحْسَنُ القُرَبِ: أن يسأل المُحِبُّ إكرامَ حَبِيبِهِ، فإنكَ لَوْ
سألتَ شَخصًا أن يزيدَ في إكرامِ وَلَدِهِ لارتَفَعْتَ عِنده، حَيْثُ تَحُثُّهُ عَلَى إِكْرَامِ مَحْبُوبِهِ.
* * *
قوله تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
وقالَ اللَهُ تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) .
وقالَ تعالى: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) .(2/227)
وقالَ اللَّهُ تعالى عن مؤمن آل فرعونَ أنّه قال لقومِه: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) .
والمتَاعُ: هو ما يتمتَع به صاحبُه برْهَهً ثم ينقطِعُ ويفنَى.
فما عِيبَتِ الدُّنيا بأبلغَ من ذكر فنائها وتقلُّبِ أحوالهَا، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالِهَا، فتتبدَّل صحتُها بالسُّقم، ووجودُها بالعدمِ، وشبيبتُها بالهرَمِ، ونعيمهَا بالبؤسِ، وحياتُها بالموتِ، فتفارِقُ الأجسامُ النفوسَ، وعمارتُها بالخراب، واجتماعها بفرقةِ الأحبابِ، وكُلُّ ما فوق التُّرابِ تراب.
* * *
قوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
قال اللَّه تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
قال قتادةُ في هذه الآيةِ: يقال لهم: يا آلَ فرعونَ هذه منازلكم، توبيخًا وصغارًا ونقيصةً.
وقالَ ابنُ سيرين: كان أبو هريرةَ يأتِينا بعد صلاةِ العصرِ، فيقول:
عرجت ملائكةٌ، وهبطتْ ملائكةٌ وعُرضَ آل فرعونَ على النارِ، فلا يسمعُه أحد إلا يتعوَذ باللَّهِ من النار.
وقال شعبةُ، عن يعْلَى بنِ عطاء، سمعتُ ميمونَ بنَ مهرانَ يقول: كانَ
أبو هريرةَ إذا أصبحَ يُنادي: أصبحْنا والحمدُ للَّهِ، وعُرِضَ آل فرعونَ على
النارِ، فلا يسمعُه أحد إلا يتعوَّذ باللَّهِ من النارِ.(2/228)
ورواهُ هشيمٌ عن يعْلى، عن ميمون، قال: كانَ لأبي هريرةَ صيحتانِ كلَّ
يومٍ، أوَّل النهارِ يقولُ: ذهبَ الليلُ وجاءَ النهارُ وعرضَ آلُ فرعونَ على النارِ، وإذا كان العشيُّ يقول: ذهبَ النهارُ وجاءَ الليل، وعُرِضَ آل فرعونَ على النار، فلا يسمعُ أحد صوْتَهُ إلا استجارَ باللَّهِ من النارِ.
ويُروى من حديثِ الليث، عن أبي قيسٍ، عن هُذيل، عن ابنِ مسعودٍ
قالَ: أرواحُ آل فرعونَ في أجواف طير سودٍ، فيعرضونَ على النارِ كلَّ يومٍ
مرتينِ، فيقال لهم: هذه دارُكم فذلك قوله تعالى:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
ورواهُ غيرُه عن أبي قيسٍ، عن هذيل، من قولِه.
لكن خرَّجه الإسماعيليُّ من طريقِ ابنِ عيينةَ، عن مسروقٍ عن أبي قيسٍ.
عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعود أيضًا.
قال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا حمادُ بنُ محمدٍ الفزَاريُّ، قال: بلغني عن
الأوزاعيِّ، أنه سألهُ رجلٌ بعسقلانَ على الساحلِ، فقال له: يا أبا عمرو، إنَّا نرَى طيرًا سودًا تخرجُ من البحرِ، فإذا كانَ العشيُّ عادَ مثلها بيضًا.
قال: وفطنتم لذلكَ؟
قالوا: نعم. قال: فتلك طيرٌ في حواصِلها أرواحُ آل فرعونَ.
فتلفحُها النارُ، فيسودُّ ريشُها، ثم يُلقى ذلك الريشُ، ثم تعودُ إلى
أوكارِها، يعرضونَ على النارِ فتلفحُها النارُ، فذلك دأبُها حتى تقومَ الساعةُ.
فيقال: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
وفي "الصحيحين " من حديثِ ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:(2/229)
"إذا ماتَ أحدُكم عُرضَ عليه مقعدُ بالغداةِ والعشيِّ، إن كانَ من أهلِ الجنةِ فمن أهلِ الجنةِ، وإن كان من أهلِ النارِ فمن أهلِ النارِ، حتَّى يبعَثَه ربُّه، يقالُ: هذا مقعدُك حتى يبعثكَ اللَّهُ إلى يوم القيامةِ".
ورواه الفضيلُ بن غزوان، عن نافع عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولفظه:
"ما من عبدٍ يموتُ إلا عرِضَ عليه مقعدُه، إن كان من أهلِ الجنةِ على الجنة، وإن كان من أهلِ النارِ على النارِ".
* * *
قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)
وقالَ إبراهيمُ بنُ أدْهمَ رحمهُ اللَّهُ تعالى في موعظتِه حينَ سألُه عن قولِه
تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وإنَّا ندعُوه فلم يستجبْ لنا.
فقالَ: عرفتم اللَّه فلم تطيعُوه، وقرأتُم القرآنَ فلم تعملوا به، وعرفتُمُ الشيطانَ فوافقْتمُوه، وادَّعيتُم حبَّ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وتركتُم سنَّته وادَّعيتم حبَّ الجنةِ ولم تعملوا لها وادَّعيتم خوفَ النارِ ولم تنتهوا عن الذنوبِ، وقلتُم: إن الموتَ حقٌّ ولم تستعدِّوا له، واشتغلتم بعيوبِ غيركم ولم تنظروا إلى عيوبكم، وتأكلونَ رزقَ اللَّهِ ولا تشكرونَ، وتدفنون أمواتكم ولا تعتبرون
* * *(2/230)
الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابةِ، كما قالَ تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .
وفي "السنن الأربعة عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ الدعاءَ هو العبادةُ" ثم تلا هذه الآيةَ.
وفي حديث آخرَ خرَّجه الطبرانيُّ مرفوعًا:
"منْ أُعْطيَ الدُّعاءَ، أُعْطيَ الإجابة، لأنَّ اللَّه تعالى يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ".
وفي حديث آخرَ: "مَا كان اللَّهُ ليفتَحَ على عبدٍ بابَ الدُّعاءِ، ويُغْلِقَ عنه بابَ الإجابةِ ".
لكنَّ اْلدعاءَ سببٌ مقتضٍ للإجابةِ مع استكمالِ شرائطِه، وانتفاءِ مَوانعهِ.
وقد تتخلَّف إصابتُه، لانتفاءِ بعضِ شروطِهِ، أو وجودِ بعضِ موانِعِه.
ومن أعظم شرائطِه: حضورُ القَلبِ، ورجاءُ الإجَابةِ من اللَّه، كما خرَّجه
الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ادعوا اللَّه وأنتُم موقنونَ بالإجابةِ، فإنَّ الله لا يَقبلُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ".
وفي "المسندِ" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إنَّ هذه القلوبَ أوعية لبعضُها أوعى من بعضٍ، فإذا سألتم اللَّه فاسألوهُ وأنتُم موقنونَ بالإجابةِ،(2/231)
فإنَّ اللَّه لايستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافلٍ ".
ولهذا نُهيَ العبدُ أنْ يقولَ في دعائه: اللَّهم اغفرْ لي إنْ شئت، ولكنْ
ليَعزِمَ المسألةَ، فإنَّ اللَّه لا مُكْرِهَ له. ً
ونُهِيَ أن يستعجلَ، ويتركَ الدعاءَ لاستبطاءِ الإجابةِ، وجعلَ ذلك من
موانع الإجابةِ حتَّى لا يقطعَ العبدُ رجاءَه من إجابةِ دُعائهِ ولو طالتِ المدةُ.
فإنَّه سبحانه يُحبُّ المُلِحِّين في الدعاءِ.
وجاء في الآثارِ: إنَّ العبدَ إذا دعا ربَّه وهو يحبّه، قال: "يا جبريل، لا
تَعجَلْ بقضاءِ حاجة عبدي، فإنَّي أحبُّ أن أسمع صوتَه ".
وقال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) .
فما دام العبدُ يُلحُّ في الدّعاءِ، ويَطمعُ في الإجابةِ من غيرِ قطع
الرَّجاءِ، فهو قريبٌ من الإجابةِ، ومنْ أدْمَنَ قرع البابِ، يُوشك أن يُفتح له.
وفي "صحيح الحاكم " عن أنس مرفوعًا:
"لا تعْجزُوا عن الدُّعاء، فإنَّه لن يَهلِكَ مع الدُّعاءِ أحَدٌ".
* * *(2/232)
سُورَةُ الشُّورَى
قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
[قالَ البخاريُّ] : وقال مجاهدٌ: (شَرَعَ لَكم مِّنَ الدِّينِ) .
أوصينَاكَ وإيَّاهُ يا مُحَمد دِينًا واحدًا.
روى ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجي@، عن مجاهدٍ، في قوله: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وَصئَى بِهِ نوحًا) الشورى: 13،، قال: وصَّاك به وأنبياءَهُ كلَّهم دينًا واحدًا.
ومعنى ذلك أنَّ دينَ الأنبياءِ كلِّهم دينٌ واحدٌ، وهو الإسلامُ العامُّ، المشتملُ
على الإيمانِ باللَّهِ وملائكتهِ وكتبِهِ ورسلهِ واليومِ الآخرِ، وعلى توحيدِ اللَّه
وإخلاصِ الدِّين له، وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة.
كما قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) .
والدينُ هو الإسلامُ، كما صرحَ به في مواضعَ أُخرَ، وإذا أُطلقَ الإسلامُ
دخلَ فيه الإيمانُ، وبالعكس.(2/233)
وقد استدل على أنَّ الأعمال تدخلُ في الإيمانِ بهذه الآيةِ وهي قولُه:
(وَذَلِكَ دِينُ الْقَيمَةِ) ، طوائفُ من الأئمةِ، منهم: الشافعيُّ وأحمدُ
والحميديُّ.
وقال الشافعيُّ: ليسَ عليهم أحجُّ من هذه الآيةِ.
واستدل الأوزاعيُّ بقولِهِ تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نوحًا)
إلى قوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا) .
وقال: الدِّينُ: الإيمانُ والعملُ.
واستدل بقولِهِ تعالى: (فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإخوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ) .
وقد ذكرَ الخلاَّل في كتاب "السُّنة" أقوال هؤلاء الأئمة بألفاظِهِمْ، بالأسانيد
إليهم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
وقد مدحَ اللَّهُ من يغفرُ عندَ غضبِهِ، فقال:
(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ؛ لأنَّ الغضبَ يحملُ صاحبه على أنْ يقول غيرَ الحقِّ، ويفعلَ غيرَ العدل، فمن كانَ لا يقول إلا الحقَّ في الغضبِ والرِّضا دل ذلك على شدةِ إيمانِهِ وأنَّه يملكُ نفسَهُ.
وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ أنسٍ مرفوعًا:
"ثلاث من أخلاقِ الإيمانِ: مَنْ إذا(2/234)
غضِبَ لا يُدْخِلُهُ غضبُه في باطل، ومَنْ إذا رَضِي لا يُخْرِجُهُ رضَاه من حق، ومنْ إذا قدِرَ لا يتعاطَى ما ليسَ له ".
فهذا هو الشديدُ حقًّا كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ليسَ الشديدُ بالصُّرَعَةِ إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ ".
ولمسلمٍ: "ما تعدون الصُّرَعَةَ فيكم؟ " قلنا: الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ.
قال: "ليس كذلك، ولكنَّه الذي يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ ".
وقال رجلٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني.
قال: " لا تغضَبْ " فرددَ مرارًا، قال: "لا تغضبْ "
أخرَّجَه البخاريُّ.
وفي "المسندِ" أنَّ رجلاً قال: يا رسول اللَّه، ما يباعدني عن غضَبِ اللَّهِ؟
قال: "لا تغضَبْ ".
قال مُورِّقٌ العِجْلِي: ما قلتُ في الغضبِ شيئًا إلا ندمتُ عليه في الرِّضا.
قال عطاءٌ: ما أبكَى العلماءَ بكاءٌ آخرَ العمرِ إلا من غضبة قدْ أقحمتْ
صاحبَها مقحمًا ما استقاله.
كان الشعبيُّ ينشدُ:
ليستِ الأحلامُ في حالِ الرِّضا. . . إنَّما الأحلامُ في حالِ الغضَبْ
وكان ابنُ عونٍ - رحمه اللَّه تعالى - إذا اشتدَّ غضبُه على أحدٍ قال:
باركَ اللَّه فيك، ولم يزدْ.(2/235)
وقال الفضيلُ - رحمه اللَّه تعالى -: أنا منذُ خمسينَ سنةً أطلبُ صديقًا إذا
غضبَ لا يكذبُ عليَّ ما أجدُه.
فإنَّ منْ لا يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ إذا غضبَ قال فيمَنْ غضِبَ عليه ما
ليسَ فيه من العظائم، وهو يعلمُ أنَّه كاذبٌ، وربما علِمَ الناسُ بذلك ويحمِلُهُ
حقدُهُ وهوى نفسِهِ على الإصرارِ على ذلك.
وقال جعفرُ بنُ محمدٍ: الغضبُ مِفتاحُ كلِّ شر.
وقيلَ لابنِ المباركِ: اجمَعْ لنا حسنَ الخلقِ في كلمةٍ قال: تركُ الغضَبِ.
وقال مالكٌ بن دينارٍ - رحمه اللَّه تعالى -: منذ عرفتُ الناسَ لم أبال
بمدحهِم وذمهم لأنّي لم أرَ إلا مادحًا غاليًا، أو ذامًّا غاليًا.
يعني: أنه لم يرَ مَنْ يقتصدُ فيما يقول في رضاه وغضبهِ.
* * *(2/236)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
ومما أنكره السلفُ: الجدالُ والخصامُ والمراءُ في مسائلِ الحلالِ والحرامِ، ولم
يكنْ ذلكَ طريقةَ أئمةِ الإسلامِ، وإنَّما أحدثَ ذلكَ بعدَهُم كما أحدَثَهُ فقهاءُ
العراقيينَ في مسائل الخلافِ بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتبَ الخلافِ
ووسَّعُوا البحثَ والجدالَ فيها، وكلُّ ذلك لا أصلَ له وصارَ ذلكَ علمُهُم.
حتى شغَلَهم عن العلِم النافع.
وقد أنكرَ ذلك السلفُ ووردَ في الحديث المرفوع في "السنن ":
" ما ضل قوم بعدَ هدى كانُوا عليه إلا أوتوا الجدلَ ".
ثم قرأ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) .
وقال بعضُ السلفِ: إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا فتحَ له بابَ العملِ وأغلقَ عنه
باب الجدلِ، وإذا أراد اللَّهُ بعبدٍ شرًّا أغلقَ عنه بابَ العملِ، وفتحَ له بابَ
الجدلِ.
وقال مالكٌ: أدركتُ أهل هذه البلدةِ وإنَّهم ليكرهونَ هذا الإكثارَ الذي
عليه الناسُ اليومَ، يريدُ المسائلَ.
وكان يعيبُ كثرةَ الكلامِ والفُتيا ويقولُ:
يتكلمُ أحدُهُم كأنَّه جمل مغتلم، يقولُ: هو كذا هو كذا، يهدرُ كلامَهُ، وكان يكرهُ الجوابَ في كثرةِ المسائلِ، ويقولُ: قالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فلم يأتِهِ في ذلكَ جوابٌ.(2/237)
وقيل له: الرجلُ يكونُ عالمَا بالسنةِ يجادل عنها، قال: لا، ولكنْ يخبرُ
بالسنةِ، فإمَّا قُبِلَ منه وإلا سكتَ.
وقال: المراءُ والجدال في العلم يذهبُ بنورِ العلم.
وقالَ: المراءُ في العلم يُقَسِّي القلبَ ويورثُ الضغْنَ.
وكان يقول في المسائلِ التي يسأل عنها كثيرًا: لا أدْرِي.
كان الإمام أحمدُ يسلك سبيلَه في ذلك.
وقد وردَ النهيُ عن كثرة المسائلِ وعن أغلوطاتِ المسائلِ، وعن المسائلِ قبلَ
وقوع الحوادِثِ.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
وعذابُ الكفارِ في النَّارِ لا يُفَتَّرُ عنهم ولا ينقطعُ ولا يُخفَّفُ بل هو
متواصلٌ أبدًا، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) .
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) .
وقال تعالى: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) .
وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) .(2/238)
وقالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: سمعتُ إسحاقَ بنَ إبراهيمَ يقولُ - على
منبرِ دمشقَ -: لا يأتي على صاحبِ الجنَّةِ ساعةٌ إلا وهو يزدادُ ضِعفًا من
النَّعيم لم يكنْ يعرفُه، ولا يأتي على صاحبِ النَارِ ساعةٌ إلا وهو مستنكرٌ
لنوع من العذابِ لم يكنْ يعرفُه، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
(فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا) .
قالَ جِسرُ بنُ فَرْقَدٍ عن الحسنِ: سألتُ أبا بَرْزةَ عن أشدِّ آيةٍ في كتابِ الله
على أهلِ النَارِ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا) ، فقالَ: "أُهلِكَ القومُ بمعاصيهم للهِ تعالى" خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ، وجِسرٌ ضعيفٌ، وخرَّجَه البيهقيُّ ولمْ يرفعْهُ ولفظُهُ: سألت أبا برزةَ عن أشدِّ آيةٍ على أهلِ النارِ، قال: قولُه عزَّ وجلَّ:
(فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا) .
وقالَ مجاهدٌ: بلغني أنَّ استراحةَ أهلِ النَّارِ أنْ يضعَ أحدُهم يدَهُ على
خاصِرَتِهِ، ولأهل النَّارِ أنواعٌ من العذابِ لم يطلع اللَّهُ عليها خلقَهُ في
الدنيا.
قال مباركٌ عن الحسنِ: ذكرَ اللَّهُ السلاسلَ والأغلالَ والنَّارَ وما يكونُ في
الدنيا، ثم قرأ: (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) .
قال آخرُ: لا تُرى في الدنيا.
خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
وقال أبو يَعلى الموصلي: حدثَنا شُريحٌ، حدثنا إبراهيمُ بنُ سليمانَ، عن
الأعمشِ عن الحسنِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه تعالى:
(زِدْنَاهُم عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) .
قال: هي خمسةُ أنهارٍ تحتَ العرشِ يُعذَّبون ببعضها في الليل وبعضها في النَّهار.
* * *(2/239)
قوله تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ)
قال اللَّهُ تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ) ومَالِكٌ هو خازنُ جهنَّم، وهو
كبيرُ الخزنةِ ورئيسهم، وقدْ رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
ليلةَ الإسراءِ، وبدأَهُ مالكٌ بالسلامِ.
خرَّجهُ مسلمٌ من حديثِ أنسٍ.
ورآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في منامِهِ وهو كريهُ المِرآةِ، أي: كريهُ المنظرِ، كأكرهِ ما أنتَ راءٍ من الرَجال.
* * *
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) .
وقال تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكم مَّاكِثُونَ) .
وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) .
وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) .(2/240)
وفي حديثِ الأعمشِ عن شمرِ بنِ عطية عن شهرِ بنِ حوشب عن أمِّ
الدَّرداءِ عن أبي الدَّرداءِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: في ذكرِ أهلِ النَّارِ قال:
"فيقُولونَ: ادعُوا خزنةَ جهنمَ، فيقُولون: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) .
قال: "فيقُولونَ ادعُوا مالكَّاً فيقُولُونَ:
(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) . "
قال الأعمشُ: نُبئتُ أنَّ بينَ دُعائِهم وبين إجابةِ مالكٍ لهم ألفَ عامٍ، قال:
فيقُولُون: ادعُوا ربَّكم فإنَّه ليس أحد خيرًا من ربكم فيقُولُون:
(رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) .
، قال فيُجِيبُهم: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) .
قال: "فعندَ ذلك يئسُوا من كل خيرٍ وعندَ ذلك يأخذونَ في الحسرةِ والزفيرِ
والويلِ ".
خرَّجهُ الترمذيُّ مرفوعًا وموقوفًا على أبي الدرداء.
وروى أبو معشرٍ عن محمدِ بن كعبٍ القُرظى قال: لأهلِ النارِ خمسُ
دعواتٍ يكلَّمونَ في أربع منها ويُسكتُ عنهم في الخامسةِ فلا يكلَّمونَ
يقولون: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) .
فيردُّ عليهم: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) .(2/241)
ثمَّ يقولون: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) .
فيردُّ عليهم: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا) ، إلى آخر الآيتين.
ثمَّ يقولون: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) .
فيردُّ عليهم: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) .
ثمَّ يقولُون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) .
فيردُّ عليهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .
ثم يقولون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) .
فيردُّ عليهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) .
إلى قولِهِ: (وكنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ) .
قال: فلا يتكلَّمونَ بعدَ ذلك.
خَرَّجَه آدمُ بنُ أبي إياسٍ وابنُ أبي حاتمٍ.
وخرَّجَ ابنُ أبي حاتٍ من روايةِ قتادةَ عن أبي أيوبَ العتكيّ، عن عبدِ اللهِ
ابنِ عمرٍ قال: نادَى أهلُ النَارِ: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّك)
قال: فخلَّى عنهم أربعين عامًا ثمَّ أجابهم: (قَالَ إِنَّكُم ماكِثُونَ) .
فقالُوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) .
قال: فخلَّى عنهم مثلَ
الدُّنيا - ثمَّ أجابَهم: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) .
قال: فأطبِقَتْ عليهم فبئسَ القومُ بعدَ تلك الكلمةِ، وإنْ كان إلا الزفيرُ والشهيقُ.
وعن عطاءِ بنِ السائبِ عن أبي الحسنِ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ تعالى:
(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا ربُّكَ) قال: فيتركُهم ألفَ سنةٍ ثم يقولُ:
(إِنَّكُم مَّاكثونَ) ، وخرَّجهُ البيهقيُّ وعندَه عن عطاءٍ عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ.(2/242)
وقال سُنَيدٌ في "تفسير ": حدثنا حجافي، عن ابنِ جريج قال: نادَى أهلُ
النَّارِ خزنةَ جهنمَ أنْ (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ) .
فلم يجيبُوهم ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أجابُوهم بعدَ حينٍ وقالُوا لهُم:
(فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) .
ثمَّ نادَوا: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) فيسكُتُ عنهم مالكٌ خازنُ جهنمَ
أربعينَ سنةً ثمَّ أجابَهم: (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثونَ) ثُمَّ نادَى الأشقياء ربَّهم:
(رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا) الاَيتين، فسكتَ عنهم مثلَ مقدارِ الدنيا ثمَّ
أجابَهم بعدُ (اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمونِ) .
ورَوى صفوانُ بنُ عمرٍو قال: سمعتُ أيفعَ بنَ عبدٍ الكُلاعي يقولُ: قال
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النَّارِ النارَ، قالَ اللَهُ: يا أهلَ الجنةِ:
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) .
قال: نعم ما اتجرتُم في يوم أو بعضِ يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكُثوا فيها
خالدين مخلدينَ.
ثم يقولُ لأهلِ النَّارِ: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فيقول: بئسَ ما اتَجرتُم به في يوم أو بعضِ يومٍ سخطِي
ومعصيتي ونارِي، امكُثُوا فيها خالدين مخلدينَ فيقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فيقولُ: (اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .
فيكونُ ذلك آخرُ عهدهِم بكلام ربهم عزَّ وجل".
خرَّجَه أبو نُعيمٍ. وقال: كذا رواه أيفعُ مرسلاً.
وقال أبو الرعْراءِ عن ابنِ مسعودِ: إذا أرادَ اللَهُ أن لا يُخرِجَ منها أحدًا غيرَ
وجوهِهِم وألوانِهم، فيجيءُ الرجلُ من المؤمنين فيشفعُ فيقولُ: يا ربِّ،(2/243)
فيقالُ: من عرفَ أحدًا فليُخرِجْهُ، قال: فيجيءُ الرجلُ من المؤمنينَ فينظرُ فلا يعرفُ أحدًا فينادَيَهُ الرجلُ فيقولُ: يا فلانُ، أنا فلان، فيقولُ: ما أعرفك قال: فعندَ ذلك يقولون في النَارِ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)
فيقولُ عندَ ذلك: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)
فإذا قال ذلك أُطبِقَتْ عليهم فلم يخْرجْ منهم أحدٌ.
وفي روايةٍ قال ابنُ مسعودٍ: ليسَ بعدَ هذه الآيةِ خروجٌ:
(اخْسئُوا فِيهَا وَلا تكَلِّمُونِ) .
وذكَرَ عبدُ الرزاقِ في "تفسيرِهِ " عن عبدِ اللهِ بنِ عيسى عن زيادٍ الخُرسانيِّ
أسندَهُ إلى بعضِ أهلِ العلم: قال: إذا قيلَ لهم:
(اخْسَئوا فِيهَا وَلا تكَلِّمُونِ)
سكتُوا فلا يُسمَعُ لهم فيها حسٌّ إلاكطنينِ الطِّستِ.
* * *(2/244)
سُورَةُ الدُّخَانِ
قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
وقد رُوي عن عكرمةَ وغير من المفسِّرين في قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) .
أنَّها ليلةُ النِّصْفِ من شعبانَ.
والجمهورُ على أنَّها ليلةُ القدْرِ، وهو الصحيحُ.
وقال عطاءُ بنُ يسارٍ: إذا كان ليلةُ النِّصْفِ من شعبانَ دُفعَ إلى ملكِ الموتِ
صحيفةٌ، فيُقالُ: اقبض من في هذه الصحيفةِ، فإنَّ العبدَ ليَغْرِسُ الغِرَاسَ.
وينكحُ الأزواجَ، ويبني البُنيانَ، وإن اسمَه قد نُسِخَ في الموتى ما ينتظرُ به
ملَكُ الموتِ إلا أن يُؤمَرَ به فيقبضَه..
يا مغرورًا بطول الأمل، يا مسرورًا بسوءِ العملِ، كُنْ مِن الموتِ على
وَجَلٍ، فما تدري متى يهجُمُ الأجَلُ.
كُلُّ امْرئٍ مُصئحٌ في أهْلِهِ. . . والمَوْتُ أدْنَى من شِراكِ نَعْلِهِ
قال بعضُ السلفِ: كم من مُستقبل يومًا لا يستكملُهُ، ومن مُؤمِّلٍ غدًا لا
يدرِكُه، إنَّكم لو رأيتمُ الأجَلَ ومسيرَهُ لأبغضتُمُ الأمَلَ وغُرورَهُ.
أؤمّلُ أنْ أخَلَّدُ والمنايا. . . . تدُورُ عليَّ من كُلّ النَّواحِي
وما أدرِي وإنْ أمْسَيْتُ يومًا. . . لَعلِّي لا أعيشُ إلى الصباح
كمْ ممن راحَ في طلبِ الدنيا أو غدَا. . . أصبَحَ مِنْ سكانِ القُبورِ غدَا(2/245)
كأنكَّ بالمضيِّ إلى سبيلِكْ. . . وقدْ جذَ المُجَهِّزُ في رحِيلِكْ
وجيءَ بِغاسِل فاسْتَعْجَلُوهُ. . . بقولِهِم لهُ افْرغْ من غَسيلِكْ
ولم تحمِلْ سِوَى كفَنٍ وقُطْنٍ. . . إليهم من كثيركَ أو قليلكْ
وقد مدَّ الرِّجالُ إليكَ نَعْشًا. . . فأنْتَ عليه مَمْدُودٌ بطولِك
وصلَّوا ثمَ إنَّهم تدَاعَوا. . . لحمْلِكَ من بُكورِكَ أو أصيلِكْ
فلمَّا أسْلَمُوك نزَلْتَ قبْرًا. . . ومن لكَ بالسَّلامةِ في نُزولِكْ
أعانَكَ يومَ تدَخُلُهُ رحيمٌ. . . رءوفٌ بالعبادِ على دُخُولِكْ
فسَوفَ تُجاوِر المَوْتَى طويلاً. . . فذَرْني مِن قَصيركَ أو طويلِكْ
أُخَيَّ لقد نَصحتُكَ فاسْتَمِعْ لِي. . . وباللَّهِ اسْتَعَنْتُ على قبولِكْ
ألسْتَ تَرى المنايا كُل حينٍ. . . تُصيبُكَ في أخِيكَ وفي خَلِيلِكْ
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في فوله تعالى:
(إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) .
قال: رُبَّما تَوهَّم جاهلٌ أنهم لم يُجَابُوا عما سألوا، وليسَ كذلك؛ فإن الذين سألوُا لا يصلح أن يكون دليلاً على البعثِ؛ لأنهم لو أُجيبوا إلى ما سألوا لم يكُنْ ذلك حجةً على مَنْ تقدَّم، ولا على(2/246)
من تأخَّر، ولم يَزد على أنْ يكونَ لمن تقدَّم وعدًا، ولمن تأخر خبرًا، اللَّهمَّ إلا
أن يجيء لكل واحدٍ أبوه، فتصير هذه الدارُ دارَ البعثِ.
ثمَّ لو جازَ وقوع مثل هذه كان إحياءُ ملكٍ يُضْرَب به الأمثالُ أولى.
كـ: تُبَّع، لا أنتم يا أهلَ مكَّةَ، فإنكم لا تُعرفون في بقاع الأرض.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
قال اللَّه تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) .
وقال: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) .
وقال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) .
وقال: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) .
وخرَّجَ الترمذيُّ وابنُ ماجهَ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -(2/247)
قرأ هذه الآيةَ: (اتَقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) .
فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"لو أن قطرةً من الزقومِ قُطِرَتْ في دارِ الدنيا لأفسدتْ على أهلِ الدنيا معايشَهُم، فكيفَ بمن تكونُ طعامَهُ؟! ".
وقال الترمذيُّ: صحيح، ورُوي موقوفًا على ابنِ عباس.
وقال ابنُ إسحاقَ: حدثني حكيمُ بنُ حكيم، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ.
قال: قال أبو جهلٍ لما ذكرَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شجرةَ الزقومِ: يُخوِّفُنا بها محمد، يا معشرَ قريشٍ أتدرُون ما شجرةُ الزقومِ التي يُخوِّفكم بها محمد؟
قالوا: لا، قال: عجوةُ يثربَ بالزبدِ، واللهِ لئنِ اهتمكنا منها لنتزقمنَّها تزقمًا، فأنزل اللَّه فيه: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) الآية، أي ليس كما تقول، وأنزل الله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا) .
وقال عبدُ الرزاقِ، عن معمر، عن قتادةَ، في قوله: (فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ)
قال: زادتُهم تكذيبًا حينَ أخبرَهم أنَّ في النَّارِ شجرةً.
قال: يخبرُهم أنَّ في النَّارِ شجرةً والنَّارُ تحرقُ الشجرَ.
فأخبرَهم أنَّ غذاءَها من النارِ.
وقد تقدمَ عن ابنِ عباسٍ أنَّ شجرةَ الزقومِ نابتة في أصلِ سقرَ.
ورُوي عن الحسنِ أنَّ أصلَها في قعرِ جهنمَ وأغصانَها ترتفعُ إلى دركاتِها.
وقال سلامُ بنُ مسكينٍ: سمعتُ الحسنَ تلا هذه الآيةَ:
(إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) .
قالَ: إنَّها هناك قد حُميت عليها جهنمُ.(2/248)
وقال مغيرةُ، عن إبراهيمَ وأبي رزينِ: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) :
قال: الشجرُ يغلي.
قال جعفرُ بنُ سليمانَ: سمعتُ أبا عمرانَ الجوني يقولُ: بلغَنا أنَّه لا
ينهشُ منها نهشةً إلا نهشتْ منه مثلَها.
وقد دلَّ القرآنُ على أنَّهم يأكلونَ منها حتى تمتلى منها بطونُهم، فتغلي في
بطونِهم كما يغلي الحميمُ، وهو الماءُ الذي قدْ انتهى حرُّهُ، ثمَّ بعدَ أكلهم منها يشربُونَ عليه من الحميم شربَ الهيم.
قال ابنُ عباسٍ في روايةِ علي بنِ أبي طلحة: الهيمُ: الإبلُ العطاشُ.
وقال: السديُّ: هو داء يأخذ الإبلَ فلا تُروى أبدًا حتى تموت، فكذلك
أهلُ جهنم لا يُروونَ من الحميم أبدًا، وعن مجاهدٍ نحوُه.
وعن الضحاكِ في قولِهِ: (شُرْبَ الْهِيم) ، قال: من العربِ مَن
يقولُ: هو الرملُ، ومنهم مَنْ يقولُ: الإبلُ العطاش، وقد رُوي عن ابنِ
عباسٍ كلا القولين، ودلَّ قولُهُ سبحانَهُ: (ثُمَّ إِن لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّن حَمِيم)
على أنَّ الحميمَ يشابُ به ما في بطونِهِم من الزَّقوم فيصيرُ شوبًا
له، وقال عطاء الخراسانيُّ في هذه الآيةِ: يقالُ: يُخلطُ طعامُهُم ويشابُ
بالحميم.
وقال قتادةُ: (لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيم) : مِزاجًا من حميم.
وعن سعيدِ بنِ جبيرِ قال: إذا جاعَ أهلُ النَّارِ استغاثُوا من الجوعُ فأُغيثُوا
بشجرةِ الزَّقومِ فأكلوا منها فانسلختْ وجوهُهُم حتى لو أنَّ مارًّا مرَّ عليهم
يعرفُهم لِعُرْفِ جلود وجوهِهِم، فإذا أكلُوا منها أُلقي عليهم العطشُ.
فاستغاثُوا من العطشِ فأُغيثوا بماءِ كالمهلِ، والمهلُ: الذي قد انتهى حرُّهُ،(2/249)
فإذا أدنَوه من أفواهِهم أنضجَ حرُّهُ الوجوهَ فيُصهرُ به ما في بطونِهِم، ويُضربُون بمقامعَ من حديدٍ فيسقطُ كلُّ عضو على حيالِهِ يدعُونَ بالثبورِ.
وقولُهُ تعالى: (ثمَّ إِد مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ) .
أي: بعدَ أكل الزقومِ وشربِ الحميم عليه، ويدلُّ هذا على أنَّ الحميمَ خارجٌ من الجحيم فهم يردُونَه كما تَرِدُ الإبلُ الماءَ، ثمَّ يَرِدُون إلى الجحيم، ويدلُّ على هذا أيضًا قولُه تعالى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) .
والمعنى أنَّهم يتردَّدُون بينَ جهنمَ والحميم فمرةٌ إلى هذا، ومرةٌ
إلى هذا قالَهُ قتادةُ وابنُ جريجٍ، وغيرُهما.
وقال القرظيُّ في قولِهِ: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)
قالَ: إنَّ الحميمَ دونَ النَّارِ، فيُؤخذُ العبدُ بناصيتِه فيُجرُّ في ذلك الحميم حتى يذوبَ اللحمُ ويبقى العظمُ والعينان في الرأسِ، وهذا الذي يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) .
* * *(2/250)
سُورَةُ الجَاثِيَةِ
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)
وجاء من مراسيلِ الحسنِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنْ قالَ: لا إله إلا اللَّه مخلصًا دخلَ الجنَّة" قيلَ: وما إخلاصُها؟
قال: "أن تحجُزَك عمَّا حرَّم اللَّهُ "
ورُوي ذلك مسندًا من وجوهٍ أُخرَ ضعيفة.
ولعلَّ الحسنَ أشارَ بكلامِه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا، فإنَّ تحقيقَ
القلبِ بمعنى: "لا إله إلا اللًّه " وصدقَه فيها وإخلاصَهُ بها يقتضي أن يرسخَ
فيه تألُّه اللَّه وحدَهُ، إجلالاً، وهيبةً، ومخافةً، ومحبَّةً، ورجاءً، وتعظيمًا.
وتوكُلاً، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقينَ، ومتى كانَ
كذلك لم يبقى فيه محبَّةٌ ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغيرِ ما يُريدُهُ اللَّهُ ويحبُّه
ويطلبُه، وينتفي بذلك من القلبِ جميعُ أهواءِ النفوسِ وإرادتها ووساوسُ
الشيطان، فمَنْ أحبَّ شيئًا وأطاعَهُ، وأحبَّ عليه وأبغضَ عليه، فهو إلهُهُ.
فمن كان لا يحبُّ ولا يُبغضُ إلا للَّه، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له، فاللَّه
إلهُهُ حقًّا، ومن أحبَّ لهواه، وأبغضَ له ووالَى عليه، وعادَى عليه، فإلهه
هواه، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) .
وقال الحسنُ: هو الذي لا يَهوى شيئًا إلا ركبَهُ.
وقال قتادةُ: هو الذي كلما هَوِيَ شيئًا ركبَهُ، وكلَّما اشتهى شيئًا أتاه.
لا يَحجزُهُ عن ذلك ورعٌ ولا تقوى.
ويُروى من حديث أبي أمامةَ مرفوعًا:
"ما تحت ظلّ السماء إلهٌ يُعبد أعظمَ عندَ اللهِ من هوىً متَّبع ".(2/251)
وكذلك مَنْ أطاعَ الشيطانَ في معصيةِ اللَّه، فقد عبدَهُ كما قال عزَّ وجلَّ:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) .
فتبيَّن بهذا أنَّه لا يصحُّ تحقيقُ معنى قولِ: لا إله إلا اللَّه، إلا لمن لم يكنْ
في قلبِهِ إصْرار على محبةِ ما يكرهُهُ اللَّهُ، ولا على إرادةِ ما لا يُريدهُ اللَّهُ.
ومتى كان في القلبِ شيءٌ منْ ذلك، كانَ ذلك نقصًا في التوحيدِ، وهو مِنْ
نوع الشِّركِ الخفيِّ، ولهذا قال مجاهد في قولِهِ تعالى: (لا تشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)
قال: لا تحبُّوا غيرِي.
وفي "صحيح الحاكم " عن عائشةَ - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الشِّركُ أخْفى من دبيبِ الذَّر على الصَّفا في الليلةِ الظَّلماءِ، وأدناهُ أنْ تُحِبَّ على شيء منَ الجوْرِ، وتُبغِضَ على شيءٍ من العدلِ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغضُ؟
قال اللَّهُ عز وجلَّ: (قلْ إِن كنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعونِي يُحْبِبْكمُ اللَّهُ) ".
وهذا نصٌّ في أنَّ محبةَ ما يكرهُه الله، وبغضَ ما يُحبُه متابعة للهوى.
والموالاةُ على ذلك والمعاداةُ عليه من الشركِ الخفي ".
* * *
وقد ورد إطلاقُ الإله على الهوى المتَّبع، قالَ اللَّه تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ) .
قال الحسنُ رحمه اللَّهُ: هو الذي لا يَهْوى شيئًا إلا ركبه.
وقال قتادةُ: هو(2/252)
الذي كلَّما هَويَ شيئًا ركبه، وكلَّما اشْتهى شيئًا أتاهُ، لا يحجزُهُ عن ذلك ورعٌ ولا تقْوى.
ورُوي من حديث أبي أمامة بإسنادٍ ضعيف: "ما تحت ظلِّ سماءٍ إلهٌ يعبدُ
أعظمُ عند اللَّهِ من هوى متَّبع ".
وفي حديثِ آخرَ:
"لا تزالُ لا إله إلا اللَّهُ تدْفَعُ عن أصحابها حتَّى يؤثِرُوا دنياهم
على دينهم، فإذا فعلُوا ذلكَ رُدَّتْ عليهم، ويقالُ لهم: كذبْتُم ".
ويشهدُ لهذا: الحديث الصحيحُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"تَعِسَ عبدُ الدينارِ، تعِسَ عبد الدرهم، تعسَ عبدُ القطيفةِ، تعِسَ عبدُ الخميصةِ، تعِسَ وانتكسَ، وإذا شِيكَ فلا انتقشَ ".
فدلَّ هذا على أنَّ كلَّ من أحبَّ شيئًا وأطاعه وكانَ غايةَ قصدِهِ
ومطلوبِهِ، ووالى لأجله، وعادى لأجلهِ، فهو عبدُهُ، وكان ذلك الشيءُ
معبودَهُ وإلهَهُ.
ويدلُّ عليه أيضًا أنَّ اللَّه تعالى سمَّى طاعةَ الشيطانِ في معصيتِهِ عبادةً
للشيطانِ، كما قال اللَّهُ تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) ، وقال تعالى حاكِيًا عن خليلِهِ إبراهيمَ عليه السلامُ لأبيه:
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) .
فمنْ لم يتحققْ بعبوديةِ الرحمنِ وطاعتِهِ فإنَّه يعبدُ الشيطانَ بطاعتِهِ له، ولم يخلُصْ من عبادةِ الشيطانِ إلا من أخلصَ عبوديةَ الرحمنِ، وهم الذين قال فيهم:
(إِن عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) .
فهم الذين حقَّقُوا قول: " لا إله إلا اللَّه ".(2/253)
وأخلصُوا في قولِها، وصدَّقُوا قولَهم بفعلِهِم، فلم يلتفتوا إلى غيرِ اللَّهِ محبةً
ورجاءً وخشيةً وطاعةً وتوكُلاً، وهم الذين صدَقُوا في قولِ:
"لا إله إلا اللَّه " وهم عبادُ اللَّه حقًا، فأمَّا من قالَ: "لا إله إلا اللَّه "
بلسانِهِ، ثم أطاعَ الشيطانَ وهواه في معصيةِ اللَّهِ ومخالفتِهِ فقدْ كذَّبَ فعلُه قولَهُ، ونقصَ من كمالِ توحيدِهِ بقدرِ معصيةِ اللهِ في طاعةِ الشيطانِ والهوى
(وَمَنْ أَضَلّ مِمنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) .
(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) .
فيا هذا كنْ عبدًا للَّه لا عبدًا للهوى، فإنَّ الهوى يهوِي بصاحبِهِ في النارِ:
(أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) .
تعسَ عبدُ الدرهم! تعسَ عبدُ الدينارِ! واللهِ لا ينجُو غدًا من عذابِ اللَّه
إلا من حقَّقَ عبوديةَ اللَّه وحدَهُ، ولم يلتفتْ إلى شيءٍ من الأغيار، من عَلِمَ
أنَّ إلهه فردٌ، فليُفْردْهُ بالعبوديةِ (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ".
كان بعضُ العارفينَ يتكلَّم على أصحابِهِ على رأسِ جبلٍ، فقالَ في كلامِهِ:
لا ينالُ أحدٌ مرادَه حتى ينفردَ فردًا بفردٍ، فانزعجَ واضطربَ، حتى رأى
أصحابُهُ أنَّ الصخورَ قد تدكْدكتْ، وبقي على ذلك ساعةً، فلمَّا أفاق فكأنَّه
نُشِرَ من قبرِهِ.
قولُ: "لا إله إلا اللَّهُ " تقتَضِي أنْ لا يُحبَّ سواهُ، فإنَّ الإلهَ هو الذي
يُطاعُ، فلا يعصى محبةً وخوفًا ورجاءً، ومن تمام محبته محبَّةُ ما يحبُّه.
وكراهةِ ما يكرَهُهُ، فمنْ أحبَّ شيئًا مما يكرهُهُ اللَّهُ، أو كرِهَ شيئًا مما يحبُّه اللَّهُ
لم يكملْ توحيدُه وصدقه في قولِ: "لا إله إلا اللَّهُ "، كان فيه من
الشركِ الخفيِّ بحسبِ ما كرههُ مما يحبُّه الله، وما أحبَّه مما يكرهُهُ اللَّهُ،(2/254)
قال اللَّهُ تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) .
قال الليث عن مجاهدٍ في قوله: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) .
قال: لا يحبون غيري.
وفي "صحيح الحاكم " عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الشركُ في هذه الأمَّةِ أخْفَى من دبيبِ النملِ على الصَّفا في الليلةِ الظلماِء، وأدناهُ أن تحبَّ على شيءٍ من الجورِ، أو تُبغضَ على شيءٍ من العدلِ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغضُ؟
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِن كنتُمْ تُحِبونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ".
وهذا نصّ في أنَّ محبةَ ما يكرهُه اللَّه، وبغضَ ما يحبُّه متابعةٌ للهَوى.
والموالاةُ على ذلك والمعاداةُ فيه من الشِّركِ الخفِيِّ.
وقال الحسنُ: اعلمْ اْنَّكَ لن تحبَّ اللَّهَ حتَّى تحبَّ طاعتَهُ.
وسُئل ذو النونِ: متى أُحبُّ ربِّي؟
قال: إذا كان ما يبغضه عندَكَ أمرَّ من الصبر.
وقال بشرُ بنُ السريِّ: ليس من أعلامِ الحب أن تحبَّ ما يبغضُ حبيبُك.
وقال أبو يعقوب النَّهْرجوْرِي: كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يوافقِ اللَّهَ في
أمرِه فدعواه باطلةٌ.
وقِال يحيى بن معاذٍ: ليس بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يحفظْ
حدوده.
وقال رويمٌ: المحبةُ: المُوافقةُ في جميع الأحوال، وأنشد:(2/255)
ولو قلتَ لي مُتْ قلتُ سمعًا وطاعةً. . . وقلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرحبًا
ويشهدُ لهذا المعنى أيضًا قولُهُ تعالى:
(قُلْ إِن كنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .
قال الحسنُ: قالَ أصحابُ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
إنَّا نحبُّ ربَّنا حبًّا شديدًا، فأحبَّ اللَّهُ أن يجعلَ لحبِّه عَلَمًا، فأنزلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
ومن هاهُنا يُعلم أنه لا تتمُّ شهادةُ أن لا إله إلا اللَّهُ إلا بشهادة أن محمدًا
رسولُ اللَّه، فإنَّه إذا علمَ أنه لا تتمُّ محبةُ اللَّهِ إلا بمحبَّةِ ما يحبُّه، وكراهةِ ما
يكرهُه، فلا طريقَ إلى معرفة ما يحبُّه وما يكرَهُهُ إلا من جهةِ محمدٍ المبلِّغ
عن اللَّهِ ما يحبُّه وما يكرهُهُ باتًّباع ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهى عنه، فصارت
محبةُ اللَّه مستلزمة لمحبةِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وتصديقِهِ ومتابعته، ولهذا قرنَ اللَّهُ بين محبتِهِ ومحبةِ رسولِهِ في قولِهِ تعالى:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ)
إلى قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
كما قرنَ طاعتَهُ وطاعةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"ثلاث من كنَّ فيهِ وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللَهُ ورسولُهُ
أحبَّ إليه مما سوَاهُمَا، وأنْ يحبَّ الرجلَ لا يحبُّه إلا للهِ، وأنْ يكرهَ أن يرجعَ إلى الكفر بعد أن أنقذه اللَّهُ منه كما يكرهُ أن يُلقَى في النارِ".
هذه حالُ السحرةِ لمَّا سكنتِ المحبةُ قلوبَهُم سمحُوا ببذلِ النفوسِ وقالُوا
لفرعون: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) ، ومتى تمكنتِ المحبةُ في القلبِ(2/256)
لم تنبعثِ الجوارحُ إلا إلى طاعةِ الربِّ، وهذا هو معنى الحديثِ الإلهيِّ الذي
خرَّجه البخاريُّ في "صحيحه " وفيه:
"ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتَّى أحبَّه، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمعُ به وبصرَهُ الذي يبصرُ به، ويدَهُ التي يبطشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشِي بها" وقد قيل: إن في بعض الروايات:
"فبي يسمعُ وبي يبصرُ وبي يبطشُ وبي يمشي ".
والمعنى: أن محبةَ اللَّه إذا استغرقَ بها القلبُ واستولتْ عليه لم تنبعثِ
الجوارحُ إلا إلى مراضِي الربِّ، وصارتِ النفسُ حينئذ مطمئنةً بإرادةِ مولاها
عن مرادِها وهواها.
يا هذا، اعبدِ اللَّهَ لمرادِهِ منكَ لا لمرادِكَ منه، فمنْ عبدَهُ لمرادِهِ منه فهوَ ممن
يعبدُ اللَّهَ على حرْفٍ، إن أصابَهُ خيرْ اطمأنَّ به، وإن أصابتْهُ فتنة انقلبَ على
وجهه خسرَ الدنيا والآخرةَ، ومتى قويتِ المعرفةُ والمحبةُ لم يُرِدْ صاحبها إلا ما
يريدُ مولاهُ.
وفي بعضِ الكتب السالفةِ:
من أحبَّ اللَهَ لم يكنْ شيء عندَهُ آثرُ من رضاهُ، ومن أحب الدنيا لم يكنْ شيءٌ عندَه آثرُ من هوى نفسِهِ.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن الحسنِ قال: ما نظرتُ ببصرِي ولا نطقتُ
بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمِي، حتى أنظر على طاعةِ
اللهِ أو على معصيتِهِ، فإنْ كانتْ طاعةً تقدمتُ، وإن كانتْ معصيةً تأخَّرْتُ.
هذا حالُ خَواصِّ المحبينَ الصادقينَ، فافهمُوا رحمكُمُ اللَّهُ هذا، فإنَّه من
دقائق أسرارِ التوحيدِ الغامضةِ.(2/257)
وإلى هذا المقامِ أشارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبتِهِ لما قدِمَ المدينةَ حيثُ قال:
"أحبُّوا اللَّهَ من كلِّ قلوبِكُم ".
وقد ذكرها ابنُ إسحاقَ وغيرُه، فإنَّ من امتلأ قلبُه من محبةِ اللَّه، لم يكنْ
فيه فراغٌ لشيءٍ من إراداتِ النفسِ والهوى، وإلى ذلكَ أشارَ القائلُ، بقولِهِ:
أروحُ وقدْ ختصتَ على فؤادِي. . . بحبِّك أن يحلَّ بهِ سواكَا
فلو أنَي استطعتُ غضضْتُ طرْفِي. . . فلم أنظرْ به حتَى أراكَا
أحبُّك لا ببعضِي بلْ بكلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حُبُّك لي حِرَاكَا
وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدِ. . . وآخر يدَّعي معه اشْتِرَاكَا
إذا اشتبكتْ دموع في خدودِ. . . تبيَن من بكى ممن تباكى
فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهوى من قدْ تشَاكَا
متى بقي للمحبِّ حظٌّ من نفسِهِ فما بيدِهِ من المحبةِ إلا الدَّعْوى، إنما
المحبُّ من يفْنى عن هوى نفسِهِ كلِّه، ويبْقى بحبيبِهِ، فبي يسمعُ وبي يبصرُ.
وفي الإسرائيلياتِ يقولُ اللَّهُ:
"ما وسِعَنِي سمائي ولا أرضِي، ووسعنِي قلبُ عبدِي المؤمنِ "
فمتى كان القلبُ فيه غيرُ اللَّهِ فاللَّهُ أغنى الأغنياءِ عن
الشِّركِ، وهو لا يَرضى بمزاحمة أصنامِ الهوى.. الحقُّ غيورٌ يغار على عبدِهِ
المؤمنِ أن يسكنَ في قلبِهِ سواهُ، أو يكنَّ فيه شيئًا ما يرضاه.
أردناكُمُ صِرْفًا فلمَّا مزجتُمُ. . . بَعِدتُم بمقدارِ التفاتِكُم عنَّا
وقلنا لكُم لا تُسْكِنُوا القلبَ غيرَنا. . . فأسكنْتُم الأغيارَ ما أنتُمُ مِنَّا
لا ينجو غدًا إلا من لقي اللَّهَ بقلبٍ سليم ليسَ فيه سواه، قال اللَّه تعالى:
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)(2/258)
القلبُ السليمُ: هو الطاهرُ من أدناسِ المخالفاتِ، فأمَّا المتلطخُ بشيءٍ من
المكروهاتِ فلا يصلُحُ لمجاورةِ حضرةِ القدوسِ إلا بعدَ أن يطهرَ في كيرِ
العذابِ، فإذا زالَ عنه الخبثُ صلَحَ حينئذ للمجاورةِ.
"إن اللَّه طيِّب لا يقبلُ إلاطيبًا".
فأما القلوبُ الطيبةُ فتصلحُ للمجاورةِ من أولِ الأمرِ:
(سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) .
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) .
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) .
من لم يُحرِق اليومَ قلبَهُ بنارِ الأسف على ما سلفَ أو بنار الشوقِ إلى لقاء
الحبيبِ فنار جهنَّمَ له أشدُّ حَرًّا. َ
* * *(2/259)
سُورَةُ الأَحْقَافِ
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
قولُ سفيانَ بنِ عبدِ اللَّهِ للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
"قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدَك "
طلبَ منه أن يُعلِّمَه كلامًا جامعًا لأمرِ الإسلامِ كافيًا حتَّى لا يحتاجَ
بعدَه إلى غيرهِ، فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
" قلْ: آمنتُ باللهِ، ثمَّ استقمْ "
وفي الروايةِ الأخرى: " قلْ: ربِّيَ اللَهُ، ثمَّ استقمْ ".
هذا منتزعٌ من قولهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) .
وقولهِ عزَّ وجلَّ: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) .
وخرج النسائي في "تفسيرهِ " من روايةِ سهيلِ بنِ أبي حزمٍ: حدثنا ثابتٌ.
عن أنسٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّه ثُمَّ استَقَامُوا) فقالَ:
"قدْ قالَها الناسُ، ثمَّ كفرُوا، فمن ماتَ عليها فهو من أهلِ الاستقامةِ".(2/260)
وخرَّجه الترمذيُّ، ولفظهُ: فقال: "قد قالَها الناسُ، ثُمَّ كفرَ أكثرُهم، فمن ماتَ عليها، فهو مِمنِ استقامَ "، وقال: حسنٌ غريبٌ، و"سهيل " تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه.
وقاَل أبو بكرٍ الصديقُ في تفسيرِ (ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
قال: لم يشركُوا باللَّه شيئًا.
وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيرِه.
وعنه قال: ثم استقامُوا على أنَّ اللَّهَ رَبُّهم.
وعن ابنِ عباسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ قال: هذه أرخصُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ:
(قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهَ.
ورُويَ نحوهُ عن أنسٍ ومجاهدٍ والأسودِ بنِ هلال، وزيدِ بنِ أسلمَ.
والسُّدِّيِّ وعكرمةَ وغيرِهم.
ورُويَ عن عمرَ بن الخطابِ أنَّه قرأَ هذه الآيةَ على المنبرِ
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) .
فقالَ: لم يَروغوا رَوَغَانَ الثعالبِ.
وروى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عنِ ابنِ عباس في قولهِ تعالى: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
قال: استقامُوا على أداءِ فرائضهِ.
وعن أبي العاليةَ، قال: ثمَّ أخلَصُوا له الدين والعملَ.
وعن قتادةَ قال: استقامُوا على طاعةِ اللَّهِ، وكانَ الحسنُ إذا قرأَ هذه الآيةَ
قال: اللهمَّ أنت ربُّنا فارزقنا الاستقامةَ.
ولعلَّ من قال: "إنَّ المرادَ الاستقامةُ على التوحيدِ"
إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النارِ، وهو تحقيقُ معنى لا إلهَ إلا اللَّهَ، فإنَّ الإلهَ هو الذي يُطاعُ، فلا يُعصى خشيةً وإجلالاً ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلاً
ودعاءً، والمعاصِي كلُّها قادحةٌ في هذا التوحيدِ، لأنَّها إجابةٌ لداعي الهوى(2/261)
وهو الشيطان، قالَ اللَّهُ عزَّ وجل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)
قال الحسنُ وغيرُه: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبَه.
فهذا يُنافي الاستقامةَ على التوحيدِ.
وأما على روايةِ من روى: "قُلْ آمنْتُ باللَّه ".
فالمعنى أظهرُ، لأنَّ الإيمانَ يدخلُ فيه الأعمالُ عندَ السلفِ وَمن تابعَهم من أهلِ الحديثِ.
وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) .
فأمرَه أن يستقيمَ هو ومن تابعَه، وأن لا يُجاوزُوا ما أُمِروا به.
وهو الطغيانُ، وأخبرَ أنَّه بصيرٌ بأعمالِهم، مطَّلعٌ عليها، قال تعالى:
(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) .
وقالَ قتادةُ: أُمِرَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أن يستقيمَ على أمرِ اللهُ. وقالَ الثوريُّ: على القرآنِ.
وعن الحسنِ قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية ُ شَمَّرَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فما رؤي ضاحكًا.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. وذكر القُشَيريُّ وغيرُه عن بعضِهم: أنَه رأى
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنامِ، فقالَ له: يا رسولَ اللَّه قلتَ: "شَيبتني هُودٌ وأخواتُها"، فما شيَّبك منها؟
قال: " قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ".
وقالَ عزَّ وجل: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) .
وقد أمرَ اللَّهُ تعالى بإقامةِ الدِّين عمومًا كمَا قالَ:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .(2/262)
وأمرَ بإقامِ الصلاةِ في غيرِ موضع من كتابهِ، كما
أمرَ بالاستقامةِ على التوحيدِ في تلك الآيتينِ.
والاستقامةُ: هي سلوكُ الصِّراطِ المستقيم، وهو الدِّينُ القيّمُ من غيرِ تعريج
عنه يمنةً ولا يَسرةً، ويشملُ ذلك فعلَ الطَّاعاتِ كلِّها، الظاهرةِ والباطنةِ.
وتركَ المنهيات كلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصالِ الدِّينِ كُلِّها.
وفي قولهِ عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِروهُ) ، إشارةٌ إلى أنَّه
لا بُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامةِ المأمورِ بها، فيجْبُرُ ذلك الاستغفارُ المقتضي
للتَّوبةِ والرُّجوع إلى الاستقامة، فهو كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -لمعاذ: "اتَّقِ اللَّهَ حيثُما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها".
وقد أخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
أنًّ الناسَ لن يُطيقُوا الاستقامةَ حقَّ الاستقامةِ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ من حديثِ ثوبانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"استقيموا ولن تُحْصوا، واعلمُوا أنَّ خيرَ أعمالكُم الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ ".
وفي روايةٍ للإمامِ أحمدَ: "سَدِّدُوا وقاربُوا، ولا يحافِظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ ".
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "سدِّدُوا وقاربُوا".
فالسَّدادُ: هو حقيقةُ الاستقامةِ، وهو الإصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمالِ
والمقاصدِ كالذي يرمي إلى غرضٍ فيُصيبُه.
وقد أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يسألَ
اللَّهَ عزَّ وجلَّ السَّدادَ والهُدى، وقالَ له:
"اذكرْ بالسَدادِ تسديدَكَ السَّهمَ، وبالهدى هدايتك الطَّريق ".(2/263)
والمقاربةُ: أن يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرضِ إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسه.
ولكنْ بشرطِ أن يكونَ مصمِّمًا على قصدِ السَّدادِ وإصابةِ الغرضِ، فتكونُ
مقاربتُه عن غيرِ عمد.
ويدلُّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الحكم بنِ حزنٍ الكُلَفي:
"أيُّها النَّاس إنَّكم لنْ تعملُوا - أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمرتُكم، ولكنْ سدِّدُوا وأبشرُوا".
والمعنى: اقصِدُوا التَّسديدَ والإصابةَ والاستقامةَ، فإنَّهم لو سدَّدُوا في
العمل كله، لكانوا قد فعلُوا ما أُمِرُوا به كُلّه.
فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيدِ، كما فسر أبو بكر الصدِّيق
وغيرُه قولَه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَ اسْتَقَاموا) ، بأنَّهم لم يلتفتُوا
إلى غيرِه، فمتى استقامَ القلب على معرفةِ اللهِ، وعلى خشيتهِ، وإجلالهِ.
ومهابتهِ، ومحبتهِ، وإرادتهِ، ورجائهِ، ودعائهِ، والتوكُّلِ عليه، والإعراضِ عما سِواه، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعتهِ، فإن القلبَ هو ملك الأعضاءِ، وهي جنودُه، فإذا استقامَ الملكُ، استقامت جنودُه ورعاياه، وكذلك فسِّر قولُه عزَّ وجلَّ: (فَاَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) ، بإخلاصِ القصدِ للَّهِ وإرادتهِ وحدَه لا شريكَ له.
وأعظمُ ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح: اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ
القلب والمعبِّرُ عنه، ولهذا لما أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامةِ، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظِ لسانهِ، وفي " مسندِ الإمامِ أحمدَ " عن أنس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه.
ولا يستقيمَ قلبُه حتَّى يَّسَتقيمَ لسانُه ".(2/264)
وفي "الترمذيِّ " عن أبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا وموقوفًا:
"إذا أصبحَ ابنُ آدمَ، فإن الأعضاءَ كلَّها تكفرُ اللسانَ، فتقولُ: اتق اللهَ فينا، فإنما نحنُ بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوجَجْتَ اعوججنا".
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)
[قال البخاري] بَابٌ إذَا هَبَّتِ الرِّيحُ: حدثنا سعيدُ بنُ أبي مريم: أنا
محمدُ بنُ جعفرٍ: أخبرنِي حُميدٌ، أنَّهُ سمعَ أنس بن مالكٍ يقولُ: كانتِ الرِّيحُ
الشديدَةُ إذا هَبَّتْ عُرفَ ذلكَ في وَجهِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
إنما كان يظهرُ في وجهِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الخوفُ من اشتدادِ الريح؛ لأنه كان يخشَى أن تكونُ عذابًا أُرسلَ إلى أمَّتِهِ.
وكان شدةُ خوفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أُمته شفقةً علَيهم، كما وصفَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى بذلكَ في قولهِ: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) .
ولما تلاً عليه ابنُ مسعودٍ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) بكَى.
ولما تلاً قولَه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) الآية، بكى، وقالَ:
" اللهمَّ، أُمَّتي، أُمَّتي "، فأرسلَ اللَّهُ جبريلَ يقولُ له:
"إن اللَّهَ يقولُ: إنَا سنُرضيكَ في أمتِك ولا نَسُوءُكَ ".(2/265)
وكان يقولُ: "شيَّبتني هودٌ وأخواتُها".
وجاءَ في روايةٍ مرسلةٍ: "قَصَّفْنَ عليَّ الأمَم ".
يشيرُ إلى أنَّ شيبهُ منها ما ذُكر مِن هلاكِ الأممِ قبلَ أمَّته وعذابهم.
وكانَ عندَ لقاءِ العدوِّ يخافُ على مَن معه من المؤمنينَ، ويستغفرُ لهم، كما
فعلَ يومَ بدرٍ، وباتَ تلكَ الليلةَ يصلِّي ويبكي ويستغفرُ لهُم، ويقولُ:
"اللهمَّ، إن تُهلكْ هذه العِصَابةَ لا تُعبدُ في الأرض ".
وكلُّ هذا مِن خوفِه وشفقتهِ عليْهم.
وقد جاءَ في رواياتٍ متعددةٍ: التصريحُ بسببِ خوفهِ من اشتدادِ الريح:
ففي "الصحيحينِ " من حديثِ سليمانَ بنِ يسارٍ، عن عائشةَ: أنَّ النبيَّ
- صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِفَ ذلكَ في وجهِهِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ: أرى الناسَ إذا رأوُا الغيمَ فرِحوا؛ رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأراكَ إذا رأيتَه عَرفتُ في وجهِك الكراهيةَ؟
فقالَ: "يا عائشة، ما يُؤمِّني أن يكونَ فيه عذابٌ قد عُذبَ قومٌ بالريح، وقدْ رأى قومٌ العذابَ، فقالُوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ".
وخرَّجَا - أيضًا - من روايةِ ابنِ جريج، عن عطاءٍ، عن عائشةَ، قالتْ كانَ
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا رأَى مخيلةً في السماءِ أقبلَ وأدبرَ، ودخلَ وخرجَ، وتغيَّر(2/266)
وجهُه، فإذا أمطرتِ السماءُ سُرِّي عنه، فعرَّفتْه عائشةُ ذلكَ، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"وما أدْرِي لعلَّه كلما قالَ قومٌ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ) " الآية.
وزاد مسلمٌ - في أولِهِ -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفتِ الريحُ قال: "اللهمَّ، إنِّي أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَت به، وأعوذُ بكَ مِن شرها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلتُ به ".
وخرَّجَهُ النسائي، ولفظُه: "كانَ إذا رأَى ريحًا"، بدل: "مخيلة".
وخرجَ مسلمٌ - أيضًا - من حديثِ جعفرِ بنِ محمدٍ، عن عطاء، عن
عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كانَ يومُ الريح والغيمِ عُرفَ ذلكَ في وجههِ، فأقبلَ وأدبرَ، فإذَا مطرَ سُرَّ بهِ، وذهبَ عنه ذلكَ.
قالتْ عائشةُ: فسألته، فقالَ:
"إنِّي خشيتُ أن يكونَ عذابًا سُلِّطَ على أمتي ".
وخرجَ الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ من حديثِ المقدامِ بنِ شريع، عن أبيهِ.
عنْ عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا رأى سحابًا مقبلاً منْ أفقٍ من الآفاقِ تركَ ما هُوَ فيه وإن كانَ في صلاتِهِ، حتى يستقبلَه، فيقولُ: "اللهمَّ، إنا نعوذُ بكَ من شرِّ ما أُرْسلَ "، فإنْ أمطرَ قالَ: "اللهمَّ سقيًا نافعًا" - مرتينِ أو ثلاثا -، فإنْ كشفَه اللَّهُ ولم يُمطِرْ حمِدَ اللهَ على ذلكَ.
ولفظهُ لابنِ ماجَةَ.(2/267)
وخرَّجَهُ أبو داود، ولفظُه: كانَ إذا رأى ناشئًا في أفقِ السماءِ تركَ
العملَ، وإن كانَ في صلاه، ثم يقولُ: "اللهمَّ، إني أعوذُ بكَ من شرِّها".
وخرَّجه ابنُ السني، ولفظُه: كان إذا رأَى في السماء ناشئًا، غبارًا أو
ريحًا، استقبلَهُ مِن حيثُ كانَ، وإن كانَ في الصلاةِ تعوذَ باللًّهِ من شرِّه.
وكذا خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
وخرجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائي في "اليومِ والليلةِ" وابنُ ماجةَ وابنُ
حبانَ في "صحيحه " من حديثِ أبي هريرةَ، عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"الريحُ من روح اللَّهِ، تأتي بالرحمةِ، وتأتي بالعذابِ، فإذا رأيتمُوها فلا تسبُّوها، واسألُوا اللَّهَ خيرَها، واستعيذُوا باللَّهِ من شرِّها".
وخرجَ الترمذيُّ من حديثِ أبى بنِ كعبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا تسبُّوا الريحَ، فإذا رأيتُمْ ما تكرهونَ فقولُوا: اللَّهُمَّ، إنَّا نسألُكَ من خيرِ هذهِ الريح وخيرِ ما فيها، وخيرِ ما أُمرتْ به، ونعوذُ بكَ من شرِّ هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أُمرتْ
وقال: حسن صحيح.
وخرَّجَه النسائيُّ في " اليومِ والليلةِ " مرفوعًا وموقوفًا على أبيِّ بنِ كعبٍ
- رضي الله عنه -.(2/268)
وفي البابِ: أحاديثُ أخرُ متعددةٌ.
ورُويَ عن ابنِ مسعود، قال: لا تسبُّوا الريحَ؛ فإنها بشرٌ ونَذر ولواقحُ.
ولكنِ استعيذُوا باللَّهِ من شرِّ ما أُرسلَتْ به.
وعن ابنِ عباسٍ، قال: لا تسبُّوا الريحَ؛ فإنها تجيءُ بالرحمةِ، وتجيء
بالعذاب، وقولوا: اللهمَّ، اجعلْهَا رحمةً، ولا تجعلْها عذابًا.
خرَّجهما ابنُ أبي الدنيا.
وخرَّج - أيضًا - بإسنادهِ، عن علي، أنه كانَ إذَا هبَّتِ الريحُ قالَ: اللهمَّ.
إن كنتَ أرسَلْتَها رحمةً فارحمْنِي فيمنْ ترحَمُ، وإن كنتَ أرسلْتَها عذابًا
فعافِني فيمنْ تعافي.
وبإسنادِهِ، عنِ ابنِ عمرَ، أنه كان يقولُ إذَا عصفتِ الريحُ: شدُّوا التكبيرَ.
فإنها تذهبُ.
وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه لما وُلِيَ هبتْ ريحٌ، فدخلَ عليه رجلٌ وهو
مُنْتقعُ اللونِ، فقال: ما لكَ يا أميرَ المؤمنينِ؟
قال: ويحَك، وهل هلكتْ أمةٌ إلا بالرِّيح؟
* * *(2/269)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
منْ حفظَ حدودَ اللَّهِ وراعَى حقوقَهُ، تولَّى اللَّهُ حفظَهُ في أمورِ دينهِ
ودنيا، وفي دنيا وآخرتِهِ.
وقد أخبرَ اللَّهُ تعالَى في كتابِهِ أنه وليُّ المؤمنينَ وأنه يتولَّى الصالحينَ.
وذلكَ يتضمنُ أنه يتولَّى مصالحَهُم في الدنيا والآخرةِ، ولا يكلُهُم إلى غيرِهِ
قالَ تعالَى: (اللَّهُ وَلِى الَّذِينَ آمَنوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .
وقالَ تعالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) .
وقالَ تعالَى: (وَمَن يَتَوَكلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
وقالَ تعالَى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) .
فمن قامَ بحقوقِ اللَّهِ عليهِ فإنَّ اللَّهَ يتكفلُ له بالقيامِ بجميع مصالحِهِ في
الدنيا والآخرةِ، ومن أرادَ أن يتولَّى اللَّهُ حفظَهُ ورعايتَهُ في أموره كلِّها فليراع
حقوقَ اللَّهِ عليهِ، ومن أرادَ ألا يصيبَهُ مما يكرهُ فلا يأتِ شيئًا مما يكرهُهُ اللَّهُ.
كان بعضُ السلفِ يدورُ على المجالسِ ويقولُ: من أحبَ أن تدومَ له
العافيةُ فليتقِ اللَّهَ.(2/270)
وقالَ العمريُّ الزاهدُ لمن طلبَ منه الوصيةَ: كما تحبُّ أن يكونَ اللَّهُ لكَ.
فهكذَا كنْ للَّهِ عز وجل.
وفي بعضِ الآثار: يقولُ اللَهُ:
"وعِزتي وجَلالي لا أطلعُ على قلبِ عبدٍ فأعلمُ أن الغالبَ عليه حبُّ التمسكِ بطاعتي، إلا توليتُ سياسَتَهُ وتقويمهُ ".
وفي بعضِ الكتبِ المتقدمةِ: يقولُ اللَّهُ عز وجل
"يا ابنَ آدمَ، ألا تعلمُنِي ما يضحككَ، يا ابنَ آدمَ، اتقني. . . (1) ونَمْ حيثُ شئتَ ".
والمعنى: أنكَ إذا قمتَ بما عليكَ للَّهِ من حقوقِ التقوى فلا تهتمَّ بعدَ ذلكَ
بمصالحكَ، فإن اللَّهَ هو أعلمُ بها منكَ، وهو يوصلُّهَا إليكَ على أتمِّ الوجوهِ
من غيرِ اهتمامٍ منكَ بِهَا.
وفي حديث جابرٍ - رضي الله عنه -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من كانَ يحبُّ أن يعلمَ منزلتَهُ عندَ اللهِ، فلينظرْ كيفَ منزلةُ اللِّهِ عندَهُ، فإنَّ اللهَ ينزلُ العبدَ منه حيث أنزلَهُ من نفسِهِ ".
فهذا يدل على أنَّه على قدرِ اهتمامِ العبدِ بحقوقِ اللَّهِ ومراعاةِ حدودِهِ.
واعتنائه بذلكَ وحفظهِ لهُ يكونُ اعتناؤُه به وحفظُهُ لهُ، فمن كانَ غايةُ همَه
رِضَا اللًّهِ عنهُ وطلبَ قربِهِ ومعرفتِهِ ومحبتهِ وخدمتِهِ، فإنَّ اللَّهَ يكونُ له على
حسبِ ذلكَ كما قالَ تعالَى: (فَاذْكرُونِي أَذْكُركُمْ) .
(وَأَوفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ) ، بل هو سبحانَهُ أكرمُ الأكرمينَ.
فهو يجازِي بالحسنةِ عشرًا ويزيدُ، ومن تقرّبَ منه شبرًا تقرّبَ منه ذراعًا. ومن تقرّبَ منه ذراعًا ثقرّبَ منه باعًا، ومن أتاهُ يمشِي أتاهُ هرولةً.
__________
(1) قال محققه: بياضٌ بالأصل.(2/271)
ما يُؤتَى الإنسانُ إلا من قِبَل نفسِهِ ولا يصيبُهُ المكروهُ إلا من تفريطِهِ في
حق ربه عز وجل.
قال علي - رضي الله عنه -: لا يَرْجوَن عبد إلاْ رَّبهُ، ولا يخافنَّ إلا ذنبَهُ.
وقال بعضُهم: من صَفَى صُفّي لهُ، ومن خلطَ خُلِّط عليهِ.
وقال مسروقٌ: من راقبَ اللهَ في خطراتِ قلبِهِ عصمَهُ اللَّهَ في حركاتِ
جو ارِحِهِ.
وبسطُ هذا المعنى يطولُ جدًّا، وفيمَا أشرْنَا إليه كفايةٌ، وللهِ الحمدُ.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
ثم قال البخاري - رحمه اللَّه -: وَيَزيدُ وينقصُ.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) ، (وَزِدْناهُمْ هُدًى) .
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ، (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنوا إِيمَانًا) .
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) .
وقوله: (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) .
وقوله: (وَمَا زَادَهُم إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) .
زيادة الإيمان ونقصانه؛ قولُ جمهورِ العلماءِ.
وقد رُوي هذا الكلامُ عن طائفة من الصحابةِ، كأبي الدرداءٍ، وأبي هريرةَ.
وابنِ عباسٍ، وغيرِهم من الصحابةِ.(2/272)
ورويَ معناه عن علي وابنِ مسعودٍ - أيضًا.
وعن مجاهدٍ وغير من التابعينَ.
وتوقَّف بعضُهُم في نقصِهِ، فقالَ: يزيدُ، ولا يقالُ: ينقصُ.
ورويَ ذلكَ عن مالكٍ، والمشهورُ عنه كقولِ الجماعةِ.
وعن ابنِ المباركِ، قالَ: الإيمانُ يتفاضلُ.
وهو معنى الزيادة والنقصِ.
وقد تلا البخاريُّ الآياتِ التي فيها ذكرُ زيادةِ الإيمانِ.
وقد استدلَّ بِهَا علَى زيادةِ الإيمانِ أئمةُ السَّلفِ قديمًا، منهُم:
عطاءُ بنُ أبي رباح فمن بعدَه.
وتلا البخاريُّ - أيضًا - الآياتِ التي ذكَرَ فيهَا زيادةَ الهُدَى؛ فإنَّ المرادَ
بالهُدَى هنا فعلُ الطاعاتِ، كما قالَ تعالى بعد وصفِ المتقينَ بالإيمانِ بالغيبِ.
وإقامِ الصلاةِ، والإنفاقِ مما رزقَهُم، وبالإيمانِ بما أُنزلَ إلى محمدٍ وإلى مَنْ
قبلَهُ، وباليقينِ بالآخرةِ، ثم قالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِهِمْ) .
فسمَّى ذلكَ كلَّه هدًى، فمن زادتْ طاعاتُهُ فقد زادَ هداهُ.
ولما كانَ الإيمانُ يدخلُ فيه المعرفةُ بالقلبِ، والقولُ والعملُ كلُّه، كانتْ
زيادتُهُ بزيادةِ الأعمالِ، ونقصانُهُ بنقصانِهَا.
وقد صرح بذلك كثيرٌ من السلف، فقالُوا: يزيد بالطاعة، وينقصُ
بالمعصية. َ
* * *(2/273)
قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)
فصل: في فضائل لا إله إلا الفَه.
وكلمةُ التوحيدِ لها فضائلُ عظيمة لا يمكنُ هاهنا استقصاؤُها، فلنذكر
بعضَ ما وردَ فِيها:
1 - فهيَ كلمةُ التقوى كما قالَ عمرُ - رضي الله عنه -
وغيرُه من الصحابة.
2 - وهي كلمةُ الإخلاصِ.
3 - وشهادةُ الحقِّ.
4 - ودعوةُ الحقِّ.
5 - وبراءةٌ من الشركِ، ونجاةُ هذا الأمرِ.
6 - ولأجلِهَا خُلِقِ الخلقُ. كما قال تعالى:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) .
7 - ولأجلِهَا أُرسلتِ الرُّسلُ وأنزلتِ الكتبُ، كما قالَ تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُول إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) .
وقالَ تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) .
ونحو هذه الآياتِ.
وهذه الآية ُ أولُ ما عدَّدَ اللَّهُ من النعم في سورةِ النحلِ التي تُسَمَّى سورةُ
النعم.
ولهذا قال ابنُ عيينةَ: ما أنعمَ اللَّهُ على عبدٍ من العبادِ نعمةً أعظمُ من
أن عرَّفهم "لا إلهَ إلا اللَّهُ ".
وأنَّ "لا إلهَ إلا اللَّه " لأهلِ الجنةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدنيا.(2/274)
8 - ولأجلِهَا أُعدَّتْ دارُ الثوابِ ودارُ العقابِ.
9 - ولأجلِهَا أُمرتِ الرسلُ بالجهادِ، فمنْ قالَها عصمَ مالَه ودمَه، ومن
أباها فمالُه ودمُه هدر.
10 - وهي مفتاحُ الجنةِ.
11 - ومفتاحُ دعوةِ الرسلِ.
12- وبها كلَّمَ اللَّهُ موسى كِفاحًا.
وفي "مسندِ البزار" وغيرِه عن عياضِ الأنصاريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن لا إلهَ إلا اللَهُ كلمةُ حق على اللهِ كريمة ولها من اللهِ مكان وهي كلمة من قالَها صادِقًا أدخلَهُ اللَهُ بها الجنةَ، ومن قالَها كاذبًا حقنتْ دمَهُ، وأحرزتْ مالَه، ولَقِي اللهَ غدًا فحاسَبَهُ ".
وهي مِفتاحُ الجنةِ كما تقدم.
13 - وهي: ثمنُ الجنةِ:
قاله الحسنُ، وجاءَ مرفوعًا من وجوه ضعيفة:
"ومن كانتْ آخرَ كَلامه دخلَ الجنةَ". "
14 - وهي: نجاة من النارِ:
وسمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا يقولُ: أشهد أن لا إلهَ إلا اللَّهُ، فقالَ: خرج من النارِ". خرَّجه مسلم.(2/275)
15 - وهي: توجبُ المغفرةَ:
في "المسندِ" عن شدَّادِ بن أوس وعبادةَ بنِ الصامتِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابهِ يومًا:
"ارفعُوا أيدِيكم وقولُوا: لا إلهَ إلا اللَّهُ ". فرفعْنا أيدِينا ساعةً، ثم
وضعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ، ثم قالَ: "الحمدُ للَّهِ، اللهُمَّ بعَثْتَنِي بهذهِ الكلمةِ، وأمرْتَني بها، ووعدتنِي بها الجنةَ، وإنَّك لا تخلفُ الميعادَ"، ثم قالَ: "أبشِرُوا فإن اللهَ قدْ غَفَرَ لكُم ".
16 - وهي: أحسنُ الحسناتِ:
قال أبو ذرِّ: قلتُ يا رسولَ اللَّه: كلِّمْني بعمل يقربني من الجنةِ، ويباعدُني
من النارِ، قالَ: "إذا عملتَ سيئة فاعملْ حسنةَ، فإنها عشرُ أمثالِها.
قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، "لا إله إلا اللَّه " من الحسناتِ؟
قالَ: "هيَ أحسنُ الحسناتِ ".
17 - وهي: تمحو الذنوبَ والخطايا:
وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن أُمِّ هانئ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إلهَ إلا اللهُ لا تتركُ ذنبًا، ولا يسبقُها عملٌ ".
رُئِي بعضُ السلفِ بعدَ موتِهِ في المنامِ فسُئلَ عن حالهِ، فقالَ: ما أبقتْ لا
إلهَ إلا اللَّهُ شيئًا.
18- وهي: تجدد ما درسَ من الإيمانِ في القلبِ:
وفي "المسند" أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لأصحابِهِ:
"جدِّدوا إيمانَكم ".
قالوا: كيفَ نجدِّدُ إيمانَنَا؟(2/276)
قال: "قولُوا: لا إله إلا الله، وهي لا يعدِلُها شيءٌ في الوزنِ، فلو وُزِنتْ
بالسماواتِ والأرضِ رجحْت بهن ".
كما في "المسندِ" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن نوحًا قالَ لابنِهِ عندَ موتِهِ: آمرُكَ بلا إلهَ إلا اللَهُ، فإنَّ السماواتِ السبعَ والأرضينَ السبعَ لو وُضعِتْ في كِفة ووضِعَتْ لا إلهَ إلا اللَهُ في كفةٍ، رجحتْ بهن لا إلهَ إلا اللَهُ، ولو أن السماوات السبعَ والأرضينَ السبعَ كن في حلقةٍ مبهمةٍ قصَمتهُن لا إلهَ إلا الله ".
وفيه أيضًا عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو عن النبى - صلى الله عليه وسلم -:
"أن موسى - عليه السلامُ - قالَ: يا رب علِّمني شيئًا أذكرُك وأدعوكَ به، قال: يا موسى قلْ: لا إله إلا اللَّه.
قالَ: يا ربِّ: كلُّ عبادِكَ يقولون هذا.
قال: قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا ربِّ.
إنما أريد شيئا تخصُّنِي به.
قال: يا مُوسى، لو أنَّ السماوات السبعَ وعامرَهنَّ غيري
والأرضينَ السبعَ في كفةٍ، ولا إلهَ إلا اللَهُ في كفةٍ، مالتْ بهن لا إله إلا الله ".
وكذلك ترجحُ بصحائفِ الذنوب، كما في حديثِ السجلاتِ والبطاقةِ.
وقد خرَّجهُ أحمدُ والنسائيُّ والترمذيُّ أيضًا من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
19 - وهي: التي تخرقُ الحجبَ حتَّى تصلَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ:
وفي الترمذي عن عبدِ اللَّهِ بن عمرو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إله إلا اللَّهُ ليسَ لها دونَ اللَّهِ حجابٌ حتى تصلَ إليهِ ".(2/277)
وفيه أيضًا عن أبي هريرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما قالَ عبدٌ: لا إله إلا اللَّه مخلصًا إلا فُتحتْ له أبوابُ السماءِ حتى تُفضِي إلى العرشِ ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ".
ويروى عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا:
" ما منْ شيء إلا بينهِ وبينَ اللَّهِ حجابٌ، إلا قولَ:
لا إلهَ إلا الله كما أنَّ شَفتَيْكَ لا تحجبُهما كذلكَ لا يحجِبُها شيء
حتى تنتهي إلى اللهِ عز وجلَّ ".
وقال أبو أمامةَ: ما مِنْ عبدٍ يهلِّلُ تهليلةً فينهنهها شيء دونَ العرشِ.
20 - وهي الَّتِي ينظرُ اللَهُ إلى قائِلِها، ويجيبُ دعاه:
خرَّجَ النسائيُّ في كتابِ "اليومِ والليلةِ" من حديثِ رجلينِ من الصحابة
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"منْ قالَ: لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، له الملكُ وله الحمدُ، وهو
على كلِّ شيءٍ قديرٌ مخلِصًا بها روحُه مصدِّقًا بها لسانُه، إلا فَتَقَ له السماءَ فتقًا، حتَى ينظرَ إلى قائِلِها مِنْ أهلِ الأرضِ، وحُقَّ لعبدٍ نظرَ إليهِ أن يعطِيَهُ سؤلَهُ ".
21 - وهي: الكلمةُ الَّتي يصدِّقُ اللَهُ قائِلَهَا:
كما أخرجَ النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ حبان من حديثِ أبي هريرةَ وأبي
سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا قالَ العبدُ: لا إلهَ إلا اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ، صدَّقهُ ربُه.
وقالَ: لا إلهَ إلا أنا وأنا أكبرُ. وإذا قالَ: لا إلَه إلا اللَهُ وحدَهُ، لا شريكَ لهُ، يقولُ اللَهُ: لا إلهَ إلا أنا وحدِي لا شريكَ لي. وإذا قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ وحدَه، لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، قال اللَّهُ: لا إلهَ إلا أنا، لي الملكُ، ولي الحمدُ. وإذا قالَ: لا إلهَ إلا اللَّهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ،(2/278)
قالَ اللَّهُ: لا إلهَ إلا أنا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بِي ".
وكان يقولُ: "من قالها - في مرضِهِ ثم ماتَ لم تَطعمهُ النارُ".
22 - وهي: أفضلُ ما قاله النبيونَ:
كما وردَ ذلكَ في دعاءِ يومِ عرفة.
23 - وهي: أفضلُ الذِّكْرِ:
كما في حديثِ جابرٍ المرفوع: "أفضلُ الذكرِ لا إلهَ إلا اللَهُ ".
وعن ابنِ عباسٍ: أحبُّ كلمةٍ إلى اللَّهِ لا إلهَ إلا اللَّه، لا يقبلُ اللَّهُ عملاً
إلا بِها.
24 - وهي: أفضلُ الأعمالِ وأكثرُها تضعيفًا، وتعدلُ عتقَ الرقابِ، وتكونُ حِرزًا من الشيطانِ:
وكما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من قالَ: لا إله إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، له الملكُ وله الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائةَ مرةٍ كانتْ له عدلَ عشرِ رقابٍ، وكُتبَ له مائةُ حسنةٍ، ومُحيَ عنه مائةُ سيئةٍ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ بهِ، إلا أحدٌ عملَ أكثرَ من ذلكَ ".
وفيهما أيضًا عن أبي أيوبٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من قالَها عشرَ مراتٍ كانَ كمنْ أعتقَ أربعَ أنفسٍ من وَلَدِ إسماعيلَ ".(2/279)
وفي الترمذي عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: "منْ قالها إذا دخل السوقَ، وزادَ فيها:
يُحي ويميتُ وهوَ حيٌ لا يموتُ بيدِهِ الخيرُ وهوَ على كل شيء قديرٌ
كتبَ اللَهُ له ألفَ ألفَ حسنةٍ، ومحا اللَّهُ عنه ألفَ ألفَ سيئةٍ، ورفعَ اللَهُ له ألفَ ألفَ درجة".
وفي روايةٍ: "ويبنى له بيتٌ في الجنةِ".
25 - ومن فضائِلِها: أنها أمانٌ من وحشةِ القبرِ وهولِ الحشرِ:
كما في "المسندِ" وغيرِهِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ليسَ على أهلِ لا إلهَ إلا اللَّهُ وحشة في قبورهم ولا في نشورِهم، وكأئي بأهلِ لا إلهَ إلا اللَهُ قد قامُوا ينفضونَ الترابَ عن رؤوسِهم، ويقولونَ: الحَمُد للَّه الَّذي أذهبَ عنَّا الحزنُ ".
وفي حديثٍ مرسلٍ: "من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ الملكُ الحق المبينُ، كل يومٍ مائةَ مرةٍ كانتْ له أمانًا من الفقرِ، وأنسًا من وحشةِ القبرِ، واستجلبتْ له الغِنى، واستقرعتْ له بابَ الجتةِ".
26 - وهيَ: شعارُ المؤمنينَ إذا قامُوا من قبورِهم:
قال النضرُ بنُ عربي: بلغَنِي أن الناسَ إذا قامُوا من قبورِهِم كانَ شعارُهم:
لا إلَه إلا اللهُ.
وقد خرج الطبرانيُّ حديثًا مرفوعًا:
"إن شعارَ هذه الأمةِ على الصراطِ: لا إلهَ إلا أنتَ ".(2/280)
27 - ومن فضائلها: أنَّها تفتحُ لقائِلِها أبوابَ الجنةِ الثمانيةَ، يدخلُ من أيِّها
كما في حديث عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ أتَى بالشهادتينِ بعد الوضوء، وقدْ خرَّجهُ مسلمٌ.
وفي "الصحيحينِ " عن عبادةَ بن الصامتِ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من قالَ: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ اللَّهِ ورسولِهِ وكلمتُه ألقَاها إلى مريمَ وروحٌ منه، وأنَّ الجنةَ حق والنارَ حق أدخلَهُ اللَّهُ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ الثمانيةِ شاء".
وفي حديثِ عبد الرحمنِ بنِ سمرةَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
في قصةِ منامِهِ الطويل، وفيه قالَ:
"ورأيتُ رجلاً من أُمَّتِي انتهى إلى أبوابِ الجنةِ، فأُغلقت الأَبوابُ دونَهَ.
فجاءتْه شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ، فتحتْ له الأبوابَ، وأدخلنْهُ الجنةَ".
28 - ومن فضائلها أنَّ أهلَها وإنْ دخلُوا النارَ وبتقصيرِهم في حقوقِها فإنهم
لابد أن يخرجُوا منها.
وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"يقولُ اللَهُ عز وجلَّ:
وعِزَّتي وجلالِي وكبريائِي وعظمتِي لأُخرجنَّ منها منْ قالَ: لا إله إلا اللَّهُ ".
وأخرجَ الطبراني عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن ناسًا منْ أهلِ لا إلهَ إلا اللَّهُ(2/281)
يدخلونَ النارَ بذنوبهم، فيقولُ لهم عبدةُ اللات والعزَّى: ما أغنى عنكُم قولُ: لا إله إلا اللَّه، فيغضبُ اللَّهُ لهم فيخرِجُهُم من النارِ، فيدخلونَ الجنةَ".
ومن كان في سخطه يُحسنُ. . . فكيفَ يكونُ إذا ما رضي؟
لا يسوي بين من وحَّده وإن قصَّر في حقوقِ توحيدهِ، وبينَ من أشركَ به.
قال بعضُ السلفِ: كان إبراهيمُ - عليه السلامُ - يقولُ:
اللهمَّ لا تشركْ من كان يشركُ بكَ شيئًا بمن كانَ لا يشركُ بكَ.
كان بعضُ السلفِ يقولُ في دعائِه: اللهمَّ إنَّك قلتَ عن أهلِ النارِ: إنَّهم
أقسمُوا باللَّهِ جهدَ أيمانِهم لا يبعثُ اللَّه من يموتُ، ونحنُ نقسمُ باللهِ جَهدَ
أيمانِنا ليبعثنَّ اللَّهُ من يموتُ، اللهمَّ لا تجمع بينَ أهلِ القَسَمَينِ في دارٍ واحدةٍ.
كان أبو سليمانَ يقولُ: إن طالَبنِي ببخلِي طالبتُه بجودِهِ، وإن طالَبني
بذنوبي طالبتُه بعفوِه، وإن أدخلَنِي النارَ أخبرتُ أهلَ النارِ أنِّي أُحبُّه.
ما أطيبَ وصلَه وما أعذبَه! . . . وما أثقلَ هجرَه وما أصَعبَه!
وفي السخطِ والرِّضى ما أهيبَه! . . . القلبُ يحبُّ وإنْ عذبه
وكان بعضُ العارفينَ يبْكِي طولَ ليلهِ ويقولُ:
إن تعذِّبْني فإنِّي لك محبٌّ، وإنْ ترحمْني فإنَي لك محبٌّ.
العارفونَ يخافونَ من الحجابِ أكثرَ مما يخافونَ من العذابِ.
قال ذو النونِ: خوفُ النارِ عند خوفِ الفراقِ كقطرةٍ في بحرٍ لُجي.
كان بعضُهم يقولُ: إلهِي وسيدِي ومولاي! لو أنَّك عذبْتنِي بعذابِكَ كلِّه.
كانَ ما فاتَني من قربِكَ أعظمُ عنْدِي من العذابِ.(2/282)
قيلَ لبعضِهم: لو طردكَ ما كنتَ تفعلُ.
قالَ:
إِذَا أنا لم أجْد من الحبِّ وصْلاً. . . رمتُ في النارِ مُنْزلا ومقِيلا
ثم أزعجتُ أهلَهَا بندَائِي. . . بكرةً في عرصَاتِها وأصِيلا
معشرَ المشركينَ ناحُوا على منْ. . . يدِّعِي أنَّه يحبُّ الجليلا
لم يكنْ في الذي ادعاه محقًّا. . . فجزاهُ به العذابَ الطَّوِيلا!
إخوانِي!
اجتهدُوا اليومَ في تحقيقِ التوحيدِ، فإنَّه لا يُنجي من عذابِ اللَّهِ إلا إيَّاه.
وما نطقَ الناطقونَ إذْ نطقُوا. . . أحسنَ من: لا إلهَ إلا الله.
تباركَ اللَّهُ ذو الجلالِ ومنْ. . . أشهدُ أن لا إِلهَ إلا هُو
مَن لذنوبِي ومنْ يمحِّصُها. . . غيرُك يَا منْ لا إِلهَ إلا هُو
جنان خلدٍ لمنْ يوحدُه. . . أشهدُ أن لا إلهَ إلا هُو
نيرانُه لا تحرقُ منْ. . . يشهدُ أن لا إلهَ إلا هُو
أقولُها مخلِصًا بِلا بُخلٍ. . . أشهدُ أن لا إلهَ إلا هُو
والحمد للَّه رب العالمين
* * *(2/283)
سُورَةُ الفَتْحِ
قوله تعالِ: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ)
إن الزرعَ وإنْ كانَ له طاقةً منه ضعيفةٌ ضئيلةٌ إلا أنه يتقوَّى بما يخرجُ معه
وحولَهُ ويعتضدُ به، بخلافِ الشجرةِ العظامِ فإنَّ بعضَها لا يشدُّ بعضًا.
وقد ضربَ اللَّهُ تعالى مثلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ بالزرع لهِذا المعنى قال:
(وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) .
قوله: (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي: فِرَاخَهُ.
(فَآزَرَهُ) أي: ساواه وصارَ مثلَ الأمِّ وقوي به.
(فَاسْتَغْلَظَ) أي: غَلُظَ.
فالزرعُ مثلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ خرجَ وحدهُ فأمدَّه بأصحابِهِ وهُم شطأ الزرع كما قَوَّى الطاقةَ من الزرع بما نَبَتَ منها حتَى غلظتْ واستحكمتْ.
(فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) : جمعُ ساق.
وفي الإنجيلِ: " سيَخرُجُ قوْم يَنْبُتُونَ نَباتَ الزَّرع ".
وقد قالَ عزَّ وجلَّ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) .
وقال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّنْ بَعْضٍ) .(2/284)
فالمؤمنونَ بينَهُم ولاية وهي مودةٌ ومحبة باطنةٌ.
ثم قالَ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .
لأن المؤمنينَ قلوبُهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ فيما يعتقدونَهُ من الإيمانِ وأما
المنافقونَ فقلوبُهم مختلفة.
كما قالَ: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتَّى) .
فأهواؤُهُم مختلفةٌ.. إلخ. ولا ولايةَ بينَهُم في الباطنِ وإنَّما بعضُهم من
جنس بعض في الكفر والنفاقِ.
وفي "الصحيحينِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"المؤمِنُ للمُؤْمِنِ كالبُنيان يَشُدُّ بعضُهُ بعضا"
وشبَّكَ بينَ أصابعِهِ.
وفيهما أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"مثل المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهِم كمثَلِ الجسَدِ الوَاحدِ، إذَا اشتَكَى منهُ عضوٌ تداعَى سائِرهُ بالحُمَّى والسهَرِ".
* * *(2/285)
سُورَةُ الحُجُرَاتِ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
وقال الحسنُ في قولهِ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
قال: لا تذبَحُوا قبلَ الإمامِ.
خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ.
* * *
قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
فإن علامةَ محبَّةِ اللَّهِ ورسولِهِ محبةُ ما يحبّهُ اللَّهُ ورسولُه، وكراهةُ ما
يكرهُه اللَّهُ ورسولُه - كما سبقَ -، فإذا رسخَ الإيمانُ في القلبِ وتحققَ بِهِ.
ووجدَ حلاوتَهُ وطعمَه، أحبَّه وأحبَّ ثباتَهُ ودوامَهُ، والزيادَة منه، وكرهَ
مفارقتَه، وكانَ كراهتُه لمفارقتِه أعظمَ عندَه من كراهِة الإلقاءِ في النارِ.
قال اللَّه تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) .
والمؤمنُ يحبُّ الإيمانَ أشدَّ من حبِّ الماءِ الباردِ في شدَّةِ الحرِّ للظمآنِ،(2/286)
ويكره الخروجَ منه أشدَّ من كراهةِ التحريقِ بالنيرانِ.
كما في "المسندِ" عن أبي رزينٍ العقيلي، أنه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمانِ، فقالَ:
"أنْ تشهَدَ أنْ لا إِله إلا اللَهُ، وحدَه لا شريكَ لَهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنْ يكونَ اللَهُ ورسولُه أحبَّ إليكَ مما سواهُما، وأن تحرق في النَّارِ أحبُّ إليكَ من أنْ تشركَ باللهِ، وأن تحبَّ غير ذي نسبٍ لا تحبه إلا للَّه، فإذَا كنتَ كذلكَ فقد دخلَ حبُّ الإيمانِ في قلبك، كما دخلَ حبُّ الماءِ للظمآنِ في اليوم القائظ ".
وفي "المسند" - أيضًا -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى معاذَ بن جبل، فقال له - فيما وصاه به -:
"لا تشركْ باللَّهِ شيئًا، وإن قُطِّعْتَ وحُرِّقت ".
* * *
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه ولا يَخذُلُه، ولا يَكذِبُه، ولا يَحقِرُه ".
هذا مأخوذٌ من قولِهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)
، فإذا كانَ المؤمنونَ إخوةً أُمروا فيمَا بينَهُم بما يُوجبُ تآلُفَ
القلوبِ واجتماعَها، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوبِ واختلافَها، وهذا من
ذاكَ.
وأيضا: فإنَّ الأخَ مِنْ شأنِهِ أن يوصِلَ إلى أخيه النَّفعَ، ويكفَّ عنه الضررَ.
ومن أعظم الضرِّ الذي يجبُ كَفُّه عَنِ الأخ المسلم الظُّلم، وهذا لا يختصُّ(2/287)
بالمسلم، بل هو محرَّمٌ في حق كلِّ أحدٍ، وقد سبق الكلامُ على الظلْمِ
مستوفيًا عند ذكرِ حديث أبي ذر الإلهي:
"يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلم على نفسِي، وجعلتُه بينَكُم مُحرَّمًا فلا تَظَالَمُوا".
ومِنْ ذلكَ: خِذْلانُ المسلم لأخيهِ، فإنَّ المؤمنَ مأمورٌ أن يَنْصُرَ أخاه، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"انصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا".
قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أنصُرُهُ مظلومًا، فكيفَ أنصرُهُ ظالمًا؟
قالَ: "تمنعُه عَنِ الظلم، فذلكَ نَصْرُك إيَّاهُ ".
خرَّجهُ البخاريُّ بمعناهُ من حديثِ أنسٍ.
وخرَّجهُ مسلمٌ بمعناه من حديثِ جابرٍ.
وخرَّج أبو داود من حديثِ أبي طلحةَ الأنصاريِّ وجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"ما مِنْ امرئٍ مسلمٍ يَخذُلُ امْرءًا مُسلمًا في موضعٍ تُنتهكُ فيه
حُرمتُه، ويُنتقصُ فيه من عِرضهِ إلا خذلهُ اللَهُ في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتهُ، وما من امرئٍ ينصُرُ مُسلمًا في موضع يُنتقصُ فيه من عِرضِهِ، ويُنتهكُ فيه من حُرمتهِ إلا نصرَه اللَّه في موطن يُحبُّ فيه نُصرتَهُ ".
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ أبي أمامةَ بنِ سهلٍ، عن أبيهِ عنِ النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"مَنْ أُذِلَّ عندهُ مؤمنٌ فلم ينصُرْه وهو يَقْدِرُ على أنْ ينصُره أذلَّهُ اللَّهُ على
رءوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ".
وخرَّج البزارُ من حديثِ عمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - قال:(2/288)
"مَنْ نصرَ أخاهُ بالغَيبِ وهو يستطيعُ نصرَه نصرهُ اللَّهُ في الدنيا والآخرةِ".
ومن ذلكَ: كذبُ المسلم لأخيه، فلا يُحِل له أن يُحدِّثه فيكذبهُ، بل لاْ يُحدِّثه إلا صدقًا.
وفي "مسندِ الإمام أحمدَ" عن النَّوَّاس بنِ سَمعانَ، عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"كَبُرَت خيانة أنْ تُحدِّثَ أخاكَ حديثًا هو لك مُصدِّق وأنتَ به كاذبٌ ".
ومن ذلكَ: احتقارُ المسلم لأخيهِ المسلم، وهو ناشئ عن الكِبْر، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغمْطُ النَّاسِ ".
خرَّجه مسلمٌ من حديثِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -.
وخرَّجهُ الإمامُ أحمدُ، وفي روايةٍ لهُ: "الكِبْرُ سَفَهُ الحَقِّ، وازدراءُ الناسِ "، وفي روايةٍ: "وغمصُ الناسِ "، وفي روايةٍ زيادةٌ: "فلا يَراهم شيئًا".
وغمصُ النَّاسِ: الطَّعْنُ عليهم وازدراؤهُم.
وقالَ اللَّهُ عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) .
فالمتكبرُ ينظرُ إلى نفسِهِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيره بعينِ النَّقصِ، فيحتقرُهُم ويزدريهِم، ولا يراهمُ أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقِهِم، ولا أن يقبلَ مِنْ أحدٍ منهمُ الحقَّ إذا أوردَهُ عليهِ.
* * *
قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)
[قَال البخاريُّ] : بَاب إذا لم يكُنِ الإسلامُ علَى الحقيقةِ وكان على(2/289)
الاستسلامِ أوِ الخوْفِ مِنَ القَتْلِ:
لقولِهِ عزَّ وجلَّ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) .
فَإِذَا كانَ على الحقيقةِ فهُوَ علَى قولِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) .
وَقولِهِ: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) .
معنى هذا الكلامِ: أن الإسلامَ يُطلقُ باعتبارينِ.
أحدُهما: باعتبارِ الإسلامِ الحقيقيِّ، وهو دينُ الإسلامِ الذي قالَ اللَّهُ فيهِ:
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) .
وقال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) .
والثاني: باعتبارِ الاستسلامِ ظاهرًا، مع عدمِ إسلامِ الباطنِ إذا وقَع خوفًا.
كإسلامِ المنافقينَ.
واستدلَّ بقوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .
وحملَهُ على الاستسلامِ خوفًا وتقيةً.
وهذا مرويٌّ عن طائفةٍ من السلفِ، منهم: مجاهدٌ وابنُ زيدٍ ومقاتلُ بنُ
حيانَ وغيرُهم.
وكذلك رجَّحه محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ، كما رجَّحه البخاريُّ؛ لأنهما لا
يفرقانِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ، فإذا انتفى أحدُهما انتفَى الآخرُ.
وهو اختيارُ ابنِ عبدِ البرِّ، وحكاهُ عن أكثرِ أهلِ السنةِ من أصحابِ مالكٍ(2/290)
والشافعيِّ وداودَ.
وأما من يفرقُ بين الإسلامِ والإيمانِ، فإنه يستدلُّ بهذه الآيةِ على الفرقِ
بينهُما، ويقول: نفيُ الإيمانِ عنهم لا يلزمُ منه نفيُ الإسلامِ، كما نَفَى الإيمانَ
عن الزاني والسارقِ والشاربِ، وإن كان الإسلامُ عنهم غيرَ منفيً.
وقد وردَ هذا المعنى في الآيةِ عن ابنِ عباسٍ وقتادَة والنخَعيِّ.
ورُوي عن ابنِ زيدٍ - معناه - أيضًا.
وهو قولُ الزهريِّ وحمادِ بنِ زيدٍ وأحمدَ.
ورجَّحه ابنُ جريرٍ وغيرُه.
واستدلُّوا به على التفريقِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ.
وكذا قال قتادةُ في هذه الآيةِ، قال: (قُولُوا أَسْلَمْنَا) : شهادةَ أن لا إله إلا
اللَّهُ، وهو دينُ اللَّهِ، والإسلامُ درجةٌ، والإيمانُ تحقيقٌ في القلب.
والهجرةُ في الإيمانِ درجةٌ، والجهادُ في الهجرةِ درجةٌ، والقتلُ في سبيل الله درجةٌ.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصلُ الدينِ، والإيمان ما قام بالقلوبِ
من تحقيقِ التصديقِ بالغيب، فهؤلاء القومُ لم يحقَقُوا الإيمانَ في قلوبِهم.
وإنما دخلَ في قلوبِهم تصديق ضعيفٌ، بحيثُ صحَّ به إسلامُهم.
ويدلُّ عليه: قولُه تعالى: (وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) .
واختلفَ مَنْ فرَّق بين الإسلامِ والإيمانِ، في حقيقة الفرقِ بينهما:(2/291)
فقالت طائفةٌ: الإسلامُ كلمةُ الشهادتينِ، والإيمانُ العملُ.
وهذا مرويٌّ عن الزهري وابنِ أبي ذئبٍ، وهوَ روايةٌ عن أحمدَ، وهي
المذهبُ عند القاضي أبي يعلَى وغيرِه من أصحابهِ.
ويشبه هذا: قولَ ابنِ زيدٍ في تفسير هذه الآية، قال: لم يصدِّقُوا إيمانَهم
بأعمالهم، دردَّ اللَّه عليهم، وقال: (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قولُوا أَسْلَمْنَا) .
فقال: الإسلامُ إقرارٌ والإيمانُ تصديقٌ.
وهو قولُ أبي خيثمةَ وغيرِه من أهلِ الحديثِ.
وقد ضعَّفَ ابنُ حامدٍ من أصحابِنا هذا القولَ عن أحمدَ، وقال: الصحيحُ
أن مذهَبَه أن الإسلامَ قولٌ وعملٌ، روايةً واحدةً، ولكن لا تدخلُ كلّ
الأعمالِ في الإسلامِ كما تدخلُ في الإيمانِ.
وذكر: أنَّ المنصوصَ عن أحمدَ، أنه لا يكفرُ تاركُ الصلاةِ، فالصلاةُ من
خصالِ الإيمانِ دونَ الإسلامِ، وكذلك اجتنابُ الكبائرِ من شرائطِ الإيمانِ دونَ الإسلام.
كذا قالَ، وأكثرُ أصحابنا: أن ظاهرَ مذهبِ أحمدَ تكفيرُ تاركِ الصلاةِ، فلو
لم تكنِ الصلاةُ من الإسلامِ، لم يكنْ تاركُها عندَه كافرًا.
والنصوصُ الدالةُ على أن الأعمالَ داخلةٌ في الإسلامِ كثيرة جدًّا.
وقد ذهَب طائفةٌ إلى أن الإسلامَ عامٌّ، والإيمانَ خاصٌّ، فمنِ ارتكبَ
الكبائرَ خرجَ من دائرةِ الإيمان الخاصةِ إلى دائرةِ الإسلامِ العامَّةِ.
هذا مرويٌّ عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ.
وضعفه ابنُ نصرِ المروزيُّ، من جهة راويه عنه، وهو فضيل بنُ يسار،(2/292)
وطعنَ فيه.
ورُوي عن حمادِ بنِ زيدٍ نحو هذا - أيضًا.
وحُكي روايةً عن أحمدَ - أيضًا -؛ فإنه قال - في رواية الشالنجيِّ - في
مرتكبِ الكبائرِ: يخرجُ من الإيمانِ، ويقعُ في الإسلامِ.
ونقل حنبلٌ، عن أحمدَ - معناه.
وقد تأوَّلَ هذه الروايةَ القاضي أبو يعلَى، وأقرَّها غيرَه، وهي اختيارُ أبي
عبدِ اللَّهِ ابن بطةَ وابنِ حامدٍ، وغيرِهما من الأصحابِ.
وقالت طائفةٌ: الفرقُ بينَ الإسلامِ والإيمانِ: أن الإيمانَ هو التصديقُ.
تصديقُ القلبِ، فهو علمُ القلبِ وعملُه، والإسلامُ الخضوعُ والاستسلامُ
والانقيادُ، فهو عملُ القلبِ والجوارح.
وهذا قولُ كثيرٍ من العلماءِ، وقد حكاهُ أبو الفضلِ التميميُّ عن أصحابِ
أحمدَ، وهو قولُ طوائفَ منَ المتكلمينَ.
لكن المتكلمونَ عندَهُم أن الأعمالَ لا تدخلُ في الإيمانِ، وتدخلُ في
الإسلامِ، وأما أصحابُنا وغيرُهم من أهلِ الحديثِ، فعندهم أن الأعمالَ تدخل في الإيمانِ، مع اختلافِهم في دخولِها في الإسلامِ، كما سبق.
فلهذا قالَ كثير من العلماءِ: إن الإسلامَ والإيمانَ تختلفُ دلالتُهما بالإفراد
والاقترانِ، فإن أُفردَ أحدُهما دخلَ الآخرُ فيه، وإن قُرنَ بينهما كانا شيئينِ
حينئذ.
وبًهذا يجمعُ بينَ حديثِ سؤالِ جبريلَ عن الإسلامِ والإيمانِ، ففرَّق النبي
- صلى الله عليه وسلم - بينهما، وبينَ حديثِ وفدِ عبدِ القيسِ حيث فسَّر فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ(2/293)
المنفرد بما فسَّر به الإيمانَ المقرونَ في حديثِ جبريلَ.
وقد حكى هذا القولَ أبو بكرٍ الإسماعيليّ عن كثيرٍ من أهلِ السنةِ
والجماعة.
ورُويَ عن أبي بكرِ بنِ أبي شيبة ما يدلُّ عليهِ.
وهو أقربُ الأقوالِ في هذه المسألةِ وأشبهُها بالنصوصِ. واللَّهُ أعلمُ.
والقولُ بالفرقِ بين الإسلام والإيمانِ مرويٌّ عن الحسنِ وابنِ سيرينَ وشريكٍ
وعبدِ الرحمنِ بنِ مهديً ويحيى بنِ معينٍ، ومؤمَّلِ بنِ إهابٍ، وحُكي عن
مالك - أيضًا.
وقد سبقَ حكايتُه عن قتادةَ، وداودَ بنِ أبي هندٍ، والزهرىِّ، وابنِ أبي
ذئبٍ، وحمادِ بنِ زيدٍ، وأحمدَ، وأبي خيثمةَ.
وكذلك حكاهُ أبو بكرِ بنُ السمعانيِّ عن أهلِ السنةِ والجماعةِ جملةً.
فحكايةُ ابنِ نصرٍ وابنِ عبدِ البرِّ عن الأكثرينَ التسويةَ بينهما غيرُ جيِّدٍ.
بل قد قيلَ: إن السلفَ لم يُروَ عنهم غيرُ التفريقِ. واللَّهُ أعلمُ.
وخرَّج البخاريُّ في هذا البابِ:
حديثَ: الزُّهريّ، عن عامِر بن سعدٍ، عَن أبيهِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطَى رهطا، وسعد جَالسٌ، فتركَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رجُلاً، هُو أعجبُهُم إليَّ، فقلتُ: يَا رسُولَ اللَّهِ، مَا لكَ عن فُلانٍ، فواللَّهِ، إنِّي لأراهُ مُؤمنًا؟
فقالَ: "أَو مسلمًا"، فسكتُّ قليلاً، ثمَّ غلبني ما أعلمُ منهُ، فقلتُ: يارسولَ اللَّهِ، ما لك عن فلانٍ؛ فواللَّهِ إنّي لأراهُ مُؤمنًا؛ قالَ: "أو مُسلمًا"، فسكتُّ قليلاً، ثمَّ غلبني ما أعلمُ منهُ، فعدتُ لمقالتِي، وعادَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قالَ: "يا سعدُ، إنِّي(2/294)
لأعطي الرجل، وغيرهُ أعجبُ إلي منهُ، خشيةَ أن يكبَّهُ اللَهُ في النارِ".
خرَّجَه من طريقِ: شعيب، عن الزهري.
ثم قال: رواهُ يُونسُ وصالح ومعمرٌ وابنُ أخي الزُّهري، عن الزُّهري.
وقد رواهُ ابنُ أبي ذئبٍ - أيضًا -، عن الزهريِّ - كذلك.
ورواه العباسُ الخلالُ، عن الوليدِ بنِ مسلم، عن ابنِ وهب ورشدينَ بنِ
سعد، عن يونُسَ، عن الزهريِّ، عن إبراهيمَ بنِ عبد الرحمنِ بنِ عوف، عن
أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. "
وأخطأ في ذلكَ -: نقلَه ابنُ أبي حاتمٍ الرازيُّ، عن أبيهِ.
فهذا الحديثُ محمولاً عند البخاريِّ على أن هذا الرجلَ كانَ منافقًا، وأن
الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه الإيمانَ، وأثبتَ له الاستسلامَ دونَ الإسلامِ الحقيقيِّ.
وهو - أيضًا - قولُ محمدِ بنِ نصر المروزيّ.
وهذا في غايةِ البعدِ، وآخرُ الحديثِ يردُّ على ذلك، وهو قولُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
"إني لأعطي الرجلَ وغيرُه أحبُّ إليَّ منه ".
فإن هذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَلَه
إلى إيمانه، كما كان يعطي المؤلفةَ قلوبُهم، ويمنعُ المهاجرينَ والأنصار.
وزعمَ عليٌّ بن المدينيَ في كتابِ " العللِ " له: أن هذا من بابِ المزاح منَ
النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كانَ يمزحُ ولا يقولُ إلا حقًّا، فأوهم سعدًا أنه ليس بمؤمنٍ بل مسلم، وهما بمعنًى واحد، كما يقول لرجل يمازحُه - وهو يدعي أنه أخ لرجل -، فيقول: إنما أنتَ ابنُ أبيه، أو ابنُ أمِّه، وما أشبَه ذلكَ، مما يوهمُ(2/295)
الفرقَ، والمعنَى واحد.
وهذا تعسفٌ شديد.
والظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زجرَ سعدًا عن الشهادةِ بالإيمانِ؛ لأن الإيمانَ باطن في القلبِ لا اطلاعَ للعبدِ عليه، فالشهادةُ به شهادة على ظنٍّ، فلا ينبغي الجزمُ بذلك، كما قال:
"إن كنتَ مادحًا لا محالةَ، فقل: أحسِبُ فلانًا كذا، ولا أزكِّي على اللَّهِ أحدًا".
وأمرَه أن يشهدَ بالإسلامِ؛ لأنه أمرٌ مطَّلع عليه.
كما في "المسندِ" عن أنسٍ - مرفوعًا -: "الإسلامُ علانيةٌ والإيمانُ في
القلبِ ".
ولهذا كرِه أكثرُ السلفِ أن يطلقَ الإنسانُ على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو
صِفةُ مدح، وتزكية للنفسِ بما غابَ من أعمالِها، وإنما يشهدُ لنفسِه بالإسلامِ؛ لظهورِه.
فأما حديثُ: "إذا رأيتمُ الرجلَ يعتادُ المسجدَ، فاشهدُوا له بالإيمانِ ".
فقد خرَّجهُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ درَّاج، عن أبي الهيثم
عن أبي سعيدٍ - مرفوعًا.
وقال أحمد: هو حديثا منكرٌ.
ودراجٌ له مناكيرُ. واللهُ أعلمُ.(2/296)
وهذا الذي ذكرَه البخاريُّ في هذا البابِ، من الآية والحديثِ إنما يطابق
التبويبَ، على اعتقادِه: أنه لا فرقَ بين الإسلامِ والإيمانِ.
وأما على قولِ الأكثرينَ بالتفريقِ بينهما، فإنما ينبغي أن يُذكرَ في هذا البابِ
قولُه عزَّ وجل: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) .
فإنَّ الجمهورَ على أنه أرادَ استسلامَ الخلقِ كلهم له وخضوعَهم، فأما المؤمنُ
فيستسلمُ ويخضعُ طوعًا، وأما الكافرُ فإنه يضطرُ إلى الاستسلام عند الشدائدِ
ونزولِ البلاءِ به كرهًا، ثم يعودُ إلى شركِه عندَ زوالِ ذلك كلِّه، كما أخبرَ اللَّهُ عنهم بذلكَ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ.
والحديثُ الذي يطابقُ البابَ - على اختيارِ المفرقينَ بينَ الإسلام والإيمان -
قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - - في ذكر قرينهِ من الجنِّ -:
"ولكنَّ اللَّهَ أعاننِي عليه، فأسلَمُ ".
وقد رُوي بضمِّ الميم وفتحِها:
فمن رواهُ بضمِّها، قال: المرادُ: أي: أنا أسلمُ من شرِّه.
ومن رواه بفتحها، فمنهم من فسَّره بأنه أسلمَ من كفرِه، فصار مسلمًا.
وقد وردَ التصريحُ بذلكَ في روايةِ خرَّجها البزارُ في "مسندِه "، بإسنادٍ
فيه ضعفٌ.
ومنهم من فسَّره بأنه استسلمَ وخضعَ وانقادَ كرهًا. وهو تفسير ابنِ عيينة
وغيرهِ.
فيطابقُ على هذا ترجمةَ البابِ. واللَّهُ أعلم.
* * *(2/297)
قال المحقِّقون مِنَ العُلماءِ: كلُّ مؤمِنِ مُسلم، فإنَّ من حقَّق الإيمانَ، ورسخَ
في قلبِهِ، قام بأعمالِ الإسلامِ، كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا وإن في الجسدِ مُضغة، إذا صلحتْ، صلَّحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ، فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهيَ القلبُ ".
فلا يتحقَّقُ القلبُ بالإيمانِ إلا وتنبعِثُ الجوارحُ في أعمالِ الإسلامِ، وليسَ كلُّ
مسلم مؤمنًا، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا، فلا يتحقَّقُ القلبُ به تحقُّقًا تامًّا.
معَ عملِ جوارحِهِ بأعمالِ الإسلامِ، فيكونُ مسلمًا وليس بمؤمنِ الإيمانَ التامَّ
كما قالَ تعالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، ولم يكونُوا مُنافقينَ بالكُلَيَّةِ على أصحِّ
التفسيرينِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وغيرِه، بل كانَ إيمانُهم ضعيفًا، ويدلُّ عليه
قولُه تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) .
يعني: لا ينقُصعكم من أجورِها، فدلَّ على أنَّ معهم من الإيمانِ ما تُقبلُ به
أعمالُهم.
وكذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقَّاص لمَّا قال له: لمْ تعطِ فلانًا وهو مؤمنٌ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أو مسلمٌ " يُشيرُ إلى أنَّه لم يُحقق مقامَ الإيمانِ.
وإنما هو في مقامِ الإسلامِ الظَّاهرِ، ولا ريبَ أنَّه متى ضعفَ الإيمانُ الباطنُ.
لزمَ منه ضعفُ أعمالِ الجوارح الظاهرةِ أيضًا، لكن اسمَ الإيمانِ يُنفى عمَّن
تركَ شيئًا مِن واجباتهِ، كَمَا في قوله: "لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمن ".
وقد اختلفَ أهلُ السُّنةِ: هل يُسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمانِ، أو يقالُ: ليسَ(2/298)
بمؤمنٍ، لكنَّهُ مسلمٌ، على قولينِ، وهمَا روايتانِ عن أحمدَ.
وأمَّا اسمُ الإسلامِ، فلا ينتفِي بانتفاءِ بعضِ واجباتِهِ، أو انتهاكِ بعضِ
محرَّماتِهِ، وإنما يُنفَى بالإتيانِ بما يُنافيهِ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُعرَفُ في شيءٍ من السُّنَّةِ
الصَّحيحةِ نفيُ الإسلامِ عمَّن تركَ شيئًا من واجباتِهِ، كما يُنفَى الإيمانُ عمَّن
تركَ شيئًا من واجباتِهِ، وإنْ كانَ قد وردَ إطلاقُ الكُفرِ على فعلِ بعضِ
المحرَّماتِ، وإطلاقُ النِّفاقِ أيضًا.
واختلفَ العلماءُ: هل يُسمَّى مرتكبُ الكبائرِ كافرًا كفرًا أصغر أو منافقًا
النِّفاق الأصغرَ، ولا أعلمُ أنَّ أحدًا منهم أجازَ إطلاقَ نفي اسم الإسلامِ عنهُ.
إلا أنه رُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قالَ: ما تاركُ الزكَاةِ بمسلم.
ويُحتملُ أنَّه كان يراه كافرًا بذلكَ، خارجًا عنِ الإسلام.
وكذلكَ رُوي عن عمرَ فيمن تمكَّن مِنَ الحجِّ، ولم يحجَّ أنهم ليسُوا
بمسلمينَ، والظَّاهرُ أنَّه كانَ يعتقدُ كفرَهم، ولهذا أرادَ أن يضربَ عليهمُ
الجزيةَ، يقولُ: لم يدخُلُوا في الإسلامِ بعدُ، فهُم مستمرُّونَ على كتابيتِهِم.
وإذا تبيَّن أنَّ اسمَ الإسلامِ لا ينتفي إلا بوجودِ ما ينافيهِ، ويُخرجُ عن الملَّةِ
بالكلِّيَّةِ، فاسمُ الإسلامِ إذا أُطلِقَ أو اقترنَ به المدحُ، دخلَ فيهِ الإيمانُ كلُّه منَ
التَّصديقِ وغيرِه.
وخرَّج النَّسائيُّ مِن حديثِ عقبةَ بنِ مالكٍ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ سريَّةً،(2/299)
فغارت على قوم، فقال رجل منهم: إنِّي مُسلم، فقتلُه رجل منَ السَّريَّة.
فنُمي الحديثُ إلىَّ رَسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيه قولاً شديدًا، فقال الرجلُ: إنَّما قالها تعوُّذًا مِنَ القتلِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه أبَى عليَّ أن أقتلَ مؤمنًا" ثلاثَ مرَاتٍ.
فلولا أنَّ الإسلامَ المطلقَ يدخُلُ فيه الإيمانُ والتَّصديقُ بالأصول الخمسةِ، لم
يصِر من قال: "أنا مسلم" مؤمنًا بمجرَّدِ هذا القول، وقد أخبرَ اللَّه تعالى عن
ملكةِ سبإٍ أنها دخلتْ في الإسلامِ بهذهِ الكلمةِ وقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) .
وأخبرَ عن يوسفَ عليه السَّلامُ أنه دعَا بالموتِ على الإسلامِ.
وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الإسلامَ المطلقَ يدخُلُ
فيهِ ما يدخلُ في الإيمان مِنَ التَّصديق.
وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن عدي بنِ حاتمٍ، قال: قال لي رسول اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم -:
"يا عديُّ، أسلمْ تسلمُ! ، قلتُ: وما الإسلامُ؟
قال: "تشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وتشهدُ أني رسولُ اللَّه، وتؤمنُ بالأقدارِ كلِّها، خيرِها وشرِّها حلوِها ومرِّها".
فهذا نصّ في أنَّ الإيمانَ بالقدرِ مِنَ الإسلامِ.
* * *(2/300)
سُورَةُ (ق)
قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
وقد قال كثير من السلف في قول اللَّه عز وجل: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) :
إن الذي عن اليمينِ كاتبُ الحسناتِ، والذي عن الشمالِ كاتبُ السيئاتِ، منهم: الحسنُ، والأحنفُ بنُ قيسٍ، ومجاهد، وابنُ جريج، والإمامُ أحمدُ.
وزادَ ابنُ جريج، قالَ: إن قعدَ فأحدُهُما عن يمنيِهِ، والآخرُ عن شمالِهِ.
وإن مَشَى فأحدُهُما أمامَهُ والآخرُ خلفَهُ، وإن رقدَ فأحدُهُما عندَ رأسِهِ والآخرُ عند رجليهِ.
وعلى هذا، فقد يخلو اليمينُ عن الملكِ إذا مَشى أو رقدَ.
وحديثُ أبي أمامةَ فيه أن الذي على الشمالِ هو القرينُ.
يريد به: الشيطانَ الموكل بالعبدِ، كما في "صحيح مسلم " عن ابن
مسعودٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"ما منكُم من أحد إلا وقد وُكَل به قرينُهُ من الجن
وقرينُه من الملائكة". قالوا: وإياك يا رسولَ اللَّهِ؟
قالَ: "وإياي، ولكنَّ الله أعانني عليه، فلا يأمُرُني إلا بخير ".(2/301)
وقد وردَ في حديثٍ خرَّجهُ الطبرانيُّ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ -
مرفوعًا -: "إنَّ القرينَ هو كاتبُ السيئاتِ ".
وإسنادُه شاميٌّ ضعيف.
* * *
قالَ اللَّهُ عز وجلَّ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) .
وقد أجمعَ السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يكتُبُ الحسناتِ، والذي
عن شماله يكتبُ السيئات، وقد رُويَ ذلكَ مرفوعًا من حديث أبي أمامةَ
بإسنادٍ ضعيف.
وفي "الصحًيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا كانَ أحدُكُم يُصلِّي، فإنه يُناجي ربَّه والملكُ عن يمينهِ ".
ورُويَ من حديثِ حُذيفةَ مرفوعًا: "إنَّ عن يمينِهِ كاتبُ الحسناتِ ".
واختلفُوا: هل يكتبُ كلَّ ما تكلَّم به، أو لا يكتبُ إلا ما فيه ثواب أو
عِقاب؟ على قولينِ مشهورينِ.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباس: يُكتبُ كلُّ ما تكلمَ به من خيرٍ أو(2/302)
شرٍّ حتى إنه ليكتبُ قولَهُ: أكلتُ وشربتُ، وذهبتُ وجئتُ، حتى إذا كانَ يومُ الخميسِ عُرضَ قولُه وعملُه، فأقرَّ منه ما كانَ فيه من خيرٍ أوشرٍّ، وألقى
سائرَهُ، فذلكَ قولُه تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) .
وعن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، قالَ: ركبَ رجل الحمارَ، فعثرَ بهِ، فقال: تعسَ
الحمارُ، فقالَ صاحبُ اليمينِ: ما هيَ حسنة أكتُبُها، وقال صاحبُ الشمالِ: ما هي سيئة فأكتبها، فأوحَى اللَّه إلى صاحبِ الشمالِ: ما تركَ صاحبُ اليمينِ من شيء، فاكتبهُ، فأثبتَ في السيئاتِ "تَعِسَ الحمارُ".
وظاهرُ هذا أنَّ ما ليسَ بحسنةٍ، فهو سيئة، وإن كانَ لا يُعاقبُ عليها، فإنَّ
بعضَ السيئاتِ قد لا يُعاقبُ عليهَا، وقد تقعُ مكفَّرةً باجتنابِ الكبائرِ، ولكنَّ
زمانَها قد خسرهُ صاحبُها حيثُ ذهبتْ باطلاً فيحصلُ له بذلكَ حسرةٌ في
القيامةِ وأسفٌ عليه وهو نوعُ عقوبةٍ.
* * *
وروى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولهِ عز وجلْ (مَا يَلْفِط
مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، قال: يُكتبُ كلُّ ما تكلَّم به من خيرٍ
وشرٍّ، حتَّى إنَّه ليُكتبُ قولُه: أكلتُ، وشربتُ، وذهبتُ، وجئتُ، ورأيتُ، حتَّى إذا كانَ يومُ الخميسِ عُرضَ قولُه وعملُه فأقِرُّ منه ما كانَ فيهِ من خيرٍ أو شرٍّ(2/303)
وأُلقيَ سائرُه، فذلكَ قولُه تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
خرَّجه ابنُ أبي حاتم وغيرُه.
فهذا يدُلُّ على اختصاصِ يومِ الخميسِ بعرضِ الأعمال لا يوجدُ في غيرهِ.
وكانَ إبراهيمُ النَّخعِيُّ يبكي إلى امرأتِهِ يومَ الخميسِ وتبكي إليه، ويقول:
اليومَ تُعرضُ أعمالُنا على اللهِ عزَّ وجلَّ.
فهذا عرضٌ خاصٌّ في هذينِ اليومينِ غيرُ العرضِ العامِّ كل يوم، فإنَّ ذلكَ
عرضٌ دائمٌ كلَّ يوم بكرةً وعشيَّا.
ويدل على ذلك ما في "الصحيحين " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"يتعاقبُونَ فيكُم ملائكة بالليلِ، وملائكةٌ بالنَّهارِ.
فيجتمعونَ في صلاةِ الصّبح، وصلاةِ العصرِ، فيسألُ الذينَ باتوُا فيكُم، وهو أعلمُ: كيفَ تركتُم عِبادي؟
فيقولونَ: أتيناهُم وهم يُصلُّون، وتركنَاهُم وهم يُصلُّون ".
وفي "صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قامَ فينا
رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بخمسِ كلماتٍ، فقال:
"إنَّ اللَّه لا ينامُ، ولا ينبغِي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعه، يُرفعُ إليه عملُ الليلِ قبلَ النهارِ وعملُ النَّهار قبلَ الليلِ، حجابُه
النورُ، لو كشفه لأحرقتْ سُبحاتُ وجههِ ما انتهَى إليه بصرُه من خلقِهِ ".
ويُروى عن ابنِ مسعود، قال: إنَّ مقدارَ كُلِّ يوم من أيامكم عند ربكم
ثنتا عشرةَ ساعةً، فتُعرضُ عليه أعمالُكُم بالأمسِ أوَّل النَّهارِ اليومَ، فينظرُ فيها ثلاثَ ساعات، وذكر باقيهُ.
كان الضحَّاكُ يبكِي آخرَ النَّهارِ، ويقول: لا أدري ما رُفعَ من عملِي.
يا مَن عملُه معروضٌ على مَن يعلمُ السِّر وأخفى، لا تُبهرجْ فإنَّ(2/304)
النَّاقِدَ بصيرٌ.
السُّقمُ على الجِسم لهُ تردادُ. . . والعُمرُ مضَى وزلَّتي تزدادُ
ما أبعدَ شُقَّتِي وما لي زَادُ. . . ما أكثرَ بهرجي ولي نقَّاد
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
فقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويهِ عن ربِّه:
"يا عبادِي إنِّي حرمتُ الظُّلمَ على نفسِي ".
يعني: أنَّه منعَ نفسَهُ من الظلم لعباده، كمَا قالَ عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) ، وقالَ: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) .
وقال: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) .
وقال: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .
وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) .
وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة) .
وقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) .
والهضمُ: أن يُنقَصَ من جزاءِ حسناتِهِ، والظُّلمُ: أن يُعاقب
بذنوبِ غيرِه، ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ.
وهو مما يدلُّ على أنَّ اللَّهَ قادرٌ على الظلم، ولكنَّهُ لا يفعلُه فضلاً منه
وجُودًا، وكرمًا وإحسانا إلى عبادِهِ.
وقد فسرَ كثيرٌ من العلماءِ الظلمَ: بأنه وضعُ الأشياءِ في غيرِ موضِعِهَا.
وأمَّا من فسَّره بالتَّصرُّفِ فِي ملك الغيرِ بغيرِ إذنِهِ - وقد نقلَ نحوه عن إياسِ
ابنِ معاويةَ وغيرِه - فإنهم يقولون: إنَّ الظُّلْمَ مستحيلٌ عليه، وغيرُ متصوَرٍ في حقِّه، لأن كلَّ ما يفعلُه فهو تصرُّف في ملكه، وبنحو ذلكَ أجابَ أبو الأسودِ(2/305)
الدؤليُّ لعمران بنِ حصينٍ حين سألهُ عن القدرِ.
وخرَّج أبو داودَ، وابنُ ماجةَ من حديث أبي سنانٍ سعيدِ بنِ سنانٍ، عن
وهب بنِ خالدٍ الحمصيِّ، عن ابنِ الدَّيلميًّ أنَّه سمعَ أُبيَّ بنَ كعبٍ يقولُ: لو
أنَّ اللًّهَ عذَّب أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضهِ؛ لعذَّبهُم وهو غيرُ ظالمٍ لهُم، ولو
رحمهُم، لكانتْ رحمتُه خيرًا لهم من أعمالِهِم.
وأنه أتى ابنَ مسعودٍ، فقالَ لهُ مثلَ ذلكَ، ثم أتى زيدَ بن ثابت، فحدَّثه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثلِ ذلك.
وفي هذا الحديثِ نظرٌ، ووهبُ بنُ خالدٍ ليسَ بذاكَ المشهورِ بالعلم، وقد
يُحملُ على أنَّه لو أرادَ تعذيبَهُم لقدَّرَ لهم ما يعذبهم عليهِ، فيكونُ غيرَ ظالم
لهُم حينئذٍ.
وكونه خلقَ أفعالَ العبادِ وفيها الظلمُ لا يقتضِي وصفَه بالظُّلم سبحانه
وتعالى، كما أنَّه لا يُوصَفُ بسائرِ القبائح التي يفعلُها العبادُ، وهي خلقُه
وتقريرُه، فإنَّه لا يُوصفُ إلا بأفعاله لا يُوصفُ بأفعال عبادِه، فإنَّ أفعالَ عبادِهِ
مخلوقاتُه ومفعولاتُه، وهو لا يُوصفُ بشيءٍ منها، إنًّما يوصَفُ بما قامَ بهِ من
صفاتِهِ وأفعالِهِ، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
قوله: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) ، وقال تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) .(2/306)
وُفسِّرَ "الحفيظُ " ههُنا بالحافظ لأوامرِ اللَّهِ، وفُسِّرَ بالحافظِ لذنوبهِ حتَّى يرجعَ
عنهَا، وكلاهُما يدخلُ في الآية.
ومن حفظَ وصيَة اللَّهِ لعبادِهِ وامتثَلهَا فهوَ داخل أيضًا، والكلُّ يرجعُ إلى
معنى واحدٍ.
وقد وردَ في بعضِ ألفاظِ حديثِ يومِ المزيدِ في الجنةِ، "أن اللَّهَ تعالَى يقولُ
ْلأهلِ الجنةِ، إذا استدعاهُم إلى زيارتِهِ وكشفَ لهم الحجَب: "مرحبًا بعبادي
الذين حفظُوا وصيَّتي، ورعَوا عهدِي، وخافوني بالغيبِ، وكانُوا منِّي على كلِّ حالٍ مشفقينَ ".
فأمرُه - صلى الله عليه وسلم - لابنِ عباسٍ أن يحفظَ اللَّهَ، يدخلُ فيهِ هذا كلُّه.
ومن أعظم ما يجبُ حفظُه من المأموراتِ الصلواتُ الخمسُ. قالَ اللَّه
تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَئ) .
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) .
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"من حافظَ عليها كانَ له عندَ اللَّهِ عهدًا أن يدخلَهُ الجنةَ". الحديث.
وفي حديثٍ آخرَ: "من حافظَ عليهنَّ كنَّ له نورًا وبرهانًا ونجاةً يومَ القيامةِ".
الحديث.(2/307)
وكذلكَ الطهارةُ، فإنها مفتاحُ الصلاةِ، وقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحافظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ ".
ومما أمرَ اللَّهُ بحفظه الأيمانُ، لما ذكرَ كفارةَ اليمينِ قالَ: (ذَلِكَ كفارَة أَيْمَانِكُمْ
إِذَا حلَفْتمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) ، فإن الأيمانَ كثيرًا ما تقع من الناسِ
وموجباتها مختلفةٌ.
فتارة يجبُ فيها كفارةُ يمين، وتارةً يجبُ بها كفارة
مغلظة، وتارةً يلزمُ بها المحلوفُ عليهِ من طلاق ونحوِه.
فمن حفظَ أيمانَهُ دلَّ على دخولِ الإيمانِ في قلبِهِ.
وكانَ السلفُ كثيرًا يحافظونَ على الأيمانِ.
فمنهم من كانَ لا يحلفُ باللَّهِ ألبتَّة، ومنهم من كانَ يتورعُ حتى يكفرَ فيما شكَّ فيه من الحنثِ.
ووصى الإمامُ أحمدُ رحمه اللَّه عند موتِهِ أن يخرجَ عنه كفارةُ يمينٍ.
وقال: أظنُّ أنِّي حنثتُ في يمينٍ حلفتُها.
وقد رُويَ عن أيوبَ عليه السلامُ أنه كان إذا مرَّ باثنينِ يحلفانِ باللَّهِ ذهب
فكفرَ عنهُما، لئلا يأثمانِ وهما لا يشعرانِ.
ولهذا لما حلفَ على ضربِ امرأتِهِ مائةَ جلدةٍ، أفتاهُ اللَّهُ بالرخصةِ لحفظِهِ
لأيمانِهِ وأيمانِ غيرِه.
وقد اختلفَ العلماءُ: هل تتعدَّى الرخصةُ إلى غيرِه أم لا؟
وقال يزيدُ بنُ أبي حبيبٍ: بلغَنِي أنَّ من حملةِ العرشِ من يسيلُ من
عينيهِ أمثالُ الأنهارِ من البكاءِ، فإذا رفعَ رأسَهُ قالَ: سبحانكَ ما تُخشَى
حقَّ خشيتكَ، فيقولُ اللَهُ تعالى: لكن الذينَ يحلفونَ باسمي كاذبينَ(2/308)
لا يعلمونَ ذلكَ.
وقد وردَ التشديدُ العظيمُ في الحلفِ الكاذبِ باللَّهِ، ولا تصدرُ كثرةُ الحلفِ
باللَّهِ إلامن الجهلِ باللَّهِ تعالَى، وقلةِ هيبتهِ في الصدورِ.
ومما يلزمُ المؤمن حفظَهُ رأسهُ وبطنَهُ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - المرفوع:
"الاستحياءُ من اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن يحفظَ الرأسَ وما وعَى، ويحفظَ البطنَ وما
حوَى".
خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ.
وحفظُ البطنِ وما حَوى: يتضمُن حفظَ القلبِ عن الإصرارِ على محرمٍ.
وقد جمَع اللَّهُ ذلكَ كلَّه في قولِه تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) .
ويدخلُ في حفظِ البطنِ وما حَوى: حفظُه من إدخالِ الحرامِ إليهِ من
المأكولاتِ والمشروباتِ.
ومما يجبُ حفظُه من المنهياتِ: حفظُ اللسانِ والفرج.
وفي حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -:
"من حفظ ما بين لحييهِ وما بينَ رجليهِ دخلَ الجنةَ".
خرَّجه الحاكم.
وخرَّجه البخاريُّ من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ - رضي الله عنه -
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولفظه:
"من يضمنُ لي ما بينَ لحييهِ ورجليهِ، أضمنُ له الجنةَ".
وفي "مسند الإمام أحمد"
عن أبي موسى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من حفظَ ما بين فقميه وفرجيهِ دخلَ الجنةَ".(2/309)
وقد أمرَ اللَّهُ بحفظِ الفرج خاصةً ومدحَ الحافظين له قالَ اللَّهُ تعالى:
(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فروجَهُمْ) .
وقال تعالى: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهًمْ وَالْحَافِظَاتِ) .
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) .
وقد روى عن أبي إدريس الخولاني أن أول ما وصَّى اللَّهُ آدمَ عندَ إهباطه
إلى الأرضِ بحفظِ فرجِهِ، وأن لا يضعَهُ إلا في حلالٍ.
* * *
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحفظكَ " يعني: أنَّ من حفظَ حدودَ اللَّهِ، وراعَى حقوقَه، حفظَهُ اللَّهُ، فإنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، كمَا قالَ تعالى: (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكمْ) ، وقال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) .
وقال: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصرْكُمْ) .
وحفظُ اللَّهِ لعبدِهِ يدخلُ فيه نوعانِ:
أحدُهما: حفظُه له في مصالح دنياهُ، كحفظِهِ في بدنِهِ وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ.
قالَ اللَّهُ عزَ وجلَّ: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) .
قال ابنُ عباسٍ: هم الملائكةُ يحفظونَهُ بأمرِ اللَّهِ فإذَا جاءَ القدرُ
خلَّوا عنهُ.
وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: إنَّ مع كلِّ رجل ملكينِ يحفظانِهِ مما لم يقدَّر فإذا جاءَ القدرُ خلَّيا بينهُ وبينهُ، وإنَّ الأجل جُنَّة حصينة.(2/310)
وقال مجاهدٌ: ما مِن عبدٍ إلا له ملكٌ يحفظُه في نومِهِ ويقظتِهِ من الجن
والإنسِ والهوامِّ، فما من شيءٍ يأتيهِ إلا قالَ: وراءَك، إلا شيئًا أذنَ اللَّهُ فيه
فيصيبُهُ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، قالَ:
لم يكنْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يدعُ هؤلاءِ الدَّعواتِ حين يُمسي وحين يُصبحُ: "اللهمَّ إني أسألُكَ العافية في الدنيا والآخرةِ، اللهمَّ إني أسألك العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأهلِي ومالِي، اللهمَّ استُر عورتي، وآمن روعاتي، واحفظنِي من بين يديَ ومن خلِفي.
وعن يميني وعن شالِي ومن فوقِي، وأعوذُ بعظمتِكَ أن أُغتَالَ من تحتِي ".
ومَن حفظَ اللَّهَ في صباهُ وقوتِه، حفظَهُ اللَهُ في حالِ كبرهِ وضعفِ قوّته.
ومتَّعهُ بسمعِهِ وبصر وحولهِ وقوَّته وعقلِهِ.
كان بعضُ العلماءِ قد جاوزَ المائةَ سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّته وعقلِهِ، فوثب يومًا
وثبةً شديدةً، فعُوتبَ في ذلكَ، فقالَ: هذه جوارحُ حفظناهَا عن المعاصِي في
الصِّغر، فحفظَهَا اللَّهُ علينا في الكبرِ.
وعكسُ هذا: أن بعضَ السلف رأى شيخًا يسألُ الناسَ، فقالَ: إن هذا
ضيَّع اللَّهَ في صغرِه، فضيَّعهُ اللَّهُ في كبره.
وقد يحفظُ اللَّهُ العبدَ بصلاحِهِ بعدَ موتِهِ في ذريَته، كَما قِيل في قولِه
تعالى: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) : إنَّهما حُفظا بصلاح أبيهما.
قال سعيدُ بن المسيب لابنِهِ: لأزيدن في صلاتِي مِن أجلكَ، رجاءَ أن(2/311)
أُحفظَ فيكَ، ثم تلا هذه الآية: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) .
وقالَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: ما منْ مؤمنٍ يموتُ إلا حفظَهُ اللَّهُ في عقبِهِ وعقبِ عقبهِ.
وقال ابنُ المنكدرِ: إن اللَّهَ ليحفظُ بالرجلِ الصالح ولدَه وولدَ ولده
والدويراتِ التي حولَهُ، فما يزالونَ في حفظٍ من اللَّهِ وسترٍ.
ومتى كانَ العبدُ مشتغلاً بطاعةِ اللَّهِ، فإن اللَّهَ يحفظُهُ في تلكَ الحالِ، وفي
"مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"كانتِ امرأةٌ في بيتٍ، فخرجتْ في سريَّة من المسلمينَ، وتركتْ ثنتي عشرة عنزا وصيصيتها كانتْ تنسجُ بِهَا، قالَ: ففقدتْ
عنزًا لها وصيصيتها، فقالتْ: يا ربِّ، إنَّكَ قد ضَمنتَ لمنْ خرجَ في سبيلِكَ أن تحفظَ عليهِ، وإنِّي قد فَقدتُ عنزًا من غنمِي وصيصيتِي، وإنِّي أنشُدُكَ عنزِي وصيصيتي ".
قالَ: وجعلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يذكر شدَّة مناشدتِهَا ربَّها تباركَ وتعالَى، قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"فأصبحت عنزُها ومثلُها، وصيصيتُها ومثلُها ".
والصيصيةُ: هي الصِّنارةُ التي يُغزلُ بها ويُنسجُ.
فمن حفظَ اللَّهَ حفظهُ اللَّهُ من كلِّ أذى.
قال بعضُ السلفِ: من اتقى اللَّهَ، فقد حفظَ نفسَهُ، ومن ضيَع تقواهُ، فقد ضيَّع نفسَهُ، واللهُ الغنيّ عنهُ.
ومن عجيبِ حفظِ اللَّه لمن حفظَهُ أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةِ بالطبع حافظةً
له من الأذَى، كما جرى لسفينةَ مولَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث كُسرَ به المركبُ، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسدَ، فجعلَ يمشِي معهُ حتَّى دلَّه على الطريقِ، فلمَّا أوقفَهُ عليها، جعلَ يُهمهِمُ كأنَّه يُودِّعُهُ، ثم رجعَ عنه.(2/312)
ورُوي أنَّ إبراهيمَ بنَ أدهم كانَ نائمًا في بستانٍ وعنده حيةٌ في فمها طاقةُ
نرجسٍ، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ.
وعكسُ هذا، أن من ضيعَ اللَّه، ضيَّعهُ اللَّهُ، فضاع بين خلقِهِ حتى يدخلَ
عليه الضررُ والأذى ممنَ كانَ يرجُو نفعَهُ من أهلهِ وغيرِهم، كما قالَ بعضُ
السلفِ: إني لأعصِي اللَّهَ، فأعرِفُ ذلكَ في خُلُقِ خادمِي ودابتي.
النوعُ الثانِي من الحفظِ: وهو أشرفُ النوعينِ: حفظُ اللَّهِ للعبدِ في دينهِ
وإيمانهِ، فيحفظُه في حياتِه من الشبهاتِ المُضِلَّةِ، ومن الشهواتِ المحرَّمةِ.
ويحفظُ عليه دينه عند موتِهِ، فيتوفاه على الإيمانِ.
قال بعضُ السلفِ: إذا حضرَ الرجلُ الموتَ يقالُ للملكِ: شمَّ رأسَهُ، قالَ:
أجدُ في رأسِهِ القرآنَ، قالَ: شمَّ قلبه، قال: أجد في قلبهِ الصيامَ، قال: شمَّ قدميهِ، قالَ: أجد في قدميه القيامَ، قالَ: حفظَ نفسَه، فحفظهُ اللَّهُ.
وفي "الصحيحينِ " عن البراءِ بن عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرَهُ أن يقولَ عندَ منامِهِ: "إن قبضتَ نفسِي، فارحمْهَا، وإنْ أرسلتَها، فاحفظهَا بما تحفظُ به عبادَك الصالحينَ ".
وفي حديثِ عمرَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَهُ أن يقولَ:
"اللَّهمَّ احفظِني بالإسلام قائمًا، واحفظِني بالإسلامِ قاعِدًا، واحفظنِي بالإسلامِ راقِدًا، ولا تُطعْ فيَّ عدوًّا ولا حاسِدًا".
خرَّجَه ابنُ حبانَ في "صحيحه ".
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يودع من أرادَ سفرًا، فيقولُ: "أستودع الله دينكَ وأمانتَكَ وخواتِيمَ عملك "،(2/313)
وكان يقولُ: "إن اللهَ إذَا استُودِعَ شيئا حفظهُ ".
خرَّجَهُ النسائيُّ وعيره
وفي الجملةِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يحفظُ على المؤمنِ الحافظِ لحدودِ دينهِ.
ويحُولُ بينه وبين ما يُفسدُ عليه دينَه بأنواع منَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ
ببعضِهَا، وقد يكونُ كارِهًا له، كما قالَ في حقِّ يوسُف عليه السلام:
(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) .
قال ابنُ عباسٍ في قوله تعالَى: (أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) .
قال: يحولُ بين المؤمنِ وبين المعصيةِ التي تجرهُ إلى النارِ.
وقال الحسنُ - وذكرَ أهلَ المعاصِي -: هانُوا عليهِ، فعَصوْه، ولو عزُّوا عليه لعصمَهُم.
وقال ابنُ مسعودٍ: إنَّ العبدَ ليهمُّ بالأمرِ من التجارةِ والإمارةِ حتى يُيسر لهُ.
فينظرُ اللَهُ إليه فيقولُ للملائكةِ: اصرفوه عنهُ، فإنهُ إن يسرتُهُ له أدخلتُه النارَ، فيصرفه اللَّهُ عنهُ، فيظلُّ يتطيَّرُ يقولُ: سبقنِي فلانٌ دهانِي فلان، وما هو إلا فضلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
" يقولُ اللَهُ عزَّ وجلَّ: إن من عبادِي من لا يُصلحُ إيمانَهُ إلا الفقرُ، وإن بسطتُ عليه أفسدَهُ ذلكَ، وإن من عبادِي من لا يصلحُ إيمانَه إلا الغِنى، ولو أفقرتُه، لأفسدَهُ ذلكَ، وإنَّ من عبادِي من لا يصلحُ إيمانَهُ إلا
الصّحَّةُ، ولو أسقمتُهُ لأفسدَهُ ذلكَ، وإنَّ من عبادِي مَن لا يصلحُ إيمانُه إلا السقمُ،(2/314)
ولو أصححتُهُ لأفسدَهُ ذلكَ، وإن من عبادِي من يطلبُ بابَا من العبادةٍ فأكفُّه عنهُ، لكيلا يدخلهُ العُجبُ، إني أدبرُ عبادِي بعلمِي بما في قلوبِهِم، إنِّي عليمٌ خبيرٌ.
* * *
قوله تعالى: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)
قال الفضيلُ في قولِهِ تعالى: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)
قال: "هو الرجلُ يذكرُ ذنوبَهُ في الخلاءِ فيستغفرُ اللهَ منهَا".
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
وقال الحكمُ: سُئِل أبو مجلز عن الرجلِ يضعُ إحْدَى رجليهِ على الأُخْرَى؟
فقالَ: لا بأسَ بِهِ، إنَما هذا شيء قالهُ اليهودُ: إن اللَّهَ لَمَّا خَلقَ السماواتِ
والأرضَ استراحَ، فجلسَ هذه الجلسةَ، فأنزلَ اللَّهُ عز وجل:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) .
خرَّجه أبو جعفر ابنُ أبي شيبةَ في "تاريخِهِ ".
وقد ذكرَ غيرُ واحدِ من التابعينَ: أنَّ هذهْ الآيةَ نزلت بسببِ قولِ اليهود:
إنَّ اللَّهَ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامِ ثم استراحَ في اليومِ السابع.
منهُم: عِكرمةُ وقتادةُ.(2/315)
فهذا كلامُ أئمةِ السلفِ في إنكارِ ذلكَ ونسبتهِ إلى اليهودِ، وهذا يدلُّ على
أن الحديثَ المرفوعَ المرويّ في ذلكَ لا أصلَ لرفعِهِ، وإنَّما هو متلقى عن
اليهودِ، ومَن قالَ: إنَّه على شرطِ الشيخينِ فقدْ أخطأ.
وهو من روايةِ محمدِ بنِ فُليح بنِ سليمانَ، عن أبيهِ، عن سعيدِ بنِ
الحارثِ، عن عُبيدِ بنِ حُنين: سمعَ قتادةَ بنَ النعمانِ يحدثُهُ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعنى قولِ أبي مُجلز.
وفي آخرِه: وقالَ عزَّ وجل: " إنها لا تصلحُ لبشر".
وعُبيد بنُ حُنين، قيلَ: إنه لمْ يسمعْ من قتادةَ بنِ النعمانِ -:
قالَهُ البيهقيُّ.
وفُليحٌ، وإن خرَّج له البخاريُّ فقد سبقَ كلامُ أئمةِ الحفاظِ في تضعيفِهِ.
وكان يحيى بنُ سعيدٍ يقشعِرُّ من أحاديثِهِ، وقال أبو زُرعةَ - فيما رواه عنه
سعيد البرذعيّ -: فُليحٌ واهي الحديثِ، وابنُهُ محمدٌ واهي الحديثِ.
ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يروِي عن ربِّه أنه قالَ:
"إنها لا تصلحُ لبشرٍ"
لم يفعله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان قد انتسخ فِعله الأول بهذا النهي لم يستمر على فعله خلفاؤه الراشدون الذين هم أعلمُ أصحابهِ به، وأتبعهم لهديه وسنته.
وقد رُوي عن قتادَة بنِ النعمانِ من وجهٍ آخر منقطع، من روايةِ سالمٍ أبي
النضر، عن قتادةَ بنِ النعمانِ - ولم يدركْهُ -، أنه رَوَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن ذلكَ.
خرَّجه الإمامُ أحمد.
وهذا محتملٌ، كما رواه عنه جابرٌ وغيرُه. فأما هذه الطَّامةُ، فلا تحتملُ
أصلاً.(2/316)
وقد قيلَ: إن هذا مما اشتبهَ على بعضِ الرواةِ فيه ما قالَهُ بعضُ اليهود.
فظنه مرفوعًا فرفَعَهُ، وقد وَقَعَ مثلُ هذا لغيرِ واحدٍ من متقدمِي الرواةِ، وأُنكرَ ذلك عليهِم، وأنكرَ الزبيرُ على من سَمِعَهُ يحدثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقالَ: إنَّما حكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعضِ أهلِ الكتابِ.
فرَوَى مسلمُ بنُ الحجاج في "كتابِ التفصيلِ" والبيهقيُّ في "المدخلِ " من
روايةِ ابنِ أبي الزِّناد، عن هشامِ بن عُروةَ، عن عبدِ اللهِ عُروةَ، عن عُروةَ.
أن الزبيرَ سمع رجلاً يحدثُ حديثًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستمعَ الزبيرُ له، حتَى إذا قَضَى الرجلُ حديثَه قال لهُ الزبيرُ: أنتَ سمعتَ هذا من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟
قال الرجلُ: نعم.
فقالَ الزبيرُ: هذا وأشباهه مما يمنعَنا أن نحدثَ عن رسولِ
اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قد - لعمرِي - سمعتُ هذا من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذٍ حاضر، ولكنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ هذا الحديثَ، فحدثناهُ عن رجلٍ من أهلِ الكتابِ
حدَّثه إياه، فجئتَ أنتَ بعد أن تقضَّى صدرُ الحديثِ وذكرُ الرجلِ الذي من
أهلِ الكتابِ، فظننتَ أنه من حديث رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وروى مسلمٌ - أيضًا - في "كتابِ التفصيلِ " بإسنادٍ صحيح، عن بُكيرِ
ابنِ الأشَج، قالَ: قال لنا بُسر بنُ سعيدٍ: أيها الناسُ، اتقوا الله، وتحفظُوا في الحديثِ، فواللَّهِ لقد رأيتُنَا نجالسُ أبا هريرةَ، فيحدثنا عن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ويحدثُنا عن كعبٍ، ثم يقومُ، فأسمعُ بعضَ من كانَ معنا يجعلُ حديثَ
رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن كعب، ويجعل حديثَ كعبٍ عن رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.(2/317)
ولو ذكرنا الأحاديثَ المرفوعةَ التي أُعِلَّت بأنها موقوفة: إمَّا على عبدِ
اللَّهِ بن سلام، أو على كعبٍ، واشتبهتْ على بعضِ الرواةِ فرفَعَها، لطالَ
الأمرُ.
* * *(2/318)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
وقال سفيانُ الثوريُّ: قرأ واصِلٌ الأحدبُ هذه الآية: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) ، فقالَ: ألا إنَّ رزقي في السماءِ وأنا أطلبُه في
الأرضِ؟ فدخل خَربةً، فمكث ثلاثا لا يُصيب شيئًا، فلمَّا كان اليومُ الرابعُ، إذ هو بدوخَلَّةٍ من رُطَبٍ، وكانَ له أخ أحسن نيةً منه، فدخلَ معه فصارتَا
دوخَلَتينِ، فلم يزلْ ذلك دأبُهما حتَّى فرَّق الموتُ بينهما.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
إن اللَّهَ تعالى خلقَ الخلقَ وأوجدَهُم لعبادَتِهِ الجامعةِ لخشيتهِ ورجائه ومحبتهِ
كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
وإَنَّما يُعبدُ اللَّهُ سبحانه بعد العلم به ومعرفتهِ، فبذلكَ خلقَ السمواتِ والأرضَ وما فيهما للاستدلالِ بهمَا على توحيدِهِ وعظمتِهِ كما قالَ تعالَى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) .
وقد عُلِمَ أنَّ العبادةَ إنما تُبنى على ثلاثةِ أصول: الخوفِ، والرجاءِ، والمحبةِ.(2/319)
وكلٌّ منهما فرضٌ لازِم، والجمعُ بين الثلاثةِ حتم واجبا، فلهذا كانَ
السلفُ يذمونَ من تعبَّدَ بواحدٍ منها وأهملَ الآخَرَينِ، فإن بدعَ الخوارج ومن
أشبهَهُم إنما حدثتْ من التشديدِ في الخوفِ والإعراضِ عن المحبةِ والرجاءِ.
وبدعُ المرجئةِ نشأتْ من التعلقِ بالرجاءِ وحدَهُ والإعراض عن الخوفِ، وبدعُ
كثيرٍ من أهلِ الإباحةِ والحلول ممن يُنسبُ إلى التعبدِ نشأتْ من إفرادِ المحبةِ
والإعراضِ عن الخوفِ والرجاءِ.
وقد كثُرَ في المتأخرينَ المنتسبينَ إلى السلوكِ تجريدُ الكلامِ في المحبةِ وتوسيعُ
القول فيها بما لا يُساوي على الحقيقةِ مثقال حبةٍ، إذ هو عار عن الاستدلال
بالكتابِ والسنةِ، وخال من ذكرِ كلامِ مَنْ سلفَ من سلفَّ الأمةِ وأعيانِ
الأئمةِ، وإنَّما هو مجردُ دعاوى، قد تُشرِفُ بأصحابِهَا على مَهَاوِي، وربما
استشهدُوا بأشعارِ عشاقِ الصورِ، وفي ذلكَ ما فيه من عظيم الخطرِ، وقد
يحكونَ حكاياتِ العشاقِ، ويشيرونَ إلى التأدبِ بما سلكُوه من الآدابِ
والأخلاق، وكل هذا ضررُه عظيمٌ، وخطرُه جسيم، وقد يكثِر ذكرَ المحبةِ.
ويعيدُها ويبديها مَنْ هو بعيدٌ عن التلبسِ بمقدماتِها ومبادِيها، وما أحسنَ قول
ذي النونِ رحمه اللَهُ تعالى وقد ذُكِرَ عنده الكلامُ في المحبةِ فقال:
"اسكُتُوا عن هذه المسألةِ لا تسمعُهَا النفوسُ فتدَّعِيها"، فإن النفوسَ ممتلثة من الكبرِ والفخرِ والغرورِ، "والمتشبعُ بمما لم يُعطَ كلابسِ ثوبي زور".
وكثير ما تقترنُ دعوى المحبةِ بالشطح والإدلال وما ينافي العبوديةَ من الأقوال والأفعال.
* * *(2/320)
سُورَةُ النَّجْم
قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
وقدْ أفْتَى قاضي القضاةِ أبو بكرٍ محمدُ بنُ المظفرِ الشاميُّ الشافعيُّ - وكانَ
أحدَ العُلماءِ الصَّالحينَ الزُّهادِ، الحاكمينَ بالعدلِ وكانَ يُقالُ عنْهُ: لو رُفِعَ
مذهبُ الشافعيِّ من الأرضِ لأمْلاهُ من صدرِه - بتحريمِ الغناءِ، وهذه صورةُ
فُتياهُ بحروفِهَا، قال: لا يجُوزُ الضربُ بالقضيبِ ولا الغناءُ ولا سماعُه، ومن
أضافَ هذا إلى الشافعيِّ فقدْ كذبَ عليهِ.
وقد نصَّ الشافعيّ في كتابِ "أدبِ القضاءِ": أنَّ الرجلَ إذا داوَم على سماع الغناءِ، رُدّتْ شهادته، وبطلتْ عدالتُه.
وقال اللَّه تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) .
قاِل ابنُ عباسٍ: معناه تُغَنُّون بلغةِ حِمير.
وقال اللَّهُ عزَّ جلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاءَ في التفسير: أنه الغناءُ والاستماعُ إليهِ.
ورُوي عن رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ:
"إن اللهَ كَرِهَ صوتينِ أحمقَينِ فاجِرَينِ: صوتٌ عند نعمة، وصوتٌ عندَ مصيبة".
يُريد بذلكَ الغناءَ والنوحَ.
وقال ابنُ مسعود: الغناًءُ خِطبةُ الزِّنا.
وقالً مكحول: الغناءُ ينبتُ النفاقَ في القلبِ، كما ينبتُ السَّيلُ البقْلَ. واللَّه أعلم.(2/321)
هذا جوابُ محمدِ بنِ المظفرِ الشاميّ الشافعيِّ. ثم كتبَ بعدَهُ موافقةً له
على فُتياه، جماعةٌ من أعيانِ فقهاءِ بغدادَ: من الشافعيةِ والحنفيّةِ والحنبليَّةِ في
ذلكَ الزَّمانِ، وهو عصرُ الأربع مائةَ.
وهذا يخالفُ قولَ كثيرٍ من الشافعيَّةِ، في حمل كلامِ الشافعي على كراهةِ التنزيهِ.
والمعنى المقتضِي لتحريمِ الغناءِ: أنَّ النفوسَ مجبولة على حُبِّ الشهواتِ.
كما قالَ تعالى: (زُيِنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النسَاءِ) الآية، فجعلَ
النساءَ أوّلَ الشهواتِ المزينةِ.
والغناءُ المشتملُ على وصفِ ما جُبلتِ النفوسُ على حبِّه، والشَّغفِ به - من الصُّوَر الجميلةِ - يُثيرُ ما كمنَ في النفوسِ من
تلك المحبّةِ ويُشوِّقُ إليها، ويُحرِّكُ الطبعَ ويزعجُه، ويخرجُه عن الاعتدالِ.
ويؤُزُّه إلى المعاصِي أزًّا.
ولهذا قِيل: إنه رقيةُ الزنا.
وقد افتُتن بسماع الغناء، خلقٌ كثيرٌ فأخرَّجَهُم استماعُه إلى العشقِ، وفُتنوا
في دينهِم، فلو لم يرِد نصٌّ صريح في تحريمِ الغناءِ بالشعرِ الذي تُوصفُ فيه
الصُّورُ الجميلة لكانَ محرَّمًا بالقياسِ على النظرِ إلى الصُّورِ الجميلةِ التي يحرمُ
النظرُ إليها بالشهوةِ، بالكتابِ والسنةِ وإجماع من يُعتدُّ به من علماءِ الأمةِ.
فإنَّ الفتنةَ كَما تحصُلُ بالنظرِ والمشاهدةِ، فكذلك تحصُلُ بسماع الأوصافِ.
واجتلائِها من الشعرِ الموزونِ المحرك للشهواتِ.
ولهذا نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن تصفَ المرأةُ المرأةَ لزوجها، كأنّه ينظرُ إليها.
لِمَا يُخشى من ذلكَ من الفتنةِ.
وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زِنا العينينِ النظرَ.
وزنا الأذنينِ الاستماع.
وقالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: ثلاث فاتناتٌ مُفتناتٌ يُكببنَ في(2/322)
النارِ: رجلٌ ذُو صور حسنة، فاتنٌ مفتونٌ به يُكبُّ في النار، ورجلٌ ذو شعر
حسن، فاتن مفتون به يُكَمث في النارِ، ورجل ذو صوت حسن، فاتن مفتون به يُكبُّ في النارِ.
خرَّجَه حميد بن زنجويه في "كتابِ الأدَّبَ ".
* * *(2/323)
سُورَةُ القَمَرِ
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
ومن أنواع عذابِهم سحبُهم في النَّارِ على وجوهِهم، قالَ اللَّهُ تعالى:
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) .
وقالَ تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) .
قالَ قتادةُ: يسحبُونَ في النارِ مرةً وفي الحميم مرةً، وقالَ تعالى:
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) .
وقالَ قتادةُ: قالَ ابنُ عباس (صَعُودًا) : صخرة في جهنمَ يُسحَبُ
عليها الكافرُ على وجهِه.
وقالَ كعب: يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ للإمامِ الجائرِ: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) .
فيُسحَبُ على وجهِه في النَّارِ، فينتثرُ لحمهُ وعظامُه ومخهُ.
وقالَ ثابتٌ أبو زيد القيسيُّ، عن عاصم الأحول، عن أبي منصورٍ مَولى
سليم أن ابنَ عباس قالَ: (يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ) .
قالَ أبو زيدٍ: أُراه قالَ: ينسلخُ كل شيءٍ عليه من جلدٍ ولحم وعروق وأعصابٍ حتَى(2/324)
يصيرَ في عقبيهِ جسدٌ من لحمِهِ مثلُ طولِه، وطولُهُ ستونَ ذراعًا، ثمَّ يُكسَى
جلدًا آخرَ، ثمَّ يسجرُ في الحميم.
خرَّجُه كلَّه ابنُ أبي حاتمٍ.
* * *(2/325)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
إنَّ الشتاء له مشرقٌ ومغربٌ، والصيفَ كذلك، ولهذا ثَنَّاهما اللَّه تعالى في
قولِهِ: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) .
وجمعَهما في قولهِ: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ، باعتبار مشارق الشتاءِ والصيفِ والخريفِ والربيع؛ فإن لكلِ يومٍ من السنةِ مطلعًا مشرقًا خاصا ومغربًا خاصا.
وأفردَهما في قوله: (رَبُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، باعتبار الجنسِ.
* * *
قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
وقد ضمِنَ اللَّهُ سبحانَهُ الجنةَ لمن خافَهُ من أهلِ الإيمانِ، فقالَ تعالَى:
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
قال مجاهد: في هذه ِ الآية: اللَّهُ قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبتْ، فمن أرادَ أن يعملَ شيئًا فخافَ مقامَ ربِّه عليه، فله جنتان.
وعنه أنه قال: هو الرجلُ يذنبُ فيذكرُ مقامَ اللَّهِ فيدعهُ.
وعنه قال: هو الرجلُ يهمُّ بالمعصيةِ فيذكرُ اللَّهَ فيترُكُها.(2/326)
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ: وعد اللَّهُ المؤمنينَ الذين خافُوا
مقامَهُ وأدَّوا فرائِضَهُ الجنةَ.
وعن الحسنِ، قالَ: قالتِ الجنةُ: يا ربِّ لمنْ خلقْتني، قالَ: لمن يعبدُني
وهو يخافُني.
وقال يزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الشخيرِ: كنَّا نحدَّثُ أنَّ صاحبَ النارِ الذي لا
تمنعُهُ مخافةُ اللَّهِ من شيءٍ خفي له.
وعن وهبِ بنِ منبهٍ، قال: ما عُبدَ اللَّهُ بمثلِ الخوفِ.
وقال أبو سليمانَ الدارانيُّ: أصلُ كل خيرٍ في الدنيا والآخرةِ الخوفُ من
اللَّهِ عزَّ وجل، وكلُّ قلب ليسَ فيه خوفُ اللَّهِ فهو قلب خربٌ.
وقال وهيبُ بنُ الوردِ: بلغنا أنَّه ضُرب لخوفِ اللَّهِ مثل في الجسدِ، قيلَ:
إنما مثلُ خوفِ اللَهِ، كمثلِ الرجلِ يكونُ في منزلِهِ فلا يزالُ عامِرًا ما دامَ فيه
رتُه، فإذا فارقَ المنزلَ ربُّه وسكنَهُ غيرُه خربَ المنزلُ، وكذلكَ خوفُ اللَّهِ
تعالَى، إذا كانَ في جسدٍ لم يزلْ عامِرًا ما دامَ فيه خوفُ اللَهِ، فإذا فارقَ
خوفُ الله الجسدَ خربَ، حتى إنَّ المار يمرُّ بالمجلسِ من الناسِ فيقولونَ: بِئسَ
العبدُ فلان، فيقولُ بعضُهم لبعضٍ: ما رأيتم منه؟
فيقولونَ: ما رأينا منه شيئًا غيرَ أنَا نبغضه، وذلك أن خوفَ اللَّهِ فارقَ جسدَه، وإذا مر بهم الرجلُ فيه خوفُ اللَّهِ، قالُوا: نِعْمَ واللهِ الرجلُ، فيقولونَ: أيَّ شيءٍ رأيتم منه؟
فيقولونَ: ما رأينا منه شيئًا غيرَ أنَّا نحته.
وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ: الخوفُ أفضلُ من الرجاءِ ما كَانَ الرجلُ
صحيحًا، فإِذا نزلَ الموتُ فالرجاءُ أفضلُ.(2/327)
وسُئلَ ابنُ المبارك عن رجلينِ، أحدُهما خائفٌ والآخرُ قتيلٌ في سبيلِ اللَّهِ
عز وجل، قال: أحبُّهما إلىَّ أخوفُهُما.
* * *(2/328)
سُورَةُ الوَاقِعَةِ
قوله تعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
وقال محمدُ بن كعبٍ القُرظِيُّ في قولهِ تَعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) .
قال: تخفض رجالاً كانُوا في الدّنيا مرتفعينَ، وترفعُ رجالاً كانوا في الدُّنيا مخفوضين.
* * *
قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
قالَ اللَّهُ تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) .
قالَ ابنُ عباسٍ؛ ظلٌّ من دخانٍ، وكذا قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وغيرُ واحدٍ.
وعن مجاهدٍ قالَ: ظل من دخانِ جهنمَ، وهو السَّمُومُ؛ وقالَ أبو مالكٌ:
اليحمومُ: ظلٌّ من دخانِ جهنمَ.
قالَ الحسنُ وقتادةُ في قولهِ: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) لا باردُ المدخلِ، ولا كريمُ المنظرِ؛ والسَّمُومُ: هو الريحُ(2/329)
الحارةُ، قالَه قتادةُ وغيرُه.
وهذه الآية ُ تضمنتْ ذكرَ ما يُتبردُ به في الدُّنيا من الكربِ والحرِّ وهو ثلاثة:
الماءُ والهواءُ والظلُّ، فهواءُ جهنمَ: السمومُ وهو الريحُ الحارَةُ الشديدةُ الحرِّ، وماؤُها الحميمُ الذي قدْ اشتدَّ حرُّهُ، وظلُّها اليحمومُ وهو قطعُ دخانِها، أجارَنا اللهُ من ذلك كلِّه بكرمِه ومنِّه.
وقالَ تعالى: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) .
قالَ مجاهد:
هو دخانُ جهنمَ: اللهبُ الأخضرُ والأسودُ والأصفرُ الذي يعلو النَّارُ إذا
أُوقِدتْ.
قالَ السديُّ في قولهِ: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) ، قال: زعمُوا أن
شررَها ترمي به، كأصولِ الشجرِ ثمَّ يرتفعُ فيمتدُّ.
وقالَ القرظيُّ: على جهنمَ سور فما خرج من وراءِ سورِها يخرجُ منها في عظم القصورِ ولونِ القارِ.
وقال الحسنُ والضحاكُ في قوله: (كالْقَصْرِ) هو كأصولِ الشجرِ العظامِ.
وقالَ مجاهد: قطعُ الشجرِ والجبلِ.
وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ قالَ: شرر كالقصورِ والمدائنِ.
ورَوى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ قالَ: (بِشَرَرٍ كالْقَصْرِ)
يقولُ: كالقصرِ العظيم.
وفي "صحيح البخاريّ " عن ابنِ عباس، قالَ: كنا نرفعُ من الخشبِ
بقصرِ ثلاثةَ أذرع أو أقلَّ نرفعُه للشتاءِ، نُسميه القصرَ.
وقولُه: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) ، قالَ ابنُ عباسٍ: حبالُ السفنِ
يُجمَعُ بعضُها إلى بعضٍ تكونُ كأوساطِ الرجالِ.
وقالَ مجاهد: هي حبالُ الجسورِ،(2/330)
وقالتْ طائفة: هي الإبلُ، منهم الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، وقالوا:
الصفرُ هي السودُ.
ورُوي عن مجاهدٍ أيضا.
وقالَ عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: (جِمَالَتٌ صُفْرٌ)
يقولُ: قِطَعُ النحاسِ.
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) .
قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) يقولُ: لهبُ النَّارِ (وَنُحَاسٌ) يقولُ: دخانُ النارِ. ْ
وكذا قالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ وأبو صالح وغيرُهما إنَّ النحاسَ: دخانُ النَارِ.
وقالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ عن ابنِ عباس (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قالَ: دخانٌ.
وقال أبو صالح: الشواظُ: اللهبُ الذي فوقَ النَّارِ ودونَ الدخانِ.
قالَ منصور عن مجاهدٍ: الشواظُ: هو اللهب الأخضرُ المتقطعُ.
وعنه قالَ: الشواظُ: قطعة من النَّارِ فيها خُضرة.
قالَ الحسينُ بنُ منصورٍ: أخرج الفضيلُ بنُ عياضٍ رأسه من خوخةٍ فقالَ
منصورٌ عن مجاهدٍ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ)
، ثمَّ أدخلَ رأسَه فانتحَب ثم أخرجَ رأسَه، فقالَ: هو اللهبُ المنقطعُ
ولم يستطعْ أنْ يجيزَ الحديثَ.
وخرَّجَ النسائيُّ والترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا يجتمعُ غباز في سبيلِ اللَّهِ ودخانُ جهنمَ في جوفِ امرئ أبدًا "،(2/331)
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ أبي الدرداءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوَه.
* * *
قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) .
والنُّزلُ هو ما يعُدُّ للضيفِ عندَ قدومهِ، فدلتْ هذه الآياتُ على أنَّ أهلَ
النَّارِ يتحفُونَ عند دخولهِا بالأكلِ من شجرةِ الزقومِ والشربِ من الحميم، وهم إنَّما يُساقُونَ إلى جهنمَ عِطاشًا، كما قالَ تعالى:
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) .
قال أبو عمرانَ الجوني: بلغنا أنَّ أهلَ النَّارِ يبعثُون عِطاشًا ثمَّ
يقفُونَ مشاهدَ القيامةِ عِطَاشًا، ثمَّ قَرا: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) قال مجاهد في تفسيرِ هذه الآيةِ: متقطعةٌ أعناقُهم عَطَشًا.
وقالَ مطرٌ الوراق: عطَاشًا: ظمَاءً.
وفي "الصحيحينِ " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الشفاعة الطويل: "إنَّه يقالُ(2/332)
لليهودِ والنصارى: ماذا تبغُون؟
فيقولُون: عَطِشْنا ربَّنا فاسقِنا، فيُشارُ إليهم ألا تردِونَ
فيُحشرونَ إلى جهنمَ كأنَهما سرابٌ يحطمُ بعضُها بعضا، فيتساقطُونَ في النَّارِ".
وقالَ أيوبُ عن الحسنِ: ما ظنُكَ بقومِ قاموا على أقدامِهم خمسينَ ألفَ
سنةِ لم يأكُلوا فيها أكلةً ولم يشربُوا فيها شربةً حتَّى انقطعتْ أعناقُهم عطشًا
واحترقتْ أجوافُهم جُوعًا، ثُمَّ انصرفَ بهم إلى النَّارِ فيُسقَونَ من عينٍ آنيةٍ قدْ
آنَ حرُّها واشتدَّ نضجُها.
ورَوى ابنُ المبارك بإسناده عن كعبٍ، قالَ: إنَّ اللَّهَ ينظرُ إلى عبدهِ يومَ
القيامةِ وهو غضبانٌ، فيقولُ: خذُوه، فيأخذه مائة ألفِ ملكٍ أو يزيدُون.
فيجمعون بينَ ناصيتهِ وقدميه غضبًا لغضبِ اللَهِ، فيسحبونه على وجههِ إلى
النَّارِ، قالَ: فالنَّارُ أشدّ عليه غضبًا من غضبهم سبعينَ ضعفًا.
قال: فيستغيثُ بشرْبَةٍ، فيُسقى شربةً يسقطُ منها لحمُه وعصبُه، ثمَّ يركسُ - أو يدكسُ - في النَّارِ، فويلٌ لها من النَّارِ.
قال ابنُ المباركِ: حُدثتُ عن بعضِ أهلِ المدينةِ أنَّه يتفتتُ في أيديهم إذا
أخذُوه فيقولُ: ألا ترحمُوني، فيقولُون: كيفَ نرحمُك ولمَ يرحمك أرحمُ
الراحمِينَ.
وروى الأعمشُ عن مالكِ بن الحارثِ، قال: إذا طُرحَ الرجلُ في النارِ
هوى فيها، فإذا انتهى إلى بعضِ أبوابها قيلَ: مكانَك حتَّى تُتْحَفَ، قال:
فيسُقى كأسًا من سُمِّ الأساودِ والعقاربِ، فيتميزُ الجلدُ على حدةٍ، والشعرُ
على حدةٍ، والعصبُ على حدةٍ، والعروقُ على حدةِ.
خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ.
وروى محمدُ بنُ سليمانَ بنِ الأصبهانيّ، عن أبي سنانَ ضرار بنِ مرة،(2/333)
عن عبدِ اللَّه بنِ أبي الهذيلِ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"إنَّ جهنمَ لما سِيقَ إليها أهلُها تلقتهُم فلفحتهُم لفحةً، فلم تدع لحمًا على عظم إلا ألقته على العرقوبِ "
خرَّجَه الطبرانيُّ ورفْعُه منكرٌ، فقد رواه ابنُ عيينة عن أبي سنانَ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي الهذيلِ أو غيرهِ من قولهِ لم يرفعْه.
ورواه محمدُ بنُ فضيل عن أبي سنانَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي الهذيلِ عن أبي هريرةَ من قولهِ في قولهِ تعالى: (لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ) ، قالَ: تلقاهُم جهنمُ يومَ القيامةِ فتلفحُهم لفحةً، فلا تتركُ لحما على عظمٍ إلا وضعتْهُ على العراقيبِ.
* * *
وأما شرابُهم فقالَ اللَّهُ تعالى: (فَشَارِبونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيم)
وقالَ تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) .
وقالَ تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) .
وقالَ تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) .
وقالَ تعالى: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) .
وقالَ تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) .
فهذه أربعةُ أنواع ذكرناها من شرابِهم، وقد ذكرَها اللَّهُ في كتابهِ:
النوعُ الأولُ: الحميمُ - قال عبدُ اللَّهِ بنُ عيسى الخراز، عن داودَ، عن
عكرمةَ، عن ابنِ عباس: الحميمُ الحارُّ الذي يحرق.(2/334)
وقال الحسنُ والسديُّ: الحميمُ الذي قد انتهى حرُّهُ.
وقال جويبر عن الضحاكِ: يُسقى من حميم يُغلى من يومِ خلقَ اللَّهُ
السماواتِ والأرضَ إلى يومِ يُسقَونَه ويُصبُّ على رؤوسِهم.
وقالَ ابنُ وهب عن ابن زيد: الحميمُ دموعُ أعينهم في النارِ يجتمعُ في
حياض النارِ فيُسْقَونَه.
وقال تعالى: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) .
قال محمدُ بنُ كعبٍ: حميم أن: حاضرٌ، وخالفَه الجمهورُ، فقالوا: بل
المرادُ بالآن: ما انتهى حرُّه.
وقال شبيبٌ، عن عكرمَة، عن ابنِ عباسٍ: حميم آنٍ: الذي قد انتهى
غليُه.
وقال سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ: قد آنَ طبخُه، منذُ خلقَ اللَّه السماواتِ
والأرضَ، وقالَ تعالى: (تسْقَى مِنْ عَيْن آنِيَة) ، قال مجاهدٌ: قد بلغَ
حرُّها، وحانَ شربُها.
وعن الحسنِ، قالَ: كانت العربُ تقولُ للشيءِ إذا انتهى حرُّهُ حتى لا
يكون شيء أحرَّ منه: قد آنَ حرُّهُ، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (مِنْ عَينٍ آنِيَة)
يقول: قد أوقدَ اللَّهُ عليها جهنمَ منذُ خُلقتْ، وآنَ حرُّها.
وعنه قال: آنَ طبخُها منذُ خلقَ اللَّهُ السمواتِ والأرضَ.
وقال السديُّ: انتهى حرُّها، فليس بعدَه حرٌّ.
وقد سبقَ حديثُ أبي الدرداء، في دفع الحميم إليهم بكلاليبِ الحديدِ.
النوع الثاني: الغسَّاقُ - قال ابنُ عباسٍ: الغسَّاقُ: ما يسيلُ من بينِ جلدِ(2/335)
الكافرِ ولحمهِ.
وعنه قال: الغسَّاقُ: الزمهريرُ الباردُ، الذي يحرقُ من بردهِ.
وعن عبدِ اللَّه بنِ عمرٍو قال: الغسَّاقُ: القيحُ الغليظُ، لو أنَّ قطرةً منه
تُهرقُ في المغربِ، لأنتنتْ أهلَ المشرقِ، ولو أُهرِقَتْ في المشرقِ، لأنتنتْ أهلَ المغربِ.
وقال مجاهدٌ: غسَّاق: الذي لا يستطيعُون أنْ يذوقُوه من بردِه.
وقال عطيةُ: هو ما يغسِقُ من جلودِهم - يعني يسيلُ من جلودِهم.
وقال كعب: غسَّاق: عينٌ في جهنم يسيلُ إليها حمة كلُّ ذاتِ حمةٍ، من
حيةٍ وعقربٍ وغيرِ ذلك، فيستنقعُ؛ فيؤتَى بالآدَمي، فيُغمسُ فيها غمسةً
واحدةً، فيخرجُ وقد سقطَ جلدُه ولحمُه عن العظامِ؛ ويتعلقُ جلدُه ولحمُه في
عقبيهِ وكعبيهِ، ويجر لحمَه، كما يجر الرجلُ ثوبَه.
وقال السديُّ: الغسَّاق: الذي يسيلُ من أعينهِم من دموعِهم، يُسقونَه معَ
الحميمِ.
وروى دراجٌ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
" لو أن دلوًا من غسَّاقٍ، يُهرَقُ في الدنيا، لأنتنَ أهلَ الدُّنيا"
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ والحاكمُ وصححَه.
وقال بلال بنُ سعدٍ: لو أنَّ دلوًا من الغسَّاقِ، وُضعَ على الأرضِ، لماتَ
مَنْ عليها.
وعنه قال: لو أنَّ قطرةً منه، وَقَعتْ على الأرضِ، لأنتن مَن فيها.
خرَّجَه أبو نُعيمٍ.(2/336)
وقدْ صرحَ ابنُ عباسٍ في رواية عنه، ومجاهد، بأنَّ الغسَّاق ههنا هو الباردُ
الشديدُ البردِ.
ويدلُّ عليه قولُه تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) .
فاستثنى من البردِ الغسَّاقَ ومن الشرابِ الحميمَ.
وقد قيل: إن الغسَّاقَ هو الباردُ المنتن، وليس بعربيّ.
وقيل: إنَّه عربيّ، وإنه فَعّال من غسَقَ يَغسِقُ، والغاسقُ: الليلُ، وسُميَ غاسقًا لبردِه.
النوع الثالث: الصَّدِيدُ: - قال مجاهد في قولِه تعالى:
(وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) .
قال: يعني القيحَ والدَّمَ، وقالَ قتادةُ: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)
قال: ما يسيلُ من بينِ لحمِه وجلدهِ؛ قالَ: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) .
قالَ قتادةُ: هلْ لكُم بهذا يدانِ، أم لكُم على هذا صبر؟
طاعةُ اللَّهِ أهونُ عليكُم -
يا قوم - فأطيعُوا اللَّهَ ورسولَه.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ، من حديثِ أبي أمامةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ) .
قال: يقربُ إلى فيه فيكرعُهُ، فإذا أُدني منه، شَوى وجهَه، ووقعت فروةُ
رأسِه؛ فإذا شَرِبه قطَّعَ أمعاءَه، حتَّى يخرجَ من دبرِه، يقولُ اللَّهُ تعالى:
(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَعَ أَمْعَاءَهُمْ) .
وقال: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) .(2/337)
وروى أبو يحيى القتات، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ قالَ: في جهنَم
أوديةٌ من قيع تكتازُّ ثمَّ تُصَبُّ في فِيهِ.
وفي "صحيح مسلم " عن جابر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن على اللهِ عهدًا لمن شَرِبَ المسكراتِ ليسقِيَه من طينةِ الخبالِ ".
قالوا: يا رسولَ اللَّهِ: وما طينةُ الخبَالِ؟
قال: "عَرَقُ أهلِ النارِ أو عُصَارَةُ أهلِ النارِ.
وخرَّج الإمامُ أحمدَ والنسائيُ وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحه " من
حديثِ عبدِ اللَهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَه، إلا أنَّه ذكرَ ذلك في المرةِ الرابعةِ، وفي بعضِ الرواياتِ
"مِنْ عينِ الخبالِ ".
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ عبدِ اللَّه بنِ عمرَ نحوَه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أنَّه قال: "من نهرِ الخبالِ ".
قِيلَ: يا أبا عبدِ الرحمنِ ما نهرُ الخبال؟
قالَ: نهرٌ من صديدِ أهلِ النَّارِ.
وقالَ: حديثٌ حسنٌ.
وخرَّج أبو داود من حديثِ ابنِ عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَه، وقالَ:
"من طينةِ الخبالِ " قِيلَ: يا رسولَ اللَّهِ ما طينةُ الخبالِ؟
قالَ: "صديدُ أهلِ النَّارِ".
وفي روايةٍ أُخرى قالَ:
"ما يخرجُ من زهومة أهلِ النارِ وصديدهم ".
وخرَّجَ الإمامُ أحمدَ بمعناه أيضًا من حديثِ أبي ذرٍّ وأسماءَ بنتِ يزيد عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّج الإمامُ أحمدَ وابنُ حبانَ في "صحيحهِ " من حديثِ أبي موسى(2/338)
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ ماتَ وهو مدمنُ خمرٍ سقَاه اللَّهُ من نهرِ الغوطةِ"، قِيلَ: * وما نهرُ الغوطةِ؟
قال: "نهرٌ يخرجُ من فروج المومساتِ يؤذي أهلَ النَّارِ نتن فروجِهم ".
وقد سبقَ حديثُ عمرِو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المتكبرين وفيه:
"يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ".
النوعُ الرَّابعُ: الماءُ الذي كالمهلِ، خرَّج الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديثِ
دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قولهِ: (كَالْمُهْلِ) قال: "كعكرِ الزيتِ، فإذا قربَ إلى وجههِ سقطتْ
فروة وجههِ فيه ".
قالَ عطيةُ: سُئِلَ ابنُ عباسٍ عن قولهِ: (كَالْمُهْلِ) قال: غليظٌ كدردي
الزيتِ، قال عليٌّ بنُ أبي طالب عن ابنِ عباسٍ: أسود كمهلِ الزيتِ؛ وكذا
قالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ وغيرُه.
قالَ الضحاكُ: أذابَ ابنُ مسعودٍ فضةً من بيتِ المال ثُمَّ أرسلَ إلى أهلِ
المسجدِ، فقالَ: من أحب أن ينظرَ إلى المهلِ فلينظرْ إلى هذا.
وقالَ مجاهد: بماء كالمهلِ: مثلُ القيح والدمِ أسود كعكرِ الزيتِ.
وخرَّج الطبرانيُّ من طريقِ تمام بنِ نجيح عن الحسنِ عن أنسٍ عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -:
"لو أنَّ غَربًا جُعِلَ من حميم جهنمَ وجُعِلَ وسطُ الأرضِ لآذى نتن ريحهِ وشدَّةُ
حرِّه ما بينَ المشرقِ والمغربِ ".
وفي موعظةِ الأوزاعي للمنصورِ قال: بلغَني أنَّ جبريلَ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:(2/339)
" لوأنَّ ذَنُوبًا من شرابِ جهنمَ صُبَّ في ماءِ الأرضِ جميعًا لقتل من ذاقه ".
خرجَ بعضُ المتقدمينَ فمر بكرومٍ بقرية يقال لها: طيزناباد، وكأنَّه كانَ
يُعصرُ فيها الخمرُ، فأنشدَ يقول:
بطيزناباد كَرْم ما مررتُ به. . . إلا تعجبتُ ممن يشربُ الماءَ
فهتف به هاتف يقول:
وفي جهنمَ ماءٌ ما تجرعهُ. . . حلقٌ فأبقى له في البطنِ أمعاء
* * *
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قولِهِ تعالى:
(لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) ، (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) .
قال: تأملتُ دخول اللامِ وخروجَها فرأيتُ المعنى: أنَّ اللامَ تقعُ للاستقبالِ، تقول: لأضربنَّك، أي: فيما بعدُ، لا في الحال، والمعنى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) أي: في مستقبلِ الزَّمان إذا تَمَّ فاستحصدَ، وذلك أشدُّ العذابِ، لأنَّها حالةُ انتهاء(2/340)
تعبِ الزراع، واجتماع الدَّيْنِ عليهِ، لرجاء القضاءِ بعدَ الحصاد مع فراغ
البيوتِ من الأقواتِ.
وأمَّا في الماء، فقال: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) أي: الآنَ، لأنَّا لو
أخَّرْنا ذلك لشربَ العطشانُ، وادَّخَرَ منه الإنسان.
* * *
قوله تعالى: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
وكان من السلفِ من إذا رأَى النارَ اضطربَ وتغيرتْ حالُه، وقد قال تعالىَ
(نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) .
قال مجاهد وغيرُه: يعني أن نارَ الدنيا تذكرُ بنارِ الآخرةِ.
وقال أبو حيانَ التيمي:. سمعتُ منذُ ثلاثينَ سنة أو أكثرَ من ثلاثينَ سنة أنَّ
عبدَ الله بنَ مسعودٍ مَرَّ على الذينَ ينفخُونَ على الكيرِ فسقَطَ.
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ.
وخرج ابنُ أبي الدنيا من روايةِ سعدِ بنِ الأخرمِ، قال: كنتُ أمشِيَ معَ ابنِ
مسعودٍ. فمرَّ بالحدادينَ وقد أخرجُوا حديدًا من النارِ، فقامَ ينظرُ إليه ويبْكِي.
وعن عطاءٍ الخراسانيِّ قال: كانَ أويس القرنيُّ يقفُ على موضِع الحدادينَ
فينظرُ إليه كيفَ ينفخونَ الكيرَ، ويسمعُ صوتَ النارِ فيصرخُ ثم يسقطُ.
وعن ابن أبي الذبابِ: أن طلحةَ وزيدًا مرَّا بكيرِ حدادٍ فوقَفَا ينظرانِ إليه
ويبكيانِ.(2/341)
قال الأعمشُ: أخبرني من رأى الربيعَ بن خثيم مرَّ بالحدادينَ فنظر إلى
الكيرِ وما فيه فخرَّ.
وقال مطر الوراقُ: كان حممةُ وهرمُ بنُ حيانَ إذا أصبحَا غدَيا فمرَّا بأكْوِرَةِ
الحدادينَ، فنظرَا إلى الحديدِ كيفَ ينفخُ، فيقفانِ ويبكيانِ، ويستجيرانِ من
النارِ.
وقال حمادُ بنُ سلمةَ عن ثابت: كانَ بشيرُ بنُ كعبٍ وقراءُ البصرةِ يأتونَ
الحدادينَ فينظرونَ إلى شهيقِ النارِ فيتعوذونَ باللَّهِ من النارِ.
وعن العلاءِ بنِ محمدٍ قالَ: دخلتُ على عطاءٍ السلميِّ فرأيتُه مغشيًّا عليه.
فقلتُ لامرأتِهِ: ما شأنُه؟
قالتْ: سجرتْ جارةٌ لنا التنورَ فلمَّا نظرَ إليه غُشِيَ عليهِ.
وعن معاويةَ الكنديِّ قالَ: مرَّ عطاءٌ السلميّ على صبيٍّ معهُ شعلةُ نارٍ
فأصابت النارَ الريحُ، فسمعَ ذلك منها، فغشِيَ عليهِ.
وقال الحسنُ: كان عمرُ - رضي الله عنه - ربَّما توقدُ له النارُ ثم يدْني يديه منهَا، ثم يقولُ: يا ابنَ الخطابِ هلْ لكَ على هذا صبرٌ.
وكان الأحنفُ بنُ قيسٍ يجيءُ إلى المصباح بالليلِ فيضعُ أصبعهُ فيه، ثم
يقولُ: حِس حِس، ثم يقولُ: يا حنيفُ ما حملكَ على ما صنعتَ يومَ كذا.
ما حملكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟.
وقال البختريُّ بنُ حارثةَ: دخلتُ على عابدٍ، فإذَا بين يديهِ نارٌ قد أجَّجَهَا.
وهوَ يعاتبُ نفسهُ ولم يزلْ يعاتِبُها حتى ماتَ.
وكانَ كثير من الصالحينَ يذكرُ النارَ وأنواعَ عذابِها برؤيةِ ما يشبُههُ بها في(2/342)
الدُّنيا، أو يذكرُهُ بِهَا كرؤيةِ البحرِ وأمواجِهِ والرؤوسِ المشويةِ، وبكاءِ الأطفالِ، وفي الحرِّ والبردِ، وعند الطعامِ والشرابِ وغيرِ ذلكَ، وسنذكرُ ما تيسرَ من ذلكَ مفرَّقًا في مواضِعهِ إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
وأنَّ منهم من كانَ يذكرُ النارَ بدخولِ الحمامِ، وروى ليثٌ عن طلحة قال:
انطلقَ رجلٌ ذاتَ يومٍ فنزعَ ثيابَهُ وتمرغَ في الرمضاءِ وهو يقولُ لنفسِهِ: ذوقي
نارَ جهنمَ ذوقي (نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) ، جيفةٌ بالليلِ بطالةٌ بالنهارِ، فبينا
هو كذلك إذا أبصرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ظلِّ شجرةٍ فأتاهُ، فقالَ: غلبتنِي نفسِي، فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ألم يكنْ لك بدٌّ من الذي صنعتَ؟
لقد فُتحتْ لك أبوابُ السماءِ، ولقد باهَى اللَهُ بكَ الملائكةَ"
خرَّجهُ ابنُ أبي الدنيا وهو مرسلٌ، وخرَّجَ الطبرانيُّ نحوَهُ من حديث بريدةَ موصولاً، وفي إسناده من لا يعْرفُ حالُه.
واللَّهُ أعلم.
* * *.
ومِن أعظم ما يُذكِّرُ بنارِ جهنمَ: النَّارُ التي في الدنيا، قال الله تعالى:
(نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا للْمُقْوِينَ) ، يعني أنَّ نارَ الدُّنيا جعلها اللَّه
تذكرةً تذكِّرُ بنارِ الآخرةِ.
مرَّ ابنُ مسعودٍ بالحدَّادين وقد أخرجُوا حديدًا من
النارِ، فوقفَ ينظرُ إليه ويبكي.
ورُوي عنه: أنَّه مرَّ على الذين ينفُخُون الكيرَ فسقطَ.
وكان أويس يقفُ على الحدَّادين فينظرُ إليهم كيف ينفخونَ الكيرَ، ويسمعُ
صوتَ النَّار، فيصرخُ، ثم يسقُطُ.
وكذلك الربيع بنُ خُثيم. وكان كثيرٌ من
"التخويف من النار! (24 - 25) .(2/343)
السَّلف يخرجونَ إلى الحدَّادينَ ينظرونَ إلى ما يصنعونَ بالحديدِ، فيبكونَ
ويتعوَّذون باللَّهِ من النَّارِ.
ورأى عطاءٌ السَّليمي امرأةً قد سجرت تنورَها، فغُشي عليه.
قال الحسنُ: كانَ عمرُ رُبَّما تُوقدُ له النَّارُ، ثم يُدني يدَه منها، ثم يقول: يا ابنَ الخطاب! هل لك على هذا صبرٌ؟
كانَ الأحنفُ بنُ قيسٍ يجيءُ إلى المصباح فيضعُ أُصبعَه فيه، ويقول:
حسِّ، ثمَّ يُعاتبُ نفسه على ذنوبهِ.
أجَّجَ بعضُ العبَّادِ نارًا بين يديه وعاتبَ نفسه، فلم يزلْ يعاتبُها حتى مات.
نارُ الدنيا جُزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنَّم، وغُسلَت بالبحر مرتين حتى
أشرقت وخفَّ حرُّها، ولولا ذلك ما انتفعَ بها أهلُ الدُّنيا، وهي تدعو اللَّهَ
ألا يعيدَها إليها.
قال بعضُ السَّلف: لو أُخرجَ أهلُ النار منها إلى نار الدنيا
لقالُوا فيها ألفَي عام.
يعني أنهم كانُوا ينامُون فيها ويرونها بردًا.
كان عمرُ يقول: أكثروا ذِكرَ النَّارِ؛ فإنَّ حرَّها شديدٌ، وإنَّ قعرها بعيدٌ.
وإنَّ مقامعها حديدٌ.
كان ابنُ عمر وغيرُه من السَّلف إذا شربوا ماءً باردًا بكوا وذكروا أمنيَّةَ أهل
النار وأنَّهم يشتهون الماء الباردَ، وقد حيلَ بينهم وبينَ ما يشتهون، ويقولون
لأهل الجنة: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) ، فيقولُونَ
لهم: إنَّ اللهَ قد حرَّمَهما على الكافرينَ.
والمصيبةُ العُظْمى حينَ تطبُقُ النَّارُ على أهلِها، وييأسونَ من الفرج، وهو الفزعُ الأكبرُ الذي يأمنُه أهل الجنةِ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) .(2/344)
لو أبصرتْ عيْنَاكَ أهلَ الشَّقَا. . . سِيقوا إلى النَّار وقَدْ أُحْرِقُوا
شرابُهُمُ المُهْلُ في قَعْرِها. . . إذ خالَفُوا الرُّسْلَ وما صَدَّقُوا
تقولُ أُخراهُمْ لأولاهُمُ. . . في لُجج المُهْلِ وقد اغْرِقوا
قد كُنْتُمُ خُوِّفْتُمُ حَرَّها. . . لكن مِن النَيران لم تَفْرُقُوا
وَجِيء بالنَيران مَذْمُومَةً. . . شَرَارُها مِنْ حَوْلِها مُحْدِقُ
وقيلَ للنِّيران أنْ احْرِقي. . . وقيلَ للخُزَّان أن اطْبقُوا
* * *
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
[قال البخاري] : قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)
قَالَ ابن عبَّاسٍ: شكركُمْ.
قالَ آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره ": نا هشيمٌ، عن جعفرِ بنِ إياس، عن
سعيدِ بنِ جبيرٍ، عنِ ابنِ عباسٍ، في قولِه: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي: شكرَكم
(أَنَّكُمْ تُكَذِّبونَ) قال: هو قولُهم: مُطرنَا بنوءِ كذَا وكذَا.
قال ابنُ عباسٍ: وما مُطرَ قومٌ إلا أصبحَ بعضُهَم به كافرًا، يقولونَ: مُطرنا
بنوءِ كذا وكذا.
ثمَّ خرَّج في سببِ نزولِها من روايةِ الكلبيِّ، عن أبي صالح، عن ابنِ
عباسٍ.
وقد خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه " من روايةِ عكرمةَ بنِ عمارٍ: حدثني(2/345)
أبو زميلٍ: حدثني ابنُ عباس، قال: مُطرَ الناسُ علَى عهدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
فقالَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"أصبحَ مِنَ الناسِ شاكرٌ ومنهم كافر قالوا: هذا رحمة
وضعَها اللَّهُ، وقال بعضهم: لقد صدقَ نوءُ كذا وكذا"، فنزلتْ هذه الآية ُ: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) حتَّى بلغَ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) .
وروى عبدُ الأعلَى الثعلبيُّ، عن أبي عبدِ الرحمنِ السلميِّ، عن عليٍّ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)
قال: "شكُرَكم، تقولُون. مُطرْنا بنوءِ كذَا وكذَا، ونجمِ كذَا وكلذَا".
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ.
وقال: حسن غريبٌ، لا نعرفه - مرفوعًا - إلا من حديث إسرائيلَ، عن
عبد الأعلى.
ورواه سفيانُ عن عبدِ الأعلَى - نحوَه -، ولم يرفَعْه.
ثم خرَّجه من طريقِ سفيانَ - موقوفًا على عليٍّ.
وكان سفيانُ ينكرُ علَى مَن رفعَه.
وعبدُ الأعلَى هذا، ضعَّفَه الأكثرونَ. ووثقه ابنُ معين.
وخرجَ القاضِي إسماعيلُ في كتابه "أحكامُ القرآن " كلامَ ابنِ عباسٍ بالإسنادِ
المتقدمِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أن ابنَ عباسٍ كان يقرؤها: (وتجعلون
شكركم) ، تقولونَ: على ما أنزلْتُ من الغيثِ والرحمةِ، تقولونَ: مُطرْنا بنوْءِ
كذا وكذا.
قال: فكان ذلك كفرًا منهم لِمَا أنعمَ اللَّهُ عليهم.(2/346)
نا إسماعيلُ: حدَّثني مالكٌ، عن صالح بنِ كيسانَ، عنْ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ
اللَّه بنِ عُتبَةَ بنِ مسعُوب، عن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهنيِّ، أنَّهُ قالَ: صلَّى لنا
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصُّبح بالحديبيةِ علَى إِثْرِ سماء كانتْ من اللَّيلِ، فلمَّا انصرفَ النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أقبلَ علَى النَّاسِ، فقالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمُ؟ "
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافر فأمَّا من قالَ: مُطرْنَا
بفضلِ اللَّهِ ورحمتِهِ، فذلكَ مُؤْمنٌ بِي كافرٌ بالكوكَب، وأمَّا منْ قالَ: بنَوء كذَا وكذَا، فذلك كافرٌ بي مُؤْمنٌ بالكَوْكبِ".
قولُه: "على إثرِ سماءٍ"، أي: مطرٍ كانَ منَ الليلِ.
والعربُ تسمِّي المطرَ سماءً؛ لنزولهِ منَ السماءِ، كما قالَ بعضُهم:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأرْضِ قَوْمٍ. . . رَعَيْنَاهُ وَإنْ كَانُوا غِضَابًا
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تدرونَ ماذَا قالَ ربكمْ؟ " -
وفي بعضِ الرواياتِ: "الليلةَ" -
وهي تدلُّ على أن اللَّه تعالى يتكلَّمُ بمشيئَتِه واختيارِه.
كما قالَ الإمامُ أحمدُ: لم يزلِ اللَّهُ متكلِّمًا إذا شاءَ.
وقولُه: " أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافر، فأمَّا من قالَ: مُطرْنَا بفضلِ اللَّهِ ورحمتِهِ، فذلكَ مُؤْمنٌ بِي كافرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا منْ قالَ: بِنَوءِ كذَا وكذَا، فذلك كافرٌ بي مُؤْمنٌ بالكَوْكبِ".
يعني: أنَّ مَن أضافَ نعمةَ الغيثِ وإنزالهِ إلى الأرضِ إلى اللهِ عز وجل
وفضلِه ورحمتهِ، فهو مؤمنٌ باللَّهِ حقًّا، ومَن أضافَه إلى الأنْواءِ، كما كانتِ
الجاهليةُ تعتادُه، فهو كافر باللَّهِ، مؤمنٌ بالكوكبِ.(2/347)
قال ابنُ عبدِ البرِّ: النوءُ في كلامِ العربِ: واحدُ أنْواءِ النجومِ، وبعضُهم
يجعلُه الطالعَ، وأكثرهُم يجعلُه الساقطَ، وقد تسمَّى منازلُ القمرِ كلُّها أنواءً، وهي ثمانية وعشرونَ.
وقال الخطابيُّ، النوْءُ واحدُ الأنواءِ، وهي الكواكبُ الثمانيةُ والعشرونَ التي
هي منازلُ القمرِ، كانوا يزعمونَ أنَّ القمرَ إذا نزل ببعضِ تلكَ الكواكبِ
مُطِروا، فجعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سقوطَ المطرِ من فعلِ اللَّهِ دونَ غيرِه، وأبطل قولَهم. انتهى.
وقال غيرُه: هذه الثمانيةُ وعشرونَ منزلاً تطلعُ كلَّ ثلاثةَ عشرَ يومًا منزلَ
صلاةِ الغداةِ بالمشرقِ، فإذا طلعَ رقيبُه منَ المغربِ؛ فسمِّيت أنواءً لهذا المعنى.
وهو من الأضدادِ، يقال: ناءَ إذا طلعَ، وناء إذا غربَ، وناءَ فلان إذا
قربَ، وناء إذا بعدَ.
وقد أجرى اللَّهُ العادة بِمَجيء المطر عند طلوع كلِّ منزلٍ منها، كما أجرى
العادة بِمجيءِ الحرِّ في الصيف، والبردِ في الشتاءِ.
فإضافةُ نزولِ الغيثِ إلى الأنْواءِ، إنِ اعتقدَ أنَّ الأنواءَ هي الفاعلةُ لذلك.
المدبرةُ له دونَ اللَّهِ عز وجل، فقد كفرَ باللَّهِ، وأشركَ به كفرًا ينقله عن ملةِ
الإسلامِ، ويصيرُ بذلك مرتدا، حكمُه حكمُ المرتدينَ عن الإسلامِ، إن كان
قبل ذلك مسلمًا.
وإن لم يعتقدْ ذلكَ، فظاهرُ الحديثِ يدلُّ على أنه كفرُ نعمةِ اللَّهِ.
وقد سبقَ عنِ ابنِ عباس، أنه جعلَه كفرًا بنعمة اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وقد ذكرنا في "كتابِ الإيمان " أن الكفرَ كفرانِ: كفر ينقلُ عن الملةِ، وكفر(2/348)
دون ذلكَ، لا ينقلُ عن الملة، وقد بوَّب البخاريُّ عليه هنالك.
فإضافةُ النِّعَم إلى غيرِ المنعم بها بالقول كفرٌ للمنعم في نعمهِ، وإن كان
الاعتقادُ يخالفُ ذلك.
والأحاديثُ والآثار متظاهرةٌ بذلك.
وفي "صحيح مسلمٍ"، عن أبي هريرةَ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ألم تروا إلى ما قالَ ربُّكم؟
قال: ما أنعمتُ علَى عبادِي من نعمةٍ إلا أصبحَ فريقٌ منهم بها
كافرينَ، يقولون: الكوكب وبالكوكب ".
وروي من وجه آخر، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن اللَهَ عزَّ وجلَّ ليُبَيِّتُ القومَ بالنعمةِ، ثم يُصبحُونَ وأكثرُهم بها كافر لقولون: مُطِرْنا بنوْءِ كذا وكذا".
وروى أبو سعيدِ الخدريُّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"لو أمسكَ اللَهُ القَطرَ عن الناسِ سبعَ سنينَ، ثم أرسلَه، كفرتْ طائفةٌ منهم، فقالوا: هذا من نوْءِ المِجْدَحِ ".
وروى أبو الدرداء، قال: مُطرنا على عهدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فأصبحَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ورجلٌ يقول: مُطرنا بنوءِ كذا وكذا، فقال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "قَلَّمَا أنعمَ اللًّهُ علَى قومٍ نعمةَ، إلا أصبحَ كثير منهم بِها كافرينَ ".
وفي "صحيح مسلمٍ"، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:(2/349)
"أربعٌ في أمتِي مِن أمرِ الجاهليةِ، لا يتركونَهنُّ: الفَخْر في الأحساب، والطعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنجوم، والنياحةُ".
وخرج البخاريُّ في "صحيحه،، من روايةِ ابنِ عيينةَ، عن عبيدِ اللَّهِ:
سمعَ ابنَ عباس يقول: "خلالٌ من خلالِ الجاهليةِ: الطعنُ في الأنسابِ.
والنياحةُ"، ونَسِيَ الثالثةَ: قال سفيان: ويَقُولون: إنها "الاستسقاءُ بالأنواءِ".
وروي عن ابنِ عباسٍ - مرفوعًا - من وجهٍ آخر ضعيفٍ.
وخرج ابنُ حبانَ في "صحيحه " - معناه - من حديثِ أبي هريرةَ -
مرفوعًا.
وروى ابنُ عيينَةَ، عن إسماعيلَ بنِ أمية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً في بعضِ أسفارِه يقول: مُطِرْنا ببعضِ عَثانين الأسدِ، فقال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"كذبتَ، بل هو سقي اللَّه عزَّ وجلَّ، ورزقُه ".
وذكر مالكٌ، أنه بلغَه عن أبي هريرةَ، أنه كانَ يقولُ: مُطِرْنا بنوْءِ
الفتح، ثم يتلو هذه الآية: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) .
وذكر الشافعيُّ أنه بلغه، أن عمرَ سمع شيخًا يقول - وقد مطرَ الناسُ -:
أجَادَ مَا أَقْرَى المِجْدَح الليلةَ، فأنكر ذلك عمرُ عليه.(2/350)
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِه، عن سلم العلويِّ، قال: كنا عند أنسٍ.
فقال رجل: إنها لمخيلة للمطرِ، فقال أنس: إنها لربِّها لمطيعةٌ.
يشير أنسٌ إلى أنه لا يضافُ المطرُ إلى السحابِ، بلْ إلى أمرِ اللهِ ومشيئته.
وذكر ابنُ عبدِ البرِّ، عن الحسنِ، أنه سمعَ رجلاً يقول: طلع سهيلٌ، وبردَ
الليلُ، فكره ذلكَ، وقال: إن سهيلاً لم يأت قطُّ بِحَرٍّ ولا بردٍ.
قال: وكره مالكٌ أن يقول الرجلُ للغيم والسحابة: ما أخلقَها للمطرِ.
قال: وهذا يدل على أن القومَ احتاطُوا، فمنعوا الناسَ منَ الكلامِ بما فيه
أدنى متعلَّق مِن كلامِ الجاهليةِ في قولِهم: مُطرنا بنوءِ كذا وكذا. انتهى.
واختلف الناسُ في قول القائل: "مُطِرنْا بنوْءِ كذا وكذا" مِن غيرِ اعتقادِ
أهلِ الجاهليةِ: هو هو مكرُوه، أو محرَّمٌ؟
فقالت طائفةٌ: هو محرمٌ، وهو قول أكثرِ أصحابِنا، والنصوصُ تدل عليه.
كما تقدم.
وقال طائفة: هل مكرُوه، وهو قول الشافعيِّ وأصحابِه، وبعضِ أصحابِنا.
فأما إن قال: "مُطِرْنا في نوْء كذا وكذا"، ففيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه يجوزُ، كقوله: "في وقت كذا وكذا"، وهو قولُ القاضِي أبي
يعلَى وغيرِه.
ورُوي عن عمرَ - رضي الله عنه -، أنه قالَ للعباسِ - رضي الله عنه -، وهو يستسقِي: يا عباسُ، كم بقيَ مِن نوْءِ الثرَيَّا؟
فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن أهلَ العلم بها يزعمونَ أنها
تعترض بالأفقِ بعدَ وُقُوعِهَا سبعًا، فما مضتْ تلك السبعُ حتى أغيثَ الناسُ.(2/351)
رواه ابنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ، عن ابنِ المسيبِ.
قال: حدثني من لا أتهمُ، عن عمرَ - فذكره.
والوجهُ الثاني: أنه يُكْرَه، إلا أن يقولَ مع ذلك: "برحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ".
وهو قولُ أبي الحسن الآمديِّ مِن أصحابِنا.
واستدلَّ للأول بما ذكرَ مالكٌ في "الموطإِ"، أنه بلغَه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "إذا نشأتْ بحريتها فَشَاءَمَتْ، فتلك عين غَدِيقة".
وهذا من البلاغاتِ لمالكٍ التي قيل: إنه لا يعرَفُ إسنادُها.
وقد ذكرَه الشافعى، عن إبراهيمَ بنِ محمدِ بنِ أبي يحيى، عنْ إسحاقَ
بنِ عبدِ اللَّهِ، عنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - - مرسلاً -، قال: "إذا نشأتْ بَحْرِيَّة، ثم استحالتْ شاميةً، فهو أمطرُ لها".
قال ابنُ عبدِ البر: ابنُ أبي يحيى، مطعون عليه متروكٌ.
وإسحاقُ، هو: ابن أبي فروةَ، ضعيفٌ - أيضًا - متروكٌ.
وهذا لا يَحتَجُ به أحدٌ من أهل العلم.
قلت: وقد خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الواقديِّ: نَا عبدُ الحكيم بنُ
عبدِ اللَّهِ بن أبي فروةَ: سمعتُ عوفَ بنَ الحارثِ: سمعتُ عائشةَ تقولُ:
سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
" إذا أنشاتِ السحابةُ بحرية، ثم تشاءَمت، فتلك عين "
أو قالَ: "عام غديقة ".
يعني: مطرًا كثيرًا.(2/352)
والواقديُّ: متروك - أيضًا.
والمعنى: أنَّ السحابةَ إذا طلعتْ بالمدينةِ من جهةِ البحرِ، ثمَّ أخذتْ إلى
ناحيةِ الشامِ، جاءتْ بمطرٍ كثير، وهو الغدَقُ.
قال تعالى: (لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) .
وقيَّده ابنُ عبدِ البرِّ: "غُدَيقةٌ" بضمِّ الغينِ بالتصغيرِ.
ومن هذا المعنى: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا) .
وفسَّره علي بنُ أبي طالبٍ وابنُ عباسٍ ومَن بعدَهُما بالسحابِ.
قال مجاهدٌ: تحملُ المطر.
* * *
قال الله تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
قال آدمُ بنُ أبي أياسٍ: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن
عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، قالَ: تلا رسولُ اللًهِ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) .
إلى قولِه: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) .(2/353)
إلى قولِه: (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) .
قال: "إذا كانَ عندَ الموتِ قيلَ له هذا، فإن كانَ من أصحابِ اليمينِ أحبَّ لقاءَ اللَّهِ وأحبَّ اللَّهُ لقاءَهُ، وإن كانَ من أصحابِ الشمالِ كَرهَ لقاءَ اللَّهِ وكرهَ اللَّهُ لقاءَه ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، من طريقِ همّامٍ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، سمعتُ
عبدَ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى - وهو يتبعُ جنازةً يقولُ: حدثني فلانُ بن فلانِ.
سمعَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"مَن أحبَّ لقاءَ اللَّهِ أحبَّ اللَّهُ لقاءَهُ، ومن كرهَ لقاءَ اللهِ كرهَ اللَّهُ لقاءَهُ ". فأكبُّ القوم يبكونَ.
قال: "ما يبكيكُم؟ " قالوا: إنا نكرهُ الموتَ.
قال: "ليسَ ذاك، ولكنَّه إذا حُضِرَ: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) .
فإذا بشرَ بذلكَ أحبَّ لقاءَ الله، واللَّهُ للقائه أحبُّ.
(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) .
وفي قراءة ابن مسعود: (ثُمَّ تَصْلِيةُ جَحيم) .
فإذا بشرَ بذلكَ كرهَ لقاءَ اللَّهِ واللَّهُ للقائهِ أكْرَهُ ".
خرَّج ابنُ البراءِ في كتابِ "الروضةِ" من حديثِ عمرِو بن شَمِر - وهو
ضعيف جدًّا - عن جابر الجعفي، عن تميم بن حَذْلم، عن ابنِ عباس، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما من ميِّتٍ يموتُ إلا وهو يعرفُ غاسلَه، ويناشدُ حاملَه، إن كان بُشِّر
بَروح وريحانٍ وجنةِ نعيمٍ أن يعجِّلَه، وإن بُشِّرَ بنزلٍ من حميمٍ وتَصْليةِ جحيمٍ أن يحبسَهُ ".
وفي "صحيح البخاريّ "، عن عبادةَ بنِ الصامتِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من أحبَّ لقاءَ اللَّهِ أحبَّ اللَهُ لقاءَهُ، ومن كرهَ لقاءَ اللَّهِ كرهَ اللَّهُ لقاءَهُ "، فقالتْ عائشةُ، أو بعضُ أزواجهِ: إنا نكرهُ الموتَ.
قالَ: "ليس ذلكَ، ولكن المؤمنَ إذا حضرَه(2/354)
الموتُ بُشِّر برضوانِ اللهِ وكرامتهِ، فليسَ شيءٌ أحبَّ إليه مما أمامَهُ، فأحب لقاءَ اللهِ وأحبَّ اللَهُ لقاءَه، وإنَّ الكافرَ إذا حُضِر، بُشِّر بعذابِ اللهِ وعقوبتهِ، فليسَ شيءٌ كرهَ إليه ممَّا أمامَهُ، فكرهَ لقاءَ اللَّهِ وكرهَ اللَهُ لقاءَهُ ".
وقد رُوِيَ هذا المعنى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددهِ.
وفي حديث زاذن، عن البراءِ بن عازبٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ نفسَ المؤمنِ يقالُ لها: اخْرجي أيتها النفسُ المطمئنةُ إلى مغفرة من اللَّهِ ورضوان، فتخرجُ وتسيلُ كما
تسيلُ القطرةُ من فيِّ السقاءِ، وإنَّ نفسَ الكافرِ يُقال لها: اخرجي أيتها النفسُ الخبيثةُ إلى غضبِ اللهِ وسخطه، فتتفرقُ في جسدِهِ، وتأبى أن تخرجَ، فيجذبونَها، فتنقطعُ معها العروقُ والعصبُ ".
وفي روايةِ عيسى بنِ المسيبِ عن عديِّ بن ثابت، عن البراءِ، عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قال:
"فتتفرق روحُهُ في جسدِهِ، كراهةَ أن تخرجَ لما ترى وتعاين، فيستخرِجُها.
كما يستخرجُ السفودَ من الصوفِ المبلولِ ".
وقد دلَّ القرآنُ على عذابِ القبرِ في مواضعَ أُخرَ كقولهِ تعالى:
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) .
وخرَّجَ الترمذي بإسناده، عن عليٍّ قالَ: مازِلْنا في شكٍّ من عذابِ
القبرِ حتى نزلتْ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) .(2/355)
وخرّج ابن حبانَ في "صحيحهِ "، من حديثِ حمَّادِ بنِ سلمَة، عن
محمدِ بنِ عمرو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في قوله سبحانه وتعالى: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) .
قال: "عذابُ القبرِ".
وقد روي موقوفًا، وروي من وجهٍ آخر عن أبي هريرةَ مرفوعًا.
وروي من وجه آخرَ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ، مرفوعًا وموقوفًا.
وسيأتي ذلك كلُّه إن شاءَ الله تعالى.
وقال آدمُ بنُ أبي إياسٍ، حدثنا المسعوديُّ، عن عبدِ اللَّهِ بن المخارق، عن
أبيه، عن ابنِ مسعود - رضي الله عنه -، قالَ: إذا ماتَ الكافرُ أجلس في قبرِه، فيقالُ له: من ربك؟ وما دينُك؟
فيقولُ: لا أدري، فيضيَّقُ عليه قبُره، ثم قرأ ابنُ مسعود: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) ، قال: المعيشة الضنكُ: عذابُ القبرِ.
وروى شريك، عن ابنِ إسحاقَ، عن البراءِ، في قولهِ عزَّ وجلَّ: (عَذَابًا
دُونَ ذَلِكَ) . قال: عذابُ القبرِ.
وكذا رُوي عن ابنِ عباسٍ، في قولِه سبحانه وتعالى: (لَنُذِيقَنَّهم مِّنَ الْعَذَابِ
الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكبَرِ) ، أنه عذابُ القبرِ.
وكذا قال قتادةُ، والربيعُ بنُ أنسٍ، في قولِه عز وجل: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)
إحداهما في الدنيا، والأُخرى هي عذابُ القبرِ.
وقد تواترتِ الأحاديثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عذابِ القبرِ والتعوّذِ منه.(2/356)
وفي "الصحيحينِ " عن مسروق عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أنها سألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن عذابِ القبرِ، قال: "نَعمْ، عذابُ القبرِ حق" قالتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: فما رأيتُ
رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ صلَّى صلاةً إلا تعوَّذ من عذابِ القبرِ.
وفيهما عن عَمْر، عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنّي رأيتكم تفتنونَ في القبورِ كفتنةِ الدَّجَّالِ "، قالتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: فكنتُ أسمعُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ يتعوّذُ من عذابِ القبرِ.
وفي "صحيح مسلم " عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعلِّمُهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمُهُم السورةَ من القرآنِ:
"اللهُمّ إنِّي أعوذُ بكَ من عذابِ جهنَّمَ، وأعوذُ بكَ من عذابِ القبرِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المسيح الدجالِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المحيا والممات ".
وفيه - أيضًا -، عن أبي هريرةَ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا فرغَ أحدُكم من التشهدِ الآخرِ، فليتعوَّذ باللَّهِ من أربع: من عذاب جهنَّم، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيح الدَّجالِ ".
وفي "صحيح مسلم " عن زيدِ بن ثابت، قال: بينما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حائطِ بني النجارِ على بغلة له، ونحن معهُ، إذ حادتْ بهِ، فكادتْ أن تلقيَهُ، وإذا أَقْبُرٌ ستةٌ أو خمسةٌ أو أربعةٌ، فقال: "من يعرفُ أصحاب هذه الأقبُرِ؟ "
فقال رجلٌ: أنا، فقالَ: "متى ماتَ هؤلاءِ؟ "
فقال: ماتُوا في الإْشراكِ، فقالَ النبيُّ(2/357)
- صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الأمةَ تُبتلى في قبورِها، فلولا أن لا تَدافَنُوا لدعوتُ اللَّهَ أن يسمعَكُم من عذابِ القبرِ الذي أسمعُ منه ".
ثم أقبلَ علينا بوجهِهِ فقال: "تعوَّذوا باللَهِ من عذابِ النارِ"، فقالوا: نعوذُ باللَّهِ من عذابِ النارِ، فقالَ: "تعوَّذوا باللهِ من عذاب القبرِ".
قالوا: نعوذُ باللَّهِ من عذابِ القبرِ، فقال: "تعوَّذُوا باللهِ من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَنَ "، قالوا: نعوذ باللَّهِ من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، قال: "تعوَّذوا باللهِ من فتنة الدجال "، قالوا: نعوذ باللَّه من فتنة الدجال.
وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لولا أن لا تدافنوا لدعوتُ اللَّهَ أن يسمعَكمُ من عذابِ القبرِ".
وفي "الصحيحينِ "، من حديثِ أبي أيوب الأنصاريِّ، قالَ: خرجَ علينا
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجبتِ الشمسُ، فسمعَ صوتًا، فقالَ: "يهودُ تعذبُ في قبورِهَا".
وخرّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داود، من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ، قال:
خرجْنَا معَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في جنازةِ رجلٍ من الأنصارِ فانتهيْنَا إلى القبرِ ولمْ يُلحَد، ْ فجلسَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وجلسْنَا حولَهُ، كأنَّ على رؤوسِنَا الطيرُ، وفي
يده عود ينكتُ به الأرضَ، فرفعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ، فقالَ: "استعيذُوا باللهِ من عذابِ القبرِ"، مرتينِ أو ثلاثًا، وذكرَ الحديثَ بطولهِ.
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، من حديثِ أبي الزبيرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قالَ:
دخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَخْلاً لبني النجارِ، فسمعَ أصوات رجالٍ من بني النجارِ، ماتُوا في الجاهليةِ، يعذَّبونَ في قبورِهم، فخرجَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فزعًا فأمَرَ(2/358)
أصحابَهُ أن يتعوَّذوا باللهِ من عذابِ القبرِ.
وخرَّجَه - أيضًا - من حديثِ أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن أمِّ مبشرٍ، قالتْ:
دخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا في حائطٍ من حوائطِ بني النجارِ، فيه قبور منهم، قد ماتُوا في الجاهليةِ، فسمعهم يعذبونَ، فخرجَ وهو يقولُ: "استعيذُوا باللَّهِ من عذابِ القبرِ"، قلتُ: يا رسولَ اللَّه ليعذَّبونَ في قبورِهم؟
قال: "نعم عذابًا تسمعُهُ البهائمُ ".
وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عباسٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
مرَّ بقبرينِ، فقالَ: "إنهما ليَعذّبانِ، وما يعذبانِ في كبيرٍ، أما أحدُهما فكانَ لا يستترُ من البولِ، وأما الآخرُ فكانَ يمشِي بالنميمةِ"، ثم أخذ جريدةً رطبةً، فشقَّها باثنتينِ، ثم غَرَز على كلِّ قبرٍ منهُما واحدةً، قالوا: لِمَ فعلتَ هذا يا رسولَ اللهِ؟
قال: "لعلَّه يخففُ عنهُما ما لم يَيْبسا".
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى مِنْ وجوه متعددةٍ، خرَّجَه ابنُ ماجةَ من حديثِ أبي بكرةَ، وفي حديثهِ:
"وأمَّا الآخرُ يعذَّبُ في الغِيبةِ".
وخرَّجه الخلالُ وغيرُه، من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضِ رواياتهِ:
"وأمَّا الآخرُ فكان يهْمِزُ الناسَ بلسَانِه، ويمشِي بينَهُم بالنميمةِ".
وخرّجَّه الطبرانيُّ من حديثِ عائشة - رضي الله عنها -، وأنسِ بنِ مالكٌ، وابنِ عمرَ - رضي الله عنهم -.(2/359)
وخرَّجَه أبو يعلى الموصِلي وغيرُه، من حديثِ جابر، وفي حديثهِ:
"أمَّا أحدُهما فكانَ يغتابُ الناسَ ".
وخرَّجَه الإمامُ أحمد، من حديثِ أبي أمامةَ، وفي حديثهِ قالوا: يا نبيَّ
اللَّهِ، وحتى متى يعذبانِ؟
قال: " غَيْبٌ لا يعلَمُه إلا اللَّهُ، ولولا تمريجٌ في قلوبِكم
وتزيدُكُم في الحديثِ لسمعتُم ما أسمعُ ".
ورويَ من وجوهٍ أُخرَ.
وخرَّجَ النسائيُ، من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها -، قالتْ:
دخلَتْ عليَّ امرأةٌ من اليهودِ فقالَتْ: إنْ عذابَ القبرِ من البولِ، قلتُ: كذبتِ، قالتْ: بلَى، إنه ليقرظُ من الجلدِ والثوبِ، قالتْ: فخرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاةِ، وقد ارتفعتْ أصواتُنا، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا؟ "
فأخبرتُه بما قالتْ، فقالَ: "صَدَقَتْ ".
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، وابن ماجةَ، من حديثِ
عبدِ الرحمنِ بنِ حسنة، سمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"أَلَم تعلمُوا ما لقيَ صاحبُ بني إسرائيلَ؛ كانُوا إذا أصابَهُم البولُ قطعُوا ما أصابَهُ البولُ، فنهاهُم فعذِّبَ في قبرهِ ".
وخرّج الإمامُ أحمدُ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أكثر عذاب القبر من البول ".
وروي موقوفًا على أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وخرّج البزارُ، والحاكم، من حديثِ ابنِ عباس - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2/360)
قالَ: "إنّ عامَّة عذابِ القبرِ من البولِ، فتنزَّهُوا منه ".
وخرَّجَ الطبراني، والدارقطني، منِ حديثِ أنسٍ، عنِ النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
"اتّقوا البولَ، فإنَّه أوَّلُ ما يحاسَبُ به العبدُ في القبرِ".
وخرّج ابنُ عدي، من حديث أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برجلٍ يعذبُ في قبرهِ من النميمةِ، ورجل يعذَّبُ في قبرهِ من الغيبةِ، ورجلٌ يعذَّب في قبرهِ من البولِ.
وخرَّجَ أيضًا، بإسنادٍ ضعيف، عن قتادةَ، عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"فتنةُ القبرِ من ثلاثٍ: من الغيبةِ، والنميمةِ، والبولِ ".
ولكن روى عبدُ الوهابِ الخفَّاف، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قالَ: كان يُقال:
عذابُ القبرِ من ثلاثةِ أثلاثٍ: ثلثٌ من الغِيبةِ، وثلث من النميمةِ، وثلث من
البولِ.
خَرَّجه الخلالُ وهذا أصحُّ.
وخرَّجَ الأثرمُ والخلالُ من حديث ميمونة - مولاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لها؟
"يا ميمونةُ! إنَّ منْ أشدِّ عذابِ القبرِ من الغيبةِ والبولِ ".
وقد ذكرَ بعضُهم السر في تخصيص البولِ والغيبةِ والنميمةِ بعذابِ القبرِ.
وهوَ أنّ القبرَ أولُ منازلِ الآخرةِ، وفيه أنموذجُ ما يقعُ في يومِ القيامةِ من
العقابِ والثوابِ.
والمعاصِي التي يعاقبُ عليها العبدُ يومَ القيامةِ نوعانِ: حقُّ اللَّهِ، وحقُّ
العبادِ، وأولُ ما يُقضَى فيه يومَ القيامةِ من حقوقِ اللَّهِ الصلاةُ، ومن حقوقِ
العبادِ الدماءُ.(2/361)
وأمَّا البرزخُ فقضى فيه في مقدماتِ هذَينِ الحقَّينِ ووسائِلِهما، فمقدمةُ
الصلاةِ: الطهارةُ من الحَدَثِ والخَبثِ، ومقدمةُ الدماءِ النميمةُ والوقيعةُ في
الأعراضِ، وهما أيسرُ أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبةِ والعقابِ
عليهِما.
وروى عبدُ الرزَّاقِ، عن معمر، عن أبي إسحاقَ، عن أبي ميسرةَ، عمرِو
بنِ شرحبيلَ، قالَ: ماتَ رجلٌ، فلمَّا دخلَ في قبرهِ أتتْه الملائكةُ، فقالُوا: إنا
جالدوكَ مائةَ جلده من عذابِ اللَّهِ، قال: فذكرَ صلاتَهُ وصيامَه واجتهادَهُ
قال: فخفَّفُوا عنه حتى انتهى إلى عشرة، ثم سألَهُم، فخَّففوا عنه حتَّى انتهى
إلى واحدة، فجلدوه جلدةً اضطرمَ قبرُه نارًا، وغُشِيَ عليه، فلما أفاق قالَ:
فيم جلدتمُونِي هذه الجلدة؟
قالوا: إنَّك بُلْتَ يومًا، ثم صليتَ ولم تتوضأْ.
وسمعتَ رجلاً يستغيثُ مظلومًا، فلم تغثْهُ.
ورواهُ أبو سنان، عن أبي إسحاقَ، عن أبي ميسرةَ، بنحوِه.
ورويناه من طريقِ حفصِ بن سليمانَ القارئِ وهو ضعيفٌ جدًّا، عن
عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - به.
فعذابُ القبرِ حصلَ ها هنا بشيئينِ: أحدُهما: تركُ طهارةِ الحَدثِ.
والثاني: تركُ نصرةِ المظلومِ مع القدرةِ عليه، كما أنه في الأحاديثِ المتقدمةِ
حصلَ بتركِ طهارةِ الخبثِ، والظلم بالقولِ، وهي متقاربةٌ في المْعنَى.
وفي حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ سمرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنّي رأيتُ الليلَة عجبًا" فذكرَ الحديثَ بطوله، وفيه: "رأيتُ رجُلاً من أمَّتي بُسِطَ عليه عذابُ القبرِ، فجاءَهُ وضوءُه فاستنقذَهُ منه ".
أخرَّجَه الطبراني وغيره.(2/362)
ففي هذا الحديثِ أنّ الطهارةَ من الحدثِ تُنجي من عذابِ القبرِ.
وكذلك الأمرُ بالمعروفِ والنهيّ عن المنكرِ يُنجِي من عذابِ القبرِ، كما تقدَّم
ذكْرُه في البابِ الثانِي، لأن فيه غايةَ النفع للناسِ في دينهِم.
وكذلكَ الجهادُ والرباطُ، لأنَّ المجاهدَ والمرابِطَ في سبيلِ اللَّهِ كلّ منهُما بذَل
نفسَهُ، وسمحَ بنفسِهِ لتكونَ كلمةُ اللَّهَ هي العُليا، ودينُه هو الظاهرُ، وليذبَّ
عن إخوانِهِ المؤمنينَ عدوَّهم.
ففي الترمذي، عن المقدامِ بن معدي كرب، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "للشهيدِ عندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ: يُغفر لهُ في أولِ دفعةٍ، ويرَى مقعدَهُ من الجنةِ، ويُجارُ من عذابِ القبرِ، ويأمنُ من الفزع الأكبرِ "
وذكر بقيةَ الحديثِ.
وخرَّج الحاكم وغيرُه، من حديثِ أبي أيوبَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من لَقِي العدو في سبيل اللهِ فصبرَ حتَى يُقتلَ أو يُغلبَ لم يُفتنْ في قبرهِ أبدًا ".
وفي "صحيح مسلم " عن سلمانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "رباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامِه، وإن ماتَ أجرِي عليه عملُه الذي كانَ يعملُه، وأُجْرِي عليه رزقُه، وأمِنَ الفتَّان".
وخرَّجَه غيره وقال فيه: "ووُقِيَ عذابَ القبرِ".
وخرّج الترمذيّ وأبو داود، من حديث فَضَالةَ بنِ عُبَيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضًا، ورُوي من وجوهٍ أُخر.(2/363)
وخرّج النسائيُّ من حديثِ راشدِ بنِ سعدٍ، عن رجلٍ من أصحابِ النبي
- صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال: يا رسولَ اللَّهِ، ما بالُ المؤمنينَ يفتنونَ في قبورِهم إلا الشهيدُ؟
قال: "كفَى ببارقةِ السيوفِ على رأسهِ فتنةً".
وروى مجالدٌ، عن محمدِ بن المنتشرِ، عن ربعي، عن حذيفةَ، قالَ: إن في
القبرِ حِسَابًا، وفي القيامةِ حِسابًا، فمن حوسبَ يومَ القيامةِ عُذِّبَ.
وروى ابنُ عجلانَ، عن عونِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قالَ: يقالُ: إنَّ العبدَ إذا أُدخِلَ
قبرَه، سئِلَ عن صلاتهِ أولَ شيءٍ يُسالُ عنهُ، فإنْ جازَتْ له صلاتُه، نُظِرَ
فيما سِوى ذلكَ من عملهِ، وإن لم تجزْ لهُ، لم ينظرْ له في شيءٍ من عملهِ
بعد.
وقد وردَ فِي عذابِ القبرِ أنواعٌ:
مِنْها: الضربُ إمَّا بمطراقٍ منْ حديدٍ أو غيرِه، وقدْ سبقَ ذلكَ في أحاديثَ
متعددة.
وروي من طريقِ عثمانَ بنِ أبي العاتكة، عن عليِّ بن زيدٍ، عن القاسم.
عن أبي أمامةَ الباهليِّ، قالَ: أتَى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بقيعَ الغرقدِ، فوقفَ على قبرينِ، فقالَ: "أدفنتُم ها هنا فُلانًا وفلانة؟ " أو قالَ: فُلانًا وفُلانًا؟ " قالوا: نعمْ @
فقالَ: "قدْ أقعِدَ فلان الآن يُضربُ "، ثمَّ قالَ: "والَّذي نفسِي بيدِهِ لقدْ ضُرِبَ ضربة ما بقيَ منهُ عضوٌ إلا انقطعَ، ولقدْ تطايرَ قبرهُ نارًا، ولقد صرخ به صرخةً يسمعُها الخلائقُ إلا الثقلينِ من الجنِّ والإنسِ، ولولا تمريجٌ في صدورِكم وتزييدُكُم في الحديثِ لسمعتُم ما أسمعُ "،(2/364)
قالوا: يا رسولَ اللَّهِ ما ذنبُهما؟
قال: "أما فلان فإئه كانَ لا يستبرئُ من البولِ، وأما فلانٌ أو فلانة فكانَ يأكلُ لحومَ الناسِ ". وفي هذا الإسنادِ ضعفٌ.
وخرجَ ابنُ جرير في "تفسيره"، من طريقِ أسباط، عن السُّدِّي قالَ: قالَ
البراءُ بنُ عازبٍ: إن الكافرَ إذَا وُضعَ في قبرِه أتتْه دابَّةٌ كأنَّ عينيهَا قِدْرانِ من
نحاس، معها عمودٌ من حديدٍ، فتضربُه ضربةً بين كتفيهِ، فيصيحُ، فلا يَسمعُ
صوتَه أحدٌ إلا لعنهُ، ولا يَبْقى شيءٌ إلا سمعَ صوته إلا الثقلينِ الجنَّ
والإنسَ.
ومن طريقِ جويبر، عن الضحاكِ، قالَ: الكافر إِذا وُضِعَ في قبرهِ ضُرِبَ
ضربةً بمطراقٍ، فيصيحُ صيحةً، فيسمعُ صوتَه كلُّ شيء إلا الثقلينِ الجنَّ
والإنسَ، فلا يسمعُ صيحَته شيءٌ إلا لعنَهُ.
وروى اللالكائيّ بإسنادِه، عن محمدِ بنِ المنكدرِ، قالَ: بلغَنِي أن اللَّهَ عزَّ
وجلَّ يسلِّطُ على الكافرِ في قبرِه دابّةً عمياءً في يدِها سوطٌ من حديد، رأسُها
مثلُ غربِ البعيرِ فتضربُه بها إلى يومِ القيامةِ، لا تراهُ ولا تسمعُ صوتَه
فترحمُهُ.
ومنها: تسليطُ الحياتِ والعقاربِ عليه؛ وقد سبقَ ذلكَ من حديثِ أبي
هريرةَ.
وروى ابنُ وهب، حدثني عمرُو بن الحارثِ، أن أبا السمح، حدَّثه عن
ابنِ حجيرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "أتدرونَ فِيما أُنزلتْ هذه الآيةُ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) ؟
تدرونَ ما المعيشةُ الضنكُ؟ "
قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ، قال: "عذابُ الكافرِ في قبرِه، والذي نفسِي بيده إنه ليسلَّطُ عليه تسعة وتسعونَ تِنِّينًا، أتدرونَ ما التنينُ؟
قال: تسعة وتسعونَ حيةً، لكلًّ حيةٍ سبعةُ رؤوسٍ،(2/365)
وفي روايةٍ: "تسعةُ رؤوسٍ، ينفخونَ في جسمِهِ، وبلسعونَهُ ويخدِشوَنهُ إلي يومِ
يبعثونَ "
خرَّجه بقيُّ بنُ مخلدٍ في "مسندهِ ".
وخرَّجَه البزارُ، من وجهٍ آخرَ عن ابنِ حجيرةَ عن أبي هريرةَ، مرفوعًا
أيضًا مختصرًا.
وخرج ابنُ منده من طريقِ أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، وذكرَ قبضَ روح
المؤمنِ والكافرِ، وقالَ في الكافرِ: "ويسلَّطُ عليه الهوامُّ، وهي الحياتُ، فينامُ
كالمنهوسِ فينامُ ويفزعُ ".
وخرَّجَه مرفوعًا أيضًا.
وقد رُوي عن درّاج أبي السمح، عن أبي الهيثهم، عن أبي سعيد الخدريِّ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يسلَّطُ على الكافرِ في قبرهِ تسعةٌ وتسعونَ تنينًا، يلدغونَهُ حتَّى تقومَ الساعةُ، ولو أنَّ تِنينا منها نفخَ على الأرضِ ما أنبتتْ خضراءَ".
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ، وابنُ حبانَ في "صحيحهِ "، من طريقِ سعيدِ بن أبي أيوبَ، عن دراج بهِ.
ورواه ابنُ لهيعةَ، عن درَّاج، مرفوعًا - أيضَّاً - إلا أنه قالَ: "ضمّةُ القبرِ".
وخرَّجه الخلالُ، مِن طريقِ سعيدِ أبي خلادِ بنِ سليم، عن دراج أبي
السمح، عمَّن حدَّثَهُ، عن أبي سعيدٍ: أنَّهم سألُوه عن المعيشةِ الضنكِ.
قال: هي معيشةُ الكافرِ في قبرهِ، يبعثُ اللَّهُ إليه قبلَ يومَ القيامةِ اثنينِ وسبعينَ تنينًا وعقاربَ كالبغالِ يلسعْنهُ في قبرهِ، ويضيّقُ عليه قبرُه حتَّى تدخلَ الأضلاعُ(2/366)
بعضُها في بعضٍ، يتمنَّى أنه لو خرجَ منها إلى النارِ.
وهذا موقوفٌ، قد سبقَ في البابِ الثاني من وجه آخر مرفوعًا.
وقد رُوي بعضُه من وجهٍ آخرَ مرفوعًا وموقوفًا أيضًا.
وروى منصورُ بنُ صقير، عن حمادِ بنِ سلمةَ، عن أبي حازمٍ، عن
النعمانِ بن أبي عياشٍ، عن أبي سعيدٍ، أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في هذه الآيةِ:
(فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) قال: "المعيشةُ الضنكُ عذابُ القبرِ، يضيَّقُ عليه قبرُه
حتَى تختلفَ أضلاعُهُ، ولا يزالُ يعذبُ حتى يُبعثُ "
خرَّجه الخلالُ، ومنصورُ بن صُقير فيه ضعفٌ.
وخالفَهُ آدمُ بنُ أبي إياسٍ، فرواه عن أبي حازمٍ، عن حمَّادِ بن سلمةَ.
ووقفه.
وكذا رواه الثوريُّ، وسليمانُ بنُ بلالي، والدراورديُّ، وغيرُهم، عن أبي
حازمٍ، عن النعمانِ، عن أبي سعيدٍ مرفوعًا، وخالفَهُم ابنُ عيينة، فرواه عن
أبي حازمٍ عن أبي سلمة عن أبي سعيدٍ موقوفًا أيضًا، فمنهم من قال: أخطأ
فيه ابنُ عيينةَ، كذا قاله أبو زرعةَ والعلائيّ، وقيل: بل أبو سلمةَ هذا هو
النعمانُ بنُ أبي عياشٍ، قاله أبو حاتم الرازيُّ، وأبو أحمدَ الحاكمُ، وأبو بكرٍ
الخطيبُ وغيرُه.
وخرَّجه الإمامُ أحمدُ، من حديثِ علي بنِ زيدِ بن جدعانَ، عن أمِّ
محمدٍ، عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يرسَلُ على الكافرِ حيتانِ، واحدة من قبَل رأسه، والأخرى من قبلِ رجليه، يقرصانه قرصًا، كلَّما فرغَتا عادَتا إلى يوم القيامةِ".(2/367)
وخرَّجَ ابنُ أبي الدنيا - بإسنادٍ ضعيفٍ - عن الحسنِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يُرى أحدٌ خارجًا من الدنيا شاتمًا لأحد منهم - يعني من أول هذه الأمة - إلا سلَّطَ اللَّهُ عليه دابةً في قبرِه، تقرصُ لحمَهُ، يجدُ ألمَهُ إلى يوم القيامةِ".
وخرَّج الخلالُ، من طريقِ عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن ابنِ مسعود، قالَ: يقالُ
للكافرِ - يعني في قبرِه: ما أنتَ؟
فيقولُ: لا أدْري، فيقالُ: لا دريتَ - ثلاثًا، ويضيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختلفَ أضلاعُه، ويُرسلُ عليه حيَّات من جوانبِ قبرهِ، ينهشْنهُ ويأكلْنهُ، فإذا خرجَ صاحَ، قُمِعَ بمقامع من نار أو حديد.
وخرَّجَه أبو بكر الآجريُ، وزاد فيه: "وبُضربُ ضربةً يلتهبُ قبرُه نارًا"
وعنده: "وتنبعثُ عليه حياتٌ من النارِ كأعناقِ الإبلِ ".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا في كتابِ "الموتِ " بإسنادِه عن عبيدِ بن عميرٍ، قالَ:
يسلَّطُ عليه شجاعٌ أقرعُ، فيأكله حتى يأكلَ أمَّ هامتِهِ، فهذا أوَّلُ ما يصيبُه من عذابِ اللَّهِ.
وبإسناده عن مسروق، قال: ما من ميِّت يموتُ وهو يزنِي، أو يسرقُ، أو
يشربُ، أو يأتي شيئًا من هذه، إلا جُعِلَ معهَّ شَجاعانِ ينهشَانهِ في قبرِه.
ومنها: رضُّ رأسِ الميتِ بحجر، أو شق شدْقهِ أو نحوُ ذلك.
وفي حديث سمرةَ بنِ جندبٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُ الليلةَ رجلينِ أتيانِي فأخَذَا بيدِي، فأخرجَانِي إلى أرضٍ مقدسة، فإذا رجلٌ جالسٌ ورجلٌ قائمٌ بيده كَلُّوبٌ من حديدٍ يدخلُه في شدقِهِ حتَّى يبلغَ قفاةُ، ثم يفعلُ بشدقِهِ الآخر مثلَ ذلك، ويلتئمُ شدقُه هذا، فيعودُ فيصنعُ مثلَه، قلتُ: ما هذَا؟
قالا: انطلقْ فانطلقْنا، حتَّى أتينَا على رجل مضطجعٍ على قفَاه، ورجلٌ قائمٌ على رأسِه بصخرة أو فهر، فيشدَخُ بها(2/368)
رأسَه، فإذا ضربَه تدهْدَهَ الحجرُ، فانطلقَ إليه ليأخذَه فلا يرجعُ إلى هذا حتى يلتئمَ رأسُه، وعادَ رأسُه كما هُو، فعادَ إليه فضربَهُ، قلتُ: ما هذا؟
قالا لِي: انطلقْ، فانطلقْنا، إلي نقب مثلِ التنورِ أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقدُ تحتَهُ نار وإذا فيه رجالاً ونساء عراة فيأتِيهم
اللهبُ من تحتِهِم فإذَا اقتربَ ارتفعوا حتَّى كادُوا أن يخرجُوا، فإذا خمدتَ رجعُوا فِيها، وفيها رجالٌ ونساء، فقلتُ: ما هذا؟
قالا: انطلقْ، فانطلقْنا، حتَّى أتيْنَا على نهر من دمِ.
فيه رجل قائم وعلى شاطئ النهرِ رجل بين يديه حجارة، فأقبلَ الرجلُ الذي في النهرِ، فإذا أرادَ أن يخرجَ، رَمَى الرجلُ بحجر في فِيه فردَّه حيثُ كان، فجعلَ كلما جاءَ ليخرجَ رَمَى في فِيه بحجر رجعَ كما كانَ، فقلتُ: ما هذا؟ قالا لي: انطلقْ، فانطلقْنا".
فذكرَ الحديثَ.
وفيه: "قلتُ: طوفتُماني الليلةَ، فأخبرانِي عما رأيتُ؟
قالا: نعم، أما الرجلُ الذي رأيتَه يشقّ شدقُه فكذَّابٌ يحدِّثُ بالكذبِ، فتُحملُ عنه حتى تبلغَ الآفاقَ، فيصنعُ به ذلك إلى يوم القيامةِ؛ والذي رأيتَه يُشدخُ رأسُه فرجل علَّمه اللَهُ القرآنَ، فنامَ عنه بالليلِ، ولم يعملْ فيه بالنهارِ؛ يُفعلُ به إلى يوم القيامةِ؛ وأما الذي رأيتَ في النقبِ فهم
الزناةُ والزوانِي، وأما الذي رأيتَ في النهرِ فآكلُ الرِّبا".
وذكرَ الحديثَ بطوله.
خرَّجَه البخاريُّ.
وروى هذا الحديثَ أبو خلدةَ، عن أبي حازمٍ، عن سمرةَ، وفي حديثهِ:
"قلتُ: فالذي يسبحُ في الدم؟
قال: ذاك صاحبُ الرِّبا، ذاكَ طعامُه في القبرِ إلى يومِ القيامةِ.
قلت: فالذي يشدخُ رأسُه؟
قال: ذاك رجل علَّمه اللَهُ القرآنَ، فنامَ عنه حتى
نسيَه، لا يقرأُ منه شيئا، كلَّما رقدَ دقُوا رأسَه في القبرِ إلى يوم القيامةِ، ولا يدعونَهُ ينامُ ".
ومنها: تضييقُ القبرِ على الميتِ حتَّى تختلفَ فيه أضلاعُه، وقد سبقَ ذلك
في أحاديثَ متعددة.(2/369)
وخرّج الخلال - بإسنادٍ ضعيفٍ - عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الكافرِ: "فيضيقُ عليه قبرُه حتى يخرجَ دماغُه من بَينِ أظفارهِ ولحمهِ ".
وقد وردَ ما يدل على أن التَّضييقَ عامٌّ للمؤمنِ والكافرِ، وصرّحَ بذلكَ
طائفةٌ من العلماءِ، منهم ابنُ بطةَ وغيرُه، فروى شعبةُ، عن سعدِ بنِ إبراهيمَ، عن نافع، عن عائشةَ - رضي الله عنها -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن للقبرِ ضغطة، لو كان أحدٌ ناجيًا منها لنَجا مها سعدُ بنُ معاذٍ"
خرَّجه الإمام أحمد.
وقد اخُتلِفَ على شعبةَ في إسنادهِ، فقيلَ: عنه كما ذكرنا:
وقيل: عنه، عن نافع، عن إنسانٍ، عن عائشة - رضي الله عنها -.
وقيل: عنه، عن سعدٍ، عن نافع، عن امرأةِ ابنِ عمرَ، عن عائشةَ - رضي الله عنها -.
وروى: الثوريُّ، عن سعد، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وليس بالمحفوظِ.
ورواه ابنُ لهيعةَ، عن عقيلٍ، سمعَ سعدَ بنَ إبراهيمَ، يخبرُ عن عائشةَ
بنتَ سعدٍ، عن عائشةَ أمَ المؤمنينَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه قال لها: "تعوَّذِي باللهِ من عذابِ القبرِ، فإنه لو نجا منه أحدٌ لنجا سعدُ بنُ معاذٍ، لكنّه لم يزدْ على ضمِّه ".
خرَّجه الطبراني، ورواية شعبة أصح.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، من حديثِ محمدِ بنِ جابر، عن عمرِو بن مرةَ، عن
أبي البختري، عن حذيفةَ، قال: كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جناز، فلمَّا انتهينَا إلي القبرِ قعدَ على شفتهِ فجعلَ يرددُ بصرَه فيه، ثم قال: "يُضغطُ المؤمنُ فيه ضغطةً تزولُ منها حمائِلُه، وتُملأ على الكافرِ نارًا ".
ومحمد بن جابر هو اليمامي:(2/370)
ضعيف: وأبو البختري لم يدركْ حذيفةَ.
وخرج النسائيُّ، من حديثِ عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ عن نافع، عن عبدِ اللَّهِ بنِ
عمرَ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"هذا الذي تحرك له العرشُ وفتحتْ له أبوابُ السماءِ.
وشهدَهُ سبعونَ ألفًا من الملائكةِ، لقد ضُمّ ضمةً ثمَّ فُرِّج عنه ".
وخرَّجه البزارُ وقالَ: وروي عن عبيدِ اللَّهِ، عن نافع مرسلاً.
قلتُ: وقد سبقَ ذكرُ الاختلافِ فيه عن سعدِ بنِ إبراهيمَ عن نافعِ.
ورواه زيدُ بنُ أبي أنيسةَ، عن جابرٍ، عن نافع، عن صفيةَ بنتِ أبي عبيدٍ.
عن بعضِ أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن كنتُ لأرى لو أنَّ أحدَا أُعفي من عذابِ القبرِ.
لعُفِي منه سعدُ بنُ معاذٍ، لقد ضُم فيه ضمةً".
وخرَّجه البزارُ من وجهٍ آخرَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، ومن طريقِ عطاءِ
بنِ السائبِ عن مجاهدٍ عن ابنِ عمرَ.
وخرَّج الطبراني صْ طريقِ زكريا بنِ سلامٍ، عن سعيدِ بن مسروقٍ، عن
أنسٍ، قال: لما ماتتْ زينبُ بنتُ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حزنَ، ثم سُرِّيَ عنه، فقلنا: يا رسولَ اللَّه، رأينا منك ما لم نرَ، قالَ: "ذكرتُ زينبَ وضعفَها وضغطةَ القبرِ، لقد هُوِّن عليها، ومع ذلكَ لقد ضُغِطتْ ضغطةً بلغتِ الخافقينِ ".
وزكريا قيل: إنه مجهولٌ، وسعيدُ بنُ مسروق، لم يدركْ أنسًا، فهو منقطِعٌ.
وقد رُوي من وجهٍ آخرَ عن أنسٍ، من روايةِ الأعمشِ، عن أنسٍ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناهُ.(2/371)
وكذا رواه أبو حمزة السكري، عن الأعمشِ، والأعمشُ لم يسمعْ من
أنسِ عند الأكثرينَ.
وقيلَ: عن أبي حمزةَ، عن الأعمشِ، عن سليمانَ، عن أنسٍ.
ورواه سعدُ بنُ الصلتِ، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن أنسٍ.
ورواهُ حبيبُ بنُ خالد الأسدي عن الأعمشِ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ المغيرة، عن
أنسِ.
ورواه حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثمامةَ، عن أنسِ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَفَن صبيا أو صبيةً، فقالَ: "لو نجا أحدٌ من ضمّةِ القبرِ لنجا منها هذا الصبي".
خرَّجَه الخلالُ، والطبرانيُّ.
وقد اختُلفَ فيه على حمادِ، فرواه جماعةٌ عن ثمامةَ مرسلاً.
والمرسلُ هو الصحيحُ، عند أبي حاتمٍ الرازي، والدارقطنيِّ.
وروى ابنُ وهبِ، عن عمرِو بنِ الحارثِ، عن أبي النضرِ، عن زيادِ مولى
ابن عباس عن ابنِ عباسِ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعدَ على قبرِ سعدِ بن معاذ فقال:
"لو نجا من ضغطة القبرِ أحدٌ منه لنجَا سعدُ بنُ معاذٍ، ولقد ضُمَّ ضمَّة ثم فرجِّ عنه ".
خرَّجَه الطبرانيُّ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائي، من حديثِ يزيدَ بنِ عبدِ اللَّهِ بن الهادِ.
عن معاذِ بن رفاعةَ، عن جابرٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسعدٍ وهو يدفنُ: " سبحانَ اللَّهِ، لهذا العبدِ الصالح الذي تحركَ له عرشُ الرحمنِ وفتحتْ له أبوابُ السماءِ شدِّد عليه ثمَّ فرجَ عنه ".(2/372)
وخرَّجَه الإمامُ أحمد، من طريقِ ابن إسحاقَ، حدثني معاذُ بنُ رفاعةَ.
عن محمودِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عمرِو بن الجموح، عن جابر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لقد تضايقَ على هذا العبدِ الصالح قبرُه حتى فرجَّ اللَّهُ عنه ".
وذكر ابنُ إسحاقَ: اهتزازَ العرشِ، وفتحَ أبوابِ السماء؛ عن معاذِ بنِ
رفاعةَ، قال: حدثني من شئتُ من رجال قومِي، عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكره في حديثِ جابر.
وزادَ في إسنادِ حديثِ جابرٍ رجلاً، وقوله أصحُّ من قولِ
يزيدِ بن الهادِ في هذا كلِّه عند كثير من أئمةِ الحفاظِ واللَّه أعلم.
وخرَّج البيهقيُّ، من حديثِ ابنِ إسحاقَ، قال: حدثني أميةُ بنُ عبدِ اللَّهِ.
أنه سألَ بعضَ أهلِ سعدٍ، ما بلغكَم من
قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟
قالوا: ذُكر لنا أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن ذلكَ، فقال: "كانَ يُقصِّر في بعض الطهورِ من البولِ ".
وذكر ابنُ أبي الدنيا عن عبيد اللَّه بنِ محمدٍ التميميِّ، قالَ: سمعتُ أبا
بكرٍ التيمي - شيخًا من قريشٍ - قال: كان يقالُ: إن ضمَّةَ القبرِ إنَّما أصلُها أُمُّهم، ومنها خلقُوا، فغابُوا عنها الغيبةَ الطويلةَ، فلما رَدُّوا إليها أولادَها، ضمَّتهم ضمَّ الوالدةِ التي غابَ عنها ولدُها، ثم قدِمَ عليها، فمنْ كانَ للَّهِ عز وجل مطيعًا ضمتْهُ برأفة ورفقٍ، ومن كانَ للَّه عاصيًا ضمَّتْه بعنفِ، سخَطا منها عليه لربِّها.
وروى في كتابِ "المحتضرينَ " بإسنادِه عن عبدِ العزيزِ بن أبي روادٍ، عن(2/373)
نافع، أنه لمّا حضرتهُ الوفاةُ جعلَ يبْكي، فقيل له: ما يبكيكَ؟
فقال: ذكرتُ سعدًا وضغطةَ القبرِ.
وروى هنّادُ بن السريِّ، عن سعيدِ بن دينارٍ، عن إبراهيمَ الغنويِّ، عن
رجلٍ عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أنها مرَّتْ بها جنازةٌ صغيرةٌ فبكتْ، فقالتْ: بكيتُ لهذا الصبيِّ، شفقةً عليه من ضمَّةِ القبرِ.
قال هناد: وحدثنا محمدُ بنُ فضيل، عن أبيه، عن ابنِ أبي مليكةَ، قالَ:
ما أجِيرَ أحدٌ من ضغطةِ القبرِ، ولا سعدُ بنُ معاذٍ، الذي منديلٌ من مناديلهِ
خيرٌ من الدنيا وما فِيها.
وقال أبو الحسن بن البراءِ: حدثنا محمدُ بنُ الصباح، حدثنا عمّارُ بن
محمدٍ، عن ليثٍ، عن المنهالِ، عن زاذانَ، عن البراءِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) .
قال: " يُكْسَى الكافرُ في قبرِه ثوبانِ من نار، فذلك قولُه سبحانَهُ وتعالى:
(مِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) "
هذا غريبٌ منكرٌ.
وقد قيلَ: إن عذابَ القبرِ يفتر عن أهلِ القبورِ فيما بين النفختينِ، كذا
ذكرَهُ سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ، وتأوَّل ذلك قوله تعالى:
(يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) . أي، يعني تلكَ الفترةَ التي لا عذابَ فيها.
وورد ذلك مرفوعًا، خرَّجَه الخلالُ في كتابِ "السنة" حدثنا إسحاقُ بنُ
خالد البالسي، حدثنا محمد بن صعب، حدثنا روح بن مسافرٍ، عن
الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ هذه الأمة تبتلى في قبورِها"،(2/374)
فذكرَ الحديثَ بطوله، وفي آخرهِ قال: "فإنهم يعذبونَ في قبورِهم إلى
قريب من قيام الساعةِ، ثم ينامونَ قبيلَ الساعةِ، وهي النومةُ التي ندمُوا عليها، حين قالوا: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) .
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، وروحُ بن مسافر، وإسحاقُ بنِ خالدٍ، ضعيفانِ جدًّا.
وقد يُرفعُ عذابُ القبرِ أو بعضُه في بعضِ الأوقاتِ الشريفةِ.
فقد روي بإسنادٍ ضعيفٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ: أن عذابَ القبرِ يرفعُ عن
الموتى في شهرِ رمضانَ، وكذلكَ فتنةُ القبرِ ترفعُ عمَّن مات يومَ الجمعةِ أو ليلة
الجمعةِ.
كما خرَّجَ الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ
العاصِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما منْ مسلمٍ يموتُ يومَ الجمعةِ أو ليلةَ الجمعةِ إلا وقاهُ اللهُ فتنةَ القبرِ".
وأما نعيمُ القبرِ، فقد دلّ عليه قولُه تعالَى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) ، كما سبق.
وقد تقدّمَ في حديثِ البراءِ وغيرِه ذكرُ بعضِ نعيم القبرِ.
وروى ابنُ وهبٍ، حدَّثني عمرُو بنُ الحارثِ، أنَّ أبا المسيح درَّاجًا حدَّثَهُ.
عن ابنِ حجيرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إن المؤمنَ في قبرِه لفي روضة خضراءَ، ويرحبُ له قبرُه سبعونَ ذراعًا، وينوّرُ له فيه كالقمرِ ليلةَ البدرِ".
وروى أبو عبد الرحمنِ المقرئُ، حدثنا داودُ أبو بحر، عن صهرٍ له - يقالُ(2/375)
له: مسلمُ بنُ مسلم - عن مُورِّقٍ العجليِّ، عن عبيدِ بنِ عميرٍ، قال: قال
عبادةُ بنُ الصامتِ: إذا حضرتْه - يعني المؤمنَ المتهجدَ بالقرآنِ - الوفاةُ جاءَ
القرآنُ فوقفَ عند رأسهِ، وهم يغسِّلونَهُ، فإذا فرغَ منه دخلَ حتى صارَ بين
صدرِه وكفنِهِ، فإذَا وُضِعَ في حفرتِهِ جاءَه منكرٌ ونكير، خرجَ حتى صارَ بينه
وبينهُمَا، فيقولانِ له: إليكَ عنَا، فإنا نريدُ أن نسألَهُ، فيقولُ: واللَّه ما أنا
بمفارقه، فإن كنتُما أمرتُما فيه بشيء فشأنكما.
ثم ينظرُ إليه، فيقولُ: هل تعرِفني؟
فيقول: لا. فيقولُ: أنا القرآنُ الذي كنتُ أسهرُ ليلكَ، وأظمأ
نهارَك، وأمنعكَ شهوتَكَ، وسمعَكَ، وبصرَكَ، فستجدُني من الأخلاءِ خليلَ
صدقٍ، فأبشرْ، فما عليكَ بعد مسألةِ منكرٍ ونكيرٍ من هم، ولا حزنٍ، ثم
يخرجانِ عنه، فيصعدُ القرآنُ إلى ربِّه، فيسأله فراشًا ودِثارًا، قال: فيؤمرُ له
بفراشٍ ودثارٍ وقنديلٍ من الجنةِ، وياسمين من الجنةِ، فيحمله ألفُ ملك من
مقرَبي سماءِ الدنيا. قال: فيسبقُهُم إليه القرآنُ، فيقولُ: هل استوحشتَ
بعدي؟ فإنِّي لم أزلْ بربي حتى أمرَ لكَ بفراشٍ ودثارٍ ونورٍ من الجنةِ.
قال: فتدخلُ عليه الملائكة، فيحملونَهُ ويفرشونَ له ذلك الفراشَ، ويضعونَ الدِّثارَ تحتَ رجليهِ، والياسمينَ عند صدرهِ، ثم يحملونَهُ حتى يضجعُوه على شقِّه الأيمن، ثم يصعدونَ عنه، فيستلقِي عليه، فلا يزالُ ينظر إلى الملائكة حتى يلجُوا في السماءِ، ثم يدفعُ القرآنَ في قبلةِ القبرِ، فيوسعُ عليه ما شاءَ الَلَّهُ من ذلكَ.
قال أبو عبد الرحمنِ: وكان في كتابِ معاويةَ إليَّ: فيوسَّع له مسيرةَ
أربعمائةِ عامٍ، ثم يحملُ الياسمينَ من عندِ صدرِه، فيجعلُه عند أنفهِ، فيشقه
غضا إلي يوم ينفخُ في الصورِ، ثم يأتي أهلَه كلَّ يومٍ مرةً أو مرتينِ، فيأتيه(2/376)
بخبرِهم، ويدعُو لهم بالخيرِ والإقبالِ، فإن تعلَّم أحدٌ من ولدهِ القرآنَ بشّره
بذلكَ، وإن كانَ عقبَ سوءٍ، أتى الدارَ بكرةً وعشيًا، فبكى عليه إلى أن يُنفخَ في الصورِ. أو كما قال.
قال الحافظُ أبو موسى المديني: هذا خبرٌ حسنٌ رواه الإمام أحمد بن
حنبل، وأبو خيثمة، وطبقتُهما من المتقدمينَ، عن أبي عبد الرحمنِ المقرئِ.
وقد تقدّمَ في البابِ الثاني:
"القبرُ روضةٌ من رياضِ الجنةِ، أو حفرةٌ من حفرِ النارِ".
من حديثِ أبي هريرةَ، وأبي سعيدٍ، بإسنادينِ ضعيفينِ.
وروي أيضًا من حديثِ ابنِ عمرَ، خرَّجَهُ ابنُ أبي الدنيا، حدثنا هارونُ بن
سفيانَ، حدثنا محمدُ بنُ عمرَ، أخبرنا أخي شملةُ بنُ عمرَ، عن عمرَ بن
شيبةَ عن أبي كثيرِ الأشجعيِّ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"القبرُ روضةٌ من رياضِ الجنةِ، أو حفرةٌ من حفرِ النارِ". إسنادُه ضعيف.
* * *(2/377)
سُورَةُ الحَدِيدِ
قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)
إنَّ اللَّهَ تعالى أمرَ عبادَهُ في كتابهِ، وعلى لسانِ رسُولهِ، بجميع ما يُصلحُ
قلوبَ عبادِهِ، ويُقرِّبها منه، ونهاهُم عمَّا ينافِي ذلكَ ويضادُّه ولمَّا كانتِ الرّوح
تقوَى بما تسمعُه من الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وتَحْيَا بذلكَ، شرعَ اللَّهُ لعبادِهِ سماعَ ما تقوَى به قلوبُهم، وتتغذّى وتزدادُ إيمانًا.
فتارةً يكونُ ذلك فرضًا عليهم، كسماع القرآنِ، والذكرِ والموْعظةِ يومَ
الجمعةِ في الخطبةِ والصَّلاةِ، وكسماع القرآنِ في الصّلواتِ الجهريّةِ من
المكتوباتِ.
وتارةً يكونُ ذلك مندُوبًا إليه غيرَ مفترضٍ، كمجالسِ الذكرِ المندُوبِ إليها.
فهذا السّماعُ حَادٍ يحدُو قلبَ المؤمنِ إلى الوصولِ إلى ربِّه، يسُوقُه ويشُوقُه إلى
قربه، وقد مدحَ اللَّهُ المؤمنينَ بوجودِ مزيدِ أحوالهِم، بهذا السماع.
وذمَّ من لا يجدُ منهُ ما يجدونَهُ، فقالَ تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) .
وقال: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
وقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) .(2/378)
قال ابنُ مسعودٍ: ما كانَ بين إسلامنَا، وبينَ أنْ عوتبْنَا بهذهِ الآية ِ
إلا أربعَ سنينَ. خرَّجَه مسلم.
وفي روايةٍ أُخرى قال: فجعلَ المؤمنون يعاتِبُ بعضُهم بعضًا.
وعن ابنِ عباسٍ قال: إن اللَّهَ استبْطأ قلوبَ المهاجرينَ فعاتَبهُم، على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةٍ من نزُولِ القرآنِ، بهذه الآيةِ.
فهذه الآية ُ تتضمّنُ توبيخًا وعتابًا لمن سمعَ هذا السماعَ، ولم يُحدِثْ له في
قلبهِ صَلاحًا ورقَّةً وخشوعًا، فإنَّ هذا الكتابَ المسمُوعَ يشتملُ على نهاية
المطلوبِ، وغايةِ ما تصلُحُ به القلوبُ، وتنجذبُ به الأرواحُ، المعلّقةُ بالمحلًّ
الأعْلَى إلى حضرةِ المحبوبِ، فيحْيى بذلك القلبُ بعد مماتِهِ، ويجتمعُ بعدَ
شتاتهِ، وتزولُ قسوتُهُ بتدبُّر خطابِهِ وسماع آياتهِ، فإنَّ القلوبَ إذا أيقنتْ بعظمةِ ما سمعتْ، واستشْعَرتْ شَرَفَ نسبةِ هذا القولِ إلى قائلِهِ، أذعنتْ وخضعتْ.
فإذا تدبَّرَتْ ما احتَوى عليه من المرادِ ووعتْ، اندكَّتْ من مهابةِ اللَّهِ وإجلالِهِ، وخشعت.
فإذا هطلَ عليها وَابلُ الإيمانِ من سُحُب القرآنِ، أخذتْ ما وسعتْ، فإذَا
بذَر فيها القرآنُ مِنْ حقائقِ العرفانِ، وسقاهُ ماءُ الإيمانِ، أنبتتْ ما زرعتْ
(وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَؤجِ بَهِيجٍ) ، (فانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كيْفَ يحْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ، ومتى فقدت القلوبُ غذاءَها، وكانتْ جاهلةً بهِ، طلبت العِوضَ من غيرهِ، فتغذتْ بِهِ، فازداد سقمُها بفقْدِهَا ما ينفعُها والتعوّضِ بما يضرّها.
فإذا سقمتْ مالتْ إلى ما فيه ضررُها، ولم تجدْ طعمَ غذائِها، الذي فيه نفعُها، فتعوضتْ عن(2/379)
سماع الآياتِ، بسماع الأبياتِ. وعن تدبُّرِ معاني التنزيلِ، بسماع الأصواتِ.
قال عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه -: لو طهُرتْ قلوبكم ما شبعتُم من كلامِ ربكم.
وفي حديث مرسل: "إنَّ هذه القلوبَ تصدَأُ كما يصدا الحديد"، قيل: فما
جلاؤُه؛، قالَ: "تلاوةُ كتابِ اللهِ ". وفي حديث آخرَ مرسلٍ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطبَ بعدما قدِمَ المدينةَ، فقال:
"إن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ، قد أفلحَ منْ زينه اللهُ في قلبِهِ، وأدخلَهُ في الإسلامِ بعد الكفرِ؛ واختارَهُ على ما سواهُ من أحاديث الناسِ.
إنه أحسنُ الحديثِ وأبلغُه، أحِبُّوا ما أحبَّ الله، أحِبُّوا الله من كلّ قلوبكِم ".
وقالَ ميمونُ بن مِهرانَ: إنّ هذا القرآنَ قدْ خلق في صدُورِ كثيرٍ من الناسِ.
والتمسوا حديثًا غيره، وهو ربيعُ قلوبِ المؤمنينَ، وهو غضٌّ جديدٌ في
قلوبِهِم.
وقال محمدُ بنُ واسع: القرآنُ بستانُ العارفينَ حيثما حلُّوا منه، حلُّوا
في نزه!.
وقال مالكُ بنُ دينار: يا حملةَ القرآنِ ماذَا زرعَ القرآنُ في
قلوبِكم؟!
فإنَّ القرآنَ ربيعُ المؤمنينَ، كما أنَّ الغيثَ ربيعُ الأرضِ، فقد ينزلُ
الغيثُ من السَّماءِ إلى الأرضِ، فيُصيبُ الحشَّ فتكونُ فيه الحبَّةُ، فلا يمنعُها
نتن موضعِهَا أن تهتزَّ وتخضرَّ وتحسُن.
فيا حملَة القرآنِ، ماذا زرعَ القرآنُ في قلوبِكُم؟
أين أصحابُ سورة؛ أينَ أصحابُ سورتين؟! ماذا عملتم فيهما.
وقال الحسن: تففدُوا الحلاوةَ في الصّلاةِ، وفي القرآنِ، وفي الذكرِ.
فإنْ وجدتمُوها فامضُوا وأبشِرُوا، وإنْ لم تجدُوها فاعْلمُوا أنَّ البابَ مغلق.
اسمعْ يا منْ لا يجدُ الحلاوةَ في سماع الآياتِ، ويجدها في سماع الأبياتِ.
في حديث مرفوع:
"منِ اشْتاقَ إلى الجنة فليسْمَعْ كلامَ اللهِ ".
كان داودُ الطّائيُّ يترنمُ بالآيةِ في الليلِ، فيرى من سمعهُ أن جميعَ نعيم الدنيا جُمِعَ في ترنُّمه.(2/380)
قال أحمدُ بنُ أبي الحواري: إنيِّ لأقرأُ القرآنَ، فأنظرُ في آية آيةٍ، فيحارُ
فيها عَقْلي، وأعجبُ من حُفَّاظِ القرآنِ، كيف يهنيهمُ النّومُ، ويسعُهُم أن
يشْتَغِلُوا بشيءٍ من الدُّنيا، وهم يتلونَ كلامَ اللَّهِ!!
أمَا لو فهِمُوا ما يتلونَ، وعَرفُوا حقَّه، وتلذَّذُوا بِهِ، واستحلوا المناجاةَ بِهِ، لذهبَ عنهم النومُ، فَرحًا بما قدْ رُزِقوا.
قال ابنُ مسعودٍ. لا يسألُ أحدٌ عن نفسِهِ غيرَ القرآنِ، فمن كانَ يحبُّ
القراَنَ فهُوَ يحبُّ اللهَ ورسولَهُ.
قال سهل التستريُّ: علامةُ حُبِّ اللَّهِ، حُبُّ القرآنِ.
وقال أبو سعيدٍ الخراز: مَن أحبَّ اللَّهَ أحبَّ كلامَ اللهِ، ولم يشبَع من
تلاوتهِ.
ويُروى عن معاذ قالَ: سيبلى القرآنُ في صدُورِ أقوامٍ، كما يبْلى الثوبُ.
فيتهافتُ، فيقرءونه لا يجدون له شهوةً.
وعن حذيفةَ قالَ: يوشِكُ أن يدرُسَ الإسلامُ، كما يدرسُ وشيُ الثوبِ.
ويقرأُ الناسُ القرآنَ لا يجدونَ له حلاوةً.
وعن أبي العَاليةَ قالَ: سيأْتي على الناسِ زمان، تخربُ فيه صدورُهم من
القرآنِ، وتبلَى كما تبْلى ثيابُهم، وتهافَت فلا يجدُون له حلاوةً، ولا لذاذةً.
قال أبو محمد الجريري - وهو من أكابرِ مشايخ الصوفيّةِ -: من استولْت
عليهِ النفسُ، صارَ أسيرًا في حكم الشَّهواتِ، محصُورًا في سجنِ الهوَى.
فحرَّم اللَّهُ على قلبِهِ الفوائدَ، فلا يستلذُّ بكلامِهِ، ولا يستحلِيهِ، وإنْ كثُرَ
تردادُه على لسانِه.
وذُكِرَ عند بعضِ العارفينَ أصحابُ القصائدِ، فقالَ: هؤلاءِ
الفرارُونَ من اللهِ عز وجل، لو ناصحُوا اللَّهَ، وصدَّقُوه، لأفادَهُم في(2/381)
سَرائرِهِم، ما يشغلُهم عن كثرةِ التلاقِي.
واعلمْ أن سماعَ الأغانِي يضادُ سماعَ القرآنِ، مِنْ كلِّ وجهٍ.
فإنّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ، ووحيُهُ ونوُرهُ، الذي أحيا اللَّهُ به القُلوبَ الميتةَ، وأخرجَ العبادَ به من الظلماتِ إلى النّورِ.
والأغاني وآلاتُها مزاميرُ الشيطانِ.
فإنَّ الشيطانَ قرآنهُ الشعرُ، ومؤذِّنُه المزمارُ، ومصائِدُه النّساءُ.
كذا قالَ قتادةُ وغيرُه من السَّلفِ.
وقد رُوي ذلك مرفوعًا، من روايةِ عبيدِ اللَّه بن زحْر، عن عليِّ بنِ يزيدَ عن القاسم، عن أبي أمامةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقدْ سبقَ ذكرُ هذا الإسنادِ.
والقرآنُ تُذكر فيه أسماءُ اللَهِ، وصفاتُهُ وأفعالُهُ، وقدرتُهُ وعظمتُة، وكبرياؤه
وجلالُه، ووعدُه ووعيدُه.
والأغاني إنما يُذكرُ فيها: صفاتُ الخمرِ والصورُ المحرّمُة، الجميلةُ ظاهرُها
المستقذرُ باطنُها التي كانتْ تُرابًا، وتعُود ترابًا.
فمن نزّل صفاتِها على صفاتِ من ليس كمثلِهِ شيءٌ وهوَ السَّميعُ البصيرُ، فقد شبَّه، ومرقَ من الإسلامِ، كما - يمرُقُ السهمُ من الرميةِ.
وقد رُئيَ بعضُ مشايخ القومِ في النَّومِ بعدَ موتِهِ.
فسُئِلَ عن حالِهِ فقالَ: أوقفني بينَ يديه، ووبَّخني، وقالَ: كنتَ تسمعُ
وتقِيسُني بسُعْدى ولُبنَى.
وقد ذكرَ هذا المنامَ أبو طالبٍ المكيُّ، في كتابِ "قوتِ القلوبِ ".
وإن ذُكر في شيءٍ من الأغانِي التوحيدُ، فغالِبُه من يسوقُ ظاهرُه إلى
الإلحادِ: من الحلولِ والاتحادِ، وإن ذُكِرَ شيءٌ من الإيمانِ والمحبةِ، أو توابع(2/382)
ذلكَ، فإنَّما يُعبَّرُ عنه بأسماء قبيحةٍ، كالخمرِ وأوعيتِهِ ومواطنِهِ وآثارهِ، ويُذكر فيه الوصلُ والهجرُ، والصدودُ والتجنِّي.
فيطربُ بذلكَ السامعونَ، وكأنَّهم يشيرون، إلى أن اللَّه تعالى، يفعل مع عبادهِ المحبينَ له المتقربينَ إليه، كما يذكرونَهُ.
فيبعدُ ممن يتقربُ إليه، ويصدُّ عمن يحبُّه ويُطيعُه، ويُعرِضُ عمن
يُقبلُ عليه.
وهذا جهل عظيمٌ فإنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ، على لسانِ رسُوله الصادقِ
المصدوقِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من تقرَّبَ منِّي شِبْرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ مني ذراعًا تقرَّبتُ
منه باعًا، ومن أتَاني يمشِي أتيته هرولةً".
وغايةُ ما تحرِّكُه هذه الأغاني: ما سكنَ في النفوسِ من المحبَّةِ، فتتحركُ
القلوبُ إلى محبوباتِها، كائنة ما كانتْ، من مباح ومحرّمٍ وحقٍّ وباطلٍ.
والصّادقُ من السامعينَ، قد يكونُ في قلبهِ محبّةُ اللهِ، مع ما ركزَ في الطباع
من الهَوى، فيكونُ الهَوى كامِنًا، لظهورِ سُلطانِ الإيمانِ. فتحركُّه الأغاني.
مع المحبّةِ الصحيحةِ. فيقْوى الوجدُ، ويظن السامعُ، أنْ ذلكَ كلَّه محبّةُ اللَّهِ.
وليسَ كذلك. بل هي محبّة ممزوجةٌ ممتزجة، حقُّها بباطِلها.
وليسَ كلُّ ما حرك الكامنَ في النفوسِ، يكونُ مُباحًا في حكم اللَّهِ ورسولهِ.
فإنّ الخمرَ تحركُ الكامنَ في النُفوسِ، وهي محرمة في حكم اللَّهِ ورسولهِ
كما قِيلَ:
الرَّاحُ كالريح إِن هبَّتْ على عِطْرٍ. . . طابتْ وتخبثُ إنْ مرَّتْ على الجِيَفِ
وهذا السماعُ المحظورُ، يُسكرُ النفوسَ، كما يسكرُ الخمرُ أو أشدُّ، ويصدُّ(2/383)
عن ذكرِ اللَّهِ، وعن الصَّلاةِ، كالخمرِ والميسرِ فإن فُرضَ وجُودُ رجلٍ يسْمعُه، وهو ممتَلئٌ قلبُه بمحبةِ اللَّهِ، لا يؤثرُ فيه شيءٌ من دَواعِي الهوى بالكليةِ، لم
يُوجبْ ذلك له خصوصًا، ولا للنّاسِ عمومًا. لأنّ أحكامَ الشريعةِ، تناطُ
بالأعمِّ الأغلبِ.
والنَّادرُ ينسحبُ عليه حكمُ الغالبِ، كما لو فُرض رجل تامُّ
العقلِ، بحيثُ لو شرِبَ الخمرَ، لم يُؤثرْ فيه ولم يقعْ فيه فساد، فإنَّ ذلك لا
يوجبُ إباحةَ الخمر له، ولا لغيرهِ. على أنَّ وجودَ هذا المفروضِ في الخارج.
في الصُّورتين: إما نادرٌ جدًّا أو ممتنعٌ متعذرٌ.
وإنما يظهرُ هذا السماعُ، على هذا الوجهِ، حيث جرّد كثير من أهلِ
السلوكِ الكلامَ في المحبةِ ولهجِوا بها، وأعرضُوا عن الخشيةِ.
وقد كانَ السلفُ الصالحُ يُحذِّرون منهمُ، ويفسِّقون من جرَّدَ، وأعرضَ عن الخشيةِ إلى الزندقةِ.
فإنَّ أكثرَ ما جَاءتْ به الرّسُلُ، وذكرَ في الكتابِ والسنةِ: هو خشيةُ
اللَّهِ وإجلالِهِ وتعظيمِهِ، وتعظيم حرماتِهِ وشعائِرهِ، وطاعتِهِ.
والأغاني لا تحرّكُ شيئا من ذلكَ، بلْ تُحدِثُ ضدَّهُ من الرعُونَةِ والانبساطِ
والشطح، ودعوى الوصُولِ والقُربِ، أو دعوى الاختصاصِ بولايةِ اللَّهِ التي
نسب اللَّهُ في كتابه دعواها إلى اليهودِ.
فأمَّا أهلُ الإيمانِ، فقد وصفهُم بأنَّهم
(يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وًّ قلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، وفسَّر ذلكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّهم: "يصومونَ ويتصدقونَ، ويصلُّون ويخشونَ أن لا يُتقبلَ منْهُم ".
وقد كانَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - يخافونَ النفاقَ على نفوسِهم، حتَى قالَ الحسنُ: ما أمِنَ النفاقَ إلا منافقٌ، ولا خشِيَهُ إلا مؤمنٌ.(2/384)
ويوجبُ أيضًا سماعُ الملاهي: النفرةَ عن سماع القرآنِ، كما أشارَ إليه
الشافعيُّ رحمه اللَّه.
وعدمَ حضورِ القلبِ عند سماعِهِ، وقلّةَ الانتفاع بسماعِهِ.
ويوجبُ أيضًا قلّةَ التعظيم لحرماتِ اللَّهِ، فلا يكادُ المدمِنُ لسماع
الملاهِي، يشتدُّ غضبُهُ لمحارمِ اللَّهِ تعالَى إذا انتُهكَتْ، كما وصفَ اللَّهُ تعالى
المحبّينَ لهُ بأنَّهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) .
ومفاسدُ الغناءِ كثيرةٌ جدًّا.
وفي الجملةِ فسماعُ القرآنِ ينبتُ الإيمانَ في القلبِ، كما ينبِتُ الماءُ البقلَ.
وسماعُ الغناءِ ينبتُ النفاقَ، كما ينبتُ الماءُ البقلَ.
ولا يستويانِ حتى يستوي الحقُّ والبُطلانُ (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) .
واللَّهُ تعالى المسئولُ أن يهدِيَنا وسائرَ إخوانِنَا المؤمنينَ إلى صراطٍ مستقيم، صراطِ الذين أنعمَ عليهم غير المغضوبِ عليهِم، ولا الضالين آمين والحمدُ للَّه ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللَّه على سيدنا محمدٍ، وآلهِ وصحبهِ أجمعين.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)
وقد قال طائفة من السَّلف في قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا) : إنَّ القرضَ الحسنَ قولُ: سبحانَ اللَّهِ، والحمد اللَّهِ، ولا
إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ.
وفي "مراسيلِ الحسنِ "، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:(2/385)
"ما أتفقَ عبدٌ نفقة أفضلَ عندَ الله عزَّ وجلَّ من قول ليس من القرآن وهو من القرآن: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّهِ واللَّه اكبر" ً.
* * *
قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)
وقال بعضُ السلفِ في قول اللَّه تعالى: (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) :
إِنَّهم أوَّل الناسِ خروجًا إلى المسجدِ وإلى الجهادِ.
وفي قوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبكمْ) .
قال مكحول: التكبيرةُ الأولى مع الإمامِ.
وقال غيرُه: التكبيرة الأولى والصفُّ الأول.
* * *(2/386)
سُورَةُ المُجَادلَةِ
قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا عن أنسٍ قالَ: لم يكنِ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقبل مَنْ أجابه إلى الإسلامِ إلا بإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وكانتا فريضتين على مَنْ أقرَّ بمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلامِ، وذلك قولُ اللَّه عزَّ وجل:
(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
وهذا لا يثبتُ، وعلى تقديرِ ثبوتِهِ، فالمرادُ منه: أنه لم يكن يُقرُّ أحدًا دخلَ
في الإسلامِ على تركِ الصَّلاةِ والزكاةِ، وهذا حقّ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذًا لما بعثَهُ إلى اليمنِ أن يدعُوَهُم أوَّلاً إلى الشهادتينِ.
وقالَ: "إنْ هُمْ أطاعوك لذلكَ، فأعلمهُم بالصلاةِ ثم بالزكاةِ"
ومُرادُه أن من صارَ مسلمًا بدخولِهِ في الإسلامِ أُمِرَ
بعدَ ذلكَ بإقامِ الصلاةِ، ثم بإيتاءِ الزكاةِ، وكانَ من سألهُ عن الإسلامِ يذكرُ له مع الشهادتين بقيةَ أركانِ الإسلامِ، كما قالَ لجبريلٍ عليه السلامُ لما سألهُ عن الإسلامِ، وكمَا قال للأعرابيِّ الذي جاءَهُ ثائرَ الرأسِ يسألُ عن الإسلامِ.
* * *(2/387)
سُورَةُ الحَشْرِ
قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)
الأرضُ المعنوةُ هل هي داخلةٌ في آيةِ الغنائم المذكورةِ في سورةِ الأنفالِ
وهي قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية.
أمْ هي داخلةٌ في آيةِ الفيءِ المذكورةِ في سورةِ الحشرِ وهي قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، الآية ثم ذكر ثلاثة أصناف المهاجرين والأنصارَ ومن جاء بعدَهم؛ فقالتْ طائفةٌ: الأرضُ داخلةٌ في آية الغنيمة، فإنه تعالى قال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وشيءٌ نكرةٌ في سياقِ النَّفيً فيعمهُ كلَّ ما يُسمى شيئًا، قالوا: وآيةُ الفيءُ لم يدخل فيها حكمُ الغنيمة كما أنَّ آيةَ الغَنِيْمةِ لم يَدْخلْ فيها الفيءُ بلْ الغنيمةُ والفيءُ لكل واحدٍ منهما حمٌ يختصُّ له، وهذا قولُ مَنْ قالَ من الفقهاءِ: إنَّ الأرضَ تتعينُ قسمتُها بينَ الغانمينَ.
وقالت طائفةٌ: بل الأرضُ داخلةٌ في آيةِ الفيءِ، وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ
صرحُوا بذلك، وممن روي عنه عمر بن عبد العزيز، وقد سبق ذكر من قال
من السلف: إن السَّوادَ فيءٌ ونصَّ عليه الإمامُ أحمد.(2/388)
ووجه دخول الأرض في الفيءِ أنَّ اللَّه تعالى قال: (مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) إلى قوله: (وَالَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا) الآية، فجعل الفيءَ لثلاثةِ أصنافٍ؛ المهاجرينَ والأنصارَ
والذين جاءوا من بعدهم ولذلك لما تلا عمرُ - رضي الله عنه - هذه الآية قال: "استوعبتُ هذه الآيةُ الناسَ فلم يبقَ أحدٌ من المسلمين إلا له فيها حق إلا بعضَ من تملكون من أرقائِكم "
خرَّجَه أبو داود من طريق الزُّهْري عن - رضي الله عنه - منقطعًا.
وروي من وجه آخرَ عن الزهري موصولاً، ورواه هشامُ بنُ سعدٍ عن زيدِ بنِ
أسلمَ عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - أيضًا.
ثمَّ إنَّ عمرَ - رضي الله عنه - جعل أرضَ العنوة فيئًا وأرصدَها للمسلمين إلى يومِ القيامةِ، فدل على أنَه فهِمَ دخولَها في آياتِ الفيءِ ولذلك قرَّره أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ عبد العزيز في رسالتِهِ المشهورةِ التي بَين فيها أحكام الفيءِ وقد اعتمدَ عليها مالكٌ وأخذَ بها، كما ذكر ذلك القاضي إسماعيل في كتاب "أحكام القرآن " وساقها بتمامها بإسناده، وذكرَ البخاريّ في "صحيحه " بعضها تعليقًا وبَيَّنَ دخول الأرضِ في الفيءِ وأنَّ هذه الآياتِ ليستْ بسببِ بني النضيرِ.
وبنو النَّضيرِ أجَلاَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعدَ أن حاصرَهم قال الزهريُّ:
حاصر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بني النضير وهم سبط من اليهودِ بناحيةِ من المدينة حتى نَزَلُوا على الجلاءِ وعلى أنهَ لهم ما أقلَّت الإبل من الأمتعةِ إلا الحلقةَ فأنزل اللَّه فيهم يعني أول سورة الحشرِ.
خرَّجه أبو عبيدٍ وخرَّجه أبو داود مطولاً من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن رجلٍ من أصحابِ(2/389)
النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثًا طويلاً وفيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا على بني النضير بالكتابِ
فقاتَلَهَم حتى نزلوا على الجلاءِ فجلَتْ بنو النضير واحتملوا ما أقلَّتِ الإبلُ من
أمتعتِهم وأبوابِ بيوتهم وخشبِها، فدلَّ أنَّ نخلَ بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصةً أعطاه الله إياها وخصَّه بها فقال تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكَابٍ) ، يقول: فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرَها للمهاجرين وقسَّمها بينهم وقسَّم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجةٍ.
وبقي منها صدقة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - التي في أيدي بني فاطمةَ - رضي الله عنها -، وهذا الكلام أكثره مدرجٌ من قولِ الزهري واللَّه أعلم.
وخرَّج أبو داود من قولِه: "كانتْ بنو النَّضيرِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " إلى آخرِهِ من قول الزهريَ.
وثبت في "الصحيحين " عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حرَّق نخل بني النضير وقطَّع وهي البوُيْرَة فنزلتْ فيهم هذه الآيةُ: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكتمُوهَا) الآية.
وفي "الصحيحين " أيضًا عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:
"كانت أموالُ بني النضير مما أفاء اللَّه على رسولِهِ مما لم يوجفْ
المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركابٍ وكانتْ لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خاصةً فكان ينفقُ منها على أهلِهِ نفقةَ سنة ثمَّ ما بقي جعلَه في الكُرَاع والسلاح عدةً في سبيل اللَّه عز وجلَ.
وإذا عُلِمَ أنَّ الآيةَ نزلتْ بسببِ بني النضير فبنو النضير بما تركُوا أرضَهم
ونخْلَهم وسلاحَهم وقد جعلَه اللَّه فيئًا وخصَّه برسولِهِ إمَّا لأنَه كانَ يملكُ الفيء
في حياتِهِ، أو لأنه كان يُقسِّمه باجتهادِهِ ونظرِه بخلافِ الغنيمة ولا ريبَ أنَّ(2/390)
بني النضير لم يتركُوا أرضَهم إلا بعد حصار ومحاربةٍ ولم ينزلوا من
حصونِهم إلا خشيةَ القتلِ ومع هذا فقد جعلَ اللَّه أرضَ بني النضير فيئًا.
وقوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكابٍ) تذكيرٌ بنعمةِ اللَّهِ
عليهم في أنَّهم لم يحتاجوا في أخذِ ذلك إلى كثير عملٍ ولا مشقةٍ، وقال
مجاهدٌ في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال: يذكرُهم
ربُّهم أنَّه نصرَهم بغيرِ كراع ولا عدةٍ في بني قريظةَ وخيبرَ.
خرَّجه آدم بن أبي إياسٍ عن ورقاءَ عن أبي نجيح عنه، ومعلوم أنَّ خيبرَ وقعَ فيها قتال لكن يسير فتكون الآية ُ كقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وحينئذ فإمَّا أن تكونَ الأرضُ تُستثنى من عمومِ قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية، فيكونُ ذلك تخصيصًا من العامِّ، وإمَّا أن يكونَ هذا ناسخًا لحكم الأرضِ من آيةِ الغنيمةِ فإنَّ قصةَ بني النضير بعدَ قصةِ بدرٍ بالاتفاق والأشبهُ التخصيصُ إلا أنْ يقالَ: إنَّ قصةَ بدرٍ لم يدخُلْ فيها إلا المنقولات إذ لم يكنْ في غنيمةٍ بدرٍ أرضٌ، وهذا على قول من يَرى التخصيصَ بالسببِ ظاهرٌ، ومما يدل على تخصيصِ آيةِ الغنيمةِ بالمنقولاتِ، أنَ الله تعالى خصَّ هذه الأمة بإباحةِ الغنيمة كما ثبتَ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرةٍ.
والذي خصتْ بإباحته هو المنقولاتُ دونَ الأرضِ، فإنَّ اللَّه تعالى أورثَ بني
إسرائيل أرضَ الكفارِ وديارَهُم ولم يكن ذلك ممتنعًا عليها، لأنَّ الأرضَ ليستْ
بداخلة في مطلقِ الغنيمةِ وإنَّما كان ممتنعًا عليهم المنقولاتِ، ولهذا كانُوا
يحرِّقونها بالنار وإنَّما خصَّ الغانمون من هذه الأمة بالمنقولاتِ دون الأرضِ.
لأنَّ قتالَهم وجهادَهُم للَّه عزَّ وجلَّ لا للغنيمةِ، وإنَّما الغنيمةُ رخصةٌ من اللَّهِ
تعالَى ورحمةٌ بهم فخصُّوَا بما ليسَ له أصل يبقى، وأما ما له أصلٌ يبقَى فإنه(2/391)
يكونُ مشتركًا بين المسلمينَ كلِّهم، من وُجِدَ منهم ومن لم يوجدْ بعد ذلك.
ويبينُ هذا أنَّ الله تعالى نسبَ الغنيمةَ للغانمين، فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ) ، فأمَّا الأرضُ فأضافها إلى الرسول لقولِهِ: (مَا أفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) إشارةً إلى أن كلَّ قريية يفيئُها اللَّهُ على أمتِهِ إلى
يومِ القيامةِ، فهي مضافةٌ إلى الرسول غيرُ مختصةٍ بالغانمين، والإمامُ يقومُ
مقامَ الرسول في قسمتِها بالاجتهاد.
وقولُهُ: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) من الأرض خاصة
وقد صحَّ عن عطاءِ بن السائب والحسنِ البصري وغيرِهما من السلفِ أنهم
قالُوا: الأرضُ فيءٌ وإن أخذتْ بقتالٍ وتقدَّم ذكرُ ذلك عن جماعة من العلماءِ
يدلُّ على ذلك أنَّه جعلها لثلاثةِ أصنافٍ المهاجرينَ والأنصارِ ومن جاء بعدَهم
من المسلمين، وهذا لا يمكنُ في المنقولاتِ قطعًا، لأنَّ المنقولاتِ تستهلكُ
ويختصُّ به من يأخذُهُ فلا يمكنُ اشتراكُ جميع المسلمينَ فيه، وقد قيلَ: إنَّ
هذه الآية نزلتْ في قرى عرينةَ التي فتحتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فيها وفي قرى بني قريظة والنضير وحنين، وقيلَ: بل الآية ُ تعمُّ كلَّ ما فتحَ إلى آخر الدهر، وهو أصحُ، وإن كانَ سببُ نزولها في قرى عرينة، فإنَّ سبب الثزولِ لا يختص الحكمَ العامَّ.
قال معمرٌ: بلغنَا أن هذه الآيةَ نزلتْ في الجزيرةِ والخراج، وخراج القُرى.
يعني القُرى تؤدِّي الخراجُ ذكرُهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وكذا قال الحسنُ بنُ صالح: أن الفيءَ ما أُخذَ من الكفارِ بصلح من جزيةٍ أو خراج، وكذا فسر أحمدُ الفيءَ بأنه ما صولح عليه من الأرضين وجزيةِ الرؤوس وخراج الأرضِ.
وقال: فيه حق لجميع المسلمين، ولم يذكرْ في هذه الآيةِ بغيرِ إيجافٍ، كما ذكرهُ في(2/392)
الآية الأولى، وقد تقدَّم عن مجاهدٍ أنه حمل الآية الأولى على خيبر وقريظةَ
مع ما فيها من نفي الإيجافِ، فما لم يذكرْ فيه نفيُ الإيجافِ أوْلى أن يحملَ
على حالةِ القتالِ، فمن هنا قالتْ طائفة من السلف: المرادُ به ما أخذَهُ
المسلمونَ بقتالٍ من الأرضِ.
ذكرَ إسماعيلُ بن إسحاقَ عن أبيه عن المغيرة بنِ عبد الرحمن، قالَ ابنُ
إسحاقَ: وحدَّثني عبد الله بن أبي بكرٍ دخلَ حديثُ أحدُهما في الآخر.
قال: أنزلَ اللَّهُ تعالى في بني النضير سورة الحشرِ، فكانتْ أموالُ بني النضير
مما لم يوجفِ المسلمونَ عليه خيلاً ولا ركابًا، فجعل اللَّهُ أموالَهم لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - يضَعُها حيثُ شاءَ، ثم قالَ:
(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)
ما أوجفَ المسلمون عليه بالخيل والركابِ، وفُتحَ بالحربِ فللَّه وللرسول ولذي القربى، فهذا قسم آخرُ بينَ المسلمين على ما وضَعهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فقسم الفيءَ لمن سمَّى من المهاجرينَ والأنصارِ، لمن جاء بعدهم.
خرَّجه القاضي إسماعيلُ.
ونحو هذا قالَ قتادةُ ويزيد بن رومانَ: وأن هذه القرى مما أخذ بالقتال
لكنَهم قالوا: نُسخ ذلك بآيةِ الأنفالِ، فإن أرادوا النسخَ الاصطلاحي، وهو
رفعُ الحكم، فلا يصحُّ؛ لأنَّ آيةَ الأنفالِ نزلت عقبَ بدرٍ قبلَ بني النضير.
وإن أرادُوا أنها بينت أمرَهَا وأنَّ المرادَ بآيةِ الحشرِ خُمسُ الغنيمةِ خاصةً، وهذا قولُ عطاءٍ الخراسانيِّ ذكرهُ آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيرِهِ " عن أبي شيبةَ عنه على تقديرِ أن يكونَ المرادُ الخمسَ خاصة بآيةِ الحشر أنها بينت أنَّ خُمسَ
الغنيمةِ لا يختصُّ بالأصنافِ الخمسِ، بل يشتركُ فيها جميعُ المسلمين كان
متوجّها، ويستدلُّ بذلك على أن مصرف الخمسِ كلَّه مصرفُ الفيء، وهو(2/393)
أقوى الأقوالَ، وهو قولُ مالكٌ وقرره عمرُ بنُ عبد العزيزِ في رسالتِهِ في
الفيءِ تقريرًا بليغًا شافيًا - رضي الله عنه -.
فهذه ثلاثة أقوال في الآية إذا قلنا: إنَّ الفيءَ هنا ما أخذَ بقتالٍ، هل هي
منسوخة أو أن المرادَ بها خمسُ الغنيمةِ أو أنَّ المرادَ بها الأرضُ خاصةً، وهذا
الثالثُ أصحُّ ويقررُ هذا أنَّ الفيءَ يستعملُ كثيرًا فيما أخذ بقتالٍ.
وروى إبراهيمُ بنُ طهمانَ عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أفاءَ اللَّه على رسولِهِ خيبرَ فأقرَّهم رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كما كانُوا"، وذكرَ الحديث.
وروى يحيى بنُ سعيد عن بشير بنِ يسار أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما أفاء اللهُ عليه خيبرَ قسمَها ستةً وثلاثينَ سهمًا، وذكرَ الحديث.
خرَّجه أبو داود.
وإذا تقرَّرَ هذا فمن رأى دخولَ الأرضِ في آية الغنيمةِ خاصةً أوجبَ
قسمتَها بين الغانمينَ، ومن رأى دخولَها في آية الفيءِ خاصةً فمنهم من أوجب
إرصادَهَا للمسلمينَ عمومًا، كقول مالكٍ وأصحابِهِ، ومنهم من خير بين ذلك وبين قسمتِها، وهو قولُ الأكثرين، ثمَّ إنَّ أبا عبيد زعمَ أنَّ الصحابةَ - رضي الله عنهم - رأوا دخولَها في كلتا الآيتَيْنِ، فلذلكَ منهم من أشارَ بقسمتِها ومنهُم من أشارَ بحبسِها، وردَّ ذلك أصحابُ مالكٌ، وقالُوا: لو دخلتْ في آيةِ الغنيمةِ لكانتْ حقًّا للغانمينَ كالمنقولاتِ، فكيف يخيرُ الإمامُ بين إعطائها لأهلِها المستحقين لها وبين منعِهم حقّهم.
وقد يقالُ: إنَّ من رأى قسمتَها كالزبير وبلالٍ - رضي الله عنهما -، وهو أولُ اختيارَيِّ عمرَ - رضي الله عنه - لم يكنْ مأخذُهُ في ذلك دخولَها في آيةِ الغنيمة، وإنما يكونُ(2/394)
مأخذُهُم في ذلكَ أنها لما كانت فيئًا لجميع المسلمين، وحقًّا مشتركا بينهم جاز
تخصيصُ الغانمينَ بها لأنهم من جملةِ المسلمين، ولهم خصوصيةٌ على غيرِهم
بحصولِ هذه الأرضِ بقتالِهم عليها، فإذا كانتِ المصلحةُ في تخصيصِهم بها
جازَ، وهذا كما أقطع عثمانُ - رضي الله عنه - جماعةً من الصحابة بعض أرضِ السوادِ إقطاعَ تمليكٍ، ونظيرهُ وقفُ الإمامِ بعضَ أراضي بيتِ المالِ على بعضِ المسلمين، وقد أفتى بجوازِ ذلك ابنُ عقيل من أصحابنا وطوائفُ من أصحاب الشافعي وأبي حنيفةَ، ومن الشافعية من منع ذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
من ملك نفسَهُ وقهرَهَا ودانَها: عزَّ بذلكَ " لأنه انتصرَ على أشدِّ أعدائهِ
وقهرهُ وأسرهُ واكتفَى شرَّه قال اللَهُ تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فحصرَ الفلاحَ في وقايةِ شحِّ نفسِهِ، وتطلُّعِها إلى ما
مُنعتْ منهُ، وحرصِها على ما يُضيرُها مما تشتهيهِ: من علوٍّ وترفع، ومالٍ
وجاهٍ وأهلٍ ومسكنٍ، ومأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ وغيرِ ذلكَ.
فإنَّها تتطلعُ إلى ذلكَ كلِّه وتشتهِيهِ، وهو عينُ هلاكِهَا ومنه ينشأ البغيُ
والحسد والحقدُ.
فمن وقِيَ شح نفسه فقد قهرهَا وقصرَهَا على ما أُبيحَ لها
وأُذنَ لها فيه، وذلكَ عين الفلاح.
* * *(2/395)
قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
فأفضلُ الأعمالِ: سلامةُ الصدرِ من أنواع الشَّحناءِ كلّها، وأفضلها السَّلامةُ
من شحناءِ أهلِ الأهواءِ والبدع التي تقتضِي الطعنَ على سلفِ الأمةِ.
وبغضَهم والحِقدَ عليهم، واعتقادَ تكفيرِهم أو تبديعِهم وتضليلِهم، ثم يلي
ذلكَ سلامةُ القلبِ من الشَّحناءِ لعمومِ المسلمينَ، وإرادةُ الخيرِ لهُم.
ونصيحتُهم، وأن يُحبَّ لهم ما يُحبُّ لنفسهِ.
وقد وصفَ اللَهُ تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) .
وفي "المسندِ" عن أنسٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِهِ ثلاثةَ أيامٍ: "يطلُعُ عليكم الآنَ رَجُل مِن أهلِ الجنةِ" فيطلُعُ رجل واحدٌ، فاستضافهُ عبدُ اللَّهِ بن عمرو، فنامَ عنده ثلاثاً لينظرَ عملَه، فلم ير له في بيته كبيرَ عملٍ، فأخبرَه بالحال، فقال له: هو ما ترى، إلا أني أبيتُ وليسَ في قلبي شيءٌ على أحدٍ من المسلمين.
فقالَ عبدُ اللهِ: بهذا بلغَ ما بلغَ.
وفي "سُننِ ابنِ ماجةَ ": عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، قالَ: قِيل: يا رسول اللَّهِ، أيُّ الناسِ أفضلُ؟
قال: "كُلُّ مُخْمُوم القلبِ، صدوقِ اللِّسانِ ".
قالوا: صَدوقُ اللسانِ نعرفُه، فما مَخمُومُ القلبِ؟
قال: "هو التَّقِيُ النَّقِيُ الذي لا إثْمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حسدَ".(2/396)
قال بعضُ السَّلفِ: أفضلُ الأعمالِ سلامةُ الصُّدُورِ، وسخاوةُ النُّفوسِ.
والنصيحةُ للأمَّةِ، وبهذه الخصالِ بلغَ منْ بلغَ، لا بكثرةِ الاجتهادِ في الصَّومِ
والصَّلاةِ.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
وأعظمُ الشدائدِ التي تنزلُ بالعبدِ في الدنيا الموتُ، وما بعده أشدّ منه إن لم
يكنْ مصيرُ العبدِ إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمنِ الاستعدادُ للموتِ وما بعدَهُ
في حال الصحةِ بالتقوى والأعمالِ الصالحةِ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) .
فمن ذكرَ اللَّهَ في حالِ صحتِهِ ورخائِهِ، واستعدَّ حينئذٍ للقاءِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ
بالموتِ وما بعدَهُ، ذكرَهُ اللَهُ عندَ هذه الشدائدِ، فكانَ معهُ فيها، ولطفَ به، وأعانَهُ، وتولاهُ، وثبّتَه على التوحيدِ، فلقيهُ وهو عنه راضٍ، ومن نسِيَ اللَّهَ في حالِ صحته ورخائِهِ، ولم يستعد حينئذ للقائِهِ، نسيهُ اللَّهُ في هذه
الشدائدِ، بمعنى أنًّه أعرضَ عنهُ، وأهملَهُ، فإذا نزلَ الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ لهُ، أحسنَ الظن بربِّهِ، وجاءتْهُ البُشْرَى مِنَ اللَهِ فأحبَّ لقاءَ اللهِ، وأحبَّ اللَّهُ
لقاءَه، والفاجرُ بعكسِ ذلكَ، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشرُ بما قدَّمَهُ مما(2/397)
هو قادم عليهِ، ويندمُ المفرطُ، ويقولُ: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) .
قال أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَّمي قبلَ موتِهِ: كيفَ لا أرجُو ربِّي وقد صُمْتُ له
ثمانينَ رمضانَ؟
وقال أبو بكر بنُ عياشٍ لابنه عندَ موتِهِ: أترى اللَّه يضيعُ لأبيكَ أربعينَ
سنةً يختمُ القرآن كُلَّ ليلة؟
وختمَ آدمُ بنُ أبي إياس القرآنَ وهو مسجًّى للموتِ، ثم قالَ: بحُبِّي لكَ.
إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؛ كنتُ أُؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ، لا إله إلا اللَّه، ثم قُضِي.
ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عدي، رفعَ يديهِ، وقالَ: اللهمّ إنِّي إليكَ لمشتاق.
وقال عبدُ الصمدِ الزاهدُ عند موتِهِ: سيِّدي لهذهِ الساعةِ خبَّأتُكَ، ولهذا
اليومِ اقتنيتُكَ، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بكَ.
وقال قتادةُ في قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا)
قال: من الكربِ عندَ الموتِ.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباس في هذه الآيةِ: يُنجيهِ من كلِّ
كرب في الدنيا والآخرةِ.
وقال زيدُ بنُ أسلمَ في قولهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) .
قال: يُبشر بذلكَ عند موتِهِ، وفي قبرِهِ.
ويومَ يُبعثُ، فإنَّه لفي الجنةِ، وما ذهبتْ فرحةُ البشارةِ من قلبهِ.(2/398)
وقال ثابت البنانيُّ في هذه الآيةِ: بلغنا أن المؤمنَ حيثُ يبعثه اللَّه من قبره.
يتلقاهُ ملكاهُ اللذانِ كانَا معه في الدنيا، فيقولانِ لهُ: لا تخفْ ولا تحزنْ.
فيؤمِّنُ اللَّهُ خوفَه، ويُقرُّ اللَّهُ عينَه، فما مِنْ عظيمة تغشى الناسَ يومَ القيامة
إلا هي للمؤمنِ قرَّةُ عينٍ لما هداهُ اللَّهُ، ولما كانَ يعملُ في الدُّنيا.
* * *(2/399)
سُورَةُ المُمْتَحَنَةِ
قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعتُ الوزير يقول في قوله تعالى:
(رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كفَروا) ، قال: المعنى: لا تَبْتلِيْنا بأمر يوجبُ
افتتانَ الكفارِ بِنَا، فإنَّه إذا خُذِلَ المتُقي ونُصِر العاصي فُتِنَ الكافرُ.
وقال: لو كان مذهبُ هذا صحيحًا ما غُلِب.
* * *
قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)
وقد رُويَ عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - في قولهِ تعالى:
(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) ، قالَ: كانتِ المرأةُ إذا أتتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حلَّفها باللَّهِ: ما خرجتِ من بُغضِ زوج، وباللَّهِ: ما خرجتِ رغبةً بأرضٍ عن أرضٍ، وباللَّهِ: ما خرجتِ التماسَ دُنيا، وباللَّه: ما خرجت إلا حُبًّا للَّهِ ورسولهِ.
خرَّجهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جرير، والبزَّاَرُ في "مسنده "، وخرَّجه
الترمذي في بعضِ نسخ كتابهِ مختصرًا.
* * *(2/400)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
[قالَ البخاريُّ] : حدَّثنا أبُو اليمانِ: أنا شُعيبٌ، عن الزُّهريِّ: أخبرنِي
أبُو إدريسَ عائذُ اللَّه بنُ عبدِ اللَّهِ، أنَّ عبادةَ بنَ الصامتِ - وكانَ شهدَ بدرًا، وهوَ أحدُ النُّقباءِ ليلةَ العقبةِ -، أنَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: - وحولَهُ عصابةٌ منْ أصحابِهِ -:
"بايعُونِي على أنْ لا تُشركوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرقُوا، ولا تزنُوا، ولا تقتُلُوا
أولادكمْ، ولا تأتُوا بُبهتانٍ تفترُونَهُ بينَ أيديكُمْ وأرجُلكُمْ، ولا تعصوا فِي معرُوفٍ، فمنْ وفَّى منكُمْ فأجرُهُ على اللهِ، ومن أصابَ مِنْ ذلك شيئًا فعُوقِبَ بهِ في الدُّنيا فهُوَ كفَّارةٌ ومن أصابَ مِنْ ذلك شيئا ثُمَّ ستَرَهُ اللَهُ فهوَ إلى اللَّهِ، إن شاءَ عفَا عنهُ، وِإنْ شَاءَ عاقبهُ ".
فبايعْنَاهُ علَى ذلكَ.
هذا الحديث؛ سمعه أبو إِدْريس [. . .] ، عن عقبة بن عامر، عن عبادة.
وزيادة "عقبة" في إسناده وَهْم.
وقد خرجَ البخاريُّ الحديثَ في "ذكرِ بيعة العقبة" وفي "تفسير سورة
الممتحنة" من كتابه هذا، وفيه: التصريحُ بانَّ أبا إدريس أخبره به عبادة،(2/401)
وسمعه منه.
وكان عبادةُ قد شهدَ بدرًا، وهو أحدُ النقباءِ ليلةَ العقبةِ، حيثُ بايعتِ
الأنصارُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ الهجرةِ.
لكنْ؛ هلْ هذه البيعةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ كانت ليلةَ العقبةِ، أم لا؟
هذا وقعَ فيه تردُّد.
فرواهُ ابنُ إسحاقَ، عن الزهريِّ، وذكرَ في روايتِهِ، أنَّ هذه البيعةَ كانتْ
ليلةَ العقبةِ..
وروى ابنُ إسحاقَ - أيضًا -، عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخيرِ مرثد
ابنِ عبدِ اللَّهِ، عن الصُّنابحي، عن عبادةَ بنِ الصامتِ، قالَ: كنتُ فيمن
حضرَ العقبةَ الأُولى، وكنَّا اثني عشرَ رجلاً، فبايعنا رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على بيعةِ النسَاءِ، وذلكَ قبلَ أن تفرضَ الحربُ على أنْ لا نشركَ باللًّهِ شيئًا، ولا نسرقَ، ولا نزني - الحديث.
خرَّجَهُ الإمامُ أحمد، من روايةِ ابنِ إسحاقَ - هكذا.
وكذا رواه الواقديُّ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيب.
وخرَّجاهُ في "الصحيحين "، من حديثِ الليثِ بنِ سعدٍ، عن يزيدَ بنِ
أبي حبيبٍ، عن أبي الخيرِ، عن الصنابحيِّ، عن عبادةَ، قالَ: إني من النقباءِ
الذينَ بايعُوا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، بايَعَنا على أنْ لا نشركَ باللَّهِ شيئًا - فذكرَ الحديثَ.(2/402)
وليس هذا بالصريح في أنَّ هذه البيعةَ كانتْ ليلةَ العقبةِ.
ولفظُ مسلم بهذه الروايةِ: عن عبادةَ بنِ الصامتِ، قالَ: إنِّي من النقباءِ
الذينَ بايعُوا رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ: بايعناهُ على أن لا نشركَ - الحديث.
وهذا اللفظُ؛ قد يُشعرُ بأنَّ هذهِ البيعةَ غيرُ بيعةِ النقباءِ.
وخرَّجَهُ مسلمٌ، من وجهٍ آخرَ، من روايةِ أبي قلابَة، عن أبي الأشعثِ.
عن عبادةَ، قالَ: أخذَ علينا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، كما أخذَ على النساءِ: أنْ لا نشركَ باللَّه شيئًا.
وهذا قد يُشعرُ بتقدمِ أخذهِ على النساءِ على أخذِهِ عليهِم.
وخرجَ مسلمٌ حديثَ عبادةَ، من رواية أبي إدريس عنه، وقال في حديثه:
"فتلا علينا آية النساء: (أَن لاَّ يشْرِكنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) الآية ".
وخرَّجَه البخاريُّ في "تفسيرِ سورة الممتحنة" من رواية ابنِ عيينةَ، عن
الزهريِّ، وقالَ فيه: وقرا آيةَ النساءِ، وأكثرُ لفظِ سفيانَ: وقرا الآيةَ.
ثم قالَ: تابعهُ عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ - في الآيةِ.
وكذا خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ، وعندَهُما: فقرأ عليهم الآيةَ.
زاد الإمامُ أحمدُ: التي أخذت على النساءِ: (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ) .
وهذا تصريحٌ بأنَّ هذه البيعةَ كانتْ بالمدينةِ؛ لأن آيةَ بيعةِ النساءِ مَدنية.(2/403)
وروى هذا الحديثَ سفيانُ بن حسينٍ، عن الزهريِّ، وقال في حديثه: إنَّ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم:
"أيكمْ يبايعني على هؤلاء الآياتِ الثلاثِ؟ " ثُمَّ تلا هذه الآيةَ:
(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا) ، حتى فرغ من
الثلاثِ آيات.
خرَّجَه الهيثم بن كليبٍ في "مسندهِ ".
وسفيانُ بنُ حسينِ، ليسَ بقويِّ، خصوصًا في حديثِ الزهريِّ، وقد
خالفَ سائرَ الثقاتِ من أصحابهِ في هذا.
وقد روى عبادةُ بنُ الصامتِ، أنهم بايعُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في المنشطِ والمكرَهِ، وأن لا ينازعُوا الأمرَ أهلَه، وأن يقولوا بالحق.
فهذه صفةٌ أخرى، غيرَ صفةِ البيعةِ المذكورةِ في الأحاديثِ المتقدمةِ.
وهذه البيعةُ الثانيةُ مخرجةٌ في "الصحيحينِ " من غيرِ وجهِ عن عبادةَ.
وقد خرَّجها الإمامُ أحمد، من روايةِ ابنِ إسحاقَ: حدثني عبادةُ بنُ
الوليدِ بنِ عبادةَ بن الصامت، عن جدِّهِ عبادةَ - وكانَ أحدَ النقباءِ -.
قالَ: بايعنا رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بيعةَ الحربِ، وكانَ عبادةُ من الاثني عشرَ الذينَ بايعُوا في العقبةِ الأولى على بيعةِ النساءِ على السمع والطاعةِ، في عُسرِنا ويُسرِنا - وذكرَ الحديث.
وهذه الروايةُ، تدلُّ على أنَّ هذه البيعةَ هي بيعةُ الحربِ، وأن بيعةَ النساءِ
كانتْ في العقبةِ الأُولى، قبلَ أن تفرضَ الحربُ.(2/404)
فهذا قد يُشعرُ بأنَّ هذه البيعةَ كانتْ بالمدينةِ، بعد فرضِ الحربِ، وفي هذا
وقد خرَّجهُ الهيثمُ بنُ كليبٍ في "مسندِهِ "، من روايةِ ابنِ إدريس، عن ابنِ
إسحاقَ ويحيى بنِ سعيد وعبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، عن عبادةَ بنِ الوليدِ، أنَّ أباهُ
حدَّثه، عن جدِّهِ قالَ: بايعنَا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في العقبةِ الآخرةِ على السمع والطاعةِ - فذكره.
وخرَّجَهُ ابنُ سعدِ من وجهٍ آخرَ، عن عبادةَ بنِ الوليدِ - مرسلاً.
وخرجَ الإمامُ أحمدُ من وجهٍ آخر، عن عبادةَ، أنَّهم بايعُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعةَ على السمع والطاعةِ - الحديث، وقال فيه -: وعلى أن ننصرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قدِمَ علينا يثربَ، فنمنعهُ مما نمنعُ منه أنفسَنَا.
وهذا يدلُّ على أن هذه البيعة كانتْ قبلَ الهجرةِ، وذلكَ ليلةَ العقبة.
وخرَّج - أيضًا - هذا المعنى من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنَّ هذه البيعة
كانتْ للسبعينَ، بشعبِ العقبةِ.
وهي البيعةُ الثانيةُ، وتكونُ سميتْ هذه البيعةُ الثانيةُ: "بيعةَ الحربِ "؛ لأن
فيها البيعةَ على منع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلكَ يقتضِي القتالَ دونَهُ، فهذا هو المرادُ بالحربِ، وقد شهدَ عبادةُ البيعتينِ معًا.
ويحتملُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يبايعُ أصحابَه على بيعةِ النساءِ قبلَ نزولِ آيةِ مبايعتهنَّ، ثم نزلتْ الآيةُ بموافقةِ ذلكَ.(2/405)
وفي "المسندِ"، عن أمّ عطيةَ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما قدمَ المدينةَ جمع النساءَ،.
فبايعهنَّ على هذهِ الآيةِ، إلى قولهِ: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْروفٍ) .
وهذا قبلَ نزولِ سورةِ الممتحنةِ؛ فإنها إنَّما نزلتْ قبلَ الفتح بيسيرٍ.
واللَّهُ أعلمُ بحقيقةِ ذلكَ كلِّه.
وأمَّا ما بايعهم عليه، فقد اتفقت رواياتُ حديثِ عبادةَ، من طرقه الثلاثةِ
عنهُ، أنهم بايعُوه على أن لا يشركُوا باللهِ، ولا يسرقُوا، ولا يزنُوا، ولا
يقتلُوا.
وفي بعضِ الروايات: لا يقتلُوا أولادَهُم، كما في لفظِ الآيةِ.
وفي بعضِهَا: لا يقتلُوا النفسَ التي حرَّم اللَّهُ.
وهذه روايةُ الصُّنابحي، عن عبادةَ.
ثم إنَّ منَ الرواةِ من اقتصرَ على هذه الأربع، ولمْ يزد عليهَا.
ومنهمْ من ذكرَ في روايةِ المبايعةِ على بقيةِ ما ذكرَ في الآيةِ، كما في روايةِ
البخاريِّ المذكورةِ هاهنا.
ومنهم من ذكرَ خصلةً خامسةً بعد الأربع، ولكنْ لمْ يذكرْهَا باللفظِ الذي
في الآيةِ.
ثم اختلفُوا في لفظِها:
فمنهم من قالَ: "ولا ننتهبُ ".
وهيَ روايةُ الصنابحى عن عبادةَ المخرَّجةُ في "الصحيحينِ ".(2/406)
ومنهمْ مَنْ قالَ: "ولا يَعْضَهُ بعضُنا بعضًا".
وهي روايةُ أبي الأشعثِ، عن عبادةَ.
خرَّجَها مسلم.
ومنهم من قالَ: "ولا يغتبْ بعضُنا بعضًا".
- وهي روايةُ الإمام أحمد.
وأما الخصلةُ السادسةُ، فمنهمُ من لم يذكرْهَا بالكليةِ، وهي روايةُ أبي
الأشعثِ التي خرَّجَها مسلم.
ومنهُم من ذكرَها، وسمَّاها: "المعصية"، فقالَ: "ولا نعصِي "، كما في
روايةِ الصنابحي.
وفي روايةِ أبي إدريسَ: "ولا تعصُوا في معروفٍ ".
فأمَّا الشركُ والسرقةُ والزنا والقتلُ، فواضحٌ.
وتخصيصُ قتلِ الأولادِ بالذكرِ في بعضِ الرواياتِ، موافقٌ لِمَا وردَ في
القرآنِ في مواضِعَ، وليسَ له مفهومٌ، وإنَّما خصص بالذكرِ للحاجةِ إليهِ، فإنَّ ذلكَ كان معتادًا بين أهلِ الجاهليةِ.
وأما الإتيانُ ببهتانٍ يفترونَهُ بين أيدِيهم وأرجلِهم، على ما جاءَ في روايةِ
البخاريِّ، فهذا يدل على أن هذا البهتانَ ليسَ مما تختصُ به النساءُ.
وقد اختلفَ المفسرونَ في البهتانِ المذكورِ في آيةِ بيعةِ النساءِ:(2/407)
فأكثرهُم فسرُوه، بإلحاقِ المرأةِ بزوجِهَا ولدًا من غيرِهِ.
رواه عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسِ.
وقاله مقاتلُ بنُ حيانَ وغيرُه.
واختلفُوا في معنى قولهِ: (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) :
فقيل: لأنَّ الولدَ إذا ولدتهُ أمه سقطَ بين يديها ورجليها.
وقيلَ: بل أرادَ بما تفتريه بين يديها، أن تأخذَ لقيط فتلحقه بزوجها، وبما
تفتريه بين رجليها، أن تلده من زنا، ثم تلحقه بزوجِها.
ومن المفسرينَ من فسرَ البهتانَ المُفترى بالسحرِ.
ومنهم من فسَّره بالمشي بالنميمةِ، والسعي في الفسادِ.
ومنهم من فسَّرهُ بالقذفِ والرمي بالباطلِ.
وقيل: البهتانُ المفترى يشملُ ذلك كلَّه، وما كانَ في معناهُ.
ورجحه ابنُ عطيةَ وغيرُه.
وهو الأظهرُ؛ فيدخلُ فيه كذبُ المرأةِ فيما ائتُمنتْ عليه من حملٍ وحيضٍ.
وغيرِ ذلكَ.
ومن هؤلاءِ من قالَ: أرادَ بما بين يدَيها حفظَ لسانِها وفمها ووجهِها عمَّا لا
يحلُّ لها، وبما بينَ رجليهَا حفظَ فرجِهَا، فيحرمُ عليها الافتراء ببهتانٍ في ذلك
كلّه.
ولو قيلَ: إنَّ من الافتراءِ ببهتانِ بين يديها: خيانةُ الزوج في مالهِ الذي في
بيتها، لم يبعدْ ذلكَ.(2/408)
وقد دلَّ مبايعةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرجالَ علَى أنْ لا يأتوا ببهتانٍ يفترونَه بينَ أيْديهم وأرجُلِهمْ أنَّ ذلكَ لا يختصُّ بالنساءِ.
وجميعُ ما فُسئَر به البهتانُ في حقِّ النساءِ يدخلُ فيه الرجال - أيضًا -.
فيدخلُ فيه استلحاقُ الرجلِ ولدَ غيره، سواء كان لاحقًا غيره أو غيرَ لاحق.
كولدِ الزنا، ويدخلُ فيه الكذبُ والغيبةُ.
وقد قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إِنْ كانَ في أخيكَ ما تقولُ فقد اغْتبتَه، وإنْ لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهتَهُ ".
خرَّجَهُ مسلمٌ.
وكذلكَ القذفُ، وقد سمَّى اللَّهُ قذفَ عائشةَ بهتانًا عظيمًا.
وكذلكَ النميمةُ من البهتانِ.
وفي روايةِ أبي الأشعثِ، عن عبادةَ: "ولا يَعْضَه بعضُكُم بعضًا".
والعضِيهَة: النميمة.
وفي "صحيح مسلم "، عن ابنِ مسعود - مرفوعًا -:
"ألا أُنبئُكُم ما العضْهُ؛ هي النميمةُ القَالَةُ بين الناس ".
وروى إبراهيمُ الهَجَري، عن أبي الأحوصِ، عن ابنِ مسعود، قالَ: كنا
نسمِّي العضيهة السحرَ، وهو اليوم: قيلَ وقالَ.
وفسر إسحاقُ بن راهويه العضيهةَ في حديثِ عبادةَ بن الصامتِ، قال: لا
يبهتْ بعضُكم بعضًا.(2/409)
نقله عنه محمدُ بنُ نصر.
وذكر أهلُ اللغةِ: أن العضيهةَ: الشتيمة، والعضيهة: البهتانُ، والعاضهة.
والمستعضهة: الساحرةُ والمستسحرةُ.
وفي روايةِ الصنابحيِّ: "ولا ننتهبُ "، والنُّهبَةُ من البهتانِ؛ فإنَّ المنتهبَ
يبهتُ الناسَ بانتهابه منه ما يرفعونَ إليه أبصارَهُم فيه.
وكل ما بهتَ صاحبَه وحيَّره وأدْهشه من قولٍ أو فعل لم يكنْ في حسابِهِ
فهو بهتانٌ، فأخذُ المالِ بالنُّهْبى أو بالدعاوَى الكاذبةِ بهتانٌ.
وقد قالَ تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) .
وفي "المسندِ" والترمذي والنسائي، عن صفوانَ بنِ عسَّالٍ، أن اليهودَ
سألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن التسع آياتٍ البيناتِ التي أوتيها موسَى، فقالَ: "لا تشركوا باللَّهِ شيئًا، ولا تزنوا، ولا تقتلُوا النفسَ التي حرمَ اللَهُ إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحرُوا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطانٍ فيقتلُه، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفُوا محصنةً، ولا تفروا من الزحفِ، وعليكم اليهودَ خاصةً أن لا تعدُوا في السبتِ ".
فلم يذكرْ في هذا الحديث البهتانَ المفترى بلفظهِ، ولكن ذكرَ ممَّا فسر به
البهتانَ المذكورَ في القرآنِ عدةَ خصال: السحرَ، والمشيَ ببريء إلى السلطانِ، وقذفَ المحصناتِ.
وهذا يشعرُ بدخولِ ذلك كلِّه في اسم البهتانِ.(2/410)
وكذلك الأحاديثُ التي ذكرَ فيها عدَّ الكبائرِ، ذكرَ في بعضِها: القذفَ.
وفي بعضِها: قولَ الزورِ، أو شهادةَ الزورِ، وفي بعضها: اليمينَ الغموسِ.
والسحرَ، وهذا كلُّه من البهتانِ المفترى.
وأما الخصلةُ السادسةُ، فهي المعصيةُ، وتشملُ جميعَ أنواع المعاصِي، فهو
من بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصّ.
وهو قريبٌ من معنى قولهِ تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقولهِ تعالى: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْروفٍ) .
وفي بعضِ ألفاظِ حديثِ عبادةَ: "ولا تعصُوا في معروف ".
وفي بعضها: "ولا تعصوني في معروف ".
وقد خرَّجَها البخاريُّ في موضع آخرَ.
وكلُّ هذا إشارةٌ إلى أن الطاعةَ لا تكونُ إلا في معروفٍ، فلا يطاعُ مخلوقٌ
إلا في معروفٍ، ولا يطاعُ في معصيةِ الخالقِ.
وقد استنبَط هذا المعنى من هذه الآيةِ طائفةٌ من السلفِ.
فلو كان لأحدٍ من البشرِ أن يطاعَ بكلِّ حالٍ، لكانَ ذلك للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا خُصَّتْ طاعتُه بالمعروفِ، مع أنه لا يأمرُ إلا بما هو معروفٌ، دلَّ على أن الطاعةَ في الأصلِ للَّهِ وحدَه، والرسولُ مبلغ عنه، وواسطةٌ بينه وبينَ عبادِه.
ولهذا قالَ تعالى: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) .
فدخلَ في هذه الخصلةِ السادسةِ: الانتهاءُ عن جميع المعاصِي، ويدخلُ
فيها - أيضًا -: القيامُ بجميع الطاعاتِ على رأي من يرى أن النهيَ عن شيءٍ(2/411)
أمر بضدَه.
فلما تمتْ هذه البيعةُ على هذه الخصالِ؛ ذكرَ لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حكمَ من وفَّى بها، وحكمَ من لم يَفِ بها عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
فأما مَن وفَّى بها، فأخبرَ أن أجرَه على اللَّهِ، كذا في روايةِ أبي إدريسَ
وأبي الأشعث عن عبادةَ.
وفي روايةِ الصنابحيِّ، عنه: "فالجنةُ إِن فعلنَا ذلك ".
وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) .
وفُسرَ الأجرُ العظيمُ بالجنةِ -: كذا قالَه قتادةُ وغيرُه من السلفِ.
ولا ريبَ أن منِ اجتنبَ الشركَ والكبائرَ والمعاصِي كلَّها فله الجنةُ، وعلى
ذلك وقعتْ هذه البيعةُ وإن اختصرَ ذلكَ بعضُ الرواةِ، فأسقطَ بعضَ هذهِ
الخصال.
وأماً من لم يوفِّ بها، بل نكثَ بعضَ ما التزم بالبيعةِ تركَه للَّهِ عزَّ وجلَّ -
والمرادُ: ما عدا الشركِ منَ الكبائرِ - فقسمَه إلى قسمينِ:
أحدُهما: أن يعاقَب به في الدنيا، فأخبرَ أن ذلك كفارةٌ له.
وفي رواية: "فهو طهورٌ له ".
وفي روايةٍ: "طهور له، أو كفارةٌ" - بالشك.
ورواه بعضُهُم: "طهور وكفارةٌ" - بالجمع.
وقد خرَّجَها البخاريُّ في موضع آخرَ من "صحيحهِ ".
وروى ابنُ إسحاقَ، عن الزهريِّ حديثَ أبي إدريسَ، عن عبادَةَ، وقال(2/412)
فيه: "فأُقيم عليه الحدُّ، فهو كفارةٌ له ".
وفي رواية أبي الأشعثِ عن عبادةَ: "ومن أتى منكُم حدًّا، فأقيم عليه فهُوَ
كفارة".
خرَّجَه مسلمٌ.
وهذا صريحٌ في أن إقامةَ الحدودِ كفاراتٌ لأهلِها.
وقد صرحَ بذلك سفيانُ الثوريّ.
ونصَّ على ذلك أحمدُ - في روايةِ عبدوس بنِ مالكٍ العطارِ، عنه.
وقال الشافعيُّ: لم أسمعْ في هذا البابِ أن الحدَّ كفارةٌ أحسنَ من حديثِ
عبادةَ.
وإنما قال هذا؛ لأنه قد رُوي هذا المعنى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ، عن عليٍّ، وجريرٍ، وخزيمةَ بنِ ثابتٍ، وعبد اللَّه بن عمرو وغيرهم.
وفي أسانيدِها كلِّها مقال، وحديثُ عبادةَ صحيح ثابتٌ.
وقد روى عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن ابنِ أبي ذئبٍ، عن المقبريِّ، عن
أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما أدرِي الحدودُ طهارةٌ لأهلها، أم لا؟ "
وذكر كلامًا آخرَ.
خرَّجَه الحاكم، وخرج أبو داود بعضُ الحديثِ.
وقد رواه هشامُ بنُ يوسفَ، عن معمرٍ، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريِّ -
مرسلاً.(2/413)
قال البخاريُّ في "تاريخه ": المرسلُ أصحُّ.
قال: ولا يثبتُ هذا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عنه أن الحدودَ كفارةٌ. انتهى.
وقد خرَّجَه البيهقيّ من روايةِ آدمَ بنِ أبي إياسِ، عن ابنِ أبي ذئبٍ، عن
المقبريِّ، عن أبي هريرةَ - مرفوعًا - أيضًا.
وخرَّجَه البزارُ من وجه آخرَ، فيه ضعفٌ، عن المقبريِّ، عن أبي هريرةَ -
مرفوعًا - أيضًا.
وعلى تقديرِ صحتهِ، فيحتملُ أن يكونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلَمه ثم علِمه، فأخبرَ به جزمًا.
فإن كانَ الأمرُ كذلكَ فحديثُ عبادةَ إذنْ لم يكن ليلةَ العقبةِ بلا تردد؛ لأن
حديثَ أبي هريرةَ متأخرٌ عن الهجرةِ، ولم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علم حينئذ أن الحدود كفارة، فلا يجوز أن يكون قد أخبرَ قبلَ الهجرةِ بخلافِ ذلك.
وقد اختلفَ العلماءُ: هل إقامةُ الحدِّ بمجردِه كفارة للذنب من غيرِ توبةٍ أم
لا؟ على قولين:
أحدُهما: أن إقامةَ الحدِّ كفارة للذنبِ بمجردِه، وهو مرويٌّ عن عليِّ بنِ أبي
طالبِ وابنهِ الحسنِ، وعن مجاهدٍ وزيدِ بنِ أسلمَ، وهو قولُ الثوريِّ
والشافعيِّ وأحمدَ، واختيارُ ابنِ جريرٍ وغيرِه من المفسرينَ.
والثاني: أنه ليس بكفاره بمجردهِ، فلا بدَّ من توبةٍ، هو مرويٌّ عن صفوانَ
ابنِ سليمٍ وغيرِه.(2/414)
ورجَّحهُ ابنُ حزمٍ وطائفةٌ من متأخرين المفسرينَ، كالبغويِّ وأبي عبدِ اللَّهِ
ابنِ تيميةَ وغيرِهما.
واستدلُّوا بقولهِ تعالَى - في المحاربينَ -: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) .
وقد يجابُ عن هذا، بأن ذكرَ عقوبةِ الدنيا والآخرةِ لا يلزمُ اجتماعهُما.
فقد دل الدليلُ على أن عقوبةَ الدنيا تسقطُ عقوبةَ الآخرةِ.
وأما استثناءُ الذينَ تابوا، فإنما استثناهُم من عقوبةِ الدنيَا خاصةً، ولهذا
خصَّهم بما قبلَ القدرةِ، وعقوبةُ الآخرةِ تندفعُ بالتوبةِ، قبلَ القدرةِ وبعدَها.
ويدل على أن الحدَّ يطهرُ الذنبَ: قولُ ماعزٍ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إني أصبت حدًّا، فطهرني.
وكذلك قالتْ له الغامديةُ، ولم ينكرْ عليهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلكَ، فدلَّ على أن الحدَّ طهارةٌ لصاحبهِ.
ويدخلُ في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"من أصابَ شيئًا من ذلك، فعوقبَ به فى الدنيا فهو كفارتُه "
العقوباتُ القدريةُ، من الأمراضِ والأسقامِ.
والأحاديثُ في تكفيرِ الذنوبِ بالمصائبِ كثيرةٌ جدًّا.
وهذه المصائبُ يحصلُ بها للنفوسِ من الألم نظيرُ الألم الحاصلِ بإقامةِ
الحدِّ وربما زادَ على ذلكَ كثيرًا.
وقد يقالُ في دخولِ هذه العقوباتِ القدريةِ في لفظِ حديثِ عبادةَ نظرٌ.
لأنهُ قابلَ من عوقبَ في الدنيا سترُ اللهِ عليه، وهذه المصائبُ لا تنافي السترَ.
واللَّهُ أعلمُ.(2/415)
والقسمُ الثاني:
أن لا يعاقبَ في الدنيا بذنبهِ، بل سترَ عليه ذنبه، ويعافَى من عقوبتهِ.
فهذا أمرُه إلى اللَّهِ في الآخرةِ، إن شاءَ عذَّبه، وإن شاءَ عفَا عنهُ.
وهذا موافقٌ لقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
وفي ذلك ردٌّ على الخوارج والمعتزلةِ في قولِهم: إن اللَّه يخلِّدُه في النارِ إذا
لم يَتُبْ..
وهذا المستورُ في الدنيا له حالتان:
إحدَاهُما: أن يموتَ غيرَ تائبٍ، فهذا في مشيئة اللَّهِ، كما ذكرنا.
والثانيةُ: أن يتوبَ من ذنبهِ.
فقال طائفة: إنه تحت المشيئةِ - أيضًا.
واستدلُّوا بالآيةِ المذكورةِ، وحديثِ عبادةَ.
والأكثرونَ على أن التائبَ من الذنبِ مغفورٌ له، وأنه كمن لا ذنبَ له.
كما قال تعالى: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) ، وقال: (أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ من رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) .
فيكونُ التائبُ حينئذ ممن شاءَ اللَّهُ أن يغفرَ له.
واستدلَّ بعضُهم - وهو: ابنُ حزمٍ - بحديثِ عبادةَ هذا على أن من أذنبَ
ذنبًا، فإنَّ الأفضلَ له أن يأتيَ الإمامَ، فيعترفَ عنده؛ ليقيمَ عليه الحدَّ، حتى(2/416)
يكفَّر عنه، ولا يبقى تحتَ المشيئةِ في الخطرِ.
وهذا مبنِي على قوله: إن التائبَ في المشيئةِ.
والصحيحُ: أن التائبَ توبةً نصوحًا مغفورٌ له جزمًا، لكن المؤمنَ يتَّهِم
توبتَه، ولا يجزمُ بصحَّتها، ولا بقبولها، فلا يزالُ خائفًا من ذنبهِ وَجِلاً.
ثم إنَّ هذا القائلَ لا يرى أن الحدَّ بمجردِه كفارةٌ، وإنما الكفارةُ التوبةُ.
فكيف لا يقتصرُ على الكفارةِ، بل يكشفُ سترَ اللَّهِ علمِه؛ ليقامَ عليه ما لا
يكفِّرُ عنه.
وجمهورُ العلماءِ على أنَّ من تابَ من ذنبٍ، فالأفضلُ أن يسترَ على
نفسهِ، ولا يقرَّ به عند أحدٍ، بل يتوبُ منه فيما بينَه وبين اللَّه عزَّ وجلَّ.
روي ذلك عن أبي بكرٍ وعمَر وابنِ مسعودٍ وغيرِهم.
ونصَّ عليه الشافعِيُّ.
ومن أصحابهِ وأصحابِنا مَن قال: إن كان غيرَ معروفٍ بينَ الناسِ بالفجورِ
فكذلكَ، وإن كان معلنًا بالفجورِ مشتهرًا به؛ فالأولى أن يقرَّ بذنبه عند
الإمامِ؛ ليطهرَه منه.
وقد رُويَ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال لمعاذٍ:
"إذَا أحدثتَ ذنبًا فأحدِثْ عنده توبة، إن سرًّا فسرًّا، وإن علانية فعلانية".
وفي إسنادِه مقالٌ.
وهو إنما يدلُّ على إظهارِ التوبةِ، وذلك لا يلزمُ منه طلبُ إقامةِ الحدّ.
وقد وردت أحاديثُ تدل على أنَّ من سترَ اللَّهُ عليه في الدنيا، فإنَّ اللَّه(2/417)
يسترُ عليه في الآخرةِ، كحديثِ ابنِ عمرَ في النجوى.
وقد خرَّجه البخاريُّ في "التفسيرِ".
وخرَّج الترمذيُّ وابنُ ماجةَ عن على - مرفوعًا:
"من أذنبَ ذنبًا في الدنيا، فستره اللَّهُ عليه، فاللهُ أكرمُ أن يعودَ في شيءٍ قد عفَا عنه ".
وفي "المسندِ" عن عائشةَ - مرفوعًا -:
"لا يسترُ اللَهُ على عبدٍ ذنبًا في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرةِ".
ورُوي مثلُه عن على وابنِ مسعودٍ، من قولِهما.
وقد يحملُ ذلك كلُّه على التائبِ من ذنبهِ، جمعًا بين هذه النصوصِ وبينَ
حديثِ عُبادةَ هذا.
وأصحُّ الأحاديثِ المذكورةِ هاهنا حديثُ ابنِ عمَر في النجوى، وليس فيه
تصريحٌ بأنَّ ذلك عامّ لكل من سترَ عليه ذنبَه.
واللَّهُ تعالى أعلمُ.
وقد قيل: إن البيعةَ سُمّيت بيعةً؛ لأن صاحبَها باعَ نفسَه للَّه.
والتحقيقُ: أن البيعَ والمبايعةَ مأخوذانِ من مدِّ الباع؛ لأنَّ المتبايعَينِ للسلعةِ
كلٌّ منهما يمدُّ باعَه للآخرِ ويعاقدُه عليها، وكذلك مَن بايعَ الإمامَ ونحوَه.
فإنه يمدُّ باعَه إليه ويعاهدُه ويعاقدُه على ما يبايعُه عليه.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبايعُ أصحابَه عند
دخولِهم في الإسلامِ على التزام أحكامهِ، وكانَ أحيانًا
يبايعُهم على ذلك بعد إسلامِهم؛ تجديدًا للعهدِ؛(2/418)
وتذكيرًا بالمقامِ عليه.
وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتى النساءَ في يومِ عيد، وتلا عليهنَّ هذهِ الآيةَ:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) الآية.
وقال: "أنتُن على ذلكَ؟ " فقالتِ امرأةٌ منهن: نعم.
وفي "صحيح مسلم" عن عوفِ بنِ مالكٌ، قال: كنَّا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال:
"ألا تبايعونَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ "
وكنَّا حديثَ عهدٍ ببيعةٍ، فقلنا: قد بايعناكَ يا رسولَ اللَّهِ، فقال:
"ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
قلنا: بايعناك يا رسول اللَّه، ثم قال:
"ألا تبايعونَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ ".
فبسطْنا أيديَنا، وقلنا: قد بايعناكَ يا رسولَ اللَّهِ، فعلامَ نبايعُكَ؟
فقال: "أن تعبدُوا اللَّهَ لا تشركوا به شيئًا، والصلواتِ الخمسِ، وتطيعُوا"، وأسرَّ كلمةً خفيةً: "ولا تسألُوا الناس شيئًا".
وحديثُ عبادةَ المذكورُ هاهنا في البيعة قد سبقَ أنه يحتملُ أنه كان ليلةَ
العقبةِ الأولَى، فيكونُ بيعةً لهم على الإسلامِ والتزامِ أحكامِه وشرائعِه.
وقد ذكرَ طائفة من العلماءِ، منهم: القاضِي أيو يعلَى في كتابِ "أحكامِ
القرآنِ " من أصحابِنا - أن البيعةَ على الإسلامِ كانتْ من خصائصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
واستدلُّوا، بأن الأمرَ بالبيعةِ في القرآنِ يخصُّ الرسولَ بالخطابِ بها وحده.
كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) .(2/419)
ولما كانَ الامتحانُ وجه الخطابَ إلى المؤمنينَ عمومًا، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) .
فدلَّ على أنه يعمُّ المؤمنينَ.
وكذلكَ قولُه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) .
وهذا أمر يختصُّ به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لا يشركُه فيه غيرُه.
ولكن قد رُوي عن عثمانَ، أنه كان يبايعُ على الإسلامِ.
قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا مسكينُ بنُ بكير، قال: ثنا ثابتُ بنُ عجلانَ.
عن سليمٍ أبي عامر، أن وفدَ الحمراءِ أتوا عثمان بنَ عفانَ، يبايعونَه على
الإسلامِ، وعلى مَنْ وراءهم، فبايَعهم على أن لا يشركوا باللَّهِ شيئًا، وأن
يقيمُوا الصلاةَ، ويؤتُوا الزكاةَ، ويصومُوا رمضانَ، ويدَعُوا عيدَ المجوسِ، فلما قالُوا، بايعَهم.
وقد بايعَ عبدُ اللهِ بنُ حنظلةَ الناسَ يومَ الحَرَّةِ على الموتِ، فذُكرَ ذلك
لعبدِ اللَّه بنِ زيد الأنصاريِّ، فقالَ: لا أبايعُ على هذا أحدًا بعدَ رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم -. ً
خرَّجَهُ البخاريُّ في "الجهاد".
وإنما أنكرَ البيعةَ على الموتِ، لا أصلَ المبايعةِ.
وقالَ أبو إسحاقَ الفزاريُّ: قلتُ للأوزاعيِّ: لو أن إمامًا أتاه عدوٌّ كثيرٌ،(2/420)
فخافَ على من معه، فقال لأصحابِهِ: تعالَوْا، نتبايعُ على أن لا نفرَّ، فبايعُوا
على ذلكَ؟
قال: ما أحسنَ هذا.
قلتُ: فلو أن قومًا فعلُوا ذلك بينهُم دونَ الإمامِ؟
قال: لو فعلُوا ذلك بينهم شبه العقدَ في غيرِ بيعةٍ.
* * *(2/421)
سُورَةُ الصَّفِ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
لمَّا حاسَبَ المتَّقُون أنفسَهم خافوا من عاقبةِ الوعظِ والتَّذكيرِ.
قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ.
فقال لهُ: إنْ لم تخشَ أن تفضحكَ هذه الآياتُ الثلاثُ فافعلْ، وإلا فابدأْ بنفسكَ، ثم تلاْ (أَتَاْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفسَكُمْ) .
وقوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) .
وقوله حكايةً عن شُعيبٍ عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) .
قال النَّخعيُّ: كانُوا يكرهُونَ القصص؛ لهذه الآياتِ الثلاثِ.
قيل لمورِّق العجلي: ألا تعظُ أصحابَكَ؟
قال: أكرهُ أن أقول ما لا أفعل.
تقدَّمَ بعضُ التابعينَ ليصلِّي بالنَّاسِ إمامًا، فالتفتَ إلى المأمُومين يُعدِّل
الصُّفوفَ، وقال: اسْتَوُوا، فُغشِيَ عليه، فسُئلَ عن سَببِ ذلكَ، فقال: لمَّا
قلتُ لهُم: استقيمُوا، فكَرتُ في نفسِي، فقلتُ لهَا: فأنتِ، هل استقمتِ مع
اللَّهِ طرفةَ عينٍ؟
مَا كُلُّ مَنْ وَصَفَ الدَّواء يستعمِلُه. . . ولا كُلُّ مَنْ وَصَفَ التُّقَى ذو تُقَى
وَصَفْتُ التُقَى حتَّى كأنِّي ذو تُقًى. . . ورِيحُ الخَطَايا مِن ثِيابي تَعْبَقُ
ومع هذا كلِّه فلا بُدَّ للناسِ من الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكرِ، والوعظِ(2/422)
والتذكيرِ، ولو لم يِعِظِ النَّاسَ إلا مَعْصُوم مِن الزَّللِ، لم يعِظْ بعدَ رسولِ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - أحدٌ لأنه لا عِصْمَةَ لأحدٍ بعدَهُ.
لئن لم يَعظِ العاصِينَ مَنْ هُوَ مُذْنِب. . . فَمَنْ يَعِظِ العَاصِينَ بَعْدَ مُحمَّدٍ
ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ فيه ضعف، عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ِ، قال: "مُروا بالمعروفِ وإن لم تعملُوا به كُلِّه، وانَهْوا عن المنكَرِ وإن لم تنتهوا عنه كُلِّهِ ".
وقيل للحسنِ: إنَّ فلانا لا يَعِظُ، ويقولُ: أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفعلُ.
فقال الحسن: وأَيُّنا يفعلُ ما يقولُ؟!
ودَّ الشيطانُ أنَّه قد ظفِرَ بهذا، فلم يأمُرْ أحدٌ بمعروفٍ ولم ينهَ عن مُنْكَرٍ.
وقال مالكٌ، عن ربيعة: قال سعيدُ بن جُبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهَى عن المنكرِ حتى لا يكونَ فيه شيء، ما أَمَرَ أحدٌ بمعروفٍ ولا نَهَى عن مُنْكرٍ.
قال مالكٌ: وصدَقَ، ومَن ذا الذي ليس فيه شيءُ؟!
مَنْ ذا الَّذي ماساءَ قَطْ. . . ومَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ
خطب عُمَرُ بنُ عبد العزيز - رحمه الله - يومًا، فقال في موعظته: إنِّي
لأقُولُ هذه المقالَةَ وما أعلمُ عند أحدٍ من الذُّنوبِ أكثرَ ممَّا أعلمُ عنْدِي.
فأستغفِرُ اللَّهَ وأتوبُ إليه.
وكتبَ إلى بعض نوَّابِهِ على بعضِ الأمصار كتابًا يعِظُهُ فيه، فقال في آخره: وإنِّي لأعِظُكَ بهذا، وإنِّي لكثيرُ الإسْرافِ على نَفْسِي، غيرُ مُحكم لكثيرٍ من أمْرِي، ولو أن المرءَ لا يعظُ أخاهُ حتى يُحكمَ
نفسهُ إذًا لتواكلَ الناسُ الخيرَ، وإذاً لرُفِعَ الأمر بالمعروفِ والنَهْيُ عن المُنْكَرِ.
وإذاً لاستُحِلَّتِ المَحارِمُ، وقَلَّ الواعِظُونَ والسَّاعون للَّه بالنصِيحةِ في(2/423)
الأرض، فإنَّ الشيطان وأعوانَه يَودُّون أن لا يأمُرَ أَحدٌ بمعروف ولا يَنْهَى عن
مُنْكَرٍ، وإذا أمَرَهُم أحدٌ أو نَهاهُم، عَابُوه بما فيهِ وبما ليس فيه.
كما قيل:
وأُعْلِنَتِ الفواحِشُ في البوادِي. . . وصارَ النَّاسُ أعْوَانَ المريبِ
إذا ما عِبْتُهُم عَابُوا مَقَالِي. . . لِما في القَوْمِ مِن تلكَ العُيوبِ
وَوَدُّوا لو كَفَفنا فاسْتَوَيْنا. . . فصَارَ النَّاسُ كالشيءِ المشوبِ
وكنَّا نَسْتَطِبُّ إذا مَرِضْنَا. . . فصارَ هلاكُنا بيدِ الطَّبِيبِ
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)
عيسى آخِرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
وقد كان المسيحُ - عليه السَّلامُ - يحُضُّ على اتَباعِهِ، ويقولُْ إنَّه يُبعَثُ
بالسَّيفِ، فلا يمنعنَّكُم ذلك منه.
ورُوي عنه أنَّه قالَ: سوف أذهبُ أنا ويأتِي الذي بعدِي لا يَتَحمَّدُكم بدعْواهُ، ولكنْ يَسُلُّ السَّيفَ فتدخلُونَه طَوعًا وكُرْهًا.
وفي "المسند" عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أوْحَى إلى عِيسى عليه السَّلامُ: "إنِّي باعث بعدَكَ أمَّةً، إن أصابهُمْ ما يُحبُّونَ حَمِدُوا(2/424)
وشكرُوا، وإنْ أصابهُم ما يكرهُونَ، احتسبُوا وصبرُوا، ولا حِلمَ ولا عِلمَ. قال: يا ربِّ!
كيفَ هذا ولا حِلمَ ولا عِلم؟
قال: أعْطِيهم مِن حِلمِي وعِلمِي ".
قال ابنُ إسحاق: حدَّثني بعضُ اهْلِ العلْم أنَّ عيسَى ابنَ مريمَ - عليه
السَّلام - قال: إنَّ أحبَّ الأُممِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ لأُمَّةُ أحمدَ.
قيلَ له: وما فضلُهم الذي تذكرُ؟
قال: لم تُذلَّل "لا إلهَ إلا اللَّه " على ألسُنِ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَم
تذليلَها على ألسنتِهِم.
* * *(2/425)
سُورَةُ الجُمُعَةِ
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) .
قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) .
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) .
ومعلومٌ أنَّه لم يُبعث في مكَّةَ رسولٌ منهم بهذه الصفةِ غيرُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مِن ولدِ إسماعيلَ، كما أنَّ أنبياءَ بني إسرائيلَ مِن ولدِ إسحاق.
وذكر اللَّهُ تعالى أنَّه مَنَّ على المؤمنينَ بهذه الرِّسالةِ، فليسَ للَّهِ نعمة أعظم من
إرسال محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يهدِي إلى الحقِّ وإلى صراط مستقيم.
وقوله: (فِي الأمِّيِّينَ) - والمرادُ بهم العَرَبُ - تنبيهٌ لهم على قدرِ هذه النِّعمةِ
وعظمِها، حيثُ كانوا أميينَ لا كِتابَ لهم، وليسَ عندَهم شيء من آثارِ(2/426)
النُّبوَّاتِ، كما كان عندَ أهلِ الكتابِ، فمنَّ اللَّه عليهم بهذا الرسول وبهذا
الكتاب، حتى صاروا أفضلَ الأمم وأعلمَهم، وعرفُوا ضلالةَ منْ ضلَّ من
الأمم قبلَهم.
وفي كونِهِ منهم فائدتان:
إحداهما: أنَّ هذا الرَّسول كان أيضًا أميًّا كأمَّتهِ المبعوثِ إليهم، لم يقرأْ كِتابًا
قطُّ، ولم يخُطهُ بيمينهِ، كما قال اللَّه تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) الآيات، ولا خرجَ عن ديارِ قومهِ فأقامَ عندَ
غيرِهم حتَّى تعلَّم منهم شيئًا، بلْ لم يزل أُميًّا بين أمَّةٍ أمّيَّةٍ، لا يكتُبُ ولا يقرأُ
حتى كمَّلَ الأربعينَ من عُمره، ثمَّ جاءَ بعد ذلكَ بهذا الكتابِ المبين، وهذه
الشريعةِ الباهرةِ، وهذا الدِّينِ القيِّم، الذي اعترفَ حُذَّاقُ أهل الأرضِ
ونُظَّارُهُم أنَّه لم يقرع العالمَ ناموسٌ أعظمُ منه.
وفي هذا بُرهان ظاهر على صدقه.
والفائدة الثانية: التنبيهُ على أنَّ المبعوثَ فيهم - وهم الأمِّيُّون خُصوصًا أهل
مكَّةَ - يعرفُونَ نسبهُ، وشرفهُ، وصدقهُ، وأمانتهُ، وعفتهُ، وأنَّه نشأ بينهُم
معروفًا بذلك كلِّه، وأنَّه لم يكذبْ قطُّ؛ فكيفَ كان يدعُ الكذبَ على النَّاسِ
ثم يفترِي الكذبَ على اللَّه عزَّ وجل، وهذا هو الباطِلُ، ولذلك سأل هِرقلُ
عن هذه الأوصافِ، واستدل بها على صدقِهِ فيما ادَّعاهُ من النّبَوةِ والرِّسالةِ.
وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) ، يعني: يتلُو عليهم ما أنزل اللَّهُ عليه
من آياتهِ المتلُوةِ، وهو القرآنُ، وهو أعظمُ الكُتبِ السَّماويَّةِ.
وقد تضمَّنَ من العلومِ والحكم، والمواعظِ، والقصصِ، والترغيبِ والترهيبِ، وذكرِ أخبارِ منْ سبقَ، وأخبارِ ما يأتي مِن البعثِ والنُّشور والجنَّةِ والنَّارِ، ما لم يشتمِلْ عليه كتابٌ غيرُهُ، حتَّى قالَ بعضُ العلماءِ: لو أنَّ هذا الكتابَ وُجِدَ مكتوبًا في(2/427)
مُصحَفٍ في فلاةٍ من الأرضِ، ولم يُعلمْ منْ وضعهُ هناك، لشهدتِ العُقولُ
السَّليمةُ أنَّه منزلٌ مِن عندِ اللَهِ، وأنَّ البشرَ لا قدرةَ لهم على تأليفِ ذلك.
فكيف إذا جاءَ على يديْ أصدقِ الخلقِ وأبرِّهم وأتقاهُم، وقال إنَّه كلامُ
اللَّهِ، وتحدَّى الخلقَ كلَّهم أن يأتوا بسُورةِ من مثلِهِ، فعجزُوا.
فكيف يبقى مع هذا شكٌّ فيه؛ ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) .
وقال تعالى: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَئا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
فلو لم يكنْ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منَ المعجزاتِ الدالةِ على صدقهِ غيرُ هذا الكتابِ لكفاهُ، فكيفَ ولهُ من المعجزاتِ الأرضيةِ والسماويةِ ما لا يُحصَى.
وقوله: (يُزَكيهِمْ) : يعني أنَّه يُزكِّي قلوبَهم ويطهرُها من أدناسِ الشركِ
والفُجورِ والضلالِ؛ فإنَّ النفوسَ تزكو إذا طهرتْ من ذلك كلِّه، ومن زكتْ
نفسُه فقد أفلحَ، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَاهَا) .
وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكى) .
وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
يعني بالكتابِ القرآنَ، والمرادُ: ويعلّمُهم تلاوةَ ألفاظِهِ.
ويعني بالحكمةِ فهمَ معاني القرآنِ والعملَ بما فيه.
فالحكمةُ هي فهمُ القرآنِ والعملُ به، فلا يُكْتَفى بتلاوةِ ألفاظِ الكتابِ حتَّى
يُعلمَ معناهُ ويُعملَ بمقتضاهُ، فمن جُمعَ له ذلك كلُّه فقد أُوتِيَ الحكمةَ.
قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يؤْتَ الْحِكمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كثِيرًا) .
قالَ الفضيلُ: العلماءُ كثيرٌ، والحكماءُ قليلٌ.
وقال: الحكماءُ ورثةُ الأنبياءِ.
فالحكمةُ هي العلمُ النافعُ الذي يتبعُه العملُ الصالحُ. وهي نورٌ يقذفُ في(2/428)
القلبِ يُفهمُ بها معنى العلم المنزل من السَّماء، ويحُضُّ على اتِّباعِه والعملِ
به.
ومَن قال: الحكمةُ السنةُ، فقولُه حقٌّ؛ لأنًّ السنةَ تفسِّرُ القرآنَ وتبينُ معانيه
وتحُضُّ على اتباعِهِ والعملِ به؛ فالحكيمُ هو العالم المستنبطُ لدقائقِ العلم
المنتفع بعلمهِ بالعمل بهِ. ولأبي العتاهية:
وكَيْفَ تُحِبُّ أنْ تُدْعَى حكيمًا. . . وأنْتَ لِكُلِّ ما تَهْوَى رَكُوبَ
وتَضْحَكُ دَائِبًا ظَهْرًا لِبَطْنِ. . . وَتَذْكُرُ مَا عَمِلْتَ فَلا تَتُوبُ
وقوله: (وَإَن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) ، إشارة إلى ما كان النَّاسُ عليه
قبلَ إنزالِ هذا الكتابِ من الضلالِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى نظرَ حينئذٍ إلى أهلِ
الأرضِ، فمقتهُم، عربهُم وعجمهُم، إلا بقايا مِن أهلِ الكتابِ تمسَّكُوا بدينهِم الذي لم يُبدَّلْ ولم يُغيرْ، وكانوا قليلاً جدًّا.
فأمَّا عامَّةُ أهل الكتابِ فكانوا قد بدَّلُوا كُتُبَهُم وغيّرُوها وحرفُوها، وأدخلُوا
في دينهم ما ليسَ منه فضلّوا وأضلُّوا.
وأمَّا غيرُ أهلِ الكتابِ فكانُوا على ضلالٍ مُبينٍ؛ فالأميّون أهلُ شركِ يعبدَونَ الأوثانَ، والمجوسُ يعبدُونَ النيرانَ ويقولون بإلهينِ اثنينِ، وكذلك غيرهُم مِن أهلِ الأرضِ؛ منهم مَن كان يعبدُ النّجومَ، ومنهم مَن كان يعبدُ الشَّمسَ أو القمر، فهدَى اللَّه المؤمنينَ بإرسالِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى ما جاءَ بهِ منَ الهُدى ودينِ الحقّ؛ وأظهرَ اللَّهُ دينهُ حتى بلغَ
مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، فظهرتْ فيها كلمةُ التَّوحيدِ والعَمَل بالعدْلِ بعد أن
كانتْ الأرضُ كلُّها ممتلئةَ من ظُلمةِ الشِّركِ والظُّلم.
فالأميُّون هم العربُ، والآخرون الذين لم يلحقُوا بهم هم أهلُ فارسَ والرُّوم، فكانتْ أهلُ فارسَ مجوسًا، والرُّومُ نصارَى، فهدَى اللَّهُ تعالى جميعَ هؤلاءِ برسالةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيدِ.(2/429)
وقد رُئي الإمامُ أحمدُ بعد موتهِ في المنامِ، فسُئلَ عن حالهِ، فقال: لولا
هذا النبيُّ لكنَّا مجوسًا، وهو كما قال، فإنَّ أهل العراقِ لولا رسالة محمدٍ
- صلى الله عليه وسلم - لكانوا مجوسًا، وأهلُ الشامِ ومصرَ والرومُ لولا رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لكانوا نصارَى، وأهلُ جزيرة العرب لولا رسالةُ محمدٍ لكانوا مشركينَ عبادَ أوثانٍ.
ولكن رحمَ اللَّهُ عبادهُ بإرسالِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فأنقذَهُم مِن الضَّلالِ، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ، ولهذا قال اللَّه تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، فمن حصلَ له نصيبٌ من دين الإسلامِ فقد حصلَ له الفضلُ العظيمُ، قد عظمت عليه نعمةُ اللَّهِ، فما أحوجهُ إلى القيامِ بشكرِ هذه النعمةِ وسؤالهِ دوامَها والثَّباتَ عليها إلى المماتِ، والموتَ عليها، فبذلكَ تتمُّ النِّعمةُ.
فإبراهيمُ - عليه السلامُ - هو إمامُ الحنفاء، المأمورُ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ومَن قبلُه منَ الأنبياءِ - عليهم السلام - بالاقتداء به، وهو الذي جعلهُ اللَّهُ للنَّاسِ إمامًا، وقدْ دعا هو وابنُه إسماعيلُ - عليه السَّلام - بأن يبعثَ اللَّهُ في أهلِ مكَّةَ رسولاً منهُم موصوفًا بهذهِ الأوصافِ، فاستجابَ اللَّهُ لهما وجعلَ هذا النَبيَّ المبعُوثَ فيهم من ولدِ إسماعيلَ بن إبراهيمَ كما دعيا بذلك، وهو النَّبيُّ الذي أظهرَ دينَ إبراهيمَ الحنيفَ بعدَ اضمحلالهِ وخفائهِ على أهلِ الأرضِ فلهذا كان أولَى النَّاسِ بإبراهيمَ، كما قال تعالى:
(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ نبيٍّ وليًّا مِن النَّبيينَ وإن وليي إبراهيم "، ثم تلا هذه الآية.(2/430)
وكان - صلى الله عليه وسلم - أشبهَ ولدِ إبراهيمَ بهِ صُورةً ومعنًى، حتى أنَّه أشبههُ في خُلَّةِ اللَّهِ تعالى، فقال: "إن الله اتَّخذنِي خليلاً كما اتَخذَ إبراهيمَ خليلاً".
* * *
قوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
[قال البخاري] : قَوْل اللَّهِ عزَ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
صلاةُ الجمعةِ فريضةٌ من فرائِض الأعيانِ على الرجالِ دونَ النساءِ، بشرائطَ
أُخَرَ، هذا قولُ جمهورِ العلماءِ، ومنهم من حكاه إجماعًا كابنِ المنذرِ.
وشذ من زعمَ أنها فرضُ كفاية من الشافعيةِ، وحكاهُ بعضُهم قولاً
للشافعيِّ، وأنكر ذلك عامةُ أصحابه حتى قال طائفةٌ منهم: لا تحلُّ حكايتُه
وحكاية الخطابي لذلك عن أكثرِ العلماءِ وهْمٌ منه، ولعله اشتبهَ عليه
الجمعةُ بالعيدِ.
وحكي عن بعضِ المتقدمينَ: أن الجمعةَ سنة.
وقد روى ابنُ وهبٍ، عن مالكٌ، أن الجمعةَ سنةٌ.
وحملَها ابنُ عبدِ البرّ على أهل القرى المختلَفِ في وجوب الجمعةِ عليهمْ(2/431)
خاصةً، دون أهلِ الأمصارِ.
ونقلَ حنبل، عن أحمدَ، أنه قال: الصلاةُ - يعني: صلاةَ الجمعةِ -
فريضة، والسعيُ إليها تطوعٌ، سنةٌ مؤكدةٌ.
وهذا إنما هو توقفٌ عن إطلاقِ الفرض على إتيانِ الجمعةِ، وأما الصلاةُ
نفسُها، فقد صرَّح بأنها فريضةٌ، وهذا يدلَّ على أن ما هو وسيلة إلى الفريضةِ ولا تتمُّ إلا به لا يطلقُ عليه اسمُ الفريضةِ، لأنه وإنْ كان مأمورًا به فليس مقصودًا لنفسهِ، بل لغيرهِ.
وتأوَّل القاضِي أبو يعلَى كلامَ أحمدَ بما لا يصحُّ.
وقد دلَّ على فرضيتها: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) .
والمرادُ بالسعي: شدةُ الاهتمامِ بإتيانِها والمبادرةُ إليها،. فهو من سَعْي
القلوبِ، لا من سعي الأبدان، كذا قالَ الحسنُ وغيرُه، وسيأتي بسطُ ذلك
فيما بعدُ - إن شاء اللَّهُ سبحانه وتعالى.
وفي "صحيح مسلم " عن عبد اللَّهِ بنِ عمرَ وأبي هريرةَ، أنهما سمعا
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ على أعواد منبرهِ:
"لينتهينَّ أقوام عنْ ودعهمُ الجمعات، أو ليختمنَّ اللَهُ على قلوبهم، ثم ليكونُن منَ الغافِلين ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ وأبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ(2/432)
أبي الجعدِ الضَّمريِّ - وكانتْ له صحبةٌ -، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"مَن تركَ الجمعةَ تهاونًا ثلاثَ مراتٍ طُبعَ على قلبهِ ".
وقالَ الترمذيُّ: حديثٌ حسن. وخرَّجَهُ ابنُ حبانَ في "صحيحهِ ".
ورُوي معناهُ من وجوهٍ كثيرةٍ.
وفي "صحيح مسلم " عن ابنِ مسعودٍ، أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ أن يحرقَ على مَن يتخلفُ عن الجمعةِ بيوتَهم.
وقد سبقَ ذكرُه.
وخرَّج أبو داود بإسنادٍ صحيح، عن طارقِ بنِ شهابٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"الجمعةُ حق واجبٌ في جماعة، إلا أربعة: عبدٌ مملوك أو امرأةٌ، أو صبي أو
مريض".
قال أبو داودَ: طارقُ بنُ شهاب رأَى النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولمْ يسمَعْ منه شيئًا.
قال البيهقيُّ: وقد وصلَه بعضُهم عن طارقٍ، عن أبي موسى الأشعرِي.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وليس وصلُه بمحفوظٍ.
وخرجَ النسائيُّ من حديثِ حفصةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "رواحُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ ".
وخرَّج ابنُ ماجةَ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَهم، فقالَ في خُطبته:
"إن اللهَ فرضَ عليكمُ الجمعةَ في مقامي هذا، في يومِي هذا، في(2/433)
شهرِي هذا، من عامِي هذا إلى يوم القيامةِ، فمن ترَكها في حياتي أو بعدِي، وله إمامٌ عادلٌ أو جائرٌ، استخفافًا بها أو جحودًا لها فلا جمعَ اللَهُ شملَه، ولا باركَ له في أمره، ألا ولا صلاةَ له، ولا زكاةَ له، ولا حجَّ له، ولا صومَ له، ولا بركةَ حتَّى يتوب، فمن تابَ تابَ اللَّهُ عليه ".
وفي إسنادِه ضعفٌ واضطرابٌ واختلافٌ، قد أشرْنا إلى بعضِه فيما تقدَم
في "أبواب الإمامةِ".
وفيه: دليلٌ على أن الجمعةَ إنما فُرضتْ بالمدينةِ؛ لأن جابرًا إنما صحبَ
النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدَ خطبتَه بالمدينةِ، وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ.
ويدلُّ عليه - أيضًا -: أن سورةَ الجمعةِ مدنية، وأنه لم يثبتْ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي الجمعةَ بمكةَ قبلَ هجرتهِ.
ونصَّ الإمامُ أحمدُ على أنَّ أولَ جمعة جُمِّعَتْ في الإسلامِ هي التي
جمعتْ بالمدينةِ مع مصعبِ بنِ عميرٍ.
وكذا قالَ عطاءٌ والأوزاعيُّ وغيرُهما.
وزعم طائفةٌ من الفقهاء: أن الجمعةَ فرضتْ بمكةَ قبلَ الهجرةِ؛ وأن النبىَّ
- صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّيها بمكةَ قبل أن يهاجرَ.
واستدلَّ لذلكَ: بما خرَّجه النسائيُّ في "كتاب الجمعةِ" من حديث المُعَافَى
ابنِ عمرانَ، عن إبراهيمَ بنِ طهمانَ، عن محمدِ بنِ زيادٍ، عن أبي هريرةَ.
قال: إن أولَ جمعةٍ جُمَعَتْ - بعدَ جمعةٍ جُمِّعَت معَ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ -
بِجُواثاءَ بالبحرينِ - قريةٍ لعبدِ القيسِ.
وقد خرَّجه البخاريُّ - كما سيأتي في موضعه - من طريق أبي عامر(2/434)
العَقديِّ، عن إبراهيمَ بن طهمان، عن أبي جمرةَ، عن ابنِ عباسٍ، أن أولَ
جمعةٍ جمعت - بعدَجمعةٍ في مسجدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - - في مسجدِ عبدِ القيسِ بجُواثى من البحرينِ.
وكذَا رواه وكيعٌ، عن إبراهيمَ بن طهمان، ولفظُه: إن أولَ جمعةٍ جمعتْ
في الإسلامِ - بعد جمعة جمعتْ في مسجدِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ - لَجُمُعَةٌ جمعتْ بجواثاءَ - قرية من قرى البحرينِ.
خرَّجَه أبو داود.
وكذا رواه ابنُ المباركِ وغيرُه، عن إبراهيمَ بنِ طهمان.
فتبيَّن بذلكَ: أنَّ المعافى وهمَ في إسنادِ الحديثِ ومتنهِ، والصوابُ: رواية
الجماعةِ، عن إبراهيمَ بنِ طهمان.
ومعنى الحديثِ: أن أولَ مسجدٍ جمع فيه - بعدَ مسجدِ المدينةِ -: مسجد
جواثاءَ، وليس معناه: أنَّ الجمعةَ التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعةِ الثانيةِ
من الجمعةِ التي جمعت بالمدينةِ، كما قد يُفْهَمِ من بعضِ ألفاظِ الرواياتِ؛ فإن
عبدَ القيسِ إنما وفَد على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح، كما ذكرهَ ابنُ سعد، عن عروةَ بنِ الزبيرِ وغيرِه.
وليس المرادُ به - أيضًا - أن أولَ جمعةٍ جمعتْ في الإسلام في مسجدِ
المدينةِ، فإن أول جمعةٍ جمعتْ بالمدينةِ في نقيع الخَضَماتِ، قبل أن يقدمَ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، وقبل أن يبنيَ مسجدَه.(2/435)
يدل على ذلك: حديثُ كعبِ بنِ مالكٌ، أنه كان كلَّما سمع آذانَ الجمعةِ
استغفرَ لأسعدَ بنِ زرارةَ، فسأله ابنُه عن ذلكَ، فقال: كانَ أولَ مَن صلَّى بنا صلاةَ الجمعةِ قبل مقدمِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من مكةَ في نقيع الخضماتِ، في هَزْم النَّبيتِ، من حرَّةِ بني بياضةَ.
قيل له: كم كنتم يومئذٍ؟
قال: أربعين رجلاً.
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ - مطوَّلاً.
وروى أبو إسحاقَ الفزاريُّ في "كتاب السمر" له، عن الأوزاعيِّ، عمَّن
حدَّثَه، قال: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مصعَب بنَ عمير القرشيَّ إلى المدينةِ، قبل أن يهاجرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "اجمعْ مَنْ بها من المسلمين، ثم انظرِ اليومَ الذي تجمرُ فيه
اليهودُ لسبتِها، فإذا مالَ النهارُ عن شطرهِ فقم فيهمْ، ثم تزلَّفوا إلى اللَّهِ بركعتينِ ".
قال: وقالَ الزهرِيُّ: فجمع بهم مصعبُ بنُ عمير في دارٍ من دُورِ
الأنصارِ، فجمع بهم وهُم بضعةَ عشرَ.
قال الأوزاعيُّ: وهو أولُ من جمعَ بالناسِ.
وقد خرج الدارقطنيّ - أظنه في "أفرادِه " - من روايةِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ
غالبٍ الباهليِّ: نا محمدُ بن عبدِ اللَّهِ أبو زيد المدنيّ: ثنا المغيرةُ بنُ
عبدِ الرحمنِ: ثنا مالكٌ، عن الزهريِّ، عن عبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ
عباسٍ، قالَ: أذِنَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالجمُعةِ قبلَ أن يهاجرَ، ولم يستطعْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يجمّعَ بمكةَ ولا يبيِّن لهم، وكتبَ إلى مصعبِ بنِ عمير:
"أما بعدُ، فانظرِ اليومَ الذي تجمرُ فيه اليهودُ لسبتِهم، فاجمعُوا نساءَكُم وأبناءَكم، فإذا مال النهار عن شطرهِ عند الزوالِ من يوم الجمعةِ فتقربوا إلى اللهِ بركعتينِ ".(2/436)
قال: فهوَ أولُ من جمَّع مصعبُ بنُ عميرٍ، حتى قدمَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فجمَّع عند الزوالِ من الظهرِ، وأظهرَ ذلكَ.
وهذا إسناد موضوع، والباهليُّ هو: غلامُ خليلٍ، كذابٌ مشهور بالكذبِ.
وإنما هذا أصله من مراسيلِ الزهري، وفي هذا السياق ألفاط منكرة.
وخرج البيهقيُّ من روايةِ يونسَ، عن الزهريِّ، قال: بلغَنا أنَّ أولَ ما
جُمِّعتِ الجمعةُ بالمدينةِ قبلَ أن يقدمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجمَع بالمسلمينَ مصعب بن عمير.
وروى عبد الرزاق في "كتابه " عن معمر، عن الزهريِّ، قال: بعث
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مصعبَ بنَ عميرٍ إلى أهلِ المدينة ليقرئَهمُ القرآنَ، فاستأذن رسولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يجمِّع بهم، فأذِنَ له رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وليس يومئذٍ بأميرٍ.
ولكنه انطلقَ يعلِّمُ أهلَ المدينةِ.
وذكر عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ جريج، قال: قلتُ لعطاء: مَن أولُ من جمَّعَ
قال: رجل من بني عبدِ الدارِ - زعموا -، قلتُ: أفبأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: فَمَهْ؟!
وخرَّجه الأثرمُ من روايةِ ابنِ عيينَةَ، عن ابنِ جريج، وعندَه. قال: نعمْ.
فمَه؟! قال ابن عيينةَ: سمعتُ مَن يقولُ: هو مصعبُ بنُ عميرٍ.(2/437)
وكذلك نصَّ الإمامُ أحمدُ في - رواية أبي طالبٍ - على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مصعبَ بنَ عميرٍ أن يجمَعِّ بهمْ بالمدينةِ.
ونص أحمدُ - أيضًا - على أنَّ أولَ جمعةِ جمِّعتْ في الإسلامِ هي الجمعة
التي جمعتْ بالمدينةِ مع مصعبِ بنِ عميرٍ.
وقد تقدَّم مثلُه عن عطاءِ والأوزاعيِّ.
فتبينَ بهذا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بإقامةِ الجمُعةِ بالمدينةِ.
ولم يُقمْها بمكةَ، وهذا يدلُّ على أنه كان قد فُرِضَت عليه الجمعةُ بمكةَ.
وممَّن قالَ: إن الجمعةَ فُرضَت بمكةَ قبلَ الهجرةِ: أبو حامدٍ الإسفرايينيُ من
الشافعيةِ، والقاضِي أبو يعلَى في "خلافه الكبير" من أصحابِنا، وابنُ عقيل
في "عمد الأدلةِ"، وكذلك ذكرهَ طائفةٌ من المالكيةِ، منهم: السهيليُّ وغيرُه.
وأما كونُه لم يفعلْه بمكةَ، فيُحمَل أنه إنما أُمرَ بها أنْ يقيمَها في دارِ
الهجرةِ، لا في دارِ الحربِ، وكانت مكةُ إذ ذاكَ دارَ حربِ، ولم يكنِ
المسلمونَ يتمكَّنونَ فيها من إظهارِ دينهم، وكانُوا خائفينَ على أنفسهم.
ولذلك هاجرُوا منها إلى المدينةِ، والجمعةُ تسقطُ بأعذار كثيرة منها الخوفُ
على النفسِ والمالِ، َ وقد أشار بعضُ المتأخرينَ من الشافعيةِ إلى معنًى آخرَ في الامتناع من إقامتِها بمكةَ، وهو: أن الجمعةَ إنما يُقصدُ بإقامتِها إظهارُ شعارِ الإسلامِ، وهذا إنما يُتمكنُ منه في دارِ الإسلامِ.
ولهذا لا تقامُ الجمعةُ في السجنِ، وإن كان فيه أربعونَ، ولا يعلمُ في ذلك
خلافٌ بينَ العلماءِ، وممَّن قالَه: الحسنُ، وابنُ سيرينَ، والنخَعيُّ، والثوريُّ،(2/438)
ومالكٌ، وأحمدُ، وإسحاقُ وغيرُهم.
وعلى قياسِ هذا: لو كانَ الأسارى في بلدِ المشركينَ مجتمعينَ في مكانٍ
واحد؛ فإنهم لا يصلُّون فيه جمعةً، كالمسجونينَ في دارِ الإسلامِ وأولَى، لا
سيما وأبو حنيفةَ وأصحابُه يرونَ أن الإقامةَ في دارِ الحربِ - وإن طالتْ -
حكمُها حكمُ السفرِ، فتقصر فيها الصلاةُ أبدًا، ولو أقامَ المسلمُ باختيارهِ.
فكيف إذا كانَ أسيرًا مقهورًا؟
وهذا على قولِ مَن يرى اشتراطَ إذنِ الإمامِ لإقامةِ الجمعةِ أظهرُ، فأمَّا على
قولِ مَن لا يشترطُ إذنَ الإمامِ، فقد قال الإمامُ أحمدُ في الأمراءِ إذا أخَّروا
الصلاةَ يومَ الجمُعةِ: فيصلِّيها لوقتِها ويصليها مع الإمامِ، فحملَه القاضي أبو
يعلى في "خلافه " على أنهم يصلونها جمعةً لوقتِها.
وهذا بعيدٌ جدًّا، وإنَّما مرادهُ: أنهم يصلون الظهرَ لوقتِها، ثم يشهدونَ
الجمعةَ مع الأمراءِ.
وكذلك كانَ السلفُ الصالحُ يفعلونَ عند تأخيرِ بني أميةَ للجمعةِ عن
وقتِها، ومنهم مَن كانَ يومئُ بالصلاةِ وهو جالسٌ في المسجدِ قبلَ خروج
الوقتِ، ولم يكنْ أحدٌ منهم يصلِّي الجمُعةَ لوقتِها، وفي ذلك مفاسدُ كثيرةٌ
تسقطُ الجمعةُ بخشيةِ بعضِها.
وفي "تهذيبِ المدونةِ" للمالكيةِ: وإذا أتى من تأخيرِ الأئمةِ ما يُسْتنكَرُ
جمَّعَ الناسُ لأنفسِهم إن قدرُوا، وإلا صلَّوا ظهرًا، وتنفلُوا بصلاتِهم معَهم.
قال: ومَن لا تجبُ عليه الجمعةُ مثلُ المرضَى والمسافرينَ وأهلِ السجنِ(2/439)
فجائزٌ أن يجمِّعُوا.
وأراد بالتجميع هنا: صلاةَِ الظهرِ جماعةً، لا صلاةَ الجمعةِ؛ فإنه قالى
قبلَه: وإذا فاتتِ الجمعةُ من تجبُ عليهم فلا يجمِّعوا.
والفرقُ بين صلاةِ الظهرِ جماعةً يومَ الجمعةِ، ممَّن تجبُ عليه وممَّن لا تجبُ
عليه: أن من تجبُ عليه يُتَّهمُ في تركِها، بخلاف من لا تجبُ عليه فإن عذرَهُ
ظاهرٌ.
وقد رُويَ عن ابنِ سيرينَ، أن تجميعَ الأنصارِ بالمدينةِ إنما كان عنْ رأيهم.
من غيرِ أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالكليَّةِ، وأن ذلكَ كان قبلَ فرضِ الجمعةِ.
قال عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ في "مسائله ": ثنا أبي: ثنا إسماعيلُ - هو:
ابنُ عليَّة -: ثَنا أيوبُ، عنْ محمدِ بنِ سيرينَ، قال: نبِّئتُ أنَّ الأنصارَ قبلَ
قدومِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عليهم المدينةَ قالوا: لو نظرنَا يومًا فاجتمعنا فيه، فذكرنَا هذا الأمرَ الذي أنعمَ اللَّهُ علينا بهِ، فقالُوا: يوم السبتِ، ثُمَّ قالوا: لا نجامعُ اليهودَ في يومِهم.
قالوا: يوم الأحدِ، قالوا: لا نجامعُ النصارَى في يومِهم.
قالُوا: فيوم العروبةِ. قالَ: وكانُوا يسمُّون يومَ الجمعةِ: يوم العروبةِ.
فاجتمعوا في بيتِ أبي أمامةَ أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاةٌ، فكفتْهُمْ.
وروى عبدُ الرزاق في "كتابِه " عن معمرٍ، عن أيوبَ، عن ابن سيرين.
قال: جمَّعَ أهلُ المدينةِ قبلَ أن يقدمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقبلَ أن تنزلَ الجمعةُ، وهم الذين سمَّوُها الجمعةَ، فقالتِ الأنصارُ: لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيه كلَّ ستةِ أيامٍ، وللنصارَى - أيضًا - مثلُ ذلك، فهلُمَّ فلنجعلْ يومًا نجتمعُ فيه،(2/440)
ونذكرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، ونصلّي ونشكرهُ - أو كما قالوا -، فقالوا: يومُ السبتِ لليهودِ، ويومُ الأحدِ للنصارَى، فاجعلُوا يومَ العروبةِ، وكانوا يسمُّون يوم الجمعة: يومَ العروبةِ، فاجتمعُوا إلى أسعدَ بنِ زرارةَ، فصلَّى بهم وذكَّرَهم، فسمَّوه: يومَ الجمُعةِ حينَ اجتمعُوا إليه، فذبحَ أسعدُ بنُ زرارةَ لهم شاةً، فتغدَّوْا وتعشَّوْا من شاهِ واحده ليلتَهم، فأنزلَ اللَّهُ بعدَ ذلك:
(إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللَّهِ) .
فوقعَ في كلام الإمامِ أحمدَ: أن هذه هي الجمُعةُ التي جمعَها مصعبُ بنُ
عميرٍ، وهي التي ذكرَها كعبُ بنُ مالكٍ في حديثه، أنهم كانُوا أربعينَ رجلاً.
وفي هذا نظرٌ.
ويحتملُ أن يكونَ هذا الاجتماعُ منَ الأنصارِ كانَ باجتهادِهم قبلَ قدومِ
مصعب إليهم، ثم لمَّا قدمَ مصعب عليهم جمَّع بهم بأمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ الإسلامُ حينئذ قد ظهرَ وفَشَا، وكان يمكنُ إقامةُ شعارِ الإسلامِ في المدينةِ، وأما اجتماعُ الأنصارِ قبلَ ذلكَ، فكانَ في بيت أسعدَ بنِ زرارةَ قبل ظهورِ الإسلامِ بالمدينةِ وفشوِّهِ، وكانَ باجتهادٍ منهم، لا بأمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
[قال البخاري] : باب مِنْ أيْنَ تُؤتَى الجُمُعةُ، وعلَى مَنْ تجِبُ؟
لقوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .(2/441)
وقالَ عطاءٌ: إذَا كُنتَ فِي قَريةٍ جامعةٍ، فنُودِيَ بالصَّلاةِ مِن يومِ الجمُعةِ.
فحقّ عليكَ أن تشهدَهَا، سمعتَ النِّداءِ أو لمْ تسمعهُ.
وكانَ أنسُ بنُ مالكٍ فِي قصرهِ، أحيانًا يُجمِّعُ، وأحيانًا لا يُجمِّعُ، وهُو
بالزَّاويةِ على فرسخينِ.
تضمنَ هذا الذي ذكرَه مسألتين:
إحداهُما: أنَّ مَن هو في قريةٍ تقامُ فيها الجمعةُ، فإنه إذا نوديَ فيها بالصلاةِ
للجمعةِ وجبَ عليه السعيُ إلى الجمعةِ، وشهودُها، سواءٌ سمعَ النداءَ أو لم
يسمعْهُ وقد حكاه عن عطاءٍ.
وهذا الذي في القريةِ، إن كانَ من أهلِها المستوطنينَ بها، فلا خلافَ في
لزومِ السعي إلى الجمعةِ لهُ، وسواء سمع النداءَ أو لم يسمعْ، وقد نصَّ على
ذلك الشافعي وأحمدُ، ونقلَ بعضُهم الاتفاقَ عليهِ.
وإن كانَ من غيرِ أهلِها، فإن كانَ مسافرًا يباحُ له القصرُ، فأكثرُ العلماءِ
على أنه لا يلزمه الجمعةُ مع أهلِ القريةِ، وقد ذكرنَا فيما تقذم أن المسافرَ لا
جمعةَ عليه.
وحُكيَ عن الزهريِّ والنخعيِّ، أنه يلزمه تبعًا لأهلِ القريةِ.
ورُوي عن عطاءٍ - أيضًا -، أنه يلزمُه.
وكذا قال الأوزاعيُّ: إنْ أدرَكه الأذانُ قبلَ أن يرتحلَ فليجبْ.
وإن كانَ المسافرُ قد نوى إقامةً بالقريةِ تمنعُه من قصرِ الصلاةِ، فهلْ يلزمُه
الجمعة؛ فيه وجهانِ لأصحابِنا.
وأوجبَ عليه الجمعةَ في هذه الحالِ: مالكٌ وأبو حنيفةَ، ولم يوجبْها عليه(2/442)
الشافعيُّ وأصحابُه.
المسألةُ الثانيةُ: إنَّ مَن كان خارجَ القريةِ أو المصرِ الذي تقامُ فيه الجمعةُ، هل
تلزمُه الجمعةُ مع أهلِ القريةِ أو المصرِ، أم لا؟
هذا مما اختلَف فيه العلماءُ:
فقالتْ طائفةٌ: لا تلزمُ مَن كانَ خارجَ المصرِ أو القرية الجمعةُ مع أهلِه
بحالٍ، إذا كان بينَهم وبينَ المصرِ فرجة، ولو كانُوا من رِبْضِ المصرِ.
وهذا قولُ الثوري وأبي حنيفةَ وأصحابهِ، إلحاقًا لهم باهلِ القرَى؛ فإنَّ
الجمعةَ لا تقامُ عندَهم في القرَى.
وقال أكثرُ أهلِ العلم: تلزمُهم الجمعةُ مع أهلِ المصرِ أو القريةِ، مع القربِ
دونَ البعدِ.
ثم اختلفُوا في حذَ ذلك:
فقالتْ طائفة: المعتبرُ: إمكانُ سماع النداءِ، فمن كان من موضع الجمعةِ
بحيثُ يمكنُه سماعُ النداءِ لزمَه، وإلا فَلا. هذا قولُ الشافعيِّ وأحمدَ
وإسحاقَ.
واستدلُّوا: بظاهرِ قولِ اللهِ تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
ورُوي عن عبدِ اللَهِ بنِ عَمرو بنِ العاصِ وسعيدِ بنِ المسيبِ وعَمرِو بن
شعيب.
ورُويَ عن أبي أمامةَ الباهليِّ - معناه.(2/443)
وخرجَ أبو داود من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، عنِ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -:
"الجمعةُ علَى مَن سمِعَ النداء"
ورُويَ موقوفًا، وهو أشبهُ.
وروَى إسماعيلُ، عن عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن محمدِ بنِ عمرو بنِ
عطاءٍ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ كعبِ بنِ مالكٍ، عن أبيه - يرفعُه -، قال: "لينتهينَّ أقوام يسمعونَ النداءَ يومَ الجمعةِ، ثم لا يَشهدُونَها، أو ليطبعن اللَهُ على قلوبِهم، وليكونُنَّ من الغافلين، أو ليكونُنَّ من أهلِ النارِ ".
عبدُ العزيزِ هذا، شاميّ تكلَّموا فيه.
وقالت طائفةٌ: تجبُ الجمُعةُ على مَن بينَه وبينَ الجمعةِ فرسخٌ، وهو ثلاثةُ
أميالٍ، وهو قولُ ابنِ المسيبِ والليثِ ومالك ومحمدِ بنِ الحسنِ، وهو روايةٌ
عن أحمدَ.
ومِن أصحابِنا مَن قالَ: لا فرقَ بينَ هذا القولِ والذي قبلَه؛ لأن الفرسخَ
هو منتهَى ما يسمعُ فيه النداء - غالبًا -؛ فإن أحمدَ قالَ: الجمعة على من
سمع النداءَ، والنداءُ يسمعُ من فرسخ، وكذلكَ رواه جماعةٌ عن مالكٍ.
فيكونُ هذا القولُ والذي قبلَهُ واحدًا.
وخرج الخلالُ من روايةِ مندل، عن ابنِ جريج، عن عبدِ اللَّهِ بنِ محمدِ
ابنِ عقيل، عن جابر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"عسَى أحدُكم أن يتخذ الصُّبَّة على رأسِ ميلين أو ثلاثةٍ، تأتي عليه الجمعةُ لا يشهدُها، ثم تأتي الجمعةُ لا يشهدُها - ثلاثًا - فيطبعُ على قلبهِ ".
مندلٌ فيه ضعفٌ.
وخرجَ الطبراني نحوَه من حديثِ ابنِ عمرَ - مرفوعًا.(2/444)
وفي إسنادِه: إبراهيمُ بنُ يزيدَ الخوزيّ، وهو ضعيف.
وروى معدي بن سليمان، عن ابنِ عجلانَ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ.
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ألا هل عسَى أحدُكم أن يتخذَ الصُّبة من الغنم على رأسِ ميلٍ أو
ميلين، فيتعذَّر عليه الكلأُ، فيرتفعُ، ثم تجيءُ الجمعةُ، فلا يجيءُ ولا يشهدُها، وتجيءُ الجمعة، فلا يشهدُها، وتجيءُ الجمعةُ، فلا يشهدها حتى يُطبعَ على قلبهِ ".
خرَّجَه ابنُ ماجةَ.
وخرَّجَه أبو بكر النجاد وابنُ عبدِ البرِ، وفي روايتهما: "ميلين أو ثلائة".
ومَعْدي هذا، تكلم فيه أبو زرعةَ وغيرُه.
وقال أبو حاتم: شيخ.
وقالت طائفة: تجبُ الجمعةُ على من بينَهُ وبينَهَا أربعةُ أميال.
ورُويَ عن ابن المنكدرِ والزهريِّ وعكرمةَ وربيعةَ.
ورويَ عن الزهريِّ - أيضًا - تحديدُه بستةِ أميال، وهي فرسخانِ.
وروي عن أبي هريرةَ، قال: تؤتَى الجمعةُ من فرسخينِ.
خرَّجَه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف.
وروى عبد الرزاق بإسنادٍ منقطع، عن معاذٍ، أنه كانَ يقومُ على منبر.
فيقول لقومٍ بينهُم وبينَ دمشقَ أربعُ فراسخٍ وخمسُ فراسخٍ: إن الجمعةَ
لزمتْكُم، وأن لا جمعة إلا معنا.
وبإسنادٍ منقطع، عن معاويةَ، أنه كانَ يأمرُ بشهودِ الجمعةِ مَن بينه وبينَ(2/445)
دمشقَ أربعة عشرَ ميلاً.
وقالَ بقيةُ، عن محمدِ بنِ زياد: أدركتُ الناسَ بحِمْص تبعثُ الخيلَ نهارَ
الخميسِ إلى جُوسيةَ وحماة والرَّستن يجلبون الناسَ إلى الجمعةِ، ولم يكن
يجمعُ إلا بحِمْص.
وعن عطاءٍ. إنه سئلَ: من كم يُؤتى الجمعةُ؟
قال: من سبعةِ أميالٍ.
وعنه، قالَ: يقال: من عشرةِ أميالٍ إلى بريدٍ.
وعن النخعيِّ، قالَ: تؤتى الجمعةُ من فرسخينِ.
وعن أبي بكر بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ، أنه أمرَ أهلَ قباء، وأهلَ ذي
الحليفةِ، وأهلَ القرى الصغار حولهُ: لا يجمِّعُوا، وأن يشهدوا الجمعةَ
بالمدينةِ.
وعن ربيعة - أيضًا -، أنه قالَ: تجبُ الجمعةُ على من إذا نودِيَ بصلاةِ
الجمعةِ خرجَ من بيتهِ ماشيًا أدركَ الجمعةَ.
وقالتْ طائفة: تجبُ الجمعةُ على من آواه الليلُ إلى منزلِهِ.
قال ابنُ المنذرِ: رويَ ذلكَ عن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ وأنسٍ والحسنِ ونافع
مولى ابنِ عمرَ، وكذلكَ قالَ عكرمةُ والحكمُ وعطاءٌ والأوزاعيُ وأبو ثور.
انتهى.
وهو قولُ أبي خيثمةَ زهيرِ بنِ حربٍ وسليمان بن داود الهاشمي.
وحكى إسماعيلُ بنُ سعيدٍ الشالنجيُّ، عن أحمدَ نحوَهُ، واختاره
الجوزجانيُ.(2/446)
وفيه حديث مرفوعٌ، من حديثِ أبي هريرةَ.
وقد ذكره الترمذي، وبيَّن ضعفَ إسنادِه، وأن أحمدَ أنكرهُ أشدَّ
الإنكارِ.
وفيه - أيضًا -، عن عائشةَ، وإسنادُه ضعيف.
وفيه - أيضًا - من مراسيلِ أبي قِلابَة، وفي إسنادِهِ ضعف.
وقالتْ طائفةٌ: تُؤتَى الجمعةُ من فرسخينِ، قالهُ النخعيُّ وإسحاقُ، نقله
عنه حرب.
لكنهما لم يصرِّحا بوجوبِ ذلكَ، وقد تقدَّم نحوُه عن غيرِ واحدٍ.
وخرجَ حرب من طريقِ ابنِ أبي عروبةَ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، أنه كانَ
يجمعُ من الزاويةِ، وهي فرسخانِ.
وروى عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أنه كانَ يكونُ
بينَهُ وبين البصرةِ ثلاثةُ أميالٍ، فيشهدُ الجمعةَ بالبصرةِ.
وقد ذكرَ البخاريُّ عنهُ أنه كانَ أحيانًا لا يجمعُ.
وكذلكَ رُويَ عن أبي هريرةَ، أنه كانَ بالشجرةِ - وهي ذو الحليفةِ -، فكانَ أحيانًا يجمعُ، - وأحيانا لا يجمعُ.
وقد رويَ عنه الأمرانِ جميعًا.
وكذلكَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، كانَ في قصر بالعقيقِ، فكانَ أحيانًا يجمعُ.
وأحيانًا لا يجمعُ، وكان بينهُ وبينَ المدينةِ سبعةُ أميالي أو ثمانية.(2/447)
وكذلك رويَ عن عائشةَ بنتِ سعد، أنَّ أباها كانَ يفعل.
* * *
[قال البخاري] : بَابُ: المشي إلى الجُمُعةِ:
وقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
ومَنْ قالَ: السعيُ العملُ والذَّهابُ؛ لقولِهِ: (وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) .
وقالَ ابنُ عباسٍ: يحرمُ البيعُ حينئذٍ.
وقالَ عطاءٌ: تحرُمُ الصناعاتُ كلُّها.
وقالَ إبراهيمُ بنُ سعدٍ، عنِ الزهري: إذا أذن الموذن يومَ الجمعةِ وهوَ
مسافر، فعليهِ أن يشهدَ.
اشتملَ كلامُه - هاهنا - على مسائلَ:
إحدَاها: المشيُ إلى الجمعة، وله فضل.
وفي حديثِ أوسِ بنِ أوسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"من بكَر وابتكرَ، وغسَّل واغتسلَ، ومشَى ولم يركبْ ". وقد سبقَ.
وفي حديثِ اختصامِ الملأ الأعْلَى: "إنهم يختصمونَ في الكفاراتِ والدرجاتِ.
والكفاراتُ إسباغُ الوضوءِ في الكريهاتِ، والمشيُ على الأقدام إلى الجمُعاتِ ".
وقد خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديث معاذٍ.(2/448)
وله طرقٌ كثيرةٌ، ذكرتُها مستوفاةً في "شرح الترمذيّ ".
وروى ابنُ أبي شيبة بإسنادِ فيه انقطاعٌ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ رواحةَ كان يأتي
الجمعةَ ماشيًا، فإذا رجعَ رجعَ كيف شاءَ ماشيًا، وإن شاء راكبًا.
وفي روايةِ: وكان بين منزِله وبين الجمعةِ ميلانِ.
وعن أبي هريرةَ، أنه كان يأتي الجمعةَ من ذي الحليفة ماشيًا.
وذكر ابنُ سعد في "طبقاته " بإسناده، عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه كتب
ينهَى أن يركبَ أحد إلى الجمعةِ والعيدينِ.
وقال النخعيّ: لا يُركبُ إلى الجمعةِ.
المسألةُ الثانيةُ: أنه يستحمبّ المشيُ بالسكينةِ مع مقاربةِ الخُطَا، كما في سائرِ
الصلواتِ، على ما سبق ذكرُه في موضعه.
فأما قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، فقد حملَه قومٌ من المتقدمين على ظاهره، وأنكرَ ذلك عليهم
الصحابةُ.
فروى البيهقيُّ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ الصامتِ، قال: خرجتُ إلى
المسجدِ يومَ الجمعةِ، فلقيتُ أبا ذرٍّ، فبينا أنا أمشي إذ سمعتُ النداءَ، فرفعتُ
في المشي؛ لقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، فجذبني جذبةً كدت أن ألاقيَه، ثم قال: أو لسْنَا في سعي؟(2/449)
فقد أنكرَ أبو ذرٍّ مَن فسر السعي بشدةِ الجري والعدْوِ، وبينَ أنَّ المشيَ إليها
سعيٌ؛ لأنه عمل، والعملُ يُسمَّى سعيًا، كما قالَ تعالى: (إِنَّ سَعْيكُمْ لَشَتَّى)
وقال: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) ، ومثلُ هذا كثيرٌ
في القرآن.
وبهذا فسَّرَ السعيَ في هذه الآية التابعونَ فمن بعدَهم، منهم: عطاءٌ.
ومجاهدٌ، وعكرمةُ، وقتادةُ، ومحمدُ بنُ كعبٍ، وزيدُ بنُ أسلمَ، ومالكٌ.
والثوريُّ، والشافعي وغيرُهم.
وروي عن ابنِ عباسٍ - أيضًا - من وجهٍ منقطع.
ومنهم مَن فسَّر السعيَ بالجري والمسابقةِ، لكنه حملَه على سعي القلوبِ
والمقاصدِ والنياتِ دون الأقدامِ، هذا قولُ الحسنِ.
وجمع قتادةُ بين القولينِ - في رواية -، فقال: السعيُ بالقلبِ والعملِ.
وكان عثمانُ وابنُ مسعود وجماعةٌ من الصحابة يقرءونَها: "فامضُوا إلى
ذكرِ اللَّهِ ".
وقال النخعيُّ: لو قرأتُها (فَاسْعَوْا) لسعيتُ حتى يسقط ردائي.
ورُويَ هذا الكلامُ عن ابنِ مسعودٍ من وجهٍ منقطع.
المسألةُ الثالثةُ: في تحريمِ البيع وغيرِه مما يشتغلُ به عن السعي بعدَ النداءِ.
وقد حُكي عن ابنِ عباسٍ تحريم البيع وغيرِه.
وروى القاضِي إسماعيلُ في كتابه "أحكام القرآنِ " من رواية سليمانَ بنِ
معاذٍ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: لا يصلحُ البيعُ يومَ
الجمعةِ حين ينادَى بالصلاةِ، فإذا قُضِيتِ الصلاةُ فاشترِ وبِعْ.(2/450)
وبإسنادِهِ: عن ميمونِ بنِ مِهرانَ، قالَ: كانَ بالمدينةِ إذا نوديَ بالصلاةِ من
يومِ الجمعةِ نادَوْا: حرُمَ البيعُ، حرُمَ البيعُ.
وعن أيوبَ، قالَ: لأهلِ المدينةِ ساعة، وذلك عندَ خروج الإمامِ.
يقولون: حرُم البيعُ، حرُم البيعُ.
وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه كانَ يمنعُ الناسَ منَ البيع يومَ الجمعةِ إذا
نودِي بالصلاةِ.
وعن الحسنِ وعطاء والضحاكِ: تحريمُ البيع إذا زالتِ الشمسُ من يومِ
الجمعةِ.
وعن الشعبيِّ، أنه محرَّمٌ، وكذا قالَ مكحولٌ.
وحكى إسحاقُ بنُ راهويه الإجماعَ على تحريمِ البيع بعدَ النداءِ.
وحكى القاضي إسماعيلُ، عمَن لم يسمِّه، أن البيعَ مكرُوهٌ، وأنه استدل
بقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ) .
وردَّ عليه: بأن مَنْ فعل ما وجَب عليه وتركَ ما نُهِي عنه فهو خيرٌ له، كما
قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) .
وحُكي القولُ بأن البيعَ مردودٌ عن القاسم بنِ محمدٍ وربيعةَ ومالكٍ.
ورواه ابنُ عيينةَ، عن عبدِ الكريمِ، عن مجاهدٍ أو غيرِه.
وهو مذهبُ الليثِ والثوريِّ وإسحاقَ وأحمدَ وغيرِهم من فقهاءِ أهلِ
الحديثِ.
وخالف فيه أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأصحابُهما وعبيدُ اللَّه العنبريُّ، وقالوا:(2/451)
البيعُ غيرُ مردودٍ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهيًا عنه لذاتهِ بل لوقتهِ.
والأولون يقولون: النهي يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه، سواءٌ كان لذاتِ المنهيِّ
عنه أو لوقتهِ، كالصومِ يوم العيدِ، والصلاةِ وقتَ النهِي، فكذلك العقودُ.
وقال الثوريُّ - فيما إذا تصارفا ذهبًا بفضة وقبضا البعضَ، ثم دخل وقتُ
النداءِ يوم الجمعةِ -: فإنهما يترادَّان البيعَ.
وهذا يدلُّ على أن القبضَ عنده شرطٌ لانعقادِ الصرفِ، فلا يتمّ العقدُ إلا
به، وهو الصحيحُ عند المحققينَ من أصحابنا - أيضًا.
وأما ما ذكره عن عطاء، أنه تحرُم الصناعاتُ حينئذ، فإنه يرجع إلى أنه إنَّما
حرمَ البيعُ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر اللَّه والصلاة، فكل ما قطع عن
ذلك فهو محرمٌ من صناعة أو غيرِها، حتى الأكلُ "والشربُ والنوم والتحدثُ
وغيرُ ذلك، وهذا قولُ الشافعيةِ وغيرهم - أيضًا.
لكن لأصحابنا في بطلانِ غيرِ البيع منَ العقودِ وجهانِ، فإن وقوعها بعد
النداءِ نادر، بخلافِ البيع، فإنَّه غالب، فلو لم يبطلْ لأدَى إلى الاشتغالِ عنِ
الجمعةَ بهِ، فتفوتُ الجمعةُ غالبًا.
وأكثرُ أصحابِنا حكَوُا الخلافَ في جوازِ ذلك، وفيه نظر؛ فإنه إذا وجبَ
السعيُ إلى الجمعة حرُمَ كل ما قطعَ عنه.
وقد رُويَ عن زيدِ بنِ أسلمَ، قالَ: لم يأمرُهُمُ اللَّهُ أن يذرُوا شيئًا غيرَه.
حرم البيع، ثم أذنَ لهم فيه إذا فرغُوا.
وهذا ضعيفٌ جدًّا، فإن البيعَ إنما خُصَّ بالذكرِ لأنَّه أكثرُ ما يقغ حينئذ مما
يُلهي عن السعي، فيشارِكُه في المعنى كلُّ شاغل.(2/452)
واستدل بعضُ أصحابنا على جوازِ غيرِ البيع منَ العقود بالصدقةِ، وقال:
قد أمرَ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطبُ.
وهذا لا يصحُّ؛ فإن الصدقةَ قربةٌ وطاعةٌ، وإذا وقعتْ في المسجدِ حيثُ لا
يكره السؤالُ فيه فلا وجْهَ لمنعها.
فإن ألحق بذلكَ عقدُ النكاح في المسجدِ قبلَ خروج الإمامِ كان متوجهًا.
مع أن بعضَ أصحابِنا قد خصَّ الخلافَ بالنكاح، وهو ابنُ عقيلٍ.
وعن أحمدَ روايةٌ: إنه يحرم البيعُ بدخول وقتِ الوجوبِ، وهو زوالُ
الشمسِ.
وقد سبقَ مثلُه عن الحسنِ، وعطاءٍ، والضحاكِ، وهو - أيضًا - قولُ
مسروقٍ، ومسلم بنِ يسارٍ، والثوريِّ، وإسحاقَ.
وقياسُ قولهم: إنه يجبُ السعيُ بالزوال، ويحرمُ حينئذٍ كلُّ شاغلٍ يشغلُ
والجمهورُ: على أنه لا يحرُم بدونِ النداءِ.
ثم الأكثرونَ منهم على أنه النداءُ الثاني الذي بَين يدي الإمامِ؛ لأنه النداءُ
الذي كان في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينصرفُ النداءُ عند إطلاقهِ إلا إليه.
وفي "صحيح الإسماعيليِّ " من حديثِ الزهريِّ، عن السائبِ بنِ يزيدَ.
قال: كان النداءُ الذي ذكرَ اللَّهُ في القرآن يومَ الجمعةَ إذا خرجَ الإمامُ، وإذَا
قامتِ الصلاةُ في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمرَ.
وعن أحمدَ روايةٌ: أنه يحرمُ البيعُ ويجبُ السعيُ بالنداء الأولِ.
وهو قولُ مقاتلِ بنِ حيَّانَ، قالَ: وقد كانَ النداءُ الأولُ قبلَ زوالِ الشمسِ.(2/453)
ونقله ابنُ منصورٍ، عن إسحاقَ بنِ راهويه صريحًا.
وعن أحمدَ، أنه قال: أخافُ أن يحرمَ البيعُ، وإن أذن قبل الوقت.
ومجردُ الشروع في الأذانِ يحرمُ به البيعُ عند أصحابِنَا والشافعيةِ؛ لأنه
صارَ نداءً مشروعًا مسمْونًا من سنةِ الخلفاءِ الراشدين.
قال أصحابُنا: ولو اقتصر عليه أجزأ، وسقطَ فرضُ الأذانِ.
وعند أصحابِ الشافعيِّ: يحرمُ البيعُ بمجردِ الشروع في النداءِ الثانِي بين
يديِ الإمامِ، إذا كانَ قاطعًا عن السعي، فاما إن فعلَه وهو ماشٍ في الطريقِ
ولم يقفْ، أو هو قاعدٌ في المسجد كُره ولم يَحرمْ.
وهذا بعيدٌ، والتبايعُ في المسجدِ بعدَ الأذانِ يجتمعُ فيه نهيانِ؛ لزمانِهِ
ومكانهِ، فهو أولى بالتحريمِ.
المسألةُ الرابعةُ: حكِىَ عن الزهريِّ: أن المسافرَ إذا سمعَ النداءَ للجمعةِ، فعليه أن يشهدَها، وقد سبقَ ذكرُ ذلكَ عنه، وعن النخعيِّ والأوزاعيَ وعن عطاءٍ: أن عليه شهودَها، سمعَ الأذَان أو لم يسمعْه، وأن الجمهورَ على خلافِ ذلكَ.
وهل للمسافرِ أن يبيعَ ويشتريَ في المصِر بعدَ سماع النداءِ؛ فيه اختلافٌ
بينَ أصحابِنا، يرجعُ إلى أنَّ من سقطتْ عنه الجمعةُ لعذرٍ، كالمريضِ: هل له
أن يبيع بعد النداءِ، أم لا؛ فيه روايتانِ عن أحمدَ.
وأما من ليس مِن أهلِ الجمعةِ بالكلِّية، كالمرأة، فلها البيعُ والشراءُ بغيرِ
خلافٍ، وكذا العبدُ، إذا قلنا: لا يجبُ عليه الجمعةَ.
* * *(2/454)
[قال البخاري] : حدثنا آدمُ: ثنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن الزهريِّ، عن
السَّائبِ بنِ يزيدَ، قالَ: كانَ النِّداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلهُ إذَا جلسَ الإمامُ على
المنبرِ، علَى عهدِ رسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرِ وعُمرَ، فلمَّا كانَ عُثمانُ، وكثرُ النَّاسُ، زاد النِّداءَ الثَّالثَ على الزوراءِ.
قالَ أبو عبدِ اللَّهِ: الزَّورَاءُ: موضع بالسُّوقِ بالمدينةِ.
الأذانُ يومَ الجمعةِ قد ذكرَه اللَّهُ تعالَى في كتابه، في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللَّهِ) .
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبهِ، وإنْ قيل: إن الأذان سنة، وهو الذي ذكره ابنُ أبي موسى من أصحابِنا، وقاله طائفة من الشافعيةِ - أيضًا.
وقد دلَّ الحديثُ على أن الأذانَ الذي كان على عهدِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمرَ هو النداءُ الذي بين يديِ الإمامِ عند جلوسهِ على المنبرِ، وهذا لا اختلافَ فيه بين العلماءِ.
ولهذا قال أكثرُهم: إنه هو الأذانُ الذي يَمنع البيعَ، ويوجبُ السعيَ إلى
الجمعة، حيث لم يكن على عهدِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - سِواه.
وما ذكره ابنُ عبد البرِّ عن طائفةٍ من أصحابِهم، أن هذا الأذانَ الذي يمنع
البيعَ لم يكن على عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أحدثه هشامُ بنُ عبدِ الملكِ، فقد بيَّن ابنُ عبدِ البرِّ أن هذا جهل من قائلهِ؛ لعدم معرفته بالسنةِ والآثارِ.
فإن قال هذا الجاهلُ: إنه لم يكنْ أذانٌ بالكلِّية في الجمعةِ، فقد باهتَ.
ويكذِّبهُ قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا)(2/455)
وإنْ زعمَ أن الأذانَ الذي كان في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمرَ هو الأذانُ الأولُ الذي قبلَ خروج الإمامِ، فقد أبطلَ، ويكذبه هذا الحديثُ واجتماعُ العلماءِ على ذلكَ.
وقولُه في هذه الرواية: "أولُه إذا جلسَ الإمامُ على المنبرِ"، معناه: أن هذا
الأذانَ كانَ هو الأولَ، ثم تليه الإقامةُ، وتسُمَّى: أذانًا، كما في الحديثِ
المشهورِ: "بين كلّ أذانينِ صلاة.
وخرَّجَه النسائي من روايةِ المعتمرِ، عن أبيه، عن الزهريِّ، ولفظُه: كان
بلالاً يؤذن إذا جلسَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على المنبرِ يومَ الجمعةِ، فإذا نزلَ أقامَ، ثم كان كذلك في زمنِ أبي بكرٍ وعمرَ، فلما زاد عثمانُ النداءَ الثالثَ صار هذا الثالثُ هو الأولَ، وصار الذي بين يدي الإمامِ هو الثاني.
وقد خرج أبو داود هذا الحديثَ من طريق ابن إسحاقَ، عنِ الزهريِّ.
عن السائبِ، قال: كان يؤذَّن بين يديْ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا جلسَ على المنبرِ يومَ الجمعةِ على بابِ المسجدِ، وأبي بكرٍ وعمرَ.
ففي هذه الروايةِ: زيادةٌ: أنَّ هذا الأذانَ لم يكنْ في نفسِ المسجدِ، بل
على بابهِ، بحيث يسمعه مَنْ كان في المسجدِ ومَن كان خارجَ المسجدِ، ليترك
أهلُ الأسواقِ البيعَ ويسرعُوا إلى السعي إلى المسجدِ.
وقولُه: "فلما كان عثمانُ " - يريد: لما وليَ عثمان - "وكثر الناسُ في زمنه
زادَ النداءَ الثالثَ على الزوراءِ"، وسمَّاه: ثالثًا؛ لأن به صارتِ النداءات(2/456)
للجمعةِ ثلاثةً، وإنْ كان هو أوَّلها وقوعًا.
وخرَّجَه ابن ماجةَ، وعنده - بعد قوله: "على دار في السوقِ، يقال لها:
الزورَاءُ" -: "فإذا خرج أذَنَ، وإذا نَزلَ أقامَ ".
وهو من روايةِ ابنِ إسحاقَ، عن الزهريِّ.
وروى الزهريُّ، عن ابنِ المسيبِ: معنَى حديثهِ عن السائبِ بن يزيدَ، غيرَ
أنه قال: "فلمَّا كان عثمانُ كثرَ الناسُ، فزاد الأذانَ الأولَ، وأرادَ أن يتهيأ
الناسُ للجمعةِ".
خرَّجَه عبدُ الرزَّاقِ في "كتابه " عن معمرٍ، عنه.
وقد رواه إسماعيلُ بنُ يحيى التميميُّ - وهو ضعيفٌ جدًّا -، عن مِسعَر.
عن القاسم، عن ابن المسيبِ، عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ، قال: ما كان الأذانُ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة إلا قُدَّامَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبرِ، فإذا نزلَ
أقامُوا الصلاةَ، فلما ولي عثمانُ أُمرَ أن يؤذَّن على المنارَة ليُسمعَ الناسَ.
خرَّجَه الإسماعيليُّ في مسند مسعرٍ، وقال في القاسم: هو مجهولٌ.
قلت: والصحيحُ المرسلُ.
وقد أنكر عطاءٌ الأذانَ الأولَ، وقال: إنما زادَه الحجاجُ.
قال: وإنما كانَ عثمانُ يدعو الناسَ دعاءً.
خرَّجَه عبد الرزاقِ.(2/457)
وقال عمرُو بنُ دينارٍ: إنما زادَ عثمانُ الأذانَ بالمدينةِ، وأما مكةُ فأوَّل من
زادَه الحجاجُ.
قال: ورأيت ابنَ الزبيرِ لا يؤذَّن له حتى يجلسَ على المنبرِ، ولا
يؤذَّن له إلا أذانٌ واحد يوم الجمعة.
خرَّجَه عبد الرزَّاقِ - أيضًا.
وروى مصعبُ بن سلامٍ، عن هشامِ بنِ الغازِ، عن نافع، عن ابن عمرَ.
قال: إنما كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدَ على المنبرِ أذنَ بلال، فإذا فرغَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ّ من خطبتهِ أقام الصلاةَ، والأذانُ الأولُ بدعةٌ.
وروى وكيعٌ في "كتابه " عن هشامِ بنِ الغازِ، قال: سألتُ نافعًا عن
الأذانِ يومِ الجمعةِ؟
فقال: قال ابنُ عمرَ: بدعة، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وإن رآه الناسُ حسنًا.
وقال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ: لم يكن في زمانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أذانَانِ: أذانٌ حين يجلسُ على المنبرِ، وأذانٌ حين تُقامُ الصلاةُ. قال: وهذا الأخيرُ شيءٌ أحدثه الناسُ بعدُ.
خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتم.
وقال سفيانُ الثوريُّ: لا يُؤَذَّن للجمعةِ حتى تزول الشمسُ، وإذا أذنَ المؤذِّن
قام الإمامُ على المنبرِ فخطبَ، وإذا نزل أقامَ الصلاةَ. قال: والأذان الذي كان على عهدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمرَ أذانٌ وإقامةٌ، وهذا الأذانُ الذي(2/458)
زادوه محدَثٌ.
وقال الشافعيُّ - فيما حكاه ابنُ عبدِ البرِّ -: أحبُّ إليَّ أن يكون الأذانُ يومَ
الجمعةِ حين يجلسُ الإمامُ على المنبرِ بينَ يديهِ، فإذا قعد أخذَ المؤذنُ في
الأذانِ، فإذا فرغَ قام فخطبَ.
قال: وكان عطاءٌ ينكرُ أن يكونَ عثمانُ أحدثَ
الأذانَ الثاني، وقال: إنما أحدثَه معاويةُ.
قال الشافعيُّ: وأيُّهما كانَ، فالأذانُ الذي كان على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يُنَهى الناسُ عنده عن البيع.
ولأصحابِهِ في أذانِ الجمعةِ - على قولِهم: الأذانُ سنةٌ - وجهانِ:
أحدُهما: أنه سنةٌ - أيضًا.
والثاني: أنه للجمعةِ خاصةً فرضُ كفاية.
فعلى هذا: هل تسقطُ الكفايةُ بالأذانِ الأول، أوْ لا تسقطُ إلا بالأذان بين
يديِ الإمامِ؟ على وجهينِ - أيضًا.
ومنْ أصحابِنا من قال: يسقط الفرضُ بالأذانِ الأول، وفيه نظرٌ واللَّه
أعلم.
وقال القاضِي أبو يعلَى: المستحبُّ أن لا يؤذَّن إلا أذانٌ واحدٌ، وهو بعد
جلوسِ الإمام على المنبرِ، فإن أذِّنَ لها بعدَ الزَّوال وقبلَ جلوسِ الإمامِ جازَ.
ولم يُكْرَه.
ثم ذكرَ حديثَ السائبِ بنِ يزيدَ هذا.
ونقلَ حربٌ، عن إسحاقَ بنِ راهَويه: أن الأذانَ الأول للجمعةِ محدثٌ.
أحدثه عثمانُ، رأى أنه لا يسمعُه إلا أن يزيدَ في المؤذنين، ليُعلم الأبعدِين(2/459)
ذلك، فصار سنةً: لأن على الخلفاء النظرَ في مثل ذلك للناسِ.
وهذا يفهم منه أن ذلك راجغ إلى رأي الإمام، فإن احتاج إليه لكثرةِ الناس
فعلَه، وإلا فلا حاجةَ إليه.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)
[قال البخاري] : بابُ الخُطبةِ قائمًا:
وقالَ أنسٌ: بينَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائما.
حديثُ أنسٍ، هو الذي فيه ذكرُ الاستسقاءِ في الجمعةِ، وسيأتي - إن شاء
اللَّهُ سبحانه وتعالى - فيما بعد.
حدثثا عُبيدُ اللَّهِ بنُ عمرَ القواريريُّ: نَا خالدُ بنُ الحارثِ: نَا عُبيدُ اللَّهِ بنُ
عمرَ، عنْ نافع، عن ابنِ عمرَ، قالَ: كانَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائمًا، ثم يقعدُ، ثُمَّ يقومُ كمَا يفعلُونَ الآن.
وفي الخطبةِ قائمًا أحاديثُ أُخَر.
وخرَّج مسلمٌ من حديثِ سماكِ، عن جابرِ بنِ سمُرةَ، قال: كانَ رسولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائصًا، ثم يجلسُ، ثم يقومُ فيخطبُ قائمًا، فمن نبَّأكَ أنه(2/460)
كان يخطبُ جالسًا فقد كذبَ، فقد - واللهِ - صليتُ معهُ أكثرَ من ألفَي
صلاة.
وخرَّج مسلم بإسنادِه من حديثِ كعبِ بنِ عجرةَ، أنه دخلَ المسجدَ
وعبدُ الرحمنِ بنُ أمِّ الحكم يخطبُ قاعدًا، فقالَ: انظرُوا الخبيثَ، يخطبُ
قاعدًا، وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) .
وخرجَ ابنُ ماجةَ من حديثِ إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن ابنِ مسعودٍ، أنه
سُئلَ: أكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائمًا أو قاعدًا؟
قال: أمَا تقرأُ: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) ؟
وهذا إسناد جيدٌ.
لكن رُوي، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ من قولهِ. وعن إبراهيمَ، عن
عبدِ الله منقطعًا.
واستدل بهذه الآيةِ على القيامِ في الخطبة جماعة، منهم: ابنُ سيرينَ، وأبو
عبيدةَ بن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودِ.
وإنما احتاجوا إلى السؤالِ عن ذلك، لأنه كان في زمن بني أميةَ من يخطبُ
جالسًا، وقد قيلَ: إن أولَ منَ جلسَ معاويةُ -: قاله الشعبيُّ والحسنُ
وطاوُس.
وقال طاوسٌ: الجلوسُ على المنبرِ يومَ الجمعةِ بدعةٌ.(2/461)
وقال الحسنُ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرِ وعمرُ وعثمانُ يخطبون قيامًا، ثم إن عثمانَ لما رقَّ وكبرَ كان يخطبُ، فيدركُه ما يدركُ الكبيرَ فيستريحُ ولا يتكلَّمُ، ثم يقومُ فيتمُّ خطبتَه.
خرَّجَه القاضي إسماعيلُ.
وخرج - أيضًا - من رواية ابنِ جريج، عن عطاءِ، أنه قال؛ أولُ من جعلَ
في الخُطْبةِ جلوسًا عثمانُ، حين كبرَ وأخذته الرعدةُ جلس هنيَّةً.
قيل له: هل كان يخطبُ عمرُ إذا جلسَ؟
قال: لا أدري.
وقد روي عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه كان يخطبُ الخطبةَ الأولَى جالسًا.
ويقوم في الثانيةِ.
خرَّجَه ابنُ سعد.
والظنُّ به أنه لم تبلغهُ السنةُ في ذلك، ولو بلغتْه كان أتبع الناسِ لها.
وقد قيل: إن ذلكَ لم يصح عنه؛ فإن الأثرمَ حكَى: أن الهيثمَ بنَ خارجةَ
قال لأحمدَ: كان عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يجلسُ في خطبته؟
قال: فظهر منه إنكارٌ لذلك.
وروايةُ ابنِ سعدٍ له عن الواقدفيَ، وهو لا يعتمدُ.
وقد رُوي عن ابنِ الزبيرِ - أيضًا - الجلوسُ في الخطبةِ الأولى - أيضًا.
خرَّجهُ القاضي إسماعيلُ.
واختلف العلماءُ في الخُطبةِ جالسًا: فمنهم مَن قالَ: لا يصح، وهو قولُ(2/462)
الشافعيِّ، وحكى روايته عن مالكٍ وأحمدَ.
وقال ابنُ عبدِ البرِّ: أجمعُوا على أن الخطبةَ لا تكونُ إلا قائمًا لمن قدرَ على
القيامِ.
ولعلَّه أراد إجماعهم على استحبابِ ذلك؛ فإن الأكثرينَ على أنها تصحُّ
من الجالسِ، مع القدرةِ على القيامِ، مع الكراهةِ.
وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ، والمشهورُ عن أحمدَ، وعليه أصحابُه، وقولُ إسحاقَ - أيضا.
* * *
[قال البخاري] : حدثنا معاويةُ بنُ عمرو: ثنَا زائدةُ، عن حصينٍ، عن
سالم بنِ أبي الجعدٍ: ثنا جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قالَ: بينمَا نحنُ نُصلِّي معَ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - إذْ أقبلتْ عيرٌ تحملُ طعامًا، فالتفتُوا إليهَا حتَّى ما بقِي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشرَ رجلاً، فنزلتْ هذه الآية ُ: (وِإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِليْهًا وَتَرَكُوك قَائِمًا) .
وخرَّجَه في "التفسير"، عن حفصِ بنِ عمرَ، قال: ثنا خالدُ بنُ
عبدِ اللَّهِ: أبْنَا حصينٌ، عن سالم بنِ أبي الجعدِ - وعن أبي سفيانَ، عن جابرِ
ابنِ عبدِ اللهِ - فذكرَه بمعناه.
وفي هذه الروايةِ: متابعةُ أبي سفيانَ لسالم بنِ أبي الجعدِ على روايته عن
جابر، وإنما خرَّج لأبي سفيان متابعةً.
وقد خرَّجه مسلم بالوجهين - أيضًا.(2/463)
وفي أكثرِ رواياتهِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -كانَ يخطبُ يومَ الجمُعَة.
وفي رواية له: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يخطبُ قائمًا يومَ الجمُعَة - فذكرَه بمعناه.
وفي روايةٍ له: فلم يبقَ إلا اثنا عشرَ رجلاً، أنا فيهم.
وفي روايةٍ له - أيضا -: فيهم أبو بكرٍ وعمرُ - - رضي الله عنهما -.
وقولُه في الرواية التي خرجها البخاريُّ: بيْنَا نحنُ نصلِّي معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
لم يرِدْ به أنهمُ انفضُّوا عنه في نفسِ الصلاةِ، إنما أرادَ - واللَّهُ أعلمُ - أنهم
كانوا مجتمعينَ للصلاةِ، فانفضُّوا وتركُوه.
ويدلُّ عليه: حديثُ كعبِ بنِ عجرة، لما قال: انظُروا إلى هذا الخبيثِ
يخطبُ قاعِدًا، وقد قالَ اللَهُ تعالى: (انفَضوا إِلَيْهَا وَتَرَكوكَ قَائِمًا) .
وكذلك استدلالُ ابنِ مسعودٍ وخلقٌ من التابعينَ بالآيةِ على القيامِ في
وروى علي بنُ عاصم هذا الحديثَ عن حصينٍ، فقال فيه: فلم يبقَ معه
إلا أربعونَ رجلاً، أنا فِيهِمْ.
خرَّجه الدارقطنيُّ والبيهقي.
وعليٌّ بنُ عاصم، ليس بالحافظِ، فلا يُقبلُ تفردُه بما يخالفُ الثقاتِ.
وقد استدلَّ البخاريُّ وخلق من العلماءِ على أن الناسَ إذا نَفروا عن الإمامِ
وهو يخطبُ للجمعَةِ، وصلَّى الجمُعةَ بمن بَقي، جازَ ذلك، وصحَّت
جمعتهم.(2/464)
وهذا يرجع إلى أصل مختلَفٍ فيه، وهو: العددُ الذي تنعقدُ به الجمعةُ؟
وقد اختُلِفَ في ذلك:
فقالت طائفةٌ: لا تنعقدُ الجمعةُ بدون أربعينَ رجلاً، رُويَ ذلك عن
عُبيدِ اللَّهِ بنِ عبد اللَّهِ بنِ عتبةَ وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وهو قول الشافعيِّ
وأحمدَ - في المشهورِ عنه - وإسحاقَ، ورواية عن مالكٍ.
وقالت طائفة: تنعقد بخمسينَ، رُويَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ - أيضًا -
وهو روايةٌ عن أحمدَ.
وقالت طائفة تنعقد بثلاثةٍ، منهم: ابنُ المباركِ والأوزاعيُّ والثوريُّ، وأبو
ثور، ورُوي عن أبي يوسفَ، وحُكيَ روايةً عن أحمدَ.
وقالت طائفةٌ: تنعقد بأربعةٍ، وهو قول أبي حنيفة وصاحبَيه - في المشهور
عنهما - والأوزاعيِّ ومالكٍ والثوريّ - في رواية عنهما - والليثِ بنِ سعدٍ.
وحكي قولاً قديمًا للشافعيِّ، ومنهم مَن حكاه أنها تنعقدُ بثلاثةٍ.
وقالت طائفةٌ: يعتبر أربعونَ في الأمصارِ وثلاثةٌ في القرى، وحُكيَ روايةً
عن أحمدَ، صحَّحَها بعضُ المتأخرينَ مِن أصحابهِ.
وقالت طائفةٌ: تنعقدُ بسبعةٍ، وحُكيَ عن عكرمةَ، وروايةً عن أحمدَ.
وقالت طائفة: تنعقدُ باثني عشرَ رجلاً، حكيَ عن ربيعةَ.
وقد قال الزهريُّ: إن مصعبَ بنَ عمير أول ما جمَّعَ بهم بالمدينةِ كانوا اثني
عشرَ رجلاً.(2/465)
وتعلَّق بعضُهَم لهذا الحديثِ بحديثِ جابرٍ المخرج في هذا البابِ.
وقال طائفة: تنعقدُ الجمُعةُ بما تنعقدُ به الجماعةُ، وهو رجلانِ، وهو قولُ
الحسنِ بنِ صالح وأبي ثورٍ - في روايةٍ - وداودَ، وحُكيَ عن مكحولٍ.
وتعلَّق القائلونَ بالأربعينَ بحديثِ كعبِ بنِ مالكٍ، أنَّ أولَ جمُعةٍ جمَّع
بهم أسعدُ بنُ زرارةَ، كانوا أربعينَ، وقد سبقَ ذكرُه في أولِ "كتابِ الجمُعةِ".
وقد ذكرَ القاضي أبو يعلَى وغيرُه وجهَ الاستدلالِ به: أنَّ الجمُعةَ فُرضت
بمكةَ، وكان بالمدينةِ من المسلمينَ أربعة وأكثرُ ممَّن هاجر إليها وممَّن أسلم بها.
ثم لم يصلُّوا كذلك حتى كملَ العددُ أربعينَ، فدلَّ على أنها لا تجبُ على أقل
منهم، ولم يُثبتْ أبو بكرٍ الخلالُ خلافَه عن أحمد في اشتراطِ الأربعينَ.
قال: وإنما يُحْكَى عن غيرِه، أنه قال بثلاثة، وبأربعةٍ، وبسبعةٍ، ولم يذهبْ
إلى شيء من ذلك، وهذا الذي قاله الخلالُ هوَ الأظهرُ. واللَّهُ أعلمُ.
وفي عددِ الجمُعةِ أحاديثُ مرفوعةٌ، لا يصحُّ فيها شيء، فلا معنى
لذكرِها.
وإذا تقرَّر هذا الأصلُ، فمَن قالَ: إن الجمُعةَ تنعقدُ باثني عشرَ رجلاً أو
بدونِهم، فلا إشكالَ عنده في معنى حديثِ جابرٍ؛ فإنه يحملُه على أن النبيَّ
- صلى الله عليه وسلم - صلَّى الجمُعَة بمَن بقي معَه، وصحتْ جمعتُهم.
ومَن قال: لا تصحُّ الجمعةُ بدون أربعينَ، فإنه يشكلُ عليه حديثُ جابرٍ.
وقد أجاب بعضُهم: بأن الصحيحَ أنهم انفضُّوا وهو في الخطبة.
قال: فيحتملُ أنهم رجعُوا قبلَ الصلاةِ، أو رجعَ مَن تمَّ به الأربعونَ، فجمًّع بهم.
قال: والظاهرُ أنهم انفضُّوا ابتداءً سوى اثني عشرَ رجلاً، ثم رجعَ منهم تمامُ(2/466)
أربعينَ، فجمَّع بهم، وبذلك يُجمعُ بين روايةِ عليِّ بنِ عاصمٍ وسائرِ
الروايات.
وهذا الذي قاله بعيدٌ، وروايةُ علي بنِ عاصمٍ غلطٌ محضٌ، لا يُلتفتُ
إليها.
وسلكَ طائفة مسلكًا آخرَ، وظاهرُ كلامِ البخاريِّ هاهنا وتبويبه يدل عليه.
وهو: أن انفضاضهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان في نفسِ الصلاة، وكان قد افتتحَ بهم الجمُعةَ بالعددِ المعتبرِ، ثم تفرَّقوا في أثناءِ الصلاةِ، فأتمَّ بهم صلاةَ الجمُعةِ"
فإنَّ الاستدامَةَ يغتفرُ فيها ما لا يُغتفرُ في الابتداءِ.
وهذا قولُ جماعةٍ منَ العلماءِ، منهم: أبو حنيفةَ وأصحابهُ والثوريُّ ومالكٌ
والشافعيُّ - في القديم - وإسحاقُ، وهو وجهٌ لأصحابِنا.
وعلى هذا، فمنهم مَن اعتبرَ أن يبقى معه واحدٌ فأكثرُ؛ لأن أصلَ الجماعةِ
تنعقدُ بذلك، ومنهم مَن شرطَ أن يبقى معه اثنانِ، وهو قولُ الثوريِّ وابن
المباركِ، وحكيَ قولاً للشافعيِّ.
وقال إسحاقُ: إن بَقيَ معه اثنا عشرَ رجلاً جَمَّع بهم وإلا فلا؛ لظاهر
حديثِ جابرٍ.
وهو وجه لأصحابِنا.
ولأصحابِنا وجهٌ أخرُ: يتمُّها الإمامُ جمُعةً، ولو بقيَ وحدَه.
وهذا بعيدٌ جدًّا.
وفرَّق مالكٌ بينَ أن يكون انفضاضُهم قبلَ تمامِ ركعةٍ فلا تصحُ جمُعتُهم
ويصلُّون ظهرًا، وبينَ أن يكونَ بعد تمامِ ركعةٍ فيتمّونَها جمعةً.(2/467)
ووافقَه المُزَني، وهو وجهٌ لأصحابِنا.
وقالَ أبو حنيفةَ: إنِ انفَضوا قبلَ أن يسجدَ في الأولى فلا جمُعةَ لهم، وإنْ
كان قد سجَدَ فيها سجدةَّ أَتمُّوها جمعةً.
وقال صاحباه: بل يتمونَها جمعةً بكلّ حالٍ، ولو انفضُّوا عقبَ تكبيرةِ
الإحرامَ.
ومذهبُ الشافعيّ - في الجديد - وأحمدَ والحسنِ بنِ زيادٍ: أنه لا جمعة
لهم، حتى يكملَ العددُ في مجموع الصلاةِ.
قال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ بنُ جعفرٍ: لم يختلفْ قولُ أحمدَ في ذلك.
وقد وجدتُ جوابًا آخرَ عن حديثِ جابرِ، وهو: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ قد صلَّى بأصحابه الجمُعةَ، ثم خطبَهم فانفضُّوا عنه في خطبِته بعدَ صلاةِ الجمُعةِ، ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ قدَّم خطبَة الجمُعَة على صلاتِها.
فخرج أبو داودَ في "مراسيلِه " بإسنادِه، عن مقاتلِ بنِ حيانَ، قال: كان
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الجمُعَةَ قبل الخطبةِ مثلَ العيدِ، حتَّى إذا كان يومُ جمُعةٍ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ، وقد صلَّى الجمعةَ، فدخلَ رجلٌ، فقالَ: إن دِحيةَ بنَ خليفةَ قد قدمَ بتجارتهِ - وكان دحيةُ إذا قدمَ تلقَّاه أهلُه بالدفافِ -، فخرجَ الناسُ، لم يظنُّوا إلا أنه ليس في تركِ الخطبةِ شيءٌ، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
(إَذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا) ، فقدَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخطبةَ يومَ الجمعةِ، وأخرَ الصلاة.
وهذا الجوابُ أحسنُ مما قبلَه.(2/468)
ومن ظنَّ بالصحابةِ أنهم تركوا صلاةَ الجمُعَةِ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد دخولِهم معه فيها، ثم خرجُوا مِنَ المسجدِ حتى لم يبقَ معه إلا اثنا عشرَ رجلاً، فقد أساءَ بهم الظنَّ، ولم يقعْ ذلك بحمدِ اللَّهِ تعالى.
* * *
قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)
[قال البخاري] : بابُ قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) :
حدثنَا سعيدُ بنُ أبي مريمَ: ثنَا أبُو غسَّانَ: حدَّثنِي أبُو حازمٍ، عنْ سهلِ بنِ
سعدٍ، قالَ: كانتْ فينَا امرأةٌ تجعلُ على أربعاءَ فِي مزرعَةٍ لهَا سلقًا، فكانتْ
إذَا كانَ يومُ الجمُعةِ تنزعُ أصولَ السِّلقِ، فتجعلُهُ فِي قدرٍ، ثمَّ تجعلُ عليهِ قبضةً مِن شعير تطحنُها، فتكونُ أصولُ السِّلقِ عرقهُ، وكنَّا ننصرفُ مِن صلاةِ الجمعةِ فنسلِّمُ عليهَا، فتُقرِّبُ ذلكَ الطعامَ إلينَا، فنلعقُهُ، فكنَّا نتمنَّى يومَ الجمُعةِ لطعامِهَا ذلكَ.
حدثنا عبدُ اللَّهِ بنُ مسلمةَ: نَا ابنُ أبي حازمٍ، عن أبيهِ، عن سهلِ بنِ
سعد - بهذَا، وقالَ: مَا كُنَّا نقيلُ ولا نتغدَّى إلا بعدَ الجمعَةِ.
المقصودُ من هذا الحديثِ هاهنا: أن الصحابة لم يكونوا يجلسونَ بعدَ صلاةِ
الجمعةِ في المسجد إلى العصرِ لانتظارِ الصلاةِ - كما ورد في الحديث المرفوع
أنه يعدلُ عمرةً، وقد خرَّجه البيهقيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ، وقد سبقَ ذكرُه -
-(2/469)
وإنما كانوا يخرُجون من المسجدِ ينتشرُون في الأرضِ، فمنهم مَن كان ينصرفُ
لتجارةٍ، ومنهم مَن كان يزورُ أصحابَه وإخوانَه، وكانوا يجتمعُون على ضيافةِ
هذه المرأةِ.
وقد ذهبَ بعضُهم إلى أنَّ الأمرَ بالانتشارِ بعدَ الصلاةِ للاستحبابِ.
كان عراكُ بنُ مالكٍ إذا خرجَ من المسجدِ يومَ الجمعةِ قالَ: اللهمُّ، أجبتُ
دعوتَكَ، وقضيتُ فريضتَك، وانتشرتُ كما أمرتني، فارزقني من فضلكِ.
وأنتَ خيرُ الرازقينَ.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه.
وهذا يدلُّ على أنه رأى قولَه تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) ، أمرًا
على ظاهرهِ.
وخرجَ - أيضًا - بإسنادهِ، عن عمرانَ بنِ قيسٍ، قال: من باعَ واشترَى يومَ الجمعةِ باركَ اللَّهُ له سبعينَ مرةً.
قال بعضُ روافيِ: وذلك بعدَ صلاةِ الجمُعَةِ؛ لهذه الآيةِ.
وذهبَ الأكثرونَ إلى أنه ليس بأمرٍ حقيقةً، وإنما هو إذنٌ وإباحة، حيث
كان بعدَ النهي عن البيع، فهوَ إطلاق من محظورٍ، فيفيدُ الإباحةَ خاصةً.
وكذا قالَ عطاءٌ ومجاهدٌ والضحاكُ ومقاتلُ بنُ حيان وابنُ زيدٍ وغيرُهم.
وروى أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ بنُ جعفرٍ في كتاب "الشافي " بإسنادٍ لا يصحُّ.
عن أنسٍ - مرفوعًا - في قوله تعالى: (فَانتَشِروا فِي الأَرْضِ) ، قال: "ليسَ(2/470)
بطلبِ دنيا، ولكن عيادةُ مريضٍ، وتشييعُ جنازةٍ، وزيارةُ أخٍ في اللَّه ".
وفي حديث سهلٍ: دليلٌ على زيارةِ الرجالِ للمرأةِ، وإجابتِهم لدعوتِها.
وعلى استحبابِ الضيافَةِ يومَ الجمُعَةِ خصوصًا لفقراءِ المسلمينَ، فإطعامُ الفقراءِ فيه حسنٌ مُرغَّبٌ فيه.
وفيه: أن فرحَ الفقيرِ بوجودِ ما يأكلُ وتمنِّيه لذلك غيرُ قادحٍ في فقرهِ.
منافٍ لصَبْرِه، بل ولا لرضاه.
وفي الحديث ألفاظٌ تُستغرب:
فـ "الأربعَاء": جداولُ الماءِ في الأرض، واحدُها: "ربيعٌ ".
وقولُه: "فيكون أصولُ السِّلقِ عرقَهُ " - وفي رواية: "عراقَهُ " -، وهو بالعين المهملةِ والقافِ، والعِرقُ والعِرَاقُ: اللحمُ.
والمعنَى: أن أصولَ السِّلقِ تصيرُ في هذا الطعامِ كاللحم لمَّا يطبخُ باللحم
الأطعمة.
ورواه بعضُهم: "غرفه " - بالغين المعجمة والفاء -، وفسر بـ "المرقةِ" فإنها
تُغرَفُ باليد.
وهذا بعيدٌ، فإن أصولَ السِّلقِ لا تصير بغرفٍ.
وقولُه: "فنلعقُه " أي: نلحسُه، وهذا يدلُّ على أنه كان قد ثَخنَ.
وقيل: الفرقُ بين اللحسِ واللعْقِ: أن اللحسَ يختص بالأصبَع، واللعقَ
يكون بالأصبع وبآلة يلعقُ بها كالملْعَقة.(2/471)
سُورَةُ المُنَافِقُونَ
قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
وقد رُوي عن محمدِ بنِ كعبِ القُرظيِّ أنَّه استنبطَ ما في هذا الحديثِ -
أعني: حديثَ: "آيةُ المنافقِ ثلاثم - من القرآنِ، فقالَ: مصداقُ ذلك في كتابِ اللَّهِ تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) إلى قولِه: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِين لَكَاذِبُونَ) .
وقالَ تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ)
إلى قولِه: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) .
وقالَ تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ)
إلى قولِه: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ) .
ورُوي عن ابن مسعودٍ نحوُ هذا الكلامِ، ثُمَّ تلا قولَه تعالىْ (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ) الآية.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)
وقد وردَ في القرآنِ تشبيهُ المنافقينَ بالخُشُبِ المسندةِ فنظرهم فقالَ:(2/472)
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) .
فوصفَهُم بحسنِ الأجسامِ وتمامِهَا، وحسنِ المقامِ والفصاحةِ حتَّى وإعجاب
به، ومع هذا فبواطِنُهم خرابٌ ومعائنُهم فارغةٌ. فلهذا مثلَهم بالخشبِ المسندةِ
التي لا روحَ لها ولا إحساسَ وقلوبُهم مع هذا ضعيفةٌ في غايةِ الضعفِ.
(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) .
وهكذَا كلُّ مريب يُظْهِرُ خلافَ ما يضمرُ يخافُ من أدْنى شيءٍ ويتحسَّرُ
عليهِ.
وأما المؤمنونَ فبعكسِ هذه الصفاتِ حالُهم مستضعفونَ في ظاهرِ أجسامِهم
وكلامِهم لأنَّهم اشتغلُوا بعمارةِ قلوبهِم وأرواحِهم عن عمارةِ أجسادهم.
وبواطنُهم قويةٌ ثابتةٌ عامرةٌ فيكابدونَ بها الأعمال الشاقة في طاعةِ اللًّهِ من
الجهادِ والعباداتِ والعلومِ وغيرِها ممَّا لا يستطيعُ المنافقُ مكابدتَه لضعفِ قلبِهِ.
لا يخافونَ من ظهورِ ما في قلوبهِم إلا خشيةَ الفتنةِ على نفوسهم وإنَّ
بواطِنَهُم خيرٌ من ظواهرِهِم وسرهم أصلحُ من علانيتِهِم.
قال سليمان التيمي: أتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فقالَ: يا سليمانُ إنَّ قُوتَ المؤمنِ
في قَلبْهِ ".
فالمؤمنُ لمَّا اشتغلَ بعمارةِ قلبِهِ عن عمارةِ قالبِهِ استُضْعِفَ ظاهرُهُ
وربما أُوذي، ولو علمَ الناسُ ما في قلبهِ لما فعلُوا ذلكَ.
قال عليٌّ - لأصحابه: "كونوا في النَّاسِ كَالنَحْلِ في الطَّيْرِ يستضعفُهَا ولوْ
علمُوا مَا في جَوفهَا مَا فعلُوا".
من قوةِ قلبِ المؤمنِ وثباتهِ على الإيمانِ.
فالإيمانُ الذي في قلبِهِ مَثَلُه كمثَلِ شجرة طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في
السماءِ فيعيشُ على الإيمانِ ويموتُ ويُبعثُ عليهِ، وإنَّما الرياحُ وهي بلايا(2/473)
الدُّنيا تقلِّبُ جسْمَهُ يمنةً ويسرةً، وكذلك قلبُهُ لا تصِلُ إليه الرياحُ لأنَّه
محروسٌ بزبرِ الإيمانِ.
والكافرُ والمنافقُ والفاجرُ بعكسِ ذلكَ: جسمُه قويٌّ لا تقلبُّه رياحُ الدنيا.
وأما قلبُه فإنَه ضعيفٌ تلاعبُ به الأهواءُ المضِلَّةُ فتقلبُه يمنةً ويسرةً، فكذلكَ
كانَ مَثَلُ قلبهِ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثتْ من فوقِ الأرضِ ما لها من قرارٍ، كَما
شجرةُ الحنضلِ ونحوهِ مما ليسَ له أصلٌ ثابتٌ في الأرضِ.
وقال عليٌّ - رضي الله عنه - في صفةِ الهمج الرعاع: "أتباعُ كلِّ ناعقٍ يميلونَ مَعَ كل ريح لمْ يستضيئُوا بنورِ العلْم ولم يلجأوا إلى رُكن وثيقٍ ".
بهذا يظهرُ الجمعُ بين حديثِ تمثيل المؤُمِنِ بالنَّخَّلَةِ.
فإن التمثيلَ بالزرع لجسدِهِ لتوالى البلاءِ عليه.
والتمثيلُ بالنخلةِ لإيمانهِ وعملِهِ وقولِهِ.
يدلُّ عليه قولُه عزَّ وجلَّ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) .
فجعلها مثلاً لكلمةِ الشهادتينِ التي هي أصلُ الإسلامِ في قلبِ المؤمنِ.
كثبوتِ أصلِ النخلةِ في الأرضِ، وارتفاع عملِ المؤمنِ إلى السماءِ كارتفاع
النخلةِ، وتجددِ عملِ المؤمنِ كإتيانِ النخلةِ أكلَها كلَّ حينٍ.
وقد رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إن المؤمنَ الضَّعيفَ قلبُهُ كزرع والقويَّ مثلُهُ كمثلِ النَّخلةِ".
وخرَّجَه البزار وغيره. ولأن ثمرةَ الزرع - وهو السنبلُ -(2/474)
يستضعفُ ويطمعُْ فيه كل أحدِ لقربِ تناولهِ فيطمعُ الآدمي في الأكلِ منهُ.
وفي قَطْعِه وسرقتهِ، والبهائمُ في رعيهِ، والطيرُ في الأكلِ منهُ.
وكذلك المؤمنُ يُستضعفُ فيعادِيه عمومُ النَّاسِ لأنَّ الإسلامَ بدأَ غريبًا ويعودُ
غريبًا كما بدأ فطوبَى للغرباءِ.
فعمومُ الخلقِ يستضعفُه ويستغربُه ويؤذيه لغربتهِ بينَهم وأمَّا الكافرُ والمنافقُ
أو الفاجر الذين كالصنوبرِ فإنَّه لا يُطمعُ فيه فلا الرياحُ تزعزعُ بدنَه ولا يُطمعُ
في تناوله ثمرتهِ لامتناعِها.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
فكثرةُ العيالِ مما يوجبُ تعلقَ القلبِ بهم، فيُشغِلُ ذلك عن محبَّتهِ وخدمتهِ
للَّهِ، وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) .
قالَ أبو حازمٍ: كلُّ ما شغلَكَ عنِ اللهِ من مالٍ أو ولدٍ فهو عليك شؤم.
* * *(2/475)
سُورَةُ التَّغَابُنِ
قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)
قال اللَهُ عزَّ وجلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) .
قال علقمةُ: هي المصيبةُ تصيبُ الرَّجلَ، فيعلمُ أنَّها من عندِ اللَّهِ.
فيسلِّمُ لها ويَرضَى.
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رَضِي، فله الرِّضَا، ومن سَخط فله السَّخَطُ "، وكانَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائهِ:
"أسالكَ الرضَا بعدَ القضاء".
وممَّا يدعو المؤمنَ إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانهِ بمعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يقضي اللَهُ للمؤمنِ قضاءً إلا كانَ خيرًا له: إن أصابتْهُ سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابتْهُ ضراءُ صبرَ، فكان خير، له، وليسَ ذلك إلا للمؤمنِ ".
وجاءَ رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألَه أن يُوصيه وصيةً جامعةً موجَزةً، فقال:(2/476)
"لا تتَّهِم اللَّهَ في قضائهِ "
قالَ أبو الدرداءِ: إنَّ اللَّه إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به.
وقال ابنُ مسعودٍ: إنَّ اللَّهَ بقسطه وعدلهِ جعلَ الرَّوحَ والفرحَ في اليقينِ والرِّضَا، وجعلَ الهمَّ والحزنَ في الشكًّ والسَّخَطِ؛ فالرَّاضي لا يتمنَّى غيرَ ما هو عليه من شدَّة ورخاءٍ.
كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرِهما.
وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ:
أصبحتُ ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاءِ والقدرِ.
فمن وصلَ إلى هذه الدرجةِ، كان عيشُه كلُّه في نعيم وسرورٍ، قالَ
تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) .
قال بعضُ السَّلَفِ: الحياةُ الطيبةُ: هي الرِّضا والقناعةُ.
وقال عبدُ الواحدِ بنُ زيد: الرِّضا بابُ اللَّهِ الأعظم وجنةُ الدُّنيا ومستراحُ العابدين.
وأهلُ الرِّضا تارةً يلاحظون حكمةَ المبتلي وخيرتَه لعبدهِ في البلاءِ، وأنَّه
غيرُ متّهم في قضائهِ، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاءِ، فيُنسيهم ألمَ
المقضي به، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه، فيستغرقُونَ في
مشاهدةِ ذلك، حتَّى لا يشعرُونَ بالألم، وهذا يصلُ إليه خواص أهل المعرفة
والمحبَّةِ، حتَّى ربَّما تلذَّذوا بما أصابَهم لملاحظتهم صدُوره عن حبيبهم، كما
قالَ بعضُهم: أوجدَهم في عذابهِ عذوبةً.
وسُئلَ بعضُ التابعينَ عن حاله في مرضهِ، فقالَ: أحبُّه إليَّ.
وسُئلَ السريُّ: هل يجدُ المحبُّ ألمَ البلاءِ؟
فقالَ: لا. وقال بعضُهم:(2/477)
عذابُه فيكَ عَذْبُ. . . وبُعدُهُ فيكَ قُرْبُ
وأنْتَ عِندي كرُوحي. . . بل أنْتَ مِنها أَحَبُّ
حسْبي مِنَ الحُبِّ. . . أنِّي لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ
* * *(2/478)
سُورَةُ الطَّلاقِ
قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
وأمَّا حدودُ اللَّهِ التي نَهى عَن اعتدائِها، فالمرادُ بها جُملةُ ما أَذِنَ في فعلهِ.
سواء كانَ على طريقِ الوجوبِ، أو الندْبِ، أو الإباحةِ، واعتداؤُها: هو
تجاوزُ ذلك إلى ارتكابِ ما نَهى عنه، كما قالَ تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، والمرادُ: مَنْ طلَّقَ على غيرِ ما أمرَ اللَّه
به وأذنَ فيه، وقال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) .
والمراد: مَنْ أمسَكَ بَعدَ أَنْ طَلَّق بغيرِ معروفٍ، أو سرَّح بغيرِ إحسانٍ، أو أخَذَ ممَّا أعْطَى المرأةَ شيئًا على غيرِ وجهِ الفديةِ التي أذِنَ اللَّهُ فيها.
وقالَ تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ يدْخِلْهُ جَنَّاتٍ)
إلى قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) .
والمرادُ: مَنْ تجاوزَ مَا فرضَه اللَّهُ للورثةِ، ففضَّلَ وارثًا، وزاد على حقهِ، أو
نقصَه منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خُطبته في حجَّة الوَداع: "إنَّ اللَّه قد أعْطَى كل ذي حَق حَقَّه فلا وصيةَ لوارث ".(2/479)
وروى النَّوَّاسُ بنُ سمعانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ضرب اللَّه مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتيِّ الصّراطِ سُورَانِ فيهما أبوابٌ مُفتحةٌ وعلى الأبوابِ ستورٌ
مرخاق وعلى بابِ الصّراطِ داع يقول: يا أيُّها الناسُ، ادخُلوا الصّراطَ جميعًا، ولا تُعرِّجوا.
وداعٍ يدعو من جوفِ الصّراط، فإذا أراد أن يفتحَ شيئا من تلك الأبوابِ، قال: وَيحكَ لا تفتحه، فإنَّك إنْ تفتحْه تلجْه، والصِّراطُ: الإسلامُ، والسُّورانِ: حدودُ اللَّه، والأبوابُ المفتَّحةُ: محارمُ الله، وذلك الداعي على رأس الصِّراطِ: كتابُ اللَّهِ، والدَّاعي من فوقُ: واعظُ اللَّهِ في قلبِ كلِّ مسلمٍ " خرَّجه الإمامُ أحمدَ، وهذا لفظُه.
والنسائيُّ في "تفسيرِه "، والترمذيُّ وحسَّنه.
فضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الإسلامِ في هذا الحديثِ بصراطٍ مستقيم، وهو الطريقُ السَّهلُ، الواسعُ، الموصلُ سالكَه إلى مطلوبهِ، وهو - مع هذا - مستقيمٌ، لا عوجَ فيه، فيقتضي ذلك قربَه وسهولَته، وعلى جنبتي الصِّراطِ يَمْنةً ويسرَةً سُورَانِ، وهما حدودُ اللَّه، فكما أنَّ السَّورَ يمنع مَنْ كان داخله مِنْ تعدِّيه ومجاوزتهِ، فكذلك الإسلامُ يمنع من دخلَه من الخُروج عن حدودهِ
ومجاوزتِها، وليس وراءَ ما حدَّ اللَهُ من المأذونِ فيه إلا ما نَهى عنه، ولهذا
مدحَ سبحانَه الحافظينَ لحدودِه، وذمَّ من لا يعرفُ حَدَّ الحلالِ من الحرامِ، كمَا قالَ تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) .
وقد تقدَّم حديثُ القرآنِ وأنَه يقولُ لمن عَمِل به: حَفِظَ
حدودِي، ولمن لمْ يعملْ به: تعدَّى حدودِي.
والمرادُ: أنَّ مَنْ لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه فقد حفِظَ حدودَ(2/480)
اللَّه، ومن تعدَّى ذلك فقد تعدَّى حدودَ اللَّهِ.
وقد تُطلقُ الحدودُ، ويُرادُ بها نفسُ المحارمِ، وحينئذٍ فيقال: لا تقربُوا
حدودَ اللهِ، كما قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) .
والمرادُ: النَّهيّ عن ارتكابِ ما نهى عنه في الآيةِ من محظوراتِ الصِّيامِ
والاعتكافِ في المساجدِ، ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارمِ حدودًا - قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"مَثَلُ القائم على حدودِ اللَّهِ والمُدْهِنِ فيها، كمثلِ قوم اقتسموا سفينةً"
الحديثُ المشهور، وأراد بالقائم على حدود اللَّه: المنكرُ للمحرَّمات والناهي
عنها.
وفي حديثِ ابنِ عباسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إنِّي آخِذٌ بحُجزِكُم، أقولُ: اتَّقوا النارَ، اتَقوا الحدودَ" قالها ثلاثاً.
خرَّجه الطبراني والبزار.
وأراد بالحدودِ، محارمَ اللَّهِ ومعاصيهِ، ومنه قولُ الرجلِ الذي قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي أصبتُ حدًّا فأقِمْه عليَّ.
وقد تُسمى العقوباتُ المقدرةُ الرادعةُ عن المحارمِ المغلظةُ حدودًا، كما يقالُ:
حدُّ الزني وحدُّ السرقةِ وحدُّ شُربِ الخَمرِ، ومنه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامةَ:
"أتشفعُ في حَدٍّ من حدودِ اللَّهِ؟ "
يعني: في القَطع في السَّرقةِ.
وهذا هو المعروفُ من اسم الحدودِ في اصطلاح الفقهاءِ.(2/481)
وأمَّا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يُجلدُ فوقَ عشرِ جلدات إلا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللَّه "
فهذا قد اختلف الناسُ في معناه، فمنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بهذه الحدودِ
المقدّرةِ، وقال: إنَّ التَّعزيرَ لا يُزادُ على عشرِ جلداتٍ، ولا يُزادُ عليها إلا في هذه الحدودِ المقدَّرةِ، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ اللَهِ، وقالَ:
المرادُ أن مجاوزةَ العشرِ جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكابِ محرمٍ مِنْ محارمِ
اللَّه، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غيرِ محرَّمٍ، فلا يتجاوزُ به عشر جَلْدات.
وقد حملَ بعضُهم قولَه - صلى الله عليه وسلم -:
"وحدَّ حُدُودًا فلا تعتدوها"
على هذه العقوباتِ الزَّاجرةِ عَنِ المحرَّماتِ، وقال: المرادُ النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عندَ إقامتِها على أهلِ الجرائم.
ورجَّح ذلك بأنَّه لو كانَ المرادُ بالحدودِ الوقوف عند
الأوامرِ والنَّواهي، لكانَ تكريرًا لقولهِ:
"فرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، وحرَّم أشياءَ، فلاتننهكُوها"
وليس الأمرُ على ما قالَه، فإنَّ الوقوفَ عند الحُدودِ يقتضي أنَّه لا
يخرجُ عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نَهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذونِ فيه فرضًا أو
ندبًا أو مباحًا كما تقدَّم، وحينئذٍ فلا تكريرَ في الحديثِ، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)
قال قتادةُ في قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) . 2
قالَ: مِن الكربِ عندَ الموتِ، ومن أفزاع يوم القيامةِ.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - في هذه الآيةِ: ننجيه من كلِ(2/482)
كربٍ في الدُّنيا والآخرةِ.
وقال زيدُ بنُ أسلمَ في قولهِ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَ اسْتَقَامُوا)
قال: يُبشرُ في ذلك عند موتهِ، وفي قبرهِ ويومَ البعثِ، فإنه لفي
الجنةِ، وما ذهبت فرحةُ البشارةِ من قلبه.
وقال ثابتٌ البناني في هذه الآية: بلغنا أنَّ المؤمنَ حينَ يبعثُه اللَّهُ من قبرهِ
يتلَقاه ملكَاه اللذانِ كانا معه في الدُّنيا فيقولان له: لا تخف ولا تحزنْ، فيؤمِّنُ
اللَّهُ خوفَه ويقر عينَه، فما من عظمةٍ تغشى الناسَ يومَ القيامةِ إلا وهي
للمؤمنِ قرةُ عينٍ، لما هداه الله ولما كانَ يعملُ في الدنيا.
خرَّج ذلك كلَّه ابنُ أبي حاتم وغيرهِ.
وأمَّا من لم يتعرف إلى اللَّهِ في الرخاءِ، فليسَ له أنْ يعرفَه في الشدةِ لا
في الدَّنيا ولا في الآخِرة.
وشواهدُ هذا مشاهدةُ حالِهم في الدُّنيا، وحالهُم في الآخرة أشدُّ، وما لهم
من وليٍّ ولا نصير.
* * *
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.
وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه - الآيةَ على أبي ذَرٍّ، وقالَ له: "لو أن الناسَ كُلَّهم أَخَذوا بها لكفَتهم ".
يعني: لو أنَّهم لو حقَّقوا التَّقوى والتوكلَ لاكتَفَوا بذلك في مصالح دينهِم
ودنياهُم.(2/483)
قال بعضُ السلف: بِحَسبِكَ من التوسلِ إليه أن يعلَمَ من قلبكِ حُسنَ
توكُّلك عليه، فكَمْ من عبدٍ من عبادِه قد فَوَّضَ إليه أمرَه فكفاه منه ما أهمَّه.
ثمَّ قرأ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .
وحقيقةُ التوكُّلِ: هو صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ في استجلابِ
المصالح، ودفع المضارِّ من أمور الدنيا والآخرةِ كُلِّها، وكلَةُ الأمورِ كُلِّها إليه، وتحقيقُ الإيمانِ بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ سِواه.
قال سعيدُ بنُ جُبير: التوكُّلُ جماعُ الإيمانِ.
وقال وهبُ بنُ مُنبه: الغايةُ القُصوى التوكلُ.
قالَ الحسنُ: إن توكُّلَ العبدِ على ربِّه: أنْ يعلمَ أنَّ اللَّه هو ثقتُه.
وفي حديث ابن عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"مَنْ سرةَ أن يكونَ أقوى النَّاسِ فليتوكل على اللَّهَ ".
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ يقولُ في دعائهِ:
"اللهمَّ إنِّي أسالُك صدْقَ التوكُّل عليك "، وأنّه كان يقولُ:
"اللهمَّ اجعلني مِمَّنْ توكَلَ عليك فكفيْتَه " َ.
واعلمْ أنَّ تحقيقَ التوكلِ لا يُنافي السَّعي في الأسباب التي قَدَّر اللَّهُ سبحانَه
المقدوراتِ بها، وجرت سُنَّته في خَلْقهِ بذلك، فإن اللهَ تعالى أمرَ بتعاطي
الأسباب مع أمرهِ بالتوكُلِ، فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلبِ عليه إيمان به، قال الله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكمْ)(2/484)
وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) .
وقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
قالَ سهل التُّستري: مَنْ طعنَ في الحركةِ - يَعْني: في السعيِّ والكَسْبِ -
فقد طعنَ في السّنَة، ومن طَعَنَ في التوكُّلِ فقد طَعَنَ في الإيمانِ.
فالتوكُلُ حالُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكَسْبُ سنّته، فمن عَمِلَ على حالهِ، فلا يَتْرُكَنَّ سنتَه.
* * *(2/485)
سُورَةُ التَّحْرِيمِ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
روى شريكٌ، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"أوتِدَ على النَّارِ ألفُ سنة حتَّى ابيضتْ، ثم أوقِدَ عليها ألفُ سنة حتَّى احمرَّتْ، ثمَّ أوقِد عليها ألفُ سنة حتَّى اسودتْ، فهي سوداءُ كالليلِ المُظلم "
خرَّجَه ابنُ ماجه والترمذيُّ وقال: حديثُ أبي هريرةَ في هذا موقوف أصح، ولا أعلمُ أحدًا رفَعه غيرُ يحيى بنِ أبي كثيرٍ عن شريكٍ.
وروى معنٌ، عن مالك، عن أبي سهيل، عن أبي هريرةَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أترونَها حمراءَ كنارِكم هذه لهى أشدُّ سوادًا من القارِ"
خرَّجه البيهقيّ، وخرَّجه البزارُ ولفظُه:
"لهي أشدُّ من دخانِ نارِكُم هذه سبعينَ ضعفا"
ورُوي موقوفًا على أبي هريرة وهو أصحُّ، قالَه الدارقطنيُّ.
وقالَ الجوزجَانيُّ: حدثنا عبيدُ اللَّه الحنفي، حدثنا فَرْقَدُ بنُ الحجاج.
سمعتُ عقبةَ اليماني يقول: سمعتُ أبا هريرةَ يقول: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ نَارَ جهنمَ أشدُّ حرًا من نارِكم هذه بتسعة وتسعينَ جزءًا، وهي سوداءُ مظلمةٌ لا ضوءَ لها، لهي أشد سوادًا من القطرانِ " غريبٌ جدًّا.(2/486)
وروى الكُديمي عن سهلِ بنِ حمادٍ، عن مباركِ بنِ فضالةَ، عن ثابتٍ، عن
أنسٍ قال: تلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قال:
" أوقِدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى ابيضتْ، ثمَّ أوقِدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى احمرت، ثم أوقدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى اسودَّت، فهي سوداءُ لا يضيءُ لهبُها"
خرَّجه البيهقيُّ َ، والكُديميّ ليس بحجةٍ.
وخرَّج البزار من حديثِ زائدةَ بنِ أبي الرقادِ عن زيادٍ النميريِّ، عن
أنسٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ذكر نارَكم هذه فقالَ:
"إنها لجزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنم، وما وصلتْ إليكُم - حتَّى أحسبه قال -: حتَى نُضحتْ بالماءِ مرتينِ لتضيءَ لكُم، ونارُ جهنمَ سوداءُ مظلمةٌ".
وفي حديثِ عديِّ بن عدي عن عُمَرَ مرفوعًا ذكرَ الإيقادَ عليها ثلاثةَ آلافِ
عامٍ أيضًا، وقال: "فهي سوداءُ مظلمةٌ لا يضئُ جمرُها ولا لهبُها"
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا والطبرانيُّ، وقد سبقَ إسنادُه والكلامُ عليه.
ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا من طريقِ الحكم بنِ ظهيرٍ - وهو ضعيف -، عن
عاصم، عن زرٍ، عن عبدِ اللَّهِ (وإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) قال:
سُعّرَت ألفَ سنةٍ حتِّى ابيضت، ثُمَّ ألفَ سنةٍ حتى احمرت، ثمَّ ألفَ سنةٍ
حتى اسودت، فهي سوداءُ مظلمةٌ.
الحكمُ بنُ ظهيرٍ ضعيفٌ، والصحيحُ روايةُ عاصم عن أبي هريرةَ كما سبق.
وروى الأعمشُ، عن أبي ظبيانَ، عن سلمانَ، قال: النَّارُ سوداءَ مظلمةٌ لا
يُطفأُ جمرُها ولا يضيءُ لهبُها، ثمَّ قرأَ: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) .(2/487)
خرَّجه البيهقي من طريقِ أحمد بنِ عبدِ الجبارِ، عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ
مرفوعًا وقال: رفْعُه ضعيفٌ.
وقالَ أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيع بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةَ، عن أُبيِّ بنِ
كعبٍ: ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً للكافرينَ قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) .
فهو يتقلبُ في خمسٍ من الظلم: كلامُه ظلمةٌ، وعملُه ظلمةٌ، ومدخلُه
ظلمة، ومخرجُه ظلمةٌ، ومسيرُه إلى الظلماتِ إلى النَارِ.
وقال أيضًا أبو جعفرٍ، عن الربيع بنِ أنسٍ: إنَّ اللهَ جعلَ هذه النَّار - يعني
نارَ الدُّنيا - نُورًا وضياءً ومتاعًا لأهلِ الأرضِ، وإنَّ النَارَ الكُبْرى سوداءُ مظلمة مثلُ القيرِ - نعوذُ باللَّهِ منها.
وعن الضحاكِ قالَ: جهنمُ سوداءُ وماؤُها أسودُ وشجرُها أسودُ وأهلُها
سود.
وقد دلَّ على سوادِ أهلِها قولُه تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) .
وقولُه تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الآية.
وقد ثبتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أنَّ مِن عصاةِ الموحدينَ مَنْ يحترقُ في
النارِ حتَّى يصيرَ فحمًا.
* * *
وقدْ وصفَ اللَّهُ الملائكةَ الذينَ على النَّارِ بالغلظِ والشدةِ قالَ اللَّهُ تعالى:
(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) .(2/488)
وروى أبو نُعيمٍ بإسناده عن كعبٍ، قالَ: إنَّ الخازنَ من خُزَّانِ جهنمَ مسيرةُ
ما بينَ مَنْكِبيه سنةٌ؛ وإنًّ معَ كل واحدٍ منهم لعمودٌ له شعبتانِ من حديدٍ.
يدفعُ به الدفعة فيكبُّ به في النارِ سبعمائةَ ألفٍ.
وروى عبدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ أحمدَ بإسنادهِ عن أبي عمرانَ الجونيِّ قالَ: بلغنا
أنَّ الملَكَ مِن خزنةِ جهنمَ ما بين مَنكِبَيه مسيرةُ خريفٍ، فيضربُ الرجلَ من
أهلِ النارِ الضربةَ فيتركُه طحينًا من لدن قرنهِ إلى قدمهِ.
وفي روايةٍ أخرى له قالَ: بلغنا أنَّ خزنةَ النارِ تسعةَ عشرَ ما بينَ مَنكِبي
أحدِهم مسجرة خريفٍ؛ وليسَ في قلوبهِم رحمةٌ إنَّما خُلقُوا للعذابِ.
ورَوى الجُوَزَجانِيُّ بإسناده عن صالح أبي الخليل قالَ: ليلةَ أُسري بالنبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - بَعثَ اللَّهُ إليه نَفرًا مِن الرُّسلِ فتلقَّوه بالفرح والبشرِ. وفي ناحيةِ المسجدِ مصلٍ يصلي لا يلتفتُ إليه؛ فقام إليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما منكُم من أحدٍ إلا قد رأيتُ منه البشرَ والفرحَ غيرَ صاحبِ هذه الزاويةِ" فقالوا: أمَا إنَّه قد فرحَ بك كما فرحْنا. ولكنَّه خازن من خزَّانِ جهنمَ.
ورَوى بكرُ بنُ خنيسٍ، عن عبدِ الملكِ الجسري، عن الحسنِ أنَّ جبريلَ قال
للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لو أن خازنا من خزَّانِ جهنمَ أشرفَ على أهلِ الأرضِ لماتَ أهلُ الأرضِ
مما يرونَ من تشويه خلقهِ " مرسل ضعيف.
* * *(2/489)
سُورَةُ المُلْكِ
قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)
وقال الفضيلُ في قولهِ تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)
قال: أخلصُه وأصوبُه.
وقالَ: إنَّ العملَ إذا كانَ خالصًا، ولم يكنْ صوابًا، لم يقبلْ.
وإذا كانَ صوابًا، ولم يكنْ خالصًا، لم يقبلْ حتَّى يكونَ خالصًا
صوابًا، قالَ: والخالصُ إذا كانَ للَّهِ عزَ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كانَ على السُّنَّةِ.
وقد دلَّ على هذا الذي قاله الفضيلُ قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
وقالَ بعضُ العارفينَ: إنَّما تفاضَلُوا بالإراداتِ، ولم يتفاضَلُوا بالصَّومِ
والصَّلاةِ.
* * *(2/490)
سُورَةُ القَلَمِ
قوله تعالى: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
وفي "الصحيحينِ " عن حارثةَ بنِ وهب، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ألا أخبركم بأهلِ الجنةِ: كلّ ضعيفٍ متضعفٍ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّة، ألا أخبرُكم بأهلِ النَّارِ كلُّ عتلٍّ جواظٍ مستكبرٍ".
و"العتلُّ " قال مجاهد وعكرمةُ: هو القوىُّ؛ وقالَ أبو رزينٍ: هو الصحيحُ.
وقال عطاءُ بن يسارٍ عن وهبٍ الذماريِّ قالَ: تبكى السماءُ والأرضُ من رجلٍ أتمَّ اللَّهُ خلقَه وأرحبَ جوفَه وأعطاه معظمًا من الدُّنيا، ثم يكونُ ظلومًا
غشُومًا للناسِ، فذلك العتل الزنيمُ.
وقال إبراهيمُ النخعيُّ: العتلُّ: الفاجرُ، والزنيمُ: اللئيمُ في أخلاقِ الناسِ.
ورَوى شهرُ بنُ حوشب، عن عبدِ الرحمنِ بنِ غنمٍ، أن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا يدخلُ الجنةَ جواظٌ ولا جعظريٌّ ولا العتلُّ الزنيمُ "
فقال رجل من المسلمين: ما الجواظُ الجعظريُّ، والعتلُ الزنيمُ؟
فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"الجواظُ: الذي جمعَ ومنعَ، وأما الجعظريُّ: فالفظُّ الغليظُ، قالَ اللَّهُ تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) .(2/491)
وأما العتلُ الزنيمُ: فشديدُ الخلقِ رحيبُ الجوفِ مصحح أكولٌ شروبٌ.
واجدٌ للطعامِ، ظلوم للأنامِ.
ورَوى معاويةُ بنُ صالح، عن كثيرٍ بن الحارثِ عن القاسم مولى معاويةَ.
قال: سُئلَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن العتل الزنيم قال:
"هو الفاحشُ اللئيمُ ".
وقال معاويةُ: وحدثني عياضُ بنُ عبدِ اللَّه الفهريّ عن موسى بنِ عقبةَ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك خرَّجه كلَّه ابنُ أبي حاتم.
وأمَّا المستكبرُ فهو الذي يتعاطَى الكبرَ على الناسِ والتعاظمَ عليهم، وقد
قال الله تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) .
* * *
قوله تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
ورُوي عن أبي سنانَ، عن سعيدِ بنِ جبير، عن ابنِ عباسٍ في قولهِ
تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
قال: نزلتْ في صلاةِ الرجل يسمعُ الأذانَ فلا يجيبُ.
ورُوي عن سعيدِ بنِ جبير من قولِهِ.
* * *(2/492)
سُورَةُ الحَاقَّةِ
قوله تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
فالأشقياءُ في البرزخ في عيشٍ ضنكٍ، قال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) .
وقد رُوي عن أبي سعيدٍ الخدري، مرفوعًا وموقوفًا: أن المعيشةَ الضنكَ
عذابُ القبرِ. يضيقُ عليه قبرُهُ حتى تختلفَ أضلاعُه، ويسلَّط عليه تسعةٌ
وتسعونَ تنينًا.
وأمَّا عيشُهم في الآخرة فأضيقُ وأضيقُ فأمَّا من طاب عيشُه بعدَ الموتِ فإنَّ
طيبَ عيشِهِ لا ينقطع بلْ كلَّما جاء تزايدَ طيبُه.
ولهذا سُئِلَ بعضُهم: منْ أنعمُ الناس؟
فقال: أجسام في الترابِ قد أَمِنَت العذابَ فانتظرت الثوابَ فهذا في
البرزخ في عيشٍ طيبٍ.
ورُئي معروف في المنام بعد موتِهِ وهو ينُشد:
موتُ التقي حياة لا نفادَ لها. . . قد ماتَ قوم وهم في الناسِ أحياءُ
وكان إبراهيم بنُ أدهم ينشدُ:
ما أحدٌ أنعم منْ مُفرد. . . في قبرِهِ أعمالُه تؤنسُه
منعَّم الجسم وفي روضةٍ. . . زيَّنها اللَهُ فهي مجلسُه(2/493)
رئي بعضُ الصالحين في المنامِ بعدَ موتِهِ، فقال: نحنُ بحمدِ الله في برزخ
محمودٍ، نفترشُ فيه الريحانَ ونوسدُ فيه السندسَ والإستبرقَ إلى يوم النشور.
رئي بعضُ الموتى في المنامِ فسُئلَ عن حالِ الفُضيل بن عياضٍ، فقال: كُسي
حلَّةً لا تقومُ لها الدنيا بحواشِيها.
فأمَّا عيشُ المتقين في الجنَّة فلا يحتاج أنْ يسألَ عن طيبِهِ ولذتِهِ، ويَكْفِي في
ذلك قولُهُ تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) .
ومعنى راضية: أي: عيشة يحصلُ بها الرِّضى.
وفسَّر ابنُ عباسٍ: هنيئًا: بأنه لا موتَ فيها يُشيرُ إلى أنَّه لم يهنهم العيشُ
إلا بعد الموتِ والخلودِ فيها.
قال يزيدُ الرقاشيُ: أمِنَ أهلُ الجنةِ الموتَ فطابَ لهم العيشُ، وأمنُوا من
الأسقامِ فهنيئًا لهم في جوارِ اللَّه طولُ المقام.
وقال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَعُيُونٍ) .
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) إلى آخرها.
أدنى أهلِ الجنةِ
منزلةً من ينظرُ في ملكِهِ وسُررِه وقصورِه مسيرةَ ألفي عام، يرى أقصَاه كما
يرى أدناه، وأعلاهُم من ينظرُ إلى وجهِ ربِّه بكرةً وعشيا.
وقال طائفة من السلفِ: إن المؤمن له بابٌ في الجنة من داره إلى دارِ
السلامِ، يدخلُ على ربِّه إذا شاء بلا إذنٍ.
قال أبو سليمان الدارانيُّ: وإذا أتاه رسول من ربِّ العزَّةِ بالتحيةِ والقُطفِ
فلا يصل إليه حتى يستأذنَ عليه يقول للحاجبِ: استاذنْ لي على وليِّ اللَّه.
فإني لستُ أصلُ إليه. فيُعلم ذلك الحاجبُ حاجبًا آخر حتى يصلَ إليه فذلك(2/494)
له تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) .
فللهِ ذاك العيشُ بينَ خيامِها. . . وروضاتِها والثغرُ في الروضِ يبسمُ
ولله كَمْ من خِيرةٍ إنْ تبَسَّمتْ. . . أضاءَ لها نور من الفجرِ أعظمُ
ولله واديها الذي هو موعدُ الـ. . . مزيدِ لوفدِ الحبِّ لو كنتَ منهم
بذيالكَ الوادي يهيمُ صبابةً. . . محبٌّ يرى أنَّ الصبابةَ مغنمُ
وللَّهِ أفراح المحبين عندَما. . . يخاطبُهم مولاهُم ويُسلِّمُ
وللَّه أبصار ترى اللَّهَ جهرةً. . . فلا الغيمُ يغشاها ولا هي تسأمُ
فيا نظرة أهدت إلى القلب نظرةَّ. . . أمِنْ بعدِها يسلو المحب المتيمُ
فَروحَك قرِّب إن أردتَ وصالَهم. . . فما غلبتْ نظرة تشري بروحِكَ منهمُ
وأقدِم ولا تقنعْ بعيشٍ منغَّصٍ. . . فما فاز باللَّذاتِ منْ ليس يُقدِمُ
فصُمْ يومَك الأدْنى لعلَّك في غدٍ. . . تفوزُ بعيدِ الفِطْرِ والنَّاسُ صوًمُ
فيا بائعًا هذا ببخسٍ معجَّلٍ. . . كأنكَ لا تدري بلى سوف تعلمُ
فإن كنتَ لا تدري فتلكَ مصيبة. . . وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم
* * *
الصائمون على طبقتين:
إحداهُما: من ترك طعامَه وشرابَهُ وشهوتَه للَّه تعالى، يرجو عنده عوض
ذلك في الجنةِ، فهذا قد تاجَرَ مع اللَّه وعامَلَهُ، واللَّهُ تعالى لا يُضيع أجْرَ من
أحسن عملاً، ولا يخيبُ معه من عامَلَهُ، بل يربحُ عليه أعظمَ الرِّبح، وقال
رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ:
"إنَّك لن تدعَ شيئا اتَّقاءَ اللَّه إلا آتاك اللَّهُ خيزا منه "
خرَّجه الإمامُ أحمد، فهذا الصَّائمُ يُعطى في الجنة ما شاء اللَّه من طعامٍ وشرابٍ(2/495)
ونساءٍ، قال اللَّه تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) . قال مجاهدٌ وغيرُه: نزلَتْ في الصائمين.
قال يعقوبُ بن يوسُف الحنفيّ: بلغنا أن الله تعالى يقولُ لأوليائهِ يوم
القيامة: يا أوليائي طالما نظرْتُ إليكم في الدنيا وقد قلَصَتْ شفاهُكم عن
الأشربة، وغارت أعينُكم وخفقتْ بطونُكم؛ كونوا اليوم في نعيمكم.
وتعاطَوا الكأس فيما بينكم، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) .
وقال الحسنُ: تقولُ الحوراءُ لولي اللَّه وهو متكئ معها على نهر العَسَلِ
تُعاطيه الكأسَ: إنَّ الله نظرَ إليك في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بين الطرفين، وأنت
في ظمأِ هاجرةٍ من جهدِ العطشِ، فباهَى بك الملائكةَ، وقال: انظروا إلى
عبدِي ترَكَ زوجتَه وشهوتَه ولذَّته وطعامَه وشرابَه من أجلي، رغبةً فيما
عندي، اشْهَدُوا أنَى قد غفرتُ لَهُ؛ فغفر لك يومئذٍ وزوجنيكَ.
وفي "الصحيحينِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن في الجنة بابا يقال له: الريَّان، يدخل منه الصائمون، لا يدخلُ منه غيرُهُم "
وفي روايةٍ: (فإذا دخلوا أغْلِق ".
وفي رواية: "من دخلَ منه شرِبَ، ومن شرِبَ لم يظمأ أبدًا ".
وفي حديثِ عبد الرحمنَّ ابن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في منامِهِ الطويل، قال:
"ورأيتُ رجلاً من أٌمَّتي يَلهَثُ عطشًا، كلَّما ورد حوْضا مُنِعَ منه، فجاءَه صيامُ رمضان، فسقاه وأرواه "
خرَّجه الطبراني وغيرُهُ.
وروى ابن أبي الدنيا بإسنادٍ فيه ضعف، عن أنسٍ مرفوعًا:(2/496)
"الصَّائمون يُنفَحُ من أفواهِهم ريحُ المسْكِ، ويوضَعُ لهم مائدة تحتَ العرشِ، يأكلونَ منها والناسُ في الحسابِ ".
وعن أنسٍ موقوفًا: "إنَّ للَّه مائدةً لم ترَ مثلَها عينٌ، ولم تسمعْ أذُنٌ، ولا
خطرَ على قلبِ بشرٍ، لا يقعدُ عليها إلا الصَّائمون ".
وعن بعضِ السلفِ، قال: بلغنا أنه يوضَعُ للصُّوَّامِ مائدةٌ يأكلون عليها
والناسُ في الحسابِ، فيقولونَ: يا ربِّ، نحن نحاسبُ وهُم يأكُلون؟
فيقال: إنهم طالما صامُوا وأفطرْتُم، وقامُوا ونمتم.
رأى بعضُهم بشرَ بنِ الحارثِ في المنامِ وبين يديه مائدةٌ وهو يأكل، ويقال
له: كُلْ يا من لم يأكُلْ، واشرَبْ يا من لم يشرَبْ.
كان بعضُ الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطعَ صوتُه، فماتَ فَرُئي
بعضُ أصحابه الصالحين في المنام فُسئِلَ عن حالِهِ، فضحِكَ وأنشد.
قد كُسي حُلَّةَ البهاءِ وطافَتْ. . . بأباريقَ حولَهُ الخُدَّامُ
ثم حُلِّي وقِيلَ يا قارئ ارْقى. . . فلَعَمْري لقد براك الصِّيام
* * *(2/497)
سُورَةُ الجِنِّ
قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
[قالَ البخاريُّ] : حدثنا مُسدَّدٌ: ثنا أبو عوانةَ، عنْ أيي بِشْرٍ - هو: جعفرُ ابنُ أبي وحْشِيَّةَ - عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: انطلقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في طائفةٍ من أصْحَابِه، عامدينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وقدْ حِيلَ بيْنَ الشياطينِ وبيْنَ خبرِ السماءِ، وأُرْسلتْ عليهم الشُّهُبُ، فرجعَتِ الشياطينُ إلى قومِهِم، فقالوا: ما لكُمْ؟
فقالُوا: حِيلَ بيْنَنا وبيْنَ خبرِ السماء، وأُرْسلتْ عليْنا
الشُّهُبُ، قالُوا: ما حالَ بيْنكُم وبينَ خبرِ السماءِ إلا شيءٌ حدَثَ، فاضربُوا
مشارقَ الأرضِ ومغارِبَهَا، فانظروا ما هذا الذي حالَ بينكُمْ وبيْنَ خبرِ السماءِ، فانصرفَ الذين توجَّهُوا نحوَ تِهامَةَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ بنخْلَةَ - عامدينَ إلى سُوقِ عُكَاظٍ، وهو يُصلِّي بأصْحَابِهِ صلاةَ الفجرِ، فلمَّا سمِعُوا القرَان استمعُوا له، فقالوا: هذا - واللَّهِ - الذي حالَ بينكم وبينَ خبرِ السماءِ، فهنالكَ حينَ رَجَعُوا إلى قومِهِمْ، فقالُوا: يا قوْمَنا إنا سمعْنا قرآنا عجبًا، يهْدِي إلى الرُّشدِ فآمنّا به، ولن نُشْرِكَ بربّنا أحدًا، فأنزل اللَّهُ على نبيِّه: (قُلْ أوحِيَ إِلَيَّ)
وإنَّما أوحي إليه قولُ الجنِّ.
هذه القصةُ كانت في أول البعثةِ.(2/498)
وهدا الحديثُ ممَّا أرسله ابنُ عباسٍ، ولم يسمِّ من حدَّثه به من الصحابة.
ويحتملُ أنه سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن نفسِهِ.
واللَّهُ أعلم.
وسوقُ عكَاظ نحو نخلة، كان يجتمعُ فيه العربُ، ولهم فيه سوقٌ، فكان
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ إليهم، فيدعُوهم إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد كانتِ الشهبُ يُرمَى بها في الجاهلية، وإنَّما كثرتْ عندما بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقد قالَ السُّديُّ وغيرُه: إنَّ السماءَ لم تحرسْ إلا حيث كان في الأرضِ نبيٌّ
أو دينٌ للَّه ظاهر.
والمقصودُ من هذا الحديثِ هاهنا: أن الشياطينَ لما مروا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلِّي بأصحابه صلاةَ الصبح، وقفُوا واستمعُوا القرآنَ. وهذا يدلُّ على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهرُ بالقراءةِ في صلاةِ الصبح، فلمَّا سمعُوا عرفوا أنَه هو الذي حال بينهم وبين خبرِ السماءِ.
وظاهرُ هذا السياقِ: يقتضي أن الشياطينَ آمنُوا بالقرآنِ، وكذا قالَ السُّديُّ
وغيرُه.
وقد اختُلِفُ في الجنِّ والشياطينِ: هل هم جنسٌ واحدٌ، أو لا؟
فقالت طائفةٌ: الجن كلُّهم ولدُ إبليسَ، كما أن الإنسَ كلَّهم ولدُ آدمَ.
رُوي هذا عن ابن عباس من وجهٍ فيه نظرٌ. وأنّهم لا يدخلون الجنةَ.
ورُوي - أيضًا - عن الحسنِ، وأنَّه قالَ: مؤمنُهم وفيٌ للَّه وله الثوابُ
ومشركُهُم شيطانٌ له العقابُ.
وقالت طائفة: بلِ الشياطينُ ولدُ إبليسَ، وهم كفار ولا يموتون إلا معَ(2/499)
إبليسَ، والجنُّ ولد الجانِّ، وليسوا شياطينَ، وهم يموتون، وفيهم المؤمنُ
والكافرُ.
رُوي هذا عن ابن عباسٍ بإسنادٍ فيه نظرٌ - أيضًا.
وقولُه: "وإنَّما أوحي إليه قولُ الجنّ " يشيرُ ابنُ عباس إلى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ الجنَّ، ولا قرأ عليهم وإنما أُوحي إليه استماعُهم القرآنَ منه وإيمانهم به.
وقد رُويَ ذلك صريحًا عنه، أنه قال في أولِ هذا الحديثِ: ما قرأ
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنِّ ولا رآهم - ثم ذكر هذا الحديث.
* * *
قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
[قال البخاريّ] : "باب هل يُقَالُ: مَسْجِدُ بني فُلانٍ ":
ابتدأ البخاريُّ - رحمه اللَّهُ - من هنا في ذكرِ المساجدِ وأحكامِها، فأولُ ما
ذكرهُ من ذلك: أنه يجوزُ نسبةُ المساجدِ إلى القبائلِ، لعمارِتِهم إيَّاها، أو
مجاورتِهِم لها.
وقد كرهَ ذلك بعضُ المتقدمين، وتعلق بقوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) .
والصحيحُ: أن الآيةَ لم يُرَدْ بها ذلك، وأنَّها نزلتْ في النهي عن أنْ يُشرك
باللَّه في المساجدِ في عبادتِهِ غيره، كما يفعلُ أهلُ الكتابِ في كنائسِهِم
وبيعِهم.(2/500)
وقيلَ: إن المرادَ بالمساجدِ الأرضَ كلَّها، فإنها لهذه الأمة مساجدُ، وهي
كلُّها للَّه، فنهى اللَّهُ أن يُسجدَ عليها لغير.
وقيلَ: إن المرادَ بالمساجدِ أعضاء السجودِ نفسُهَا، وهي للَّه، فإنه هوَ خلقها
وجمعَها وألَّفها، فَمِن شُكْر على هذه النعمةِ أن لا يسجدَ بها لغير.
وقد قيلَ: إد قوله تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) .
يدلُّ - أيضًا - على أنَّه لا يجوزُ إضافةُ المساجدِ إلى مخلوق إضافةَ ملكٍ
واختصاصٍ.
وأخذ بعضُ أصحابنا من ذلك كالوزير ابنِ هبيرةَ: أنه لا يجوزُ نسبةُ شيءٍ
من المساجدِ إلى بعضِ طوائفِ المسلمينَ للاختصاصِ بها، فيقالُ: هذه المساجدُ
للطائفةِ الفلانيةِ، وهذه للطائفةِ الأخرى، فإنَّها مشتركةٌ بينَ المسلمينَ عمومًا.
وذكرَ بعضُ المتأخرينَ من أصحابِنا في صحةِ اشتراطِ ذلك في وقفِهَا
وجهين.
وأما إضافةُ المسجدِ إلى ما يُعرِّفه به فليسَ بداخلٍ في ذلك، وقد كانَ النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - يضيف مسجدَهُ إلى نفسِهِ، فيقولُ: "مسجدي هذا" ويضيفُ مسجدَ قُباء إليه، ويضيفُ مسجدَ بيتِ المقدسِ إلى إيلياءَ، وكلُّ هذه إضافاتٌ للمساجدِ إلى غيرِ اللَّه لتعريفِ أسمائها، وهذا غيرُ داخلٍ في النهي. واللَّه أعلم.
* * *(2/501)
سُورَةُ المُزَّمِّلِ
قوله تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
قال اللَّه تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) .
وقال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) .
روى الإمامُ أحمدُ بإسنادِهِ عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ في قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال: شوكٌ يأخذُ بالحلقِ لا يدخلُ ولا يخرج.
ورَوى عليٌّ بنُ أبي طلحة عن ابنِ عباسٍ في قوله: (مِن ضَرِيعٍ)
قال: شجرٌ في جهنمَ.
وقال مجاهدٌ: الضريعُ: الشبرقُ اليابسُ.
ورَوى أيضًا عن عكرمة وقتادةَ، ورواهُ العوفيُّ عن ابنِ عباس: الشبرقُ: نبتٌ ذو شوك لاطئٍ بالأرضِ، فإذا هاجَ سمِّيَ ضريعًا.
وقال قتادة: من أضرع الطعامِ وأبشعِه.
وعن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله: (مِن ضَرِيع) قال: من حجارةٍ، وعنه قال:
الزقومُ.
وعن أبي الحواريِّ قال: الضريع: السَّلى شوكُ النخلِ، وكيف يسمنُ
شوكُ النخلِ.
وخرَّج الترمذيُّ من حديث أبي الدرداءِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يُلقَى على أهل(2/502)
النار الجوعُ، فيعدلُ ما هم فيه من العذابِ فيستغيثونَ، فيُغاثونَ بطعامٍ من ضريع لا يسمنُ ولا يُغني من جوع، فيستغيثونَ بالطعام فيغاثونَ بطعامٍ ذي غصه، فيذكرون أنهم كانُوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشرابِ، فيستغيثون بالشرابِ، فيدفعُ إليهم الحميمُ كلاليبِ الحديدِ، فإذا دنتْ من وجوهِهِم شوتْ وجوهَهُم، فإذا وصلتْ بطونَهُم قطعتْ ما في بطونِهِم.. "
وذكر بقية الحديثِ.
وقد رُوي الحديثُ موقوفًا على أبي الدرداءِ.
وقيلَ: وقفهُ أشبهُ.
وقال سبحانه وتعالى: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) .
رَوى عليٌّ بنُ أبي طلحة، عن ابن عباسٍ من غسلين، قال: هو صديدُ أهل النارِ، وقال شبيبُ بنُ بشرٍ عن عكرمةَ عن ابنِ عباس: الغسلينُ: الدمُ والماءُ يسيلُ من لحومِهِم وهو طعامُهُم.
وعن مقاتلٍ، قال: إذا سالَ القيحُ والدمُ بادرُوا إلى أكلِهِ قبلَ أن تأكله
النارُ.
وقال أبو جعفرٍ عن الربيع بنِ أنسٍ: الغسلينُ: شجرةٌ في جهنَّم، وعن
الضحاك مثلُه.
ورَوى خصيف عن مجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: ما أدري ما الغسلينُ.
ولكنِّي أظنُّه الزقومُ.
وقال أبو هلال عن قتادةَ: هو طعامٌ من طعامِ جهنَّم من شرِّ طعامِهِم.
وقال يحيى بنُ سلامٍ: هو غسالةُ أجوافهِم.
قال ابنُ قتيبةَ: هو فِعلين من غسلتُ، كأنَّه الغسالةُ.
قال شريحُ بنُ عبيدٍ، قال كعب: يقولُ لو دلِّي من غسلين دلو واحدٌ في(2/503)
مطلع الشمسِ لغلت منه جماجمُ قومٍ في مغربِها.
خرَّجه أبو نُعيمٍ.
وقد رُوي أن بعضَ أهلِ النارِ يأكلُ لحمه، وسنذكرُ الحديثَ في ذلك فيما
بعد إن شاء اللَّه.
وقال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) .
وقد روي في حديث: "إن أكلةَ الربا يبعثونَ تتأججُ أفواهُهُم نارًا"
ثم تلا هذه الآية.
خرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحه " من
حديثِ أبي برزةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
* * *(2/504)
سُورَةُ المُدَّثِّرِ
قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
قال مجاهد والشَّعْبيُّ وقتادةُ والضحاكُ والنخعيُّ والزُّهريُّ وغيرُهم - في
قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) :
إن المعنى: طهِّرْ نفسَك من الذنوب.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: وقلبَك ونيَّتَك فطهِّرْ.
وقريبا منه: قولُ مَنْ قال: وعملَك فأصلِحْ.
رُوي عن مجاهدٍ وأبي رَوْقٍ والضحاكِ.
وعن الحسنِ والقرظيِّ، قالا: خُلُقَك حسِّنْه.
فكنَّى بالثيابِ عن الأعمالِ، وهي الدِّينُ والتقوى والإيمانُ والإسلامُ
وتطهيرُه: إصلاحُه وتخليصُه من المفسداتِ له، وبذلك تحصلُ طهارةُ النفسِ
والقلبِ والنيةِ.
وبه يحصلُ حسنُ الخُلُقِ، لأنَّ الدِّينَ هو الطاعاتُ التي تصيرُ عادةً ودَيْدنًا
وخُلقًا، قالَ تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) .
وفسَّرهُ ابنُ عباسٍ بالدِّينِ.
* * *(2/505)
قوله تعالى: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته ومالِهِ أبو بكرٍ".
قال الخطابيُّ: معنى قوله: "أمَن"، أي: أبْذَل لنفسه وأعْطَى لماله.
والمنُّ: العطاءُ من غير استثابة، ومنه قوله تعالى: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ) .
وقوله: (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) أي: لا تُعْطِ لتأخذ أكثر مما
أعْطَيتَ، ولم يرد به المِنَّة؛ فإنها تُفسدُ الصنيعة، ولا مِنَّةَ لأحدٍ على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بل له المِنَّةُ على جميع الأُمَّةِ.
* * *
قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
وروى دراجٌ عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال:
"جبلٌ من نارٍ يكلفُ أن يصعدَهُ، فإذا وضَعَ يدَهُ عليه ذابتْ، وإذا رفَعَها عادتْ، وإذا وَضعَ رِجلَه عليه ذابتْ، فإذا رَفَعها عادتْ، يصعدُ سبعينَ خرِيفًا، ثم هَوى مثلَها كذلك "
وهذا الحديثُ خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه بمعناه، وخرَّجه الترمذيُّ مختصرًا ولفظُهُ: "الصَّعود جبلٌ من نارٍ
يصعدُ فيه الكافرُ سبعينَ خرِيفًا وبهوِي فيه كذلك أبَدًا".
وقال: حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ مرفوعًا إلا من حديثِ ابن لهيعةَ عن درَّاج، ولكنْ رواه أيضًا عمرُو بنُ الحارثِ عن درَّاج به، خرَّجه من طريقه الحاكمُ، وقال: صحيحُ الإسنادِ.(2/506)
ورَوى هذا الحديثَ أيضًا شريكٌ عن عمارٍ الدهنى عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ
الخدريِّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
خرَّجه من طريقِهِ البزارُ، وقال: تفردَ برفعه شريكٌ.
ووقفه سفيانُ على عمار - يعني أنه وقفَهُ على أبي سعيد - ولم يرفعْهُ، ورواه
أيضًا عمرُو بنُ قيسٍ الملائي عن عطيةَ عن أبي سعيد الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ورَوى سماك عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) .
قالَ: جبل في النارِ.
ورويناهُ من طريقٍ فيه ضعفٌ عن الضحاكِ عن ابنِ عباسٍ، قال: هو جبل من النارِ زلق كلما صعدَهُ الفاجرُ زلقَ فهوى في النارِ.
وعن ابن السائبِ قال: هو جبل من صخرةٍ ملساءَ في النارِ يكلفُ أن
يصعدها، حتى إذا بلغ أعلاها رُدَّ إلى أسفلِها، ثم يكلفُ أيضًا أن يصعدَها
فذلك دأبُهُ أبدًا، ويجذبُ من أمامِهِ بسلاسلِ الحديدِ ويضربُ من خلفِه بمقامع
الحديدِ فيصعدُهَا في أربعين سنةٍ.
وقال أيوبُ بنُ بشير عن شفي بن ماتع قال: في جهنَّم جبل يُدْعَى صعودًا
يطلعُ فيه الكافرُ أربعينَ خريفًا قبل أن يرقاهُ.
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
وذكر صاحب سيرة الوزير قال: وسمعته يقول في قوله تعالى؛ (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، قال: العرب لا تعرفُ "ذا" ولا "هذا" إلا في الإشارةِ
إلى الحاضرِ. وإنما أشارَ هذا القائلُ إلى هذا المسموع.
فمن قال: إنَّ المسموعَ(2/507)
عبارةٌ عن القديم، فقد قال: هذا قول البشر.
قال مصنفُ سيرته: كثيرًا ما سمعتُه يقول: ليس مذهبُ أحمد إلا الاتباع
فقط.
فما قال السلفُ قاله: وما سكتُوا عنه سكتَ عنه؛ فإنَّه كان يكثُر أن
يقالَ: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق لأنه لم يقل.
وكان يقولُ في آيات الصفات: تمرّ كما جاءت.
قال: وسمعته يقول: تفكرتُ في أخبار الصفاتِ، فرأيتُ الصحابةَ
والتابعين سكتُوا عن تفسيرها، مع قوةِ علمهم، فنظرتُ السببَ في سكوتِهم، فإذا هو قوةُ الهيبة للموصوف، ولأنَّ تفسيرَها لا يتأتَّى إلا بضربِ الأمثالِ
للَّه، وقد قال عز وجل: (فَلا تَضربُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) قال: وكان يقول:
لا يفسرُ على الحقيقة ولا على المجازِ؛ لأن حملها على الحقيقة تشبيهٌ.
وعلى المجاز بدعةٌ.
* * *
قوله تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)
قال اللَّه تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) .
قال آدمُ بنُ أبي إياسٍ: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، حدثنا الأزرقُ بنُ قيسٍ عن
رجل من بني تميم: قال: كنَّا عندَ أبي العوام فقرأ هذه الآية:(2/508)
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) فقال: ما تقولون، تسعةَ عشرَ ملكًا؟
قلنا: بل تسعةَ عشرَ ألفًا، فقال: ومن أينَ علمتَ ذلك؟
قال: قلتُ لأنَّ اللَّه تعالى يقولُ: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ
فِتْنَةً لِّلَّذينَ كَفَروا) قال أبو العوام: صدقتَ وبيدِ كلِّ واحدٍ منهم مرزبةٌ من
حديدٍ لها شعبتانِ، فيضربُ بها الضربةَ يهوي بها سبعينَ ألفًا، بين منكبي كلِّ
ملكٍ منهم مسيرةَ كذا وكذا، فعلى قولِ أبي العوامِ ومن وافقه، الفتنةُ
للكفارِ، إنما جاء من ذكرِ العددِ الموهم للقلةِ حيثُ لم يذكرِ المميزَ له.
ويشبه هذا ما رَوى سعيدُ بن بشيرٍ عن قتادةَ في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ جنُودَ رَبِّكَ
إِلاَّ هُوَ) أي: من كثرتِهِم.
وكذلك ما رَوى إبراهيمُ بنُ الحكم بنِ أبانٍ وفيه ضعفٌ عن أبيه، عن
عكرمةَ قالَ: إنَّ أولَ من وصلَ من أهلِ النارِ إلى النارِ وجدُوا على البابِ أربع مائة ألفٍ من خزنةِ جهنَّم مسودةٌ وجوهُهُم كالحةٌ أنيابُهم، قد نزعَ اللَّه الرحمة من قلوبِهِم، ليسَ في قلبِ واحدٍ منهم مثقالُ ذرة من الرحمة لو طارَ الطائرُ من منكبِ أحدِهِم لطارَ شهرينِ قبلَ أن يبلغَ المنكبَ الآخرَ، ثم يجدونَ على البابِ التسعةَ عشرَ، عرضُ صدرِ أحدِهِم سبعونَ خرِيفًا، ثم يهوونَ من بابٍ إلى بابٍ خمسمائةَ سنةٍ حتى يأتُوا البابَ؛ ثم يجدونَ على كلِّ بابٍ منها من
الخزنةِ مثلَ ما وجدُوا على البابِ الأولِ، حتى ينتهُوا إلى آخرِها.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
وهذا يدلُّ على أنَّ على كلِّ بابٍ من أبوابِ جهنَّم تسعةَ عشرَ خزانًا هُمْ
رؤساءُ الخزنةِ، تحتَ يدِ كلِّ واحدٍ منهم أربعمائة ألفٍ.(2/509)
والمشهورُ بين السلفِ والخلفِ أنَّ الفتنةَ إنما جاءتْ من حيثُ ذكرِ عددِ
الملائكةِ الذين اغترَّ الكفارُ بقلَّتِهِم، وظنُوا أنهم يمكنُهُم مدافعتهُم وممانعتُهُم.
ولم يعلمُوا أن كلَّ واحدٍ من الملائكةَ لا يمكنُ البشرُ كلُّهم مقاومتُهُ، ولهذا قال
اللَّه تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) .
قال السُّديُّ: إن رجلاً من قريشٍ يقالُ له أبو الأشدينِ قال: يا معشرَ قريشٍ
لا يهولنَّكم التسعةَ عشرَ أنا أدفعُ عنكُم بمنكبي الأيمنِ عشرةً من الملائكة.
وبمنكبي الأيسر التسعة الباقية ثم تمرونَ إلى الجنةِ - يقولُه مستهزئًا - فقال الَلَّه
عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) .
وقال قتادة: ذُكرَ لنا أنَّ أبا جهلٍ حينَ نزلتْ هذه الآيةُ قال: يا معشرَ قريش
أما يستطيعُ كلُّ عشرةٍ منكم أن يأخذوا واحدًا من خزنة النارِ وأنتم الدُّهم.
وصاحبُكم هذا يزعُمُ أنهم تسعة عشر.
وقال قتادةُ: في التوراةِ والإنجيلِ: إنَّ خزنةَ النارِ تسعة عشر.
ورَوى حريثٌ عن الشعبيِّ عن البراءِ في قولِ الله عزَّ وجلَّ: (عَلَيهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ) قال: إن رهطَا من يهود سألُوا رجلاً من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن خزنةِ جهنم، فقال: اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ.
فجاء رجل فأخبرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأنزلَ اللَّه عليه
ساعةَ إذن (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) فأخبر أصحابَهُ، وقال: ادعُهُم، فجاءوا فسألوه عن خزنة جهنم، فأهْوَى بأصابع كفيه مرتين وأمسكَ الإبهامَ في الثانيةِ،(2/510)
خرَّجه ابن أبي حاتمٍ، وحريث هو ابنُ أبي مطر ضعيف.
وخرَّجه الترمذيُّ من طريقِ مجالدٍ عن الشعبيِّ، عن جابر قال: قال
ناس من اليهودِ لناسٍ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
هل يعلمُ نبيكم عددَ خزنة جهنَّم؟
قالُوا: لا ندري حتى نسأله، فجاء رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا محمدُ غُلِبَ أصحابُك اليومَ، قال: "وما غُلِبُوا؟ "
قال: سألتْهُم يهودُ: هل يعلم نبيُّكم عددَ خزنةِ جهنَّم؟
قال: "فما قالوا؟ "
قالوا: لا ندري حتى نسأل نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: "يغلبُ قومٌ سئِلوا عمَّا لا يعلمون، فقالُوا: لا نعلمُ حتى نسأل نبيَّنا.
لكنَّهم قد سألُوا نبيَّهم، فقالُوا: أرِنَا اللَّهَ جهرة، علي بأعداءِ الله "
فلما جاءوا قالُوا: يا أبا القاسم كم عددُ خزنةِ جهنم؟
قال: "هكذا أو هكذا" في مرةٍ عشرة وفي مرةٍ
تسعة، قالُوا: ثعم، وهذا أصحُّ من حديثِ حريثٍ المتقدمِ، قاله البيهقي
وغيرُهُ.
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قال:
خرجَ علينا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يومًا كالمودعَ، فقالَ:
"أنا محمدٌ النبيُّ الأمّيُ " ثلاثًا، ولا نبيَّ بعدي، أوتيتُ فواتحَ الكَلم وخواتمه وجوامعَهُ، وعلمتُ كم خزنةُ النار وحملةُ العرشِ " وذكر بقيةَ الحديث.
* * *
قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) .(2/511)
وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) .
وقال تعالى: (وَاتَقُوا النَّارَ الَّتِي أعِدَّتْ لِلْكَافرِينَ) .
وقال تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) .
وقال تعالى: (لَهُم مِن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَقُونِ) .
وقال تعالى: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) .
قال الحسنُ في قوله تعالى: (نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ) قال: "واللَّهِ ما أنذرَ العبادَ
بشيءٍ قط أدْهَى منها"
خرَّجَه ابنُ أبي حاتم.
وقال قتادةُ في قولِهِ تعالى: (إِنها لإِحْدَى الْكُبَرِ) يعْني النار.
وروى سماكُ بنُ حربٍ، قال: سمعتُ النعمانَ بنَ بشيرِ يخطبُ، يقولُ:
سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"أنذرتُكم النارَ أنذرتُكُمُ النارَ"
حتى لو أنَّ رجلاً كان بالسوقِ لسمعَهُ من مقامِي هذا.
حتَّى وقعتْ خميصةٌ كانتْ على عاتقِهِ عند رجليه.
خرَّجَه الإمامُ أحمد، وفي روايةِ له أيضًا عن النعمان بن بشيرٍ، قالَ:
قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
" أنذرتُكُمُ النارَ، أنذرتُكُمُ النارَ" حتَى لو كانَ
رجلٌ في أقْصى السوقِ لسمعَهُ وسمعَ أهلُ السوقِ صوتَهُ، وهو على المنبرِ.
وفي رواية له عن سِماكٍ، قال: سمعتُ النعمانَ يخطبُ وعليه خميصةٌ.
فقال: لقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"أنذرتُكُمُ النارَ،أنذرتُكُمُ النارَ" فلو أنَّ(2/512)
رجلاً بموضع كذا وكذا، سمعَ صوتَهُ.
وعن عديِّ بنِ حاتمٍ قال: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"اتَّقوا النارَ" قال: وأشاحَ، ثم قال: "اتَقوا النارَ"، ثم أعرَض وأشاحَ ثلاثاً حتَّى ظننَّا أنه ينظرُ إليها، ثم قالَ: "اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجدْ فبكلمةٍ طيبةٍ"
خرَّجاه في "الصحيحينِ ".
وخرَّج البيهقيُّ بإسنادٍ فيه جهالةٌ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر المسلمينَ ارغبُوا فيما رغبكم اللَّه فيه، واحذرُوا، وخافُوا ما خوَّفَكُمُ اللَّهُ به من عذابِهِ وعقابِهِ، ومن جهنَّم، فإنَّها لو كانتْ قطرةٌ من الجنةِ معكُم في دنياكم التي أنتم فيها حلَّتها لكُم، ولو كانتْ قطرةٌ من النارِ معكُم في دنياكم التي أنتُم فيها خبثتْها عليكُم ".
وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَما مثلي ومثلُ أُمَّتي كمثلِ رجلٍ استوقدَ نارًا، فجعلتِ الدوابُّ والفراشُ يقعْنَ فيها، فأنا آخذُ بِحَجُزِكُم عن النارِ وأنتُم تقتحمون فيها"
وفي روايةٍ لمسلم: "مثلي كمثلِ رجل استوقدَ نارًا، فلمَّا أضاءتْ ما حولَها جعلَ الفراشُ وهذه الدوابُّ التي في النارِ يقعنَ فيها.
وجعلَ يحجزُهُن ويغلبْنَهُ فيقتحمنَ فيها"
قال: "فذلكم مَثَلي ومثلُكُم أنا آخذ بِحجُزِكُم عن النارِ، هلمَّ عن النارِ، هلمَّ عن النارِ، فتغلبُوني وتقتحمون فيها".
وفي رواية للإمامِ أحمد:
"مَثَلي ومثلُكُم أيتها الأمَّةُ كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا بليلٍ.
فأقبلتْ إليها هذه الفراشُ والذبابُ التي تغشى النارَ، فجعل يذبُّها ويغلبْنَهُ إلا تقحُّمًا في(2/513)
النارِ، وأنا آخذ بحجُزِكُم أدعوكُم إلى الجنةِ وتغلبونِي إلا تقحُّمًا في النارِ".
وخرَّج الإمامُ أحمد أيضًا من حديثِ ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَّ اللَّه لم يحرمْ حرمةً إلا وقدْ علمَ أنَّه سيطلعها منكم مطلعٌ، ألا وإنّي آخذُ بحجُزِكُم أن تهافَتُوا في النارِ، كتهافُتِ الفراشِ والذبابِ ".
وخرَّج البزارُ والطبراني من حديثِ ابنِ عباسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أنا آخذ بحجُزِكُم فاتقوا النارَ، اتقوا النارَ، اتقوا الحدودَ، فإذا مِت تركْتُكُم، وأنا فرطُكُم على الحوضِ، فمن ورَدَ فقد أفْلَحَ، فيؤْتَى بأقوامٍ ويؤخذُ بهم ذاتَ الشمالِ، فأقولُ: ربِّ أمتي، فيقولُ: إنَّهم لم يزالوا بعدَكَ يرتدونَ على أعقابِهِم "
وفي روايةٍ للبزارِ، قالَ:
"وأنا آخذ بحجُزِكُم أقولُ: إيَّاكُم وجهنم، إيَّاكُم والحدودَ، إيَّاكُم وجهنم، إيَّاكُم والحدودَ، إيَّاكُم وجهنمَ، إيَّاكم والحدودَ"
وذكر بقية الحديثِ.
وفي "صحيح مسلم " عن أبي هريرة قالَ: لما نزلتْ هذه الآية: (وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) ، دعا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فاجتمَعُوا، فعمَّ وخصَّ، فقال: "يا بني كعبِ بنِ لؤيٍّ، أنقذوا أنفسكم من النارِ، يا بني مُرَةَ بنِ كعبٍ، أنقذُوا أنفسَكُم من النارِ، يا بني عبدَ شمسٍ، أنقذُوا أنفسَكم من النارِ، يا بني عبدِ مناف، أنقذُوا أنفسكم من النارِ، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النارِ، يا فاطمةُ بنتُ محمد، أنقدي نفسك من النارِ، فإنِّي لا أملك
لكم من اللَّه شيئا".
وخرَّج الطبرانيُّ وغيرُه من طريقِ يعلى بن الأشدقِ عن كليبِ بنِ حزنٍ،(2/514)
قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"اطلبُوا الجنةَ جهدَكُم واهربُوا من النارِ جهدكم، فإن الجنة لا ينامُ طالبها، وإنَّ النارَ لا ينامُ هاربها، وإن الآخرةَ اليوم محفوفة بالمكارِهِ، وإن الدنيا محفوفة باللذاتِ والشهواتِ، فلا تلهينَّكُم عن الآخرةِ"
ويُروى هذا الحديثُ أيضًا عن يعلى بن الأشدقِ عن عبدِ اللَّهِ بن جرادٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأحاديثُ يعلى بنِ الأشدقِ باطلة منكرةٌ.
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ يحيى بن عبدِ اللَّه عن أبيه، عن أبي
هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ما رأيتُ مثلَ النارِ نامَ هاربُها، ولا مثلَ الجنةِ نامَ طالبُها"
ويحيى هذا ضعفُوه، وخرَّجه ابنُ مردويه من وجهٍ آخرَ أجودَ من هذا
إلى أبي هريرة، وخرَّج الطبرانيُّ نحوَه بإسنادٍ فيه نظر عن أنس عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - وخرَّجه ابنُ عديٍّ بإسنادٍ ضعيفٍ عن عمرَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقالَ يوسفُ بنُ عطيةَ عن المعلى بنِ زيادٍ: كانَ هرمُ بنُ حيانَ يخرجُ في
بعضِ الليالي وينادِي بأعلَى صوتِهِ: عجبتُ من الجنةِ كيفَ نامَ طالبُها.
وعجبتُ منَ النارِ كيف نامَ هاربُها، ثم يقول:
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ) .
وقال أبو الجوزاءِ: لو وليتُ من أمرِ الناس شيئًا اتخذتُ منارًا على الطريقِ
وأقمتُ عليها رجالاً ينادون في الناس: النارَ النارَ.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ في كتابِ " الزهدِ ".
وخرَّج ابنُه عبدُ اللَّه في هذا الكتابِ أيضًا بإسنادِهِ عن مالكِ بنِ دينارٍ.
قالَ: لو وجدتُ أعوانًا لناديتُ في منارِ البصرةِ بالديلِ: النارَ النارَ، ثم قالَ:(2/515)
لو وجدتُ أعوانًا لناديتُ في منارِ البصرةِ بالليلِ: النارَ النارَ، ثم قال: لو
وجدتُ أعوانًا لفرقتهم في منارِ الدنيا: يا أيها الناس النارَ النارَ.
* * *(2/516)
سُورَةُ القِيَامَةِ
قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
[قال البخاريُّ] : حدثنا الحُميديُّ: ثنا مروانُ بن مُعاويةَ: ثنا إسماعيلُ عن
قيْسٍ، عن جريرِ بنِ عبدِ اللَّه، قال: كُنَّا عندَ النبى - صلى الله عليه وسلم - فنظرَ إلى القمرِ ليْلَةَ البدْرِ، فقالَ: "إنَّكم سترونَ ربَّكُم كما تروْنَ هذا القمَرَ، لا تُضامُون في رُؤيَتِه، فإن استطعْتُم أن لا تُغْلبُوا على صلاة قبْلَ طُلُوع الشمسِ وقبلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا"
ثمَّ قرأ: (وَسَبِحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُروبِ) ".
قال إسْماعيلُ: افْعلُوا لا تفُوتنَّكُمْ.
هذا الحديثُ نصٌّ في ثبوتِ رؤيةِ المؤمنينَ لربهم في الآخرةِ، كما دلَّ على
ذلك قولهُ تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
ومفهومُ قولِهِ في حق الكفارِ: (كَلاَّ إِنَّهمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجوبُونَ) .
قال الشافعيُّ وغيرُهُ: لما حَجَب أعداءَهُ في السخطِ دلَّ على أنَّ أولياءَه
يرونَهُ في الرضا.
والأحاديثُ في ذلكَ كثيرة جدًّا، وقد ذَكَرَ البخاريُّ بعضَها في أواخرِ
"الصحيح " في "كتاب التوحيد" وقد أجمعَ على ذلكَ السَّلفُ الصالحُ مِنَ
الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهُم بإحسانٍ من الأئمةِ وأتباعِهِم.(2/517)
وإنَّما خالفَ فيه طوائفُ أهلِ البدع، من الجهميةِ والمعتزلةِ ونحوِهِم ممَّن
يرد النصوصَ الصحيحةَ لخيالاتٍ فاسدةٍ وشبهاتٍ باطلةٍ، يخيلُهَا لهمُ
الشيطانُ، فيُسرعونَ إلى قَبولِهَا منه، ويوهمُهُم أنَّ هذه النصوصَ الصحيحةَ
تستلزمُ باطلاً، ويسميه تشْبيهًا أو تجْسيمًا، فينفرونَ منه، كمَا خيَّل إلى
المشركينَ قبلَهُم أنَّ عبادة الأوثانِ ونحوِها تعظيمٌ لجناب الربِّ، وأنَّه لا يُتوصلُ
إليه من غيرِ وسائط تعبدُ فتقربُ إليه زُلفًا، وأنًّ ذلك أبلغُ في التعظيم
والاحترام، وقاسَهُ لهم على ملوكِ بني آدم، فاستجابُوا لذلكَ، وقبلوه منه.
هانَّما بعثَ اللَّهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ لإبطالِ ذلكَ كلِّه، فمن اتَّبع ما جاءوا
به فقد اهتدى، ومنْ أعْرَضَ عنه أو عن شيءٍ منه واعترضَ فقد ضلَّ.
وقولهُ: "كما تروْن هذا القمَرَ"
شبَّه الرؤية بالرؤيةِ، لا المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى.
وإنَّما شبَّه الرؤية برؤية البدر، لمعنيين:
أحدهما: أنَّ رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ لا يُشك فيه ولا يُمترى.
والثاني. يتسوى فيه جميعُ الناسُ من غير مشقة.
وقد ظنَّ المريسيُّ ونحوُه ممن ضلَّ وافترى على اللَّهِ، أنَّ هذا الحديثَ يُرد.
لما يتضمن من التشبيهِ، فضلَّ وأضلَّ.
واتفقَ السلفُ الصالحُ على تلَقِّي هذا الحديث بالقبولِ والتصديقِ.
قال يزيدُ بنُ هارونَ: من كذَّب بهذا الحديثِ فهو بريءٌ من اللَّهِ ورسولِهِ.
وقال وكيعٌ: مَنْ ردَّ هذا الحديثَ فاحسبوه من الجهميَّةِ.
وكان حسينٌ الجعُفيُّ إذا حدَّث بهذا الحديثِ، قال: زَعَمَ المريسي.(2/518)
وقوله: "لا تضامُون في رؤيتِهِ ".
قال الخطابيُّ: "لا تضامون " رُوي على وجهين:
مفتوحةُ التاءِ، مضددةُ الميم، وأصلُهُ تتضامّون، أي لا يضامُّ بعضُكم
بعضًا، أي: لا يُزَاحم، من الضمِّ، كما يفعلُ الناسُ في طلبِ الشيء
الخفي، يريدُ أنكم ترونَ ربَّكم وكلُّ واحدٍ منكم وادِعٌ في مكانِهِ، لا ينزاعه
فيه أحدٌ.
والآخرُ: مخفف: تُضامُون - بضمِّ التاءِ - من الضَّيم، أي: لا يضيم
بعضُكم بعضًا فيه. انتهي.
وذكرَ ابنُ السمعاني فيه روايةً ثالثةً: "تُضامُّون " - بضم التاء، وتشديدِ الميم -
قال: ومعناها: لا تزاحِمُون، قال: ورواية - فتح التاء مع تشديدِ الميم -
معناها: لا تزاحَمُون.
وقولُه: "كما تروْن القمرَ ليلةَ البدر" يقوِّي المعنى الأول.
وجاء التصريحُ به في روايةِ أبي رَزينِ العُقيليِّ، أنّه قال: يا رسول اللَّه.
أكلُّنا يَرَى ربَّه يومَ القيامة؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقِه؟
قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"أليس كُلُّكُمْ ينظرُ إلى القمرِ مُخْلِيًا به؟ "
قال: بلى، قال: "فاللَّه أعظمُ ".
خرَّجه الإمامُ أحمد.
وخرَّجه ابنُه عبدُ الله في "المسندِ" بسياق مطول جدا، وفيه ذكرُ البعثِ
والنشورِ، وفيه: "فتخرُجُون من الأصواء - أو: من مصَارِعِكُم - فتنظرُون إليْهِ وينظُرُ إليكُمْ "(2/519)
قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، وكيفَ ونحْنُ مِلْء الأرضِ وهُو شخْص
واحدٌ، ينظُرُ إلينا وننْظُرُ إليه؟
قال: "أُنبئك بمثلِ ذلك، الشَّمسُ والقَمَرُ، آيةٌ منْهُ
صغيرةٌ تَروْنَهُما ويريانكُمْ ساعة واحدة، لا تضارون في رُؤيَتِهما، ولعَمْرُ إلهِكَ لَهُوَ أقْدرُ على أنْ يرَاكُمْ وتَرَوْنَهُ من أنْ تَرَوْنَهُما ويرَيانِكُم، لا تُضارون في رؤيتهِما "
وذكر بقيةَ الحديثِ.
وخرَّجه الحاكم وقال: صحيحُ الإسناد.
وقد ذكَرَ أبو عبد اللَّه بنُ منده إجماعَ أهلِ العلم على قبولِ هذا الحديثِ
ونَقَلَ عبَّاسٌ الدُّوري، عن ابن معينٍ أنَّه استحسنه.
وقولُهُ: "فإنِ اسْتَطَعْتُمْ أن لا تُغْلبُوا على صلاة قبْلَ طلُوع الشَّمْسِ وقبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا"
أمر بالمحافظةِ على هاتينِ الصلاتين، وهما صلاةُ الفجرِ وصلاةُ
العصرِ، وفيه إشارة إلى عظمِ قدْرِ هاتينِ الصلاتينِ، وأنَّهُما أشرفُ الصلواتِ
الخمسِ، ولهذا قِيل في كل منهُما: إنّها الصلاةُ الوسطى، والقولُ بأنَّ
الوسْطَى غيرُهما لا تعويلَ عليه.
وقد قيل في مناسبةِ الأمرِ بالمحافظةِ على هاتينِ الصلاتينِ عقيبَ ذكرِ
الرؤية.: أنَّ أعلى ما في الجنَّةِ رؤيةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وأشرفُ ما في الدنيا من
الأعمالِ هاتان الصلاتانِ، فالمحافظةُ عليهما يُرجى بها دخولُ الجنةِ ورؤيةُ اللَّهِ
عر وجل فيها.
كما في الحديثِ الآخر:
"منْ صلَّى البردين دخل الجنَّة" وسيأتي - إن شاء اللَّه في موضعه.(2/520)
وقيل: هو إشارةٌ إلى أنَّ دخولَ الجنةِ إنَّما يحصلُ بالصلاةِ مع الإيمانِ، فمنْ
لا يصلِّي فليس بمسلمٍ، ولا يدخلُ الجنةَ بلْ هو من أهل النارِ، ولهذا قال
أهلُ النارِ لما قيل لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) .
ويظهرُ وجْهٌ آخرُ في ذلك، وهو: أنّ أعْلى أهلِ الجنَّة منزلةً من ينظر في
وجْهِ اللَّه عزَّ وجلَّ مرتين بُكْرة وعشيا، وعُمومُ أهلِ الجنَّة يرونه في كلِّ جمعةٍ
في يومِ المزيدِ، والمحافظةُ على هاتينِ الصلاتينِ على ميقاتِهِمَا ووضوئِهِمَا
وخشوعِهِما وآدابهما يُرجى به أن يوجبَ النظرَ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ في الجنَة في
هذين الوقتين.
ويدل على هذا ما رَوى ثُوَيْرُ بنُ أبي فاختَة، قال: سمعتُ ابنَ عمرَ.
يقول: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ أدْنى أهلِ الجنَّة منزلة لمنْ ينظرُ إلى جنانِهِ وأزْواجه
ونعيمه وخدَمِهِ وسرُرِهِ مسيرةَ ألفَ سنة، وأكْرَمُهُمْ على اللَّه منْ ينظرُ إلى وجههِ غدْوَةً وعشيا" ثم قرأ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وهذا لفظُهُ. وخرَّجه - أيضًا - موقوفًا
على ابنِ عمرَ. وثُوَيْرٌ فيه ضعفٌ.
وقد رُوي هذا المعنى من حديث أبي بَرْزة الأسلميِّ مرفوعًا - آيضًا - وفي
إسنادِهِ ضعفٌ.(2/521)
وقاله غيرُ واحدٍ من السَّلفِ منهم: عبْدُ اللَّه بنُ بُريدةَ وغيرُه.
فالمحافظةُ على هاتين الصلاتينِ تكون سببًا لرؤية اللَّه في الجنَّةِ في مثلِ
هذين الوقتين، كما أنَّ المحافظةَ على الجمعةِ سببٌ لرؤية اللَّه في يومِ المزيدِ
في الجنَّة، كما قال ابن مسعود: سارعُوا إلى الجُمُعات؛ فإنَّ اللَّه يبرز لأهل
الجنَّة في كلِّ جمعةٍ على كثيبٍ من كافورٍ أبيضَ، فيكونونَ منه في الدنو على
قدْرِ تبكيرهم إلى الجُمُعاتِ.
ورُوي عنه مرْفُوعًا. خرَّجَه ابنُ ماجةَ.
ورُوي عن ابن عباسٍ، قال: مَنْ دخلَ الجنةَ من أهلِ القُرى لم ينظر إلى
وجْه اللَّه؛ لأنَهم لا يشهدون الجمعة.
خرَّجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب "الشافي " بإسنادٍ ضعيفٍ.
وقد رُوي من حديثِ أنس مرفوعًا: "إنَّ النساءَ يريْنَ ربّهنَّ في الجنَّة في يومي
العيدين ".
والمعنى في ذلك: أنّهنَّ كُنَّ يشاركن الرجال في شهود العيدين دون
الجُمع.
وقولُه: ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) .
الظاهر أن القارئ لذلكَ هو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقد رُوي من روايةِ زيدِ بن أبي أُنَيْسة، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن
جريرٍ البَجَلي في هذا الحديثِ: ثم قرأ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الآية.(2/522)
خرَّجه أبو إسماعيلَ الأنصاريُّ في كتابِ "الفاروقِ ".
وقد قيل: إنَّ هذه الكلمةَ مدرجة، وإنَّما القارئُ هو جرير بن عبد اللَّه
البَجَلي.
وقد خرَّجه مسلمٌ في "صحيحهِ " عن أبي خيثمة، عن مروان بن معاوية
فذكر الحديثَ، وقال في آخره: ثم قرأ جريرٌ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) .
وكذا رواه عَمْرُو بنُ زُرارة وغيرُه، عن مروان بن معاويةَ، وأدرجه عنه
آخرون.
* * *(2/523)
سُورَةُ الإنْسَانِ
قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) .
وفسَّر طائفةٌ من السَّلَفِ أمشاجَ النُّطفةِ بالعُروقِ التي فيها.
قال ابنُ مسعودٍ: أمشاجُها: عزَّ وقُها.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
قال اللَّه تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) .
وقال اللَّهُ تعالى: (وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
وقال اللَّهُ تعالى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) .
وقال: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) .
وقال تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) .
وقرأ ابنُ عباسٍ: "وَالسلاسِلَ يُسْحَبُونَ " بنصب السلاسل وفتح ياءِ
يسحبونَ، قال: هو أشدُّ عليهم هم يسحبون السلاسلَ.
خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ.(2/524)
فهذه ثلاثةُ أنواع:
أحدها: الأغلالُ: وهي في الأعناقِ، كما ذكر سبحانه.
قال الحسنُ بنُ صالح: الغلُّ تغلُّ اليدُ الواحدةُ إلى العنق، والصفدُ: اليدانِ
جميعًا إلى العنقِ.
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
وقال أسباط عن السُّديِّ: الأصفادُ تجمعُ اليدينِ إلى العنق.
وقال معمر عن قتادةَ في قوله: (مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) .
قالَ: مقرنين في القيودِ والأغلالِ.
قالَ عيينةُ بنُ الغصنِ عن الحسنِ: إنَّ الأغلالِ لم تُجعلْ في أعناقِ أهلِ
النارِ لأنَّهم أعجزُوا الربَّ عزَّ وجلَّ، ولكنها إذا طُفِئَ بهم اللهبُ أرستْهُم.
قالَ: ثم خرَّ الحسنُ مغشيًّا عليه.
وقال سيَّارُ بنُ حاتم: حدثنا مسكينُ عن حوشحب عن الحسنِ أنه ذكرَ النارَ
فقالَ: لو أنَّ غلاً منها وُضِعَ على الجبالِ لقصمَهَا إلى الماءِ الأسودِ، ولو أنَّ
ذراعًا من السلسلة وُضِعَ على جبلٍ لرضَّه.
ورَوى ابنُ أبي حاتم بإسناد عن موسى بنِ أبي عائشةَ أنَّه قرأ قولَهُ تعالى:
(أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
قال: تشدُّ أيديهم بالأغلال في النارِ، فيستقبلونَ العذابَ بوجوهِهِم قد شدتْ أيدِيهم، فلا يقدرون على أن يتَّقوا بها، كلما جاء نوع من العذابِ يستقبلونَ بوجوهِهِم.
وبإسنادِهِ عن فيضِ بنِ إسحاقَ عن فضيلِ بنِ عياضِ: إذا قالَ الربُّ تباركَ
وتعالى: (خُذوهُ فَغُلُّوهُ) تبدَّرهُ سبعونَ ألفَ ملك كلُّهم يتبدرُ أيهم
يجعلُ الغلَّ في عنقِهِ.(2/525)
النوع الثاني: الأنكالُ: وهي القيودُ، قال مجاهدٌ والحسنُ وعكرمةُ وغيرُهم.
قال: الحسنُ: قيودٌ من نارٍ، قال أبو عمرانَ الجونيُّ: قيودٌ لا تحلُّ واللَّهِ أبدًا، وواحدُ الأنكالِ: نكلٌ، وسميمت القيودُ أنكالاً لأنه ينكلُ بها، أي يمنعُ.
وروى أبو سنانَ عن الحسنِ: أما وعزَّتِهِ ما قيدَهُم مخافةَ أن يعجزُوه.
ولكن قيدَهُم لترسَى في النارِ.
وقال الأعمشُ: الصفدُ: القيودُ، وقولُهُ تعالى: (مّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ)
القيودُ، وقد سبقَ عن أبي صالح قولُهُ: (فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ)
قال: القيودُ الطوالُ.
النوع الثالثُ: السلاسلُ: خرجَ الإمامُ أحمدُ وغيرُه من طريقِ أبي السمح
عن عيسى بنِ هلالٍ الصدفيِّ عن عبد اللهِ بن عمرٍو، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ رصاصةً مثلَ هذه - وأشار إلى مثل الجمجمةِ - أُرْسِلت من السماءِ إلى الأرضِ وهي مسيرةُ خمسمائة عامٍ لبلغتِ الأرض قبل الليلِ، ولو أنَّها أُرْسلتْ من رأسِ السلسلةِ لسارتْ أربعينَ خرِيفا الليلَ والنهارَ قبل أن تبلغَ أصولَها"
غريبٌ، وفي رفعِهِ نظر، واللَّه أعلم.
وفي حديثِ عدي الكندي عن عمرَ أن جبريلَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن حلقةً من سلسلة أهلِ النارِ التي نعتَ اللَّهُ في كتابِهِ وُضِعَتْ على جبالِ الدنيا لانقضتْ ولم يردَّها شيء حتى تنتهي إلى الأرضِ السابعةِ السفلى"
خرَّجه الطبرانيُّ، وسبق الكلامُ على إسنادِهِ.
وروى سفيانُ عن بشيرٍ عن نوف الشامي في قولِهِ تعالى: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فاسْلُكُوهُ)
قال: إن الذراعَ سبعونَ باغا، والباعُ(2/526)
من هاهُنا إلى مكة! - وهو يومئذ بالكوفةِ.
وقال ابنُ المباركِ: أنبأنا بكَارُ عن عبدِ اللَّه سمعَ ابنَ أبي مليكةَ يحدِّثُ أنَّ
كعبًا قال: إنَّ حلقة من السلسلة التي قال اللَّهُ: (ذَرْغهَا سَبْعونَ ذِرَاعًا)
إن حلقةً منها أكثرُ من حديدِ الدُّنيا.
وقال ابنُ جريج في قولِهِ: (ذَرْعُهَا سبْعُونَ ذِرَاعًا) قال: بذراع الملكِ.
وقال ابنُ المنكدرِ: لو جُمعَ حديدُ الدنيا كلُّه ما خلا منها وما بقي ما عدلَ
حلقةً من الحلقِ التي ذكرَ اللَّهُ في كتابِهِ تعالى فقال: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ
ذِرَاعًا) .
خرَّجَه أبو نُعيمٍ.
قال ابنُ المباركِ عن سفيانَ في قوله: (فَاسْلُكُوهُ) قال: بلَغنا أنها تدخلُ
في دبر حتى تخرج منه.
وقال ابنُ جريج: قال ابنُ عباس: السلسلةُ تدخلُ في إستِهِ ثمَ تخرجُ من
فِيه، ثم يُنظمونَ فيها كما ينظمُ الجرَّاَدُ في العودِ حتَّى يُشْوَى.
خرَّجه ابنُ أبي حاتم. وخرَّجَه أيضًا من روايةِ العوفيِّ عن ابن عباسٍ.
قال: تسلكُ في دُبُر حتَى تخرج من منخريهِ حتى لا يقوم على رجليه.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ خلفِ بنِ خليفةَ عن أبي هاشم قال:
يجعلُ لهم أوتادٌ في جهنَّم فيها سلاسل فتلقَى في أعناقِهِم، فتزفرُ جهنَّمُ زفرةً
فتذهبُ بهم مسيرة خَمسمائة سنة، ثم تجيءُ بهم في يوم، فذلك قوله:
(وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) .
ومن طريقِ أشعثَ عن جعفر عن سعيدِ بنِ جبير، قال: لو انفلتَ رجلٌ
من أهلِ النارِ بسلسلةٍ لزالت الجبالُ.(2/527)
وقال جويبرٌ عن الضحاكِ في قوله: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)
قال: يجمعُ بين ناصيتِهِ وقدميهِ في سلسلةٍ من وراء ظهرهِ.
وقال السديُّ في هذه الآيةِ: يجمعُ بين ناصيةِ الكافرِ وقدميهِ، فتربطُ
ناصيتُهُ بقدمِهِ وظهره ويفتلُ.
وذكر الأعمشُ عن مجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: يؤخذَ بناصيتِه وقدميه
ويكسر ظهرُهُ، كما يكسرُ الحطبُ في التنورِ.
وقال سيارُ بنُ حاتمٍ: حدثنا مسكينُ عن حوشبٍ عن الحن، قال: إنَّ
جهنمَ ليَغلي عليها من الدهرِ إلى يومِ القيامةِ يُحمى طعامُها وشرابُها
وأغلالُها، ولو أن غلاًّ منها وُضِعَ على الجبالِ لقصَمَهَا إلى الماء الأسودِ، ولو
أنَّ ذراعًا من السلسلةِ وضعَ على جبل لرضَّه، ولو أنَّ جبلاً كان بينه وبين
عذابِ اللَّه عزَّ وجلَّ مسيرةَ خمسمائة عامٍ لذابَ ذلك الجبلُ، وإنَّهم ليُجمعونَ
في السلسلةِ من آخرِهِم فتأكلُهُم النارُ وتبقى الأرواحُ.
ورواه ابنُ أبي الدنيا عن عبدِ اللَّه بن عمرَ الجشميّ، عن المنهال بن عيسى
العبديِّ، عن حوشبٍ، عن الحسنِ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَهُ بمعناه، وزادَ في آخره: "تبقى الأرواحُ في الحناجِرِ تصرخُ "
والموقوفُ أشبهُ.
وقال عبدُ اللَّه بنُ الإمامِ أحمدَ: أخبرت عن سيَّارِ عن ابنِ المعزِّي - وكان
من خيارِ الناسِ. قال: بلغني أنَّ الأبدانَ تذهبُ وتبقى الأرواحُ في السلاسلِ.
وخرَّج الطبرانيُّ وابنُ أبي حاتم من طريقِ منصورِ بنِ عمار، حدثنا بشيرُ
ابنُ طلحةَ، عن خالدِ بن الدريكِ، عن يعْلَى بنِ منيةَ رفعَ الحديثَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2/528)
قال: "ينشئُ اللَّهُ سبحانه لأهلِ النارِ سحابةً سوداءَ مظلمة، فيقالُ: يا أهلَ النارِ، أيَّ شيءٍ تطلبون؟
فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون: يا ربَّنا الشرابُ، فتمطرُهم
أغلالاً تزيدُ في أغلالهم، وسلاسلَ تزيدُ في سلاسلهم، وجمرًا يلتهبُ عليهم".
وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا موقوفًا لم يرفعْهُ.
ورَوى أبو جعفر الرازيُّ عن الربيع بنِ أنسٍ عن أبي العاليةَ وغيرُه عن أبي
هريرة، فذكرَ قصةَ الإسرإء بطولها وفيها قال: "ثم أتى على وادٍ - يعني النبي
- صلى الله عليه وسلم - - فسمعَ صوتا منكرًا ووجدَ ريحًا منتنةً، فقال: ما هذا يا جبريلُ؟ " فقال: هذا صوتُ جهنَّم تقولُ: ربِّ آتني ما وعدتني، فقدْ كثُرَتْ سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد برد قعري واشتدَّ حرِّي فآتني ما وعدتني، قال: لكِ كلُّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم
الحسابِ ".
* * *
قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
قال بعضُ السلفِ: إنَّ اللَّه تعالى وصفَ الجنَّة بصفةِ الصَّيفِ لا بصفةِ
الشتاءِ، فقال تعالى: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) .
وقد قال اللَهُ تعالى
في صفةِ أهل الجنة: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) .
فنفَى عنهم شدة الحرِّ والبرْدِ.
قال قتادةُ: علِمَ اللَّهُ أنَّ شدَّةَ الحرِّ(2/529)
تؤذي، وشدة البردِ تؤذي، فوقاهم أذاهما جميعًا.
* * *
جاء في حديث مرفوعٍ:
"إنَّ زمهريرَ جهنَّمَ بيت يتميزُ فيه الكافرُ من بردِهِ "
يعني: يتقطع ويتمزعُ.
ورَوى ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الأعمشِ عن مجاهدٍ، قال: إنَّ في النارِ
لزمهريرًا يغلونَ فيه فيهربون منها إلى ذلك الزمهريرِ، فإذا وقعوا فيه حطمَ
عظامَهم حتى يُسمعَ لها نقيضٌ.
وعن ليثٍ عن مجاهدٍ، قالَ: الزمهريرُ الذي لا يستطيعون أن يذوقُوه من
بردِهِ.
وعن قابوسِ بنِ أبي ظبيانَ عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: يستغيثُ أهلُ
النارِ من الحرِّ فيغوثونَ بريح بارده يصدعُ العظامَ بردُها فيسألون الحر.
وعن عبدِ اللهِ بنِ عميرٍ، قالَ: بلغني أنَّ أهلَ النارِ يسألون خازنَها أن
يخرجَهُم إلى جانبِهَا، فيخرجُهم فيقتلَهُم البردُ والزمهريرُ حتى يرجعُوا إليها
فيدخلوها مما وجدوا من البردِ.
وروى أبو نُعيمٍ بإسنادِهِ عن ابنِ عباسٍ أنَّ كعبًا قال: إنَّ في جهنَم بردًا هو
الزمهريرُ يسقطُ اللحمَ حتى يستغيثُوا بحرِّ جهنَّمَ.
ورُويَ عن ابنِ مسعودٍ قال: الزمهريرُ: لونٌ من العذابِ.
وعن عكرمةَ، قال: هو البردُ الشديدُ.(2/530)
ورُويَ عن زبيدٍ الياميِّ أنه قامَ ليلةً للتهجدِ فعمدَ إلى مطهرةٍ له قد كان
يتوضأ فيها، فغسلَ يده ثم أدخلها في المطهرةِ، فوجدَ الماءَ الذي فيها باردًا
بردًا شديدًا، قد كاد أن يجمد، فذكرَ الزمهريرَ ويدَه في المطهرةِ، فلم يخرجْ
يدَهُ من المطهرةِ حتى أصبحَ فجاءتْهُ الجاريةُ وهو على تلكِ الحالِ، فقالتْ: ما
شأنُكَ يا سيِّدِي لم تصلِّ الليلةَ كما كنتَ تصلِّي، قال: ويحكِ إني أدخلتُ
يدي في هذه المطهرةِ فاشتدَّ عليَّ بردُ الماءِ فذكرتُ به الزمهريرَ، فواللَّهِ ما
شعرتُ بشدةِ بردِهِ حتَى وقفتِ عليَّ، انظري لا تخبري بهذا أحدًا ما دمتُ
حيًّا، فما علمَ بذلك أحدٌ حتى مات رحمه اللَّه.
* * *(2/531)
سُورَةُ المُرْسَلاتِ
قولِهٍ تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
أي: نكفتُهم ونضمُّهم ونجمعُهم وهمْ أحياءٌ على ظهرِها، وإذا ماتُوا ففي
بطنِها.
* * *(2/532)
سُورَةُ النَّبَأ
قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)
وروي عن ابنِ عباسٍ، قالَ: يستغيثُ أهلُ النارِ من الحَرّ فيُغاثون بريح
باردةٍ يُصَدعُّ العِظامَ بَرْدُها، فيسألون الحَرَّ.
وعن مجاهدٍ، قال: يهربون إلى الزمهريرِ، فإذا وقعُوا فيه حطَّمَ عِظامهم حتى يُسمع لها نَقيضٌ.
وعن كعْبٍ، قال: إنَّ في جهنَّم بردًا هو الزمهريرُ، يُسقِطُ اللحمَ حتى يستغيثوا بِحَرِّ جهنم.
وعن عبدِ الملكِ بنِ عُميرٍ، قال: بلغني أنَّ أهلَ النارِ سألوا خازنَها أن
يخرجَهُم إلى جانبها فأُخرِجوا فقتلَهُم البَرْدُ والزمهريرُ، حتى رجعُوا إليها
فدخلُوها ممَّا وجدُوا من البَرْدِ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) .
وقال اللَّه تعالى: (هَذَا فَلْيَذوقوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) .
قال ابنُ عباسٍ: الغسَّاقُ: الزَّمْهريرُ البارِدُ الذي يُحرِقُ من بَرْدهِ.
وقال مجاهدٌ: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من بردِهِ.
وقيلَ: إن الغسَّاَقَ الباردُ المنتن؛ أجارنا اللَهُ تعالى من جهنَّم بفضلِهِ وكرمِهِ.(2/533)
اعلم أن تفاوتَ أهلِ النارِ في العذاب هو بحسبِ تفاوتِ أعمالِهِم التي
دخلُوا بها النارَ، كما قال تعالى: (وَلِكَلٍّ دَرَجَاتٌ ممَا عَمِلُوا) .
وقال تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا) ، قال ابنُ عباسٍ: وافقَ أعمالَهُم، - فليسَ
عقابُ من تغلظ كفرُهُ وأفسدَ في الأرضِ ودعا إلى الكفرِ كمن ليس كذلك.
قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) .
وقال تعالى: (وَيَوْمَ تَفوم السَّاعَة أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشدَّ الْعَذَابِ) ..
وكذلك تفاوتُ عذابِ عصاةِ الموحدينَ في النارِ بحسبِ أعمالِهِم، فليس
عقوبةُ أهلِ الكبائرِ كعقوبةِ أصحابِ الصغائرِ، وقد يخفف عن بعضِهِم
العذابُ بحسناتٍ أُخرَ له أو بما شاءَ اللَّهُ من الأسبابِ، ولهذا يموتُ بعضُهم
في النارِ، كما سيأتي ذكرُهُ فيما بعدُ، إن شاء الله تعالى.
وأما الكفار إذا كانَ لهم حسنات في الدنيا من العدلِ والإحسانِ إلى الخلقِ
فهل يخففُ عنهم بذلكَ من العذابِ في النارِ أم لا؟
هذا فيه قولان للسلفِ وغيرِهم:
أحدُهُما: أنه يخففُ عنهم بذلك أيضًا، ورَوى ابنُ لهيعةَ عن عطاءِ بنِ دينار عن سعيدِ بن جبيرٍ معنى محذا القولِ، واختارَهُ ابنُ جرير الطبريُّ وغيرُهُ.
وروى الأسودُ بنُ شيبانَ عن أبي نوفل قال: قالتْ عائشةُ: يا رسول الله
أينَ عبدُ اللَّهِ بنُ جدعان؟
قال: "في النارِ" فجزعتْ عائشةُ واشتدَّ عليها، فلمَّا
رأى رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال:
"يا عائشةُ ما يشتدُّ عليك من هذا؟ "
قالت: بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ اللَّه، إنه كان يطعمُ الطعامَ ويصلُ الرَّحمَ، قال: "إنه يهونُ(2/534)
عليه بما قلتِ " خرَّجه الخرائطيُّ في كتابِ "مكارمِ الأخلاقِ " وهو مرسلٌ.
وروى عامرُ بنُ مدركٍ الحارثيُّ عن عتبةَ بنِ اليقظانَ عن قيسِ بنِ مسلم.
عن طارقِ بنِ شهابٍ، عن عبد اللَّه بنِ مسعودٍ قال: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"ما أحسنَ من محسنٍ كافرٍ أو مسلمٍ، إلا أثابَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ في عاجلِ الدنيا أو ادخرَ له في الآخرةِ"
قلنا: يا رسول اللَّه، ما إثابَةُ الكافرِ في الدنيا؟
قال: "إن كان قد وصلَ رحمًا أو تصدَّقَ بصدقة أو عملَ حسنةً أثابَهُ اللَّه المالَ والولدَ والصِّحة وأشباهَ ذلك "
قلنا: فما إثابةُ الكافرِ في الآخرةِ، قال: "عذابًا دونَ العذابِ "
ثم تلا: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ، والخرائطيُّ والبزارُ في "مسندِهِ" والحاكمُ في "المستدرك" وقالَ: صحيح الإسنادِ، وخرَّجهُ البيهقيُّ في كتابِ "البعث والنشور"
وقال: في إسناده نظر انتهى، وعتبةُ بنُ يقظانَ تكلَّم فيه بعضُهُم.
وقد سبقتِ الأحاديثُ في تخفيف العذابِ عن أبي طالب بإحسانِهِ إلى
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّج الطبرانيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ عن أمِّ سلمة أنَّ الحارثَ بن
هشامٍ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ حجةِ الوداع: فقال: إنَّكَ تحثُّ على صل الرحم، والإحسانِ وإيواءِ اليتيم وإطعامِ الضعيفِ والمسكينِ، وكل هذا كان يفعلُه هشامُ ابنُ المغيرة، فما ظنُّك به يا رسول اللَّه؟
قال: "كلُّ قبرٍ لايشهدُ صاحبُه أن لا إله إلا اللَّه فهو حفرة من حفر النارِ، وقد وجدتُ عمِّي أبا طالبٍ في طمطامٍ من النارِ.
فأخرَّجَه الله بمكانِهِ منِّي وإحسانِهِ إليَّ فجعله في ضحضاحٍ من النارِ".
والقولُ الثاني: أن الكافرَ لا ينتفعُ في الآخرةِ بشيء من الحسناتِ بحالٍ،(2/535)
ومن حجةِ أهلِ هذا القولِ قولُهُ تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثورًا) .
وقولُهُ تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) .
ونحوُ هذه الآياتِ.
وفي "صحيح مسلم " عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنةً يعطَى بها في الدنيا وبجزى بها في الآخرةِ، وأمَّا الكافرُ فيطعَمُ بحسنات ما عملَ بها للهِ في الدُّنيا حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكنْ له حسنةٌ يُجزى بِهَا".
وفي روايةٍ له أيضًا: "إنَّ الكافرَ إذا عملَ حسنةً أطعمَ بها طعمةً في الدنيا، وأما المؤمن فإنَّ اللَّه يدخرُ له حسناتِه في الآخرةِ، وبعقبُ له رزقًا في الدنيا على طاعتِهِ ".
* * *(2/536)
سُورَةُ التَّكْويرِ
قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
روى الإمامُ أحمد بإسنادٍ فيه نظرٌ عن يَعْلى بن أميّةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"البحرُ هو جهنَّمُ " فقالُوا ليَعْلى، قال: ألا ترون أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقول:
(نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سرَادِقُهَا) ، والذي نفسُ يعْلى بيده لا أدخلُها أبدًا
حتى أُعرَضَ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ولا يصيبُني منها قطرةٌ حتَّى ألقى اللَّهَ عزَّ
وجلَّ.
وهذا إن ثبتَ فالمرادُ به أن البحارَ تفجرُ يومَ القيامةِ فتصيرُ بحرًا
واحدًا، ثم تسجرُ ويوقدُ عليها فتصيرُ نارًا وتزاد في نارِ جهنَّم.
وقد فسَّر غيرُ واحد من السلفِ قولَه تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سجِّرَتْ)
بنحوِ هذا.
وروى المباركُ بنُ فضالةَ عن كثيرٍ أبي محمدٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: تسجرُ
حتى تصير نارًا.
وروى مجاهدٌ عن شيخ من بجيلةَ عن ابنِ عباسٍ (وِإذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)
قال: تكورُ الشمسُ والقمرُ والنجومُ في البحرِ فيبعثُ اللَّهُ عليها ريحًا دبورًا
فتنفخه حتى يرجعَ نارًا.
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا وابنُ أبي حاتمٍ.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا وابنُ أبي حاتم أيضًا من طريقِ مجالدٍ، عن الشعبيِّ،(2/537)
عن ابنِ عباس في قولِهِ تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)
قال: هو هذا البحرُ تنتثرُ الكواكبُ فيه وتكوَّرُ الشمسُ والقمرُ فيكونُ هو جهنَّمُ.
ورَوى ابنُ جريرٍ بإسنادِهِ عن سعيدِ بن المسيبِ عن عليئّ أنه قال رجلٌ من
اليهودِ: أينَ جهنم؟
قال: البحرُ، قال عليٌّ: ما أراه إلا صادقًا، قال تعالى:
(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، وقال: (وِإذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) .
ورواه آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" عن حمادِ بن سلمةَ عن داودَ بنِ أبي
هندٍ عن سعيدِ بنِ المسيبِ، قال: قال عليٌّ ليهودي": أين جهنم؟
قال: تحتَ البحر، قالَ عليٌّ: صدق ثم قرأ: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) .
وخرَّجه في مواضعَ أُخرَ منه، وفيه ثُمَّ قرأ (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن أبي العاليةَ عن أبيِّ بنِ كعب - رضي الله عنه - (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: قالتِ الجنُّ للإنسِ: نأتيكُم بالخبرِ، فانطلقُوا إلى البحرِ فإذا هو نارٌ تأججُ.
وعن ابنِ لهيعةَ عن أبي قبيلٍ قال: إنَّ البحرَ الأخضرَ هو جهنَّمُ.
وروى أبو نُعيمٍ بإسنادِهِ عن كعبٍ في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ، قال: تبدلُ السماواتُ فتصيرُ جنانًا، وتبدلُ
الأرضُ فيصير مكانَ البحرِ النارُ.
وقد سبق عن ابنِ عباسٍ أنه قال: النارُ سبعةُ أبحرٍ مطبقةٌ.
وروى عن عبد اللَّه بن عمرٍو - رضي الله عنهما - أنه قال:
لا يتوضأ بماءِ البحر لأنه طبقُ جهنَّمَ.
وكذا قال سعيدُ بنُ أبي الحسنِ أخو البصريّ: البحرُ طبقُ جهنَمَ.(2/538)
وفي "سننِ أبي داود" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يركبُ البحرَ إلا حاجٌّ أو معتمرٌ أو غازٍ في سبيلِ الله، فإنَّ تحت البحرِ نارًا وتحتَ النارِ بحرًا ".
وخرَّج ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن معاويةَ بن سعيدٍ، قال: إنَّ هذا البحرَ -
يعني بحر الروم - وسطَ الأرضِ، والأنهارُ كلّها تصبُّ فيه، والبحرُ الكبيرُ
يصبُّ فيه، وأسفلُهُ آبارٌ كلها مطبقةٌ بالنحاسِ، فإذا كان يوم القيامةِ أسجرَ.
وذكر ابنُ أبي الدنيا عن العباسِ بنِ يزيد البحراني، قال: سمعتُ الوليدَ
ابنِ هشامٍ وقلتُ له": عمن أخذتَ هذا؟
قال: عن رجل من أهلِ الكتابِ أسلمَ فحسنَ إسلامُهُ، قال: لمَّا التقم الحوتُ يونسَ عليه السلامُ جالَ به الأبحرَ السبعة، فلمَّا كان آخر ذلك انْتهى به الحوتُ إلى قعرِ البحر، موضعٌ يلَي قعرَ جهنَّمَ، فسبحَ يونسُ في بطنِ الحوتِ، فسمعَ قارونُ تسبيحَهُ وهو في النارِ.
وذكرَ بقية الخبر.
وروى قيسُ بنُ الربيع عن عبيدِ المكتبِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"إنَّ جهنَّم محيطة بالدنيا، وإن الجنةَ مِنَ ورائه، فلذلك كان الصراطُ
على جهنّم طريقًا إلى الجنة"
غريبٌ منكرٌ.
وقد رُوي عن بعضِهم ما يدلُّ على أن النارَ في السماءِ.
وروى مجاهدٌ قال في قولهِ تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا توعَدُونَ)
قال: الجنةُ والنارُ، وكذا قال جويبرٌ عن الضحاكِ.
وروى عاصمٌ عن زرٍّ عن حذيفةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوتيتُ بالبراقِ فلم نزايلْ(2/539)
طرفَه أنا وجبريلُ حتَّى أتينا بيتَ المقدس.
وفُتحتْ لنا أبوابُ السماءِ، ورأيتُ الجنةَ والنارَ"
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه " قال في روايةِ المروزيِّ وفي حديثِ
حذيفةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"رأيتُ ليلةَ أسري بي الجنةَ والنارَ في السماءِ فقرأتُ هذه الآية:
(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فكأنَي لم أقرأها قط "
وهو تصديقٌ لما قاله حذيفةُ، نقله عنه الخلالُ في كتابِ "السنة".
وهذا اللفظُ الذي احتجَّ به الإمامُ أحمدُ لم نقفْ عليه بعدُ في حديثه
وإنَّما رُوىَ عنه ما تقدَّم.
ورُوي عن حذيفةَ أنه قال: واللَّهِ ما زال البراقُ حتَّى فُتحتْ لهما أبوابُ
السماء ورأيا الجنةَ والنارَ، ووعدَ اللَّهُ الآخرةَ أجمعَ ولم يرفعْهُ، وهذا كلُّه
ليسَ بصريح في أنَّه رأى النارَ في السماءِ كما لا يَخْفى.
وأيضًا فعلى تقدير صحةِ ذلك اللفظ لا يدلُّ على أنَّ النارَ في السماءِ.
وإنما يدلُّ على أنه رآها وهو في السماءِ والميتُ يرى في قبره الجنةَ والنارَ
وليستِ الجنةُ في الأرضِ.
وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الكسوفِ الجنةَ والنارَ وهو في الأرض، وكذلك في بعضِ طرقِ حديثِ الإسراءِ - حديث أبي هريرة - أنَّه مرَّ على أرضِ الجنةِ والنارِ في مسيره إلى بيتِ المقدسِ، ولم يدلَّ شيءٌ من ذلك على أنَّ الجنةَ في الأرض، فحديثُ حذيفةَ إن ثبتَ أنه رأى الجنةَ والنارَ في السماءِ، فالسماءُ ظرفٌ للرؤيةِ لا للمرئيِّ، واللَّه أعلمُ.
وفي حديثِ أبي هارون العبديِّ، وهو ضعيفٌ جدًّا عن أبي سعيد،(2/540)
الخدريِّ في صفةِ الإسراءِ أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى الجنةَ والنارَ فوق السماواتِ، ولو صحَّ لحُمل على ما ذكرناه أيضًا.
وقد روى القاضي أبو يعْلى بإسناد جيدٍ عن أبي بكر المروذيِّ أن الإمامَ
أحمدَ فسَّر له من القرآن آياب متعددة، فكانَ مما فسَّرهُ له قولهُ تعالى: (وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: أطباقُ النيران (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، قال: جهنَّم.
وهذا يدلُّ على أن النارَ في الأرضِ، بخلافِ ما رواه الخلاَّلُ عن المروذيِّ.
واللَّه أعلم.
وأما المرويُّ عن مجاهدٍ، فقد تأوَّلَهُ بعضُهم على أنَّ المرادَ أن أعمالَ الجنةِ
والنارِ مقدرة في السماءِ من الخيرِ والشرِّ، وقد صرَحَ بذلك مجاهدٌ في روايةِ
أخرى عنه.
وقد وردَ في بعضِ طرقِ حديثِ الإسراءِ أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جهنم في طريقِهِ إلى بيتِ المقدسِ، ورُوي عن عبادةَ بنِ الصامتِ أنه وقفَ على سورِ بيت المقدسِ الشرقيِّ يبْكي، وقال: ها هُنا أخبرنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جهنَّمَ.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
قال تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) .
وقُرئ (سُعِّرت و (سُعِرَت) بالتشديدِ والتخفيفِ.
قال الزجاجُ: المعنى واحدٌ، إلا أنَّ معنى المشددِ أوقدتْ مرةً بعد مرةٍ.(2/541)
قال قتادةُ: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) .
أوقدتْ، وقال السُّديُّ: أحميتْ، وقال سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ: يسعرُهَا غضبُ اللَّهِ وخطايا بني آدمَ.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
وهذا يقتضى أنَّ تسعيرَ جهنَّم حيثُ سعرتْ إنما سعرتْ بخطايا بني آدمَ
التي تقتضي غضبَ اللَّه عليهم، فتزدادُ جهنَم حينئذٍ تلهبًا وتسعُّرًا، وهذا كما أن بناءَ دورِ الجنةِ غرس الأشجارِ يحصلُ بأعمالِ بني آدمَ الصالحةِ من الذىِ وغيرِهِ، وكذلك حُسنُ ما فيها من الزوجاتِ وغيرهنَّ يتزايدُ بتحسبنِ الأعمالِ الصالحةِ، فكذلك جهنَّم تسعرُ وتزدادُ آلاتُ العذابِ فيها بكثرةِ ذنوبِ بني آدم وخطاياهم وغضبِ الربِّ تعالى عليهم.
نعوذُ باللَّه من غضبِ اللَّه ومن النارِ وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ بِمنِّهِ
وكرمِهِ.
* * *
قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
انخنستُ: أي: توارَيْتُ، واختفيتُ منه، وتأخَّرتُ عنه، ومنه: الوَسْواسُ
الخنَّاسُ، وهو الشيطانُ، إذا غَفَلَ العبدُ عن ذِكْرِ اللَّهِ وَسْوَسَ له، فإذا ذَكَر اللَّه خنَسَ وتأخر.
ومنه سُميِّتِ النجومُ خُنَّسًا، قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) .(2/542)
وانخِناسُها: رُجُوعُها وتوارِيها تحت ضوء الشَّمسِ.
وقيل: اختفاؤها بالنهار.
* * *(2/543)
سُورَةُ الانْفِطَارِ
قوله تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
وقولُهُ @ك@ي@ا: "إن خلقَ أحدِكُم يُجمعُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً" قد رُوي تفسيرُهُ عن ابنِ مسعودٍ.
روى الأعمشُ عن خيثَمةَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال:
إن النطفةَ إذا وقعتْ في الرَّحِمِ، طارتْ في كلِّ شعرٍ وظُفر، فتمكثُ أربعينَ
يومًا، ثم تنحدِرُ في الرَّحِمِ فتكونُ علقةً، قال: فذلكَ جمعُها.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه.
ورويَ تفسيرُ الجمع مرفوعًا بمعنى آخرَ، فخرَّج الطبرانيُّ، وابنُ منده في
كتابِ "التوحيد" من حديثِ مالكِ بنِ الحويرثِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ اللَّه تعالى إذا أرادَ خلقَ عبد، فجامعَ الرجلُ المرأةَ، طارَ ماؤهُ في كل عِرْقٍ وعضو منها، فإذا كان يومُ السابع جمعه اللَّهُ، ثم أحضرَهُ كلَّ عرق له دونَ آدم: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) .
وقال ابنُ منده: إسنادهُ متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي
وغيرِهما.
وخرَّجَ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتم، والطبراني من روايةِ مُطَهَّرِ بنِ الهيثم،(2/544)
عن موسى بن عليّ بنِ رباح، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لجدِّه:
"يا فلانُ، ما وُلِدَ لك؟ " قال: يا رسولَ اللَّه، وما عَسَى أن يولَدَ لي؟
إمَّا غلامٌ وإمَّا جارية، قال: "فمَنْ يشبُه؟ "
قال: من عسى أن يشبه؟ يشبه أمَّه أو أباه، قال:
فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تقولن كذا، إن النطفةَ إذا استقرتْ في الرحِمِ، أحضرها الله كل
نسبٍ بينها وبين آدمَ، أما قرأت هذه الآيةَ: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) .
قال: "سلكك " وهذا إسناد ضعيفٌ.
ومطهرُ بنُ الهيثم ضعيص جدا، وقال البخاريُّ: هو حديثٌ لم يصح.
وذكر بإسنادِهِ عن موسى بن علي عن أبيه أن أباهُ لم يُسلِم إلا في عهدِ أبي
بكرٍ الصدِّيقِ يعني: أنه لا صحبةَ له.
ويشهدُ لهذا المعنى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له: ولَدتِ امرأتي غُلامًا أسودَ: "لعله نزعه عرقٌ ".
* * *(2/545)
سُورَةُ المُطَفِّفينَ
قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
روى عطيةُ عن ابنِ عباسٍ، قال: الجنةُ في السماء السابعةِ، ويجعلُها اللهُ
حيثُ يشاءُ يومَ القيامةِ، وجهنَّم في الأرضِ السابعةِ.
خرَّجه أبو نُعيمٍ.
وخرَّج ابنُ منده من حديثِ أبي يحيى القتاتِ عن مجاهد، قال: قلتُ
لابنِ عباسٍ: أين الجنَّةُ؟
قال: فوقَ سبع سماوات، قلتُ: فأين النارُ؟
قال: تحتَ سبع أبحرٍ مطبقةٍ.
وروى البيهقيُّ بإسنادِ فيه ضعف عن أبي الزعراءَ عن ابنِ مسعودٍ، قال:
الجنَّة في السماءِ السابعةِ العُليا، والنارُ في الأرضِ السابعةِ السفلَى، ثمَّ قرأ:
(إِن كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) و (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) .
وخرَّجه ابنُ منده وعنده: "فإذا كان يومُ القيامةِ جعلَها اللَهُ حيثُ شاءَ".
وقال محمدُ بنُ عبد الله بن أبي يعقوبَ، عن بشرِ بنِ شغافٍ، عن عبدِ
اللَّهِ بنِ سلامٍ، قال: إن الجنًّةَ في السماءِ، وإن النارَ في الأرضِ.
خرَّجه ابنُ خزيمةَ وابنُ أبي الدنيا.
ورَوى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن قتادة، قال: كانُوا يقولونَ: إنَّ الجنَّةَ في
السمواتِ السبع، وإنَّ جهنَّم لفي الأرضينَ السبع.
وروى ورقاءُ عن ابنِ أبي نجيح عن مجاهد:(2/546)
(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا توعَدُونَ) .
قال: الجنةُ في السماءِ، وقد استدلَّ بعضُهم لهذا بأنَّ
اللَّهَ تعالى أخبرَ أنَّ الكفارَ يُعرضونَ على النارِ غدوًّا وعشيًّا - يعني في مدةِ
البرزخ - وأخبر أنه لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماءِ، فدلَّ على أنَّ النارَ في
الأرضِ، وقال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) .
وفي حديثِ البراء بنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ قبضِ الروح، قال في روح الكافرِ:
"حتَّى ينتهُوا بها إلى السماءِ الدنيا فيستفتحونَ فلا يُفتحُ له " ثم قرأ
رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ّ: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) .
قال: "يقولُ الله تعالى: اكتُبُوا كتابَه في سجين في الأرضِ السُّفلى"
قال: "فتُطرحُ روحُه طرحًا".
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه.
وعن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ قبضِ الروح وقال في روح الكافرِ:
"فتخرجُ كأنتنِ ريح جيفةٍ، فينطلقونَ به إلى بابِ الأرضِ فيقولونَ. ما أنتنُ هذه الريحَ، كلما أتَوا على أرضٍ قالُوا ذلكَ، حتى يأتُوا به إلى أرواح الكفار".
خرَّجه ابنُ حبانَ والحاكمُ وغيرُهما.
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ في: أرواحُ الكفارِ
في الأرضِ السابعةِ.
* * *(2/547)
قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
وأعظمُ عذابِ أهلِ النارِ حجابُهم عن اللَّه عزَّ وجلَّ، وإبعادُهم عنه.
وإعراضُه عنهم، وسخطُه عليهم، كما أنَّ رضوانَ اللَّه على أهلِ الجنةِ أفضلُ
من كلِّ نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إيَّاهُ أعظمُ من جميع أنواع نعيم
الجنةِ، قال اللَّه تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) .
فدْكر اللَّهُ تعالى ثلاثةَ أنواعٍ من العذابِ:
حجابُهم عنه، ثم صليهم الجحيمَ، ثم توبيخُهم بتكذيبِهِم به في الدنيا.
ووصفَهُم بالرانِ على قلوبِهِم، وهو صدأُ الذنوب الذي سوَّد قلوبَهُم، فلم
يصلْ إليها بعدَ ذلك في الدنيا شيءٌ من معرفةِ اللًّهِ ولا منْ إجلالِهِ ومهابتِهِ
وخشيتِهِ ومحبتِهِ، فكما حجبتْ قلوبُهم في الدنيا عن اللَّهِ حجبوا في الآخرةِ
عن رؤيتِهِ، وهذا بخلافِ حالِ أهلِ الجنةِ.
قال اللَّه تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) ، والذي أحسنوا هم أهلُ الإحسانِ، والإحسانُ أن يعبدَ العبدُ ربَّهُ
كانّه يراهُ، كما فسَّره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عنه جبريلُ عليه السلام، فجعلَ جزاء الإحسانِ الحسنى: وهو الجنَّةُ، والزيادةُ: وهي النظرُ إلى وجهِ اللَّه عزَّ وجلَّ، كما فسَّرهُ بذلك رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ صهيبٍ وغيرِهِ.(2/548)
قال جعفرُ بنُ سليمانَ: سمعتُ أبا عمرانَ الجونيَّ قال: إنَّ اللَّه لم ينظرْ
إلى إنسانٍ قطُّ إلا رحِمَهُ، ولو نظرَ إلى أهلِ النارِ لرحمَهُم، ولكن قضَى أن
لا ينظرَ إليهم.
وقال أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا أحمدُ بنُ موسى عن أبي مريم، قال:
يقول أهلُ النارِ: إلهَنا ارضَ عنَّا وعذبْنا بأيِّ نوعٍ شئتَ من عذابِكَ، فإن
غضبَك أشدُّ علينا من العذابِ الذي نحنُ فيه، قال أحمدُ: فحدثتُ سليمانَ
ابنَ أبي سليمانَ، فقال: ليس هذا كلامُ أهلِ النارِ، هذا كلامُ المطيعينَ للَّه.
قال: فحدثتُ به أبا سليمانَ، فقالَ: صدق سليمانُ بنُ أبي سليمانَ -
وسليمانُ وهو ولدُ أبي سليمانَ الدرانى، وكان عارفًا كبيرَ القدرِ رحمه اللَّهُ -
وما قاله حقّ، فإنَّ أهلَ النارِ جهالٌ لا يتفطنونَ لهذا، وإن كان في نفسِهِ حقًّا، وإنَّما يعرفُ هذا مَنْ عرفَ اللَّهَ وأطاعَهُ، ولعل هذا يصدرُ من بعضِ من
يدخلُ النارَ من عصاةِ الموحدينَ، كما أن بعضَهُم يستغيثُ باللَّهِ لا يستغيثُ
بغيره، فيخرجُ منها، وبعضُهم يخرجُ منها برجائِهِ للَّه وحدَهُ، وبعضُ من
يؤمرُ به إلى النارِ يتشفع إلى اللَّه بمعرفتِهِ فينجيهِ منها.
قال أبو العباس بنِ مسروقٍ: سمعتُ سويدَ بنَ سعيد يقولُ: سمعتُ
الفضيلَ بنَ عياضٍ، يقول: يوقفُ رجل بين يدي اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لا يكونُ
معه حسنة، فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: اذهبْ هل تعرفُ أحدًا من الصالحينَ أغفرُ
لكَ بمعرفتهِ، فيذهبُ فيدورُ مقدارَ ثلاثين سنة فلا يرى أحدًا يعرفُهُ، فيرجعُ
إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، فيقولُ: يا ربِّ لا أرى أحدًا، فيقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ:
اذهبُوا به إلى النارِ، فتتعلقُ به الزبانيةُ يجرُّونه، فيقول: يا ربِّ إن كنتَ تغفر
لي بمعرفة المخلوقينَ فإني بوحدانيتِكَ أنت أحقُّ أن تغفرَ لي، فيقولُ اللَّه - عز وجل -(2/549)
للزبانية: ردُّوا عارفي لأنه يعرفني واخلعُوا عليه خلعَ كرامتي، ودعَوه يتبحبح
في رياضِ الجنَّةِ، فإنه عارفٌ بي وأنا له معروف.
* * *
قالَ الله تعالى لمحي حقِّ الفجارِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) .
فوصفَهُم بأنَّ كسبَهُم رانَ على قلوبِهِم، والرانُ هو ما يعلُو على القلبِ من الذنوبِ من ظلمةِ المعاصي وقسوتِها، ثمَّ ذكرَ جزاءَهُم على ذلكَ وهو ثلاثةُ أنواع: الحجابُ عن ربِّهم، ثم صَلْيُ الجحيمِ، ثم التوبيخُ.
فأعظم عذاب أهلِ النارِ حجابُهم عن ربِّهم عزَّ وجلَّ، ولمَّا كانتْ قلوبُهم
في الدنيا مظلمة قاسيةٌ لا يصلُ إليها شيءٌ من نورِ الإيمانِ وحقائقُ العرفانِ
كان جزاؤهم على ذلكَ في الآخرةِ حجابَهم عن رؤية الرحمنِ.
قالَ بعضُ العارفين: " من عرفَ اللَّهَ في الدنيا، عرِفَهُ بقدرِ تعرُّفِهِ إليه.
وتجلَّى له في الآخرةِ بقدرِ معرفتِهِ إياه في الدُّنيا فرأوه في الدنيا رؤيةَ الأسرارِ.
ورأَوه في الآخرةِ رؤيةَ الأبصارِ، فمنْ لا يراهُ في الدنيا بسرهِ لسرهِ، لا يراهُ
في الآخرةِ بعينه " انتهى.
فخوفُ العارفينَ في الدنيا من احتجابِهِ عن بصائرِهِم، وفي الآخرةِ من
احتجابهم عن أبصارِهِم ونواظرِهِم.
وكتبَ الأوزاعيُّ إلى أخ له: "أما بعد: فإنَّه قدْ أحيطَ بك من كل جانبٍ،(2/550)
واعلمْ أنّه يسَارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فاحذرِ اللَّهَ والمقامَ بين يديه، وأن
يكونَ آخرَ عهدكَ به السلامُ ".
وكان عتبةُ الغلامُ يبكي بالليلِ ويقولُ: "قطعَ ذكرُ العرضِ على اللَّهِ أوصالَ
المحبينَ " ثم يحشرجُ البكاء حشرجةَ الموتِ ويقولُ: "تراك مولاي تعذِّبُ
محبَّك وأنتَ الحيُّ الكريمُ "
وباتَ ليلةً بالساحل قائِمًا يردِّدُ هذه الكلماتِ لا يزيدُ عليها ويبْكي حتى أصبح: "إن تعذِّبْني فإنِّى محبٌّ لك، وإن ترحمْني فإني محبٌّ لك ".
وكان كهمسُ يقولُ فى الليلِ: "أتراكَ تعذِّبنى وأنت قرةُ عينى يا حبيبَ
قلبَاه ".
وكان أبو سليمانَ يبْكي ويقولُ: "لئنْ طالبني بذنوبى لأطالبنَّهُ بعفوه، ولئنْ
طالبَني ببخلي لأطالبنَّه بجودِهِ، ولئنْ أدخلني النارَ، لأخبرنَّ أهلَ النارِ أنَّى
كنت أحبُّه ".
ومما يخافُه العارفونَ فواتَ الرِّضا عنهم، وإن وجَدُوا العفوَ أو تركَ
العقوبةِ، فإنَّ الرّضا أحبُّ إليهم من نعيم الجنةِ كلِّه مع الإعراضِ وعدمِ
التقريبِ والزُّلفى، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَسَاكنَ طَيبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكبَرُ) يعني: أكبرَ من نعيم الجنةِ.
وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنةِ: ألا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ من ذلكَ؟
قالوا: وما أفْضَلُ من ذلك؟
قال: أُحل عليكمْ رضْواني فلا أسْخطُ عليكم بعدَه أبدًا ".
* * *(2/551)
قوله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ)
وقد قيل في تاويل قولِهِ تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) .
إنَّ المُرادَ بالختامِ ما يَبْقى، في سُفْلِ الشرابِ منَ الثُّفْلِ، وهذا يدلُّ على أنَّ أنهارَها تجْرِي على المسْكِ، ولذلك يرسُبُ منه في الإناءِ في آخرِ الشَّرابِ، كما يرسُبُ الطيْنُ في آنيةِ الماءِ في الدُنيا.
* * *(2/552)
سُورَةُ البُرُوجِ
قوله تعالى: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
يوم عرفة له فضائل متعددة:
منها: أنه قد قيلَ: إنَّه الشَّفع الذي أقسَمَ اللَّه به في كتابِهِ، وأنَّ الوتْرَ يومُ
النَّحْرِ، وقد رُوي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ جابرِ، خرَّجَهُ الإمامُ أحمد والنسائيُّ في "تفسيره"
وقيل: إنَّه الشاهدُ الذي أقسمَ اللَّهُ به، في كتابِهِ، فقال تعالى: (وَشَاهِد وَمَشْهُود)
وفي "المسندِ" عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا:
"الشاهدُ يومُ عَرَفةَ، والمشهودُ: يومُ الجُمُعة "
وخرَّجه الترمذيُّ مرفوعًا.
ورُوي ذلك عن على من قولِهِ.
وخرَّجه الطبرانيُّ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ مرفوعًا:
"الشاهد: يومُ الجُمُعةِ، والمشهودُ: يومُ عرفَة"
وعلى هذا فإذا وقعَ يومُ عرفة في يومِ جُمُعة فقد
اجتمع في ذلك اليوم شاهدٌ ومشهودٌ.
* * *(2/553)
قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ تعالى: (الْوَدُودُ)
قال: يقولُ: "الحبيبُ ".
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسير".
وفي حديثِ أبي جعفر الرازيِّ عن الربيع بنِ أثسٍ عن أبي العاليةَ أو غيره عن أبي هريرةَ في قصةِ الإسراءِ الطويلةِ في ذكرِ سدرةِ المنتهى، قال:
"فغشاها نورُ الخالقِ وغشيتْها الملائكةُ مثلُ الغربانِ حينَ يقعْنَ على الشجرةِ من حبِّ اللَّهِ جلَ ثناؤهُ ".
قال الجوزجانيُّ: حدثنا أبو صالح أنَّ معاويةَ حدَّثه عن يزيد بن ميسرةَ أنه
سمعَ أبا الدرداءِ يقولُ: لما أهبطَ اللَّهُ آدمَ إلى الأرضِ قال له: "يا آدمُ أحِبَّني
وحبِّبني إلى خلقِي ولا تَسْتَطِيعُ ذلك إلا بي ولكنِّي إذا رأيتُك حريصًا على
ذلك أعنتُك عليه، فإذا فعلتَ ذلك فخُذْ به اللذةَ والنضرة وقرةَ العينِ
والطمأنينة.
قال خليد العصريُّ: "يا إخوتَاهُ، هلْ منكُم من أحدٍ لا يحبُّ أن يلَقى
حبيبَه؛ ألا فأحبُّوا ربَّكم عزَّ وجلَّ وسيرُوا إليه سيْرًا جميلاً لا مصعدًا ولا
مميلاً".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ ابن لهيعةَ حدَّثني عبدُ الحميدِ بنُ عبدِ اللَّهِ
ابنِ إبراهيمَ القرشيُّ عن أبيه قالَ: لما نزلَ بالعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ الموتُ قال
لابنِهِ عبدِ اللَّه: "إنِّي موصيكَ بحبِّ اللَّهِ وحبِّ طاعتِهِ، وخوفِ اللَّهِ وخوفِ
معصيتِه، وإنَّك إذا كنتَ كذلك لم تكره الموتَ متى أتاك ".
قال أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا أبو صالح الخراساني، قال: حدثنا(2/554)
إسحاقُ بنُ نجيح عن إسماعيلَ الكنديّ قال: جاءَ رجلٌ من البصرةِ إلى
طاووسَ ليسمعَ منه فوافاهُ مريضًا فجلسَ عند رأسِهِ يبْكي.
فقال: ما يبكيك؟
قال: "واللَّهِ ما أبْكي على قرابة بيني وبينك ولا على دُنيا جئتُ أطلبُها منكَ، ولكنْ على العلم الذي جئتُ أطلبُه منكَ يفوتُني ".
قال له طاووسُ: "إنِّي موصيكَ بثلاثِ كلماتٍ إنْ حفظتَهُن علمتَ علمَ
الأولينَ، وعلمَ الآخرينَ، وعلمَ ما كانَ، وعلمَ ما يكونُ: خَفِ اللَّهَ حتى لا
يكونَ عندكَ شيءٌ أخوفَ منه، وارْجُ اللَّهَ حتى لا يكونَ عندكَ شيءٌ أرجا
منه، وأحبَّ اللَّهَ حتى لا يكونَ شيءٌ أحبَّ إليك منه ".
فإذا فعلتَ ذلك علمتَ علمَ الأولين والآخرِينَ، وعلمَ ما كانَ وعلمَ ما يكون " فقال: "لا جرم لا سألتُ أحدًا بعدك عن شيءٍ بقيتُ ".
وعن إبراهيم بن الأشعثِ قال: "سمعتُ الفضيلَ بنَ عياضٍ يقولُ:
مرَّ عيسى عليه السلامُ بثلاثةٍ من الناسِ نحلتْ أجسامُهم وتغيرتْ ألوانُهم، فقال: ما الذي بلغَ بكُم ما أرى؟
قالوا: الخوفُ من النيرانِ.
قال: مخلوقًا خِفتُم وحق على اللَّهِ أن يؤمنَ الخائفَ، ثم جاوزَهُم إلى ثلاثةٍ أُخر، فإذا هُم أشدُّ تغيرًا وأنحلُ أجسامًا، فقال: ما الذي بلغَ بكُم ما أري؟
قالوا: الشوقُ إلى الجنَّةِ، قال: مخلوقًا اشتقْتُم وحقٌّ على اللَّهِ أن يعطيكم ما رجوتُم، ثم جاوزَهُم إلى ثلاثةٍ أُخر فإذا هم أشدُّ تغيرًا وأنحل أجسامًا، كأنَّ على وجوهِهِم المرَايا من النور، فقالَ: ما الذي بلغَ بكُم ما أرى؟
قالوا: حبُّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قال: أنتم المقربونَ، أنتم المقرَّبونَ، أنتُم المقربون ".
وروى إبراهيمُ بنُ الجنيدِ بإسنادِهِ عن كعبِ قال: أوحى اللَّهُ إلى موسى(2/555)
عليه السلام: "إن إبراهيم عليه السلامُ لم يحبَّني أحدٌ من خلقي كحبِّه إياي ".
وعن أبي حازمِ القيساريِّ قال: مكتوبٌ في الإنجيلِ: "يا عيسى، الحقُّ
والحقَّ أقول: إنَي أحَبُّ إلى عبدِي من نفسِهِ التي بين جنبيه ".
وعن ابنِ عيينةَ عن رجلٍ: عن يحيى بن أبي كثير اليمانيّ، قال: نظرْنَا
فلم نجدْ شيئًا يتلذذُ به المتلذذون أفضلَ من حبِّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وطلبِ
مرضاتِهِ.
وعن سعيد بن عامر عن محمدِ بنِ ليث عن بعضِ أصحابهِ قال: كان
حكيمُ بنُ حزامِ يطوفُ بالبيتِ ويقول: لا إله إلا الله، نعم الربُّ ونِعْمَ الإلهُ.
أحبه وأخشاه.
وعن بكرِ المزنيِّ قال: ما فاقَ أبو بكرٍ أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاة، ولكنْ بشيءِ وقرَ في قلبِهِ.
قال إبراهيمُ: بلغني عن ابنِ عُليَّة أنه قال: في عقيبِ هذا الحديثِ: الذي
كان في قلبِهِ الحبُّ للهِ عزَ وجل، والنصيحةُ في خلقِهِ.
قال ابنُ أبي الدنيا حدَّثنا هارونُ بن سفيانَ حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بن صالح
أخبرني بعضُ أهلِ البصرةِ، قال: لمَّا استَقضى سوَّارٌ بالبصرة، كتبَ إليه أخٌ له كان يطلبُ العلمَ معه وكان ببعضِ الثغورِ:
"أمَّا بعدُ، أوصيك بتقوى اللهِ الذي جعلَ التقوى عِوَضًا من كلِّ فائتِ منَ الدنيا، ولم يجعلْ شيئًا من الدنيا يكونُ عِوَضًا من التَّقوى، فإنَّ التقوى عقدةُ كل عاقلِ مستبصرٍ، إليها يستروِحُ، وبها يستن، ولم يظفرْ أحد في عاجلِ هذه الدنيا وآجلِ الآخرةِ بمثلِ ما ظفرَ به أولياءُ الله الذين شربُوا بكأس حبِّه، فكانتْ قرةَ أعينهم فيه،(2/556)
ولكنهم أعملُوا أنفسهم في جسيم الأدبِ وأراضوها رياضةَ الأصحابِ
الصادقينَ، فطلَّقُوها عن فضولِ الشهواتِ وألزمُوها القوتَ المقلق، وجعلُوا
الجوعَ والعطشَ شِعارًا لها برهةً من الزمان، حتى انقادتْ وأذعنِت وعزفتْ
لهم عن فضولِ الحطامِ، فلمَّا ظعنَ حبُّ فضولِ الدنيا من قلوبِهم، وزايلتْها
أهواءُهم وانقعطتْ أمانِيهم وصارتِ الآخرةُ نصبَ أعينهم ومنتهى أملِهم.
ورَّثَ اللُّه قلوبَهم نورَ الحكمة، وقلَّدها قلائدَ العصمةِ، وجعلَهم دعاةً لمعالم
الدين يلمُّون منه الشعثَ، ويشعبون منه الصدعَ.
لم يلبثُوا إلا يسيرًا حتَّى جاءهم من اللهِ موعدٌ صادقٌ اختصَّ به العاملينَ له، والعاملينَ به دونَ من سواهم، فإذا سرك أن تسمعَ صفةَ الأبرارِ الأتقياءِ، فصفةُ هؤلاءِ فاستمِعْ، وشمائلَهُم الطيبةَ فاتبعْ، وإياكَ يا سوارُ وبنياتِ الطريقِ والسلامُ ".
وخرَّج أبو نُعيمٍ بإسناده عن الربيع بنِ برةَ عن الحسنِ في قولهِ تعالى: (يَا
أَيَّتهَا النَّفْسُ الْمطْمَئِنَّة) قال: "النفسُ المؤمنة اطمأنَّتْ إلى اللَّه واطمأنَّ
إليها، وأحبَّتْ لقاءَ الله، وأحبَّ لقاءهَا، ورضيتْ عن اللَّهِ ورضي عنها، فأمرَ بقبضِ رُوحِهَا، فغفرَ لها وأدخلها الجنةَ، وجعلها من عباده الصالحين ".
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن مسمع بنِ عاصم عن نعيم بنِ صبيح
السعديِّ قال:
"هممُ الأبرارِ متصلةٌ بمحبةِ الرحمنِ، وقلوبُهم تنظرُ إلى مواضع
العزِّ من الآخرةِ بنورِ أبصارِهم ".
وقال مسمعٌ: سمعتُ عابدًا من أهلِ البحرينِ يقول في جوفِ الليل:
"قرةَ عيني وسرورَ قلبي، ما الذي أسقطنِي من عينِكَ يا مانحَ العصم، ثم صرخَ وبكى، ثمَّ نادَى: طوبى لقلوبٍ ملأتْهَا خشيتُكَ، واستولتْ عليها محبّتكَ، فمحبتُكَ مانعةٌ لها من كُلِّ لذَّه غيرَ مناجاتِكَ، والاجتهادِ في خدمتكَ،(2/557)
وخشيتُك قاطعةٌ لها عن سبيل كُلِّ معصية خوفا لحلول سخطكَ، ثم بكى
وقال: يا إخوتاهُ، ابكوا على فوت خير الآخرةِ، حيث لا رجعةَ ولا حيلة.
وبإسناده عن أيوبَ بن حوطٍ عن قتادةَ قال: كان في حضر عتتْ، شيخٌ
يقال له: سوادُ بنُ محمدٍ كان لا يقدر أن يسمعَ القرآنَ من شدةِ خوفه وكان
يقولُ: سيدُ الأعمالِ التقوى. ثم البذلُ، ثم بعدَ البذلِ الشكرُ، ثم بعدَ
الشكرِ الرِّضا، ثم بعدَ الرِّضا التعظيمُ، ثم بعد التعظيم الحبُّ للَّه والإجلالُ
له ".
ومعنى هذا أن درجة الحبِّ المستحبةَ التي ذكرناها في أوَّلِ الكتابِ متأخرةٌ
عن درجةِ الشكرِ والرِّضا والتعظيم والبذلِ.
أما الواجبةُ فإنها تدخلُ في التقوى كما سبقَ بيانُه.
* * *(2/558)
سُورَةُ الفَجْرِ
قوله تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
في حديثِ ابنِ عُمَرَ المرفوع: "ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحب إليه العمَلُ
فيهنَّ من هذه الأيام العَشْرِ"
وفي "صحيح ابنِ حبانَ " عن جابرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ أيامٍ أفضلُ عندَ اللَهِ من أيام عشْرِ ذي الحجةِ".
ورويناه من وَجهٍ آخرَ بزيادةٍ، وهي: "ولا لياليَ أفْضَلُ من لياليهن) .
قيل: يا رسول اللَّه، هُنَّ أفضْلُ منْ عِدتهنَّ جهادًا في سبيل اللَّه؟
قال: "هُنَّ أفضلُ من عِدتهنَّ جهادًا فى سبيلِ اللهِ، إلا من عُفِّرَ وجهُه تعْفيرًا، وما منْ يَومٍ أفضلُ من يومِ عرفة"
خرَّجه الحافظ أبو موسى المدينيُّ منْ جهةِ أبي نُعيمٍ الحافظِ بالإسنادِ الذي خرَّجه به ابنُ حبَّانَ.
وخرَّجَه البزار وغيرُه من حديثِ جابرٍ أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"أفضَلُ أيام الدنيا أيامُ العشْرِ".
قالُوا: يا رسول اللَّه، ولا مثلُهُنَّ في سبيلِ اللَّه؟
قال: "ولا مثْلُهُنَّ في سبيلِ اللَّهِ، إلا مَنْ عُفرَ وجهُه بالترابِ ".
ورُوي مرْسَلاً وقيل: إنَّه أصحُّ، وقد سبق ما رُوي عن ابنِ عُمرَ: قال:
ليس يوم أعْظمُ عندَ اللَّهِ من يومِ الجمعة، ليْسَ العشْرَ.
وهو يدلُّ على أنَّ أيامَ العشْرِ أفضَلُ من يومِ الجُمُعة الذي هو أفضَلُ الأيامِ.(2/559)
وقال سهيلُ بنُ أبي صالح، عن أبيه، عن كعبٍ، قال: اختارَ اللَّهُ الزمانَ.
فأحبُّ الزَّمانِ إلى اللَّهِ الشهرُ الحرامُ، وأحبُّ الأشهرِ الحُرُمِ إلى اللهِ ذو
الحجَّةِ، وأحبُّ ذي الحجَّة إلى اللَّه العشرُ الأُوَلِ.
ورواه بعضُهم عن سُهيلٍ عن أبيه، عنْ أبي هريرة، ورفعه، ولا يصحُّ ذلك، وقال مسروقٌ في قولهِ تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) : هي أفضلُ أيَّامِ السنَةِ.
خرَّجه عبدُ الرزاقِ وغيرُهُ، وأيضًا فأيَّامُ هذا العشْرِ يشْتملُ على يوم عرفة. وقد رُوي أنه أفضَلُ أيَّامِ الدنيا، كما جاء في حديثِ جابر الذي ذكرناه وفيه: "يومُ النَّحْرِ".
وفي حديثِ عبدِ اللَّه بنِ قُرْطٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " أعظمُ الأيامِ عندَ اللَّه يومُ النَحْرِ، ثمَّ يومُ القَر ".
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وغيرُهما، وهذا كلُّه
يدلُّ على أن عشْرَ ذي الحجَّةِ أفْضلُ من غير من الأيَّامِ منْ غيرِ استثناءٍ، هذا
في أيامِهِ.
فأمَّا لياليه فمنَ المتأخِّرينَ منْ زعمَ أنَّ ليالي عشْرِ رمضانَ أفضلُ منْ لياليه.
لاشْتمالِهَا على ليلةِ القدرِ، وهذا بعيد جدًّا.
ولو صحَّ حديثُ أبي هريرة: "قيامُ كلِّ ليلةٍ منها بقيام ليلة القدر"
لكان صريحًا في تفضيلِ لياليه على ليالي عشْرِ رمضانَ، فإنَّ عشْرَ رمضانَ فُضِّلَ بليلةٍ واحدةٍ فيه، وهذا جميعُ لياليه متَساوية لها في القيام على هذا الحديثِ.
ولكنَّ حديثَ جابر الذي خرَّجه أبو موسى صريح في تفضيلِ لياليه كتفضيلِ أيَّامِهِ أيضًا، والأيَّامُ إذا أُطلِقَتْ دخلتْ فيها الليالي تبعًا، وكذلك الليالي تدْخُلُ(2/560)
أيَّامُها تبعًا.
وقد أقسَمَ اللَّه تعالى بلياليه، فقال: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) .
وهذا يدلُّ على فضيلةِ لياليه أيضًا، لكنْ لم يثبُتْ أنَّ لياليه ولا شيئًا منها
يعدلُ ليلةَ القدْرِ.
وقد زعمَ طوائفُ منْ أصحابِنا أنَّ ليلةَ الجمعة أفضلُ من ليلةِ القدْرِ، ولكنْ
لا يصحُّ ذلك عن أحمد، فعلى قولِ هؤلاءِ لا يُسْتبْعَدُ تفضْيلُ ليالي هذا
العشْرِ على ليلةِ القدرِ.
والتحقيقُ ما قالَهُ بعضُ أعيان المتأخِّرينَ منَ العلماءِ، أنْ يقُال: مجموعُ هذا
العشْرِ أفضْلُ من مجموع عشْرِ رمضانَ، وإنْ كان في عشْرِ رمضان ليلةٌ لا
يَفْضل عليها غيرُها، واللَّه أعلم.
وما تقدَّم عنْ كعبٍ يدلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّةِ أفضْلُ الأشهرِ الحُرُمِ
الأربعة، وكذا قال سعيدُ بنُ جبير، راوي هذا الحديثِ عن ابنِ عباسٍ: "ما من الشهورِ شهرٌ أعْظمُ حُرْمة منْ ذي الحجَّةِ".
وفي "مسندِ البزَّارِ" عن أبي سعيد الخدريِّ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
" سيِّدُ الشهورِ رمضانُ، وأعْظمها حُرْمةً ذو الحجَّةِ".
وفي إسنادِهِ ضعْفٌ.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ"، عن أبي سعيدٍ الخدريّ أيضا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع في خطبتِه يومَ النَّحْرِ:
"ألا إنَّ أحْرَمَ الأيام يومُكُم هذا، ألا وإنَّ أحْرَمَ الشُّهورِ شهرُكُم هذا، ألا وإنَّ أحرَمَ البلادِ بلدُكُم هذا".(2/561)
ورُوي ذلك أيضًا عن جابرٍ، ووابصةَ بنِ معبدٍ، ونُبيطِ بنِ شَريطٍ.
وغيرِهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّة أفضلُ الأشهرِ الحُرُمِ، حيثُ كان أشدَّهَا حُرْمةً.
وقد رُوي عن الحسنِ: أنًّ أفضلها المحرَّم، وسنذكرُهُ عند ذِكْرِ شهرِ المُحَرَّم، إن شاء اللَّه تعالى.
وأمَّا من قال: إنَّ أفضلَها رجبٌ فقولُهُ مرْدُود.
ولِعَشْرِ ذي الحجة فضائلُ أُخرُ غيرَ ما تقدَّم.
فمنْ فضائلِه: أنَّ اللَّه تعالى أقسَمَ به جُملةً، وببعضِه خُصوصًا، قال تعالى:
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) .
فأمَّا الفجرُ فقيل: إنه أراد جنسَ الفجر، وقيل: المرادُ طلوعُ الفجر، أو صلاةُ الفجر، أو النَّهارُ كلُّه.
فيه اختلافٌ بين المفُسّرين، وقيلَ: إنه أريد به فَجْرٌ مُعَيَّنٌ.
ثُمَّ قيل: إنه أُرِيدَ به فجرُ أوَّلِ يومٍ من عَشر ذي الحجَّة.
وقيل: بل أرِيدَ به فجرُ آخرِ يومٍ منه، وهو يومُ النَّحْرِ، وعلى جميع هذه الأقوالِ، فالعَشْرُ يشتملُ على الفجرِ الذي أقْسَمَ اللَّهُ به.
وأمَّا "الليالي العشر" فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيحُ الذي عليه
جُمهور المُفسِّرين منَ السلفِ وغيرِهم، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس.
روي عنه مِنْ غيرِ وجه والروايةُ عنه: "أنه عشرُ رمضان " إسنادُها ضعيف.
وفيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الإمامُ أحمدُ، والنسائيُّ في "التفسيرِ" منْ
روايةِ زيدِ بنِ الحُبابِ حدَّثنا عيَّاشُ بنُ عُقبة، حدَّثنا خيرُ بنُ نُعيم، عن أبي
الزُّبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"العَشْرُ عشْرُ الأضْحَى، والوَتْرُ يومُ عرفة، والشَّفع يومُ النَّحْرِ"
وهو إسناد حسنٌ.(2/562)
وكذا فسَّر "الشَّفع " و"الوتْرَ" ابنُ عباسٍ في روايةِ عكرمةَ وغيرِهِ.
وفسَّرهما أيضًا بذلك عكرمةُ والضحاكُ وغيرُ واحدٍ، وقد قيل في "الشَّفْع " و"الوتْرِ" أقوالٌ كثيرةٌ، وأكثرها لا يخرجُ عن أنْ يكونَ العشرُ أو بعضُه مُشتملاً على "الشفْع " و"الوترِ" أو أحدِهِما، كقولِ من قال: "هي الصلاةُ منها شفع ومنها وترٌ".
وقد خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديث عمرانِ بن حُصينٍ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقولُ منْ قال: هي المخلوقات منها شفغْ ومنها وَتْر، يدخلُ فيها أيامُ العَشْرِ.
وقولُ مَنْ قال: الشفعُ الخلْقُ كلُّه، والوِتْرُ الله، فإنَّ أيامَ العشْرِ منْ جُمْلةِ المخلوقاتِ.
ومنْ فضائِلِه أيضًا: أنه من جملة الأربعين التي واعدها اللَّه عزَّ وجلَّ لمُوسى
عليه السلام قال الله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ، ولكن
هل عَشْرُ ذي الحجَّة خاتمةُ الأربعينَ، فيكونُ هو العشْرُ الذي أُتِمَّ به الثَّلاثون، أمْ هو أوَّلُ الأربعين، فيكونُ مِنْ جُملةِ الثلاثينَ التي أُتِمَّتْ بعشر؟
فيه اختلاف بينَ المفسرين.
روى عبدُ الرزاقِ، عن معمر، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عنْ مُجاهدٍ.
قال: ما منْ عملٍ في أيَّامِ السنة أفضلُ منه في العَشْرِ من ذي الحجَّة، وهي
العشْرُ التي أَتمَّهَا اللَهُ لموسى عليه السلام ".
ومنْ فضائِلِهِ: أنَّه خاتمةُ الأشهرِ المعلوماتِ، أشهرُ الحجِّ التي قال اللَّه فيها:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ) ، وهي شوَّال، وذو القعْدة، وعَشْرٌ من
ذي الحجَةِ.(2/563)
وروي ذلك عن عُمرَ، وابنِه عبدِ اللَّه، وعلي، وابنِ مسعود، وابنِ عباسٍ.
وابنِ الزُّبيرِ وغيرِهِم، وهو قولُ أكثر التابعينَ، ومذهبُ الشافعيَ، وأحمدَ
وأبي حنيفةَ وأبي يوسُف وأبي ثور وغيرِهم، لكنَّ الشافعي وطائفةً أخْرجوا
منه يومَ النَّحْرِ، وأدخله فيه الأكثرون، لأنَّه يومُ الحجِّ الأكبرِ، وفيه يقعُ أكثرُ
أفعال مناسكِ الحجِّ.
وقالتْ طائفة: ذو الحِجَّةِ كلُّه منْ أشهرِ الحجِّ.
وهو قولُ مالكٍ، والشافعيّ في القديمِ، ورواه عن ابنِ عمرَ أيضًا.
وروي عن طائفة من السلفِ، وفيه حديث مرفوعٌ خرَّجه الطبرانيُّ.
لكنه لا يصحُّ.
والكلامُ في هذه المسألةِ يطولُ، وليس هذا موضعه.
ومن فضائِلِهِ: أنَّه الأيَّامُ المعلوماتُ التي شرع اللَّه ذِكْرَه فيها على ما رزَقَ من
بهيمةِ الأنعامِ، قال اللَّهُ تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) .
وجمهورُ العلماءِ على أنَّ هذه الأيامَ المعلوماتِ هي عشْرُ ذي الحجَّةِ، منهم ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ والحسنُ وعطاء ومجاهد وعكرمةُ وقتادةُ والنَخعي، وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ عنه.
ورُوي عن أبي موسى الأشعريِّ: أنَّ الأيامَ المعلوماتِ هي تسعْ ذي الحجَّة
غير يومِ النحرِ، وأنَّه قال: لا يُرَدُّ فيهنَّ الدعاءُ.
خرَّجه جعفر الفرْيابيُّ وغيرُه.
وقالتْ طائفة: هي أيامُ الذبْح.
ورُوي عن طائفةٍ من السلفِ.
وهو قولُ مالكٍ، وأبي يوسفَ، وجعلوا ذِكْرَ اللَّهِ فيها ذِكْرَه على الذبح، وهو قولُ ابنِ عُمرَ - رضي الله عنهما -، ونقل المرُّوْذيُّ عن أحمدَ أنه استحسنه، والقولُ الأولُ أظْهرُ.(2/564)
وذكْرُ الله على بهيمةِ الأنعام لا يختصُّ بحالِ ذبْحِها، كما قال تعالى:
(كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ) .
وقالَ تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) ، وأيضًا فقد قال اللَهُ تعالى بعد هذا: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) .
فجعل هذا كلَّه بعْدَ ذِكْرِه في الأيام المعلوماتِ وقضاءِ التَفَثِ، وهو شعثُ
الحج، وغبارُهُ ونصَبُهُ.
والطًوافُ بالبيتِ إنَّما يكونُ في يوم النحر وما بعدَه.
ولا يكونُ قبْله وقد جعلَ الله سبحانه هذا مُرَتبًا على ذِكرهِ في الأيامِ
المعلوماتِ بلفظةِ "ثُم" فدل على أن المرادَ بالأيام المعلوماتِ ما قبْل يومِ النَحْرِ.
وهو عشْرُ ذي الحجة.
وأما قوله تعالى: (وَيَذْكرُوا اسْمَ اللًهِ فِي أَيام مَّعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) فقيل: إن المرادَ ذكْرُهُ عند ذَبْحها، وهو حاصل بذكْر في
يوم النحر، فإنه أفضلُ أيامِ النَحْرِ، والأصح أنه إنما أريد ذِكْرُه شُكْرًا على
نعمة تسخيرِ بهيمة الأنعام لعباده، فإن للَّه تعالى على عباده في بهيمة الأنعامِ
نعمًا كثيرةً قد عدَّد بعْضها في مواضعَ منَ القرآنِ.
والحاج لهم خصوصية في ذلك عن غيرِهم؛ فإنهم يسيرونَ عليها إلى الحرم، لقضاءِ نُسكهم، كما قال تعالى: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وقال تعالى: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ويأكلون من لحومِهَا، ويَشْربون من ألبانِها، وينتفعون بأصْوافِهَا وأوبارِها وأشعارِها.(2/565)
ويختصُّ عشْرُ ذي الحجَّة في حقِّ الحاجِّ بأنَّه زمنُ سَوْقهِم للهَدْي الذي به
يكمُلُ فضلُ الحجِّ، ويأكلون منْ لُحُومه في آخر العشْرِ، وهو يومُ النحْر.
وأفضلُ سوْقِ الهَدْي من الميقاتِ، ويُشعرُ ويُقلَّدُ عندَ الإحرامِ، وتقارنُهُ
التلبيةُ، وهي مِنْ الذِّكر للَّه في الأيَّام المعلومات.
وفي الحديث: "أفضل الحجِّ العَجُّ والثَّجُّ "
وفي حديثٍ آخر: "عجُّوا التَّكْبيرَ عجًّا، وثُجُّوا الإبل ثجًّا ".
فيكون كثرةُ ذِكْر اللَّه في أيَّامِ العشْرِ شكْرًا على هذه النّعمة المختصَّةِ ببهيمة
الأنعام، التي بعضُها يتعلَّق بدين الحاجِّ، وبعضُها بِدُنياهم.
وأفضلُ الأعْمالِ ما كثُرَ ذِكْرُ اللَّه تعالى فيها، منها خُصُوصًا الحج، وقد أمر اللَّه تعالى بِذكْرِه كثيرًا في أيام الحجّ، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) ، فهذا الذِّكْرُ يكونُ في عشْرِ ذي الحجَّةِ. ثمَّ قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، وهذا يقعُ في يومِ النَّحْرِ، وهو خاتمةُ العشْرِ أيضا.
ثم أمرَ بذكْى بعد العشْرِ في الأيام المعدوداتِ، وهي أيامُ التشريق.
وفي "السنن " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبيتِ، والسعْيُ بيْنَ الصفا والمروةِ، ورميُ الجمار، لإقامة ذكْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ ".(2/566)
وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن معاذِ بنِ أنس: أن رجلاً قال:
يا رسول اللَّه، أيُّ الجهادِ أعظمُ أجْرًا؟
قال: "أكثرُهُم للَّه ذِكرًا" قال: فأيُّ الصائمين أعْظمُ أجْرًا؟
قال: "كثرُهُم للهِ ذِكْرًا".
قال: ثم ذكر الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة كلُّ ذلك ورسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أكثرُهُم للَّه ذِكرًا".
فقال أبو بكر؛ يا أبا حفص، ذهب الذَّاكرون بكُلِّ خيرٍ، فقال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أجَل ".
وقد خرَّجه ابنُ المباركِ، وابنُ أبي الدنيا من وجوهٍ أُخَر مُرْسلةٍ، وفي
بعْضِها: أي الحاجّ خير؟
قال: "أكثرهم ذكرًا للَّه " وفي بعْضِها: أيُّ الحاجِّ أعظمُ
أجْرًا؟
قال: "أكثرهُم للهِ ذِكرًا" وذكر بقيةَ الأعمالِ بمعْنى ما تقدم، فهذا كُلُّه
بالنسبةِ إلى الحاج.
فأمَّا أهلُ الأمصارِ فإنَّهم يشاركون الحاجَّ في عشْرِ ذي الحجَّة، في الذكر.
وإعدادِ الهَدْي، فأمَّا إعدادُ الهَدْي فإنَّ العشْر تُعَدُّ فيه الأضاحي، كما يسُوقُ
أهلُ الموسم الهَدْي، ويُشاركونهم في بعضِ إحرامِهِمْ، فإنَّ منْ دخلَ عليه
العَشْرُ وأرادَ أنْ يُضحي، فلا يأخُذْ منْ شعرِهِ ولا منْ أظفارِهِ شيئًا، كما روتْ ذلك أمُّ سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
خرَّج حديثَها مسلمٌ، وأخذَ بذلك الشافعي، وأحمدُ، وعامَّةُ فقهاءِ الحديثِ.
ومنهم منْ شرَطَ أنْ يكونَ قد اشترى هدْيَه قبْلَ العشْرِ.
وأكْثرُهُم لم يَشْرُطوا ذلك.
وخالف فيه مالكٌ، وأبو حنيفة، وكثير من الفقهاءِ، وقالوا: لا يُكره شيءٌ(2/567)
من ذلك، واستدلُّوا بحديث عائشةَ: "كُنْتُ أفتِلُ قلائدَ الهدْي لرسولِ اللَّه
- صلى الله عليه وسلم - فلا يُحَرَّم عليه شيء أحلَّهَ اللَّهُ له ".
وأجابَ كئيرٌ منْ أهلِ القولِ الأولِ: بأنه يُجْمع بين الحديثينِ، فيؤخَذُ
بحديثِ أمّ سلمةَ فيمن يُريد أن يُضحّي في مصره، وبحديثِ عائشةَ فيمن
أرْسلَ بهَدْيه مع غيرِهِ، وأقام في بلدِهِ.
وكان ابنُ عمرَ إذا ضَحَّى يومَ النَّحْرِ حَلَقَ رأسه، ونصَّ أحمدُ على
ذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قال تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والشَّفع ضدُّ الوتْرِ: فالوترُ: الفردُ
والشَّفع الزَّوْج.
ولهذا فُسِّرَ "الشَّفع " في الآية بالخَلْقِ، لأنَّ الخلقَ كُلَّهُ زوج، قال تعالى:
(وَمِن كلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) ، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) .
وفُسِّر "الوِتْرُ" باللَّه - عزَّ وجلَّ - لأنَّه وِتْر يُحبُّ الوِتْر.
* * *
قوله تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) .(2/568)
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) .
وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) .
قال الربيعُ بنُ أنسٍ في قولِهِ: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى) قال:
كُشِفَ عنْها غِطَاؤها.
وقال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) .
وروى العلاءُ بنُ خالد الكاهليُّ، عن أبي وائل، عن ابنِ مسعودٍ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يُؤتى يومئذ بجهنَّم لها سبْعون ألفَ زِمامٍ، مع كلِّ زمامٍ سبْعون ألفَ
ملَك يجرُّونها" خرَّجه مسلمٌ من طريقِ حفصِ بنِ غياث، عن العلاءِ به.
وخرَّجه الترمذيُّ من طريقِ سفيانَ عن العلاءِ موقوفًا على ابنِ مسعودٍ، ورجَّح وقْفه العقيليُّ والدارقطنيُّ.
وخرَّج ابنُ أبي حاتم منْ طريقِ عُبيدِ اللَّهِ بنِ الوليدِ الوصافيُّ، عن عطيةَ.
عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: لما نزلتْ هذه الآية: (وَجِيءَ يَوْمَئذٍ بِجَهَنَّمَ)
تغيَّر لونُ النبى - صلى الله عليه وسلم - وعُرِفَ ذلك في وجْههِ حتَّى اشتدَّ ذلك على أصحابِهِ، فسألوه فقال:
"إنه جاءني جبريلُ فأقْرأني هذه الآيةَ "
قال: "كيف يُجاءُ بها؟(2/569)
قال: يَجيءُ بها سبْعونَ ألفَ ملَكٍ يقودونها بسبعينَ ألف زمامٍ تشرد مرة، لو تُركتْ لأحرقتْ أهلَ الجمع ومَنْ عليه، ثم تُعْرضُ جهنَّم فتقول: ما لي وما لكَ يا محمد، لقد حرَّمَ اللَّه لحْمَك عليَّ، فلا يبقى أحدٌ إلا قال: نفْسِي نفْسِي، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يقول: أُمَّتي
أُمَّتي " الوصافيُّ شيح صالحٌ لا يحفظ فكثرتِ المناكيرُ في حديثِهِ.
وخرَّج أبو يعلى الموصليُّ من حديثِ أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريَ
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا جَمَع اللَّهُ الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، يومَ القيامةِ أقبلتِ النارُ.
يركبُ بعضُها بعضًا، وخزنتها يكفونها، وهي تقول: وعزةِ ربي لتخلُنَّ بيني وبين أزواجي أو لأغشينَّ الناسَ عنقًا واحدًا، فيقولون: مَنْ أزواجُكِ؟
فتقولُ: كل متكبِّرٍ جبَارٍ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ الأعمشِ عن أبي صالح، عن
أبي هُريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يخرجُ يومَ القيامةِ عنقٌ من النارِ لها عينانِ تُبْصرانِ.
وأذنانِ تَسمعانِ، ولسان ينطقُ، تقولُ: إني وُكِّلتُ بثلاثةٍ: بكُل جبارٍ عنيدٍ، وبكلِّ مَنْ دعا مع اللَّه إلهًا آخرَ، وبالمصوِّرين "
وصحَّحه الترمذيُّ وقد قِيل: إنه ليسَ بمحفوظ
بهذا الإسنادِ، وإنَّما يرويه الأعمشُ عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ، فقد روى
الأعمشُ وغيرُ واحد عن أبي سعيدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ عنقٌ من النارِ يتكلمُ، يقولُ: وُكَلتُ اليومَ بثلاثةٍ: بكلّ جبارٍ عنيدٍ، ومن جَعَلَ مع اللهِ إلهًا آخرَ، ومنْ قتَلَ نفْسًا بغير نفسٍ، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمراتِ جهنَّم "
خرَّجه الإمامُ أحمد، وخرَّجه البزار، ولفظُه:
"يخرجُ عنق من النارِ يتكلَّمُ بلسانٍ طلقٍ ذلقٍ،(2/570)
لها عينانِ تُبصرُ بهما، ولها لسان تتكلَّم به، فتقولُ: إني أمرتُ بِمَنْ جعلَ مع اللَّه إلهًا آخر، وبكُلِّ جبار عنيد، وبِكُلِّ من قتل نفْسًا بغير نفسٍ، فتنطلقُ بهم قبْلَ سائرِ الناسِ بخمسمائة عامٍ "
وقد رُوي عن عطية عن أبي سعيدٍ موقوفًا.
وروى ابنُ لهيعةَ، عن خالدِ بنِ أبي عمرانَ، عن القاسم، عن عائشة عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يخرجُ عنقٌ من النارِ، فتنطوي عليهم وتتغيَّظُ عليهم، ويقول ذلك
العنقُ: وُكلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بمن دعا مع الله إلهًا آخر، ووكِّلتُ بمن لا يؤمن بيوم الحسابِ، ووكِّلتُ بكلِّ جبار عنيدٍ، فتنطوي عليهم، فتطرحُهُم في غمراتِ جهنَّم "
خرَّجه الإمامُ أحمدُ.
ورُوي عن شهرِ بنِ حوشب عن أسماءَ بنتِ يزيدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يخرجُ عنقٌ من النارِ فيظلّ الخلاتق كلَّهم، فيقولُ: أمرتُ بكلِّ جبارٍ عنيدٍ، ومن زعم أنَه عزيزٌ كريم ومن دعا مع اللَّه إلهًا آخر".
ورواهُ أبو المنهالِ سيارُ بنُ سلامةَ عن شهرِ بنِ حوشبٍ عن ابنِ عباسٍ
موقوفًا، قالَ: إذا كان يومُ القيامة خرجَ عنق من النارِ فأشرفتْ على الخلائقِ
لها عينانِ تبصرانِ ولسان فصيحٌ تقولُ: إني وُكِّلتُ بكلِّ جبارٍ عنيد.
فتلقُطُهم من الصفوفِ فتحبسهم في نارِ جهنَّم، ثم تخرجُ ثانيًا فتقولُ: إنِّي
وكلتُ بمن آذَى اللَّه ورسولَه فلتقطُهم من الصفوف فتحبسُهُم في نارِ جهنَّم.
ثم تخرجُ ثالثةً، قال أبو المنهالِ: أحسبُ أنها قالتْ: إني وُكِّلتُ اليومَ
بأصحابِ التصاويرِ فتلقطُهُم من الصفوفِ فتحبسهم في نارِ جهنَّم.
وفي حديثِ الصورِ الطويلِ الذي خرَّجه إسحاقُ بنُ راهويه وأبو يعْلَى
الموصليُّ وغيرُهما بإسنادٍ فيه ضعف عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يأمرُ(2/571)
اللَّهُ تعالى جهنَّم فيخرجُ منها عنق ساطعة مظلمة فيقولُ: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ) إلى قوله: (أَفَلَمْ تَكونُوا تَعْقِلُونَ) ".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الشعبيِّ، عن أبي هريرة، قال:
"يُؤتَى بجهنَّم تقاد بسبعينَ ألف زمامٍ آخذٌ بكلِّ زمامِ سبعونَ ألفَ ملك، وهي تمايلُ عليهم حتَّى توقف عن يمينِ العرشِ، ويلقي اللَهُ عليها الذل يومئذٍ، فيوحِي اللَّهُ إليها ما هذا الذلُّ؟
فتقول: يا ربِّ أخافُ أن يكونَ لك فيَّ نقمةٌ، فيوحي
اللَّهُ إليها: إنما خلقتُكِ نقمة وليس لي فيك نقمةٌ، ويوحي اللَّهُ إليها فتزفرُ
زفرةً لا تبقي دمعةً في عين إلا جرتْ، ثم تزفرُ أخرى فلا يَبْقَى ملَكٌ مقربٌ
ولا نبي مرسلٌ إلا صعقَ، إلا نبيكم نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ياربِّ أُمَّتي أُمَّتي".
وروى عبدُ اللَّه بنُ الإمامِ أحمدَ بإسنادِهِ عن أبي عبدِ اللَّه الجدليِّ، عن
عبادة بن الصامتِ وكدب قالا: يخرجُ عنقٌ من النارِ فيقولُ: أمرتُ بثلاثة:
بمن جعلَ مع اللَّه إلهًا آخر، وبكلِّ جبارٍ عنيدٍ، وبكُل معتد، ألا إني أعرفُ
بالرجلِ من الوالد بولدِهِ والمولودِ بوالدِهِ.
* * *
[قالَ البخاريُّ] : حدثنا أبو اليمانِ: نا شُعَيْبٌ، عن الزُّهريِّ: أخبرني
سعيدُ بنُ المسيب وعطاءُ بنُ يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبرهما أنَّ الناس
قالوا: يا رسول اللَّه: هل نَرَى ربَّنا يومَ القيامة؟
قال: "هل تُمَارُون في القمر ليْلةَ البدْرِ ليس دُونَه سحابٌ "
قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: "هل تُمارُون في رؤيةِ(2/572)
الشمس ليس دونها سحابٌ؟ "
قالوا: لا.
قال: "فإنكم ترونه كذلك، يُحْشرُ الناسُ يومَ القيامةِ، فيقولُ: مَنْ كان يعبدُ شيئا فليتَبعْهُ، فمنهم من يتبعُ الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمَّةُ فيها منافقوها، فيأتيهم اللهُ، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون: هذا مكانُنا حتى يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفْنَاه، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ فيقول: أنا ربُّكم فيقولون: أنت ربُّنا، فيدعوهم، ويُضْربُ الصراطُ بيْنَ ظهراني جهتم، فأكونُ أول من يجُوزُ من الرسلِ
بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذ أحدٌ إلا الرسل، وكلامُ الرسلِ يومئذ: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، وفي جهنم كلاليبُ مثلُ شوْكِ السَّعدانِ، هل رأيتُم شوْك السَّعْدان؟! قالوا: نعم.
قال: "فإنها مثلُ شوْكِ السَّعْدان، كير أنه لا يعلمُ قدرَ عِظَمها إلا اللَّهُ، تخطفُ الناسَ بأعمالهم، فمنهم من يُوبقُ بعملِهِ، ومنهم من يُخَرْدَلُ، ثمَ ينْجُوا، حتى إذا أراد اللَّه رحمةَ من أرادَ منْ أهل النار، اْمرَ اللَهُ عزَّ وجلَّ الملائكةَ أنْ يُخْرِجوا من النَّارِ منْ كان يعبُدُ اللَّه، فيُخْرِجُوهم ويعرفُونَهُم بآثارِ السجود.
وحرَّم اللَّهُ عزَّ وجلَّ على النارِ أن تأكل أثر السجودِ، فيخْرُجون من النَارِ، فكُل ابنِ آدمَ تأكله النارُ إلا أثرَ السجودِ، فيخْرُجُون من النَّارِ قد امتحشوا، فيُصبُّ عليهم ماءُ الحياةِ فينبتونَ كما تنبُتُ الحبَّةُ في حميلِ السيل ".
وفي الحديث: دليلٌ على أنَّ المشركينَ الذين كانوا يعبدونَ في الدنيا من
دون اللَّه آلهة يتبعون المهتَهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردنهم النار.
كما قال تعالى في حقِّ فرعون: (يَقْدُمُ قوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) .
ويبقى من كان يعبدُ اللَّهَ وحدَه ظاهرًا، مؤمنًا كان أو منافقًا، فهؤلاءِ(2/573)
ينظرونَ من كانُوا يعبدونه في الدنيا، وهو اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له.
ففي هذا الحديث: أنَّ اللَّه يأتيهم أولَ مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة
الثانية فيعرفونه.
وقد دلَّ القرآن على ما دلَّ عليه هذا الحديث في مواضعَ، كقوله
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ)
وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)
وقال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) .
ولم يتأولِ الصحابة ولا التابعونَ شيئًا من ذلك، ولا أخرجُوه عن مدلوله.
بل رُوي عنهم ما يدلُّ على تقريرِه والإيمانِ به وإمرارِه كما جاء.
وقد رُوي عن الإمامِ أحمدَ، أنه قال في مجيئِهِ: هو مجيءُ أمرِهِ.
وهذا مما تفرَّدَ به حنبلٌ عنه.
فمن أصحَابنا من قال: وهِمَ حنبلٌ فيما رَوى، وهو خلافُ مذهبه المعروفِ
المتواتر عنه.
وكان أبو بكر الخلاَّلُ وصاحبُه لا يثبتان بما تفرد به حنبلٌ، عن أحمدَ
روايةً.
ومن متأخرِيهم من قال: هو روايةٌ عنه، بتأويلِ كلِّ ما كان من جنسِ
المجيءِ والإتيانِ ونحوهِما.
ومنهم من قال: إنَّما قال ذلك إلزامًا لمن ناظرَهُ في القرآن، فإنهم استدلُّوا(2/574)
على خلقِهِ بمجيءِ القرآنِ، فقال: إنَّما يجيءُ ثوابُهُ، كقولِهِ: (وَجَاءَ رَبُّكَ) .
أي: كما تقولون أنتم في مجيءِ اللَّه أنه مجيءُ أمر.
وهذا أصحُّ المسالكِ في هذا المرويِّ.
وأصحابُنا في هذا على ثلاثِ فرقٍ:
فمنهم من يثبتُ المجيءَ والإتيانَ، ويصرحُ بلوازمِ ذلك في المخلوقاتِ.
وربما ذكروه عن أحمدَ من وجوهٍ لا تصحُّ أسانيدُها عنه.
ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره.
ومنهم من يقرُّ ذلك، ويُمِرُّه كما جاء، ولا يفسِّره، ويقولُ: هو مجيءٌ
وإتيانٌ يليقُ بجلالِ اللَّه وعظمتِهِ سبحانه.
وهذا هو الصحيحُ عن أحمدَ، ومن قبلَه منَ السلفِ، وهو قولُ إسحاقَ
وغيرِه من الأئمةِ.
وكان السلفُ ينسبونَ تأويلَ هذه الآياتِ والأحاديثِ
الصحيحةِ إلى الجهميةِ.
لأن جهمًا وأصحابَهُ أولُ منِ اشتُهِرَ عنهم أنَّ اللَّه تعالى منزهٌ عما دلتْ
عليه هذه النصوصُ بأدلةِ العقولِ التي سمَّوْها أدلةً قطعيةً هي المحكماتُ.
وجعلُوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهاتُ، فعرضُوا ما فِيهَا على تلكَ
الخيالاتِ، فقبِلُوا ما دلَّتْ على ثبوتِهِ بزعمهم، وردُّوا ما دلتْ على نفيه
بزعمهم، ووافقَهم على ذلك سائرُ طوائفِ أهلِ الكلامِ من المعتزلةِ وغيرِهم.
وزعمُوا أنَّ ظاهرَ ما يدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ تشبيهٌ وتجسيمٌ وضلالٌ.
واشتقُّوا من ذلك لمن آمنَ بما أنزل اللَّهُ على رسولِهِ أسماءً ما أنزلَ اللَّه بها من(2/575)
سلطان، بل هي افتراءٌ على اللَّه، ينفِّرون بها عن الإيمانِ باللَّه ورسولِهِ.
وزعمُوا أنَّ ما وردَ في الكتابِ والسنة من ذلك - مع كثرتِهِ وانتشارِهِ - من
بابِ التوسع والتجوزِ، وأنه يحملُ على مجازاتِ اللغةِ المستبعدةَ، وهذا من
أعظم أبوابِ القدح في الشريعةِ المحكمة المطهرةِ، وهو من جنسِ حملِ
الباطنيةِ نصوصَ الإخبارِ عن الغيوبِ كالمعادِ والجنَّة والنارِ على التوسع والمجازِ
دونَ الحقيقةِ، وحملِهم نصوصَ الأمرِ والنهي على مثلِ ذلك، وهذا كلُّه
مروق عن دينِ الإسلام.
ولم ينهَ علماءُ السلفِ الصالح وأئمةُ الإسلامِ كالشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهما
عن الكلامِ وحذَّرُوا عنه، إلا خوفًا من الوقوع في مثلِ ذلك، ولو علمَ هؤلاءِ الأئمةُ أنَّ حملَ النصوصِ على ظاهرِها كفر لوجبَ عليهم تبيينُ ذلك وتحذير الأُمَّة منه " فإنَّ ذلك من تمامِ نصيحة المسلمين، فكيفَ كان ينصحونَ الأُمَّةَ فيما يتعلقُ بالأحكامِ العملية ويدَعُون نصيحتَهم فيما يتعلقُ بأصولِ
الاعتقاداتِ، هذا من أبطلِ الباطلِ.
قال أبو عبد الرحمنِ السلميّ الصوفيُّ: سمعتُ عبد الرحمن بن محمد بن
جابر السلميَّ يقول: سمعتُ محمدَ بنَ عقيلِ بنِ الأزهرِ الفقيهَ يقولُ: جاء
رجلٌ إلى المزني يسأله عن شيءِ من الكلامِ، فقال: إنِّي أكرهُ هذا، بل أنْهى
عنه، كما نهَى عنه الشافعي؛ فإني سمعتُ الشافعيَّ يقولُ: سئلَ الليث عن
الكلامِ والتوحيد، فقال مالكٌ: محالٌ أن يُظنَّ بالنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه علَّم أُمته الاستنجاءَ ولم يعَلمْهُمُ التوحيدَ، فالتوحيدُ ما قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولُوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالُوها عصموا مني دماءَهم وأموالَهم "(2/576)
فما عصَم الدمَ والمالَ فهو حقيقةُ التوحيدِ. انتهى.
وقد صحَّ عن ابنِ عباسٍ أنه أنكر على من استنكرَ شيئًا من هذه
النصوصِ، وزعمَ أنَّ اللَّه منزهٌ عما تدلُّ عليه.
فروى عبدُ الرزاقِ في "كتابِهِ " عن معمر، عن ابنِ طاووسَ، عن أبيه.
قال: سمعتُ رجلاً يحدِّثُ ابنَ عباسٍ بحديثِ أبي هريرة: "تحاجَّتِ الجنةُ
والنارُ"، وفيه: "فلا تمتلئُ حتَى يضع رِجْله " - أو قال: "قدمَهَ فيها"
قال: فقامَ رجلٌ فانتفضَ، فقال ابنُ عباسٍ: ما فرقُ هؤلاءِ، يجدونَ رقةً عند محكمِهِ، ويهلكُون عند متشابهه.
وخرَّجه إسحاقُ بنُ راهويه في "مسندِهِ " عن عبدِ الرزاق.
ولو كانَ لذلكَ عندَهُ تأويل لذكرهُ للناسِ ولم يسعْه كتمانُه.
وقد قابَل هؤلاءِ المتكلمينَ طوائف آخرون، فتكلَّموا في تقريرِ هذه
النصوصِ بأدلة عقلية، وردُّوا على النفاةِ، ووسَّعوا القولَ في ذلك، وبيَّنوا أن لازَم النَّفْي التعطيلُ المحضُ.
وأما طريقةُ أئمة أهلِ الحديثِ وسلفِ الأمَّة: فهي الكفُّ عن الكلامِ في
ذلك من الطرفينِ، وإقرارُ النصوصِ، وإمرارِها كما جاءتْ، ونفي الكيفيةِ
عنها والتمثيلِ.
وقد قال الخطابيُّ في "الأعلامِ": مذهبُ السلفِ في أحاديثِ الصفاتِ:
الإيمانُ، وإجراؤها على ظاهرِها، ونفيُ الكيفيةِ عنها.(2/577)
ومن قال: الظاهرُ منها غيرُ مرادٍ، قيلَ له: الظاهرُ ظاهرانِ: ظاهرٌ يليقُ
بالمخلوقينِ ويختصُّ بهم، فهو غيرُ مراد، وظاهرٌ يليقُ بذي الجلالِ والإكرامِ.
فهو مرادٌ، ونفيهُ تعطيلٌ.
ولقد قال بعضُ أئمةِ الكلامِ والفلسفةِ من شيوخ الصوفيةِ الذي يحسنُ به
الظنَّ المتكلمونَ: إن المتكلمينَ بالغُوا في تنزيهِ اللَّهِ عن مشابهةِ الأجسامِ.
فوقعُوا في تشبيهه بالمعاني، والمعانِي محدَثةٌ كالأجسامِ، فلم يخرجُوا عن
تشبيهه بالمخلوقاتِ.
وهذا كلُّه إنَّما أتى من ظنِّ أن تفاصيلَ معرفةِ الجائزِ على اللَّه والمستحيلِ
عليه يُؤخذُ من أدلةِ العقولِ، ولا يُؤخذُ مما جاءَ به الرسولُ.
وأمَّا أهلُ العلم والإيمانِ، فيعلَمون أنَّ ذلك كلَّه متلقًى مما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وأنَّ ما جاءَ به من ذلك عن ربِّه فهو الحقُّ الذي لا مزيدَ عليه، ولا عدولَ عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهُدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب اللَّه ولا سنة رسولِهِ الصحيحة ما ظاهرُه كفرٌ أو تشبيهٌ أو مستحيلٌ، بل كلُّ ما أثبته اللَّهُ لنفسِهِ، أو أثبته له رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حق وصدقٌ، يجبُ اعتقادُ ثبوتِهِ مع نفْي التمثيلِ عنه، فكما أنَّ اللَّهَ ليس كمثلِهِ شيء في ذاتِهِ، فكذلك في صفاتِهِ.
وما أُشكلَ فهمُهُ من ذلك، فإنه يقالُ فيه ما مدَح اللَّه الراسخينَ من أهل
المحلم، أنهم يقولون عند المتشابهاتِ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وما أمر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في متشابِهِ الكتابِ، أنه يُردُّ إلى عالمِهِ، واللَّهُ يقول الحقَّ ويهدي السبيلَ.(2/578)
وكلمةُ السلفِ وأئمةِ أهلِ الحديثِ متفقة على أنَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها
الصحيحةَ كلَّها تُمَر كما جاءتْ، من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، ولا تحريفٍ ولا
تعطيلٍ.
قال أبو هلالٍ: سأل رجل الحسنَ عن شيءٍ من صفة الربِّ عزَّ وجلَّ.
فقال: أمِرُّوها بلا مثال.
وقال وكيع: أدركتُ إسماعيلَ بنَ أبي خالد وسفيانَ ومِسْعرًا، يحدِّثون
بهذه الأحاديثِ، ولا يفسِّرون شيئًا.
وقال الأوزاعيُّ: سُئلَ مكحولٌ والزهريُّ عن تفسيرِ هذه الأحاديثِ، فقالا:
أمِرَّها على ما جاءتْ.
وقال الوليدُ بنُ مسلم: سألتُ الأوزاعيَّ ومالكًا وسفيانَ وليثًا عن هذه
الأحاديثِ التي فيها الصفةُ والقرآنُ، فقالوا: أمِرُّوها بلا كيفٍ.
وقال ابنُ عيينةَ: ما وصفَ اللَّهُ به نفسَهُ فقراءتُهُ تفسيرُه، ليسَ لأحدٍ أن
يفسرَهُ إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
وكلامُ السلفِ في مثلِ هذا كثير جدًّا.
وقال أشهبُ: سمعتُ مالكًا يقولُ: إيَّاكم وأهلَ البدع.
فقيلَ: يا أبا عبد اللَّه، وما البدعُ؟
قال: أهلُ البدع الذين يتكلمونَ في أسماءِ اللَّه وصفاتِهِ
وعلمِهِ وقدرتِهِ ولا يسكتونَ عما سكتَ عنه الصحابةُ والتابعونَ لهم بإحسانٍ.
خرَّجه أبو عبد الرحمن السلميُّ الصوفيُّ في كتابِ "ذمِّ الكلامِ ".(2/579)
وروى - أيضًا - باسانيدِهِ ذمَّ الكلامِ وأهلِهِ عن مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأبي
يوسُفَ، ومحمدٍ وابن مهدي، وأبي عبيدِ، والشافعيِّ، والمزنيِّ، وابن خزيمة.
وذكر ابنُ خزيمةَ النهيَ عنه عن مالكٌ والثوريِّ والأوزاعي والشافعي وأبي
حنيفةَ وصاحبيه وأحمدَ وإسحاقَ وابنِ المبارك ويحعى بنِ يحيى ومحمد بنِ
يحى الذُّهليِّ.
وروى السلميّ - أيضًا - النهيَ عن الكلامِ وذمَّه عن الجنيدِ وإبراهيم
الخواصِ.
فتبيَّنَ بذلك أن النهي عن الكلامِ إجماعٌ من جميع أئمةِ الدين من المتقدمينَ
من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ والصوفيةِ، وأنه قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيَ
وأحمد وإسحاقَ وأبي عبيدٍ وغيرِهم من أئمة المسلمينَ.
ومن جملة صفاتِ اللَّه التي نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءتْ عندهم:
قولُه تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ونحو ذلك مما دلَّ على إتيانه
ومجيئهِ يومَ القيامة.
وقد نصَّ على ذلكَ أحمدُ وإسحاقُ وغيرُهما.
وعندهما: أن ذلك من أفعالِ اللَّه الاختياريةِ التي يفعلُها بمشيئَتِهِ واختيار.
وكذلك قالَه الفضيلُ بنُ عياضٍ وغيرُه من مشايخ الصوفيةِ أهلِ المعرفةِ.
وقد ذكرَ حربٌ الكرْمانيُّ أنه أدركَ على هذا القولِ كلَّ مَن أخذَ عنه العلمَ
في البلدانِ، وسمى منهُم: أحمدَ وإسحاقَ والحميدي وسعيدَ بنَ منصورٍ.
وكذلكَ ذكرَه أبو الحسنِ الأشعريِّ في كتابِهِ المسمَّى بـ "الإبانة"، وهو من
أجلِّ كتبِهِ، وعليه يعتمدُ العلماءُ وينقلُون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابونيِّ(2/580)
وأبي القاسم ابنِ عساكرٍ وغيرِهم.
وقد شرحَهُ القاضي أبو بكرِ ابنُ الباقلانيِّ.
وقد ذكرَ الأشعريُّ في بعص كتبِهِ أن طريقةَ المتكلمينَ في الاستدلالِ على
قدَمِ الصانع وحدوثِ العالَم بالجواهرِ والأجسامِ والأعراضِ محرمةٌ عندَ علماء
المسلمين.
وقد رُوي ذمُّ ذلك وإنكارُه ونسبتُه إلى الفلاسفة عن أبي حنيفةَ.
وقال ابن سريج: توحيدُ أهلِ العلم وجماعةِ المسلمين: الشهادتان.
وتوحيدُ أهلِ الباطنِ من المسلمينَ: الخوضُ في الأعراضِ والأجسامِ، وإنَّما
بُعِث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإنكارِ ذلك.
خرَّجه أبو عبد الرحمن السلمي.
وكذلك ذكره الخطابيُّ في رسالتهِ في "الغنية عن الكلامِ وأهلِهِ ".
وهذا يدلُّ على أن ما يؤخذُ من كلامِهِ في كثيرٍ من كتبِهِ مما يخالفُ ذلك
ويوافقُ طريقةَ المتكلمينَ فقد رجعَ عنه، فإن نفيَ كثيرٍ من الصفاتِ إنما هو
مبنيٌ على ثبوتِ هذه الطريقةِ.
قال الخطابيُّ في هذه الرسالةِ في هذه الطريقةِ في إثباتِ الصانع: إنما هو
شيءٌ أخذهُ المتكلمونَ عن الفلاسفةِ، وإنما سلكتِ الفلاسفةُ هذه الطريقةَ لأنهم لا يُثبتون النبوَّاتِ ولا يرون لها حقيقةً، فكان أقوى شيءٍ عندَهم في الدلالةِ على إثباتِ هذه الأمورِ ما تعلَّقوا به من الاستدلالِ بهذه الأشياءِ، فأمَّا مثبتو النبوَّاتِ، فقد أغناهم اللَّهُ عن ذلك، وكفاهم كلفةَ المؤنةِ في ركوبِ هذه الطريقةِ المتعرِّجةِ التي لا يُؤمَنُ العنتُ على مَن ركبَها، والإبداع والانقطاعُ(2/581)
على سالِكها.
ثم ذكرَ أن الطريقَ الصحيحةَ في ذلك: الاستدلالُ بالصنعةِ على صانعها.
كما تضمَّنه القرآنُ، وندب إلى الاستدلالِ به في مواضعَ، وبه تشهدُ الفطرُ
السليمةُ المستقيمةُ.
ثم ذكر طريقتَهم التي استدلُّوا بها، وما فيها من الاضطراب والفسادِ
والتناقضِ والاختلافِ.
ثم قال: فلا تشتغلْ - رحمكَ اللَّهُ - بكلامهِم، ولا تغترَّ بكثرةِ مقالاتهم.
فإنَّها سريعةُ التهافتِ، كثيرةُ التناقضِ، وما من كلامٍ تسمعُه لفرقة منهم إلا
ولخصومِهِم عليه كلامٌ يوازيه ويفارقُه، فكل بكلٍّ معارضٌ، وبعضهم ببعضٍ
مقابلٌ.
قال: وإنَّما يكونُ تقدُّمُ الواحدِ منهم وفلجه على خصمِهِ بقدرِ حظّه من
الثبات والحذقِ في صنعةِ الجدالِ والكلامِ، وأكثرُ ما يظهرُ به بعضُهم على
بعضٍ إَنّما هو إلزامٌ من طريقِ الجدلِ على أصولِ مؤصلة لهم، ومناقضات
على مقالاتٍ حفظُوها عليْهم [. . .] (1) تقودها وطردها، فمَّنَ تقاعدَ عن شيءَّ
مَنها سمَّوْه من طريقِ [. . .] (1) جعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمِه عليه.
والجدلُ لا يقومُ به حقٌّ [. . .] (1) به حجة.
وقد يكون الخصمانِ على مقالتينِ مختلفتينِ، كلاهما باطل، ويكونُ
الحقُّ في ثالث غيرهما، فمناقضةُ أحدِهما صاحبَه غيرُ مصحِّح
مذهبَه، وإن كانَّ مَفسدًا به قولَ خصمِهِ، لأنهما مجتمعان معًا في الخطأ.
__________
(1) بياض بالأصل.(2/582)
مشتركان فيه، كقول الشاعر:
حُجَج تهَافَتُ كالزَّجاج (1) تخَالُها. . . حقًّا وكُلٌّ واهِن مكسُورُ
ومتى كان الأمرُ كذلك، فإنَّ أحدًا من الفريقينِ لا يعتمدُ في مقالتِه التي
نصرَها أصلاً صحيحًا، وإنَّما هو أوضاع وآراءُ تتكافأ وتتقابلُ، فيكثر المقالُ، ويدومُ الاختلافُ، ويقلُّ الصوابُ، كما قال تعالى:
(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) ، فأخبرَ تعالى أنَّ ما كثرَ فيه الاختلافُ فليسَ من عندِهِ، وهو من أدلِّ الدليلِ على أنَّ مذاهبَ المتكلمين مذاهبُ فاسدة، لكثرة ما يوجدُ فيها من الاختلافِ المفضي بهم إلى التكفيرِ والتضليلِ.
وذكرَ بقيةَ الرسالةَ، وهي حسنة متضمِّنة لفوائدَ جليلةٍ، وإنما ذكرْنا هذا
القدرَ منها ليتبيَّن به أنَ القواعدَ العقليةَ التي يدَّعي أهلُها أنه قطعيات لا تقبلُ
الاحتمالَ، فتردُّ لأجلِها - بزعمِهم - نصوصُ الكتابِ والسنةِ وتصرفُ عن
مدلولاتها، إنما هي عندَ الراسخينَ شبهاتٌ جهلياتٌ، لا تساوِي سماعَها، ولا
قراءتَها، فضلاً عن أنْ يُردَّ لأجلها ما جاءَ عن اللَّه ورسولِهِ، أو يحرفَ شيء
من ذلك عن مواضعِهِ.
وإنَّما القطعياتُ ما جاءَ عن اللَّهِ ورسولِهِ من الآياتِ المحكماتِ البينات.
والنصوصِ الواضحاتِ، فتردُّ إليها المتشابهاتُ، وجميعُ كتبِ اللَّه المنزلةِ متفقة
على معنًى واحدٍ، وإن ما فيها محكماتٌ ومتشابهاتٌ، فالراسخونَ في العلم
يؤمنونَ بذلك كلِّه، ويردونَ المتشابهَ إلى المحكم، ويكلُون ما أُشْكِلَ عليهم
__________
(1) الزجاج: رعاع الناس.(2/583)
فهمُه إلى عالمِهِ، والذين في قلوبِهِم زيغٌ يتبعونَ ما تشابَهُ منه ابتغاءَ الفتنة
وابتغاءَ تأويلِهِ، فيضربونَ كتابَ اللَّه بعضَه ببعض، ويردُّون المحكمَ.
ويتمسكونَ بالمتشابهِ ابتغاءَ الفتنةِ، ويحرّفون المحكمَ عن مواضعِه، ويعتمدونَ
على شبهاتٍ وخيالاتٍ لا حقيقةَ لها، بلْ هي من وساوسِ الشيطانِ
وخيالاتِهِ، يقذفُها في القلوبِ.
فأهلُ العلم والإيمانِ يمتثلون في هذه الشبهاتِ ما أمرُوا به من الاستعاذةِ
باللَّه، والانتهاء عما ألقاه الشيطانُ، وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك من علاماتِ الإيمانِ، وغيرُهم فيصغونَ إلى تلك الشبهاتِ، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمةَ لها في نفسها وليس لها معنىً يصحُّ، فيجعلون تلك الألفاظ - محكمةً لا تقبلُ التأويلَ، فيردُّون كلامَ الله ورسولِهِ إليها، ويعرضونه عليها، ويحرّفونه عن مواضعِه لأجلها.
هذه طريقةُ طوائف أهلِ البدع المحضةِ من الجهميةِ والخوارج والروافضِ
والمعتزلةِ ومن أشبَههُم، وقد وقعَ في شيء من ذلك كثيرٌ من المتأخرينَ
المنتسبين إلى السنة من أهلِ الحديثِ والفقهِ والتصوفِ من أصحابِنا وغيرِهم في
بعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ.
وأمَّا السلفُ وأئمةُ أهلِ الحديثِ، فعلى الطريقةِ الأولى، وهي الإيمانُ
بجميع ما أثبتَهُ اللَهُ لنفسه في كتابِهِ، أو صحَّ عن رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبتَه له، مع نفي التمثيلِ والكيفيةِ عنه، كما قالَه ربيعةُ ومالكٌ وغيرُهما من أئمةِ الهدى في الاستواء، ورُوي عن أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين، وقال مثلَ ذلك غيرُهم من العلماء في النزولِ، وكذلك القولُ في سائر الصفاتِ، واللهُ سبحانه وتعالى الموفقُ.(2/584)
وقولُه - صلى الله عليه وسلم -:، فأكون أولَ من يجوزُ بأمَّتِه حتى يقطع الجسرَ بأمَّتِه.
وروي: "يجيزُ"، وهما لغتان، يقال: جُزتُ الوادِي وأجزتُه، وهما
بمعنىً.
وعن الأصمعى، قال: أجزته: قطعتُه، وجزته: مشيتُ عليه.
وقولُه: "منهم الموبَقُ بعملِه" أي: الهالك.
وقولُه: "ومنهم المخردلُ"، هو بالدالِ المهملةِ والمعجمةِ -: لغتانِ مشهورتانِ، والمعنى: المقطَّعُ، والمراد - واللَّه أعلم -: أن منهم من يهلكُ فيقعُ في النارِ، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسرِ جهنَّم، ثم لا ينجوُ ولا يقع في النارِ.
وقيل: معناه أنه ينقطعُ عن النجاةِ واللحاقِ بالناجينِ.
والمقصودُ من تخريج الحديثِ بطولهِ في هذا البابِ: أنَّ أهلَ
التوحيدِ لا تأكل النار منهم مواضعَ سجودِهِم، وذلك دليلٌ على فضلِ
السجودِ عندَ اللهِ وعظمتِهِ، حيث حرَم على النارِ أن تأكل مواضعَ سجودِ أهلِ التوحيدِ.
واستدل بذلك بعضُ من يقول: إنَّ تارك الصلاةِ كافرٌ، فإنَه تأكلُه النارُ
كلَّه، فلا يبقى حالُه حالَ عصاةِ الموحدينَ.
وهذا فيمَنْ لم يصل للهِ صلاةً قطُّ ظاهرٌ.
وقولُه: "امتُحِشوا" أي: احترقوا، وضُبطت هذه الكلمة بفتح التاءِ والحاءِ.
وفي بعضِ النسخ بضم التاء وكسرِ الحاءِ.(2/585)
و"الحِبَّةُ" بكسر الحاء، قال الأصمعي: كُلُّ نبتٍ له حبٌّ فاسْمُ جميع ذلك
الحبِّ الحِبَّةُ، وقال الفراء: الحِبةُ: بذور البقلِ، وقال أبو عمروٍ: الحِبَّةُ نبت
ينبت في الحشيش صغارٌ.
وقال الكسائيُّ: الحِبَّةُ بذرُ الرياحين، واحدتها حبَّةٌ، وأما الحِنطة فهو الحبُّ
لا غير، يعني الفتح.
و"الحميل ": ما حمله السيل من كل شيءٍ، فهو حميلٌ بمعنى محمول.
كقتيل بمعنى مقتول.
* * *(2/586)
سُورَةُ البَلَدِ
قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
رَوى عطيةُ عن ابنِ عمرَ في قولِهِ تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) .
قال: جبلُ زلزالٍ في جهنَّمَ.
وروى ابن أبي حاتمم بإسناده عن كعب، قال: اقتحام العقبة في كتاب اللَّه
- يعني: قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) - سبعين درجة في النار.
وعن ضمرة قال: سمعت أبا رجاء قال: بلغني أن العقبة التي ذكر اللَّه في
كتابه: مطلعها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة.
وعن عطية، عن ابن عمر، قال في العقبة: "جبل في جهنم، أفلا أجاوزه
بعتق رقبة؟! ".
وعن مقاتل بن حيان، قال: هي عقبة في جهنم، قيل: بأي شيء تقطع؟
قال: رقبة.
وفي "الصحيحين "، ولفظه للبخاري عن ابن عمر قال: رأيت في المنام
أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، ثم لقيني ملك
في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرعَ، نِعْمَ الرجلُ أنت لو كنت(2/587)
تكثر الصلاة من الليل، فانطلقوا بي، حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا
هي مطوية كطي البئر، لها قرون كقرون البئر، بين كل قرنين ملك بيده
مقمعة من حديد، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسل رءوسهم أسفلهم.
وعرفت رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على
حفصة، فقصتها حفصة على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن عبد الله رجل صالح".
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) .
وقال عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) .
وقال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) .
وقال: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) .
قال مجاهدٌ: هذه نعَمٌ من اللَّه متظاهرة يقرِّرُكَ بها كيما تشكر.
وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية، فبكى، فسُئلَ عن بكائِهِ، فقال: هل بِتَّ ليلةً
شاكرًا للَّه أن جعلَ لك عينينِ تُبصر بهما؟ هل بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّه أنْ جعلَ
لك لسانًا تنطقُ به؟ وجعلَ يعدِّدُ من هذا الضَّرْبِ.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن سلمانَ الفارسيِّ، قال: إنَّ رجلاً بُسِطَ له(2/588)
منَ الدنيا، فانتُزِعَ ما في يديه، فجعل يحمَدُ اللَّه عزَّ وجلَّ، ويُثني عليه.
حتَّى لم يكنْ له فراشٌ إلا بوري فجعلَ يحمدُ اللَّهَ، ويُثني عليه، وبُسِطَ
لآخرَ من الدنيا، فقال لصاحبِ البُوري (1) : أرأيتك أنتَ على ما تحمدُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟
قال: أحْمَدُهُ على ما لو أُعْطِيتُ به ما أعْطيَ الخلْقُ، لم أُغطِهِمْ إيَّاه.
قال: وما ذاك؟
قال: أرأيت بصرَك؟ أرأيتَ لسانَك؟ أرأيتَ يديك؟ أرأيتَ
رجلَيْك؟
وبإسنادِهِ عن أبي الدرداءِ أنه كان يقولُ: الصحَّةُ غِنى الجسدِ.
وعن يونسَ بنِ عبيدٍ: أنَّ رجلاً شكا إليه ضيقَ حالِهِ، فقال له يونسُ:
أيسُرُّك أنَّ لك ببصرِك هذا الذي تُبْصِرُ به مائةَ ألف درهم؟
قال الرجل: لا.
قال: فبرجليك؟
قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ اللَّه عليه، فقال يونسُ: أرى
عندك مِئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجةَ.
وعن وهبِ بنِ مُنبِّهٍ، قال: مكتوبٌ في حكمةِ آلِ داودَ: العافيةُ المُلك
الخفيُ.
وعن بكرٍ المزنيِّ، قال: يا ابنَ آدمَ، إنْ أردتَ أنْ تعلم قدرَ ما أنعم اللَّه
عليك، فغمِّض عينيك.
وفي بعض الآثارِ: كم منْ نِعمَةٍ للَّه في عرقٍ ساكنٍ.
وفي "صحيح البخاري" عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعْمتانِ مغْبُون فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحَّةُ والفراغُ ".
__________
(1) البوري: هو الحصير المنسوج.(2/589)
سُورَةُ الشَّمْسِ
قال الله عز وجل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
والمعنى قد أفلحَ من زكَّى نفسَهُ بطاعةِ اللَّه، وخابَ من دسَّاها بالمعاصي.
فالطاعةُ تُزكِّي النفسَ وتُطهرُها، فترتفعُ، والمعاصي تُدسِّي النَّفْسَ، وتقمعُها، فتنخفضُ، وتصيرُ كالذي يُدسُّ في التراب.
* * *(2/590)
سُورَةُ الضُّحَى
قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وقال في سورةِ الضُّحى: لما توالى فيها قسَمانِ، وجوابَانِ مثبتان، وجوابان
نافيانِ، فالقسمانِ: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) .
والجوابان النافيان: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
والجوابان المثبتان: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) .
ثم قررَ بنعمٍ ثلاث، وأتبعهنَّ بوصايا ثلاث: كل واحدة من الوصايا شكرُ
النعمةِ التي قوبِلَتْ بها.
فإحداهنَّ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَثِيمًا فَآوَى) وجوابها: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) .
والثانية: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) فقابلها بقولِهِ: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) .
وهذا لأنَّ السائلَ ضالٌّ يبغي الهُدى.
والثالثةُ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فقابَلها بقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) .
وإنَّما قال: (وَمَا قَلَى) ولم يقلْ: وما قلاكَ، لأن القِلَى بغضٌ بعدَ حبٍّ.(2/591)
وذلك لا يجوز على اللَّهِ تعالى.
والمعنى: وما قلى أحدًا قط، ثم قال:
(وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لكَ مِنَ الأُولَى) ولم يقلْ: خير على الإطلاقِ، وإنَّما المعنى خير
لك ولمن آمن بك.
وقوله: (فَآوَى) ولم يقلْ: فآواك، لأنه أرادَ: آوى بك إلى يومِ القيامةِ.
* * *
قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)
وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) .
والمرادُ وجدَك غيرَ عالم بما علَّمَك من الكتابِ والحكمةِ، كما قالَ تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) فالإنسانُ يُولدُ مفطورًا على قبولِ الحقّ، فإنْ هداه اللَّهُ سبَّبَ له منْ يعلمُهُ الهُدى، فصارَ مهتديًا بالفعلِ بعدَ أن كان مهتديًا بالقوَّةِ، وإنْ خذَلَهُ قيَّضَ له من يعلِمُهُ ما يُغيرُ فطرتَه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"كلُّ مولود يولد على الفطرةِ، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ ويُنصرانِهِ ويمجِّسانِهِ ".
* * *(2/592)
سُورَةُ الشَّرْح
قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ مع العسرِ يُسرًا" هو مُنتزعٌ من قولِهِ تعالى: (سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يسْرًا) .
وقولُه عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
وخرَّج البزارُ في "مسندِهِ " وابنُ أبي حاتمٍ - واللفظُ له - من حديثِ أنسٍ
عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لو جاءَ العُسْرُ، فدخلَ هذا الجُحْر، لجاءَ اليسرُ حتَى يدخلَ
عليه فيُخْرِجَه "، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
وروى ابنُ جريرٍ وغيرُه من حديثِ الحسنِ مرسلاً نحوَه، وفي حديثِه:
فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسرينِ ".
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن ابنِ مسعود، قال:
" لو أنَّ العسرَ دخلَ في جحرٍ لجاءَ اليسرُ حتَّى يدخل معه، ثم قال: قال اللَّهُ تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
وبإسنادِهِ أنَّ أبا عبيدةَ حُصِرَ فكتبَ إليه عمرُ يقول: مهما ينزل بامرئٍ شدَّة(2/593)
يجعلُ اللَّه له بعدَها فرجًا، وإنَه لن يَغْلِبَ عسرٌ يسرينِ، وإنه يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) .
ومن لطائف أسرارِ اقترانِ الفرج بالكربِ واليُسرِ بالعسرِ: أن الكربَ إذا
اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى، حصلَ للعبدِ الإياسُ من كَشْفِهِ من جهةِ المخلوقين.
وتعلَّقَ قلبُه بالله وحدَهُ، وهذا هو حقيقةُ التوكُلِ على اللَّه، وهو من أعظم
الأسبابِ التي تُطلَبُ بها الحوائجُ، فإنَّ اللَّهَ يكفي من توكَّل عليه"، كما قال:
(وَمَن يَتَوَكلْ عَلَى اللهِ فَهوَ حَسْبُهُ) .
وروى آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" بإسنادِهِ عن محمدِ بنِ إسحاقَ قال:
جاء مالكٌ الأشجعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أُسِرَ ابْنِي عوفٌ، فقالَ له: "أرسل إليه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرُكَ أن تُكثِرَ من قولِ: لا حول ولا قوة إلا باللَّهِ "، فأتاه
الرسولُ فأخبرَه، فأكبَّ عوفٌ يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وكانوا قد
شدُّوه بالقدِّ فسقطَ القدُّ عنه، فخرجَ فإذا هو بناقةٍ لهم فركبَها، فأقبلَ فإذا هو بسَرح القومِ الذي كانوا شدُّوه، فصاح بهم، فاتبعَ آخرُها أوَّلَها،، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالبابِ، فقال أبوه: عوف وربِّ الكعبةِ، فقالتْ أُمُّه: واسوأتاه، عوفٌ كئيبٌ يالمُ لما فيه منَ القدِّ، فاستبقَ الأبُ والخادمُ إليه، فإذا عوفٌ قدْ ملأ الفناءَ إبلاً، فقصَّ على أبيه أمرَه وأمرَ الإبلِ فأتى أبوه
رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبرِ عوف وخبرِ الإبل، فقال له رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"اصنع بها ما أحببتَ، وما كنتَ صانعًا لإبلك ".
ونزل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .(2/594)
قال الفُضيلُ: واللَّه لو يئستَ من الخلقِ حتَّى لا تريدَ منهم شيئًا، لأعطاكَ
مولاكَ كُلَّ ما تُريد.
وذكر إبراهيمُ بنُ أدهم عن بعضِهم، قال: ما سألَ السائلون مسألةً هي
ألحفُ منْ أن يقولَ العبدُ: ما شاء اللَّهُ، قال: يعني بذلك التَّفويضَ إلى اللَّه
عزَ وجلَ.
وقال سعيدُ بنُ سالمٍ القداح: بلغني أنَّ موسى عليه السلامُ كانتْ له إلى
اللَّهِ حاجةٌ، فطلبَها، فأبطاتْ عليه، فقال: ما شاء اللَّه، فإذا حاجتُه بيْنَ
يديه، فعجبَ، فأوحى اللَّهُ إليه: أما علمتَ أنَّ قولَك: "ما شاءَ اللَهُ " أنجحُ ما طُلِبتْ به الحوائج.
وأيضًا فإنَّ المؤمنَ إذا استبطأ الفرَجَ، وأيسَ منه بعدَ كثرةِ دعائِهِ، وتضرُّعِه.
ولم يظهرْ عليه أثرُ الإجابةِ يرجعُ إلى نفسِهِ باللائمةِ، وقال لها: إنَّما أُتيتُ من
قِبَلكِ، ولو كان فيكِ خير لأُجِبتُ، وهذا اللومُ أحبُّ إلى اللَّه من كثيرٍ من
الطًّاعاتِ، فإنَّه يُوجبُ انكسارَ العبدِ لمولاهُ واعترافَهُ له بأنَّه أهل لما نزلَ به من
البلاءِ، وأنه ليسَ بأهل لإجابةِ الدعاءِ، فلذلك تُسرعُ إليه حينئذ إجابةُ الدعاء وتفريجُ الكربِ، فإنه تعالى عندَ المنكسرةِ قلوبُهم من أجلِه.
قال وهبٌ: تعبَّدَ رجل زمانًا، ثمَّ بدت له إلى اللَّهِ حاجةٌ، فصامَ سبعينَ
سبتًا، يأكلُ في كُلِّ سبتٍ إحدى عشرةَ تمرةً، ثم سألَ اللَّهَ حاجتَهُ فلم يُعطَها، فرجعَ إلى نفسِهِ فقال: منكِ أُتيتُ، لو كان فيكِ خير أعطيتِ حاجتَك، فنزلَ إليه عندَ ذلك ملَكٌ، فقال: يا ابنَ آدمَ ساعتُك هذه خير من عبادتِك التي مضت، وقد قضى اللَّه حاجتَك.
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.(2/595)
ولبعضِ المتقدمين في هذا المعنى:
عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى. . . له فرجَّاً ممَّا ألحَّ به الدَّهرُ
عسى فرَج يأتي به اللَّهُ إنَه. . . لهُ كُل يومٍ في خَليقتِهِ أَمْرُ
إذا لاح عسر فارج يسرًا فإنَّه. . . قضى اللَّهُ أنَّ العُسرَ يتبعُهُ اليُسر
* * *(2/596)
سُورَةُ التِّينِ
قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
وفي "الصحيح ": "أن إبراهيمَ عليه السلامُ إذا شفَعَ في أبيه، قيل له: يا
إبراهيمُ انظرْ ما وراءَك، فإذا هو بذيخ ملطَّخ فيُؤخَذُ بقوائِمِهِ ويُلقى في
النَارِ"، والذيخُ: الضبعُ الذكرُ.
وقال أبو العالية في قولهِ تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)
قال: في النَّارِ في صورةِ خنزيرٍ.
خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ.
قال ابنُ مسعود: إذا أرادَ اللَّه تعالى أنْ لا يُخْرِجَ منها أحدًا غيَرَ صورَهم
وألوانَهم فلا يُعرفُ منهم أحدٌ.
* * *(2/597)
سُورَةُ العَلَقِ
قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
[قالَ البخاريُّ] : قال ابنُ عباسٍ: حدثني أبو سفيانَ في حديثِ هرقلَ.
فقال: يأمرنا - يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلاةِ والصِّدْقِ والعفافِ.
حديث أبي سفيانَ هذا قد خرَّجَه البخاريُّ بتمامِهِ في أولِ كتابِهِ، وهو يدلُّ
على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أهمُّ ما يأمرُ به أُمته الصلاةَ، كما يأمرُهم بالصدق والعفافِ، واشتهر ذلك حتى شاعَ بين الملَلِ المخالفينَ له في دِينه، فإنَّ أبا سفيان كان حينَ قال ذلك مُشْرِكًا، وكان هِرقْلُ نَصْرانيًا، ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - منذ بُعث يأمر بالصدقِ والعفافِ، ولم يزلْ يصلي - أيضًا - قبل أن تُفْرَض الصلاة.
وأولُ ما أُنزل عليه سورةُ: (اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ) ، وفي آخرها:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) .
إلى قوله: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) .
وقد نَزَلَتْ هذه الآياتُ بسببِ قولِ أبي جَهْلٍ: لئن رأيتُ محمدًا ساجدًا
عندَ البيتِ لأطأنَّ على عنُقِهِ.
وقد خرَّج هذا الحديثَ مسلم في "صحيحهِ "، وقد ذَكَرنا في أولِ كتابِ:(2/598)
"الوضوءِ" حديثَ أسامةَ، أن جبريلَ نزَل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أولِ الأمرِ، فعلَّمه الوضوءَ والصلاة.
وذكر ابنُ إسحاقَ: أنَّ الصلاةَ افتُرضتْ عليه حينئذِ، وكانَ هو - صلى الله عليه وسلم - وخديجةُ يُصلِّيان.
والمرادُ: جنسُ الصلاةِ، لا الصلواتِ الخمسِ.
والأحاديثُ الدالةُ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلي بمكةَ قبلَ الإسراءِ كثيرة.
لكن قد قيلَ: إنَّه كان قد فُرض عليه ركعتانِ في أولِ النَّهارِ وركعتان في
آخرِه فقط، ثم افتُرِضَتْ عليه الصلواتُ الخمس ليلةَ الإسراءِ، قاله مُقاتل
وغيرُه.
وقالَ قتادةُ: كان بدءُ الصلاةِ ركعتينِ بالغَداةِ، وركعتينِ بالعَشيِّ.
وإنَّما أرادَ هؤلاء: أنَّ ذلك كان فرضًا قبل افتراضِ الصلواتِ الخمسِ ليلةَ
الإسراءِ.
وقد زعم بعضُهم: أن هذا هو مُرادُ عائشةَ بقولِها: فُرضَت الصلاةُ ركعتين
ركعتين، وقالوا: إنَّ الصلواتِ الخمس فُرضَتْ أوَّلَ ما فُرضَتْ أربعًا
وثلاثًا وركعتين على وجهِها.
وضعَّف الأكثرون ذلك، وقالُوا: إنما أرادتْ عائشةُ فرضَ الصلواتِ الخمس
ركعتينِ ركعتينِ سِوى المغربِ.(2/599)
وقد ورد من حديثِ عَفيفٍ الكنْدي، أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلي بمكةَ حين زالت الشمسُ ومعه علي وخديجةُ، وأن العباسَ قال له: ليس على هذا الدِّينِ أحدٌ غيرُهم.
وقد خرَّجه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ في "خصائص عليٍّ".
وقد طعن في إسناده البخاريُّ في "تاريخه " والعُقيلي وغيرُ واحدٍ.
وقد خرَّج الترمذي من حديث أنسٍ، قال: بُعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومَ الاثنينِ، وصلى عليٌّ يومَ الثُّلاثاء. "
وإسناد ضعيف.
وقد خرَّجه الحاكم من حديث بُريدةَ، وصحَّحَه.
وفيه فى ليلٌ على أنَّ الصلاةَ شُرعت من ابتداء النبوة، لكنَّ الصلواتِ الخمسِ
لم تُفرض قبلَ الإسراء بغيرِ خلافٍ.
وروى الرَّبيعُ، عن الشافعي، قال: سمعتُ ممن أثق بخبره وعلمه يذكر
أنَّ اللَّهَ تعالى أنزل فرضًا في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني
بالفرضِ في الصلواتِ الخمسِ.
قال الشافعي: كأنَّه يعني قولَ الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)
ثم نسخه في(2/600)
السورةِ معهُ بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُتَي اللَّيْلِ) الآية.
إلى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرآنِ) ، فنُسِخَ قيامُ الليل، أو نصفه، أو أقل، أو أكثر بما تيسَّر.
قالَ الشافعيُّ: ويقال نُسخ ما وُصف في المزمل بقولهِ اللَّهِ عزَّ وجل: (أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ودلوكُ الشمس: زَوالُها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْل) العَتمَة
(وَقُرانَ الْفَجْرِ) الصبح (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ)
فأعلمه أنَّ صلاةَ الليل نافلةٌ لا فريضة، وأن الفرائض فيما ذكرَ من ليلٍ أو
نهار.
قال: ويُقال في قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُون) المغربُ
والعشاءُ (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الصبحُ (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيا) العصرُ (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهرُ. انتهى.
وقد رُوي عن طائفةٍ من السَّلفِ تفسيرُ هاتينِ الآيتينِ بنحوِ ما قالَه
الشافعي، فكلُّ آيةٍ منهما متضمِّنةٌ لذكر الصلواتِ الخمسِ، ولكنَّهما نزلتا بمكةَ بعدَ الإسراءِ. واللَّهُ أعلم.
وقد أجمعَ العلماءُ على أنَّ الصلواتِ الخمسِ إنَما فُرضَتْ ليلةَ الإسراءِ.
واختلفوا في وقتِ الإسراء:
فقيل: كانَ بعدَ البعثةِ بخمسةَ عشرَ شهرًا، وهذا القولُ بعيدٌ جدًّا.
وقيل: إنَّه كان قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنين، وهو أشهرُ.
وقيل: قبلَ الهجرةِ بسنةٍ واحدةٍ.
وقيل: قبلَها بستةِ أشهرٍ.(2/601)
وقيل: كانَ بعدَ البعثةِ بخمسِ سنين، ورجحه بعضُهم، قال: لأنَّه لا
خلاف أن خديجة صلَّت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيَتْ قبل
الهجرة بمدةٍ، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وقد أجمع العلماءُ على
أن فرض الصلاة كان ليلةَ الإسراء.
قلت: حكايته الإجماعَ على صلاة خديجةَ معه بعد فَرض الصلاةِ غَلَط
مَحْضْ، ولم يَقُل هذا أحَدٌ ممن يُعْتَدُّ بقوله.
وقد خرج أبو يَعلَى الموصلي والطبرانيُّ من حديث إسماعيلَ بن
مُجالدٍ، عن أبيه عن الشَّعبي، عن جابر، أن رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن خديجةَ؛ فإنها ماتت قبل أنْ تَنزل الفرائض والأحكام؟
فقال: "أبصرتها على نهر من أنهار الجنة، وفي بيت من قَصَب، لا لغو فيه ولا نَصَبٌ ".
وروى الزُّبيرُ بنُ بكَّارِ، بإسنادِ ضعيفٍ، عن يُونُسَ عن ابنِ شهابٍ، عن
عُروَةَ، عن عائشةُ، قالت: تُوفِّيتْ خديجةُ قبل أن تُفرض الصلاةُ.
وقد فرَّق بعضهم بين الإسراء والمعراج، فجعل المعراج إلى السماوات كما
ذكره اللَّه في سورة النَّجم، وجعل الإسراء إلى بيت المقدسِ خاصةً، كما
ذَكَره اللَّه في سورة (سبحان) وزَعَم أنهما كانا في ليلتين مختلفتين، وأن
الصلوات قُرضت ليلةَ المعراج لا ليلةَ الإسراء.
وهذا هو الذي ذكره محمدُ بن سَعْدٍ في "طبقاته " عن الواقديِّ بأسانيدَ
له متعددة، وذَكَر أن المعراج إلى السماء كان ليلةَ السبت لسبعَ عشرةَ خَلَتْ
من شهر رمضانَ قبل الهجرة بثمانيةَ عشرَ شهرًا من المسجد الحرام، وتلك
الليلةَ فرُضت الصلواتُ الخمس، ونزل جبريل فصلى برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -(2/602)
الصلوات في مواقيتها، وأن الإسراء إلى بيت المقدس كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من
شهر ربيع الأولِ قبل الهجرة بسنةٍ، من شِعْبِ أبي طالب.
وما بوَّب عليه البخاري أن الصلوات فرضت في الإسراء يدل على أن
الإسراء عنده والمعراج واحد. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
قال اللَّهُ تعالَى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) .
قال أبو هريرةَ: الزبانيةُ: الملائكةُ.
وقال عطاء: هم الملائكةُ الغلاظُ الشدادُ.
وقال مقاتل: هم خزنةُ جهنَّمَ.
وقال قتادةُ: الزبانيةُ في كلامِ العربِ: الشرطُ.
وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ الحارثِ: الزبانيةُ رؤوسُهُم في الأرضِ وأرجلُهُم في السماءِ، خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتم وخرجَ أيضًا بإسناده عن المنهالِ بنِ عمرو قالَ:
إذا قالَ اللَّهُ تعالَى: (خُذُوهُ فَغلُّوهُ) ابتدرهُ سبعونَ ألفَ ملك، وإن الملكَ
منهم ليقولُ هكذا، يعني: يفتحُ يديهِ، فيلقي سبعينَ ألفًا في النارِ.
* * *(2/603)
سُورَةُ القَدْرِ
قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
في "الصحيحينِ " عن أبي سعيد الخُدريّ - رضي الله عنه -، قال: كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يعتكِفُ في العشرِ الأوسطِ من رمضانَ، فاعتكفَ عامًا، حتَّى إذا كانتْ ليلةُ إحدى وعشرينَ، وهي الليلةُ التي يخرُجُ في صبيحتها من اعتكافِهِ.
قال: "من كانَ اعتكفَ معي فليعتَكِفِ العشرَ الأواخِر، وقد أريتُ هذه الليلةَ ثم أنسيتُها، وقد رأيتُني أسجدُ في ماء وطين من صبيحتِها، فالتمسُوهَا في العشرِ الأواخرِ، والتمسوها في كلِّ وتر".
فمطرتِ السَّماءُ تلكَ الليلةَ، وكان المسجدُ على عريشٍ، فوكفَ المسجدُ.
فبصُرتْ عيناي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على جبهتهِ أثرُ الماءِ والطِّينِ من صُبح إحدى وعشرين، هذا الحديثُ يدل على أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكفُ العشرَ الأوسطَ من شهرِ رمضانَ؛ لابتغاءِ ليلةِ القدرِ فيه، وهذا السِّياقُ يقتضِي أنَّ ذلك تكرَّر منه - صلى الله عليه وسلم.
وفي روايةٍ في "الصحيحينِ " في هذا الحديثِ: أنه اعتكفَ العشرَ الأوَل،(2/604)
ثم اعتكفَ العشرَ الأوسطَ، ثم قالَ: "إني أُتيتُ، قيلَ لي: إنها في العشر الأواخر - فمن أحبَّ منكُم أن يعتكفَ فليعتِكفْ "، فاعتكفَ الناسُ معه.
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلكَ منه قبلَ أن يتبين لهُ أنَّها في العشر الأواخر، ثم
لمَّا تبين له ذلك اعتكفَ العشرَ الأواخرَ حتَّى قبضَه اللَّه عزَّ وجلَّ، كما رواه
عنه عائشة وأبو هريرة وغيرُهما.
ورُوي أنَّ عمرَ - رضي الله عنه - جمعَ جماعةً من الصحابةِ، فسألهم عن ليلةِ القدرِ، فقالَ بعضُهم: كنَّا نراها في العشرِ الأوسطِ، ثم بلغنا أنها في العشرِ الأواخر.
وخرَّج ابنُ أبي عاصم في كتاب "الصيام " وغيرُه من حديث خالدِ بن
محدُوج، عن أنيى: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"التمسُوها في أوَل ليْلَةٍ، أو في تسعٍ، أو في أربع عشرةَ".
وخالدٌ هذا فيه ضعفٌ، وهذا يدلُّ على أنَّها تُطلبُ في ليلتين
من العشرِ الأوَل، وفي ليلة من العشر الأوسطِ، وهي أربع عشرةَ، وقد
سبق من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا:
"إن الإنجيلَ أنزِل لثلاث عشرة من رمضانَ ".
وقد ورد الأمر بطلب ليلةِ القدْر في النصفِ الأواخرِ من رمضانَ.
وفي أفراد ما بقي من العشرِ الأوسطِ من هذا النصف، وهما ليلتانِ: ليلةُ
سبعَ عشرةَ، وليلةُ تسعَ عشرةَ.
أمَّا الأولُ: فخرَّجه الطبراني، من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن أُنيسٍ، أنه سألَ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ليلةِ القدر، فقالَ:
"رأيتُها ونسيتُها، فتحرَّها في النّصفِ الأواخرِ".
ثم عادَ فسالهُ، فقال: "التمسْها في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين تَمضِي من الشهرِ".
.(2/605)
ولهذا المعنى - واللَّهُ أعلمُ - كان أبيّ بن كَعب يقنُتُ في الوتر في ليالي
النصف الأواخرِ؛ لأنَّه يُرجى فيه ليلةُ القدرِ.
وأيضًا فكُلُّ زمانٍ فاضلٍ من ليلٍ أو نهار، فإنّ آخرَه أفضلُ من أوَّلِه، كيومِ
عرفَةَ، ويومِ الجُمعة، وكذلك الليلُ والنَّهار عمومًا؛ آخِرُهُ أفضل من أوَّلهِ.
ولذلك كانتِ الصلاةُ الوسطَى صلاةَ العصْر، كما دلَّتِ الأحاديثُ الصحيحةُ
عليه، وآثار السَّلفِ الكثيرةُ تدُلُّ عليهِ، وكذلكَ عشرُ ذي الحجةِ والمحرمِ "
آخرُهما أفضلُ من أوَّلهِمَا.
وأمَّا الثاني: ففي "سننِ أبي داود" عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا:
"اطلُبُوها ليلةَ سبع عشرةَ مِن رَمضانَ، وليلةَ إحدَى وعشرين، وليلةَ ثلاثٍ وعشرين "، ثم سكتْ.
وفي روايةٍ: "ليلةَ تسعَ عشرةَ"، وقيلَ: إنَّ الصحيحَ وقْفُه على ابنِ مسعودٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه قال: تحرُّوا ليلةَ القدْرِ ليلةَ سبعَ عشرةَ، صباحيَّةَ بدرٍ، أو إحدى وعشرين، وفي روايةٍ عنه، قالَ:
"ليلةَ سبعَ عشرةَ، فإنْ لم يكن ففي تسعَ عشرةَ".
وخرَّج الطبرانيُّ من روايةِ أبي المُهزِّم، وهو ضعيف، عن أبي هريرةَ
مرفوعًا، قال:
"التمسُوا ليلةَ القدْرِ في سبعَ عشرةَ أو تسعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين.
أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمسٍ وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسعٍ وعشرين ".
ففي هذا الحديثِ: التماسُها في أفرادِ النصفِ الثاني كلها، ويروى من حديثِ
عائشةَ - رضي الله عنها -: أنَّ النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا كان ليلةَ تسعَ عشرةَ من رمضانَ شدَّ المئزرَ وهجرَ الفراشَ حتى يُفطرَ.
قال البخاريُّ: تفرَّد به عُمرُ بن مسكينٍ، ولا يتابع عليهِ، وقد رُويَ عن(2/606)
طائفة من الصحابةِ. إنَّها تُطلبُ ليلةَ سبعَ عشرةَ، وقالُوا: إن صبيحتَها كانَ يومَ بدرٍ، رويَ عن علي، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بنِ أرقمَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وعمرِو ابنِ حريثٍ، ومنهم من رُويَ عنه، أنَّها ليلةُ تسعَ عشرةَ.
رُوي عن علي، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بن أرقمَ.
والمشهورُ عندَ أهلِ السِّيرِ والمغازي: أنَّ ليلةَ بدْرٍ كانتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ.
وكانت ليلةَ جُمعةٍ، وروي ذلك عن علي، وابنِ عباسٍ وغيرهما، وعن ابنِ
عباسٍ، رواية ضعيفة أنَّها كانت ليلةَ الاثنين.
وكان زيد بن ثابتٍ لا يُحيي ليلةً من رمضان، كما يُحيى ليلةَ سبعَ عشرةَ.
ويقول: إنَّ اللَّه فرَّق في صبيحتها بين الحقِّ والباطلِ، وأذلَّ في صبيحتها أئمةَ
الكفرِ.
وحكى الإمامُ أحمدُ هذا القولَ عن أهل المدينة: أنَّ ليلةَ القدْر تُطلبُ
ليلةَ سبعَ عشرةَ، قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته: أنت طالقٌ ليلة
القدر، قال: يعتزلُها إذا دخلَ العشرُ، وقبل العشر، أهلُ المدينة يرونها في
السبع عشرةَ، إلا أنَّ المثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العشْرِ الأواخر.
وحكي عن عامر بن عبدِ اللَّهِ بن الزُّبيرِ: أنَّه كانَ يُواصِلُ ليلةَ سبعَ عشرةَ.
وعن أهلِ مكةَ أنَّهمُ كانُوا لا ينامونَ فيها، ويعتمرونَ.
وحُكِيَ عن أبي يوسُفَ ومحمد، صاحِبي أبي حنيفةَ: أنَّ ليلةَ القدْرِ في النصفِ الأواخرِ من رمضانَ من غيرِ تعيينٍ لها بليلةٍ، وإن كانتْ في نفسِ الأمرِ عندَ اللَّهِ مُعينةً.
ورويَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، قالَ: ليلةُ القدْرِ ليلةُ سبعَ
عشرةَ، ليلةُ جمعة.
خرَّجه ابنُ أبي شيبة.
وظاهرُه أنَّها إنما تكونُ ليلةَ القدرِ إذا كانتْ ليلةَ جمعةٍ، لتُوافق ليلةَ بدرٍ، وروَى أبو الشيخ الأصبهاني بإسنادٍ(2/607)
جَيِّدٍ، عن الحسنِ، قالَ: إنَّ غلامًا لعثمانَ بنَ أبي العاص، قالَ لهُ:
يا سيِّدي، إن البحرَ يعذُبُ في هذا الشهر في ليلةٍ، قال: فإذا كانتْ تلك الليلةُ فأعلِمني، قال: فلما كانتْ تلكَ الليلةُ أذنَه، فنظرُوا فوجدوه عذبًا، فإذا هي ليلةُ سبعَ عشرةَ.
ورُويَ من حديثِ جابرٍ، قالَ: كان رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يأتي قُباءً صبيحةَ سبعَ عشرةَ من رمضانَ، أيَّ يومٍ كان.
خرَّجَه أبو موسى المدينيّ.
وقد قيلَ: إنَّ المعراجَ كانَ فيها أيضًا، ذكرَ ابنُ سعدٍ، عن الواقديّ، عن
أشياخِهِ: أنَّ المعراجَ كانَ ليلةَ السبتِ لسبعَ عشرةَ خلتْ من رمضانَ قبلَ
الهجرة إلى السماءِ، وأن الإسراءَ كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من ربيع الأوَّل قبلَ
الهجرةِ بسنةٍ إلى بيتِ المقدسِ، وهذا على قولِ مَن فرَّق بين المعراج
والإسراءِ؛ فجعلَ المعراجَ إلى السَّماء، كما ذُكر في سورةِ النجم؛ والإسراءَ
إلى بيتِ المقدسِ خاصَّةً، كما ذُكرَ في سورةِ سبحانَ.
وقد قيلَ: إنَّ ابتداءَ نبوَّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان في سابعَ عشرَ رمضان، قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: نزلَ جبريلُ على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ السبتِ وليلةَ الأحدِ، ثم ظهر له بحراءَ برسالةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يومَ الاثنين لسبعَ عشرةَ خلتْ من رمضانَ.
وأصحُّ ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنَّها ليلةُ بدْرٍ.
كما سبقَ أنَّها كانتْ ليلةَ سبعَ عشرَة.
وقيلَ: تسعَ عشرةَ، والمشهورُ أنَّها كانتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ، كما تقدَّمَ.
وصبيحتُها هو يومُ الفرقانِ، يوم التقى الجمعانِ، وسُمِّي يومُ الفرقانِ؛ لأنَّ
اللَّهَ تعالى فرَّق فيه بينَ الحقِّ والباطلِ، وأظهرَ الحقَّ وأهلَهُ على الباطلِ وحزْبهِ،(2/608)
وعلَتْ كلمةُ اللَّهِ وتوحيدُه، وَذُلَّ أعداؤهُ من المشركينَ وأهلِ الكتاب، وكان ذلكَ في السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ؛ فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدمَ المدينةَ في ربيع الأولِ في أول سنةٍ من سني الهجرةِ، ولم يُفرضْ رمضان في ذلكَ العامِ، ثم صامَ عاشوراءَ، وفُرضَ عليه رمضانُ في ثاني سنةٍ، فهو أوَّل رمضان صامهُ وصامَه المسلمون معه.
ثم خرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلبِ عيرٍ من قريش قدمتْ من الشامِ إلى المدينةِ في يوم السبتِ لاثنتي عشرةَ ليلةً خلتْ من رمضانَ، وأفطرَ - صلى الله عليه وسلم - في خروجهِ إليها.
قال ابنُ المُسيّب: قال عُمر: غزونَا مع رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - غزوتينِ في رمضانَ يومَ بدْرٍ، ويومَ الفتح، وأفطرنَا فيهما، وكان سببُ خروجِه حاجةَ أصحابِه، خصوصًا المهاجرين (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) .
وكانتْ هذه العِيرُ فيها أموالٌ كثيرةٌ لأعدائِهِم الكفار الذينَ أخرجُوهم من ديارِهم وأموالِهم ظُلمًا وعُدوانًا، كما قالَ اللَّهُ تعالى:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) .
فقصدَ النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ أموالَ هؤلاء الكفار الظالمين المعتدين على أولياءِ اللَّهِ وحزبه وجندهِ، فيردَّها على أولياءِ اللَّه وحزبهِ المظلومينَ المخرجينَ من ديارِهِم وأموالِهِم ليتقوُّوا بها على عبادةِ اللَّهِ وطاعتِهِ وجهادِ أعدائِهِ، وهذا مما أحلَّه اللَّهُ لهذه الأمَّة؛ فإنَّه أحلَّ لهم الغنائمَ، ولم تحل لأحدٍ قبلَهم، وكان عدَّةُ من معهُ ثلثمائة وبضعةَ عشرَ، وكانوا على عدَّةِ أصحابِ طالُوتَ الذين جازُوا معه النهرَ، وما جازَه معه إلا مؤمنٌ.(2/609)
وفي "سنن أبي داودَ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرو، قالَ: خرجَ
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدر في ثلاثمائةِ وخمسةَ عشرَ من المقاتلةِ، كما خرجَ طالُوت، فدعا لهم رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حينَ خرجُوا، فقالَ: "اللهمَّ، إنَّهم حُفَاةٌ فاحْملهُم، وإنَّهم عُراةٌ فاكسُهُم، وإنهم جياعٌ فأشبعْهُم ".
ففتحَ اللَّهُ يومَ بدرٍ، فانقلبُوا حينَ انقلبوا وما فيهم رجلٌ إلا وقد رجع بجملِ أو جملين، واكتسوا وشبعُوا، وكان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرجُوا على غايةٍ من قلَّة الظهرِ والزاد؛ فإنَّهم لم يخرجوا مستعدين لحربٍ، ولا لقتالٍ، إنَّما خرجُوا لطلبِ العير، فكانَ معهُم نحو سبعينَ بعيرًا يعتقبونها بينهم، كُل ثلاثة على بعير.
وكان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زميلان، فكانوا يعتقبونَ على بعير واحدِ، فكان زميلاه يقولان لَهُ: يا رسولَ اللَّه، اركبْ حتَّى نمشيَ عنك، فيقولُ: ما أنتما بأقوَى على المشي منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجرِ منكُما، ولم يكنْ معهُمَا إلا فرسانِ، وقِيلَ: ثلاثة، وقيل: فر سٌ واحدٌ للمقدادِ.
وبلغَ المشركينَ خروجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لطلبِ العيرِ، فأخذَ أبو سُفيان بالعِير نحو الساحلِ، وبعثَ إلى أهلِ مكَّة يخبرُهُم الخيرُ، ويطلبُ منهم أن ينفروا لحمايةِ عِيرهم، فخرجُوا مستصرخين، وخرجَ أشرافُهم ورؤساؤُهم، وسارُوا نحوَ بدْرٍ، واستشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ في القتالِ فتكلَّم المهاجرونَ فسكتَ عنهُم.
وإنما كانَ قصدُه الأنصارَ لأنَه ظنَّ أنَهم لم يبايعوه إلا على نُصْرته على من
قصدهُ في ديارِهِم، فقام سعد بنُ عُبادةَ، فقالَ: إيَّانا تريدُ، يعني الأنصارَ.
والذي نفسِي بيدِه، لو أَمرتَنا أن نَخِيضَها البحرَ لأخضناها، ولو أمرْتنا أن(2/610)
نضربَ أكبادَها إلى برك الغمادِ لفعلنا، وقال له المقدادُ: لا نقُول لكَ كمَا
قالَ بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
ولكن نقاتلُ عن يمينِكَ وشمالك، وبينَ يديكَ، ومِن خلفكَ.
فَسُرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأجمعَ على القتالِ.
وبات تلكَ الليلةَ، ليلةَ الجمعةِ سابعَ عشرَ رمضانَ قائمًا يُصلّى ويبكِي
ويدعُو اللَّه ويستنصرُهُ على أعدائِهِ.
وفي "المسندِ" عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، قالَ: "لَقَدْ رأيتُنا وما فينا إلا
نائمٌ، إلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تحتَ شجرة يُصلِّي ويبكي حتَى أصبحَ ".
وفيه عنه أيضًا، قال: أصابنا طَشٌّ من مطرٍ، يعني ليلَةَ بدْرٍ، فانطلقنا
تحتَ الشَّجرِ والحَجَفِ نستظلُّ بها من المطرِ، وبات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربَّهُ، ويقول:
"إن تُهْلكْ هذه الفئةَ لا تُعْبَدْ".
فلمَّا أن طلعَ الفجر نادى: الصلاةَ عبادَ اللَّهِ، فجاءَ الناسُ من تحت الشَّجر والحجفِ، فصلَّى بنا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وحثَّ على القتال.
وأمدَّ اللَّهُ تعالى نبيَّهُ والمؤمنينَ بنصرٍ من عندِه وبجند من جندِه، كما
قالَ تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .(2/611)
وفي "صحيح البخاريِّ " أنَّ جبريلَ قالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما تَعُدُّون أهلَ بدرٍ فيكم؟
قال: " مِن أفْضَل المسلمين " أو كلمة نحْوَهَا، قال: وكذلك مَن شهِدَ بدْرًا من الملائكة".
وقال اللَّهُ تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) .
وقال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) .
ورُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما رآهمُ قالَ:
"اللهمََّ، إن هؤلاءِ قُريشٌ قد جاءتْ بخُيلائها يُكَذبون رسولَك، فانجِزْ لي ما وَعدْتَنِي ".
فأتاه جبريلُ، فقال: "خُذْ قبضةً من تُراب فارمهم بها"، فأخذَ قبضةً من حصْباءِ الوادي فرمَى بها نحوَهم، وقال: "شاهتِ الوُجُوه " فلم يبقَ مُشركٌ إلا دخلَ في عينيهِ ومنْخرِه وفمه شيءٌ، ثم كانتِ الهزيمةُ.
وقال حكيمُ بنُ حزامٍ: سمعنا يومَ بدرٍ صوتًا وقع من السَّماء كأنَّه صوتُ حصاةٍ على طَسْتٍ، فرمى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تلكَ
الرَّميةَ، فانهزمنا، ولما قدمَ الخبرُ على أهلِ مكةَ قالُوا لمن أتاهُم بالخبرِ: كيفَ
حالُ الناسِ؟
قال: لا شيءَ، واللَّهِ إن كانَ إلا أن لقيناهُم فمنحناهم أكتافنا.
يقتلُونا ويأسرُونا كيفَ شاؤُوا، وأيْمُ اللَّهِ، مع ذلكَ ما لمتُ النَّاسَ، لقينا رجالاً على خيلٍ بُلق بين السَّماءِ والأرضِ ما يقومُ لها شيءٌ.
وقتلَ الله صَّنَاديدَ كفارِ قريشٍ يومئذٍ، منهم عُتبةُ بنُ ربيعةَ، وشيبةُ.
والوليدُ بنُ عتبةَ، وأبو جهلٍ، وغيرُهم، وأسرُوا منهم سبعينَ، وقصَّة بدرٍ
يطولُ استقصاؤها، وهي مشهورةٌ في التفسيرِ وكتبِ الصحاح والسنن
والمسانيدِ والمغازي والتواريخ وغيرها، وإنما المقصودُ هاهنا التنبيةُ على بعضِ
مقاصدها.(2/612)
وكان عدوُّ اللَّه إبليسُ قد جاء إلى المشركينَ في صورةِ سُراقةَ بن مالكٍ.
وكانت يدُهُ في يدِ الحارث بن هشامٍ، وجعل يُشجعهم ويعدُهم ويمنَيهم، فلمَّا
رأى الملائكةَ هربَ وألقى نفسه في البحر.
وقد أخبرَ اللَّهُ عن ذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) .
وفي "الموطأ" حديثٌ مرسلٌ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما رُؤِي الشَّيطانُ أحقرَ ولا أدحَر ولا أصغرَ من يوم عرفَةَ، إلا ما أُرِي يوْمَ بدر".
قيل: وما رأى يومَ بدرٍ؟
قال: "رأى جبريلَ يزعُ الملائكة"، فإبليس عدوُّ اللَّهِ يسعَى جهدَه في إطفاءِ نورِ اللَّه وتوحيدهِ، ويُغرِي بذلك أولياءَه من الكفَّار والمنافقين، فلمَّا عجزَ عن ذلكَ بنصرِ اللَّهِ نبيَّه وإظهارِ دينه على الدِّينِ كُلِّه، رضِيَ بإلقاءِ الفتن بين المسلمينَ.
واجْتَزَى منهُم بمحقرَاتِ الذنوبِ حيثُ عجزَ عن ردِّهم عن دينهِم؛ كما قالَ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ الشيطانَ قد أيسَ أن يعبدهُ المصلُّونَ في جزيرةِ العربِ، ولكن في
التحريشِ بينَهمُ ".
خرَّجهُ مسلمٌ من حديثِ جابرٍ، وخرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ عمروِ بنِ الأحوصِ، قالَ:
سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في حجةِ الوداع:
"ألا أنَّ الشَّيطانَ قد أيسَ أن يُعبدَ في بلدكُم هذا أبدًا، ولكنْ سيكونُ له طاعةٌ في بعضِ ما تحتقرُون من أعمالُكم، فيرضَى بها".(2/613)
وفي "صحيح الحاكم " عن ابنِ عبَّاس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ في حجةِ الوداع، فقال:
"إنَّ الشيطان قد يئس أن يُعبدَ بأَّرَضكم، ولكنَّه يرضَى أن يُطاعَ فيما
سِوى ذلكَ؛ فيما تحاقرونَ من أعمالِكم؛ فيرضَى بها فاحذَروا.
يا أيُّها الناسُ، إنِّي قد تركتُ فيكم ما إنْ اعتصمتُم به فلن تضِلُّوا أبدًا: كتابَ اللَّه، وسُنَّةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ".
ولم يعظم على إبليسَ شيء أكبرُ مِن بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وانشارِ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، فإنَّه أيسَ أن تعودَ أمّته كلُّهم إلى الشرك الاكبر.
قال سعيدُ بنُ جُبَير: لمَّا رأى إبليسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قائمًا بمكَةَ يصلِّي رَنَّ، ولمَّا افتتح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ رَنَّ رنَّةً أخرى؛ اجتمعتْ إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردوا أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الشرك بعدَ يومكم هذا، ولكن افتنُوهم في دينهم.
وأفشُوا فيهم النوحَ والشِّعرَ.
خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا.
وخرَّج الطبرانيّ بإسنادِه، عن مجاهدٍ، عن أبي هريرة، قال:
"إنَّ إبليسَ رَنَّ لمَّا أُنزلتْ فاتحةُ الكتابِ، وأُنزِلَتْ بالمدينةِ".
والمعروفُ هذا عن مجاهدٍ من قوله، قال: رنَّ إبليسُ أربعَ رنَّاتٍ: حينَ لُعنَ، وحينَ أُهبطَ من الجنَّة، وحينَ بُعثَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وحين أُنزلت فاتحةُ الكتاب، وأُنزلتْ بالمدينة.
خرَّجه وكيعٌ وغيرُه.
وقال بعضُ التابعين: لمَّا أُنزلتْ هذه الآية ُ:
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الآية.
بكى إبليسُ، يشيرُ إلى شدَّةِ حزنهِ بنزولِها، لما فيها من الفرح لأهلِ الذنوبِ، فهو لا يزالُ في همٍّ وغمٍّ وحُزنٍ منذُ بُعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما رأى منه ومن أمَّتهِ ما يُهمُّه ويُغِيظُه.(2/614)
قال ثابت: لمَّا بُعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قال إبليسُ لشياطينه: لقد حدثَ أمر فانظرُوا ما هُو، فانطلقُوا، ثم جاؤُوه، فقالُوا: ما ندري، قال إبليسُ: أنا آتيكم بالخبر، فذهبَ وجاءَ، قالَ: قد بُعثَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يُرسِلُ شياطينَه إلى أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيجيؤون بصُحفهم ليسَ فيها شيء، فقال:
ما لكُم لا تُصيبون منهم شيئًا؛ قالوا: ما صحِبْنا قوما قطُّ مثلَ هؤلاءِ؛ نُصيبُ منهم ثم يقومونَ إلى الصلاةِ، فيُمْحَى ذلك، قالَ: رُويدًا! إنَّهُم عسَى أنْ يفتحَ اللَّهُ لهُمُ الدنيا، هنالكَ تُصِيبُون حاجَتكم منُهم.
وعن الحسنِ، قالَ: قالَ إبليسُ: سَوَّلتُ لأمَّةِ محمدٍ المعاصِي، فقطعُوا
ظهرِي بالاستغفارِ، فسوَّلتُ لهم ذنوبًا لا يستغفرونَ منها، يعني الأهواءَ.
ولا يزالُ إبليسُ يرى في مواسم المغفرة والعتقِ من النار ما يسُوءُه؛ فيومُ
عرفةَ لا يُرى أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحَر فيه منه؛ لما يرى من تنزُلِ الرَّحمةِ
وتجاوُزِ اللَّهِ عن الذُّنوبِ العظامِ، إلا ما رُؤي يومَ بدْرٍ.
وَرُويَ أنَّه لمَّا رأى نزولَ المغفرةِ للأمَّةِ في حجَّةِ الوداع يومَ النَّحرِ بالمزدلفةِ.
أهوَى يحثِي على رأسِهِ الترابَ، ويدعوُ بالويل والثبور، فتبسَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ممَّا رأى من جزع الخبيثِ، وفي شهرِ رمضانَ يلطفُ اللَهُ بأمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيغلُّ فيه الشياطينَ ومردةَ الجنّ حتَّى لا يقدروا على ما كانُوا يقدرونَ عليه في غيره من تسويل الذنوب، ولهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمَّة لذلك.
ففي "الصحيحين " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إذا دَخلَ رمضانُ فُتحتْ أبوابُ السَّماءِ، وغُلِّقتْ أبوابُ جهنَّم، وسُلسلت الشَّياطينُ "،(2/615)
ولمسلم:
"فُتحتْ أبوابُ الرَّحمةِ"، وله أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إذا جاء رمضان فتِّحت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقتْ أبوابُ النّار، وصُفِّدتِ الشياطينُ ".
وخرَّج منه البخاري ذِكرَ فتح أبوابِ الجنَةِ.
وللترمذي وابن ماجةَ عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ِ، قال:
"إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهر رمضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفتح منها باب؛ وفُتحت أبوابُ الجنَّة، فلم يُغلَقْ منها بابٌ؛ ويُنادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبلْ، ويا باغيَ الشر أقصِرْ، وللَّهِ عُتقاءُ من النّارِ، وذلك في كُلِّ ليلة".
وفي رواية للنسائي: "وتُغَلُّ فيه مردةُ الشياطينِ ".
وللإمامِ أحمد عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أُعطِيتْ أمَّتي في رمضانَ خمسَ خصالٍ، لم تُعْطَه أمةٌ قبلَهم: خُلُوفُ فم الصَّائم أطيبُ عندَ اللَّه مِن ريح المِسْكِ، وتستغفرُ لهم الملاِئكةُ حتَى يُفطِروا، ويُزيِّنُ اللَهُ عزَّ وجل كُل يوم جنَّته، ثم يقولُ:
يُوشِكُ عِبادِي الصالحون أن يُلقُوا عنهم المؤونَةَ والأذَى ويصيرُوا إليك، وتُصفَّدُ فيه مردةُ الشّياطينِ، فلا يخلُصُون فيه إلى ما كانوا يخلُصُون إليه في غيره، ويُغفرُ لهم في آخرِ ليلة".
قيل: يا رسولَ اللَّه، أهِي ليلةُ القَدْرِ؟
قال: "لا، ولكنَّ العاملَ إنَّما يُوفَّى أجرَه إذا قضَى عملَه ".
وفي ليلة القدر تنتشرُ الملائكةُ في الأرض، فيبطُلُ سُلطانُ الشَّياطِين، كما
قال اللَّه تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) .
وفي "المسند" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم -(2/616)
أنه قال: "الملائكةُ تلك الليلة في الأرض أكثرُ من عدَدِ الحَصى".
وفي "صحيح ابن حبَّان "، عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلةِ القدْرِ:
"لا يخرجٌ شيطانُها حتَّى يخرُجَ فجرُها".
وفي "المسند" من حديث عُبادةَ بن الصَّامت، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه قال في ليلة القدر:
"لا يَحِلّ لكَوكبِ أن يُرْمَى به فيها حتَّى يُصبحَ، وأن أمَارَتَها أنَّ الشَّمسَ تخرُجُ صبيحتَها مُستويةً ليسَ لهَا شُعاعٌ مثلَ القمرِ ليلةَ البدْرِ، لا يحلُّ للشَّيطانِ أن يخرجُ معها يومئذ".
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ ضى، قال: إنَّ الشيطان يطلُعُ مع الشَّمسِ كُلَّ يومٍ
إلا ليلةَ القدرِ، وذلك أنَّها تطلُع لا شعاعَ لها.
وقال مجاهدٌ في قوله تعالى: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، قال: سلام أن
يحدُثَ فيها داءٌ أو يستطيعَ شيطانٌ العملَ فيها، وعنه قال: ليلةُ القدْرِ ليلة
سالمة لا يحدثُ فيها داءٌ، ولا يُرسلُ فيها شيطان، وعنه قال: هي سالمةٌ لا
يستطيعُ الشيطانُ أن يعملَ فيها سُوءًا، ولا يُحدثُ فيها أذىً.
وعن الضحَّاك عن ابن عباس، قال: في تلك الليلة تصفدُ مردةُ الجنِّ، وتُغَلُّ عفاريتُ الجنِّ، وتُفتحُ فيها أبوابُ السماءِ كلُّها، ويقبلُ اللَّهُ فيها التوبةَ لكُلِّ تائبٍ؛ فلذلك قال: (سَلامٌ هِيَ حَتَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .
ويُروى عن أبي بن كعبٍ - رضي الله عنه -، قال:
لا يستطيعُ الشَّيطانُ أن يُصيبَ فيها أحدًا بخبلٍ أو داءٍ أو ضربٍ من ضُرُوبِ
الفسادِ، ولا ينفُذُ فيها سِحْرُ ساحِرٍ.
ويُروى بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنسً مرفوعًا:
"أنَّه لا تَسْرِي نجومُها، ولا تنبحُ كلابُها".
وكل هذا يدُل على كفِّ الشياطين فيها عن انتشارِهم في الأرض،(2/617)
ومنعِهم من استراقِ السَّمع فيها من السَّماء.
ابنَ آدَم، لو عرفتَ قدْرَ نفسكَ ما أهنتَها بالمعاصِي، أنتَ المختارُ من
المخلوقات، ولك أُعدَّتِ الجنَّة، إن اتقيتَ فهي أقطاعُ المتقين، والدنيا أقطاعُ إبليس، فهو فيها من المنظرينَ، فكيفَ رضِيتَ لنفسِكَ بالإعراض عن أقطاعِكَ ومزاحمةِ إبليسَ على أقطاعِه، وأن تكونَ غدًا مَعَهُ في النَّار من جملة أتباعِهِ؛ إنَّما طردناهُ عن السَّماء لأجلك حيثُ تكبَّر عن السّجود لأبيك، وطلبْنا قربكَ " لتكونَ من خاصتنا وحزبنا، فعاديْتَنا وواليْتَ عَدُوَّنا.
(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) .
* * *(2/618)
سُورَة الزَّلزَلَة
قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ ابنِ لَهيعةَ، قالَ: حدثني عطاءُ ابنُ دينارٍ.
عن سعيدِ بنِ جُبير في قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)
قالَ: كان المسلمونَ يرونَ أنَّهُم لا يُؤجرونَ على الشَّيءِ القليلِ إذا
أَعطؤه، فيجيءُ المسكينُ، فيستقلُّون أن يُعطوه تمرةً وكِسرةً وجُوزةً ونحوَ ذلك، فيردُّونه، ويقولونَ: ما هذا بشيء، إنما نُؤجر على ما نُعطِي ونحنُ نحبُّه.
وكانَ آخرونَ يرونَ أنَّهم لا يُلامونَ على الذَّنبِ اليسيرِ مثل الكذبةِ والنظرةِ
والغيبةِ وأشباه ذلكَ، يقولونَ: إنَّما وعدَ اللَّهُ النارَ على الكبائرِ، فرغَّبهم اللَّهُ في القليلِ من الخيرِ أن يعملُوه، فإنَّه يُوشِكُ أن يكُثر، وحذرهُمُ اليسيرَ من الشرِّ، فإنَّه يُوشِكُ أن يكثُرَ فنزلتْ: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ)
يعني: وزنَ أصغرِ النمل (خَيْرًا يَرَهُ) يعني في كتابِهِ، ويسُرُّهُ ذلكَ قال:
يُكتب لكلِّ برً وفاجرٍ بكلِّ سيئةٍ سيئةٌ واحدةٌ، وبكلِّ حسنةٍ عشرُ حسناتٍ، فإذَا كانَ يومُ القيامةِ، ضاعفَ اللَّهُ حسناتِ المؤمنِ أيضًا بكلِّ واحده عشرًا، فيمحُو عنه بكلِّ حسنةٍ عشرَ سيئاتٍ، فمن زادتْ حسناتُه على سيئاتهِ مثقالَ ذرَّ، دخل الجنة.
وظاهرُ هذا أنه تقعُ المقاصةُ بين الحسناتِ والسيئاتِ، ثم تسقطُ الحسناتُ(2/619)
المقابلةُ للسيئاتِ، ويُنظرُ إلى ما يفضُلُ منها بعدَ المقاصةِ، وهذا يُوافقُ قولَ منْ
قال: بأنَّ من رجحتْ حسناتُه على سيئاته بحسنة واحد أُثيبَ بتلكَ الحسنةِ
خاصة، وسقطَ باقِي حسناتِهِ في مقابلةِ سيئاتِهِ، خلافًا لمن قالَ: يُثابُ
بالجميع، وتسقُط سيئاته كأنَّها لم تكنْ.
وهذا في الكبائرِ، أمَّا الصغائرُ، فإنَه قد تُمحى بالأعمالِ الصالحةِ مع بقاءِ
ثوابهِا، كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفعُ به الدرجاتِ:
إسباغُ الوضوء على المكارِهِ، وكثرةُ الخطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ".
فأثبتَ لهذهِ الأعمالِ تكفيرَ الخطَايا ورفعَ الدرجات.
وكذلكَ قولُه - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنْ قالَ: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له مائة مرة، كتبَ له
مانةُ حسنةٍ، ومُحيتْ عنه مِائة سينةٍ، وكانتْ لة عدلَ عشرَ رقابٍ ".
فهذَا يدل على أن الذكرَ يمحُو السيئاتِ، ويبقَى ثوابه لِعاملِهِ مضاعَفًا.
وكذلك سيئاتُ التائبِ توبةً نصُوحًا تُكفرُ عنهُ، وتبقى له حسناتُه، كما قالَ
اللَّهُ تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) .
وقالَ عزَّ وجل: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) .(2/620)
فلمَّا وصفَ هؤلاءِ بالتَّقوى والإحسانِ، دلَّ على أنَّهم ليسُوا بمصرِّين على الذُّنوبِ، بلَ هم تائبونَ مِنْهَا.
وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) يدخلُ فيه الكبائرُ.
لأنها أسوأُ الأعمالِ، وقالَ: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)
فرتَّبَ على التقوى المتضمنةِ لفعلِ الواجباتِ وتركِ المحرَّمات.
تكفيرَ السيئاتِ وتعظيمَ الأجرِ، وأخبرَ اللَّهُ عَن المؤمنين المتفكِّرين في خلق
السماواتِ والأرض أنَّهم قالُوا: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) .
وأخبرَ أنَّه استجابَ لهم ذلكَ، وأنَّه كفَّر عنهم سيئاتِهم، وأدخلهم الجناتِ.
وقولُه: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) فخصَّ الذنوبَ بالمغفرةِ.
والسيئات بالتَّكفيرِ، فقد يقالُ: السيئاتُ تخصُّ الصغائرَ، والذنوبُ يرادُ بها
الكبائر، فالسيئاتُ تكفر، لأن اللَّه جعل لها كفاراتٍ في الدنيا شرعيةً
وقدريةً، والذنوبُ تحتاجُ إلى مغفرة تقي صاحبَها مِنْ شرِّها، والمغفرةُ والتكفيرُ متقاربانِ، فإنَّ المغفرةَ قد قيل: إنها سَتْرُ الذُّنوبِ، وقيلَ: وقايةُ شر الذنبِ مع سترِهِ، ولهذا يسمَّى ما سترَ الرأسَ ووقاهُ في الحربِ: مِغْفَرًا، ولا يسمَّى كلُّ ساترٍ للرأس مغفرًا، وقد أخبرَ اللَّهُ عن الملائكةِ أنَّهم يدعونَ للمؤمنينَ التائبينَ بالمغفرةِ ووقايةِ السيئاتِ والتكفيرِ مِنْ هذا الجنس، لأنَّ أصلَ الكفرِ السترُ والتغطيةُ أيضًا.
وقد فرَّق بعضُ المتأخرينَ بينهما بأنَّ التكفيرَ محوُ أثرِ الذَّنب، حتَى كأنَّه لم(2/621)
يكنْ، والمغفرة تتضمن - مع ذلكَ - إفضالَ اللهِ على العبد وإكرامه، وفي هذا نظر.
* * *
دخلتِ امرأةٌ على عائشةَ، قد شُلَّت يدُها فقالتْ: يا أمَّ المؤمنينَ، بتُّ
البارحةَ صحيحةَ اليدِ وأصبحتُ شلاء!! قالتْ عائشةُ: وما ذاك؟
قالتْ: كان لي أبوانِ موسرانِ، كانَ أبي يعطي الزكاةَ، ويُقْرِي الضيفَ، ويعطِي السائلَ، ولا يحقرُ من الخيرِ شيئًا إلا فعلَهُ، وكانتْ أمِّي امرأةً بخيلةً ممسكةً، لا تصنعُ في مالِهَا خَيرًا، فمات أبي ثم ماتتْ أمِّي بعدَ شهرين، فرأيتُ البارحةَ في منامِي أبي، وعندَهُ ثوبانِ أصفرانِ، بينَ يديه نهرٌ جار، قلتُ: يا أبته ما هذا؟
قال يا بنية: من يعملُ في هذه الدنيا خيرًا يره، هذا أعطانيه اللَهُ تعالى.
قلتُ: فما فعلتْ أمِّي؟
قالَ: وقد ماتتْ أمُّكِ؟
قلتُ: نَعم، قالَ: هيهات عُدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذاتَ الشمالِ، فالتفتُّ عن شمالِي فإذا أنا بأمِّي قائمةٌ عريانةٌ مؤتزرةٌ بخرقةٍ، بيدِها شُحيمةٌ تنادي: وا لهفاه وا حزناه وا عطشاه!! فإذا بلغَهَا الجهدُ دلكتْ تلك الشحيمةَ براحتِهَا ثم لحسَتها، وإذا بينَ يديها نهر جارٍ، قلتُ: أيا أُمَّاه! ما لكِ تنادينَ العطشَ وبين يديكِ نهرٌ جارٍ؟
قالت: لا أتركُ أن أشربَ منه، قلتُ: أفلا أسقيكِ؟
قالتْ: وددتُ أنكِ فعلتِ، فغرفتُ لها غرفةً فسقيتُها، فلمَّا شربتْ نادَى مناد من ذاتِ اليمينِ: ألا من سَقَى هذه المرأةَ شُلَّت يمينُهُ، مرتينِ، فأصبحتُ شلاء اليمينِ، لا أستطيعُ أن أعملَ بيمِيني.
قالتْ لها عائشةُ: وعرَفْتِ الخرقةَ؟
قالتْ: نعم يا أمَّ المؤمنينَ، وهي التي(2/622)
رأيتُها عليْهَا، ما رأيتُ أمي تصدَّقت بشيءٍ قط، إلا أنَّ أبي نحر ذاتَ يومٍ
ثورًا، فجاءَهُ سائلٌ فعمدتْ أمِّي إلى عظم عليه شُحيمةٌ فناولتها إياهُ، وما
رأيتُها تصدقتْ بشيءٍ إلا أنَّ سائلاً جاء يسألُ، فعمدت أمِّي إلى خرقةٍ فناولتْها إياهُ.
فكبَّرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - وقالتْ: صدقَ اللَّهُ، وبلَّغَ رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
أخرَّجَه الحافظ أبو موسى المديني في كتابه "الترغيب والترهيب " من طريق
أبي الشيخ الأصبهاني الحافظ، بإسناد حسن.
* * *(2/623)
سُورَةُ التَّكَاثُرِ
قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
هذه النعم مما يُسئلُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة، ويُطالب به، كما قالَ
عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) .
وخرَج الترمذيُّ وابنُ حبَّانَ من حديث أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"إنَ أوَّلَ ما يُسألُ عنه العبد يومَ القيامة مِن النعيم، فيقولُ له: ألم نصحَّ لك جِسمَكِ ونُرْويكَ من الماءِ الباردِ؟ ".
وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: النعيمُ: الأمنُ والصحةُ.
ورويَ عنه مرفوعًا.
وقال علي بن أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) ، قال: النعيمُ: صحَّةُ الأبدانِ والأسماع والأبصارِ، يسألُ
اللَّهُ العبادَ: فيما استعملُوها؟
وهو أعلمُ بذلك منهم، وهو قولُه تعالى:
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) .
وخرَّجَ الطبرانيُّ من روايةِ أيوبَ بنِ عُتبةَ - وفيه ضعفٌ - عن عطاءٍ، عن
ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ، كانَ لهُ بها عهدٌ عندَ اللَّهِ، ومن
قالَ: سبحانَ اللَهِ وبحمدِهِ، كتِبَ له بها مائةُ ألفِ حسنةٍ، وأربعةٌ وعشرونَ ألف حسنةٍ"
فقالَ رجلٌ: كيفَ نَهلِكُ بعدَ هذا يا رسولَ اللَّهِ؟
قال: "إنَّ الرجلَ ليأتي يومَ(2/624)
القيامة بالعملِ، لو وُضِعَ على جبلٍ لأثقله، فتقومُ النِّعمَةُ مِن نِعم اللَّهِ، فتكاد أن تستنفدَ ذلك كلَّه، إلا أن يتطاول اللَّه برحمته ".
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ فيه ضعف - أيضًا - عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قالَ: "يُؤتى بالنعمِ يومَ القيامةِ، وبالحسناتِ والسيئاتِ، فيقولُ الله لنعمةِ مِنْ نعمهِ: خذي حقكِ من حسناتِهِ فما تتركُ له حسنةً إلا ذهبتْ بِهَا".
وبإسناده عن وهبِ بنِ منبهٍ، قالَ: عبدَ اللَّهَ عابدٌ خمسينَ عامًا، فأوحى
اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليه: إنِّي قد غفرتُ لكَ، قال: يا ربِّ، وما تغفرُ لي ولم
أذنبْ؟ فأذِنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لعرْقٍ في عنقه فضرب عليه، فلم ينم، ولم يُصلِّ، ثم سكنَ وقامَ، فأتاه مَلَكٌ، فشكا إليه ما لقيَ من ضربان العرقِ، فقالَ
الملكُ: إنَّ ربَّك عزَّ وجلَّ يقول: "عبادتُك خمسين سنة تعدلُ سكون ذا العرقِ ".
وخرَّج الحاكمُ هذا المعنى مرفوعًا من روايةِ سليمانَ بنِ هرمٍ القرشيِّ عن
محمدِ بنِ المنكدرِ عن جابر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن جبريل أخبرهُ أن عابدًا عبدَ اللَّهَ على رأسِ جبلٍ في البحرِ خمسَ مائةِ سنةَ، ثم سأل ربَّه أن يقبضهُ وهو ساجد، قال: فنحنُ نمُرُّ عليهِ إذا هبطْنَا وإذا عرَجنا، ونجدُ في العلمِ أنه يُبعث يومَ القيامةِ، فيوقف بينَ يدي الله عزَّ وجلَّ، فيقول الربُّ عزَّ وجلَّ: أدخلوا عبدي الجنةَ برحمتِي، فيقولُ العبدُ: يا ربِّ، بعملِي، ثلاثَ مرَّاتٍ، ثم يقولُ اللَّهُ للملائكةِ: قايسُوا عبدِي بنعمَتي عليه وبعملِهِ، فيجدونَ نعمةَ البصرِ قد أحاطتْ بعبادَة خمسِ مائةِ سنةٍ، وبقيتْ نِعَمُ الجسدِ لهُ، فيقولُ: أدخلوا عَبْديَ النارَ، فيُجرُّ إلى النارِ، فينادِي رَبَّه: برحمتكَ أدخلني الجنةَ، برحمتكَ،(2/625)
فيدخلُه الجنةَ، قالَ جبريلُ: إنما الأشياء برحمةِ اللَّهِ يا محمد.
وسُليمانُ بن هرمٍ، قال العقيليُّ: هو مجهولٌ وحديثُه غيرُ محفوظ.
وروى الخرائطيُّ بإسناد فيه نظرٌ، عن عبدِ اللَهِ بن عمرٍو مرفرعًا:
"يُؤتَى بالعبدِ يومَ القيامةِ، فيُوقَفُ بين يدي اللَّهِ، فيقولُ لملائكتهِ: انظرُوا في عملِ عبدِي ونعمتِي عليهِ، فينظرونَ فيقولونَ: ولا بقدْرِ نعمةٍ واحدةٍ من نِعَمكَ عليهِ، فيقولُ: انظروا في عملِهِ سيِّئه وصالحِهِ، فينظرونَ فيجدونَ كَفَافًا، فيقولُ: عبدِي، قد قبلتُ حسناتِك، وغفرتُ لك
سيِّئاتِكَ، وقد وهبتُ لكَ نِعَمِي فيمَا بينَ ذلكَ ".
* * *(2/626)
سُورَةُ الهُمَزَةِ
قالّ اللَّهٍ تعالّى: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
قال محمدُ بنُ كعبٍ القرظيّ في قولهِ: (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) قال: تأكُلهُ
النارُ إلى فؤادِهِ، فإذا بلغتْ فؤادَهُ أنشئ خلقُهُ.
عن ثابتٍ البنانيِّ أنه قرأ هذه الآيةَ ثم قال: تحرقُهُم إلى الأفئدةِ وهم أحياءٌ
لقد بلغَ منهم العذابُ ثم يبكي.
وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) .
قال صالحُ بن حيانَ عن ابنِ بريدةَ في قولهْ (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)
قالَ: تأكلُ العظمَ واللحمَ والمخَّ ولا تذرُهُ على ذلك.
وقال السديُّ: لا تُبقي من جلودِهم شيئًا ولا تذرُهُم من العذابِ.
وقالَ أبو سنانَ: لا تذرُهُم إذا بُدِّلُوا خلقًا جديدًا.
وقالَ أبو رزينٍ في قولهِ: (لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ) قال: تلفحُ وجههُ لفحةً تدعه
أشدَّ سوادًا من الليلِ، قال قتادةُ (لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ) : حراقةٌ للجلدِ.
خرَّجَه كلَّهُ ابنُ أبي حاتمٍ وغيره.
وقال اللَّهُ تعالَى: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) .
قال: تحرقُ كلَّ شيءٍ منهُ ويبقى فؤادُهُ يصيحُ.
وعن ابنِ زيدٍ قالَ: تقطَّعُ عظامُهُم ثم(2/627)
يجددُ خلقُهم وتبدلُ جلودُهم.
وروى ابنُ مهاجرٍ عن مجاهدٍ في قوله: (نَزاعَةً لِّلشَوَى) تنزعُ الجلدَ، وعنه
قالَ: تنزعُ اللحمَ ما دونَ العظم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
وقد وصفَ اللَهُ أبوابَها أنها مغلقة على أهلِهَا فقالَ: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
وقال تعالَى: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) .
قال مجاهدٌ: هي بلغةِ قريشٍ: أصدَ البابَ أغلقَهُ يعني قولَهُ: (مُّؤْصَدَةٌ)
وقالَ مقاتل: يعني أبوابها مطبقةً عليهم، فلا يفتحُ لها باب، ولا يخرجُ منها
غمٌ، ولا يدخلُ فيها روحٌ آخرَ الأبدِ.
وقد وردَ في ذلك حديثٌ مرفوعٌ خرَّجهُ ابنُ مردويه من طريقِ شجاع بنِ
أشرسَ حدثنا شريكٌ، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرةَ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ)
قال: "مطبقة"، ولكن رفعَهُ لا يصح.
وقد خرَّجَهُ آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" عن شريكٍ بهذا الإسنادِ موقوفًا عن أبي هريرةَ، ورواهُ إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ عن أبي صالح من قولهِ ولم يذكرْ فيهِ
أبا هريرةَ، وكذا قالَ عطاء الخراساني وغيرُه في "المؤصدةِ" أنها المطبقةُ.
وعن الضحاكِ قالَ: حائطٌ لا بابَ لهُ، ومرادُه - واللهُ أعلمُ - أن الأبوابَ
أطبقتْ فصار الجدارُ كانه لا بابَ لهُ، وقولُه تعالى: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) .
معناه: أطبقت عليهم بعمدٍ، قال قتادة: وكذلك(2/628)
هو في قراءةِ عبدِ اللَّهِ بعمد بالباءِ، قال عطيةُ: هي عمدٌ من حديدٍ في النارِ.
وقالَ مقاتلٌ: أطبقتِ الأبوابُ عليهم ثم شدتْ بأوتادٍ من حديد حتى يرجعَ
عليهم غمُّها وحرهُا.
وعلى هذا فقوله: (مُمَدَّدَةٍ) صفة للعمدِ يعني أن العمدَ التي أوثقتْ بها
الأبوابُ ممددة مطولة، والممدودُ الطويلُ أرسخُ وأثبتُ من القصيرِ.
وفي "تفسيرِ العوفيِّ " عن ابنِ عباس في قولهِ: (فِي عَمَد مُّمَدَّدَةٍ) قالَ: هيَ
عليهم مغلقةٌ أدخلهُم في عمد فمدتْ عليهِم بعمادٍ وفي أعناقِهم السلاسلُ
فسدتْ به الأبوابَ وقيلَ: إن الممددةَ صفةٌ للأبوابِ.
رواه شبيبُ بنُ بشير عن عكرمةَ عن ابنِ عباسِ وقيلَ: المرادُ بالعمدِ الممددةِ: القيودُ الطوالِ.
رواهُ إسماعيلُ بنُ أبي خالدِ عن أبي صالح، ورواهُ أبو خبابُ الكلبيُّ عن زبيدٍ عن إبراهيمَ، قالَ: قالَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودِ في قولهِ تعالى:
(فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة)
قالَ: هيَ الأدهمُ، وقد تقدَّم أن عبدَ اللَّهِ كانَ يقرؤُهَا بعمد والأدْهَمُ: القيدُ.
وكذا قالَ ابنُ زيد في قولِه: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قالَ: في عمدٍ من حديدٍ
مغلولينَ فيه، وتلك العمدُ من نارِ قد احترقتْ من النارِ فهي ممددة لهم.
وقيلَ: إن المرادَ بالعمدِ الممددةِ: الزمانُ الذي لا انقطاعَ له.
قاله أبو فاطمةَ.
وقال السدي: من قراهَا (فِي عَمَد) يعني بالفتح فهيَ عمد من نار، ومن
قرأهَا في (عُمُد) يعني بالضَمِّ فهو أجل ممدود.
وقال سعيدُ بنُ بشير عن قتادةَ: (مُّؤْصَدَة) أي: مطبقةٌ أطبقَهَا اللَّهُ عليهم
فلا ضوءَ فيها ولا فرجَ ولا خروجَ منها آخرَ الأبدِ.(2/629)
وهذا الإطباقُ نوعانِ:
أحدُهما: خاصٌّ لمن يدخلُ في النارِ أو مَن يريدُ التضييقَ عليهِ، أجارنا اللَّهُ
من ذلكَ، قال أبو توبة اليزنيّ: إنَّ في النارِ أقوامًا مؤصدةٌ عليهم كما يطبقُ
الحقُّ على طبقِهِ، خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ.
والثاني: الإطباقُ العامُّ وهو إطباقُ النارِ على أهلِها المخلدينَ فِيهَا.
وقد قالَ سفيانُ وغيرُه في قولِهِ تعالى: (لا يَحْزنهُمُ الْفَزَعُ الأَكبَرُ)
قالوا: هو طبقُ النارِ على أهلِها.
وفي حديثِ مسكينَ أبي فاطمةَ عن اليمانِ بنِ يزيدِ، عن محمدِ بن حميرِ.
عن محمدِ بنِ عليِّ، عن أبيهِ، عن جدّهِ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في خروج الموحدينَ من النارِ، قالَ:
"ثم يبعثُ اللَهُ ملائكةً معهمُ مساميرُ من نارِ وأطباقُ من نار، فيطبقونَهَا
على من بقي فيها ويسمرونَها بتلكَ المساميرِ، يتناساهمُ الجبارُ على عرشِهِ من رحمته، ويشتغلُ عنهم أهلُ الجنةِ بنعيمِهم ولذاتِهم "
خرَّجهُ الإسماعيليُّ وغيره، وهو حديثٌ منكر؛ قاله الدارقطنيُّ.
وروى ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن سعيدِ بنِ جبيرِ، قالَ: ينادِيَ رجلٌ في
شعبِ من شعابِ النارِ مقدارَ ألف عامِ، يا حَنَّان يا مَنَّان، فيقولُ اللَّهُ تعالى:
يا جبريلُ أخرجْ عبدِي، فيجدُها مطبقةٌ، فيقولُ: يا رب إنَّها عليهم مطبقة
مؤصدةٌ.
وقال قتادةُ عن أبي أيوبَ العتكيُّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو: إذَا أجابَ اللَّهُ
أهلَ النارِ بقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تكَتِمُونِ) أطبقتْ عليهم.
فيئسَ القومُ بعدَ تلكَ الكلمةِ، وإن كانَ إلا الزفيرُ والشهيقُ.(2/630)
وقال أبو الزعراء عن ابنِ مسعودٍ: وإذا قيلَ لهمُ: (اخْسَئوا فِيهَا وَلا
تُكَلِّمُونِ) أطبقتْ عليهم فلم يخرجْ منهم أحد.
وقال أبو عمرانَ الجوني: إذا كانَ يومَ القيامةِْ أمرَ اللَّهُ بكلِّ جبارٍ عنيدٍ.
وكلِّ شيطانٍ مريدٍ، وبكلِّ من يخافُ في الدنيا شره العبيدِ، فأوثقُوا بالحديدِ.
ثم أمرَ بهم إلى جهنَم التي لا تبيدُ، ثم أوصدَهَا عليهم ملائكةُ ربِّ العبيدِ.
قالَ: فلا واللَّه لا تستقرّ أقدامُهم على قرارِ أبدًا، ولا واللَّهِ لا ينظرونَ فيها
إلى أديمِ سماءٍ أبدًا، ولا واللَّهِ لا تلتقي جفونُ أعينهِم على غمضِ نومٍ أبدًا.
ولا واللَّهِ لا يذوقونَ فيها باردُ شرابِ أبدًا.
وفي معنى إطباقِ النارِ على أهلِهَا يقولُ بعضُ السلفِ - رضي الله عنهم -:
ألبسُوا النضيجَ من النحاسِ، ومنعوا خروجَ الأنفاسِ، فالأنفاسُ في
أجوافِهِم تترددُ، والنيرانُ على أبدانِهم توقدُ، قد أطبقتْ عليهم الأبوابُ
وغضبَ عليهم ربُّ الأربابِ، وأنشدَ بعضُهم في هذا المعنى:
لو أبصرتْ عيناكَ أهلَ الشَّقَا. . . سِيقُوا إلى النارِ وقدْ أُحرِقُوا
يَصْلَونَها حينَ عَصَوا ربهم. . . وخالفُوا الرسلَ وما صدَّقُوا
تقولُ أخرَاهُم لأولاهُمُ. . . في لجج المهلِ وقد أغْرِقُوا
قد كنتمُ حذرتمُ حرهَا. . . لكنْ من النيرانِ لم تَفْرَقُوا
وجيءَ بالنيرانِ مزمُومةً. . . شَرَارُهَا مِنْ حولِهَا محرقُ
وقيلَ للنيرانِ أنْ أحرِقي. . . وقيلَ للخزانِ أنْ أطبقُوا -
وقد وردَْ في بعضِ أحاديثِ الشفاعةِ فتحُ بابِ النارِ، فخرجَ الطبرانيُّ من(2/631)
روايةِ الغباسِ بنِ عوسجةَ، حدثني مطر أبو مُوسى مولَى آل طلحةَ، عن
أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّى آتي جهنَّم فأضربُ بابَها، فيفتحُ لي فأدخُلها، فأحمدُ
اللَّهَ بمحامد ما حمَدهُ بها أحدٌ قبلي مثلَهَا ولا يحمدُه أحدٌ بعدي، ثم أخرجُ منها من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ مخلصًا، فيقومُ إليَّ ناسٌ من قريشٍ فينتسبونَ إليَّ، فأعرف نسبَهُم ولا أعرفُ وجوهَهُم فاتركهم في النارِ" إسنادُه ضعيفٌ.
* * *(2/632)
سُورَةُ الفِيلِ
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
كانت قصَّةُ الفيلِ توطِئةً لنبوَّتِهِ وتقدمَةً لظُهوره وبعثتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد قصَّ اللَّه تعالى ذلك في كتابه فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) .
فقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)
استفهامُ تقريرٍ لِمن سمع هذا الخطابَ، وهذا يدُلُّ على اشتهارِ ذلكَ بينهم ومعرفتِهم به، وأنَّه ممّاً لا يخفَى علمُه على العربِ، خصوصًا قريش وأهل مكَّةَ، وهذا أمر اشتهرَ بينهُم وتعارفُوه، وقالوا فيه الأشعارَ السَّائرةَ.
وقد قالتْ عائشة - رضي الله عنها -: رأيتُ قائدَ الفيلِ وسَائِسَهُ بمكَّةَ أعميينِ يستطعمانِ.
وفي هذه القصَّة ما يدلُّ على تعظيم مكَّةَ، واحترامِها واحترامِ بيتِ اللَّه الذي
فيها، وولادةُ النًّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عقيبَ ذلك تدُلُّ على نبوَّته ورسالتهِ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بتعظيمِ هذا البيتِ وحجِّه والصلاة إليهِ، وكانَ هذا البلدُ هو موطِنه ومولده.
فاضطرَّه قومُهُ عندَ دعوتِهِم إلى اللًّهِ تعالى إلى الخُروج منه كُرهًا بما نالوه منه(2/633)
مِنَ الأذَى، ثم إن اللَّه تعالى ظفَّرهُ بهم، وأدخلهُ عليهم قهرًا، فملكَ البلدَ
عنوةً، وملكَ رقابَ أهلهِ، ثمَّ منَّ عليهِم وأطلقهم وعفا عنهم، فكانَ في
تسليطِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا البلدِ وتمليكهِ إياه ولأمَّتهِ منْ بعدِهِ ما دلَّ على صحَّةِ نبوَّتهِ، فإنَّ اللَّهَ حبسَ عنه من يُريدُه بالأذى وأهلكهُ، ثم سلَّطَ عليه رسولهُ وأمَّتهُ كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ اللَّه حبسَ عن مكَّةَ الفيلَ وسلَّطَ عليها رسولهُ والمؤمنينَ ".
فإنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأُمته إنَّما كان قصدُهم تعظيمَ البيتِ وتكريمهُ واحترامَهُ.
ولهذا أنكرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح على منْ قال: اليومَ تُستحلُّ الكعبةُ، وقال: "اليومَ تُعظَّمُ الكعبةُ".
وقد كان أهلُ الجاهليةِ غيَّروا دينَ إبراهيمَ وإسماعيلَ بما
ابتدَعوه من الشِّركِ وتغييرِ بعضِ مناسكِ الحجِّ، فسلَّطَ اللَّهُ رسولهُ وأُمته على
مكَّةَ فطهرُوها مِن ذلك كله، وردُّوا الأمرَ إلى دينِ إبراهيمَ الحنيفِ، وهو
الذي دعا لهم مع ابنه إسماعيلَ عند بناءِ البيت أن يبعثَ اللَّه فيهم رسولاَ
منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمةَ، فبعثَ اللَّهُ فيهم
محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - من ولدِ إسماعيلَ بهذه الصِّفةِ، فطهَّرَ البيتَ وما حولَه من الشِّركِ، وردَّ الأمرَ إلى دينِ إبراهيمَ الحنيفِ، والتوحيد الذي لأجلهِ بُنيَ البيتُ، كما قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) .
وأمَّا تسليطُ القرامطةِ على البيتِ بعد ذلك، فإنَّما كانَ عقوبةً بسببِ ذنوبِ
النَّاسِ، ولم يصلُوا إلى هدمِهِ ونقضِهِ ومنع النَّاسِ من حجّهِ وزيارتِهِ، كما كان
يفعلُ أصحابُ الفيلِ لو قدرُوا على هدمِهِ وصرفِ النَّاسِ عن حجِّهِ،(2/634)
والقرامطةُ أخذُوا الحجرَ والبابَ، وقتلوا الحاجَّ وسلبُوهم أموالَهم، ولم
يتمكّنوا من منع النَّاسِ من حجِّهِ بالكُليَّةِ، ولا قدرُوا على هدمِهِ بالكليةِ، كما كانَ أصحابُ الفيلِ يقصدُونهُ، ثم أذَلَّهم اللَّهُ بعدَ ذلكَ وخذلَهم وهتكَ
أستارَهُم، وكشفَ أسرارَهُم.
والبيتُ المُعظَّمُ باقٍ على حالِهِ من التَّعظيم، والزّيارة، والحجِّ والاعتمارِ.
والصلاةِ إليه، لم يبطُلْ شيء من ذلك عنه بحمدِ اللَّهَ ومنِّهِ، وغايةُ أمرِهم
أنَّهم أخافُوا حاجَّ العراقِ حتَّى انقطعُوا بعضَ السِّنين، ثم عادُوا، ولم يزلِ الَلَّهُ
يمتحنُ عبادَهُ المؤمنينَ بما يشاءُ من المحن، ولكن دينه قائم محفوظٌ لا يزالُ
تقومُ به أُمَّة من أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا يضرُّهُم منْ خذلَهم حتَّى يأتِيَ أمر اللَّهِ وهُمْ على ذلك، كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) .
وقد أخبرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا البيتَ يُحجّ ويُعتمرُ بعدَ خروج يأجوج ومأجوجَ، ولا يزالُ كذلك حتَّى تُخرّبهُ الحبشة، ويلقونَ حجارتهُ في البحر، وذلك بعدَ أنْ يبعثَ اللَّهُ ريحًا طيِّبةً تقبضُ أرواحَ المؤمنينَ كلِّهم، فلا يبقى في الأرضِ مؤمنٌ، ويسرَى بالقرآنِ من الصدُورِ والمصاحِفِ، فلا يبقَى في الأرضِ قراَنٌ، ولا إيمانٌ، ولا شيء مِن الخيرِ، فبعدَ ذلك تقومُ السَّاعةُ، ولا تقومُ إلا على شرارِ النَّاسِ.
* * *(2/635)
سُورَةُ المَاعُون
قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
وقد وردتْ آثار كثيرة عن السلفِ في تاركِ الصلاةِ عمدًا، أنَّه لا تُقبلُ منه
صلاةٌ، كما رُوي عن الصدِّيقِ - رضي الله عنه -، أنَّه قالَ لعُمرَ في وصيتهِ له: إنَّ للَّهِ حقًّا باللَّيلِ لا يقبلُهُ بالنهارِ، وحقًّا بالنهارِ لا يقبلُهُ باللَّيلِ.
يشيرُ إلى صلواتِ اللَّيلِ والنهارِ.
وفي حديب مرفوع: "ثلاثةٌ لا يُقبلُ لهُمْ صلاة"، ذكرَ منهم:
"الذي لا يأتي الصلاةَ إلا دبارًا" - يعني: بعدَ فواتِ الوقتِ.
خرَّجه أبو داود وابنُ ماجةَ من حديثِ عبدِ اللَّه بن عمرو - مرفوعًا.
وفي إسنادهِ ضعفٌ.
ولكن مجرد نفي القبولِ لا يستلزمُ عدمَ وجوبِ الفعلِ، كصلاةِ السَّكرانِ
في مدةِ الأربعينِ، وصلاةِ الآبقِ والمرأةِ التي زوجُها عليها ساخطٌ.
فإنْ قِيلَ: فقد قالَ تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) .
وفسَّره الصحابةُ بإضاعةِ مواقيتها.
وكذَا قالَ ابنُ مسعودٍ في المحافظةِ على الصلاةِ: أي المحافظة على
مواقيتها، وأنَّ تركَها كفر.(2/636)
ففرقُوا بين تركِها وبينَ صلاتِها بعدَ وقتِها.
وقدْ أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاةِ خلفَ منْ أخبرَ أنه يضيعُ الصلاةَ ويُصلِّيها لغيرِ وقتِها، وهذا يدلُّ على أنَّ صلاتَهم صحيحةٌ.
وقد سُئِلَ عنِ الأمراءِ وقتَالِهم؟
قالَ: "لا، مَا صَلَّوا، وكانتْ علَى هذا الوجهِ ".
فدلَّ على إجزائِها.
قيل: السهوُ عن مواقيتِ الصَّلاةِ لا يستلزمُ تعمد التأخيرِ عنِ الوقتِ
الحاضرِ، فإنَّه قدْ يقعُ على وجهِ التهاونِ بتأخيرِ الصلاةِ حتَّى يفوتَ الوقتُ -
أحيانًا - عن غيرِ تعمدٍ لذلك، وقد يكونُ تأخيرُها إلى وقتِ الكراهةِ، أو إلى
الوقتِ المشتركِ الذي يجمعُ فيه أهلُ الأعذارِ عندَ جمهورِ العلماءِ، وغيرُهم
على رأي طائفة من المدنيين.
وهذه الصلاةُ كلُّها مجزِئةٌ، ولا يكونُ المصلِّي لها كالتاركِ بالاتفاقِ -
وقد سُئَلَ سعيدُ بنُ جُبير، عن قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) .
فدخلَ المسجدَ، فرأَى قومَّاً قد أخَّروا الصلاةَ، لا يُتمُّونَ
رُكُوعًا ولا سجُودًا، فقالَ: الذي سألْتَني عنهُم هُم هؤلاء.
وهذه الصلاةُ مثلُ الصلاةِ التي سمَّاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة المنافقين ".
وهكذا كانتْ صلاةُ الأمراءِ الذين أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاةِ خلفهم نافلةً، فإنَّهم كانوا يُؤخِّرُون العصرَ إلى اصفرارِ الشَّمسِ، ورُبَّما أخَّرُوا الصلاتينِ إلى ذلك الوقتِ، وهو تأخير إلى الوقتِ المشتركِ لأهلِ الأعذارِ، وكغيرِهم عندَ طائفةٍ من العلماءِ.
فليسَ حُكمهُم حكمَ منْ تركَ الصلاةَ؛ فإنَّ التاركَ هو المُؤخِّرُ عمدًا إلى(2/637)
وقتِ مُجمع على أنَّه غيرُ جائز، كتأخيرِ صلاةِ اللَّيلِ إلى النهارِ، وصلاةِ
النهارِ إلى اللَّيلِ عمدًا، وتأخيرِ الصبح إلى بعدِ طلوع الشمسِ عمدًا.
* * *(2/638)
سُورَةُ النَّصْرِ
قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
جاءَ في حديثٍ أنَّها: "تَعْدِل ربعَ القرآنِ ".
وهيَ مدنية بالاتفاقِ؛ بمعْنَى: أنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الهِجْرَةِ إلى المدينةِ، وهِيَ مِنْ
أواخرِ ما نَزَلَ.
وفي "صحيح مسلم " عَن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: آخرُ سورةٍ نَزَلَت من القرآنِ
جميعًا: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) .
واختُلفَ في وقتِ نزولِهَا، فقيلَ: نزلتْ في السَّنَة الَّتي تُوفِّيَ فيهَا
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عَنْ محمدِ بنِ فُضيلٍ عَنْ عطاء عَنْ سعيدِ بنِ
جبيرٍ عَنْ ابنِ عباسٍ قالَ: لما نزلَتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)
قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"نُعِيَتْ إليَّ نفسي " بأنَّه مقبوضٌ في تلكَ السنة.
عطاءٌ هو ابنُ السائب اختلطَ بآخِرَةٍ.(2/639)
ويشهدُ لهُ مَا أخرجَهُ البزارُ في "مسندِهِ " والبيهقي مِنْ حديثِ موسى بنِ
عبيدةَ عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ دينار وصدقةَ بنِ يسار عَنْ ابنِ عُمَرَ قال: نزلتْ هذه
السورةُ علَى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بمنًى، وهوَ في أوسطِ أيامِ التشريقِ في حَجَّةِ الوداع (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فَعَرِفَ أنَّه الوداعُ، فأمرَ براحلتِهِ القصواءَ، فرُحلتْ لَهُ، ثمَّ ركبَ، فوقفَ للناسِ بالعقبةِ، فحمدَ اللَّهَ وأثنَى عليهِ - وذكرَ خطبةً طويلة".
هذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا، ومُوسى بنُ عبيدةَ قال أحمدُ: لا تحلُّ عِنْدِي
الروايةُ عنْهُ.
وعنْ قتادةَ قال: عاشَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَهَا سنتينِ.
وهذا يَقْتَضِي أَنَّها نزلتْ قَبْلَ الفتح، وهذا هو الظاهرُ لأنَّ قولَهُ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) يَدُلُّ دلالةً ظاهرة على أنَّ الفتحَ لم يكنْ قَدْ جاءَ بعدُ، لأنَّ
"إذَا" ظرفٌ لِمَا يُستقبلُ مِنَ الزَّمانِ، هذا هو المعروفُ في استعمَالِهَا، وإنْ كانَ قَدْ قِيلَ: إنَّها تَجيءُ للماضِي كقولِهِ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا) .
وقوله: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ
عَلَيْهِ) .
وقدْ أُجيبَ عَنْ ذلكَ بأنَّه أُريدَ أَنَّ هذا شأنُهم ودأبهُم، لم يُرِدْ بِهِ الماضي
بِخُصُوصِهِ، وسنذكرُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال بعد نزول هذهِ السورةِ: "جاءَ نصرُ اللَّهِ والفتح، وجاءَ أهلُ اليمنِ ".
ومجيءُ أهْلِ اليَمَنِ كانَ قبلَ حَجَّةِ الوداع.(2/640)
قولُه تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) .
أمَّا نصرُ اللَّهِ فهُوَ معونتُه علَى الأعداءِ حتَّى غَلَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العربَ كلَّهم، واستولَى عليهِم مِنْ قريشٍ وهوازنَ وغيرِهم، وذكرَ النقَاشُ عنْ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النصرَ: هو صُلْحُ الحديبيةِ.
وأمَّا الفتحُ فقيلَ: هُوَ فتحُ مكةَ بخصوصِهَا، قالَ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: لأنَّ
العربَ كانتْ تنتظرُ بإسلامِهَا ظهورَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكةَ.
وفي "صحيح البخاريِّ " عَنْ عمرِو بنِ سلمةَ قالَ: لمَّا كانَ الفتحُ بادَرَ كُلُّ
قومٍ بإسلامِهِم إلى رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكانتِ الأحياءُ تلوَّمُ بإسلامِهَا فتحَ مكةَ فيقولونَ: دعُوهُ وقومَه، فإنْ ظهرَ عليهِم فهوَ نبي - صلى الله عليه وسلم -.
وعن الحسنِ قالَ: لمَّا فتحَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ، قالتِ العربُ: أمَّا إذا ظَفَر محمدٌ بأهلِ مكةَ، وقدْ أجارَهُمُ اللَّهُ مِنْ أصحابِ الفيلِ فليسَ لكم به يدانِ، فدخلُوا في دينِ اللَّهِ أفواجًا.
وقيلَ: إنَّ الفتحَ يَعُمُّ مكةَ وغيرَها مما فُتِحَ بَعْدَهَا من الحصونِ والمدائنِ.
كالطائفِ وغيرِها مِنْ مُدنِ الحجازِ واليمنِ وغيرِ ذلكَ، وهُوَ الذي ذكرهُ ابنُ
عطيةَ.
وقولُهُ: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا) .
المرادُ بالنَّاسِ العمومُ على قولِ الجمهورِ، وعَنْ مقاتل: أنَّهم أهل اليمنِ.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" مِنْ طريقِ شعبةَ عَنْ عمرِو بن مرةَ عَنْ أبي
البَخْتريِّ عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: لمّا نزلتْ هذه السورةُ:(2/641)
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ) ، قالَ: قرأَهَا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى خَتَمَها فقالَ: "الناسُ حَيِّزٌ وأنا وأصحابي حَيِّزٌ"، وقال: "لا هِجْرَةَ بعد الفتح، ولكنْ جِهَاد ونيَّة".
وأنَّ مروانَ كذَّبه فصدَّق رافعُ بنُ خديج وزيدُ بنُ ثابتٍ أبا سعيدٍ على ما قالَ.
وهذا يُستدلُ بِهِ علَى أَن المرادَ بالفتح فتحُ مكةَ، فقدْ ثبتَ في "الصحيحينِ "
منْ حديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ الفتح:
"لا هجرةَ، ولكنْ جهاد ونيَّة".
وأيضًا فالفتحُ المطلقُ هوَ فتحُ مكةَ كَمَا في قولِهِ: (لا يَسْتَوِي مِنكم مَّنْ أَنفَقَ
مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ، ولهذا قالَ: "الناسُ حَيِّزٌ وأنا وأصحابي حَيِّزٌ".
وروى النسائيُّ مِنْ طريقِ هلالِ بنِ خَبَّابٍ عنْ عكرمةَ عنْ ابنِ عباس قالَ:
لمَّا نزلتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلَى آخرِ السورةِ قال: نُعِيَتْ اسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نفسُهُ حينَ أُنزلتْ فأخَذَ في أشدِّ مَا كانَ اجتهادًا في أمرِ الآخرةِ، وقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ: "جاءَ الفتحُ، وجاءَ نصرُ اللهِ، وجاءَ أهلُ اليمنِ ".
فقالَ رجلٌ: يا رسول اللَّهِ، ومَا أهلُ اليمنِ؟
قالَ: "قوم رقيقة قلوبُهم، لينةٌ قلوبهم.
الإيمانُ يمانٍ، والحكمةُ يمانية والفقهُ يمانٍ ".
وروى ابنُ جريرٍ منْ طريقِ الحسينِ بنِ عيسى الحنفيِّ عنْ معمرٍ عن الزهريِّ
عنْ أبي حازمٍ عن ابنِ عباسٍ قالَ: بينما رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ إذْ قالَ: "اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، جاءَ نصرُ اللهِ والفتح، جاءَ أهلُ اليمنِ "، قيل: يا رسولَ الله،(2/642)
وما أهلُ اليمنِ؟ قالَ: "قومٌ رقيقةٌ قلوبُهم، لينةٌ طباعُهُم، الإيمانُ يمانٍ، والفقهُ يمانٍ، والحكمةُ يمانيةٌ ".
ورواه أيضًا مِنْ طريقِ عبدِ الأعْلَى عَنْ معمرٍ عَنْ عكرمةَ مرسَلاً، وكذا
هُوَ في "تفسيرِ عبدِ الرزاقِ ": عَنْ معمرٍ أخبرَنِي مَنْ سَمِعَ عكرمةَ فأرسَلَهُ.
وهذَا لا يدلُّ على اختصاصِ أهلِ اليمنِ بالنَّاسِ المذكورينَ في الآيةِ وإنَّما
يدلُّ علَى أنَّهُم داخلونَ في ذلكَ فإنَّ الناسَ أعمُّ مِنْ أهلِ اليمنِ.
قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: لم يَمُتْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وفي العَرَبِ رجُلٌ كافرٌ بَلْ دَخَلَ الكُلُّ في الإسْلامِ بعد حُنين والطائفِ، منهم مَنْ قَدِمَ، ومنهم مَنْ قدِمَ وافدُهُ، ثُمَّ كانَ بعدُ من الردةِ ما كانَ، ورجَعُوا كُلُّهم إلى الدينِ.
قالَ ابنُ عطيةَ: المرادُ - واللَّهُ أعلمُ -: العربُ عبدةُ الأوثانِ، وأمَّا نصارَى
بني تغلبٍ فمَا أرَاهُم أسلَمُوا قط في حياةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لكنْ أَعْطوا الجزيةَ.
والأفواجُ: الجماعةُ إثْرَ الجماعَةِ كَمَا قالَ اللَّهُ تعالَى: (كُلَّمَا أُلْقِي فِيهَا فَوجٌ)
وفي "المسندِ" مِنْ طريقِ الأوزاعيِّ حدَّثَني أبو عمَّارٍ حدَّثني جارٌ
لجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ قال: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ يُسَلِّمُ
عليّ، فجعلتُ أحدِّثُه عَنْ افتراقِ النَاسِ ومَا أحْدَثُوا، فجَعَلَ جابِرُ يَبكِي، ثُمَّ
قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"إنَّ النَّاسَ دخَلوا في دينِ الله أفْوَاجًا، وسيخرجونَ منهُ أفْواجًا ".(2/643)
وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) .
فيه قولانِ حكاهُمَا ابنُ الجَوزِي.
أحدُهُما: أنَّ المرادَ به الصلاةُ، نَقَلَهُ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ.
والثاني: التسبيحُ المعروفُ.
وفي الباءِ في "بحمدِ" قولانِ:
أحدُهُما: أَنَّها للمُصَاحبةِ فالحمدُ مُضافٌ إلى المفعولِ، أَيْ فسبِّحْهُ حامدًا
لَهُ، والمعْنَى: أجْمعُ بينَ. تسْبيحِهِ وهُوَ تنزيهُهُ عَمَّا لا يليقُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ.
وبين تحمِيدِهِ وهوَ إثباتُ ما يليقُ بِهِ مِنَ المَحَامِدِ.
والثاني: أَنَّها للاستعانَةِ، والحمدُ مُضَافٌ إلى الفَاعِلِ، أي سبِّحْهُ بما حَمِد
به نفسَهُ إذْ ليسَ كُل تسبيح بمحمود كَمَا أنّ تسبيحَ المعتزلةِ يقْتَضِي تعطيلَ كثيرٍ من الصفاتِ، كَمَا كانَ بشرُ المَرِيسيُّ يقولُ: سبحانَ ربي الأسْفَل.
وقولُه: (وَاسْتَغْفِرْهُ) .
أي اطلبْ مغفرَتَهُ، والمغفرةُ هِيَ وقايةُ شَرِّ الذنبِ لا مجردُ سَتْر.
والفرقُ بَيْنَ العفوِ والمغفرةِ أنَّ العفْوَ محوُ أثرِ الذنبِ، وقدْ يكونُ بَعْدَ عقوبةٍ
بخلافِ المغفرةِ فإنَّها لا تكونُ مَعَ العقوبةِ.
وقولُه: (إِنَّهُ كانَ تَوَابًا) .
إشارةٌ إلى أنَّه سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ توبةَ المستغفرينَ المنيبينَ إليهِ، فَهُوَ ترغيبٌ في
الاستغفارِ، وحَثٌّ على التوبةِ، وقَدْ فَهِمَ طائفةٌ مِنَ الصحَابَةِ - رضي الله عنهم - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بالتسبيح والتحميدِ والاستغفارِ عندَ مجيءِ نصرِ اللَّهِ والفتح، شُكرًا للَّهِ(2/644)
على هذهِ النعمةِ، كَمَا صَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتح مكةَ ثماني ركعاتٍ، وكذلكَ صَلَّى سعد يومَ فتح المدائنِ، وكانتْ تُسَمَّى: صلاةُ الفتح.
وأمَّا عُمَرُ وابنُ عباسٍ فَقَالا: بلْ كانَ مجيءُ النَّصرِ والفتح علامةَ اقترابِ
أجلهِ، وانقضاءِ عُمرِه، فأُمِرَ أنْ يختمَ عملَه بذلكَ، ويتهيأ للقاءِ اللَّهِ، والقدومِ عليهِ على أكْمَلِ أحوالِهِ وأتمِّها، فإنَّه لمَّا جاءَ نصرُ اللَّهِ والفتحُ بحيثُ صارت مكة دارَ إسلام، وكذلكَ جزيرةُ العربِ كُلُّها، ولمْ يبْقَ بِهَا كافر، ودخلَ الناسُ في دينِ اللَّهِ أفواجًا.
وقد بلَّغ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رسالاتِ ربِّه، وعلَّمَ أمتَهُ مناسكَهُم وعباداتِهم، وتركَهُم على البيضاءِ، ليلُها كنهارِهَا، ولم يبقَ لهُ من الدُّنيا حاجةً، فحينئذ تهيّأ للنَّقلةِ إلى الآخرةِ فإنَّها خير لَهُ مِنَ الأُولى، ولهذَا نزلتْ: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ) بِعَرَفةَ.
وعلَّمَ الأمةَ مناسِكَهُم، وقالَ لَهُم: "لَعَلِّي لا أراكم بَعْدَ عامِي هَذا".
وقالَ لَهُم: "هَلْ بَلَّغتُ؟ "، قالُوا: نَعَمْ، وأشهدَ اللَّهَ عليهم بذلكَ، وودعًّ
النَاسَ فقالُوا: هذه حَجَّةُ الوداع.
وقدْ خُيِّرَ - صلى الله عليه وسلم - بينَ الدنيا وبين لقاء ربِّه، فكانَ آخرَ ما سُمِعَ منه: "اللهمَّ الرفيقَ الأعْلَى".
ونظيرُ هذا الفهم الذي فهمَهُ عمرُ مِنْ هذهِ السورةِ ما فهمَهُ أبو بكر مِنْ(2/645)
قولِ النبى - صلى الله عليه وسلم - في خطْبَتِهِ: "إن عبْدًا خير بينَ الدنيا وبين لقاءِ ربهِ، فاختارَ لقاءَ رِّبهِ ".
وقدْ سَبَقَ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ ما يدل على ذلكَ.
وفي "صحيح البخاريِّ " مِنْ حديثِ سعيدِ بنِ جبيرٍ عنْ ابنِ عبَّاسٍ قالَ:
كانَ عمرُ يُدخِلُني مَعَ أشياخ بدرٍ فكان بعضَهُم وجَدَ في نفسهِ فقالَ: لِمَ
تُدْخلُ هذا مَعَنَا ولنا أبناءٌ مثلُه؟
فقالَ عمرُ: إنَه ممِّن قَدْ عَلِمتم، فدعاهُم ذاتَ
يومٍ فأدْخَلَهُ معهُم، فما رأيتُ أنَّه دَعَاني فيهِم يومئذٍ إلا لِيُريَهم، فقالَ: ما
تقولونَ في قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ؟
فقالَ بعضُهُم: أمِرنا أنْ نحْمِدَ اللَّهَ ونستَغْفره إذا جاءَ نصرُنا وفتِحَ عليْنَا، وسكتَ بعضُهُم فلمْ يَقل شيئًا!
فقال لي: أكذاكَ تقولُ يا ابنَ عباسٍ؟
فقلت: لا، قال: ما تقولُ؟
قلتُ: هو أجلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْلَمَهُ لهُ قالَ:
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفتحُ) فذاكَ علامَةُ اجَلِكَ، (فَسَبِّحْ بِحَمْد رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا) فقالَ عمرُ بنُ الخطاب: ما أعلمُ منها إلا ما تقول وقد رُويتْ هذه القصةُ عن ابن عباسٍ منْ غيرِ وجهٍ.
وفي "المسندِ" عنْ أبي رزينٍ عن ابنِ عباسٍ قالَ: لمَّا نزلتْ:
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) عَلِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه قد نُعيتْ إليه نفسُه.
وقد سَبقَ منْ حديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نَزَلتْ هذه السورةُ أخذَ في أشدِّ ما كانَ اجتهادًا في أمرِ الآخرةِ.(2/646)
وروى الخرائِطي في "كتابِ الشُّكْرِ" مِنْ طريقِ شاذِ بنِ فياضٍ عَن الحارثِ
بنِ شبلٍ عنْ أمِّ النُّعمانِ الكِنديةِ عنْ عائشةَ قالتْ: لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ:
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) اجتهدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في العبادةِ فقيلَ لهُ: يا رسول اللَّهِ، ما هذا الاجتهادُ؟
أليسَ قدْ غَفَر اللَّهُ لكَ ما تقدَّم من ذنبكَ وما تأخَّر؟!
قال: "أفَلا اكونُ عَبْدًا شكُورًا "، إسنادُه ضعيفٌ.
وروى البيهقيُّ مِنْ طريقِ سعيدِ بنِ سليمانَ عَنْ عبَّادِ بنِ العوامِ عَن هلالٍ
بن خَبَّابٍ عنْ عكرمةَ عْن ابنِ عباسٍ قال: لمَّا نزلتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالْفَتْحُ) دعَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فاطمةَ، وقال: "إنَّهُ قد نُعِيَتْ إليَّ نفسِي "، فَبكتْ، ثُمَّ ضَحِكَتْ، وقالتْ: أخبرني أنه قد نُعيَ إليه نفسه فبكيتُ، ثمَّ أخبرَنِي بأنَكِ أوَّل أهلي لِحَاقًا بي فَضحِكْتُ.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ من التسبيح والتحميدِ والاستغفارِ بعدَ نزولِ هذهِ السورةِ، ففي "الصحيحينِ " عَنْ مسروقٍ عَنْ عائشةَ قالتْ: كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ أنْ يقول في ركوعِهِ وسجودِهِ: "سبحانكَ اللهُمَّ رَبَّنا وبحمدِكَ اللهمَّ اغفرِ لِي " يتأول القرآنَ.
وفي "المسنَدِ" و "صحيح مسلم " عنها قالتْ: كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ في آخرِ أمر مِنْ قول: "سبحانَ اللَّهِ وبِحَمْدهِ، استغفرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إليهِ ".
وقالَ: "إنَّ ربي كانَ أخبَرَني أنِّي سَأرَى علامةً في أمتي، وأمَرَنِي إذا رأَيتُها أنْ أُسبِّحَ بحمدِهِ(2/647)
وأستغفرَهُ إنَه كانَ توَّابًا، فَقَدْ رأيتُها: (إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّهِ وَالْفَتْح) " السورةَ كلَّها.
ورَوى ابنُ جريرٍ مِنْ طريقِ حفصٍ ثنا عاصم عَنِ الشعبيِّ عَن أمِّ سلمةَ
قالتْ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في آخرِ أمرِهِ لا يقومُ ولا يقعدُ ولا يذهبُ ولا يجيءُ إلا قالَ: "سبحان اللهِ وبحمدِهِ "، فقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّكَ تُكثرُ مِنْ: "سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ "، لا تذهبُ ولا تجيءُ ولا تقومُ ولا تقعدُ إلا قلتَ: "سبحان اللهِ وبحمدِهِ " قالَ: "إني أُمرْتُ بهَا".
فقالَ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخرِ السورةِ. غريبٌ.
وفي "المسندِ" عن أبي عبيدةَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ قالَ: لمَّا نزلتْ علَى
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح) كانَ يُكثرُ إذَا قرأَهَا وركعَ أنْ يقولَ: "سبحانك اللهُمَّ ربنا وبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغفرْ لي، إنَكَ أنتَ التوابُ الرحيمُ " ثَلاثًا.
واعلمْ؛ أنْ التسبيحَ والتحميدَ فيهِ إثباتُ صِفَاتِ الكمالِ، ونفيُ النقائصِ
والعيوبِ.
والاستغفارُ يتضمنُ وقايةَ شرِّ الذنوبِ.
فذاكَ حَق اللَّهِ، وهذَا حق عبدِهِ، ولَهِذا في خطبةِ الحَاجَةِ: "الحمدُ للَّهِ نحمدُهُ
ونسْتعينُهُ ونسْتغفرُهُ ".
وكانَ رجل في زمنِ الحسنِ البصريِّ مُعَتزِلٌ النَّاس فسالهُ الحسنُ عَنْ حالِهِ؟(2/648)
فقالَ: إني أُصِبحُ بين نعمةٍ وذنْبٍ فأحدِثُ للنعمةِ حَمْدًا، وللذنبِ استغفارًا.
فأنا مشغولٌ بذلكَ، فقالَ الحسنُ: الزمْ مَا أنتَ عليهِ، فأنتَ عنْدِي أفقهُ مِنَ
الحسَنِ.
والاستغفارُ: هوَ خاتمةُ الأعمالِ الصالحةِ، فلِهَذَا أُمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يجعلَهُ خاتمةَ عُمْره.
كما يُشرعُ لمصلِّي المكتوبةِ أنْ يستغفرَ عَقِبَها ثلاثًا، وكَمَا يُشرعُ للمتهجِّدِ
مِنَ الليلِ أنْ يستَغْفِرَ بالأسْحَارِ قالَ تعالَى: (وَبِالأَسحَارِ هُمْ يسنتَغْفِرُونَ)
وقالَ: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) ، وكَمَا يُشرعُ الاستغفارُ عُقَيْبَ الحجِّ قالَ تعالَى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) .
وكما يُشْرعُ ختمُ المجَالِسِ بالتسبيح والتحميد والاستغْفَارِ وهُوَ كفارةُ
المجلسِ، وروي أنه يَخْتِمُ بِهِ الوضوءَ أيضًا. َ
وسببُ هَذَا أنَّ العبادَ مُقصِّرُونَ عن القيام بحقوقِ اللَّهِ كَمَا يَنبْغِي، وأدائِهَا
على الوجهِ اللائقِ بجلالهِ وعظمتِهِ، وإنَّما يؤدُّونَها علَى قَدْرِ مَا يطيقُونَهُ.
فالعارفُ يَعْرِفُ أنَّ قَدْرَ الحقِّ أعْلَى وأجلُّ مِنْ ذلكَ، فهُوَ يَسْتَحِي مِنْ عملِهِ
ويستغفرُ مِنْ تقصير فيهِ كَمَا يستغفرُ غيرُهُ مِنْ ذنوبِهِ وَغَفَلاتِهِ، وكُلَّما كانَ
الشخصُ باللَّهِ أعرفَ كانَ له أخوف، وبرؤيةِ تقصيرهِ أبصرُ، ولهذا كانَ خاتمُ المرسلينَ وأعرفُهم بربَ العالمينَ - صلى الله عليه وسلم - يجتهدُ في الثناءِ على ربِّه، ثُمَّ يقولُ في(2/649)
آخِرِ ثنائه: "لا أُحْصِى ثناءً عليكَ أنتَ كَمَا أَثنيتَ على نفسِكَ ".
ومِنْ هذَا قولُ مالكِ بنِ دِيْنارٍ: لقدْ هَممْتُ أنْ أُوصِيَ إذَا متُّ أن أُقيد، ثُمَّ
يُنْطلقُ بي كما يُنطلقُ بالعبدِ الآبقِ إلى سيِّدِهِ، فإذا سَألنَي؟
قلتُ: يا ربِّ، لم أرضَ لكَ نفسِي طَرفةَ عينٍ.
وكان كَهْمَسُ يُصَلِّي كُلَّ يومٍ ألفَ ركْعَةٍ، فإذَا صَلَّى أخَذَ بلحيتِهِ، ثُمَّ يقولُ
لنفسِهِ: قُومِي يا مَأْوى كُلَّ سوءٍ، فواللَّهِ مَا رضيتُك للَّهِ طَرْفَةَ عينٍ.
فائدة:
الاستغفارُ: يَرِدُ مجردًا، ويردُ مَقْرونًا بالتوبةِ، فإنْ وَردَ مجرَّدًا دَخلَ فيه
طلبُ وقايةِ شرِّ الذنبِ الماضِي بالدعاءِ، والنَّدمِ عليهِ، وشرُّ وقايةِ الذنبِ
المتوقع بالعزمِ علَى الإقلاع عنهُ.
وهذَا الاستغفارُ الذي يمنعُ الإصْرارَ بقولِهِ: "ما أصَرَّ مَن اسْتغفر ولَو عادَ في
اليوم سبعينَ مرَة".
وبقولِهِ: " لا صَغيرةَ مع الإصرارِ، ولا كبيرةَ مع الاستغفارِ"
خرَّجَهما ابنُ أبي الدنيا.
وكذا في قولِهِ تعالَى: (الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذنُوبِهِمْ) .
وفي "الصحيح ": "أذنبَ عبدٌ ذنبًا. . . " الحديثَ.
وهوَ المانعُ من العقوبةِ في قولهِ: (وَمَا كانَ اللَّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرونَ)(2/650)
وإنْ وردَ مقرونًا بالتوبةِ اختصَّ بالنوع الأولِ، فإنْ لم يصحبْهُ
الندمُ على الذنبِ الماضِي، بلْ كانَ سُؤالاً مُجرَّدًا فهو دعاءٌ محضٌ، وإن
صَحِبَه ندمٌ فهو توبةٌ.
والعزمُ على الإقلاع من تمامِ التوبةِ، والتوبةُ إذا قُبلتْ فهلْ تُقبلُ جَزْمًا أم
ظاهرًا؟ فيه خلافٌ معروفٌ.
فيقالُ: الاستغفارُ المجردُ هو التوبةُ مَعَ طلبِ المغفرةِ بالدعاء، والمقرونُ
بالتوبةِ: هوَ طلبُ المغفرةِ بالدعاءِ فَقَط.
وكذلك التوبةُ إنْ أُطلقتْ دخلَ فيها الانتهاء عن المحظورِ، وفِعْلُ المأمورِ
ولهذا عَلَّقَ الفلاحَ عليها، وجعلَ مَنْ لم يَتُبْ ظالمًا، فالتوبةُ حينئذٍ تشملُ فعلَ
كُلِّ مأمورٍ، وترك كُلِّ محظورٍ ولهذا كانتْ بدايةُ العبدِ ونهايتُهُ هي حقيقةُ دينِ
الإسلامَ.
وتارةً يُقرنُ بالتَّقْوَى، أو بالعملِ فتختصّ حينئذٍ بتركِ المحظورِ واللَّهُ أعلمُ.
وفي فضائلِ الاستغفارِ أحاديثُ كثيرةٌ مِنْها:
حديثُ: "جِلاءِ القلوبِ تلاوةُ القرآنِ والاستغفارُ".
وحديثُ: "فإن تابَ واستغفرَ ونَزعَ صُقِلَ قَلبُهُ ".
وحديثُ: "ابنَ آدمَ إنَّك لو بَلَغَتْ ذنوبُك عَنَانَ السماء، ثُمَّ استغفرتَنِي على ما كانَ(2/651)
منْكَ، غفرتُ لكَ ولا أبَالِي ".
وحديثُ ابنِ عمرَ: كنَّا نَعُدُّ لرسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فى المجلسِ الواحد: "ربِّ اغفرْ لي، وتُبْ علي، إَّكَ التوابُ الغفورُ" مائةَ مرةٍ.
وحديثُ أبي هريرةَ مرفوعًا:
"إنِّي لأمشغفرُ اللَّهَ في اليوم كثرَ من سبعينَ مرةً، وأتوبُ إليهِ "
خرَّجه البخاريُّ.
ومنْ حديثِهِ مرْفُوعًا:
"لَو لَم تُذنبُوا لَذَهبَ اللَهُ بكُم، ولجاء بقومٍ يُذنِبونَ ثم يستغفرون فيغفرُ لَهُمْ " خرَّجه مسلمٌ.
وفي "المسندِ" من حديث عطيةَ عَنْ أبي سعيدِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ حِين يَأوي إلى فَراشِهِ، أستغفرُ اللَّهَ الذي لا إله إلا هُو الحيَّ القَيومَ وأتُوبُ إِليهِ، غَفَر الله له ذُنُوبهُ، وإنْ كانتْ مِثَلَ زَبدِ البَحْرَ، وإن كانت مثل رَملِ عَالج، وإن كانت عدد ورق الشَّجَر".
وحديثُ: "منْ كثرَ منَ الاستغفارِ جعلَ اللَهُ لهُ مِنْ كل هَمٍّ فرجا"
خرَّجه - أحمدُ منْ حديثِ ابن عباس، ويعضدُهُ قولُه تعالَى:
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفارًا) ، وقولُه: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) .(2/652)
قالَ رياح القيسيُّ: لي نيف وأربعونَ ذنبًا، قدِ استغفرتُ لكل ذنب مائةَ
ألفِ مرَّةٍ.
وقال الحسنُ: لا تملُّوا من الاستغفارِ.
وقال بكر المُزَنيُّ: إنَّ أعمال بني آدمَ ترفعُ فإذا رفعت صحيفة فيها استغفار
رُفعت بيضاءُ، وإذا رُفعتْ ليس فيها استغفارٌ رفعت سوداء.
وعن الحسنِ قالَ: اكثِرُوا مِن الاستغفارِ في بُيُوتِكم، وعَلَى موائِدِكم، وفي
طُرُقِكم، وفي أسواقِكُم، فإنَّكم ما تدرُون متى تَنْزِلُ المغفرةُ.
وقال لقمان لابنه: أيْ بُنيَّ؛ عوِّد لسانَكَ: اللهَمَّ اغفرْ لِي، فإنَّ للَّهِ ساعاتٍ
لا يردُّ فيهنَّ سائلاً.
ورُئِيَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في النَّومِ فقيلَ لهُ: ما وجدَّتَ أفضلُ؟
قالَ: الاستغفار.
* * *(2/653)
سُورَةُ الإخْلاصِ
قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قال ابنُ رجبٍ - رحمه اللَّه تعالى -: "الكلامُ على سُورةِ الإخْلاصِ ".
وفي موضع نزولِهَا قولانِ: أحدهما: أنها مكيةٌ.
والثاني: مدنية، وذلك في فصولٍ في فضائِلِهَا وسببِ نزولِهَا وتفسيرهَا.
أمَّا فضائِلُهَا فكثيرةٌ جِدًّا.
مِنْهَا: أنَها نِسْبَةُ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ.
خرَّج الطبرانيُّ منْ طريقِ عثمانَ بنِ عبدِ الرحمنِ الطرائفيِّ عَنْ الوازع
ابن نافع عن أبي سلمةَ عنْ أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لكُلِّ شيءٍ نسبةٌ، ونسبةُ اللَّهِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) .
ليسَ بأجوفَ ".
الوازعُ ضعيفٌ جدًّا، وعثمانُ يروي المناكيرَ، وسيأتي في سببِ نزولِهَا ما يشهدُ لَهُ.
ومنها: أنَّها صفةُ الرحمنِ، وفي صحيح البخاريِ ومسلم من حديثِ
عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رجُلاً على سرية فكان يقرأُ لأصحابهِ في صَلاتِهِم فيَختمُ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، فلمَّا رجَعوا ذكَّرَوا ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلُوهُ: لأيِّ شيء يصنعُ ذلك؟ "، فسألُوهُ، فقال: لأنَّها صِفَةُ الرَّحمنِ، وأنا أُحبُّ أن(2/654)
أَقرأَ بِهَا، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروهُ أن اللَّه يُحبُّهُ ".
ومنهَا: أَنَّ حُبَّها يُوجبُ محبةَ اللَّهِ، لهذا الحديث المذكورِ آنفًا، ومنهُ قولُ ابنِ
مسعودٍ: "مَنْ كانَ يحبُّ القرآنَ فهُوَ يحبُ اللَّهَ " َ.
ومنها: أن حُبَّها يُوجبُ دُخولَ الجنَّةِ.
ذكرَ البخاريُّ في "صحيحه " تَعْليقًا
وقالَ: عبيدُ اللهِ عنْ ثابتٍ عن أنسٍ قالَ: كانَ رجُلٌ مِنَ الأنصارِ يؤُمُّهم في
مسجدِ قُباءَ، وكانَ كلَّما افتتحَ سورةً يقرأُ بِهَا لهمْ في الصلاةِ ممَّا يقرأُ به، افتتح بـ (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حتى يفرغُ مِنْها، ثُمَّ يقرأُ سُورةً أُخرَى مَعَهَا، وكانَ يصنعُ ذلكَ في كلِّ ركعةٍ، وذكرَ الحديثَ، وفيه: فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا فلانُ، ما حملكَ على لزوم
هذهِ السورةِ في كلِّ ركعةٍ؟ "
فقال: إني أُحِبُّها، فقالَ: "حُبُّكَ إياهَا أدخلكَ الجنَّةَ".
وخرَّجه الترمذيُّ في "جامعهِ " عن البخاريِّ عَنْ إسماعيلَ ابنِ أبي أويسٍ عنَ الدَّارَورْدِيِّ عَنْ عبيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ عنْ عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ وغرَّبه.
وقال: روى مباركُ بنُ فضالةَ عنْ ثابتٍ عنْ أنسٍ أن رجلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أحبُّ هذه السورةَ: (قُلْ هٌوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
فقالَ: "إن حُبَّك إياها أدخلكَ الجنَّة"
وقدْ خرَّجه أحمدُ في "المسندِ" عن أبي النضرِ عن مباركِ بنِ فضالَة بهِ.
وروى مالكٌ عنْ عبيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ عنْ عبيدِ بنِ حُنينٍ قالَ:
سمعتُ أبا هريرةَ يقولُ: أقْبلتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمعَ رجُلاً يقرأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(2/655)
فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وجَبَتْ " قلت: وَمَا وجبَت؟ قالَ: "الجنةُ".
وأخرجَهُ النسائيُّ والترمذيُّ وقالَ: حسنٌ صحيحٌ لا نعرفُه إلا مِنْ حديثِ
مالك.
وروَى أبو نُعيمٍ منْ طريقِ عمرِو بنِ مرزوقٍ عنْ شعبةَ عن مهاجرٍ سمعتُ
رجلاً يقولُ: صحبتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فسمِعَ رَجُلاً يقرأُ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، فقالَ: "قد بَرِئَ من الشِّرْك ".
وسمعَ آخرَ يقرأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقالَ: "غُفِرَ لهُ ".
ومنْهَا: أنَّها تعْدِلُ ثلثَ القرآنِ ففي "صحيح البخاريِّ" منْ حديثِ أبي
سعيدٍ أنَّ رجلاً سعَ رجُلاً يقرأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يُردِّدُها، فلمَّا أصبحَ جاءَ
إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلكَ لهُ - وكانّ الرجلَ يتقالُّها - فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"والذي نفسِي بيده إنَّها لتعدلُ ثُلُثَ القرآنِ ".
وقدْ رُوِيَ عنْ أبي سعيدٍ عن أخي قتادةَ بنِ النعمانِ به.
وفي "صحيح البخاريِّ " أيضًا مِنْ طريقِ الأعمشِ عنْ إبراهيمَ النخعيِّ
والضَّحَّاكِ المشرقيِّ عنْ أبي سعيدٍ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِهِ:
"أيعجزُ أحدُكُم أنْ يَقْرَأ ثلثَ القرآنِ فِي ليلةٍ؟ "
فشقَّ ذلكَ عليهِم وقالُوا: أيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول اللَّه، فقالَ:
"اللَّهُ الواحِدُ الصَّمدُ ثلثُ القرآنِ ".
وفي "المسندِ" منْ طريقِ ابنِ لهيعةَ عن الحارثِ بنِ يزيدَ عنْ أبي الهيثم(2/656)
عنْ أبي سعيدٍ قال: باتَ قتادةُ بنُ النعمان يقرأُ الليلَ كُلَّهُ بـ
(قلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ)
فذُكِرَ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "والذي نفسِي بيدهِ لَتعْدِلُ نصفَ القرآنِ أو ثُلُثَهُ ".
وفي "المسندِ" أيضًا مِنْ طريقِ ابنِ لهيعةَ، حدَّثَنَا حُييُّ بنُ عبد اللَّهِ عن
أبي عبدِ الرحمنِ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو: أنَّ أبا أيوبَ الأنصاريًّ كانَ في
مجلسٍ وهوَ يقولُ: ألا يسْتَطيعُ أحدُكُم أنْ يقومَ بثُلُثِ القرآنِ كلَّ ليلةٍ؟
فقالُوا: وهل يستطيعُ ذلكَ أحدٌ؟
قال: فإنَّ: (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، ثُلُثُ القرآنِ، قالَ:
فجاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمعُ أبا أبوبَ.
فقالَ: "صَدَق أبو أيوبَ ".
ورَوَى يحيى بنُ سعيدٍ عنْ يزيدَ بنِ كيسانَ عنْ أبي حازمٍ - قالَ الترمذيُ:
اسمُهُ سلمانَ - عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "احشُدُوا، فإنَي سأقْرَأُ عليكُم ثُلُثَ القُرآنِ "، فحشدَ من حشدَ، ثُمَّ خرجَ نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَا: (قُل هُوَ اللَّه أَحَدٌ) ، ثُمَّ دخلَ فقالَ بعضُنَا لِبعضٍ: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "فإني ساقْرأُ
عليكُم ثُلُثَ القرآنِ "، إنِّي لأرى هذا خبرًا جاءَهُ من السماء، ثُمَّ خرجَ نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني قُلتُ: سأقَرا عليكُم ثُلُثَ القُراَنِ، ألا إنها تعدلُ ثُلُث القُراَنِ ".
أخرجَهُ مسلم.
وروى الإمامُ أحمدُ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ مهديّ عنْ زائدةَ بنِ قدامةَ عنْ
منصورِ عن هلالِ بنِ يسافٍ عن الربيع بنِ خثيمٍ عنْ عمرِو بنِ ميمونٍ عنْ
عبدِ الرحمنِ بن أبي ليلَى عنْ امرأةٍ مِنَ الأنْصَارِ عنْ أبي أيوبَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أيَعْجزُ أحدُكُم أنْ يقرأ ثلثَ القرآنِ في ليلةٍ؟ فإنه مَنْ قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ) في ليلةٍ فقدْ قرأَ ليلتئذٍ ثلثَ القرآنِ ".
ورواهُ النسائي والترمذيُّ عنْ بندار.(2/657)
وروى الترمذيُ عنْ قتيبةَ أيضًا عَنْ ابنِ مهدي، فَهُوَ لَهُمَا عُشَاري ولأحمد
تُسَاعي، وفي روايةِ الترمذيِّ عَنْ امرأةِ أبي أيوبَ عَنْ أبي أيوبَ بِهِ، وذكرَ
اختلافًا في إسنادِهِ.
وروى أحمدُ عن هُشَيم عنْ حصينٍ عن هلال بنِ يسافٍ عنْ
عبدِ الرحمنِ بن أبي ليلَى عنْ أبيِّ بنِ كعبٍ أو رجلٍ منَ الأنصارِ قال:
قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "منْ قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) فكأنَّما قَرَأَ بثلثِ القرآنِ ".
ورواهُ النسائيُّ في "اليومِ والليلة" منْ طريقِ هُشيمٍ عنْ حصينٍ عن ابن أبي ليلَى بهِ منْ غيرِ ذكرِ هلال بنِ يسافٍ.
وروى الإمامُ أحمدُ أيضًا عنْ وكيع عن سفيانَ عن أبي قيسٍ عن عمرِو بن ميمونٍ عنْ أبي مسعودٍ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدِلُ ثلثَ القرآنِ "
ورواهُ ابن ماجةَ والنسائيُّ في "اليومِ والليلةِ" من طُرُق.
وفي بعضِ طرقِهِ وقفُه.
ورواه أبُو نعيم منْ طريقِ مسعرٍ عنْ أبي قيسٍ عَنْ عمرِو بنِ ميمونٍ عنْ
أبي مسعودٍ الأنصاريّ، كَذا قال.
ومنْ طريقِ شعبةَ عنْ أبي إسحاقَ عنْ عمرِو بنِ ميمونٍ عنْ ابنِ مسعودٍ.
وروَى أبو نُعيمٍ منْ طريقِ عليّ بنِ عاصم عنْ حصينٍ عنْ هلالِ بنِ يساف(2/658)
عنْ ربيع بنِ خُثَيم عنْ ابنِ أبي ليلَى عنْ كعبِ بنِ عجرةَ عنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"منْ قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في يوم وليلة ثلاثَ مرات كانتْ تعدِلُ ثلثَ القرآنِ ".
ورواهُ شعبةُ عنْ عليِّ بنِ مدركٍ عنْ إبراهيمَ النخعيِّ عنْ الربيع بنِ خثيمِ
عن ابنِ مسعودٍ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
وروى أبو نُعيمٍ حدَّثنَا إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ يحيى، ثنَا أحمدُ بنُ حمدونَ
ابنِ رستم، ثَنا عليٌّ بنُ إشْكَاب، ثنَا شجاعُ بنُ الوليدِ، ثنَا زيادُ بنُ خيثمةَ.
عنْ محمدِ بنِ جحادةَ، عنْ الحسنِ عنْ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلثُ القرآنِ "، قالَ إبراهيمُ: هكذا حدَّثَني بهِ وكتبهُ لِي بخطِهِ وإنَّما يحفظُ الإسناد قراءةُ يس.
وروى يوسفُ بنُ عطيةَ الصفارُّ: ثنَا هارونُ بنُ كثيرٍ، عنْ زيدِ بنِ أسلمَ
عنْ أبيهِ عْن أبي أمامةَ عنْ أبيِّ بنِ كعبٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"منْ قرَأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فكأنَّما قرأَ ثلثَ القرآنِ، وكتبَ لهُ مِنَ الحسناتِ بعددِ من أشْرَكَ باللَّهِ وآمنَ بِهِ ".
وفي "صحيح مسلم " منْ طريقِ قتادةَ عنْ سالم بنِ أبي الجعدِ عنْ
معدان بنِ أبي طلحةَ عنْ أبي الدَّرْداءَ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أيعجزُ أحدُكُم أنْ يقرأَ كلَّ يومٍ ثلثَ القرآنِ؟ "
قالُوا: نعم، قالَ: "إنَ الله جزأَّ القُرآنَ ثلاثةَ أجزاء، فـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلثُ القرآنِ ".
ورَوَى أميةُ بنُ خالدٍ عَنْ ابنِ أخِي ابنِ شهابٍ عنْ عَمِّه عَنْ حميدِ بنِ(2/659)
عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ عَنْ أمهِ أمِّ كُلْثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي مُعَيْط قالَتْ: قالَ
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ) ثلثُ القرآنِ "، رواه أحمدُ والنسائيُّ في "اليومِ والليلةِ".
ورواهُ أيْضا منْ طريقِ مالكٍ عَنِ الزُّهريّ عَنْ حميدٍ منْ قولهِ، ورواهُ أيضًا
مِنْ طريقِ ابنِ إسحاقَ عَنِ الحارثِ بنِ فُضَيلٍ عَنِ الزهريِّ عَنْ حميدٍ أنَّ نَفرًا
مِنْ أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حدَّثوه عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: " (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) تعدِلُ ثلثَ القرآنِ لمن صلَّى بِهَا".
وروى الحافظُ أبو يَعْلَى عَنْ قطنِ بنِ نُسيرٍ عنْ عبيسِ بنِ ميمون عنْ
يزيدَ الرقاشيِّ عَنْ أنسٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أمَا يستطيعُ أحدُكُم أنْ يقْرأَ: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) ثلاثَ مرات في ليلةٍ فإنَّها تعدِلُ ثلثَ القرآنِ " إسنادُه ضعيفٌ.
ويُستدلُّ بِهِ على أنَّ المرادَ بكونِهَا تعدِلُ ثلثَ القرآنِ، أجرَهُ وثوابَهُ، كما
يُستدلُّ بحديثِ أبي الدرداءَ المتقدمِ علَى أنَّها جزءُ التوحيدِ مِنَ القرآنِ، وأنَّه
- ثلاثةُ أجزاءٍ: تَوحيدٌ، وتَشْريعٌ، وقَصَصٌ.
ومِنْها: أنَّ قراءَتَها تكفِي مِنَ الشرِّ، وتمنعهُ، وقدْ ثبتَ في "صحيح
البخاريِّ " عنْ عائشةَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا أوَى إلى فِراشِهِ قرأَها مع المعوذتينِ ومَسَحَ ما استطاعَ مِنَ جسدِهِ ".
وروى أبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ مِنْ طريقِ معاذِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ خُبيبٍ عنْ أبيهِ(2/660)
عَنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: "قُلْ (قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) والمعوذتينِ حِينَ تُمِسي وحينَ تُصْبِحُ ثلاثًا تكفيكَ كُلَّ يوم "
وصحَّحهُ الترمذيُّ.
ورواهُ النسائيُّ مِنْ طريقٍ أُخرَى عنْ معاذ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ - خُبيبٍ عنْ
أبيهِ عَنْ عقبةَ بنِ عامر فذكرهُ ولفظُه: "تَكْفِكَ كلَّ شيء".
وقالَ البزارُ في "مسندهِ ": حدَّثنا إبراهيمُ الجوهريُّ: ثَنا غسانُ بنُ عبيدٍ
عنْ أبي عمرانَ الجونيّ، عنْ أنسِ بنِ مالكٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إذَا وضعْتَ جنبكَ على الفراشِ، وقرأتَ فاتحةَ الكتابِ، و (قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) فقدْ أمنتَ مِنْ كلَ شيء إلا الموتَ ".
ومنْهَا: أنَّها أفضلُ سورِ القرآنِ، فروى الدارميُّ في "مسندِه " عنْ أبي
المغيرةَ عَنْ صفوانَ عنْ أيفعَ بنِ عبيد الكلاعيِّ قالَ: قالَ رجلٌ: يا رسولَ
اللَّهِ، أيُّ سورِ القرآنِ أعظمُ؟
قال: " (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) ".
وفي "المسندِ" منْ طريقِ معاذِ بنِ رفاعةَ عنْ عليِّ بنِ يزيدَ، عنْ القاسم.
عنْ أبي أمامةَ، عنْ عقبةَ بنِ عامر قالَ: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أَعلمُكَ خيرَ ثلاثِ سورٍ أنزِلَتْ في التوراةِ والإنجيلِ والزَّبور والقُراَنِ العَظيم؟ "
قلتُ: بَلَى.
قالَ: "فَأَقرَأَنِي: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) و (قلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَقِ)
و (قل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) "
ثُمَّ قالَ لِي: "يا عقْبةُ، لا تنْسَهُن ولا تَبِتْ ليلة حَتَى تَقْرَأهُن".
وروى الترمذيُّ بعضَ هذا الحديثِ وحسَّنهُ، ورواه أحمد أيضًا بطولِهِ منْ طريقِ(2/661)
أُسيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الخثعميِّ عنْ فروةَ بنِ مجاهدٍ عنْ عقبةَ بنِ عامرٍ بِهِ.
ومنْهَا: أنَّ الدعاءَ بها مستجابٌ، ففي السنن الأربعةِ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ
بريدةَ عنْ أبيهِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجلاً يصلِّي يَدْعُو يقولُ: اللهُمَّ إني أسألُك بأني أشهَدُ أن لا إله إلا أنتَ الأحَدُ الصّمدُ الذي لمْ يلدْ ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ، قالَ:
"والذي نفْسي بيدِهِ لقدْ سألَهُ باسمِهِ الأعظمَ، الَّذِي إذا سُئِلَ به
أعطى، وإذا دُعِيَ بهِ أجابَ ".
وقال الترمذي: حسن غريب.
وفي "المسندِ" عن محجنِ بنِ الأدرع أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ المسجدَ، فإذَا هو برجلٍ قدْ قَضَى صلاتَه وهوَ يتشهدُ وهُو يقولُ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ بأنّكَ الواحدُ الأحدُ الصّمدُ الَّذي لمْ يلدْ، ولمْ يولدْ، ولم يكنْ لهُ كُفُوًا أحدٌ، أن تغفرَ لي ذنوبِي إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ.
فقالَ نبيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مراتٍ: "قدْ غُفِر لَهُ، قدْ غُفِر لَهُ، قَدْ غُفِر لَهُ ".
وقدْ وردَ في تكرير قراءَتِها خمسينَ مرةً أو أكثرَ منْ ذلكَ، وعشرَ مراتٍ
عقيبَ كُلِّ صلاةٍ أحاديثُ كثيرةٌ فيهَا ضعفٌ، وكذلكَ حديثُ معاويةَ بنِ
معاويةَ الليثيِّ خرَّجَهُ الطبرانيُّ، وأبو يَعْلى من طرقٍ كُلِّها ضعيفةٌ فلم
نذكُرْهَا.
وأمَّا سببُ نزولِهَا: ففي "المسندِ" والترمذي عنْ أبي سعيدٍ الصَّاغَاني(2/662)
محمدِ بنِ مبشرٍ عن أبي جعفرٍ الرازيّ عَنْ الربيع بنِ أنسٍ عنْ أبي العاليةَ عَنْ
أبيِّ بنِ كعبٍ أنَّ المشركينَ قالُوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: انسبْ لنَا ربَّكَ يا محمدُ؛ فأنزل اللَّهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
ورواه الترمذيُّ من طريق عبيد النله بن موسى، عن أبي جعفر عن الرَّبيع عن أبي العاليةِ مرسلاً. وقال: هذا أصحُّ من حديث أبي سعيد.
ورواه أبو يعْلَي الموصليُّ والطبرانيُّ وابن جرير من طريق شريح بن
يونسَ عن إسماعيل بن مجالدٍ عن مجالدٍ عن الشعبيِّ عن جابر: أنَّ أعرابيا
جاءَ إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: انسبْ لنا ربَّكَ؟
فأنزل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخرِهَا، ورُوِيَ مُرْسًلاً.
وروى عبيدُ بنُ إسحاقَ العطَّارُ عنْ قيسِ بنِ الربيع عنْ عاصمٍ عنْ أبي
وائلٍ عَن ابنِ مسعودٍ قال: قالتْ قُريشٌ لرسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: انسُبْ لنَا ربكَ فنزلتْ: (قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ) قال الطبراني: ورواه الفريابيُّ وغيرُه عَنْ قيسٍ عنْ عاصم عنْ أبي وائلٍ مُرْسَلاً.
وروى ابنُ أبي حاتم في "تفسيرِه": حدَّثنا أبو زرعةَ: ثنا العباس بنُ
الوليدِة ثنا يزيدُ بنُ زريع: ثنا عليٌّ بنُ الحسينِ: ثنا أبو عبدِ اللَّهِ الحرشيّ: ثنا
أبو خلفٍ عبدُ اللَّهِ بنِ عيسى: ثنا داودُ بنُ أبي هند، عنْ عكرمةَ، عنْ ابنِ
عبَّاسٍ أنَّ اليهودَ جاءتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم حُييُّ بنُ أخطبَ وكعبُ بنُ الأشرفِ فقالُوا: يا محمدُ، صِفْ لنا الذي بَعَثَك؟
فأنزل اللَّه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ) فيخرجُ منه الولدُ، (وَلَمْ يُولَدْ) فيخرجُ مِنْ شيءٍ.(2/663)
وأما التفسيرُ:
فقولُه: (قُلْ) هذا افتتاحٌ للسورةِ بالأمرِ بالقول، كما في المعوذتينِ وسورةِ
الجنَ.
وقدْ سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ المعوذتينِ فقال:
"قِيلَ لي فقلتُ "
وذلكَ إشارةٌ منهُ إلى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - مبلغٌ مَحْضٌ لِمَا يُوحَى إليه، ليسَ فيه تصرفٌ لِمَا أوحاهُ اللَهُ إليه بزيادة ولا نقصٍ، وإنَّما هُوَ مُبَلِّغٌ لكلامِ ربِّه كَمَا أوحاهُ إليهِ فإذا قالَ: (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) كانَ امتثالاً للقول الذي قيلَ لهُ بلفظِهِ لا بمعناهُ، و (هُوَ) : اسمٌ مضمرٌ قيل إنَّه: ضميرُ الشأنِ، وقيل: لا.
و (اللَّهُ أَحَدٌ) ن قيلَ: هو ضميرُ الشأنِ، فالجملةُ مبتدأ وخبرٌ.
وإنْ قيلَ: لا، ففيه وجهانِ، أحدهما: أنَّ (هُوَ) مبتدأٌ، و (اللَّهُ أَحَدٌ) مبتدأ وخبرٌ، وهما خبرٌ للمبتدأ الأولِ، ولا حاجةَ فيه إلى رابطٍ لأنَّ الخبرَ هو المبتدأُ بعينِهِ.
والثاني: أنَّ (هُوَ) مبتدا و (اللَّهُ) خبرُه و (أَحَدٌ) بدل منه.
و (أَحَدٌ) : اسمٌ مِنْ أسماءِ اللَّه يُسمَّى اللَّهُ به، ولا يُسمَّى غيرُه من الأعيانِ
فلا يسمَّى شيءٌ من الأشياءِ أحدًا في الإثباتِ إلا في الأعدادِ المطلقةِ.
وإنما يُسمَّى به في النفْي وما أشبهَهُ من الاستفهامِ والنهيِّ، والشرطِ كقوله:
(وَلَمْ يَكُن لَّه كفُوًا أَحَدٌ) ، وقولِهِ: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) .(2/664)
وقولِهِ: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) ، وقوِلهِ: (وَإِنْ أَحَدٌ منَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) ونحوه.
والأحدُ: هو الواحدُ في إلاهيته ورُبُوبيته، وفسَّرهُ أهلُ الكلامِ، بما لا
يتجزأُ ولا ينقَسِمُ، فإنْ أُريدَ بذلكَ أنًّه ليسَ مؤلفًا مركَّبًا منْ أجزاءٍ متفرقة
فصحيحٌ، أو أنَّه غيرُ قابلٍ للقسمةِ فصحيحٌ، وإنْ أُريدَ أنَّه لا يتميَزُ منه شيءٌ
عن شيءٍ، وهو المرادُ بالمجسمِ عندهم فباطلٌ.
قال ابنُ عقيلٍ: الذي يَصِحُّ من قولِنا معَ إثباتِ الصفاتِ أنه واحد في
إلاهيتِهِ لا غيرُ.
والأحدُ هو الواحدُ. قالَ ابنُ الجوزيّ: قالَهُ ابنُ عباسٍ وأبو عبيدةَ، وفرَّقَ
قومٌ بينهما.
قال الخطابيُّ: الفرق بين الأحدِ والواحدِ: أنَّ "الواحد": هو المتفرد بذاته
فلا يضاهيه أحد.
و"الأحدُ": المنفردُ بصفاتِهِ ونعوتِهِ فلا يشاركُهُ فيها أحد.
وقيلَ: بينهما فرق آخرُ، وهو أن الأحدَ في النفي نصٌ في العمومِ.
بخلافِ الواحدِ فإنه محتملٌ للعمومِ وغيره، فتقولُ: ما في الدارِ أحدٌ، ولا
يقالُ: بل اثنانِ، ويجوزُ أنْ يقالَ: ما في الدارِ واحدٌ، بل اثنانِ.
وفرَّقَ بعضُ فقهاءِ الحنفيةِ بينهُما وقالَ: الأحديَةُ لا تحتملُ الجزئيةَ والعدديةَ
بحالٍ.
والواحدُ يحتملُها لأنَّه يقالُ: مائةٌ واحدةٌ وألفٌ واحدة، ولا يُقالُ: مائةٌ
أحدٌ ولا ألفٌ أحدٌ.(2/665)
وبُنيَ على ذلك مسألةُ محمدِ بنِ الحسنِ التي ذكرَهَا في "الجامع الكبيرِ":
إذا كان لِرجلٍ أربعُ نسو فقالَ: واللَّهِ لا أقربُ واحدةً منْكُنَّ صارَ مُوليًا منهنَّ
جميعًا، ولم يَجُزْ أن يقربَ واحدةً منهن إلا بكفارة، ولوْ قالَ: واللَّهِ لا أقربُ
إحداكُن لم يصِر مُوليًا إلا منْ إحداهُنَّ والبيانُ إليهِ.
وقال العسكريُّ: أصلُ أحدٍ أوحَدُ مثلُ أكبرِ، وإحْدى مثل كُبْرى، فلمَّا
وقَعَا اسمينِ وكانا كثيرَي الاستعمالِ هرَبُوا إلى الكسرةِ ليخفَّ، وحذفُوا الواوَ
ليفرقُوا بين الاسم والصفةِ، وذلك أنَّ أوحدَ اسمٌ وأكبر منه.
والواحدُ فاعلٌ منْ وحَدَ يَحِدُ وهو واحدٌ مثل: وَعَدَ يَعِدُ فهو واعدٌ.
سؤالٌ: قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ) ولم يقل الأحد كما قال: (الصَّمَدُ) ؟
جوابه: أنَّ الصمدَ يُسمَّى به غيرُ اللَّهِ كما يأتِي ذكرُهُ، فأتى فيه بالألفِ
واللامِ ليدلَّ على أنَّه - سبحانه - هو المستحقُ لكمالِ الصَّمَديّةِ، فإنَّ الألفَ
واللام تأتي لاستغراقِ الجنسِ تارةَّ، ولاستغراقِ خصائصَ أخرى، كقولِهِ: زيدٌ هو الرجلُ أي: الكاملُ في صفاتِ الرجولةِ فكذلكَ قولُهُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أى: الكاملُ في صفاتِ الصمديَّةِ.
وأما الأحدُ فلم يَتَّسِمْ به غيرُ اللَّهِ فلمْ يحتجْ فيه إلى الألفِ واللامِ.
قولُهُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أعادَ الاسمَ المبتدأ تأكيدًا للجملةِ وخبرُة الصمدُ.
وقيلَ: هو نعتٌ والخبرُ ما بعدَهُ.
والصمدُ: اختلفتْ عِباراتُ السَّلفِ في معناه، وهي متقاربة أو متفقةٌ
والمشهور منها قولان:
أحدُهما: أنَّ الصمدَ هو السَّيدُ الذي تصْمُدُ إليه الخلقُ في حوائجِهِم(2/666)
ومطالبِهِم وهو مرويٌ عَنْ ابنِ عباسٍ وغيرِه من السلفِ.
قالَ ابنُ الأنباريِّ: لا خلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنَّ الصمدَ: السيدُ الذي ليس
فوقَه أحد، الذي يصمُدُ إليه الناسُ في حوائجِهِم وأمورِهِم.
وقالَ الزَّجَّاجُ: هو الذي ينتهِي إليه السُّؤددُ، فقدْ صَمَدَ له كلُّ شيءٍ.
أي: قصدَ قصْدَهُ.
وأنشدُوا:
لقدْ بكَّرَ النَّاعي بِخَيْرِ بني أسَدْ. . . بعمرِو بنِ مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ
وأنشدوا أيضًا:
عَلَوْتُهُ بُحسامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ. . . خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السيًدُ الصَمَدُ
وفي "تفسيرِ ابنِ أبي حاتمٍ " بإسنادِهِ عن عكرمةَ عنِ ابنِ عباسٍ قال:
الصمدُ: الذي تصمدُ إليه الأشياءُ إذا نزَلَ بهم كربةٌ، أو بلاء.
وعن إبراهيمَ قال: الذي يَصْمُدُ إليه العبادُ في حوائجِهِم.
وعنْ عليِّ بنِ أبي طلحةَ عنْ ابنِ عباسٍ، قالَ: الصمدُ: السيدُ الذي قدْ
كَمُل في سؤدَدِهِ، والشَّرِيفُ الذي قدْ كَمُلَ في شرَفِهِ، والعظيمُ الذي قدْ كَمُلَ في عظمتِهِ، والحليمُ الذي قدْ كَمُلَ في حِلْمِهِ، والعليمُ الذي قد كَمُلَ في عِلْمِهِ، والحكيمُ الذي قدْ كَمُلَ في حكمتِهِ، وهو الذي قدْ كَمُلَ في أنواع
الشرفِ والسُّؤددِ.
وهو اللَّهُ - سبحانه - هذه صفتُهُ لا تنبغِي إلا له، ليس له كفوٌ وليسَ كمثلِهِ شيءٌ، سبحان اللَّهِ الواحدِ القهارِ.
والقولُ الثاني: أنَّ الصمدَ الذي لا جوفَ له، وأنَّه الذي لا يأكلُ ولا يشربُ(2/667)
والذي لا حشوَ له، وأنَّه الذي لا يدْخلُ فيه شيءٌ، ولا يخرجُ منه شيءٌ.
ونحوُ هذه العباراتِ المتقاربةِ في المعنى.
ورُوي ذلك عنْ ابنِ مسعودٍ، وقدْ سبقَ في حديثِ أبي هريرةَ المذكورِ في أوَّلِ تفسيرِ السورةِ:
والصمدُ الذي ليسَ بأجوفَ.
وروى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ منْ طريقِ عبيدِ اللَّهِ بنِ سعيدٍ - قائد
الأعمشِ -: حدَّثني صالحُ بنُ حيانَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ بريدةَ عنْ أبيه، قال: لا
أعلمُ إلا أنَّه قدْ رفعَهُ: قال: "الصمد: الذي لا جوفَ له ".
وعنْ أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ عنْ ابنِ مسعودِ قال: الصمدُ ليسَ له
حشاء.
ورُوي عن ابن عباسِ أيضًا وعكرمةَ: الصمدُ الذي لا يَطْعَمُ.
وعنه: الصمدُ: الذي لم يخرجْ منه شيءٌ.
وعنِ الشعبيِّ: الصمدُ: الذي لا يأكلُ ولا يشربُ.
وعنْ مجاهد: هو المصْمَتُ الذي لا جوفَ له.
وقال طائفةٌ: الصمدُ: الذي لم يلدْ ولم يُولدْ، كأنَّهم جَعَلُوا ما بعدَهُ
تفسيرًا له، وهو مما تقدَّم أنَّه الذي لم يَنْفَصِلْ منه شيء.
ورويَ ذلك عن أبيّ بنِ كعبٍ والربيع بنِ أنسٍ.
وتوجيهُ ذلك: الولادةُ والتوليدُ إنما يكونُ من أصلينِ، وما كانَ عينًا قائمًا
بنفسه منَ المتولداتِ فلا بدَّ له من مادهِ يخرجُ منها، وما كانَ عرَضًا قائِمًا
بغير فلا بذَ له منْ محل يقومُ به، فالأولُ: نفاهُ بقولِهِ: "أحدٌ" فإنَّ الأحدَ هو(2/668)
الذي لا كفوَ له ولا نظيرَ فيمتنعُ أنْ يكونَ له صاحبة.
والتولُّدُ إنَّما يكونُ بين شيئينِ، وكونُه تعالى أحَدًا، ليسَ أحدٌ كفوًا له
يستلزمُ أنَّه لم يلدْ ولم يولدْ، لأنَّ الوالدَ والولدَ متماثلانِ متكافئانِ، وهو
تعالى أحد لا كفوَ له.
وأيضًا فالتولُّد يحتاجُ إلى زوجة وهي مكافئةٌ لزوجِهَا مِنْ وجهٍ، وذلك
أيضًا ممتنعٌ.
ولهذا قال تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) .
وقد فَسَّر مجاهدٌ "الكفوَ" هَاهُنا بالصَّاحبةِ.
وأما الثاني؛ وهو: انفصالُ المادة فنفاهُ - سبحانه - بأنَّه الصمدُ، وهُوَ المتولدُ مِنْ أصلينِ، ربما يتكونُ منْ جزئينِ يَنْفصلانِ منْ الأصلينِ، كتولُّدِ الحيوانِ منْ أبيه وأمِّه بالمنيِّ الذي ينفصلُ منهُما، وكالنَّارِ المتولدةِ منْ بينِ الزِّندينِ سواءٌ كانا خشبينِ أو حجَرَينِ أو حَجَرًا وحديدًا.
وهو - سبحانه - صمد لا يخرجُ منهُ شيءٌ منفصل عنه.
والحيوانُ نوعانِ: متوالدٌ: وهوَ ما ولَدُهُ منْ جنسِهِ، وهو الإنسانُ وما يُخلقُ
منْ أبوينِ منَ البهائم والطيرِ وغيرِهِما.
ومتولِّدٌ: وهوَ ما يُخْلَقُ منْ غيرِ جنسِهِ كدودِ الفاكِهَةِ والخلِّ، وكالقَمْلِ
المتولدِ من الوَسَخ، والفارِ والبراغيثِ وغيرِ ذلكَ ممَّا يُخلَق منَ التَّرابِ والماء.
وإنَّما يتولدُ منْ أصلينِ أيْضًا كما خُلِقَ آدمُ من ترابٍ وماء.
وإلا فالترابُ المحضُ الذي لم يَخْتَلِطْ به ما لا يُخلقُّ مَنه شيءٌ لا حيوانَ
ولا نباتَ، والنباتُ جميعُه إنَّما يتولدُ منْ أصلينِ أيْضًا.(2/669)
والمسيحُ - عليه السلامُ - خُلِقَ من مريمَ ونفخة جبريلَ، وهيَ حملتْ به
كمَا تحملُ النساءُ وولدتْه، فلِهَذا يقالُ لهُ: ابنُ مريمَ، بخلافِ حواءَ فإنَّها
خُلِقَتْ من ضِلْع آدمَ، فلا يُقالُ: إنَّه أبوهَا ولا هيَ ولدُهُ.
وكذلك سائرُ المتولداتِ من غيرِهِما.
كما أنَّ آدمَ لا يُقالُ: إنَّه ولدُ الترابِ ولا الطينِ، والمتولِّدُ منْ جنسِهِ أكملُ
من المتولدِ من غيرِ جنْسِهِ، ولهذا كان خلقُ آدمَ أعجبَ منْ خَلْقِ أولادِهِ.
فإذا نُزِّهَ الربُّ عنِ المادةِ العَلَقِ وهيَ التولدُ منْ النظيرِ، فتنزُّهُهُ عن تولدِهِ
من غيرِ نظيرٍ أولى، كما أنَّ تنزيهَهُ عنِ الكفوِ تنزيهٌ له عنْ أنْ يكونَ غيرُهُ
أفضلَ منه بطريقِ الأولى.
فتبيَّنَ أنَّ ما يُقالُ: إنَّه متولدٌ من غيره منَ الأعْيانِ القائمة بنفسِهَا لا يكونُ
إلا منْ مادةٍ تخرجُ منْ ذلكَ الوالدِ، ولا تكونُ إلا منْ أصلينِ، والربُّ تعالى
صمَدٌ، فيمتنعُ أنْ يخرجَ منه شيءٌ وهو - سبحانه - لمْ يكنْ له صاحبةٌ فيمتنعْ
أن يكونَ له ولدٌ.
وأمَّا تولدُ الأعْراضِ كتولدِ الشعاع، وتولدِ العِلْم عنِ الفكرةِ والشبع عنِ
الأكْلِ، والحرارةِ عن الحركةِ ونحوِ ذلك.
فهذا ليسَ من تولدِ الأعْيانِ معَ أنَّ هذا لا بدَّ لهُ منْ محل، ولا بدَّ له من
أصلينِ كالشعاع فإنَّه يحتاجُ إلى محاذَاةِ جسم نُوريٍّ لجسمٍ آخرَ يقابلُهُ فينعكِسُ
عليه شعاعُهُ.
فقد تَضَمَّنتْ هذه السورةُ العظيمةُ نفْيَ نوعينِ عنِ اللَّهِ تعالى:
أحدُهُما: المماثلةُ، ودلَّ على نفيهَا قولُهُ تعالى: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)(2/670)
مع دلالةِ قولِهِ: (قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) على ذلكَ، لأنَّ أحَدِيتهُ تقتضِي أنَّه متفردٌ
بذاتِه، وصفاتِهِ، فلا يشاركُهُ في ذلكَ أحدٌ.
والثاني: نفْيُ النقائصِ والعيوبِ،، وقد نفَى منها التولُّدَ منَ الطرفينِ.
وتضَمَّنتْ إثباتَ جميعَ صفاتِ الكمالِ بإثباتِ الأحديّةِ، فالصمديّةُ تُثبتُ
الكمالَ المنافيَ للنقائصِ، والأحديّةُ تُثْبِتُ الانفرادَ بذلك. فإنَّ الأحديةَ تَقْتضِي
انفرادَهُ بصفاتِهِ وامتيازَهُ عَنْ خَلْقِهِ بذاتِهِ وصفاتِهِ، والصمديةُ إثباتُ جميع
صفاتِ الكمالِ ودوامِهَا وقِدَمِهَا، فإنَّ السيدَ الذي يُصْمَدُ إليه لا يكونُ إلا
مُتَّصِفًا بجميع صفاتِ الكمالِ الَّتي استحقَّ لأجْلِهَا أنْ يكونَ صَمَدًا، وأنَّه لمْ
يزلْ كذلك ولا يزالُ، فإنَّ صمديتَهُ مِنْ لوازمِ ذاتهِ لا تنفكُّ عنهُ بحالٍ.
ومنْ هُنا فُسِّر الصمدُ بالسيدِ الذي قَدْ انتهى سؤُددُه، وفَسَّرَهُ عكرمةُ: بالذي لَيْسَ فوقَهُ أحدٌ.
ورُويَ عَنْ عليٍّ وعنْ كَعْبٍ أَنَّه: الَّذي لا يكافِئُه أحدٌ في خَلْقِهِ.
وعنْ أبي هريرةَ قالَ: هو المُسْتَغِني عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، المحتاجُ إليه كُلُّ أحدٍ.
وعنْ سعيدِ بن جبيرٍ قالَ: هو الكاملُ في جميع صفاتِهِ وأفعالِهِ.
وعَنِ الربيع قالَ: هوَ الذي لا تعْتريهِ الآفاتُ.
وعنْ مقاتلِ بنِ حيانَ قالَ: هوَ الذي لا عَيْبَ فِيهِ.
وعنْ ابنِ كيسانَ: هوَ الذي لا يُوصفُ بصفَتِهِ أحدٌ.
وعنْ قتادةَ: الصمدُ: البَاقِي بَعْدَ خَلقِه، وعَنْ مجاهدٍ ومَعْمَرٍ: هُوَ الدائمُ.
وعَنْ مُرَّةَ الهمدانيِّ: هوَ الَّذي لا يَبْلى ولا يَفْنى.(2/671)
وعنه أيضًا: هو الذي يحكمُ ما يريدُ، ويفعلُ ما يشاءُ؛ لا مُعَقِّبَ لحكمِهِ
ولا رادَّ لقضائِهِ.
فقد تَضَمَّنَتْ هذه السورةُْ العظيمةُ إثباتَ صفاتِ الكمالِ، ونفيَ النقائصِ
والعيوب مِنْ خصائصِ المخلوقينَ مِنْ التولدِ والمماثلةِ.
وإذا كانَ منزَّهًا عنْ أنْ يخرجَ منهُ مادةُ الولدِ الَّتي هي أشرفُ الموادِ فَلأنْ نُزِّهَ
عَنْ خروج مادةِ غَيرِ الولدِ أوْلَى.
وكذلكَ تنزيهُهُ نفسَهُ عَنْ أنْ يُولَدَ فلا يكونُ مِنْ مثلِهِ تنزيهٌ لهُ عنْ أنْ يكونَ
مِنْ سائرِ الموادِ بطريقِ الأوْلَى.
فمنْ أثبتَ للَّهِ ولدًا فقدْ شَتَمهُ وقدْ ثبتَ في "صحيح البخاريّ " عنْ أبي
هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقولُ اللَهُ - عزَّ وجلَ - كذبني ابنُ آدمَ ولم يكنْ له ذلكَ، وشَتَمني ولم يكنْ لهُ ذلكَ، فأمَّا تكذيبُهُ إيايَ فقولُه: لن يُعيدَني كما بدأني وليسَ أولُ الخلق بأهَونَ علي من إعادته، وأمَّا شَتمُهُ إيايَ فقوله: اتَخذ الله ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ.
لم أَلِدْ ولم أُولَدْ ولم يكن لي كُفوًا أحد".
وفي "صحيح البخاري " أيضًا عن ابنِ عبَّاسٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: كذبني ابنُ آدمَ وَلَم يكنْ له ذلكَ، وشتمني ولم يكنْ لَه ذلك، فأمَّا تكذيبُهُ إيايَ فزعَم أتي لا أقدِرُ أن أعيدَهُ كما كان، وأمَّا شتمهُ إيايَ فقوله: لي ولد، فسُبحاني أن أتَّخذَ صاحبة أو وَلدًا!.
وقد ردَّ اللَّهُ علَى منْ زعمَ أنَّه لا يعيدُ الخلقَ، وعلَى منْ زعمَ أنَّ لهُ ولدًا(2/672)
كما تَضَمَّنهُ هذا الحديثُ في قولهِ: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوفَ أُخْرَجُ حَيًّا) ، إلى قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) .
وفي "صحيح البخاريَ " أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا أحَدَ أصبرُ على أذىً سمعهُ مِنَ اللَّه، إنَهُم يجعلونَ لهُ ولَدًا وهو يرزقُهُم ويُعافِيهم ".
فهذه السورةُ الكريمةُ تَضَمَّنتْ نَفْيَ مَا هوَ من خصائصِ آلهةِ المشركين عنْ
رب العالمينَ؛ حيثُ جاءَ في سببِ النزول أنَّهُم سالُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ ربِّه منْ أيّ شيءٍ هوَ؟ أمِنْ كذا، أم من كَذَا؟ أو ممَن وَرِثَ الدنيا؛ ولمن يُوَرَثُها؛ حيثُ كانوا قد اعتادُوا آلهةً يلدونَ، ويولدونَ، ويرِثُون ويُوَرّثونَ، وآلهةً من مواد مصنوعةٍ منها، فأنزل اللَهُ هذه السورةَ.
وفي "المسندِ" من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ بعدَ ذكرِ نزولهِا: لأنَّه ليسَ أحدٌ
يولدُ لا يموتُ ولا أحدٌ يرِثُ إلا يُورَث، يقولُ: كل مَنْ عُبِدَ منْ دونِ اللَّهِ وقدْ وُلد مثلُ المسيح والعزيرِ وغيرِهما من الصالحينَ، ومثلُ الفراعنةِ المدعين
الإلهية، فهذا مولودٌ يموت وهو وإنْ كانَ قد ورثَ من غيرِه ما هو فيه فإذا
ماتَ وَرِثَهُ غيرُه واللَّه سبحانه حيٌّ لا يموتُ ولا يُورَثُ سبحانه وتعالى، واللَّهُ
أعلمُ.
سؤالٌ: نفى سبحانهُ الولادةَ قبلَ نفي التولدِ، والتولد أسبقُ وقوعًا من
الولادِ في حقِّ مَنْ هو متولدٌ؟
وجوابه: أنَّ الولادةَ لم يَدَّعها أحد في حقِّه سبحانه وإنَّما ادّعَوا أنَّه وَلَدَ.
فلذلكَ قَدَّم نفيَه لأنَّه المهمُّ المحتاجُ إلى نَفْيِهِ.(2/673)
سؤالٌ آخرُ: كيفَ نَفَى أنْ يكونَ مولودًا ولم يعتقدْه أحَد؟
جوابُهُ: مِنْ وجهينِ، أحدُهُما: أَنَّهم سألوا عَمن وَرِثَ الدنيا ولِمنَ يورِّثُها.
وهذا يُشعرُ بأن منهُم منْ اعتقدَ ذلكَ.
والثاني: أنه نفى عَنْ نفسِهِ سبحانه خصائصَ آلهةِ المشركينَ فإنَّ منْهمُ مَنْ
عبدَ المسيحَ، ومنْهُم منْ عبَدَ العزيرَ وهُمَا مولودانِ، ومنْهُم مَنْ عبدَ الملائكةَ
والعجلَ وهيَ متولدات، وقد تقدَّم أن نفيَ الولادةِ تدلُّ علَى نفي المتولدِ بطريقِ الأَوْلى.
فائدةٌ: قالَ ابنُ عطيةَ: (كفُوًا) خبرُ كانَ، واسمُهَا (أَحَدٌ) ، والظرفُ
مَلغي، وسيبويه يستحسن أنْ يكونَ الظرفُ إذا تقدَّم خبرًا.
ولكنْ قَدْ يجيءُ مُلْغى فى أماكنَ يقتَضِيَها المعنى كهذِهِ الآيةِ، وكقولِ
الشاعرِ أنشدَهُ سيبويه:
ما دامَ فيهنَّ فَصِيلٌ حيًّا
ويُحتملُ أن يكونَ: (كفوًا) حالاً لما قُدِّمَ مِنْ كونِهِ وصفًا للنكرةِ كَمَا قالَ
كثير لعزَّةَ:
لميةَ موحِشًا طَلَلُ
قالَ سيبويه: وهذا نَقْل في الكلامِ وبابُهُ الشِّعرُ.
فهذه السورةُ تتضمنُ انفرادَهُ ووحدانيتَهُ، وائه منقطعُ النظيرِ، وأنَّهُ إنما نُزِّهَ
عن أنْ يكونَ من أجناسِ المخلوقاتِ، لأنَّ أفرادَ كُل جنسٍ مِنْ هذهِ الأجناسِ
متكافئة مماثلة، فالذهبُ يكافئُ الذهبَ، والإنسانُ يكافئُ الإنسانَ ويزاوجُهُ.
ولهذا قالَ تعالَى: (وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) ، فمَا مِنْ مخلوقٍ(2/674)
إلا وله كفؤ، هو زوجُهُ، ونظيرُهُ، وعدلُهُ، ومثيلُهُ، فلوْ كانَ الحقُّ مِنْ جنسِ
شيءٍ منْ هذهِ الأجناسِ لكانَ له كفوٌ وعدلٌ، وقدْ عُلِمَ انتفاؤُهُ بالشرع
والعقلِ.
فهذه السورةُ هِيَ نسبُ الرحمنِ وصفتُه، وهيَ التي أنزلَهَا اللَهُ في نفي مَا
أضافَ إليه المبطلونَ من تمثيل، وتجسيم، وإثباتِ أصل وفرع، فدخَلَ فيها ما
يقولُه مَنْ يقولُ من المشركينَ، والصابئةِ، وأهلِ الكتابِ، ومن دخلَ فيهم من منافِقِي هذهِ الأمةِ من تولدِ الملائكةِ أوِ العقولِ، أوِ النفوسِ، أوِ بعضِ الأنبياءِ، أو غيرِ الأنبياءِ.
ودخلَ فيها ما يقولُه مَنْ يقولُ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ من تولدِهِ عن
غيرِه كالذينَ قالُوا في المسيح: إنَّه اللَهُ، والذينَ يقولونَ في الدجالِ: إنَهُ اللَّهُ، والذين يقولون ذلك في عليٍّ وغيرِه.
ودخلَ ما يقولُه من يقولُ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ من إثباتِ كفوٍ له في
شيءٍ من الأشياءِ، مثل من يجعلُ له بتشبيهِهِ، أو بِتَجْسيمِهِ، كفوًا له أو يجعلُ
لَهُ بعبادةِ غيرِه كُفؤا، أو يجعلُ لَهُ بإضافةِ بعضِ خلقِهِ إلى غيرِه كُفوًا فلا كفوَ
لهُ في شيءٍ من صفاتِهِ، ولا في ربوبيتِهِ ولا في إلاهيته.
فتضمنتْ هذه السورةُ تنزيهُهُ، وتقديسُهُ، عَنِ الأصولِ والفروع، والنظراءِ.
والأمثالِ.
وليسَ في المخلوقاتِ شيءٌ ألا ولا بدَّ أنْ يُنسبَ إلى بعضِ هذه الأعيانِ
والمعانِي، فالحيوانُ من الآدمي وغيرِه لا بدَّ أنْ يكونَ له إما والد، وإمًّا مولودٌ، وإمَّا نظيرٌ هو كفؤُه، وكذلك الجنُّ، والملائكةُ، كما قالَ تعالى:(2/675)
(وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) .
قالَ بعضُ السلفِ: (لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) فتعلمونَ أنَّ خالقَ الأزواج واحدٌ.
قالَ تعالَى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) ، قالَ مجاهد: كلّ شيءٍ خلَقهُ اللَّهُ فهو
شفع قالَ تعالَى: (وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) .
الكفرُ والإيمانُ، والهدى والضلالة، والشقاوةُ والسعادةُ، والليلُ والنهارُ.
والسماءُ والأرْضُ، والبر والبحر، والشمسُ والقمرُ، والجنّ والإنسُ، والوترُ اللَّهُ تباركَ وتعالَى.
وهو الذي ذكرهُ البخاريُّ في "صحيحِهِ " فإته يعتمدُ قولَ مجاهدٍ لأنَّه أصَح
التفسيرِ، قالَ الثوريُّ: إذا جاءَكَ التفسيرُ عَنْ مُجاهدٍ فحسبُكَ به، واختارَهُ
الشيخُ مجدُ الدينِ ابنِ تيميةَ.
وحقيقةُ الكفؤ: هُوَ المُسَاوِي والمُقَاومُ، فلا كفوَ لَهُ تعالَى في ذاتِهِ، ولا في
صِفَاتِهِ، ولا في أسمائِهِ، ولا في أفعالِهِ، ولا في ربوبيتِه، ولا فِي إلاهيتهِ.
ولهذا كانَ الإيمانُ بالقدرِ نظامَ التوحيدِ، كَمَا قالَ ابنُ عبًّاسٍ، لأنَّ القدريةَ
جعلُوا له كُفُوًا في الخلقِ.
وأمَّا توحيدُ الإلَهيةِ فالشركُ فيهِ تارة يوجبُ الكفرَ والخروجَ مِنَ الملةِ.
والخلودَ في النارِ، ومنهُ مَا هُو أصغرُ كالحلفِ بغيرِ اللَّهِ والنذرِ لهُ، وخشيةِ غيرِ اللَّهِ ورجائِهِ والتوكلِ عليهِ والذلِّ لَهُ وقولِ القائلِ: ما شاءَ اللَّهُ وشئْتَ.
ومنهُ ابتغاءُ الرزق مِنْ عندِ غيرِ اللَّه، وحَمْدُ غيره علَى ما أعْطَى، والغنيةُ
بذلكَ عَنْ حمدِهِ، ومنهُ العملُ لغيرِ اللَهِ وهو الرياءُ، وهوَ أقسام.
ولهذا حرَّم التَّشَبهَ بأفْعَالِهِ بالتصويرِ، وحرَّم التسمي بأسمَائِهِ المختصةِ به(2/676)
كاللَّهِ والرحمنِ والرَّبِّ.
وإنما يجوزُ التسميةُ بِهِ مُضَافًا إلى غَيرِ مَنْ يعقلُ، وكذلك الجبَّارُ والمتكبرُ
والقهارُ ونحوُ ذلكَ كالخلاقِ والرزَّاقِ والدائم، ومنه ملكُ الملوكِ، وقدْ جَعلَ
ابنُ عقيلٍ التسميةَ بهذا مكروهَةً.
قال ابنُ عقيلِ: كُل ما انفردَ بِهِ اللَهُ - عز وجل -: "اللَّه " و"رحمنِ " و"خالقٍ " لا يجوزُ التَّسمي بِهِ، وكلَّما وُجِدَ معنَاهُ في الآدَمِي فإنْ كانَ يوجدُ تكبرًا، كالملكِ العظيم والأعظم، وملكِ الملوكِ والجبارِ فمكروهٌ، والصوابُ الجزمُ بتحريمِهِ.
فأمَّا مَا يتسمَّى بِهِ المخلوقونَ مِنْ أسمائِهِ كالسميع والبصيرِ والقديرِ والعليم
والرحيم، فإن الإضافةَ قاطعةُ الشركةَ، وكذلكَ الوصفيةُ، فقولنا: زيدٌ سميع
بصيرٌ لا يُفيدُ إلا صفةَ المخلوقِ وقولُنا: اللَّهُ سميع بصير يفيدُ صفتَهُ اللائقةَ
بِهِ، فانقطعتْ المشابهة بوجْهٍ من الوجوهِ، ولهذا قالَ تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سمِيًّا) .
وفيه قولان: أحدُهُما: نَفْيُ التسميةِ.
والثاني: نَفْىُ المساواةِ وقدْ نَفَى سبحانه عن نفسهِ المثلية بقولِهِ:
(لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، ونفى عنه العدلَ والتسويةَ بقولِهِ:
(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ، وقولِهِ: (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) . ونَفَى عنه النِّدَ بقولِهِ: (فَلا تَجْعَلُوا لِلًهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) .
وقولِهِ: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) .(2/677)
وفي الحديثِ: أيُّ الذّنبِ أعظمُ؟
قالَ: "أن تَجعل للهِ ندًّا وَهُوَ خلقكَ ".
وقالَ للذي قالَ لهُ: ما شاءَ اللَّه وشئتَ: "أجعلتني للَّه ندًّا؟ ".
وفي رواية: "أَجعلتني للَّه عدلاً".
وقالَ كعب: السماواتُ السبعُ، والأرضونَ السبعُ، أُسسَت عَلَى هذه
السورةِ (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) .
ومعنى هذا - واللَّهُ أعلمُ - أن السماواتِ، والأرضَ، إنما خلقتْ بالحقِ.
والعدلِ، والتوحيدِ؛ كمَا قالَ: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) .
ومِنْ شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلتِ:
وسبحانَ ربيِّ خالقِ النورِ لم يَلد. . . ولم يكُ مُولُودًا بذلكَ أشهَد
وسبحانَهُ مِنْ كُلِّ إفكٍ وباطلٍ. . . وكيفَ يلدْ ذو العرشِ أمْ كيفَ يُولَد
هو اللَّهُ بارِئُ الخلقِ والخلقُ كُلُّهم. . . إِمَاءٌ لَهُ طَوْعًا جميعًا وأَعْبَد
هو الصمدُ اللَهُ الذي لَمْ يكنْ لَهُ. . . مِنَ الخلقِ كفوٌ قَدْ يُضَاهِيه مخلد
وأنَّى يكونُ الخلقُ كالخالقِ الَّذي. . . يدومُ ويَبْقَى والخليقة تَنْفَد
وليسَ بمخلوق على الدَّهْرِ جده. . . ومَنْ ذا عَلَى مَرِّ الحوادثِ يَخْلُد
وَتفْنَى ولا يبْقَى سِوى القاهرِ الَّذي. . . يُميتُ ويُحيي دائِبًا ليس يَمْهَد.
* * *
آخرُه والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ.(2/678)