بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: روائع التفسير (الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي)
المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)
جمع وترتيب: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد
الناشر: دار العاصمة - المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى 1422 - 2001 م
عدد الأجزاء: 2
__________
وضع مَن جمع المادة التفسيرية - جزاه الله خيراً - آية من سورة سبأ - على سبيل السهو أو الخطأ - ضمن آيات سورة فاطر، فألحقتها بسورتها.(1/23)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَة في فَضائِلِ القُرآنِ
الحمدُ للَّه جابرِ القلوبِ المنكسرةِ من أجلِهِ، وغافرِ ذنوبِ المستغفرينَ بفضلِه
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ولا شيءَ كمثلِهِ، وأشهدُ أنًّ
محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسله بالهُدى ودينِ الحق ليظهرَهُ على الدِّينِ كلِّه.
وخيَّرهُ بين أن يكونَ مَلِكًا نبيا أو عبدًا رسولاً، فاختارَ مقامَ العبوديةِ مع
رسلِهِ.
أما بعدُ:
اعلم أنَّ هذا البابَ واسعٌ كبير، ألَّفَ فيه العلماءُ كتبًا كثيرةً، وصنفوا فيه
تصانيفَ عديدةً نذكرُ من ذلك نكتًا تدلُّ على فضلِهِ، وما أعدَّ الله لأهلهِ إذا
أخلصُوا الطلبَ لوجهِهِ وعملُوا به، فأوَّلُ ذلك: أنْ يستشعرَ المؤمن من فضلِ
القرآنِ أنه كلامُ رب العالمينَ غيرُ مخلوقٍ، كلامُ منْ ليس كمثلِهِ شيءٌ، وصفَةُ
من ليس له شبيه ولا ند، فهو من نورِ ذاتِهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ القرَّاءَ ونغماتِهِم.
وهي أكسابُهم التي يُؤمرونَ بها في حالٍ، إيجابًا في بعضِ العباداتِ، وندبًا
في كثيرٍ من الأوقاتِ، ويُزجرون عنها إذا أُجنبوا، ويُثابون عليها ويُعاقبون
على تركِها، وهذا مما أجمع عليه المسلمونَ أهلُ الحقِّ ونطقتْ به الآثارُ، ودلَّ
عليها المستفيضُ من الأخبارِ، ولا يتعلقُ الثوابُ والعقابُ إلا بما هو أكسابُ
العبادِ، ولولا أنه - سبحانه - جعلَ في قلوبِ عبادِهِ من القوةِ على حملِهِ ما
جعله ليتدبَّروه وليعْتَبروا وليتذكروا ما فيه من طاعتِهِ وعبادِتِه، وأداءِ حقوقِه(1/25)
وفرائضِه، لضعفت ولاندكتْ بثقلِهِ، أو لتضَعْضَعَتْ له، وأنَّى تطيقُه، وهو
يقولُ - تعالى جدُّه - وقوله الحق: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) .
فأين قوةْ القلوبِ من قوةِ الجبالِ؟! ولكنَّ اللَّهَ تعالى رزقَ عبادَهُ من القوةِ
على حملِهِ ما شاءَ أن يرزقَهُم، فضلاً منه ورحمةً.
قال ابنُ عباسٍ: القرآنُ هو المهيمنُ الأمينُ على كلِّ كتابٍ قبله.
وجاءَ في "البخاريِّ ": حدثنا عبيدُ اللَّه بنُ موسى، عن شيبانَ، عن
يحيى، عن أبي سلمةَ، قال: أخبرتني عائشةُ وابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - قالا: لبث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ عشرَ سنينَ ينزلُ عليه القرآنُ وبالمدينةِ عشرًا.
وجاء عن موسى بن إسماعيلَ عن معتمرٍ، قال: سمعتُ أبي عن
عثمان قال: أنبئتُ أن جبريلَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعنده أمُّ سلمةَ فجعلَ يتحدثُ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
لأمِّ سلمة: "من هذا؟ " أو كما قال، قالت: هذا دِحيةُ.
قامَ قالتْ: واللَّه ما حسبتُه إلا إياهُ حتى سمعتُ خطبةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يخبرُ خبرَ جبريلَ أو كما قال: قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعتَ هذا قال: أسامةَ بنِ زيدٍ.
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ما مِنْ الأنبياءِ نبيّ إلا أعطيَ ما مثلُهُ آمنَ عليه البشرُ وإنما الذي أوتيتُ وحيًا أوحاهُ اللَّهُ إليَّ فأرجُو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامةِ".
وقال أنسُ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: إنَّ اللَّه تعالى تابع على رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - الوحيَ قبلَ(1/26)
وفاتِهِ حتَّى توفاه، أكثرَ ما كان الوحيُ ثمَّ توفيَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد.
أي أن أكثر فترةِ تتابع الوحي على الرسولِ فترةُ قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الأسودُ بن قيس: سمعتُ جندبًا يقولُ: "اشتكى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يقمُ ليلةً أو ليلتينِ فأتتْه امرأةٌ فقالتْ: يا محمدُ، ما أرى شيطانك إلا قد تركَكَ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) .
نزلَ القرآنُ بلسانِ قريشٍ والعربِ، قرآنًا عربيًّا بلسانٍ عربيٍّ مبين.
قال أنسُ بن مالكٍ: فأمرَ عثمانُ زيدَ بنَ ثابتٍ وسعيدَ بنَ العاصِ وعبدَ اللهِ
ابنَ الزبيرِ وعبدَ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ أن ينسَخُوا المصحفَ، وقال
لهم: إذا اختلفتُم وزيدَ بنَ ثابتٍ في عربيةٍ من عربية القرآنِ فاكتبوها بلسان
قريشٍ، فإنَّ القرآن أنزلَ بلسانِهِم ففعلُوا.
وكان يعْلى بنُ أميةَ يقولُ: ليتني أرى رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حين ينزلُ عليه الوحيُ؛ فلمَّا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانةِ عليه ثوبٌ قد أظلَّ عليه ومعه ناسٌ من أصحابِهِ إذ جاءَهُ رجلٌ متضمخٌ بطيبٍ، فقال رسولَ اللَّه: كيفَ ترى في رجلٍ أحرمَ في جبةٍ بعد ما تضمخ بطيبٍ؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة، فجاءه الوحيُ
فأشارَ عمرُ إلى يَعْلى أن تعالَ: فجاءَ يعْلى فأدخلَ رأسَهُ فإذا هو مُحمَرُّ الوجهِ
يغط كذلك ساعةً ثم سُرِّي عنه فقالَ: "أين الذي يسألني عن العمرة آنفًا"، فالتُمِسَ الرجلُ فجيءَ به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ:
"أما الطيبُ الذي بك فاغسلهُ ثلاثَ مرَّات(1/27)
وأمّا الجبةُ فانزَعْها، ثم اصنعْ في عمرتِكَ كما تصنعُ في حجِّك ".
قال زيدُ بنُ ثابتٍ - رضي الله عنه -: أُرسِلَ إلى أبي بكرٍ مقتلُ أهلِ اليمامةِ فإذا عمرُ ابنُ الخطابِ عندَهُ، قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -:
إنَّ عمرَ أتاني فقال: إنَّ القتلَ قد استحرَّ يومَ اليمامةِ بقرَّاءِ القرآنِ، وإني أخْشى أن يستحرَّ القتلُ بالقراءِ بالمواطنِ فيذهبُ كثيرٌ من القرآنِ، وإني أرى أنْ تأمرَ بجمع القرآنِ، قلتُ لعمرَ: كيفَ تفعلُ شيئًا لم يفعلْه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟
قال عمرُ: هذا واللَّهِ خيرٌ فلم يزل عمرُ يراجعُني حتى شرحَ اللَّهُ صدري لذلك، ورأيتُ في ذلكَ الذي رأى عمرُ.
قال زيدٌ: قال أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لا نتهمُكُ، وقد كنتَ تكتبُ
الوحيَ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآنَ فاجْمعهُ فواللَّهِ لو كلَّفوني نقلَ جبلٍ من الجبالِ ما كان أثقلَ عليَّ مما أمرَني به منْ جمع القرآنِ، قلتُ: كيفَ تفعلونَ شيئًا لم يفعلْه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: هو واللَّهِ خيرٌ، فلم يزل أبو بكر يراجعُني حتى شرحَ اللَّه صدري للذي شرح له صدرَ أبي بكرٍ وعمرَ - رضي الله عنهما -.
فتتبعتُ القرآنَ أجمعُه من العسبِ واللخافِ وصدورِ الرجال حتى وجدتُ آخرَ
سورةِ التوبةِ مع أبي خزيمةَ الأنصاريِّ لم أجدْها مع أحدٍ غيره:
(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ) ، حتى خاتمةِ براءة، فكانتِ الصحفُ عند أبي بكر حتى توفاهُ اللَّهُ، ثمَّ عند عمرَ مدةَ حياتِهِ، ثم عندَ حفصةَ بنتِ عمرَ - رضي الله عنهما -.
وقدمَ حذيفةُ بنُ اليمانَ على عثمانَ وكانَ يغازِي أهلَ الشامِ في فتح أرمينيةَ
وأذربيجانَ مع أهلِ العراقِ فأفزعَ حذيفةُ بنُ اليمانِ اختلافُهم في القراءةِ، فقال:(1/28)
حذيفةُ لعثمانَ: يا أميرَ المؤمنينَْ، أدركْ هذه الأُمَّةَ قبلَ أن يختلفُوا في الكتابِ
اختلافَ اليهودِ والنصارى، فأرسلَ عثمانُ إلى حفصةَ أنْ أرسلي إلينا
بالصحفِ ننسخُهَا في المصاحفِ ثمَّ نردُّها إليكِ فأرسلتْ حفصةُ إلى عثمانَ
فأمرَ زيدَ بن ثابتٍ، وعبدَ اللَّه بنَ الزبيرِ، وسعيدَ بن العاصِ، وعبدَ الرحمنِ
بنَ الحارثِ بنِ هشامٍ، فنسخوها في المصاحفِ، وقال عثمانُ للرهطِ القرشيينَ
الثلاثةِ: إذا اختلفتم أنتم وزيدُ بنُ ثابتٍ في شيءٍ من القرآنِ فاكتبوه بلسانِ
قريشٍ فإنما نزلَ بلسانِهِم، ففعلوا حتَّى إذا نسخُوا الصحفَ في المصاحفِ ردَّ
عثمانُ الصحفَ إلى حفصةَ وأرسلَ إلى كلِّ أفقٍ مما نسخُوا، وأمرَ بما سواهُ منَ
القرآنِ في كل صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يحرَّق.
ويقولُ زيدُ بنُ ثابت: إنَّ آيةً فُقدتْ من الأحزابِ حين نسخُوا المصحفَ.
وقد كنتُ أسمعُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ بها فالتمسنَاها فوجدْنَاها مع خزيمةَ بنِ ثابتٍ الأنصاري: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) .
فألحقْناها في سورتِها في المصحفِ.
أرسلَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - إلى زيدِ بنِ ثابتٍ قائلاً: إنك كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاتبع القرآنَ، فتتبعتُ - القائل زيد - حتى وجدتُ آخرَ سورةِ التوبةِ آيتينِ مع أبي خزيمةَ الأنصاري لم أجدْهما مع أحدٍ غيره (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتمْ..) إلى آخرِها.
ويقولُ البراءُ: لما نزلتْ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .)(1/29)
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ادعُ لي زيدًا وليجِئْ باللوح والدواةِ والكتف أو الكتفِ والدواة"
ثم قال: اكتبْ: " لا يستوي القاعدونَ " وخلفَ ظهرِ النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - عمرُو بنُ أمِّ مكتومٍ الأعْمَى، قال: يا رسولَ اللَّهِ فما تأمرُوني؟
فإئي رجلٌ ضريرُ البصرِ، فنزلتْ مكانَها: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
ويتحدثُ عبدُ اللَّهِ بنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقرأني جبريلُ على حرف فراجعتُه فلمْ أزل استزيدُه ويزيدُني حتَى انتهى إلى سببعةِ أحرف ".
ويتكلمُ كل منَ المسورِ بنِ مخرمةَ وعبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ القاري، أنَّهما سمِعا
عمرَ بنَ الخطابِ يقول: سمعتُ هشامَ بنِ حكيم يقرأُ سورةَ الفرقانِ في حياةِ
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاستمعتُ لقراءتِهِ فإذا هو يقرأُ على حروف كثيرة لم يُقْرئنِيها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكدتُ أساورُهُ في الصلاةِ، فتصبرت حتى سلًّمَ، فلبَّبْتُه بردائِهِ، فقلتُ: منْ أقرأكَ هذه السورةَ التي سمعتُك تقرأُ؟!
قال: أقرأنيها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: كذبتَ، فإنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قدْ أقرأنِيها على
غيرِ ما قرأتَ، فانطلقتُ به أقودُهُ إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: إني سمعتُ هذا يقرأُ بسورةِ الفرقانِ على حروف لم تُقرِئنيها، فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أرْسِله.
اقرأ يا هشامُ " فقرأ عليه القراءةَ الَّتي سمعتُه يقرأ، فقالَ رسولُ الَلَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (كذلك أنزلتْ، ثم اقرأ يا عمرُ" فقرأتُ القراءةَ التي أقرأني، فقالَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"كذلك أنزلتْ، إنَّ هذا القرآنَ أنزلَ على سبعةِ أحرفٍ فاقرؤُا ما تيسر منه ".(1/30)
جاء رجل إلى عائشةَ أمِّ المؤمنينَ - رضي الله عنها - من العراقِ، فقال: أيُّ الكفنِ خيرٌ؟
قالتْ: ويحك!! وما يضرك؟!
قال: يا أمَّ المؤمنينَ أريني مصحفكِ، قالتْ لِمَ؟
قال: لعلِّي أؤلفُ القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غير مؤلَفٍ.
قالتْ: وما يضرك أيَّهُ قرأتَ قبلُ، إنما نزل أولُ ما نزلَ منه سورة من المفَصلِ فيها ذكرُ الجنة والنارِ، حتى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلامِ، نزلَ الحلالُ والحرامُ ولو نزل أولَ شيءٍ: لا تشربوا الخمرَ لقالوا: لا ندعُ الخمرَ أبدًا.
ولو نزل: لا تزنُوا، لقالوا: لا ندعُ الزّنا أبدًا، لقد نزلَ بمكةَ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وإنّي لجاريةٌ ألعبُ:
(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) ، وما نزلتْ سورةُ البقرةُ
والنساءِ إلا وأنا عندَهُ، قال: فأخرجتْ له المصحَفَ فأملتْ عليه آيَ السُّورِ.
ويقول ابنُ مسعود في بني إسرائيلَ والكهفِ ومريمَ وطه والأنبياءِ: إنَهن
من العتاقِ الأولِ وهن من تلادِي.
وقال البراءُ: تعلمتُ سبّح اسمَ ربِّك قبلَ أن يقدمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقال عبدُ اللَّهِ: قد علمتُ النظائرَ التي كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرؤُهنَّ اثنينِ اثنينِ في كل ركعةٍ، فقامَ عبدُ اللَّهِ ودخلَ معه علقمة، وخرجَ علقمةُ، فسألنا، فقال: عشرونَ سورة من أولِ المفصلِ على تأليف ابنِ مسعود آخرُهنَّ الحواميمُ حم الدخان، وعمَّ يتساءلون. َ
وسأل قتادةُ أنسَ بنَ مالكٍ: مَنْ جمعَ القرآنَ على عهدِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: أربعةٌ كلُّهم من الأنصارِ: أُبي بنُ كعب، ومعاذُ بنُ جبل،(1/31)
وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو زيد.
وقال أنسُ بنُ مالكٍ: لم يجمع القرآنَ غيرُ أربعةٍ: أبو الدرداءَ ومعاذُ بنُ
جبلٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو زيدٍ، ثم أضاف أنس: ونحن ورثناه.
وقال عمرُ بنُ الخطابِ: أُبيٌّ أقرؤُنا، وإنَّا لندعُ من لحنِ أُبي، وأُبيٌّ يقولُ:
أخذتُه منْ فِيِّ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فلا أتركُه لشيء، قال الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
حدثنا أبو نُعيمٍ، قالَ: حدثنا شيبانُ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي
سلمةَ، عن عائشةَ وابنِ عباسٍ أنَّ رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - لبثَ بمكةَ عشر سنينَ ينزلُ عليه القرآنُ وبالمدينةِ عشرًا.
حدثنا الحسنُ بنُ موسى: قال: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ.
عن أنسِ بنِ مالكٌ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ ليلةَ اسْرِي بي رجالاً تُقرضُ شفاههُم بمقاريضَ من نارٍ فقلتُ لجبريلَ: من هؤلاءِ؟
قال: هؤلاء خطباءُ من أمَّتِكَ يأمرونَ بالبر وينسونَ أنفسَهم وهو يتلونَ الكتابَ أفلا تعقلون ".
حدثنا أبو عاصم، عن عبيدِ اللَّه بنِ أبي زيادٍ، عن شهرِ بنِ حوشبٍ، عن
أسماءَ بنتِ يزيدَ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"اسمُ اللَّهِ الأعظمُ في هاتينِ الآيتينِ:
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ".(1/32)
حدَّثني ابنُ أبي شيبةَ، قال: حدثنا أبو خالدٍ الأحمرُ سليمانُ بنُ حيانَ.
عن مجالدٍ، عن الشعبيِّ، عن جابرٍ قال: كنَّا جلوسًا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فخط خطا هكذا أمامَهُ فقال: "هذا سبيلُ اللَّه " وخطينِ عن يمينِهِ، وخطينِ عن شمالِهِ فقالَ: "هذه سبلُ الشيطانِ " ثم وضعَ يدَهُ في الخطِ الأوسطِ ثمَّ تلا هذه الآيةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .
حدثنا يحيى بنُ إسحاقَ، قال: أخبرنا ابنُ لهيعةَ، عن أبي الزبيرِ، قال:
سمعتُ جابرَ بن عبدِ اللَّهِ بعدَما رجِعنا من غزوةِ تبوكٍ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"إن بالمدينةِ لأقوامًا ما سِرْتُم ولا قطعتُم واديًا إلا كانُوا معكم، حبسهُمُ المرضُ".
حدثنا يحيى بن إسحاقَ، قال: أخبرنا ابنُ لهيعةَ عن أبي الزبيرِ، قال:
سمعتُ جابرَ بن عبدِ اللَّهِ بعدما رجِعنا من غزوةِ تبوكٍ، قال:..
وحدثني محاضرٌ، قال: حدثنا الأعمشُ، عن ابنِ سفيانَ، عن جابرٍ
قال: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ في سفرٍ:
"إنَّ بالمدينة لرجالاً ما تقطعونَ واديًا ولا تسلكون طريقًا إلا وهُم معكُم، حبسهُم عنكُم المرضُ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"ستكونُ فتنٌ" قلتُ: فما المخرجُ منها يا رسولَ اللَّه؟
قال: "كتابُ اللَّهِ فيه نبأ ما قبلكُم، وخبرُ ما بعدكم، وحكمُ ما بينَكم، وهو الفصلُ ليس(1/33)
بالهزلِ، من تركَهُ من جبارٍ قصمهُ اللَّهُ، ومَنْ ابتغى الهُدَى من غيره أضلَّه اللَّهُ، وهو حبلُ اللَّه المتينِ، وهو الذكرُ الحكيمُ وهو الصراطُ المستقيمُ، وهو الذي لا تزيغُ به الأهواءُ، ولا تلبسُ به الألسنةُ، ولا تشبعُ منه العلماءُ، ولا يخلَقُ على كثرةِ الردِّ، ولا تنقضِي عجائبُه.
من قالَ به صدَقَ، ومن عملَ به أُجِرَ، ومن حكمَ به عدلَ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ ".
وقال: "من قرأ القرآنَ في سبيلِ اللَّه كُتبَ مع الصديقينَ والشهداءِ والصالحينِ
وحسنُ أولئك رفيقًا".
وقال: "أيحبُّ أحدُكم إذا رجعَ إلى أهلِهِ أنْ يجدَ ثلاثَ خلفاتٍ عظامٍ سمانٍ؟ "
قلنا: نعم، قال: "ثلاثُ آياتٍ يقرأُ بهنَّ أحدُكم في صلاةٍ، خير له من ثلاثِ خلفاتٍ سمانٍ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَ القرآنُ في إهابٍ ما مستْهُ النارُ".
وقال: "لو جُمع القرآنُ في إهابٍ ما أحرقتْهُ النارُ".
وقال: "لو كان القرآنُ في إهابٍ ما أكلتْهُ النارُ".
قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"ما أنزلَ اللَّهُ في التوراة ولا في الإنجيلِ مثل: أمِّ القرآنِ وهي
السبعُ المثاني ". َ(1/34)
وقالَ: "أَخْيرُ سورةٍ في القرآن: الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ".
وقالَ: "أفضلُ القرآنِ: الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ".
وقالَ: "أعظمُ سورةٍ في القرآنِ: الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ".
وقالَ: "فاتحةُ الكتابِ تعدلُ بثلثي القرآنِ ".
قال رسولُ اللَّهِ: - صلى الله عليه وسلم -:
"ما من مسلمٍ يأخذُ مضجَعَهُ فيقرأُ سورةً من كتاب اللَّه.
إلا وَكَلَ به ملكًا يحفظهُ فلا يقربُهُ شيءٌ يؤذيه حتَّى يهبَّ متى هبَّ ".
وقال: "إنكم لا ترجعون إلى اللَّهِ بشيءِ أفضلَ مما خرجَ منه " يعني القرآن.
وقالَ: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ".
وقال: "يجيءُ صاحبُ القرَآنِ يومَ القيامةِ، فيقولُ القرَآنُ: يا ربِّ حلِّه، فيلبسُ تاجَ الكرامةِ، ثم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، يا ربِّ ارضَ عنه، فيرضَى عنه، ويقالُ له اقرأ وارْقَ، ويُزادُ له بكلِّ آيةٍ حسنةٌ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَهُ ".
وفي لفظٍ: "إنَّ أفضلَكم من تعلَّم القرَان وعلَّمه ".(1/35)
وزاد البيهقيُّ في "الأسماءِ":
"وفضلُ القرآنِ على سائرِ الكلامِ كفضلِ اللَّهِ على سائرِ خلقِهِ ".
وقالَ: "من جمعَ القرآنَ كانتْ له عندَ اللَّهِ دعوة مستجابة إن شاءَ عجَّلها في الدنيا، وإن شاءَ ادَّخرها له في الآخرةِ".
قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"ما مِنْ رجلٍ يُعلِّمُ ولدَه القرآنَ إلا تُوجٍّ يومَ القيامةِ بتاجٍ في الجنةِ".
قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ الله كتبَ كتابًا قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بألفَي عامٍ، فأنزلَ
منه آيتينِ فختمَ بهما سورةَ البقرةِ".
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: أُعطي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا، أُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيمَ سورةِ البقرةِ، وغُفر لمنْ لم يشركْ باللَّه من أمتِهِ شيئًا.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"أعطيتُ خواتيم سَورةِ البقرةِ الآيتينِ. . . ".
وقال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من بيت رحمة اللَّه ".
وقال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من خزائنِ رحمة اللَهِ تعالى".
وقال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من كنز".(1/36)
قال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من تحت العرشِ ".
وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ أولَ سورةِ الكهفِ، وآخرها، كانتْ له نُورًا منْ قدمِهِ إلى رأسِهِ.
ومن قرأها كلَّها كانتْ له نورًا ما بين الأرض والسماءِ".
وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ في ليلةٍ:
(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ..) الآيةَ، كانَ له نورٌ من عدن أبْينَ إلى مكةَ، حشوُهُ الملائكةُ".
يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تباركَ وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرضَ ".
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الركعة الأولى الفاتحةَ وسورةَ يس.
وصلَّى بالصحابةِ الظهرَ، فحسبوا أنَّهم سمِعُوا منه آياتٍ من يس.
وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"اقرؤوها عند موتاكُم " - يَعْني: يس.
وفي كسوفٍ للشمسِ صلَّى عليٌّ - كرَّم اللَّه وجَهه - للناسِ، فقرأ يس أو
نحوها.(1/37)
ويقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -:
"بلغني أنَّ يس تعدلُ القرآنَ كلَّه ".
وقالَ: "من قرأ يس حينَ يصبحُ، أُعطي يسرَ يومِهِ ".
وقالَ: "من قرأ يس في ليلةٍ ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ غُفرَ له ".
وقالَ: "من قرأ يس في صدرِ النهارِ، قُضيتْ حوائجُهُ ".
وقالَ: "من قرأ يس كتب اللَّه له بقراءَتِها، قراءةَ القرآنِ عشرَ مرَّاتٍ ".
كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسجدُ إحْدى عشرةَ سجدةً وسجدةَ الحواميم.
ويقالُ: عشرونَ سورةً من أول المفصلِ على تأليف ابنِ مسعود وآخرُهن
الحواميم.
والحواميمُ هي المسبحاتُ.
وكان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ المسبحاتِ قبلَ أن يرقد.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا ينامُ حتَّى يقرأَ المسبحات.
والمسبحاتُ آية خير من ألفِ آيةٍ.
وجاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ شيءٍ لُبابًا، ولبابُ القرآنِ الحواميمُ ".(1/38)
وقالَ: " الحواميمُ ديباجُ القرآنِ ".
وقالَ: "من قرأ حم (الدخان) في ليلةٍ، أصبحَ يستغفرُ له سبعونَ ألف ملَكٍ ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"إِنَّ لِكُلِّ شَىْءٍ لُبَاباً، وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلُ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لكلِّ شيءٍ عروسٌ وعروسُ القرآنِ الرحمنُ ".
ويقالُ: لكن النبيَّ كان يقرأ النظائرَ، النظرُ: الرحمنُ والنجم.
والنظائرُ التي كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرنُ: الرحمنُ والنجمُ.
وكانَ أولُ مفصلِ ابنِ مسعودٍ: الرحمنُ.
نزلتْ سورةُ الحشرِ في بني النضيرِ.
وسماها البعضُ سورةُ النضيرِ.
وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قال حين يصبحُ أعوذُ باللَّه السميع العليم من الشيطانِ الرجيم.
وثلاثَ آياتٍ من آخرِ سورةِ الحشرِ، وَكَّلَ اللَهُ به سبعينَ ألفَ ملَكٍ يصلُّونَ عليه ".
وقالَ: "من قرأ ثلاثَ آياتِ من آخرِ سورةِ الحشرِ إذا أصبحَ فماتَ من يومِهِ ذلكَ طُبع بطبائع الشهداءِ".
قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من القرآنِ سورة ثلاثونَ آيةً شفعتْ لرجل حتى غُفر له:
(تباركَ الذي بيده الملك) ".(1/39)
وقالَ: "هي المانعةُ، هي المنجيةُ، تنجي من عذابِ النارِ".
وقالَ: "وددتُ أنَّها في قلبِ كلِّ مؤمنٍ: تباركَ الذي بيده الملك ".
وقالَ: "من قرأ (تباركَ الذي بيدهِ الملكُ) كلَّ ليلةِ، منعهُ اللَّهُ من عذابِ القبرِ".
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"إني نسيتُ أفضلَ المسبحاتِ " قال أُبيُّ بنُ كعبٍ: فلعلها: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ؟
قال: "نعم".
قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الشيطانَ يخرجُ من البيتِ إذا سمعَ سورةَ البقرةِ تُقرأُ فيهِ ".
وقالَ: "من قرأ سورةَ آلِ عمرانَ يومَ الجمعةِ صلَّتْ عليه الملائكةُ إلى الليلِ ".
وقالَ: "أعظمُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ آيةُ الكرسي ".
وقالَ: "إنَّ لكلِّ شيء سنامًا، وإنَّ سنامَ القرآنِ البقرةُ، وفيها آيةٌ هي سيدةُ آي القرآنِ آيةُ الكرسي ".
وقالَ: "أفضلُ القرآنِ سورةُ البقرةِ وأعظمُ آيةٍ فيها، آيةُ الكرسي ".
وقالَ: "من قرأ آيةَ الكرسي دُبرَ كلِّ صلاة مكتوبة لم يمنعْه من دخولِ الجنة إلا أن يموتَ ".(1/40)
وقالَ: "آيةُ الكرسي ربعُ القرآنِ ".
وقالَ: "من قرأ الآيتينِ من آخرِ سورةِ البقرةِ في ليلة، كفتاهُ ".
"من قرأ آخرَ آلِ عمرانَ في ليلة، كتبَ له قيامُ ليلة".
"إن الله كتبَ كتابًا قبل أن يخلَق السماواتِ والأرضَ بألفي عامٍ، وأنزلَ منه آيتينِ ختمَ بهما سورةَ البقرةِ، ولا يُقرآنِ في دار فيقربُها شيطانٌ ثلاثَ ليالي ".
قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأنعامُ من نواجبِ القرآنِ ".
وقالَ: "من أخذَ السبعَ الطوالَ فهو حبرٌ".
وقالَ: " لا يحفظُ منافقٌ سورَ: براءةَ، وهودَ، ويس، والدخانَ، وعمَّ يتساءلون ".
وقالَ: "آيةُ العزِّ: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) .. إلخ السورةِ.
قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا يستطيعُ أحدُكُم أنْ يقرأ ألفَ آية في كلّ يومٍ؟ "
قالُوا: ومن يستطيعُ أن يقرأ ألفَ آيةٍ؟
قال: "أما يستطيعُ أحدُكُم أن يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) ".(1/41)
المعوذتان:
المقصودُ بهما سورةُ الفلق وسورةُ الناسِ.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"أُنزلَ (أو أنزلتْ) عليَّ آياتٌ لم يُرَ مثلُهُنَّ قط: المعوذتين ".
وكان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يقرأُ في الركعة الثالثةِ المعوذتينِ وقل هو اللَّه أحد.
وكان يطلبُ من الصحابةِ القراءةَ بالمعوذتين في دبرِ كلِّ صلاةٍ.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا مرضَ قرأ على نفسِهِ بالمعوذتين.
وكان إذا أخذ مضجعَهُ إذا أوى إلى فراشِهِ نفثَ في يديهِ بالمعوذتين".
وكان يتعوذُ حتَّى نزلتْ المعوذتان، فلمَّا نزلتْ أخذَ بهما وترك ما
سواهما.
وكانَ ابنُ مسعودٍ لا يكتبُ المعوذتينِ في مصحفِهِ.
حدثنا يزيدُ بنُ أبي حكيمِ، قال: حدثنا سفيانُ، عن عاصم الأحولِ قالَ:
سألتُ أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كانا من شعائرِ الجاهليةِ فلمَّا كانَ
الإسلامُ أمسكْنا عنهما، فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) .(1/42)
حدثني أبو بكرٍ بنُ أبي شيبةَ، قال: حدثنا كثيرُ بنُ هشامٍ، عن أبي الزبيرِ.
عن جابرٍ، قال: اشتكيتُ وعندي سبعَ أخواتٍ لي فدخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - فنفخَ في وجهي فأفقتُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ألا أوصي لإخوتي بالثلثينِ، قال: "احبِسْ " قلتُ: الشطرُ، قال: "احبِسْ ".
ثم خرجَ وتركني فقالَ:
"يا جابرُ إني أراكَ ميتًا من وجعكِ هذا وإنَّ اللَّه عزَّ وجل قد أنزلَ فبين لأخواتِكَ فجعلَ لهنَّ الثلثينِ " قال: فكان جابرٌ يقولُ: نزلتْ هذه الآيةُ فيَّ (يَسْتَفْتُونكَ قًلِ اللَّه يُفْتِيكم فِي الْكَلالَةِ) .
حدثني محاضر، قال: حدثنا الأعمشُ، عن ابنِ سفيانَ، عن حابرٍ، قالَ:
قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونحنُ في سفرٍ: "إن بالمدينة لرجالاً ما تقطعونَ واديًا ولا تسلكون طريقًا إلا وهم معكُم حبسهُم عنكم المرضُ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"القرآنُ أحبُّ إلى اللَّهِ من السمواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ".
قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"حملةُ القرآنِ في ظلِّ اللَّهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه ".
وقالَ: "إنَّ هذا القرآنَ سببٌ طرفُهُ بيدِ اللَّه، وطرفُه بأيديكُم فتمسَّكوا به،(1/43)
فإنَّكُم لن تضلّوا ولنْ تهلِكُوا بعدَهُ أبدًا".
وقالَ: "منْ تعلَّم كتابَ اللَّه ثم اتَّبع ما فيه، هداهُ اللَّهُ به من الضلالةِ، ووقاه يومَ القيامةِ سوءَ الحسابِ ".
وقالَ: "لأن تغدو فتتعلمَ آيةً من كتابِ اللَّهِ خيرٌ لك من أن تصلِّي مائةَ ركعةٍ".
وقالَ: "إنَّ الذي ليسَ في جوفهِ شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الخربِ ".
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"الماهر بالقرآنِ مع السفرة الكرام البررةِ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتعُ فيهِ.
وهو عليهِ شاقٌّ له أجرانِ ".
وقالَ: "من تعلَّم آيةً من كتابِ اللَّهِ استقبلتْه يومَ القيامةِ تضحكُ في وجهِهِ ".
وقالَ: "من قرأ القرآنَ فاستظهرَهُ، فأحَلَّ حلالَهُ، وحرمَ حرامَهَ أدخله اللَّهُ الجنةَ، وشفَعه في عشرةٍ من أهلِ بيتِهِ، كلِّهم قد وجبتْ لهم النارُ".
وقالَ: "من قرأ القرآنَ فأكملَهُ وعملَ به أُلبِسَ والداه تاجًا يومَ القيامةِ، ضوءُه أحسنُ من ضوءِ الشمسِ في بيوتِ الدُّنيا لو كانتْ فيكم فما ظنُّكم بالذي عمل بهذا؟! ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"خيرُ الحديثِ كتابُ اللَّهِ ".
وقالَ: "حملةُ القرآنِ عُرفاءُ أهلِ الجنةِ".(1/44)
وقالَ: "أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللَّهِ وخاصتُه ".
وقالَ: " القرآنُ شافعٌ مشفعٌ وماحِلٌ مصدَّق من جعلَه أمامَه قادَهُ إلى الجنةِ، ومن جعلَهُ خلفَهُ ساقَهُ إلى النارِ".
وقال: "من قرأ القرآنَ يقوم به آناءَ الليلِ والنهارِ، يُحلُّ حلالَهُ ويحرِّمُ حرامَهُ، حرَّم اللَّهُ لحمَهُ ودمَهُ على النارِ، وجعلَهُ مع السفرةِ الكرام البررةِ حتَّى إذا كان يومُ القيامةِ كانَ القرآنُ حجةً له ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"القرآنُ غِنًى لا فقرَ بعده، ولا غِنًى دونَهُ ".
وقالَ: "ثلاثةٌ لا يهولهم الفزعُ الأكبرُ، ولا ينالُهم الحسابُ، هم على كثيبٍ من مسكٍ حتَّى يُفرغَ من حسابِ الخلائقِ: رجل قرأ القرآنَ ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ، وأمَّ به قومًا وهم به راضونَ ".
وقالَ: "من قرأ القرآنَ فقد استدرجَ النبوةَ بين جنبيه غيرَ أنَّه لا يُوحى إليه ".
"لا ينبغي لصاحبِ القرآنِ أن يجدَ مع من يجدُ، ولا يجهلَ مع من يجهَلُ وفي جوفِهِ كلامُ اللَّهِ ".
قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمِّ القرآنِ فهي خِداجٌ ".(1/45)
وقالَ: "من لم يقرأ بأمِّ القرآنِ فلا صلاةَ له ".
وقالَ: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ بأمِّ القرآنِ فلم يصلِّ ".
وقالَ: "ومن فاتَهُ قراءةُ أمِّ القرآنِ فقد فاتَهُ خيرٌ كثيرٌ".
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ بأمِّ القرآنِ وسورتينِ معها في الركعتينِ الأوليينِ من صلاةِ الظهرِ وصلاةِ العصرِ، وكان يقرأ في الركعتينِ الأخريينِ بأمِّ القرآنِ وكان يخفف الركعتينِ.
فصلَّى ركعتينِ خفيفتين قبلَ صلاة الفجرِ حتَّى كانَ الصحابةُ يقولونَ: هلْ
قرأ فيهما بأمِّ القرآنِ؟.
وسمعتُ الحجاجَ يقولُ على المنبر: لا تقولوا: سورةَ البقرةِ، قولوا:
السورةُ التي يُذكر فيها البقرةُ.
ويقالُ: إن عبدَ اللَّهِ بن عمرَ مكثَ على سورةِ البقرةِ ثماني سنينَ يتعلمُها.
ويقولُ أنسٌ - رضي الله عنه -: كان رجلٌ يكتبُ بين يدي رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: وكانَ الرجلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عمرانَ يُعدُّ فينا عظيمًا.
وكان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الصلاةِ دائمًا آيةَ:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا) .
ويقولُ ابنُ عباسٍ: إنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان ينامُ حتَّى منتصفِ الليلِ، فيستيقظُ،(1/46)
ثمَّ يقرأُ الخمسَ أو العشرَ الآياتِ الأواخرِ، الخواتيم من سورةِ آلِ عمران.
ويقولُ ابنُ عباسٍ أيضًا: قامَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من الليلِ فخرجَ فنظرَ في السماءِ ثم تلا هذه الآيةَ التي في آلِ عمرانَ:
(إِنَّ فِي خَلْقِ. . .) الآية.
ويقول رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ البقرةَ وآلَ عمرانَ جاءَتا يومَ القيامةِ تقولانِ: ربَّنا لا سبيلَ عليهِ ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"تعلَّمُوا واقرؤُوا سورةَ البقرةِ وآلِ عمرانَ فإنَّما الزهراوانِ ".
وسمعتُ الحجاجَ على المنبرِ يقولُ: قولُوا السورةُ التي يُذكرُ فيها آلُ
عمرانَ.
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ سورةَ الكهفِ في يوم الجمعةِ، أضاءَ له من النورِ ما
بينه وبين الجمعتينِ ".
وقال: "من قرأ سورةَ الكهفِ ليلةَ الجمعةِ، أضاء له مِنَ النورِ فيما بينه وبين البيتِ العتيقِ ".
وقالَ: "من قرأ الكهفَ لساعةٍ يريد يقوم من الليل قامها".
وقال: "من قرأ عشر آياتٍ من الكهفِ لم يخفِ الدَّجال ".(1/47)
وقالَ: "من حفظَ عشرَ آياتٍ من أولِ الكهفِ عُصِمَ من فتنةِ الدجالِ ".
وقالَ: "من قرأَ ثلاثَ آياتٍ من أوَّلِ الكهفِ عُصِمَ من فتنة الدجالِ ".
وقالَ: "من قرا أوَّلَ سورةِ الكهفِ وآخرَها، كانتْ له نورٌ من قدَمِهِ إلى رأسِهِ ".
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"تجِيءُ الم السجدةُ يومَ القيامةِ لها جناحانِ تُظلُّ صاحبَها، تقولُ: لا سبيلَ
عليك، لاسبيلَ عليكَ ".
وقالَ: "في تنزيل (السجدة) وتباركَ (المُلك) فضلُ ستينَ درجةٍ على غيرِهما من
سورِ القرآنِ ".
وجاء عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"يس قلبُ القرآنِ لا يقرؤُها رجلٌ يريدُ اللهَ والدارَ
الآخرةَ إلا غَفَرَ الله له، اقرؤوها على موتاكم ".
وقالَ: "إن لكلِّ شيء قلبًا، وقلبُ القرآنِ يس، من قرأها كتبَ اللَّه له بقراءتها قراءةَ القرآنِ عشرَ مراتٍ ".
وقالَ: "من قرأ يس في ليةٍا ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ تعالى، غُفِرَ له ".
وقالَ: "من دامَ على قراءةِ يس كلَّ ليلةٍ ثمَّ ماتَ، ماتَ شهيدًا ".(1/48)
ويقولُ: سمعنا رجلاً يقرأ (حم) الثلاثينَ يعني سورةَ الأحقافِ.
ونقولُ: قرأَنا (حم) لدخان.
ونقول: قرأنا (حم) المؤمن.
ويقولُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ آيةَ الكرسي وفاتحةَ حم المؤمنِ، لم يرَ شيئًا يكرهُهُ ".
والقرائنُ التي يقرنُ بينهنَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرةَ سورة من الفصلِ وسورتينِ مِنْ آلِ حم.
يقالُ: إنما نزلَ أولُ ما نزلَ منه (أي من القرآنِ الكريمِ) سورة من المفصلِ
فيها ذكرُ الجنةِ والنارِ.
ويقولُ صحابي من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
قرأتُ (سبح اسمَ ربِّك الأعلى) في سورٍ من المفصلِ.
قال رجلٌ: قرأتُ المفصلَ البارحةَ كلَّه.
وقال بعضهم: إنه لا يَرى السجودَ في المفصلِ.
وسجدَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرةَ سجدةً ليس فيها من المفصلِ شيء.
وكان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لا يسجدُ في شيءٍ من المفصلِ منذُ تحوَّل إلى المدينةِ
(هاجرَ إلى المدينة) فليس في المفصلِ سجدةٌ.
كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في العشاءِ بسورٍ من أوساط المفصلِ نحوِ سورةِ المنافقينِ، وحزب المفصلِ من قافٍ، حتى يختم.(1/49)
كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ المسبحاتِ كلَّ ليلةٍ قبلَ أن يرقدَ ويقولُ: "فيهنَّ آيةٌ خيرٌ منْ ألفِ آية".
وأوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً إذا أتى مضجعَهَ أن يقرأ سورةَ الحشرِ، وقال: "إنْ مِتَّ متَّ شهيدًا".
وقال الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ حين يصبحُ ثلاثَ آياتٍ، من آخرِ سورةِ الحشرِ وَكَّلَ
اللَّهُ به سبعينَ ألفَ ملكٍ يصلُّون عليه حتَّى يُمسي وإن ماتَ في ذلك اليومِ ماتَ شهيدًا.
ومن قالَها حين يُمسي كانَ بتلكَ المنزلةِ".
وقالَ: "من قرأ خواتيمَ الحشرِ في ليلٍ أو نهارٍ فماتَ في يومِهِ أو ليلتِهِ، فقدْ أوجبَ اللهُ له الجنةَ".
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ: (إِذَا زُلْزِلَتِ) عدلتْ له بنصفِ القرآنِ ".
وقالَ: " (إِذَا زُلْزِلَتِ) تعْدِلُ بنصفِ القرآنِ، و (وَالعَادِيَاتِ) تعدلُ بنصفِ
القرآنِ ".
ويقال: إنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قرأ يومَ الجمعةِ تباركَ وهم قائمٌ.
وقيل: كان رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - في ليلةِ الجمعةِ يقرأ في الركعةِ الرابعةِ بفاتحةِ الكتابِ وتبارك المفصلِ.(1/50)
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ اللهَ لَيسمعُ قراءةَ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كفَرُوا) فيقول: أبشر عبدي.
لأمكنَنَّ لكَ في الجنةِ حتى ترضَى".
قالَ - صلى الله عليه وسلم -: " (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ربع القرآن ".
وقال: " (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربع القرآن ".
وقال: "اقرأ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثم نمْ على خاتمتِها، فإنها براءة من الشركِ ".
وقال: "ألا أدلكم على كلمة تنجيكُم من الإشراكِ باللَّهِ؛ تقرءون.
(قلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) عند منامِكُم ".
وقال - صلى الله عليه وسلم - لعقبةَ بن عامرٍ:
"ألا اعلمُكَ سورة، ما أُنزل في التوراةِ ولا في الزبورِ
ولا في الإنجيلِ ولا في الفرقانِ مثلُها؟ "
قلتُ: بلى، قالَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
و (قلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ".
وقال لعقبةَ بن عامر أيضًا: "ألا أخبرُكَ بأفضلَ ما تعوَّذَ به المتعودونَ؟ "
قالَ: بلى، قالَ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ".
وقالَ: "اقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبحُ ثلاثَ مراتٍ(1/51)
تكفيكَ من كلِّ شيءٍ".
وقال: "من قرأ بعدَ صلاةِ الجمعةِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ النَّاسِ) سبعَ مراتٍ أعاذَهُ اللَهُ من السوءِ إلى الجمعةِ الأخرى".
كان أسيدُ بنُ حُضير يقرأ من الليلِ سورةَ البقرةِ، وفرسُهُ مربوطٌ عندَهُ إذْ
جالتِ الفرسُ فسكتَ، فسكتتْ فقرأ فجالتِ الفرسُ، فسكتَ، وسكتت
الفرسُ، ثم قرأ فجالتِ الفرسُ فانصرفَ، وكان ابنُه يحيى قريبًا منها فأشفق
أنْ تصيبَه، فلمَّا اجتره رفعَ رأسهَ إلى السماءِ حتَّى ما يراها، فلمَّا أصبح
حدث النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: فقال:
"اقرأ يا ابن حُضيرٍ، أقرأ يا ابن حُضيرٍ"
قال: فأشفقتُ يا رسول اللَّه أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا، فرفعتُ رأسي فانصرفتُ إليه، فرفعتُ رأسي إلى السماءِ، فإذا مثل الظلةِ، فيها أمثالُ المصابيح، فخرجتُ حتى لا أرَاها، قال: وتدري ما ذاك؟
قال: لا، قال: "تلك الملائكةُ دَنَتْ لصوتِك ولو قرأتَ لأصبحتْ ينظرُ الناسُ إليها لا تتوارَى منهم ".
دخل عبدُ العزيزِ بنُ رفيع وشدادُ بنُ معقلٍ على ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - فقال له شدادُ بنُ معقل:
أتَرَكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ شيءٍ؟
قال: ما تركَ إلا ما بين الدفتين.
ودخل عبدُ العزيز بنُ رفيع وشدادُ بن معقلٍ على محمدِ بنِ الحنفيةِ فسألاه
فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين.
قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"مثلُ الذي يقرأُ القرآنَ كالأترجةِ طَعْمُها طيبٌ وريحُها
طيب والذي لا يقرأُ القرآنَ كالتمرةِ طعمُها طيبٌ ولا ريحَ لها.
ومثلُ الفاجرِ الذي يقرأُ(1/52)
القرآنَ كمثلِ الرَّيحانةِ ريحُهَا طيبٌ وطعْمُها مرٌّ، ومثلُ الفاجرِ الذي لا يقرأ القرآنَ كمثلِ الحنظلةِ طعْمُها مُرٌّ ولا ريحَ لها".
ويقولُ ابنُ عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنما أجلُكُم في أجلِ من خلا من الأمم كما بين صلاةِ العصرِ ومغربِ الشمسِ، ومثلُكُم ومثلُ اليهودِ والنصارى، كمثلِ
رجل استعملَ عمالاً فقال: من يعملُ لي إلى نصفِ النهارِ على قيراط قيراطٍ؟ فعملتِ اليهودُ فقال: من يعمل لي من نصفِ النهارِ إلى العصرِ؟
فعملتِ النصارى، ثم أنتم تعملونَ من العصرِ إلى المغربِ بقيراطينِ قيراطينِ " قالوا: نحنُ أكثرُ عملاً وأقلُّ عطاءً، قال: "هل ظلمتُكم من حقكم؟
قالوا: لا، قال: فذاكَ فضْلِي أوتيه من شئتُ ".
وسألَ طلحةُ عبدَ اللَّهِ بنَ أبي أوفى: أأوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟
فقال: لا، فقلتُ: كيف كتبَ على الناسِ الوصيةَ، أُمِروا بها ولم يوصِ؟
قال: أوصَى بكتابِ اللَّه.
قال تعالى: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَئ عَلَيْهِمْ. . .) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لم يأذن اللَّهُ لشيء ما أذِنَ لنبيٍّ أن يتغنَّى بالقرآنِ "
وقالَ صاحبٌ له: يريدُ يجهرُ به.
وقال أبو هريرة: إن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أذِنَ اللَّهُ لشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ أن يتغنى بالقرآنِ ".(1/53)
وقال سفيانُ: تفسيرُه يسْتغنِي به.
وسمعَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ - رضي الله عنهما - رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"لا حسدَ إلا على اثنتينِ: رجلٌ آتاهُ اللَهُ الكتابَ وقامَ به آناءَ الليلِ.
ورجلٌ أعطاه اللَّهُ مالاً فهو يتصدَّقُ به آناءَ الليلِ والنَّهارِ".
وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا حسدَ إلا في اثنتينِ: رجلٌ علَّمه اللَهُ القرآنَ فهو يتلوهُ
آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فسمعَهُ جارٌ له، فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يعملُ، ورجلٌ آتاهُ اللَّهُ مالاً فهو يهلكُه في الحقِّ، فقال رجلٌ: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلانٌ فعملتُ مثلَ ما يعملُ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"خيرُكُم من تعلَّم القرآن وعلَّمَهُ "
وقيلَ: إنَّ أبا عبدِ الرحمنِ أقرأ في إمرةِ عثمانَ بن عفَّانَ حتَّى كان الحجاجُ، قال: وذاك الذي أقعدَني مقْعدي هذا.
وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"أفضلكُم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَهُ ".
وأتتِ امرأةٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: إنَّها قدْ وهبتْ نفسَهَا للَّه ولرسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -
فقال: "ما لي في النساء من حاجةٍ"، فقال رجلٌ: زوِّجنيها.
قال: "أعطِهَا ثوبًا"
قال: لا أجدُ، قال: "أعْطِها ولو خاتمًا من حديدٍ"، فاعتلَّ له فقال:
"ما معك من القرآنِ؟ "
قال: كذا وكذا، قال: "فقد زوجتُكَها بما معك من القرآنِ ".(1/54)
قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم) .
وقال: (إِنَّ هَذَا الْقُرانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) .
وقال: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) .
وقال: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) .
وقال: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) .
وقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ) .
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) .
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) .
واعلمْ أنَ اللَّه تعالى صرَفَ في هذا القرآنِ ليذَّكَّروا، ولكن ما زادَهُم إلا
نفُورًا وجُحودًا ففي قلوبِهِم أقفالٌ مغلقة، وإذا قرأ محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن جعلَ اللَّهُ تعالى بينه وبين الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ حجابًا مستورًا، ولتقم الصلاةَ لدلوك الشمس إلى غسقِ الليل وقرآنَ الفجرِ، ما أروعَهُ! إن قرآنَ الفجرِ كان مشهودًا.
وأنزلَ اللَّهُ من القرآنِ ما فيه شفاءٌ ورحمة للمؤمنينَ، ولئن اجتمعتِ الإنسُ(1/55)
والجنُّ على أنْ يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلِهِ ولعجزُوا عجْراً أبديا.
وصرَّفه اللَّهُ للناسِ، صرَّف القرآنَ من كُلّ مثل. ولكنْ ما أنزلَهُ اللَّه ليشقى
أحدٌ من الناسِ، ويطلبُ ربُّ العزة من محمدِ - صلى الله عليه وسلم - ألا يعْجلَ به من قبلِ أن يُقضى إليه وحيُه بإذنِه تعالى - جل شأنُه -.
ويقولُ الرسولُ: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقرْآنَ مَهْجُورًا) .
ويطمئنه اللَهُ فعلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ألا يخافَ ولا يحزنَ فهم يقولونَ: (لولا نزل عليه القرآنُ جملةً واحدةً) ؟ وهم لا يعرفونَ أن تلك الآياتِ حكيمةٌ من لدنْ حكيم عليم، وكلامُهُم غثاءٌ أحْوى.
القرآنُ الذي يقص على بني إسرائيل أكثرَ الذي هم في يختلفونَ دائمًا، ولقد أُمرتَ يا محمدُ أن تكونَ من المسلمينَ تاليًا للقرآنِ والذي فرضَهُ عليك لرادُّك إلى معادٍ.
في هذا القرآنِ ضربَ الله للناسِ كلَّ الأمثالِ لعلَّهم يتفكرونَ ويعقلونَ. والذين كفرَوا قالُوا: إنَّهم لن يؤمنوا بهذا القرآنَ ولا بالذي بين يديه، بئس قولُهم، فالقرآنُ حكيمٌ، ومحمدُ ابنُ عبدِ اللَّه لا ريبَ من المرسلينَ، ما علَّمه اللَّهُ الشعْرَ وما ينبغي له، إن هوَ إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبين.
القرآنُ ذو الذكر ولكنَّ الذين كفروا في عزةٍ مزعومةٍ وشقاقٍ.
القرآنُ يسره اللَّه للذكرِ فهلْ من مدَّكرٍ، ولنذكر ثمودَ وقومَ لوطٍ وآل
فرعونَ إذ جاءهم النذرُ.
فالرحمنُ علَّم القرآنَ، فهو قرآنٌ كريمٌ في كتابٍ مكنونٍ لو أنزله اللَّهُ على
جبلٍ لرأيناه خاشعًا متصدِّعًا، أقبِلْ عليه يا محمدُ ورتِّلْه ترتيلاً.
واقرءوا في السرِ والجهرِ ما تيسرَ منه.
وهو قرآن مجيدٌ، في لوحِ محفوظٍ، قد نزله اللَّه تنزيلاً، ولكنْ ما عسَاهم لا يسجدونَ إذا قُرِئَ عليهم القرآنُ؛ إنه(1/56)
قرآن عربيٌ مبينٌ لعلنا نعقلُ، ولو أنَّ قرآَنا سيرتْ به الجبالُ أو قُطِّعَتْ به
الأرضُ أو كلِّم به الموتَى بل للَّهِ سبحانه الأمرُ جميعًا أفلم يعرفِ الذين آمنُوا
أن لو يشاءُ اللَّهُ لهدى الناسَ جميعًا؛ ولا يزالُ الذين كفرُوا وجحذدوا لصيبُهم
بما صنعُوا قارعةٌ، أو تحلُّ قريبًا من دارهم حتَّى يأتي وعد اللَّهِ المحتومُ، واللَّهُ
لا يخلفُ الميعادَ.
ولقد استهزِئَ برسلٍ من قبل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فأملى اللَّهُ للذين كفروا ثم أخذتْهم الصيحةُ، فانظرْ كيفَ كان عقاب اللَّه لهم جزاء فعْلِهِم ونُكرانِهِم.
لقد أنزلَهُ اللَّهُ على رسولِهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على مُكْثٍ فرَّقَهُ، ليقْرأه محمدٌ على الناسِ على مُكْثٍ أيضًا في هدوءٍ ودرس وتؤده كي تعم الفائدةُ.
وكذلك أنزلَهُ اللَهُ قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون، ولو جعلَهُ اللَّهُ قرآنًا أعجميًا.
لقالُوا: لولا فُصّلتْ آياتُه، أعجميٌّ وعربي، قل لهم يا محمد: هو للذين
آمنوا هُدًى وشفاءٌ والذين لا يؤمنونَ في آذانِهِم وقرٌ وهو عليهم عمًى أولئك
يُنادَوْن من مكانٍ بعيدٍ ومَنْ عملَ صالحًا فلنفسِهِ، ومن أساء فعليها، وما ربُّك
بظلام للعبيدِ.
لقد أوحينا إليك يا محمدُ قرآنَا عربيًا لتنذرَ أمَّ القرى، جعلْناه قرآنًا عربيا
لعلنا نعقلُ. نعقلُ هذا العجبَ الذي سمعنَاه، وعلينا جمعهُ وقرآنهُ وإذا قرأناه
فلنتَّبِعْهُ ونعملْ في دنيانا كي ننالَ الجزاءَ الأوفى في أُخرانا.
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ حرفًا من كتابِ اللَّه فله حسنةٌ: والحسنةُ بعشرِ
أمثالِها، لا أقول الم حرفٌ ولكن الف: حرف، ولام: حرف، وميم: حرفٌ".(1/57)
وعن عقبةَ بنِ عامرٍ - رضي الله عنه -، قال: خرج رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفَةِ فقال:
"أيكم يحب أن يغدوَ كل يوم إلى بُطحانَ، أو إلى العقيقِ فيأتيَ منه
بناقتين كوماوينِ في غيرِ إثمٍ ولا قطع رَحِم؟ ".
فقلنا: يا رسولَ اللَّه، نُحبّ ذلك، قال: "أفلا يغدو أحدُكُم إلى المسجدِ فيعلمَ أو يقرأ آيتينِ من كتابِ اللَّه عزَّ وجلَّ خيرٌ له من ناقتين، وثلاث خيرٌ من ثلاث وأربعٌ خيرٌ له من أربع ومن أعدادهنِّ مِنَ الإبلِ ".
عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"اقرءوا القرآنَ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِهِ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"يُؤتَى يومَ القيامةِ بالقرآنِ وأهلِه الذينَ كانُوا يعملونَ به في
الدّنيا تقدَّمُه سورةُ البقرةِ وآلُ عمرانَ، تحاجَّانِ عن صاحبِهِما".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"خيرُكُم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَهُ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"الذي يقرأ القرآنَ وهو ماهر به مع السفرةِ الكرام البررةِ.
والذي يقرأ القرآنَ وبتتعتعُ فيه وهوَ عليه شاق له أجرانِ ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"إن اللَّه يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرينَ ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ الذي ليسَ في جوفِهِ شيءٌ من القرآن كالبيت الخرِبِ ".(1/58)
وقال عليه الصلاةُ والسلامُ:
"يقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأ وارتقِ ورتَل كما كنتَ
ترتِّلُ في الدنيا، فإن منزلتَكَ عندَ آخرِ آية تقرؤها".
قال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ:
"تعاهدُوا هذا القرآنَ فوالذي نفسُ محمد بيده لهو أشدُّ تفلُتا من الإبلِ في عُقُلِها".
وقالَ: "إنما مثلُ صاحبِ القرآنِ كمثلِ الإبلِ المعقَّلةِ، إن عاهدَ عليها، أمْسَكَها، وإنْ أطلقَها، ذهبتْ ".
وقالَ: "ما أذَنَ اللَّهُ لشيء ما أذِنَ لنبي حسنِ الصوتِ يتغَنَّى بالقرآنِ يجهرُ به ".
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لقد أوتيتَ مِزمارًا منْ مزاميرِ آلِ داودَ".
ويقول البراءُ بن عازبٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه.
وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من لم يتغن بالقرآنِ فليس منَّا".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لابنِ مسعودٍ:
"اقرأ عليَّ القرآنَ " قال ابنُ مسعودٍ: يا رسولَ اللَّه، أقرأ عليك وعليكَ أُنزِلَ؟
قال: "إني أحبُّ أنْ أسمعَهُ من غيرِي ".(1/59)
فقرأ ابنُ مسعودٍ عليه سورةَ النساءِ حتَى جاء إلى هذه الآيةِ:
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) .
قال الرسولُ: "حسبُكَ الآنَ " فالتفت إليه ابنُ مسعودٍ، فإذا عيناهُ تذرِفَانِ.
ويقولُ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيدٍ رافع بنِ المعلَّى - رضي الله عنه -:
"إن أعظمَ سورةً في القرآنِ هىِ السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه ".
ويقولُ: "قل هو الله أحد، تعدلُ ثلثُ القرآنِ ".
ويقولُ: "قل هو الله أحد، الله الصمد: ثلثُ القرآن ".
ويقولُ: "والذي نفسي بيدِهِ، إنها لتعدلُ ثلثَ القرآن ".
ويقولُ: "إنها تعدلُ ثلثَ القرآنِ ".
ويقولُ: "إنَّ حبَّها أدخلك الجنة".
ويقولُ رسولُ اللَّه لعقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه -:
"ألم ترَ آياتٍ أنزلتْ هذه الليلةَ لم يُرَ مثلُهن قط؟
قلْ أعوذُ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس ".
وكان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ من الجانِّ، وعينِ الإنسانِ، حتَّى نزلتِ المعوذتانِ، فلما نزلَتَا أخذ بهما وتركَ ما سواهُمَا.(1/60)
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من القرآنِ سورةٌ ثلاثونَ آيةً شفعتْ لرجل حتَّى غُفرِ له.
وهي (تبارك الذي بيده الملك) ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تجعلُوا بيوتَكم مقابِرَ، إنَّ الشيطانَ ينفرُ من البيتِ الذي
تُقرأ فيه سورةُ البقرةِ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأُبي بنِ كعبٍ - رضي الله عنه -: "يا أبا المنذرِ أتدْرى أيَّ آية منْ كتابِ اللَّه معكَ أعظمُ؟ "
قلتُ: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، فضربَ في
صدْرى وقال: "ليهنك العِلمُ أبا المنذرِ".
وفي الأثر أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان يعلِّم أبا هريرة - رضي الله عنه - أن يقرأ آيةَ الكرسي من أوَّلها إلى آخرِها إذا أوى إلى فراشِهِ، وبها لن يقرَبَهُ شيطانٌ حتى يصبح ويكون اللَّه حافظًا له.
ويقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -:
"من حفظَ عشرَآياتٍ من أولِ سورةِ الكهفِ، عُصِمَ من الدَّجالِ ".
وفي روايةٍ: "منْ آخرِ سورةِ الكهفِ ".
ويقولُ ابنُ عباسٍ - رضي الله عنه -: بينما جبريلُ - عليه السلام - قاعدٌ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سمعَ نقيضًا من فوقِهِ، فرفع رأسَهُ فقال: هذا باب من السماءِ فُتح اليومَ، ولم يُفتح قط إلا اليومُ، فنزلَ منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرضِ(1/61)
لم ينزلْ قط إلا اليومَ، فسلَّمْ، وقال: أبشرْ بنورينِ أُوتيتَهما، لم يُؤْتَهما نبيٌّ
قبلك: فاتحةُ الكتابِ، وخواتيمُ سورةِ البقرة، لن تقرأ بحرفِ منها إلا
أُعطيته.
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّه يتلونَ كتابَ اللَّه، ويتدارسُونَه
بينهم إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهُمُ الرحمةُ، وحفتْهُمُ الملائكةُ، وذكرَهُمُ اللَّه فيمن عندَه".
كان جبريلُ يعرضُ القرآنَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عن فاطمة - عليها السلام -: فقد أسرَّ إليَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن جبريل يعارِضُني بالقرآنِ كلَّ سنةٍ، وإنَّه عارضني العامَ مرتينِ ولا أراه إلا حضرَ أجلي ".
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناسِ بالخيرِ، وأجودَ ما يكونُ في شهرِ رمضانَ، لأنَّ جبريلَ كان يلقاهُ كلَّ ليلةٍ في شهرِ رمضانَ حتى ينسلخَ، يعرضُ عليه رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ فإذا لقيهُ جبريلُ كان أجودَ بالخير من الرِّيح المرسلةِ.
وكان القرآنُ يُعرضُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرتين في العامِ الذي قُبضَ وكان يعتكفُ كلَّ عامٍ عشرًا فاعتكفَ عشرينَ في العامِ الذي قُبِضَ.
يقولُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
"خذوا القرآنَ من أربعةٍ: من عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، وسالمٍ.
ومعاذٍ، وأُبيّ بنِ كعبٍ ".(1/62)
وخطب عبدُ اللَّه بنُ مسعودٍ بعضَ الصحابةِ قائلاً: واللهِ لقد أخذتُ من
فيِّ رسولِ اللَّه عليه الصلاةُ والسلامُ بضعًا وسبعينَ سورةً، واللَّه لقد علمَ
أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنِّي من أعلمِهِم بكتابِ اللَّهِ.
وما أنا بخيرِهِم.
ويقولُ شقيقُ بنُ سلمةَ الذي كان من حضورِ هذه الخطبةِ: فجلستُ في
الحلقِ، أسمعُ ما يقولونَ: فما سمعتُ رادًّا يقولُ غيرَ ذلك.
ويحكي إبراهيمُ عن علقمةَ أنهم كانوا بحمْص، فقرأ ابنُ مسعودٍ سورةَ
يوسفَ، فقالَ رجلٌ: ما هكذا أنزلتْ.
قال: قرأتُ على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أحسنتَ "
ووجدَ منه ريحَ الخمرِ، فقال: أتجمعُ أن تكذبَ بكتابِ اللَّهِ وتشربَ
الخمرَ؟ فضربَهُ الحدَّ.
يقولُ عبدُ اللَّه بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
واللَّهِ الذي لا إله غيرُه ما أُنزلتْ سورةٌ منْ كتابِ اللَّه إلا أنا أعلمُ أينَ أُنزلتْ؛ ولا نزلتْ آيةٌ من كتابِ اللَّه إلا أنا أعلم فيم أنزلت؛ ولو أعلمُ أحدًا أعلمُ مِنِّي بكتابِ اللَّه تبلُغهُ الإبلُ لركبتُ إليه.
قال أبو سعيدٍ بن المعلَّى: إنَّه كانَ يصلِّي فدعاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبْهُ، قالَ: يا رسولَ اللَّه إنِّي كنتُ أصلِّي، قال: "ألم يَقُلِ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ؟ "
ثمَّ قال: "ألا أعلمُكَ أعظمَ سورة في القرآنِ، قبلَ أنْ تخرجَ
من المسجدِ" فأخذَ الرسولُ بيدِ ابنِ المعلَّى، فلمَّا أرادُوا الخروجَ
قال: يا رسولَ اللَّه، إنَّك قلتَ: لأعلمنَّك أعظمَ سورة من القرآنِ،(1/63)
قال: " (الحمدُ لله ربِّ العالمينَ) هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه ".
قال أبو سعيدٍ الخدري: كنا في مسيرٍ لنا فنزلنا فجاءتْ جاريةٌ فقالتْ: إنَّ
سيِّد الحيِّ سليمٌ، وإنَّ نفرنا غيبٌ فهلْ منكم راق؟ فقامَ معها رجلٌ ما كنَّا
نأبِنُهُ برقيةٍ فرقاه، فبرَأ، فأمر له بثلاثينَ شاة وسقانا لبنًا، فلمَّا رجع قلْنا له:
أكنتَ تحسنُ رقيةً؟ أو كنتَ ترقي؟
قال: لا ما رقيتُ إلا بأمِّ الكتابِ، قلْنا: لا تُحدِثُوا شيئًا حتى نأتيَ أو نسألَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدمنا المدينةَ ذكرناهُ للنبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - فقال: "وما كان يُدْرِيه أنَّها رقية؟
اقسمُوا واضربُوا لي بسهمٍ ".
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من قرأ بالآيتينِ من آخرِ سورةِ البقرةِ في ليلة كفتاهُ ".
وقال أبو هريرة: وكلني رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بحفظِ زكاةِ رمضانِ، فأتاني آتٍ، فجعلَ يحثو من الطعامِ، فأخذتُهُ فقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقصَّ الحديثَ، فقال:
"إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأ آيةَ الكرسي، لن يزالَ معك من اللَّه
حافظٌ ولا يقربُك شيطانٌ حتى تصبحَ ".
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - َ: "صدقك وهو كذوبٌ، ذاك
شيطانٌ ".
كان رجلٌ يقرأ سورةَ الكهفِ، وإلى جانبِهِ حصانٌ مربوطٌ بشطنينِ.
فتغشتْه سحابةٌ جعلتْ تدنُو وتدنُو وجعلَ فرسُهُ ينفرُ فلما أصبحَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -(1/64)
فذكر ذلك فقال: "تلك السكينة تنزَّلتْ بالقرآنِ،.
كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسيرُ وعمرُ بنُ الخطابِ يسيرُ معه ليلاً، فسأله عمرُ عن شيء فلم يجبْه رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ثم سالُه فلم يجبْه، ثم سأله فلم يجبْه، قال عمرُ لنفسه: ثكلتْك أمُّكَ، نزرتَ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مراتٍ كلَّ ذلك لا يجيبُك.
قال عمرُ: فحركتُ بَعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخشيتُ أن ينزلَ
فِيَّ قرآنٌ، فما نشبتُ أن سمعتُ صارخًا يصرخُ، قال: فقلتُ: لقد خشيتُ
أن يكونَ نزلَ فِيَّ قرآنٌ، قال: فجئتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّمتُ عليه، فقال:
"لقد أنزلتْ علي الليلةَ سورة لهِيَ أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ.
ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) ".
وسمعَ رجل رجلاً يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يرددهُا، فلما أصبحَ جاء إلى
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلك له وكانَّ الرجلَ يتقالُّها، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"والذي نفسي بيده إنها لتعدلُ ثلثَ القرآنِ".
وقامَ رجل في زمنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ من السَّحرِ:
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لا يزيدُ عليها فلمَّا أصبحَ أتى رجل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. . . نحوه.
وقال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ لأصحابِهِ:
"أيعجزُ أحدُكم أن يقرأ ثلثَ القرآنِ في ليلة؟ "
فشقَّ ذلك عليهم، وقالُوا: أينا يطيقُ ذلك يا رسولَ اللَّه:
فقال: "الله الواحدُ الصمد ثلثُ القرآنِ ".(1/65)
تقول عائشة - رضي الله عنها -: إنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ان إذا اشتكَى يقرأُ على نفسِهِ بالمعوذاتِ، وينفثُ، فلمَّا اشتدَّ وجعُه كنتُ اقرأُ عليه وأمسحُ بيدِهِ رجاء برَكَتِها.
وعنها أيضًا: كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أوَى إلى فراشِهِ كلَّ ليلة، جمعَ كفَّيه ثمَّ نفثَ فيهما فقرأ فيهما: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
و (قُلْ أَغوذُ بَّرًبّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثمَّ يمسحُ بهما ما استطاعَ من جسدهِ يبدأَ بهما على رأسِهِ ووجهِه وما أقبلَ من جسدِهِ، يفعلُ ذلكَ ثلاثَ مراتٍ.
* * *(1/66)
سُورَةُ الفَاتِحَةِ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
[قال البخاري] : حَدَّثَنَا عبْدُ الله بن يُوسُف: ثنا مالكٌ، عنْ أبي الزِّنادِ.
عنِ الأعرج، عنْ أبي هريرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قالَ أحدكمْ: آمينَ وقالتِ الملائكةُ في السماءِ: آمينَ، فوافقتْ إحْداهمَا الأخْرَى غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ ".
وخرَّجَ مسلمٌ من روايةِ أبي يونسَ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
قال: "إذا قالَ أحدُكم في الصلاة: آمينَ، والملائكةُ في السماءِ: آمينَ، فوافقَ إحداهمَا
الأخرى غُفرَ له ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ ".
ومن روايةِ سهيلً، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قالَ القارئُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، فقالَ منْ خلفَهُ: آمينَ. فوافقَ قولُهُ قولَ أهلِ السماءِ، غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ ".(1/67)
وروى إسحاقُ بنُ راهويه: حدثنَا جريرٌ: ثنا ليثٌ، عن كعب، عن أبي
هريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قالَ الإمامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقالَ: آمينَ، فوافقَ آمينُ أهلِ الأرضِ أمينَ أهلِ السماءِ، غَفَرَ اللَهُ للعبدِ ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ.
ومثلُ من لا يقولُ: آمينَ كمثلِ رجل غزا مع قومٍ فاقترَعُوا، فخرجتْ
سهامُهُم ولم يخرجْ سهمُه، فقال: لِمَ لَمْ يخرجْ سَهْمِي؛ فقيل: إنكَ لم تقلْ آمينَ "..
قال أبو هريرةَ: وكانَ الإمامُ إذا قالَ؛ (وَلا الضَّالِّينَ) جهرَ بـ آمينَ.
كعبٌ هذا، قالَ أحمدُ: لا أدْري منْ هوَ. وقالَ أبو حاتم: مجهولٌ لا
يعرَفُ.
وقد ذكرْنا - فيما تقدَّمَ - أن الحديثَ على ظاهرهِ، وأن الملائكةَ في السماءِ
تؤمِّنُ على قراءةِ المصلِّينَ في الأرضِ للفاتحةِ.
وفي "صحيح مسلم " من رواية العلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "قالَ اللَهُ عزَّ وجل قسمتُ الصلاةَ بيني وبينَ عبدِي نِصفَيْنِ، ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ العبدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قالَ اللَهُ: حمدني عبْدِي، فإذا قالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قالَ اللَّهُ: أثْنَى علي عبدي، فإذا قالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال: مجَّدني عبدِي - وقالَ مرة: فوَّضَ إليَّ عبدِي فإذا قالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قالَ: هذا بينِي وبينَ عبدِي، ولعبدِي ما سألَ: فإذَا قالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
قالَ: هذا لعبدِي ولعبدِي ما سألَ ".
فهذا الحديثُ يدل على أنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ لقراءةِ المصلِّي حيثُ كان مناجيًا له،(1/68)
ويردُّ عليه جوابَ ما يناجيه به كلمةً كلمةً، فأولُ الفاتحةِ حمدٌ، ثم ثناء، وهو
تثنيةُ الحمدِ وتكريرُهُ، ثم تمجيدٌ، والثناءُ على اللَهِ بأوصافِ المجدِ. والكبرياءِ
والعظمةِ، ثم ينتقلُ العبدُ منَ الحمدِ والثناءِ والتمجيدِ إلى خطابِ الحضورِ.
كأنه صلُحَ حينئذٍ للتقريبِ منَ الحضرةِ فخاطبَ خطابَ الحاضرينَ، فقال:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
وهذه الكلمةُ قدْ قيلَ: إنَّهَا تجمعُ سر الكتبِ المنزلةِ منَ السماءِ كلِّها" لأنَّ
الخلقَ إنما خُلِقُوا ليؤْمَروا بالعبادةِ، كما قالَ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِن والإِنسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ) ، وإنما أُرسلتِ الرسلُ وأُنزلتِ الكتبُ لذلكَ، فالعبادةُ
حقُّ اللَّهِ على عبادِهِ، ولا قدرةَ للعبادِ عليها بدون إعانة اللَّهِ لهم، فلذلك
كانتْ هذه الكلمةُ بينَ اللَّهِ وبين عبدِهِ، لأنَّ العبادةَ حقُّ اللَّهِ على عبدِه.
والإعانةُ من اللَّهِ فضل من اللَّه على عبْدِهِ.
وبعد ذلك الدعاءُ بهدايةِ الصراط المستقيمِ؛ صراطِ المُنْعَم عليهم، وهم
الأنبياءُ وأتباعُهم منَ الصديقين والشهداء والصالحين، كما ذكرَ ذلكَ في سورة النساء.
فمنِ استقامَ على هذا الصراطِ حصلَ له سعادةُ الدنيا والآخرةِ، واستقامَ
سيْرُه على الصراطِ يومَ القيامةِ، ومن خرجَ عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو
من يعرفُ طريقَ الهُدَى ولا يتبعُه كاليهود، أو ضالّ عن طريقِ الهُدَى
كالنصارى ونحوِهم منَ المشركين.
فإذا ختم القارئُ في الصلاة قراءةَ الفاتحةِ، أجابَ اللَّهُ دعاءَه فقال: "هذا
لعبدي ولعبدي ما سألَ "، وحينئذٍ تؤمِّنُ الملائكةُ على دعاءِ المصلِّي، فيشرعُ(1/69)
للمصلِّين موافقتُهم في التأمينِ معهم، فالتأمينُ مما يستجابُ به الدعاء.
وفي "صحيح مسلمٍ " عن أبي موسى الأشعريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قالَ الإمامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقُولُوا: آمينَ، يُجِبكُم اللَّهُ ".
ولما كانَ المأمومُ مأمورًا بالإنصاتِ لقراءةِ الإمامِ، مأمورًا بالتأمينِ على دعائِهِ
عندَ فراغ الفاتحةِ، لم يكن عليه قراءةٌ؛ لأنَّه قد أنصتَ للقراءةِ، وآمَّنَ على
الدعاءِ فكأنَّهُ دعا؛ كما قالَ كثيرٌ منَ السلَفِ في قولِ اللَّهِ تعالَى لموسى
وهارونَ: (قَدْ أُجِيبَت دعوَتُكُمَا) .
قالُوا: كانَ موسى يدعُو، وهارونُ يُؤمِّنُ، فسمَّاهُما دَاعِيَيْنِ.
* * *
وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتَ فاسألِ اللَهَ، وإذا استعنتَ، فاستعنْ باللَّهِ "، هذا منْتَزعٌ من قولِهِ تعالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فإنَّ السؤالَ للهِ هو دعاؤه والرغبةُ
إليهِ، والدُّعاءُ هو العبادةُ، كذا رُويَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ، وتلا قولَهُ تعالى: (وَقَالَ رَبُّكمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، خرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُ، والنسائيُّ، وابنُ ماجةَ.
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أنسِ بنِ مالك عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاءُ مُخُّ العبادة"، فتضمنَ هذا الكلامُ أن يُسألَ اللَّهُ عزًّ وجلَّ، ولا يسألَ غيرُه،(1/70)
وأن يُستعانَ باللَّهِ دونَ غيرِهِ.
فأما السؤالُ، فقد أمرَ اللَّهُ بمسألتِهِ، فقالَ: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)
وفي الترمذي عنِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "سَلُوا اللَّهَ منْ فَضلِهِ، فإنَّ اللَّهَ يُحبُّ أن يُسألَ ".
وفيه - أيضًا - عن أبي هريرةَ مرفُوعًا: "من لم يسألِ اللَّهَ يغضبْ عليهِ ".
وفي حديثٍ آخرَ: "ليسألْ أحدُكُمْ ربَّه حاجَتَه كلَّها حتَّى يسألَهُ شِسْعَ نعلِهِ إذا
انْقطعَ ".
وفي النَّهي عن مسألةِ المخلوقينَ أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ، وقد بايعَ النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابِهِ على أن لا يسألُوا النَّاسَ شيئًا: منهم أبو بكرٍ الصدِّيقُ، وأبو ذرٍّ، وثوبانُ، وكان أحدُهم يسقطُ سوطُه أو خطام ناقتِهِ، فلا يسألُ أحدًا أن يُناولَه إياه) .
وخرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديثِ أبي عبَيدةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ أنَّ
رجلاً جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بَني فُلانٍ أغاروا عليَّ فذهبُوا بابنِي وإبلِي، فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ آلَ محمَّدٍ كذا وكذا أهلَ بيتٍ ما لهُم
مدٌّ منْ طعامٍ أو صاعٍ، فاسألِ اللَّهَ عزَّ وجلَّ "، فرجعَ إلى امرأتهِ، فقالت: ما قالَ لكَ؛ فأخبرَهَا، فقالتْ: نِعْمَ ما رَدَّ عليكَ، فما لبثَ أن ردَّ اللَّهُ عليه ابنَه وإبلَهُ أوفرَ ما كانتْ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَهُ، فصعدَ المنبرَ فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليهِ،(1/71)
وأمرَ الناسَ بمسألةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والرغبة إليهِ، وقرأَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .
وقد ثبتَ في "الصحيحينِ " عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلة إلى سماءِ الدُّنيا حينَ يبْقَى ثلثُ اللَّيْلِ الآخرِ، يقولُ: هلْ من داع، فأستجيبَ له؛ هلْ من سائل فأعْطِيَهُ؛ هلْ منْ مُستغفرٍ فأغْفِرَ لَهُ؟ ".
وخرَّج المحامليُّ وغيرُهُ من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "قالَ اللَّهُ تعالَى: من ذا الذي دعانِي فلمْ أُجِبْهُ؟ وسألَني فلمْ أُعطِهِ؛ واستغفرَنِي، فلمْ أغفرْ لهُ، وأنا أرحمُ الراحمين؟ ".
واعلمْ، أنَّ سؤالَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ دونَ خلقِهِ هو المتعينُ، لأنَّ السؤالَ فيه
إظهارُ الذلِّ من السائلِ والمسكنةِ والحاجةِ والافتقارِ، وفيه الاعترافُ بقدرةِ
المسئولِ على رفع هذا الضرِّ، ونيلِ المطلوبِ، وجلبِ النافع ودرءِ المضارِّ، ولا يصلحُ الذلُّ والافتقارُ إلا للَّهِ وحدَه، لأنَّه حقيقةُ العبادة.
وكانَ الإمامُ أحمدُ يدعُو ويقولُ: اللَّهمَّ كَمَا صُنتَ وجهِي عنِ السُّجودِ
لغيرِك فصُنْه عن المسألةِ لغيرِك. ولا يقدرُ على كشفِ الضرِّ وجلبِ النفع
سواهُ، كمَا قالَ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) ، وقالَ: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) .(1/72)
واللَّهُ سبحانهُ يحبُّ أن يُسألَ ويُرْغَبَ إليهِ في الحوائج، ويُلَح في سؤالِه
ودُعائِهِ، ويغضَبُ على من لا يسألُه، ويستدْعِي مِنْ عبادِهِ سؤالَهُ، وهو قادر
على إعطاءِ خلقِه كُلِّهِم سُؤْلَهُم من غيرِ أن يَنْقُصَ منْ ملكِهِ شيء، والمخلوقُ
بخلافِ ذلكَ كلِّه: يكرهُ أن يُسألَ، ويُحبُّ أن لا يُسألَ، لعجزِهِ وفقى
وحاجتِهِ. ولهذا قالَ وهبُ بنُ منبهٍ لرجلٍ كانَ يأتي الملوكَ: ويحكَ، تأتي من
يُغلِقُ عنكَ بابَه، ويُظهِرُ لك فقرَهُ، ويوارِي عنك غناهُ، وتَدعُ من يفتحُ لكَ
بابَه بنصفِ الليلِ ونصفِ النهارِ، ويُظهرُ لك غناهُ، ويقولُ: ادعُنِي أستجبْ
لكَ؟!.
وقالَ طاووس لعطاءٍ: إياكَ أن تطلبَ حوائجَكَ إلى من أغلقَ دونَكَ بابَهُ
ويجعلُ دونَهَا حجابَهُ، وعليكَ بمنْ بابُهُ مفتوحٌ إلى يومِ القيامةِ، أمركَ أن
تسألَهُ ووعدَكَ أن يُجيبَكَ.
وأما الاستعانةُ باللَّهِ عزَّ وجلَّ دونَ غيره من الخلقِ، فلأنَّ العبدَ عاجزٌ عن
الاستقلالِ بجلب مصالحِهِ، ودفع مضارِّهِ، ولا معينَ لهُ علَى مصالح دينِه.
ودنياهُ إلا اللَهُ عزًّ وجلَّ، فمنْ أعانَهُ اللَهُ، فهو المُعانُ، ومن خذَلَهُ فهو
المخذولُ، وهذا تحقيقُ معنى قولِ: "لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللَّهِ "، فإنَّ المعنى لا تحوُّلَ للعبدِ منْ حال إلى حالٍ، ولا قُوَّةَ له على ذلكَ إلا باللَّهِ، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوزِ الجنةِ، فالعبدُ محتاج إلى الاستعانةِ باللَّهِ في فعلِ المأموراتِ، وتركِ المحظوراتِ، والصبرِ على المقدوراتِ كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعدَهُ من أهوالِ البرزخ ويومِ القيامةِ، ولا يقدرُ على الإعانةِ على ذلكَ إلا الَلهُ عزَّ وجل، فمنْ حقَّقَ الاستعانةَ عليه في ذلكَ كلِّه أعانَهُ. وفي(1/73)
الحديث الصحيح عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"احْرصْ على ما ينفعُكَ، واستعن بالله ولا تعجر".
ومن تركَ الاستعانةَ باللَّهِ، واستعانَ بغيره، وكَلَهُ اللَّهُ إلى منْ استعانَ به
فصارَ مخذُولاً.
كتبَ الحسنُ إلى عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز: لا تستعن بغيرِ اللَّهِ فيكِلَكَ اللَّهُ إليهِ.
ومن كلامِ بعضِ السلفِ: يا ربِّ عَجبتُ لمن يعرفك كيفَ
يرجُو غيرَك، عجبتُ لمن يعرفُك كيفَ يستعينُ بغيرِكَ.
* * *
خرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ، والترمذيُّ من حديثِ النوَّاسِ بنِ
سِمْعَانَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"ضربَ اللَّهُ مثلاً صِرَاطا مستقيمًا، وعلَى جنبتيِّ
الصراطِ سُورانِ فيهِمَا أبوابٌ مفتحةٌ وعلَى الأبوابِ سُتورٌ مرخاةٌ، وعلى بابِ الصراطِ داعٍ، يقولُ: أيُّها الناسُ ادْخُلُوا الصراطَ جميعا ولا تعوجُوا، وداعٍ يدْعُو من جوفِ الصراطِ، فإذَا أرادَ أن يَفتحَ شيئًا منْ تلكَ الأبوابِ، قالَ: ويحكَ لا تَفْتَحْهُ فإنَّكَ إنْ تفتَحْهُ تلِجْهُ. والصراطُ: الإسلامُ. والسورانِ: حُدودُ اللَّهِ. والأبوابُ المفتَّحةُ: محارمُ اللَّهِ.
وذلكَ الداعِي علَى رأسِ الصراطِ: كتابُ اللَّهِ - عز وجل - والداعِي من فوق: واعظُ اللَّهِ في قلبِ كلِّ مسلمٍ " وهذا لفظُ الإمامِ أحمدَ.
وعندَ الترمدْيِّ زيادةُ: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"(1/74)
وحسَّنه الترمذيُّ، وخرَّجه الحاكمُ، وقالَ: صحيحٌ عَلى شرطِ
مسلمِ، لا أعلمُ له علَّةً.
ضربَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ العظيم - الذي حكاهُ عن ربِّه - عز وجلَّ - مَثَل الإسلامِ: بالصراطِ المستقيم. وقد سمَّى اللَّهُ دِينَهُ الذي هوَ دينُ الإسلامِ صراطَا مستقيمًا في مواضعَ كثيرةٍ من كتابِهِ، كقولِهِ تعالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) .
وقد فُسِّر الصراطُ هُنا: بكتابِ اللَّهِ. وكتابُ اللَّهِ فيه شرحُ دينِ الإسلام.
وبيانُه وتفصيلُه والدعوةُ إليهِ.
وعنِ جابرٍ، قالَ: الصراطُ المستقيمُ: هو الإسلامُ، وهوَ أوسعُ ممَّا بينَ
السماءِ والأرضِ.
وقالَ تعالَى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) .
وقالَ تعالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ في "تفسيره، والحاكمُ منِ حديثِ ابنِ مسعودٍ،(1/75)
قالَ: خطَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خطا بيدِهِ ثمَّ قالَ: "هذا سبيلُ اللَّهِ مُستقيما"
وخطَّ عن يمينِهِ وشمالِهِ، ثم قالَ: "هذه السبلُ ليسَ مِنْهَا سبيل إلا عليهِ شيطانٌ
يدْعُو إليهِ " ثمَّ قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ مُجاهدٍ، عن الشَّعبيِّ.
عن جابرٍ، قالَ: كُنَّا جلوسًا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فخط خطا هكذا أمامهُم، قالَ:
"هذا سبيلُ اللهِ " وخطينِ عن يمينِه، وخطينِ عن شمالِهِ، وقالَ: "هذه سبيلُ
الشيطانِ " ثم وضعَ يدَهُ في الخطًّ الأوسطِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) ، الآية.
وقد رُويَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه سُئلَ عن الصراطِ المُستقيم فقالَ: تركَنَا
محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في أدناهُ وطرفُه في الجنةِ، وعن يمينِهِ جوادٌّ وعن شمالِهِ جوادٌّ.
وثمَّ رجا 4 يدعونَ من مرَّ بِهِم. فمن أخذَ في تلكَ الجوادِ انتهتْ بهِ إلَى النَّارِ، ومن أخذَ علَى الصراطِ انتهَى بهِ إلى الجنَّة. ثمَّ قرأَ ابنُ مسعودٍ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) خرَّجه ابنُ جريرٍ وغيرُه.
وإنَما سُمِّيَ الصراطُ صِراطا: لأنَّه طريقٌ واسع سَهْل، يوصِّلُ إلى
المقصودِ. وهذا مَثَلُ دينِ الإسلامِ في سائرِ الأديانِ، فإنَّه يُوصلُ إلى اللَّهِ وإلَى
دارِه، وجوارِه، مع سهولَتِهِ وسعتِهِ.
وبقيةُ الطرقِ وإنْ كانتْ كثيرةً، فإنَّها كلَّها مَعَ ضيقِهَا وعُسْرِها لا تُوصِّلُ(1/76)
إلى اللَّهِ، بل تقطعُ عنه وتُوصلُ إلى دارِ سخطِهِ وغضبِهِ، ومجاوق ةِ أعدائهِ "
ولهذا قالَ تعالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) .
وقالَ تعالَى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) .
والإسلامُ العامُّ: هو دينُ اللَّهِ الَّذي كانَ عليهَ جميعُ الرسلِ، كما قالَ
نوحٌ: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، وقالَ تعالَى:، (مِّلَّةَ أَبِيكمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) ، وقالَ تعالَى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) .
وقالَ عن يوسف إنَّه قالَ: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) .
وقالَ تعالَى عن ملكةِ سبأ: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) .
وقالَ عنِ الحواريينَ: إنهم قالُوا: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) .
وقد وصفَ اللَّهُ في سُورةِ الفاتحةِ الصراطَ بأنَّه: (صِرَاطَ الذِينَ أَنعَمْتَ
عَلَيْهِم) .
ثم سمَّى الذينَ أنعمَ عليهم في سُورةِ النساءِ، وجعلَهُم أربعةَ أصنافٍ:
النبيينَ والصِّديقينَ والشُّهداءَ والصالحينَ. فدلَّ على أنَّ هؤلاءِ كلَّهُم علَى هذا
الصراطِ المستقيم، فلا يخرجُ عنهُم إلا: إمَّا مغضوبٌ عليهِ، وهو من عَرفَ
الصراطَ وسلكَ غيرَهُ عمْدًا كاليهودِ والمشركينَ.
وإمَّا ضالّ جاهل يسلكُ غيرَ الصراطِ جَهْلاً، ويظنُّ أنَّه الصراطُ.
وحقيقةُ الإسلامِ: الاستسلامُ للَّه تعالَى والانقيادُ لطاعتِهِ. وأمَّا الإسلامُ(1/77)
الخاصُّ، فهو دينُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
ومُنذ بَعثَ اللَّه محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يقبلْ من أحدٍ دينًا غيرَ دينِهِ. وهوَ الإسلامُ الخاصُّ وجعل بقية الأديانِ كفرًا، لما تضمَّنَ اتباعُهَا من الكفرِ بدينِ محمدٍ والمعصيةِ للَّهِ في الأمرِ باتباعِه، فإنَّه ليسَ هناكَ إلا أحدُ أمرينِ:
إمَّا الاستسلامُ للَّهِ والانقيادُ لطاعتِهِ وأوامر، وهوَ دينُ الإسلامِ الذي أمرَ
اللَّهُ تعالَى بِهِ.
وإمَّا المعصيةُ للَّهِ والمخالفةُ لأوامر، وذلكَ يستلزمُ طاعةَ الشيطانِ " لأن
الشيطانَ يأمرُ بسلوكِ الطرقِ التي عن يمينِ الصراطِ وشمالِهِ، ويصدُّ عن سلوكِ
الصراطِ المستقيم، كَمَا قالَ تعالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) .
قالَ تعالَى حاكِيًا عنِ الشيطانِ: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) .
وقالَ تعالَى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) .
وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه قالَ: إنَّ هذا الصراطَ مُحتضر، تحضرُهُ
الشياطينُ.
يا عبدَ اللَّهِ، هذا الطريقُ، هلُمَّ إلى الطريقِ، فاعتصِمُوا بحبلِ اللَّه، فإنَّ(1/78)
حبلَ اللَّهِ هو القرآنُ، وهذا كَمَا أنَّ الكتبَ المنزَّلة، والرسلَ المُرسلةَ وأتباعَهُم
يدعونَ إلى اتِّباع الصراطِ المستقيم، فالشيطانُ وأعوانُهُ وأتباعُهُ من الجنِّ
والإنسِ يدعونَ إلى بقيةِ الطرقِ الخارجةِ عن الصراطِ المستقيم، كما قالَ
تعالى: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) .
والإسلامُ لهُ: هوَ الاستسلامُ، والإذعانُ، والانقيادُ، والطاعةُ.
والإسلامُ قد فسَّره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ جبريل بالشهادتينٍ، معَ إقامِ الصلاةِ، وإتاء الزكاة، والحجِّ، والصيامِ.
وأخبرَ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ آخرَ: أنَّ الإسلامَ بُني على هذهِ الخمسِ: يعني: أنه أركانُ بنائِهِ التي لا يقومُ البناءُ إلا عليها، وبقيةُ الأعمالِ داخلة في مسمَّاهُ أيضًا.
ورُويَ من حديث أبي الدرداءِ مرفوعًا ومن حديثِ حُذيفةَ مرفوعًا
وموقوفًا، وعدَّ من سهامِهِ الجهاد.
وأفضلُ الإسلامِ: أنْ يسلمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ، ومن حُسنِ إسلامِ
المرءِ تركُه ما لا يعنيهِ.(1/79)
وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ، قال: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي قُمْ فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ قَالَ فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شِمَالِي قَالَ فَأَخَذْتُ لِآخُذَ فِيهَا فَقَالَ لِي لَا تَأْخُذْ فِيهَا فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ قَالَ فَإِذَا جَوَادُّ مَنْهَجٌ عَلَى يَمِينِي فَقَالَ لِي خُذْ هَاهُنَا فَأَتَى بِي جَبَلًا فَقَالَ لِيَ اصْعَدْ قَالَ فَجَعَلْتُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَصْعَدَ خَرَرْتُ عَلَى اسْتِي قَالَ حَتَّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِرَارًا قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَى بِي عَمُودًا رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ فِي أَعْلَاهُ حَلْقَةٌ فَقَالَ لِيَ اصْعَدْ فَوْقَ هَذَا قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْعَدُ هَذَا وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ قَالَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَلَ بِي قَالَ فَإِذَا أَنَا مُتَعَلِّقٌ بِالْحَلْقَةِ قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ الْعَمُودَ فَخَرَّ قَالَ وَبَقِيتُ مُتَعَلِّقًا بِالْحَلْقَةِ حَتَّى أَصْبَحْتُ
قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ قَالَ وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ وَلَنْ تَنَالَهُ وَأَمَّا الْعَمُودُ فَهُوَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ وَلَنْ تَزَالَ مُتَمَسِّكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ".
وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُم أَجْمَعِينَ) .
فأخبرَ أنَّ قصدَ السبيل - وهو الطريقُ القاصدُ - عليه، يعني: أنه يُوصِّلُ
إليه، وأنَّ من السبيلِ ما هو جائرٌ عنْ القصدِ غيرُ مُوصِّلٍ.
فالسبيلُ القاصدُ: هو الصراطُ المستقيمُ. والسبيلُ الجائرُ: هو سبيلُ
الشيطانِ الرجيم. وقد وحَّدَ طريقَهُ في أكثرِ المواضع، وجَمَعَ طرقَ الضلال؛(1/80)
لأنَّ طريقَ الحقِّ أصلُهُ شيءٌ واحدٌ، ودينُ الإسلامِ العامُّ كما سبقَ وهو توحيدُ
اللَّهِ وطاعتُهُ، وطُرقُ الضلالةِ كثيرة متبوعة، وإنْ جمعَهَا الشركُ والمعصيةُ.
قولُهُ: "وعلى جَنْبتِي الصراط سُورانِ " ثم فسَّرها بحدودِ اللَّهِ.
والمُرادُ: أنَّ اللَّهَ تعالى حدَّ حدودًا، ونهى عن تعدِّيهَا، فمنْ تعدَاهَا فقدْ
ظلمَ نفسَهُ وخرجَ عن الصراطِ المستقيم الَّذي أُمِرَ بالثبوتِ عليهِ.
ولمَّا كانَ السورُ يمنعُ من وراءَهُ مِنْ تعدِّيه ومجاوزَتِهِ: سمَّى حدودَ اللَّهِ
سُورًا؛ لأنه يمنعُ منْ دخلَهُ من مجاوزتِهِ وتعدَي حدودِهِ.
قالَ اللَّهُ تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) ، وقال: (تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) إلى قوله:
(وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مهِينٌ) .
وقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وقالَ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) .
وفي حديثِ أبي ثعلبةَ الخُشنيِّ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ اللَهَ فرضَ فرائضَ فلا تضيِّعُوها وحرَّمَ أشياءَ فلا تنتهِكُوها وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها".
فحدودُ اللَّه تطلقُ ويُرادُ بها غالبًا: ما أذِنَ فيه وأباحَ فمن تعدَّى هذه الحدودَ
فقدْ خرجَ ممَّا أحلَّه اللَّهُ إلى ما حرَّمهُ؛ فلهذا نُهِي عن تعدِّي حدودِ اللهِ، لأنَّ
تعديهَا بهذا المعنى محرَّمٌ.
ويُرادُ بها تارةً ما حرَّمَهُ اللَّهُ ونَهَى عنه.(1/81)
وبهذا المعنى، يُقال: لا تقربُوا حدودَ اللَّه؛ كما قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) ، بعد أن نهى عن ارتكابِ المفطراتِ في نهارِ
الصيامِ، وعن مباشرةِ النساءِ في الاعتكافِ في المساجدِ.
فأرادَ بحدودِهِ هاهُنا: ما نَهَى عنه؛ فلذلكَ نَهَى عن قُربَانِهِ.
فإنَّه تعالى جعلَ لكلِّ شيءٍ حدًّا، فجعلَ للمباح حدًّا، وللحرامِ حدًّا، وأمرَ
بالاقتصارِ على حدِّ المباح وأنْ لا يُتعَدَّى. ونَهَى عن قربانِ حدِّ الحرامِ.
وممَّا سُمِّي فيه المحرماتُ حُدودًا: قولُ النبيِّ - عز وجل -:
"مثلُ القائم على حدودِ اللَّهِ والمدهنِ فيها كمثلِ قومٍ استهمُوا سفينةً" الحديثُ المعروف.
والمرادُ بالقائم على حدودِ اللَّهِ: المنكرُ للمحرماتِ والناهي عنها.
وفي حديثِ ابنِ عباسٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"أنا آخذٌ بحُجزِكم اتَّقوا النارَ اتقوا الحدود" قالَها ثلاثاً". خرَّجه الطبرانيُّ والبزار. ومرادُهُ بالحدودِ: محارم اللَّه ومعاصيهِ، وقد تُطلقُ الحدودُ باعتبارِ العُقوباتِ المقدَّرةِ الرادعةِ عن الجرائم المغَلَّظةِ. فيُقالُ: حدُّ الزِّنا، حدُّ السرقة، حدُّ شربِ الخمر، وهو هذا المعروف من اسم الحدودِ في اصطلاح الفقهاءِ، ومنهُ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامةَ:
"أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللَّهِ؟ " لمَّا شفع في المرأة التي سرَقَتْ.
وفي حديث: "أقيموا الحدودَ في الحضرِ والسفرِ على القريبِ والبعيدِ".(1/82)
وقالَ عليّ: أقيمُوا الحدودَ على ما ملكتْ أيمانُكُم.
وأمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي بُردةَ:
"لا يُجلَدُ فوقَ عشرِ جلداتٍ إلا في حدٍّ من حدودِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ".
فقد اختَلَفُوا في المراد بالحدِّ هُنا: هل هو الحدودُ
المقدَّرةُ شرْعًا، أم المُرادُ بالحدِّ ما حدَّه اللَّهُ ونهى عن قُربانِهِ، فيدخلُ فيه سائرُ
المعاصِي، ويكونُ المرادُ: النهيَ عن تجاوزِ العشرِ جلداتٍ بالتأديبِ ونحوه، مما
ليسَ عقوبةً على محرَّمٍ.
هذا فيه اختلافٌ مشهور بين العلماءِ.
وقالَ تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ) .
وقال تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) .
والمُرادُ بحدودِ اللَّهِ هَاهُنا: ما يفصلُ بينَ الحلالِ والحرامِ، ويتميَّزُ به أحدُهُما
من الآخرِ.
وقد مدحَ اللَّهُ الحافظينَ لحدودِهِ في قولِهِ: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللَّهِ) .
وفي الحديث المرفوع منْ حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عنْ أبيه عنْ جدِّه:
"يمثَّلُ القرآنُ رجُلاً يومَ القيامةِ فيُؤْتَى بالرجلِ قدْ حمَلَهُ فخالفَ أمرَهُ ونهيَهُ، فيمثَّلُ له خَصْمًا فيقولُ: يا ربِّ حفَلتَهُ إياى فبئس حَامِلٍ. تعدَّى حدُودِي وضيَّعَ فرائِضي وركبَ معصَيتي.(1/83)
وقالَ: ويُؤتَى بالرجلِ الصالح كانَ قدْ حمَلَهُ، فيمثلُ خَصْمًا دونَهُ، فيقولُ: يا
ربّ حمَّلتَهُ إيَّاي فخيرُ حامِلٍ حفظَ حدودي وعمِلَ بفرائِضي واجتنبَ معصِيتِي ".
والمراد بحفظِ الحدودِ هُنا: المحافظةُ على الواجباتِ والانتهاءُ عن
المحرَّماتِ.
وفي حديثِ النُعْمانِ بنِ بشيرٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيَنٌ وبينهُما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ من الناسِ، فمنِ اتَّقَى الشبهاتِ استبرأ لدِينِهِ وعرْضِهِ، ومنْ وقَعَ في الشبهاتِ وقَعَ في الحرام كالرَّاعي يرعَى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يخالطَهُ. ألا وإنَّ لكل ملك حمىً، ألا وإن حمَى اللَّه في أرضه محارمُهُ ".
وهو حديث متفق على صحتِهِ. ًًًَ
فمثَّلَ المحرَّماتِ في هذا الحديثِ: بالحِمَى، وهو ما يحميهِ الملوك وتمنعُ من
قُربانِهِ، وجعلَ الحلال بيِّنًا والحرامَ بيِّنًا، ومُرادُهُ: الحلالُ المحض والحرامُ
المحضُ، فإنَّ لكلٍّ منهَا حُدودًا معروفةً في الشريعةِ.
وجعلَ بينهُمَا أمورًا مشتبهةً على كثيرٍ من الناسِ، لا يدرونَ هلْ هيَ من الحلالِ أم منَ الحرامِ.
فدلَّ على أنَّ من الناسِ من لا يشتبِهُ عليهِ حُكْمُها، فيعلمُ أنَّها حلالٌ أو أنَّها
حرامٌ.
فأمَّا من اشتبهَ عليه حُكْمُها: فإن الأوْلَى لهُ أنْ يتَّقيَهَا ويجتنبَهَا، كما قالَ
عُمَرُ: ذَرُوا الرِّبا والرِّيبة) .
وأخبر أنَه منْ وقعَ في الأمورِ المُشتبهةِ وقعَ في الحرامِ، والمُراد: أنَّ نفسَهُ(1/84)
تدعُوه من ارتكابِ الشبهاتِ إلى ارتكابِ الحرامِ.
ومثَّله بالراعي حولَ الحِمَى يُوشكُ أنْ يرتَعَ فيه، فأمَّا منْ بعُدَ عَنِ الحِمَى
فإته يبعُد وقوعُه في الحرامِ؛ ولهذا قالَ منْ قالَ من السلفِ: اجعلْ بينَكَ وبينَ
الحرامَ شيئًا من الحلالِ.
وفي الحديثِ المرفوع، الَّذي خرَّجَهُ الترمذيُّ: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من
المتقينَ حتَّى يدع ما لا بأسَ بِهِ حذرًا ممَّا به بأس".
وهذه الأمورُ المشتبهاتُ: منْهَا ما يَقْوَى شبهُه بالحرامِ، ومنها ما يبعُد شبهُهُ
بالحرامِ، ومنها ما يترددُ، لشبهةٍ بين الحلالِ والحرامِ.
فالأولُ: يَقْوَى فيه التحردمُ، والثاني: يَقْوَى فيه الكراهةُ، والثالثُ: يترددُ
فيه، واجتنابُ الكلِّ حسنٌ، وهو الأفضلُ والأوْلَى.
وقولُهُ: " فيهمَا - يعني: السورينِ - أبواب مفتحة وعلى الأبوابِ سُتور
مُرخاة".
ثم فسَرَ الأبوابَ المُفتحةَ: بمحارمِ اللهِ، لما شبَّه حدودَ اللَّهِ بالسورينِ
المكتنفينِ للصراطِ يَمْنَةً ويَسْرةً - والسورُ يقتضي المنع، وأصلُ الحدِّ في اللغةِ
المنعُ - شبَّه المحارمَ بالأبوابِ المفتحةِ في السورينِ الذَيْنِ هُمَا حد الصراط
المستقيم ونهايتُهُ، وجعلَ الأبوابَ مفتحةً غيرَ مغلَّقةٍ ولا مُقفلةٍ، وجعلَ عليها
ستورًا مرخاةً بحيثُ يتمكنُ كل أحدٍ من رفع تلك الستورِ وولوج تلكَ
الأبوابِ.(1/85)
وهكذَا الشهواتُ المحرَّمةُ، فإنَّ النفوسَ متطلعةٌ إليها وقادرةٌ عليها، وإنَّما
يمنعُ منها مانعُ الإيمانِ خاصةً، والنفوسُ مولعةٌ بمطالعة ما مُنعتْ منه؛ كَما في
الحديثِ "لو يُمنعُ الناسُ فتَّ البعرِ لقالُوا فيه الدر".
وفي حديثٍ آخر مرفوع: "لو نهيتُ أحدَهم أنْ يأتيَ الحجونَ لأوشكَ أنْ يأتيَه
مِرَارًا وليسَ له إليه حاجةٌ".
وحكايةُ ذِي النونِ المصريِّ مع يوسفَ بن الحسينِ الرازيِّ - في الطبقِ الذي
أرسلَهُ، وأمرَهُ أنْ لا يكشِفَهُ - معروفةٌ.
والمحرَّماتُ أمانةٌ مِنَ اللَّهِ عندً عبدِهِ، والسمعُ أمانةٌ، والبصرُ واللسانُ أمانةٌ.
والفرجُ أمانةٌ، وهو أعظَمُهَا.
وكذلك الواجباتُ كلُّها أماناتٌ: كالطهارةِ، والصيامِ، والصلاةِ، وأداءِ
الحقوقِ إلى أهلها، قالَ اللَّهُ تعالَى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
ثم ذكرَ حكمَهُ، فقالَ: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .
وفي الحديثِ الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"حُفَّتِ الجنةُ بالمكارِهِ وحفَّتِ النارُ بالشهواتِ ".
وفي روايةٍ: "حُجبتْ " بدل: "حُفَّتْ ".
فاللَّهُ سبحانَهُ امتحنَ عبادَهُ في هذهِ الدارِ بهذِهِ المحرَّماتِ من الشهواتِ(1/86)
والشبهاتِ، وجعلَ في النَّفْسِ داعِيًا إلى حبِّها مع تمكِّنِ العبدِ منهَا وقُدرتِهِ
فمن أدَّى الأمانةَ، وحفظَ حدودَ اللَّهِ ومنعَ نفسَهُ ما يُحبُّه من محارمِ اللَّهِ
كانَ عاقبتَهُ الجنةُ؛ كما قال تعالَى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) .
فلذلك يحتاجُ العبدُ في هذهِ الدارِ إلى مُجاهدةٍ عظيمةٍ، يُجاهدُ نفسَهُ في الله - عزَّ وجلَّ - كما في الحديثِ:
"المجاهدُ مَنْ جاهَدَ نفسَهُ في اللَّه - عزَّ وجلَّ "
فمنْ كانتْ نفسُه شريفةً، وهمَّتُهُ عالية لم يرض لَهَا بالمعاصِي، فإنها خيانة
ولا يَرْضَى بالخيانة إلا مَن لا نفسَ لهُ.
قال بعضُ السلفِ: رأيتُ المعاصِي نذالة، فتركتُها مروَّةً فاستحالتْ ديانةً.
وقالَ آخرُ منهُم: تركتُ الذنوبَ حياءً أربعينَ سنةً، ثم أدركنِي الورعُ.
وقالَ آخرُ: مَنْ عمِلَ في السرِّ عملاً يستحيي منهُ إذا ظَهَرَ عليه، فليسَ
لنفسِهِ عندَهُ قدر.
قالَ بعضُهُم: ما أكرمَ العبادُ أنفسَهُم بمثلِ طاعةِ اللَّهِ، ولا أهانوها بمثلِ
معاصِي اللَّه عزَ وجلَّ. فمنِ ارتكبَ المحارمَ فقد أهانَ نفسَهُ.
وفي المَثَلِ المضروبِ: أنًّ الكلبَ قالَ للأسدِ: يا سيدَ السباع، غيَر اسمِي فإنَّه قبيح.
فقال لهُ: أنتَ خائنٌ، لا يصلحُ لكَ غيرَ هذا الاسمِ.
قال: فجرّبْنِي. فأعطَاهُ شقةَ لحم، وقالَ: احفظْ لي هذهِ إلى غدٍ، وأنا أغيِّرُ اسمَكَ. فجاعَ، وجعلَ(1/87)
ينظرُ إلى اللحم ويصبرُ. فلما غلبتْهُ نفسُهُ قالَ: وأيُّ شيءٍ أعملُ باسمِي.
وما كلبٌ إلا اسم حَسَنٌ فأكَلَ.
ولهذَا المَعْنَى: شبَّه اللَّهُ عالمَ السُّوءِ الَّذي لم ينتفعْ بعلمِهِ بالكلبِ " فقالَ
تعالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) .
والمُرادُ بهذا المثلِ: أنَّ منْ لم يزجرْهُ علمُه عن القبيح، صارَ القبيحُ عادةً لهُ
ولم يؤثرْ فيه علمُه شيئًا، فيصيرُ حالُه كحالِ الكلبِ اللاهثِ " فإنَه إنْ طُرِدَ
لَهِثَ، وإنْ ترِكَ لَهِثَ، فالحالتانِ عنده سواءٌ.
وهذا أخسُّ أحوالِ الكلبِ وأبشعُهَا، فكذلكَ من يرتكبُ القبائح مع جهلِهِ
ومع علمِهِ، فلا يؤثِّرُ علمُه شيئًا" وكذلكَ مثل مَنْ لا يرتدع عن القبيح بوعظ
ولا زجرٍ ولا غيرِهِ.
فإنَّ فعلَ القبيح يصيرُ عادةً، ولا ينزجِرُ عنه بوعظٍ ولا تأديبٍ ولا تعليم.
بل هو متبعٌ للهَوى على كلِّ حالٍ، فهذا كل من اتَبعَ
هواهُ، ولم ينزجرْ عنهُ بوعظ ولا غيرِهِ.
وسواءٌ كانَ الهَوى المُتبَع داعيًا إلى شهوةٍ حسيةٍ، كالزنا والسرقة وشربِ
الخمرِ، أو إلى غضبٍ وحقدٍ وكبرٍ وحسدٍ، أو إلى شُبهةٍ مضلَّةٍ في الدِّينِ.
وأشدُّ ذلكَ: حالُ من اتَّبع هواهُ في شبهةٍ مضلةٍ، ثمَّ من اتبع هواهُ في
غضبٍ وكبرٍ وحقدٍ وحسدٍ، ثم من اتَّبع هواهُ في شهوةٍ حسيةٍ.(1/88)
ولهذَا يُقالُ: إنَّ مَن كانتْ معصيتُهُ في شهوةٍ فإنَه يُرجَى له، ومن كانتْ
معصيتُهُ في كبرٍ لم يُرج.
ويُقال: إنَّ البدعَ أحبُّ إلى إبليسَ من المعاصِي " لأنَّ المعاصِيَ يُتابُ منها
والبدعَ يعتقِدُهَا صاحبُها دِينًا فلا يتوبُ مِنهَا.
والمقصودُ: أنَّه لمَّا كانتِ النفسُ والهَوى داعيينِ إلى فتح أبوابِ المحارِمِ
وكشفِ ستورِها وارتكابِها، جعلَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لها داعيَيْنِ يزجرانِ مَن
يُريدُ ارتكابَ المحارمِ وكشفَ ستورِهما.
أحدُهما: داعِي القرآنِ، وهو الداعِي على رأسِ الصراطِ يدعُو الناسَ كلَّهم
إلى الدخولِ في الصراطِ والاستقامةِ عليهِ، وأنْ لا يَعْوَجُّوا عنه يمنةً ولا يسرةً.
ولا يفتحُوا شيئًا من تلكَ الأبوابِ التي عليَها الستورُ المُرخاةُ:
قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ حاكيًا عن عبادِهِ المؤمنينَ أنَّهم قالُوا: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) ، والمُرادُ به القرآنُ عندَ أكثرِ السلفِ.
وقالَ حاكيًا عنِ الجنّ الذين استمعُوا القرآنَ، أنَّهُم لمَّا رجعُوا إلى قومِهِم
قالُوا: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) .
وقد وصفَ اللَهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يدعُو الخلقَ بالكتابِ إلى الصراطِ المستقيم؛ كما قالَ اللَّهُ - تعالَى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) .
وقالَ تعالَى: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) .(1/89)
وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدعُو الخلقَ بالقرآنِ إلى الدخولِ في الإسلامِ، الَّذي هو الصراطُ المستقيمُ، وبذلكَ استجابَ له خواصُّ المؤمنينَ كأكابرِ المهاجرينَ والأنصارِ.
ولهذا المعْنَى قال مالكٌ: فُتحت المدينةُ بالقرآنِ.
يعني: أنَّ أهلَهَا إنَّما دخلُوا في الإسلامِ بسماع القرآنِ.
كما بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مصعبَ بنَ عميرٍ، قبلَ أنْ يُهاجِرَ إلى المدينةِ. فدعَا أهلَ المدينةِ إلى الإسلامِ بتلاوةِ القرآنِ عليْهِم، فأسلمَ كثيرٌ منْهُم.
قال بعضُ السلفِ: من لم يردعْهُ القرآنُ والموتُ، لو تناطحتِ الجبالُ بين
يديهِ لم يرتدعْ.
وقالَ آخرُ: من لم يتَّعِظْ بثلاثٍ، لم يتعِظْ بشيءٍ: الإسلامِ والقرآنِ.
والمشيبِ، كما قيلَ:
كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيًا
قال يحيى بنُ معاذٍ: الإسلامَ نقيٌّ فلا تدنّسْهُ بآثامِكَ.
منع الهَوى مِن كاعبٍ ومدام. . . نورُ المشيبِ وواعظُ الإسلامِ
ومَن كان في الدنيا قد خرَجَ عن الاستقامةِ على الصراطِ، ففتحَ أبوابَ
المحارمِ الَّتي في ستورِ الصراطِ يمنةً ويسرةً، ودخلَ إليْهَا - سواءٌ كانت المحارمُ
من الشهواتِ أو مِنَ الشبهاتِ - أخذتْهُ الكلاليبُ الَّذي على ذلك الصراطِ يمنةً ويسرةً، بحسبِ ما فتحَ في الدنيا من أبوابِ المحارمِ ودخلَ إليْهَا.
فمنهُم المكدوشُ في النارِ، ومنهم من تخدِشُهُ الكلاليبُ وينجُو.
رأى بعضُ السلفِ - وكانَ شَابا - في منامِهِ: كأنَّ الناسَ حُشِرُوا، وإذا بنهرٍ
من لهبِ النارِ عليه جسرٌ يجوزُ الناسُ عليهِ يُدْعونَ بأسمائِهِم. فمنْ دُعِيَ(1/90)
أجابَ، فناج وهالِكٌ. قالَ: فدُعِيَ باسْمِي، فدخلتُ في الجسرِ فإذَا حدٌّ كحدِّ السيفِ يمورُ بي يمينًا وشِمالاً.
فأصبحَ الرجلُ أبيضَ الرأسِ واللحيةِ، ممَّا رأى.
سمعَ بعضُهم قائِلاً يقولُ شعرًا:
أمامِي موقفٌ قُدَّام ربِّي. . . يُسائِلُنِي وينكشفُ الغطاءُ
وحسْبِي أنْ أمرَّ على صراطٍ. . . كحدِّ السيفِ أسفلُه لَظاءُ
فغُشِي عليه.
قال الفُضيلُ لبِشرٍ: بلغَنِي أنَّ الصراطَ مسيرةَ خمسةَ عشرَ ألف فرسخ.
فانظرْ كيفَ تكونُ عليهِ.
قال بعضُ السلفِ: بلغَنا أنَّ الصراطَ يكونُ على بعضِ الناسِ أدقُّ مِنَ
الشعرِ، وعلَى بعضِهِم كالوادِي الواسع.
قال سهلٌ التستُريُّ: مَن دقَّ على الصراطِ في الدُّنيا عرضَ له في الآخرةِ
ومن عرضَ له في الدنيا الصراطُ دقُّ عليهِ في الآخرةِ.
والمعنى: أنَّ مَنْ صبَّر نفسَهُ على الاستقامةِ على الصراطِ ولم يعرجْ عنه يمنةً
ويسرةً، ولا كشفَ شيئًا من الستورِ المُرخاةِ على جانبيهِ - مما تهواهُ النفوسُ من الشهواتِ أو الشبهَاتِ - بلْ سارَ علَى متنِ الصراطِ المستقيم حتَّى أتَى ربَّه
وصبرَ على دِقَّةِ ذلكَ، عرضَ له الصراطُ في الآخرةِ.
ومن وسَّعَ على نفسهِ الصراطَ في الدُّنيا، فلم يستقمْ على جادَّتِهِ - بل كشفَ ستورَهُ المرخاةَ من جانبيهِ يمنةً ويسرةً، ودخلَ ممَّا شاءتْ نفسُه من الشهواتِ والشبهاتِ - دقُّ عليه الصراطُ في الآخرةِ، فكانَ عليه أدقَّ من الشَّعرِ.(1/91)
أمَا آنَ يا صاح أنْ تسْتَفيقَا. . . وأنْ تتناسَى الهَوى والفُسوقَا
وقد ضحِكَ الشيبُ فاحزنْ لهُ. . . وصارَ مساؤُكَ فيه شُروقَا
ألا فازجرِ النفسَ عنْ غيِّها. . . عساكَ تجوزُ الصراطَ الدَّقيقَا
ودونَ الصراطِ لَنَا موقف. . . به يتناسَى الصديقُ الصَّديقَا
فتُبصرُ ما شئتَ كَفًّا تُعضُّ. . . وعينًا تسحُّ وقلْبا خَفُوقَا
إذا أطبقتْ فوقَهُم لم تكنْ. . . تسَمع إلا البكاء والشهيقَا
شرابُهُم المُهْلُ في قعرِهَا. . . يقطَعُ أوصالَهُم والعُروقَا
قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: كُلِ الحلالَ، وادع بما شئتَ.
وقالَ لرجل: اعبدِ اللَّهَ سرًّا، حتى تخرجَ على الناسِ يومَ القيامةِ كمينًا.
ومما أنشدَ بعضُهم شِعْرًا:
أروحُ وقد ختمتُ على فؤادِي. . . بحبِّكَ أنْ يحلَّ به سِواكَا
فلو أنِّى استطعتُ غضضتُ طَرفِي. . . فلم أبصرْ به حتَّى أراكَا
أحبُّكَ لا ببعْضِي بل بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّك لي حِراكَا
ويقبُحُ مِن سواكَ الفعلُ عندِي. . . وتفعلُه فيحسُنُ منكَ ذاكَا
وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعي معه اشترَاكَا
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدود. . . تَبَيَّن مَن بكى مِمَّنْ تباكَى
فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهَوى من قد تَشَاكَا
* * *(1/92)
سُورَةُ البَقَرَةِ
قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ)
[قالَ البخاريُّ] : "باب: ما يَقُولُ إذَا أمْطَرَتْ ":
وقال ابنُ عباسٍ: (كَصَيبً) البقرة: 19،: المطرُ.
وقالَ غيرُهُ: صابَ وأصَابَ يَصُوبُ.
حدَّثَنَا مُحمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أبو الحسنِ المرْوَزِيُّ: أنا عبدُ اللَّهِ - هُوَ: ابنُ
المباركِ -: أنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عنْ نافع، عنِ القاسم بنِ مُحمَّدٍ، عنْ عائشةَ، أنَّ
رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رأى المَطَرَ قالَ: "صيَبا نافِعًا".
تابَعَهُ: القاسمُ بنُ يحيى، عنْ عبيدِ اللَّهِ.
ورواهُ الأوزاعيُّ وعُقيل، عنْ نافعِ.
أمَّا ذكر المتابعاتِ على هذا الإسنادِ، لاختلافٍ وقعَ فيه:
فإنَّه رُوي عن عبيدِ اللَّهِ، عن القاسم، عن عائشةَ، أنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ ذكرِ: "نافع ".
والصحيحُ: ذكرُ: " نافع " فيه.
وقد رواه - أيضًا - يحيى القطانُ وعبدةُ بن سليمانَ، عن عبيدِ اللَّهِ.
كذلك -: ذكره الدارقطنيُّ في "عللِهِ ".(1/93)
فإن كان ذلك محفوظا عنهمَا، فكيفَ لم يذكرِ البخاريُّ متابعتَهَما لابنِ
المباركِ، وعدل عنه إلى متابعةِ القاسم بن يحيى.
وأما عقيلٌ، فرواهُ عنْ نافع، - عنِ القاسم، عنْ عائشةَ.
ورواه - أيضًا - أيوبُ، عنِ القاسم، عنْ عائشةَ.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ، عنْ عبدِ الرزاقِ، عنْ معمرٍ، عنه، ولفظُ حديثِهِ:
"اللهُمَ صيبا هنيئًا - أو - صيَبا هنيئًا".
وأمَّا الأوازعيُّ، فقد رواهُ عن نافع، عنِ القاسم، عنْ عائشةَ، كما ذكرهُ
البخاريُّ، ولفظُ حديثِهِ: "اللَّهُمَ اجعَلهُ صيبا هنيئًا".
وقد خرَّج حديثَهُ كذلكَ الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ.
وفي روايةِ ابنِ ماجةَ: أنَّ الأوزاعيَّ قال: "أخبرني نافعٌ "، كذا خرَّجه من
طريقِ عبدِ الحميدِ بنِ أبي العشرين، عنه.
وقد رُوي التصريحُ بالتحديثِ فيه عنِ الوليدِ بن مسلم، عنِ الأوزاعيِّ
أيضًا.
ورواه إسماعيلُ بنُ سماعةَ، عنِ الأوزاعيِّ، عنْ رجل، عن نافع، عن
القاسم، عنْ عائشةَ.
وقال البابْلُتِّيُّ: عنِ الأوزاعيِّ، عنْ محمدِ بنِ الوليدِ الزبيديِّ، عنْ نافع.
عنِ القاسم، عنْ عائشةَ.
وقال عقبةُ بنُ علقمةَ: عنِ الأوزاعيِّ، عنِ الزهريَ، عنْ نافع، عنِ(1/94)
القاسم، عنْ عائشةَ.
قال الدارَقُطنيُّ: وهو غيرُ محفوظٍ.
وقال عيسى بنُ يونسَ وعبادُ بنُ جويريةَ: عنِ الأوزاعيِّ، عنِ الزهريِّ.
عنِ القاسم، عنْ عائشةَ - منْ غيرِ ذكرِ: "نافع ".
وكذا رُوي عنِ ابنِ المباركِ، عنِ الأوزاعيِّ.
قال الدارقطنيُّ: فإنْ كانَ ذلك محفوظا عنِ الأوزافيَ، فهو غريبٌ عنِ
الزهريِّ.
وخرَّجه البيهقيُّ منْ روأيةِ الوليدِ بنِ مسلم: نَا الأوزاعيُّ: حدثني نافعٌ.
ثم قال: كانَ ابنُ معينٍ يزعمُ أنَّ الأوزاعيَّ لم يسمعْ من نافع شيئًا.
ثمَّ خرَّجه من طريقِ الوليدِ بنِ مَزْيَد: نَا الأوزاعيُّ: حدثني رجلٌ، عن
نافع - فذكرَه.
قال: وهذا يشهدُ لقولِ ابنِ معين.
قلتُ: وقد سبقَ الكلامُ على روايةِ الأوزاعيِّ عنْ نافع في "بابِ: حملِ
العنزة بين يَدَي الإمامِ يومِ العيدِ"، فإنَّ البخاريَّ خرَّج حديثًا للأوزاعيِّ عنْ
نافع مصرحًا فيه بالسماع.
وقد رُوي هذا الحديثُ عنْ عائشةَ من وجهٍ آخَر:
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ المقدَامِ بنِ
شُريْح،(1/95)
عنْ أبيهِ، عنْ عائشةَ، أنَّ النبيَّ، كانَ إذا أُمطرَ، قالَ: "اللَّهُمَّ صيَبا
هنيئًا" - لفظُ أبي داودَ.
ولفظُ النسائيِّ: "اللَّهُمَّ اجعله سيبًا نافِعًا".
ولفظُ ابنِ ماجةَ: "اللَهُمَّ سيبًا نافعًا" - مرتينِ أو ثلاثًا.
وفي رواية لابنِ أبي الدنيا في "كتاب المطرِ": "اللهُمَّ سقيًا نافعًا".
وخرَّج مسلمٌ من طريقِ جعفر بنِ محمدٍ، عن عطاءٍ، عن عائشةَ، أنَّ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقول إذا رأى المطرَ: "رحمة".
وقد أشارَ البخاريُّ إلى تفسيرِ قولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صيبا هنيئًا"، فذكرَ عنِ ابنِ عباسٍ، أنَّ الصيِّبَ هو المطرُ.
وقد خرَّجه ابنُ أبي الدنيا في "كتابِ المطر" من روايةِ هارونَ بنِ عنترةَ.
عن أبيه، عنِ ابنِ عباسٍ.
وقالَ غيرُهُ: هو المطرُ الشديدُ.
وقد ذكرَ البخاريُّ عن بعضِهِم، أنَّ الفعلَ الماضِي منه: "صابَ وأصابَ ".
والمضارعُ منه: "يصوبُ ".
وهذا عجيبٌ: فإنَّ "أصابَ " إنما تقالُ في ماضِي "يصيبُ "، مِنَ الإصابةِ
التي هي ضدَّ الخطإِ.
وأمَّا "صابَ يصوبُ "، فمعناه: نزلَ من علوٍ إلى سفْل.
وأمَّا روايةُ من روى "سيِّبًا" بالسينِ، فيجوزُ أنَّ تكونَ السينُ مبدلةً
من الصادِ.(1/96)
وقيل: بل هو بسكونِ الياءِ، ومعناه: العطاءُ.
ورُوي عنْ محمدِ بنِ أسلمَ الطوسيِّ، أنَّه رجَّح هذه الروايةَ؛ لانَّ العطاءَ
يعمُّ المطرَ وغيرَهُ منْ أنواع الخيرِ والرحمةِ، وفي هذه الأحاديثِ كلِّها: الدعاءُ
بأن يكونَ النازلُ من السماءِ نافعًا، وذلك سقيا الرحمةِ، دون العذابِ.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عنْ عبدِ الملكِ بنِ جابرِ بنِ عتيك، أنَّ رجلاً
من الأنصارِ كانَ قاعدًا عند عُمرَ في يومِ مطرٍ، فأكثرَ الأنصاريّ الدعاءَ
بالاستسقاءِ، فضربَه عمرُ بالدِّرةِ، وقالَ: ما يدريكَ ما يكونُ في السقْيا، ألا
تقول: سقْيا وادعةً، نافعةً، تسعُ الأموالَ والأنْفُسَ.
* * *
قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قالَ اللَّهُ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) .
وقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) .
واختلفَ المفسرونَ في هذهِ الحجارةِ، فقالتْ طائفةٌ منهم الربيع بنُ أنسٍ:
الحجارةُ هي الأصنامُ التي عبدَتْ من دونِ اللَّهِ، واستشهدَ بعضُهم لهذا بقولِهِ(1/97)
تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) .
قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: حدثنا أبو صالح، حدثنا معاويةُ بنُ أبي صالح، عنْ
أبي بكرٍ بنِ أبي مريمَ، عنْ أبيه أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في قولِهِ: (إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ) ، قالَ: "كورتْ في جهنمَ "، (وإِذَا النُّجُومُ
انكَدَرَتْ) ، قال: "انكدرتْ في جهنمَ، وكلُّ من عُبِدَ من دونِ اللهِ فهو في
جهنمَ، إلا ما كانَ مِنْ عيسى وأمِّه ولو رضيا لدخلاَهَا" غريبٌ جدًّا، وأبو بكرٍ بنُ أبي مريمَ فيه ضعفٌ.
وقد رُويَ أنَّ الشمسَ والقمرَ يكورانِ في النارِ.
ورواهُ عبدُ العزيزِ بنِ المختارِ عنْ عبدِ اللَهِ - هو ابنُ فيروزَ الداناج - قالَ:
سمعتُ أبا سلمةَ بنَ عبدِ الرحمنِ يحدثُ عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الشمسُ والقمرُ ثورانِ يكورانِ في النارِ يومَ القيامةِ" خرَّجه البزار وغيرهُ.
وخرَّجهُ البخاريُّ مختصرًا، ولفظُه: "الشمسُ والقمرُ يكورانِ يومَ القيامةِ".
وخرَّج أبو يَعْلَى منْ روايةِ درستْ بنِ زيادٍ عن يزيدَ الرقاشيَ عن أنسٍ
عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: (الشمسُ والقمرُ ثورانِ عقيرانِ في النارِ" وهذا إسنادٌ ضعيف جدًّا.
وقد قيلَ: إنَّ المعنى في ذلكَ أنَّ الكفارَ لمَّا عبدُوا الآلهةَ من دونِ اللَّهِ
واعتقدُوا أنها تشفعُ لهم عندَ اللَّهِ وتقرِّبُهم إليه عوقِبُوا بأن جعلت معهم في(1/98)
النارِ إهانةً لها وإذلالاً، ونكايةً لهم وإبلاغًا في حسرتِهِم وندامتِهِم، فإنَّ
الإنسانَ إذا قرنَ في العذابِ بمنْ كانَ سببَ عذابِهِ كانَ أشدَّ في ألَمِهِ وحسرَتِهِ.
ولهذا المعنى يقرنُ الكفارُ بشياطينهِم التي أضلتْهُم.
قالَ اللَّهُ تعالَى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) .
قالَ مَعْمرٌ عنْ سعيدٍ الجريريِّ في هذهِ الآياتِ: بلغنَا أن الكافرَ إذا بُعِثَ يومَ
القيامةِ منْ قبر، شُفِعَ بشيطانِهِ فلم يفارقْه حتى يصيرَهُما اللَّهُ إلى النارِ، فذاكَ
حينَ يقولُ: (يَا لَيْتَ بيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) .
وقالَ أبو الأشهبِ عن سعيدٍ الجريريِّ عن عباسٍ الجشميِّ: إنَّ الكافرَ إذا
خرجَ من قبرِهِ وجَدَ عندَ رأسِهِ مثلَ السرحةِ المحترقةِ شيطانةً فتأخذُ بيده.
فتقولُ: أنا قرينتُكَ أدخلُ أنا وأنتَ جهنَّم، فذاك قولُهُ: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَينِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ، خرَّجَهما ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُهُ، والسرحةُ:
شجرةٌ كبيرةٌ.
وقد أخبرَ اللَّهُ تعالى عن حنقِ الكفارِ على من أضلَّهُم بقولِهِ: (وقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامَا لِيكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ) .
فإذا قُرن أحدُهُم بمن أضلَّه في العذابِ كانَ أشدَّ لعذابِهِ، فإنَّ المكانَ المتسعَ
يضيقُ على المتباغِضينِ باقترانِهِما في المكانِ الضيقِ.
وأخبرَ اللَّهُ تعالى عن اختصامِ الكفارِ معَ من كانَ معهُم من الشياطينِ ومن(1/99)
عبدُوه من دونِ اللَّهِ تعالى.
قالَ اللَّهُ تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) .
ومن جملةِ أنواع عذابِ أهلِ النارِ فيها: تلاعنُهم وتباغضُهم، وتبرُّؤُ
بعضُهم من بعضٍ، ودعاءُ بعضِهم على بعضٍ، بمضاعفةِ العذابِ، كما قالَ
اللَّه تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) .
قالَ اللَّهُ تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الآيات.
وقال اللَّهُ تعالى: (هَذَا فَوْجٌ مقْتَحِمٌ معَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ) إلى قولِهِ: (إِنَّ ذَلِكَ
لَحَق تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، وحينئذ لا يبعدُ أن يقرنَ كلُّ كافرٍ بشيطانِهِ
الذي أضَلَّهُ وبصورة من عَبَدَهُ من دونِ اللَّهِ من الحجارةِ.
وقالَ ابنُ أبي الدنيا: حدثنا عبدُ اللَّه بنُ وضاح، حدثنا عبادة بنُ كليبٍ
عن محمدِ بنِ هاشمٍ، قالَ: لما نزلتْ هذه الآية ُ: (وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ) .
وقرأها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسمعَهَا شابٌّ إلى جنبِهِ فصُعِقَ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ في حجره، رحمةً لَهُ، فمكثَ ما شاءَ أن يمكثَ، ثم فتحَ عينيهِ، فقالَ: بأبي أنتَ وأمِّي مثلَ أيِّ شيء الحجرُ؛ قالَ: "أما يكفيكَ ما أصابَكَ، على أنَّ الحجرَ الواحدَ منها لو وُضِعَ عن جبالِ الدنيا كلِّها لذابتْ منهُ، وإنَّ معَ(1/100)
كل إنسانٍ منهُم حجرًا وشيطانا".
وقالَ الحسنُ في موعظَتِهِ: أذكركَ اللهَ ما رحمتَ نفسَكَ، فإنَّك قد حذرتَ
نارًا لا تطفأ، يهوِي فيها من صارَ إليها، ويترددُ في أطباقِهَا قرينُ شيطانٍ.
ولزيقُ حجرٍ يتلهبُ في وجههِ شعلُها (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) .
وأكثرُ المفسرينَ على أن المرادَ بالحجارةِ حجارةُ الكبريتِ توقدُ بها النارُ.
ويقالُ: إن فيها خمسةُ أنواع من العذابِ ليسَ في غيرِها من الحجارةِ: سرعةُ
الإيقادِ، ونتن الرائحةِ، وكثرةُ الدخانِ، وشدةُ الالتصاقِ بالأبدانِ، وقوةُ حرِّهَا إذا أحميتْ.
قالَ عبدُ الملكِ بنُ عميرِ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ عنْ عمرِو بنِ ميمونَ
عنِ ابنِ مسعودٍ في قولِهِ تعالى: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قالَ: هي
حجارةٌ من الكبريتِ خلقَهَا اللَّهُ يومَ خلقَ السموات والأرضَ في السماءِ الدنيا
يُعدها للكافرينَ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ والحاكمُ في "المستدركِ " وقال: صحيحٌ
على شرطِ الشيخينِ.
وقالَ السُّديُّ في "تفسيره" عنْ أبي مالكِ وعنْ أبي صالح، عنِ ابنِ عباسٍ
وعن مرة عن ابنِ مسعودٍ، وعن أناسٍ من الصحابةِ: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) .
أما الحجارةُ حجارةٌ في النار من كبريتٍ أسودَ يعذبونَ به مع النارِ.
وقالَ مجاهدٌ: حجارة من كبريتٍ أنتن من الجيفةِ.
وهكذا قالَ أبو جعفرِ وابنُ جريج، وعمرُو بنُ دينار وغيرُهم.
وقالَ ابنُ وهبٍ: أخبرَني عبدُ اللَّهِ بنُ عياشٍ، أخبرَني عبدُ اللَّهِ بن سليمانَ
عنْ درَّاج عن أبي الهيثم، عن عيسى بنِ هلالي الصدفيّ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ
عمرو،(1/101)
قالَ: قالَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إن الأرضينَ بينَ
كل أرض إلى التي تليهَا مسيرةُ خمسمائة سنةٍ، فالعُليا منها على ظهرِ حوتٍ قد التقَى طرفَاهُ في السماءِ، والحوتُ على صخرةٍ، والصخرةُ بيدِ ملكٍ، والثانية سجنُ الريح، فلما أرادَ اللَهُ إهلاكَ عادٍ أمرَ خازنَ الريح أن يرسلَ عليهم ريحًا تهلكُ عادًا، قالَ: يا ربِّ أرسلْ عليهم من الريح قدرَ منخرِ ثورٍ، قالَ له الجبارُ تباركَ وتعالى: إذنْ يكفي الأرضَ ومن عليها، ولكنْ أرسِل عليهم بقدرِ خاتمٍ، فهي التي قالَ اللَّهُ في كتابه: (مَا تَذَرُ مِن شيءٍ أتت عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كالرميمِ) ، والثالثةُ فيها حجارةُ جهنَم، والرابعةُ
فيها كبريتُ جهنمَ " قالُوا: يا رسولَ اللَهِ أللنارِ كبريتٌ؟!
قالَ: "نعم، والذي نفسي بيدِهِ إنَّ فيها لأوديةً من كبريت لو أرسلتْ فيها الجبالُ الرواسي لماعَتْ، والخامسةُ فيها حياتُ جهنمَ وإنَ أفواهَها كالأوديةِ تلسعُ الكافرَ اللسعةَ فلا يبْقى منه لحمٌ على وضَمٍ.
والسادسةُ فيها عقاربُ جهنَّم، وإنَّ أدنى عقربة منها كالبغالِ الموكفةِ، تضربُ الكافرَ ضربةً تنسيه ضربتُها حرَّ جهنَّم، والسابعةُ سقرُ، وفيها إبليسُ مصفدٌ بالحديد أمامَهُ ويدُه من خلفِهِ، فإذا أرادَ اللَّه أن يطلِقَهُ لما يشاءُ من عبابٍ أطلَقَهُ " خرَّجه الحاكمُ في آخرِ: "المستدركِ " وقالَ: تفرد به أبو السمح، وقد ذكرتْ عدالتُه بنصِ الإمامِ يحيى بنِ معين، والحديثُ صحيحٌ ولم يخرِّجاه، وقالَ بعضُ الحفاظِ المتأخرين: هو حديثٌ منكرٌ، وعبدُ اللَهِ بنُ عياشٍ القتبانيُّ ضعَّفه أبو داودَ، وعندَ مسلم أنَه ثقةٌ، ودرَاج كثيرُ المناكيرِ، واللَّهُ أعلمُ.
قلتُ: رفْعُه منكرٌ جدًّا، ولعله موقوفٌ، وغلطَ بعضُهم فرفَعَه، وروى(1/102)
عطاءُ بنُ يسارٍ عن كعب من قولِهِ نحوَ هذا الكلام أيضًا.
وعن عبدِ العزيز بن أبي روادٍ قالَ: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تلا هذهِ الآيةَ: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ، وعندهُ بعضُ أصحابِهِ وفيهم شيخٌ، فقالَ الشيخُ: يا رسولَ اللَّهِ حجارةُ جهنَّم كحجارةِ الدنيا؟
فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، إنَّ صخرةً من صخرِ جهنَّم أعظمُ من
جبالِ الدنيا كلِّها" فوقعَ الشيخُ مغشيًّا عليه، فوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ على فؤادِهِ، فإذا هو حيٌّ فناداه قلْ: "لا إله إلا اللَهُ " فقالَهَا، فبشَّره بالجنةِ، فقالَ أصحابُهُ: يا رسولَ اللهِ أمِنْ بيننا؟ قالَ: "نعم، يقولُ الله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) "
خرَّجه ابن أبي الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ)
وروى ابنُ جريرٍ في "تفسيره": نا يُونُسُ: نا ابنُ وهْبٍ، عنْ عبدِ
الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ، في قوله: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ)
قال: المطهرةُ: التي لا تحيضُ، قالَ: وكذلكَ خُلقَتْ حواءُ عليها السلامُ حتى عَصَتْ، فلما عصتْ قالَ اللَّهُ تعالى: "إني خلقْتُكِ مطهرةً، وسأدْميكِ كما أدْميتِ هذه الشجرة".
وقد استدلَّ البخاريُّ لذلكَ بعمومِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا شيءٌ كتبه اللَّهُ على بنات آدمَ "، وهو استدلالٌ ظاهرٌ حسنٌ، ونظيرُهُ: استدلالُ الحسنِ على(1/103)
إبطال قول من قال: أوَّل من رأى الشَّيْبَ إبراهيمُ عليه السلامُ، بعمومِ قول
اللَّه عزَ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قوَّةً ثمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) .
* * *
قوله تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
قالَ اللَهُ تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
وفُسرتْ إحاطةُ الخطيئةِ بالموتِ على الشركِ، وفسِّرتْ بالموتِ على الذنوبِ
الموجبةِ للنارِ من غيرِ توبةٍ منْهَا.
فكأنَّ ذنوبَهُ أحاطتْ به من جميع جهاتِهِ، فلم يبقَ لَهُ مَخلصٌ منها.
فالخطايا تُحيطُ بصاحبِهَا حتى تُهلكهُ، وقد ضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الخطايَا التي يتلبَّسُ بها العبدُ بمثل درع ضيقةٍ يلبسُهَا، فتضيقُ عليهِ حتى تخنقَهُ، ولا تنفكَّ عنهُ إلا بعملِ الحسناتِ من توبةٍ أو غيرِهَا من الأعمال الصالحةِ، ففي "المسند"، عن عُقبةَ بن عامرٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إنَّ مثلَ الذي يعملُ السيئاتِ ثمَّ يعملُ الحسناتِ كمثلِ رجل كانتْ عليه درعٌ ضيقةٌ ثم خنقتْهُ، ثم عملَ حسنةً
فانفكتْ حلقة ثم عملَ حسنةً أخرى فانفكتْ حلقة أخرى حتى يخرجَ إلى الأرضِ ".
فلا يَخلُصُ العبدُ من ضيقِ الذنوبِ عليهِ وإحاطتِهَا بهِ، إلا بالتوبةِ والعملِ
الصالح.(1/104)
كانَ بعضُ السلفِ يُردد هذينِ البيتينِ بالليلِ، ويبكِي بكاءً شديدًا شعر:
ابْكِ لذنبِكَ طولَ الليلِ مجتهدًا. . . إن البكاءَ معولُ الأحزانِ
لا تنسَ ذنبكَ في النهارِ وطولِهِ. . . إن الذنوبَ تحيطُ بالإنسانِ
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
وقدْ دلَّ قولُهُ تعالى في حقَ اليهودِ: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، على أنَّ منْ كانَ
على حالةٍ حسنةٍ من الاستعدادِ للقاءِ اللَّهِ فإنَّه يتمنَّى لقاءَ اللَّهِ ويحبُّه، وأنَّه لا
يكرهُ ذلكَ إلا من هوَ مريبٌ في أمرِهِ. ولهذَا قالَ: (وَلَن يتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، ثم قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ، فذمَّهم على حرصِهم على الحياةِ الدنيا.
وفي "مسندِ الإمام أحمدَ" عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا يتَمَنّيَنَ الموْتَ إلا منْ وَثَقَ بعَمَلِهِ ".
وقد كان كثير من السلف الصالح يتمنونَ الموتَ شوقًا إلى لقاء اللَّه عزَّ
وجلَ. ً(1/105)
قوله تعالى: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
مَن آثرَ المعصيةَ على الطَّاعةِ فإنَّما حملَهُ على ذلكَ جهلُهُ وظنُّه أنَّها تنفعُهُ
عاجلاً باستعجالِ لذَّتِها، وإن كانَ عندهُ إيمانٌ فهو يرجُو التخلُّصَ من سوءِ
عاقبَتِها بالتوبةِ في آخرِ عمرِهِ، وهذا جهلٌ محْضٌ، فإنَّه يتعجلُ الإثمَ
والخزي، ويفوته عزُّ التقوى وثوابُها ولذَّةُ الطاعة، وقد يتمكَّنُ من التوبةِ بعد
ذلك، وقد يعاجلُهُ الموتُ بغتةً، فهو كجائع أَكَلَ طعامًا مسمومًا لدفع جوعِهِ
الحاضر، ورجَا أن يتخلَّص من ضررِه بشُرِبِ الدِّرياق بعدَه، وهذا لا يفعلُه إلا جاهلٌ، وقد قالَ تعالَى في حقِّ الذين يؤثرون السحرَ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) .
والمرادُ: أنَّهم آثرُوا السحرَ على التقوى والإيمانِ، لما رجُوا فيه من منافع
الدنيا المعجلة، مع علمهِم أنَّهم يفوتُهم بذلكَ ثوابُ الآخرةِ، وهذا جهلٌ
منهم، فإنَّهم لو علِمُوا لآثرُوا الإيمانَ والتقوى على ما عَداهُما، فكانُوا
يُحرِزون أجرَ الآخرةِ ويأمنونَ عقابها، ويتعجَّلون عزَّ التقوى في الدنيا، وربَّما
وصلُوا إلى ما يأمُلُونه في الدنيا أو إلى خير منه وأنفعُ، فإن أكثرَ ما يطلبُ
بالسِّحرِ قضاءُ حوائجَ محرَّمة أومكروهةٍ عند اللَّه عزَّ وجلَّ.
والمؤمنُ المتقي يُعوِّضُه اللَّهُ في الدنيا خيرًا مما يطلبُه السَّاحرُ ويؤثرُه، مع
تعجيلهِ عِزَّ التَّقوى وشرفها، وثوابَ الآخرةِ وعُلُوَّ درجاتِهَا، فتبيَّنَ بهذا أنَ
إيثارَ المعصيةِ على الطاعةِ إنما يحملُ عليه الجهلُ، فلذلكَ كان كُل مَنْ عصى(1/106)
اللَّهَ جاهلاً، وكُلُّ مَنْ أطاعَه عالمًا، وكفى بخشيةِ اللهِ علمًا، وبالاغترار به
جهلاً. وأما التوبةُ من قريبٍ فالجمهورُ على أنَّ المرادَ بها التوبةُ قبلَ الموتِ.
فالعمرُ كلُّه قريبٌ، والدنيا كلُّها قريبٌ. فمن تابَ قبل الموتِ فقد تابَ من
قريبٍ، ومن ماتَ ولم يتُبْ فقد بَعُدَ كلَّ البُعد.
* * *
عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ - رضي الله عنه -: أن رجلاَّ سَألَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: أرأيتَ إذا صَلَّيتُ المكتُوباتِ، وصُمْتُ رمضانَ، وأحْللْتُ الحلالَ، وحرَّمتُ الحرامَ، ولم أزِدْ على ذلك شيئًا، أأدخلُ الجنَّة؟ قال: "نعَمْ " رواه مسلم.
هذا الحديثُ: خرَّجه مسلمٌ من روايةِ أبي الزبيرِ عن جابرٍ، وزادَ في
آخر: قال: واللَّهِ لا أزيدُ على ذلكَ شيئًا. وخرَّجه - أيضًا - من روايةِ
الأعمشِ عن أبي صالح، وأبي سفيانَ عن جابرَ قالَ: قال النعمانُ بن قوقل: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبة، وحرمتُ الحرامَ، وأحللتُ الحلالَ ولم أزدْ على ذلكَ شيئًا أأدخُلُ الجنَّةَ؟
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "نعم ".
وقد فسرَ بعضُهم تحليلَ الحلال باعتقادِ حلِّه، وتحريمَ الحرامِ باعتقاد حُرمتِه
مع اجتنابِهِ، ويُحتملُ أن يرادَ بتحليلِ الحلالِ إتيانُه، ويكونُ الحلالُ ههنا عبارةً عمَّا ليس بحرامٍ، فيدخلُ فيه الواجبُ والمستحبُّ والمباحُ، ويكونُ المعنى أنَّه يفعلُ ما ليس بمحرَّمٍ عليه، ولا يتعدَّى ما أُبيحَ له إلى غيره، ويجتنبُ
المحرَّماتِ.
وقد رُوي عن طائفة من السلفِ، منهم ابنُ مسعود وابنُ عباس
في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكًّ يَؤمنُونَ بِهِ)(1/107)
قالُوا: يُحلِّونَ حلالَهُ ويحرّمون حرامَه، ولا يحرِّفونه عن مواضعِهِ.
والمرادُ بالتحليلِ والتحريمِ فعلُ الحلالِ واجتنابُ الحرامِ كما ذُكرَ في هذا
الحديثِ.
وقد قالَ اللَّه في حقّ الكفارِ الذينَ كانُوا يُغيّرونَ تحريمَ الشهورِ
الحُرُمِ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) ، والمرادُ: أنَّهم كانُوا يُقاتِلونَ في الشهرِ الحرامِ عامًا، فيُحلونهُ بذلكَ، ويمتنعونَ من القتالِ فيه عامًا، فيحرِّمونَهُ بذلكَ.
وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) ، وهذِهِ الآيةُ نزلتْ بسببِ قومِ امتنعوا من تناولِ بعضِ الطيباتِ زهدًا في
الدنيا وتقشفًا، وبعضُهم حرَّمَ ذلكَ عن نفسِهِ، إمَّا بيمينِ حَلَفَ بها، أو
بتحريمهِ على نفسِهِ، وذلكَ كلُّه لا يوجبُ تحريمَهُ في نفسِ الأمرِ، وبعضُهم
امتنعَ منه من غيرِ يمينٍ ولا تحريم، فسمَّى الجميعَ تحريمًا، حيثُ قصدَ الامتناعَ
منه إضرارًا بالنفسِ، وكفًّا لها عن شهواتِهَا. ويقالُ في الأمثالِ: فلان لا
يحلِّلُ ولا يحرِّمُ، إذا كان لا يمتنعُ من فعلِ حرامٍ، ولا يقفُ عندَ ما أُبيحَ له.
وإن كان يعتقدُ تحريمَ الحرامِ، فيجعلونَ من فعلَ الحرامَ ولم يتحاشَ منه مُحلِّلاً
له، وإن كانَ لا يعتقدُ حلَّه. وبكلّ حالٍ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أن من قامَ
بالواجباتِ، وانتهى عن المحرَّماتِ، دخلَ الجنَّةَ.
وقد تواترتِ الأحاديثُ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى، أو ما هو قريب منه.(1/108)
قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
حديثُ عمرَ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ، قد خرَّجهُ البخاريُّ فيما بعد.
وسيأتي في موضعِهِ قريبًا - إن شاء اللَّه تعالَى.
[قالَ البخاريُّ] : حدَّثنا الحُميْديُّ: ثنا سفيانُ: ثنا عمْرُو بنُ دينارٍ، قالَ:
سألنا ابنَ عُمَرَ عن رجلٍ طافَ بالبيتِ العُمْرةَ، ولمْ يطفْ بيْنَ الصفا والمرْوةِ.
أيأتِي امرأتَه؟
فقالَ: قدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فطافَ بالبيْتِ سبْعًا، وصلَّى خلفَ المقامِ ركْعتينِ، وطافَ بيْنَ الصَّفا والمرْوةِ، وقدْ كانَ لكُمْ في رسولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حسنةٌ.
وسألنا جابرَ بنَ عبد اللَّه، فقالَ: لا يقْربنَّها حتَّى يطوف بيْن الصَّفا
والمروة.
مقصودُهُ من هذا الحديثِ هاهنا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما اعتمرَ طافَ بالبيتِ وصلَّى خلف المقامِ ركعتينِ، وكذلك فَعلَ في حَجتِهِ - أيضًا.
وقد رَوى جابر أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هذهِ الآيةَ عندَ صلاتِهِ خلف المقامِ: (وَاتَّخِذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
خرَّجه مسلمٌ.
وهذا كلُّه يدلّ على أنَّ المرادَ بمقامِ إبراهيمَ في الآيةِ: مقامُه المُسمَّى بذلكَ(1/109)
عندَ البيتِ، وهوَ الحَجَرُ الذي كانَ فيه أثرُ قدمِه عليه السلام، وهذا قولُ كثيرٍ منَ المفسرينَ.
وقال كثير منهم: المرادُ بمقامِ إبراهيمَ: الحجُّ كلُّه.
وبعضُهم قالَ: الحرمُ كلُّه.
وبعضُهم قالَ: الوقوفُ بعرفةَ، ورميُ الجمارِ والطوافُ، وفسَّرُوا المصلَّى:
بالدعاءِ، وهو موضعُ الدعاءِ.
ورُوي هذا المعنى عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ وغيرِهِما.
وقد يُجْمعُ بين القولينِ، بأنْ يُقالَ: الصلاةُ خلفَ المقامِ المعروف داخل فيما
أُمِرَ به من الاقتداءِ بإبراهيمَ عليه السلامُ مما في أفعالِهِ في مناسكِ الحجِّ كلِّها
واتخاذِهَا مواضعَ للدعاءِ وذكرِ اللَّهِ.
كما قالتْ عائشةُ - ورُوي مرفوعًا -: "إنَّما جُعِلَ الطوافُ بالبيتِ والسعيُ بينَ الصفا والمروةِ ورَمْيُ الجمارِ لإقامةِ ذِكْرِ اللهِ ".
خرَّجه أبو داودَ والترمذيُّ.
فدلالةُ الآيةِ على الصلاةِ خلفَ مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ لا تُنافي دلالتَها
على الوقوفِ في جميع مواقفِه في الحجِّ لذكرِ اللَّهِ ودعائِهِ والابتهالِ إليهِ.
واللَّه أعلمُ.
وبكلِّ حالٍ؛ فالأمرُ باتخاذِ مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى لا يدْخلُ فيه الصلاةُ إلى
البيتِ إلا أن تكونَ الآيةُ نزلتْ بعد الأمرِ باستقبالِهِ، وحديثُ عمر قد يُشرعُ
بذلك.(1/110)
فيكون حينئذٍ مما أُمِرَ به من اتخاذ مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى: استقبالُ البيتِ
الذي بناهُ في الصلاةِ إليه، كما كانَ إبراهيمُ يستقبلُهُ، وخصوصًا إذا كانتِ
الصلاةُ عندَهُ.
وعلى هذا التقديرِ يَظْهرُ وجهُ تبويبِ البخاريِّ على هذه الآية في "أبواب
استقبالِ القبلةِ"، وإلا ففيه قَلَقٌ. واللَّه أعلمُ.
* * *
[قالَ البخاريُّ] : حدَّثنا عمْرُو بْنُ عوْنٍ: ثنا هُشيْمٌ، عنْ حمُيدٍ، عنْ
أنسٍ، قالَ: قالَ عُمَرُ: وافقتُ ربي في ثلاثٍ: قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، لو
اتَّخَذْنَا منْ مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى، فنزلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهيم مُصَلًّى)
، وآيةُ الحِجابِ، قُلتُ: يا رسولَ اللَّه، لوْ أمرتَ نساءَكَ أن
يحْتَجِبْنَ، فإنَه يُكَلِّمُهُن البَرُّ والفاجرُ، فنزلَتْ آيةُ الحِجابِ، واجْتَمعَ نساءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الغيْرةِ عليْهِ، فقُلْتُ لهُن: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ) ، فنزلتْ هذهِ الآيةُ.
وقالَ ابنُ أبي مريمَ: أبنا يحيى بنُ أيوبَ: حدَّثني حُميدٌ، قالَ: سمعتُ
أنسًا - بهذا.
هذا الحديثُ مشهورٌ عن حميدٍ، عنْ أنسٍ، وقد خرَّجَهُ البخاريُّ - أيضًا -
في "التفسيرِ" من حديثِ يحيى بن سعيدٍ، عنْ حُميدٍ.
ورواه - أيضًا - يزيدُ بن زُرَيعْ وابن عُليَّةَ وابنُ أبي عدي وحماد بنُ سلمةَ(1/111)
وغيرُهُم، عن حميدٍ، عنْ أنسٍ.
وإنَّما ذكرَ البخاريُّ روايةَ يحيى بنِ أيوبَ: حدثنى حميد، قالَ: سمعتُ
أنسًا؛ ليبينَ به أنَّ حميدًا سمعَهُ من أنس، فإنّ حميدًا يروي عن أنسٍ كثيرًا.
ورُوي عن حمادِ بنِ سلمةَ، أنَّه قالَ: أكثرُ حديثِ حميد لم يسمعْه من
أنسٍ، إنَما سمعه من ثابت، عنهُ.
ورُوي عن شعبةَ، أنه لم يسمعْ من أنسٍ إلا خمسةَ أحاديث.
وروي عنه، أنَّه لم يسمع منه إلا بضعة وعشرينَ حديثًا.
وقد سبقَ القولُ في تسامح يحيى بنِ أيوبَ والمصريينَ والشاميينَ في لفظةِ:
"ثنا" -: كما قاله الإسماعيليُّ.
وقالَ عليٌّ بنُ المدينيُّ في هذا الحديثِ: هو من صحيح الحديثِ.
ولم يخرِّجْ مسلمٌ هذَا الحديثَ، إنَّما خرَّج من روايةِ سعيدِ بنِ عامرٍ.
عن جُويريةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عن عُمرَ، قالَ: وافقتُ ربِّي في
ثلاثٍ: في الحجابِ، وفي أُسارَى بَدْرٍ، وفي مقامِ إبراهيمَ.
وقد أعلَّه الحافظُ أبو الفضلِ بنُ عمارٍ الشهيدُ - رحمه اللَّهُ - بأنَّه روي
عن سعيدِ بنِ عامرٍ، عن جُويريةَ، عن رجل، عن نافع، أنَّ عُمرَ قالَ:
وافقتُ ربي في ثلاث: فدخَلَ في إسنادِهِ رجلٌ مجهولٌ، وصار منقطعًا.
وروى ابنُ أبي حاتم من طريقِ عبدِ الوهابِ بنِ عطاءٍ، عن ابنِ جُريج،(1/112)
عن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه: سمعتُ جابرًا يُحدِّث عن حجةِ الوداع قالَ:
لما طافَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ له عُمرُ: هذا مقامُ إبراهيمَ؟ قالَ: "نعمَ "، قالَ: أفلا نتخذُهُ مُصلًّى؛ فأنزلَ اللَّهُ (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
وهذا غريب، وهو يدلُّ على أنَّ هذا القولَ كانَ في حجةِ الوداع، وأنَّ
الآيةَ نزلتْ بعد ذلكَ، وهو بعيدٌ جدًّا، وعبدُ الوهابِ ليسَ بذاك المتقنِ.
وقد خالفَهُ الحفاظُ، فرووا في حديثِ حجةِ الوداع الطويلِ، عن جعفرِ بنِ
محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتى إلى المقامِ، وقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِن مقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، ثم صلَّى ركعتينِ، والمقامُ بينه وبينَ البيتِ.
وروى الوليدُ بنُ مسلم، عنْ مالكٍ، عن جعفرٍ، عن أبيهِ، عن جابرٍ.
قالَ: لمَّا وقفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتح مكةَ عندَ مقامِ إبراهيمَ، قالَ له عُمَرُ: يا رسول اللهِ، هذا مقامُ إبراهيمَ الذي قالَ اللَهُ: (وَاتَخِذُوا مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ؟ قال: "نعَمْ ".
قال الوليدُ: قلتُ لمالكٍ: هكذا حدَّثك؟
قال: نعَمْ.
وقد خرَّجه النسائي بمعناه.
والوليدُ كثيرُ الخطأِ -: قاله أبو حاتمٍ وأبو داودَ وغيرُهُما.
وذكر فتح مكةَ فيه غريب أو وهْمٌ، فإنَّ هذا قطعةٌ من حديثِ جابرٍ في
حجةِ الوداع.(1/113)
وقد رُويَ حديثُ أنسٍ، عن عُمرَ من وجهٍ آخر:
خرَّجه أبو داودُ الطيالسيُّ: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ: ثنا علي بن زيدٍ، عن
أنسٍ، قالَ: قالَ عمرُ: وافقتُ ربِّي في أربع - فذكرَ الخصالَ الثلاثَ المذكورةَ في حديثِ حميدٍ، إلا أنَّه قال في الحِجابِ: فأنزلَ اللَّهُ: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، قال: ونزلتْ هذه الآيةُ: (ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ) ، فلما نزلتْ قلتُ أنا: تباركَ اللَّهُ
أحسنُ الخالقينَ، فنزلَ: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) .
وقولُ عُمرَ: "وافقتُ ربِّي في ثلاثٍ "، ليسَ بصيغةِ حصرٍ، فقدْ وافقَ في
أكثرَ من هذه الخصالِ الثلاثِ والأربع.
ومما وافقَ فيه القرآنَ قبلَ نزولهِ: النهيُّ عن الصلاةِ على المنافقينَ.
وقولُهُ لليهودِ: من كانَ عدوًّا لجبريلَ، فنزلتِ الآيةُ.
وقولُهُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل نساءَه ووَجَدَ عليهنَّ:
يا رسولَ اللَّهِ، إنْ كنتَ طلقتَهَنَّ، فإن اللَّه معكَ وملائكتَه وجبريلَ وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنونَ معك.
قالَ عمرُ: وقلَّ ما تكلمتُ - وأحمدُ اللَّهَ - بكلامٍ إلا رجوتُ أن يكونَ
اللَّه يصدِّقُ قولِي الذي أقولُ، فنزلتْ آيةُ التخييرِ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
وقد خرَّج هذا الأخيرَ مسلمٌ من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن عمرَ.
وأما موافقتُهُ في النهيِّ عنِ الصلاةِ على المنافقينَ، فمخرَّجٌ في(1/114)
"الصحيحينِ " من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن عُمرَ - أيضًا.
وأما موامفقتُهُ في قولِهِ: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) ، فرواه: أبو
جعفرٍ الرازيُّ، عن حُصينِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عنْ ابنِ أبي ليلى، عن عُمرَ.
ورواه: داودُ، عن الشعبيِّ، عن عمرَ، هما منقطعانِ.
وقد رُوي موافقته في خصالٍ أخَرَ، وقد عدَّ الحافظُ أبو موسى المدينيُّ من
ذلك اثنتي عشرةَ خصلةً.
وتخريجُ البخاريِّ لهذا الحديثِ في هذا البابِ: يدلّ على أنه فسر قولَهُ
تعالَى: (وَاتَخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، بالأمرِ بالصلاةِ إلى البيتِ
الذي بناهُ إبراهيمُ، وهو الكعبةُ، والأكثرونَ على خلاف ذلكَ، كما سبقَ
ذكرُه.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)
خرَّج البخاريُّ ومسلم: من حديثِ: أبي إسحاقَ، عن البراءِ، أنَّ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ أولَ ما قدِمَ المدينةَ نزَلَ على أجْدادِهِ - أوْ قالَ: أخوالِهِ - من الأنْصارِ، وأنَّه صلَّى قِبَلَ بيتِ المقْدسِ ستَّةَ عشرَ شهرًا - أوْ سبعة عشر شهْرًا - وكان يُعجبُهُ أنْ تكونَ قبْلَتُهُ قِبَلَ البيت، وأنَّه صلَّى أوَّل صلاة صلاَّها صلاةَ العصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرجَ رجل ممَّنْ صلَّى معه، فمرَّ على أهْلِ مسجدٍ وهُمْ راكعُونَ، فقال: أشْهَدُ باللَّه، لقدْ صلَّيْتُ مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قبَلَ مكَّةَ،(1/115)
فدارُوا كما هُمْ قِبَلَ البيْتِ.
وكانتِ اليهودُ قد أعْجبَهُم إذْ كانَ يُصلِّي قِبلَ بيتِ المقدسِ.
وأهلُ الكتابِ، فلمَّا ولَّى وجهه قبل البيتِ، أنكروا ذلك.
قال زُهيْر: ثنا أبو إسحاقَ، عنِ البراءِ - في حديثِهِ هذا - أنَّه ماتَ على
القبْلةِ قبْلَ أن تُحوَّل رجالٌ وقُتِلُوا، فلم نَدْرِ ما نقولُ فيهم، فأنزلَ اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) .
قالَ البخاريُّ: يعنِي: صلاتَكُمْ.
وبوَّبَ على هذا الحديثِ: "بابُ: الصلاةِ منَ الإيمانِ ".
والأنصارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم نسب؛ فإنَهم أجدادُه وأخوالُه من جهةِ جدِّ أبيه هاشمِ بنِ عبدِ منافٍ، فإنه تزوَّج بالمدينة امرأةً من بني عديِّ بنِ النجارِ، يُقالُ لها: سلمَى، فولدتْ له ابنَه عبدَ المطلبِ، وفي رأسِهِ شيبة، فسمِّي شيبةً.
وذكرَ ابنُ قتيبةَ: أن اسمَهُ عامر، والصحيحُ: أن اسمَه شيبة.
وإنَّما قيل له: عبدُ المطلب؛ لأنَّ عمَّه المطلبَ بنَ عبدِ مناف قدمَ به منَ
المدينةِ إلى مكة، فقالتْ قريش: هذا عبدُ المطلبِ، فقالَ: ويحكُم، إنَّما هو
ابنُ أخي شيبةُ بنُ عمرو، وهاشم اسمُه عمْرو.
ففي حديث البراءِ هذا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما قدِمَ المدينةَ نزلَ على اجدادِهِ - أو قالَ: أخوالِهِ - منَ الأنصارِ.
وظاهرُهُ: يدلُّ على أنَه نزلَ على بني النجار؛ لأنَّهم هُمْ أخوالُه وأجدادُه.
وإنما أرادَ البراءُ جنسَ الأنصارِ دونَ خصوصِ بني النجارِ.
وقد خرَّج البخاريُ في "كتاب الصلاةِ" و"أبواب الهجرةِ" من حديثِ
.(1/116)
أنسٍ، أنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما قدِمَ المدينةَ نزلَ في علوِ المدينة، في حيٍّ يقالَ لهمْ: بنُو عمْرو بنِ عوفٍ، فأقامَ فيهم أربعَ عشرة ليلةً، ثم أرسلَ إلى ملإِ بني النجارِ، فجاءُوا متقلِّدينَ سيوفهم.
قال: وكأني أنظر إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على راحلتِهِ
وأبو بكرٍ ردفَه وملأُ بني النجارِ حولَهُ، حتى ألقى بفناءِ أبي أيوبَ - وذكرَ
الحديثَ.
وخرَّج - أيضًا - معنى ذلك، من حديث الزهريِّ، عن عروةَ بنِ
الزبيرِ.
وأما ما ذكرَهُ البراءُ في حديثِهِ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالمدينةِ قِبَلَ بيت المقدسِ ستةَ عشرَ - أو سبعة عشرَ - شهرًا، فهذا شكّ منه في مقدارِ المدة.
ورُوي عن ابنِ عباسٍ، أنَ مدةَ صلاتِهِ بالمدينةِ إلى بيتِ المقدسِ كانت ستةَ
عشرَ شهرًا.
خرَّجه أبو داودَ.
وخرَّج - أيضًا - من حديثِ معاذٍ، أنَّ مدةَ ذلك كانَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا.
وروَى كثيرُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُزنيّ - وهو ضعيفٌ -، عن أبيه، عن جدِّهِ عمرِو
ابنِ عوف، قالَ: كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قدِمَ المدينةَ، فصلَّى نحو بيتِ المقدسِ سبعةَ عشرَ شهرًا.(1/117)
وقالَ سعيدُ بن المسيبِ: صلَّى رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نحوَ بيت المقدسِ تسعةَ عشرَ شهرًا، ثم حُوِّلتِ القبلةُ بعدَ ذلكَ قِبَلَ المسجدِ الحرامِ، قبْلَ بدرٍ بشهرينِ.
ورواه بعضهم، عن سعيد، عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ.
والحفاظُ يروْن، أنَّه لا يصحُ ذكرُ: "سعدِ بنِ أبي وقاصٍ " فيه.
وقيلَ: عن سعيدِ بنِ المسيبِ - في هذا الحديثِ -: ستة عشرَ شهرًا.
وكذا قالَ محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ وقتادةُ وابنُ زيدٍ، وغيرُهُم: إنَّ
مدةَ صلاتِهِ إلى بيتِ المقدسِ كانتْ ستة عشرَ شهرًا.
وقالَ الواقديُّ: الثبتُ عندنا أنَّ القبلةَ حُوِّلتْ إلى الكعبةِ يوم الاثنينِ.
للنصفِ من رجبٍ، على رأسِ سبعةَ عشرَ شهرًا.
وعن السُّدِّيِّ، أنَّ ذلكَ كانَ على رأسِ ثمانيةَ عشرَ شهرًا.
وقيلَ: كانَ بعدَ خمسةَ عشرَ شهرًا ونصف.
ولا خلافَ أنَّ ذلك كانَ في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ، لكن اختلفوا في أيِّ
شهرٍ كانَ؛ فقيلَ: في رجبٍ، كما تقدمَ، وحُكي ذلك عن الجمهورِ، منهم: ابنُ إسحاقَ.
وقيلَ: في يومِ الثلاثاءِ نصفَ شعبانَ، وحُكيَ عن قتادةَ، واختارَه محمدُ(1/118)
ابنُ حبيبٍ الهاشميُّ وغيرُهُ.
وقيلَ: بل كانَ في جُمادى الأولِ، وحُكيَ عن إبراهيمَ الحربيَ، ورواه
الزهريُّ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ كعبِ بنِ مالكٍ.
وقولُهُ: "وكان يعجبُه - يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن تكونَ قبلتُه قبلَ البيتِ " -
يعني: الكعبةَ.
هذا؛ يشهدُ له قولُ اللَّه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
وروى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ:
لما هاجرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، وكانَ أكثرَ أهلِهَا اليهودُ، أمرَهُ اللَّهُ أنْ يستقبلَ بيتَ المقدسِ، ففرحتِ اليهودُ، فاستقبلَها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بضعةَ عشر شهرًا، فكانَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحبُ قبلة إبراهيمَ، فكانَ يدعو وينظرُ إلى السماءِ.
فأنزلَ اللَّهُ: (قَذ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآية.
وقالَ مجاهد: إنَّما كان يحبُّ أنْ يُحوَّل إلى الكعبة، لأنَّ يهودَ قالُوا:
يخالفُنا محمد ويتبعُ قبلَتنا.
وقالَ ابنُ زيد: لمَّا لْزلَ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) .
قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هؤلاءِ قومُ يهود يستقبلون بينًا من بيوت اللَّهِ - لبيتِ المقدسِ - لو أئا استقبلناه "، فاستقبلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ستةَ عشرَ شهرًا، فبلغَه أن اليهود تقولُ:
واللهِ، ما درى محمد وأصحابُهُ أين قبلتُهُم حتَّى هديناهم، فكرهَ ذلك النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - ورفع وجهَه إلى السماءِ، فنزلتْ هذه الآية ُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .(1/119)
ويشهدُ لهذا: ما في حديثِ البراءِ: "وكانتِ اليهودُ قد أعجبَهم إذْ كان
يصلِّي قِبلَ بيتِ المقدسِ وأهلُ الكتابِ - يعني: من غيرِ اليهودِ، وهُم
النصارَى - فلمَّا ولَّى وجهَه قِبلَ البيتِ أنكرُوا ذلك ".
وقد اختلفَ الناسُ: هل كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ قبلَ هجرتِهِ يصلِّي إلى بيتِ المقدسِ، أو إلى الكعبة؟
فرُوي عن ابنِ عباسٍ، أنَّه كانَ يصلِّي بمكةَ نحوَ بيتِ المقدسِ، والكعبةُ بينَ
يديه.
خرَّجه الإمام أحمدُ.
وقال ابنُ جُرَيج: صلَّى أول ما صلَّى إلى الكعبةِ، ثم صُرِفَ إلى بيتِ
المقدسِ، وهو بمكةَ، فصلَّتِ الأنصارُ قبْلَ قدومِهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتِ المقدسِ ثلاثَ حجج، وصلَّى بعد قدومِهِ ستةَ عشرَ شهرًا، ثم وجَّههُ اللَّهُ إلى البيت الحرامِ.
وقال قتادةُ: صلتِ الأنصارُ قبلَ قدومِهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ نحوَ بيتِ المقدسِ حولينِ.
واستدل من قال: إنَّما صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتِ المقدسِ ستةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا، فدل على أنَّه لم يصلِّ إليه غيرَ هذهِ المدة.
ولكن قد يقال: إنَّه إنَّما أرادَ بعدَ الهجرةِ.(1/120)
ويدلُّ عليه - أيضًا -: أن جبريلَ صلَّى بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ ما فُرضتِ الصلاةُ عند بابِ البيتِ، والمصلِّي عند بابِ البيتِ لا يستقبلُ بيتَ المقدس، إلا أن ينحرفَ عن الكعبةِ بالكليَّة ِ، ويجعلُها عن شمالِهِ، ولم ينقلْ هذا أحد [] .
وهؤلاءِ" منهم مَن قال: ذلكَ كانَ باجتهادٍ منه لا بوحي، كما تقدمَ عن
ابنِ زيدٍ.
وكذا قالَ أبو العاليةَ: إنَّه صلَّى إلى بيتِ المقدسِ يتألفُ أهلَ الكتابِ.
وفي "صحيح الحاكم " عن ابنِ جريج، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ:
(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فاستقبل رسولُ
اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى نحوَ بيت المقدسِ.
وتركَ البيتَ العتيقَ، فقالَ الله تعالى:
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) .
يعنونَ: بيتَ المقدسِ، فنسخَها اللَّهُ وصرفَه إلى بيتِ العتيقِ.
وقال: صحيح على شرطِهِما.
وليس كما قال " فإنَّ عطاءً هذا هو الخُراسانيُّ، ولم يلقَ ابنَ عامرٍ.
كذا وقعَ مصرَحًا بنسبَتِهِ في "كتاب الناسخ والمنسوخ " لأبي عبيدٍ، ولابنِ
أبي داودَ، وغيرِهِما.
وقولُ البراءِ: "وكانَ أول صلاة صلاها العصرَ".
يعني: إلى الكعبةِ، بعدَ الهجرةِ.
وقد رُوي عن عمارةَ بنِ أوسٍ - وكانَ قد صلَّى القبلتينِ -، قالَ: كنَّا في(1/121)
إحدى صلاتَي العشيِّ ونحنُ نصلِّي إلى بيت المقدسِ، وقد قضيْنَا بعضَ
الصلاةِ، إذْ نادى منادٍ بالبابِ: إنَّ القبلةَ قد حُوّلتْ، فأشهدُ على إمامِنا أنَّه
تحرَف.
خرَّجه الأثرمُ وغيرُهُ.
وخرَّج الأثرمُ وابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ تُوَيْلة بنت أسلمَ، قالت:
صليتُ الظهرَ - أو العصرَ - في مسجدِ بني حارثةَ، فاستقبلْنَا مسجدَ إيلياءَ.
فصليْنَا سجدتينِ، ثمَّ جاءنا مَن يخبرُنا أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قد استقبلَ البيتَ الحرامَ، فتحوَّل النساءُ مكانَ الرجال، والرجال مكانَ النساء، فصَلَّيْنَا السجدتينِ الباقيتينِ، ونحنُ مستقبلو البيتِ الحرامِ.
وقد رُوي أن هذه الصلاةَ كانتْ صلاةَ الفجرِ.
ففي "الصحيحينِ " عن ابنِ عمرَ، قال: بينَا الناسُ بقباءَ في صلاةِ
الصبح، إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قدْ أُنزل عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يستقبلَ الكعبة، فاسْتَقْبِلُوها، وكانتْ وجوهُهُم إلى الشامِ، فاستدارُوا إلى الكعبة.
وخرَّج مسلمٌ - معناه - من حديث أنس - أيضًا.(1/122)
وقد قيلَ - في الجمع بينَ الأحاديثِ -: إنَّ التحويلَ كان في صلاةِ العصرِ.
ولم يبلغْ أهلَ قباءَ إلا في صلاةِ الصبح.
وفيه نظرٌ.
وقيلَ: إنَّ تلكَ الصلاةَ كانتِ الظهرَ.
وقد خرَّجه النسائيُّ فى "تفسيرِه " من حديث أبى سعيد بن المعلَّى، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
ورُوي عن مجاهدٍ.
وحديثُ البراءِ: يدل على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاةَ العصرِ كلَّها إلى الكعبةِ، وأنَّ الذين صلَّوْا إلى بيتِ المقدسِ ثمَّ استدارُوا إلى الكعبةِ هُم قومٌ كانوا في مسجد لهمْ، وراءَ إمامٍ لهم، وفي حديثِ ابنِ عمرَ: أنَّهم أهلُ مسجدِ قباءَ، وفي حديثِ تويلة: مسجدِ بني حارثةَ.
وقد رُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومَن صلَّى معه هم الذينَ استدارُوا في صلاتهم، وأنَّ الكعبة حُوّلتْ في أثناءِ صلاتِهِم.
وقد رُوي نحوُه عن مجاهدٍ وغيره.
وقد ذكرَ ابنُ سعدٍ في "كتابِهِ "، قال: يقالُ: إنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين من الظهرِ في المسجدِ بالمسلمين، ثم أُمِرَ أن يتوجهَ إلى المسجد الحرامِ، واستدارَ إليه ودارَ معه المسلمون، ويقال: بل زارَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أمًّ بشرِ بنِ البراءِ بنِ معرور(1/123)
في بني سلمةَ، فصنعتْ لهم طعامًا، وكانت الظهرُ، فصلَّى
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابِهِ ركعتينِ، ثم أُمِرَ أنْ يوجه إلى الكعبةِ، فاستدارَ إلى الكعبةِ، واستقبلَ الميزابَ، فسُمِّي المسجدُ مسجدَ القبلتينِ.
وحَكَى عن الواقديّ، أنَّه قال: هذا الثبتُ عندنا.
وروى أبو مالكٍ النخَعيُّ عبدُ الملكِ بنُ حسينٍ، عن زيادِ بنِ عِلاقةَ، عن
عمارةَ بنِ رُويبةَ، قال: كُنَّا معَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَي العشيِّ، حينَ صُرِفتِ القبلةُ، فدارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ودُرْنَا معه في ركعتينِ.
خرَّجه ابنُ أبي داود.
وأبو مالكٍ، ضعيف جدًّا.
والصوابُ: روايةُ قيسِ بنِ الربيع، عن زيادِ بنِ علاقةَ، عن عمارةَ بنِ
أوسٍ، وقد سبق لفظُه.
ورَوى عثمانُ بنُ سعدٍ، قال: ثنا أنسُ بنُ مالكٍ، قالَ: انصرفَ رسولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - نحوَ بيتِ المقدسِ وهو يصلِّي الظهرَ، وانصرفَ بوجهه إلى القبلةِ.
خرَّجه البزارُ وغيرُهُ.
وعثمانُ هذا، تُكُلِّمَ فيه.
وخرَّج الطبرانيّ من روايةِ عمارةَ بنِ زاذانَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ،(1/124)
قال: صُرفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن القبلةِ وهم في الصلاةِ، فانحرفُوا في ركوعِهم.
وعمارةُ، ليسَ بالقويِّ.
وخالفَه حماد بنُ سلمةَ، فروى عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، فنزلتْ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآيةَ، فمرَّ رجلٌ من بني سلمةَ وهم ركوع في صلاةِ الفجرِ، فنادَى: ألا إنَّ القبلةَ قد حُوِّلت، فمالُوا كما هُمْ نحوَ القبلةِ.
خرَّجه مسلمٌ.
وهذا هو الصحيحُ.
فإنْ كانَ التحويلُ قد وقعَ في أثناءِ الصلاةِ، وقد بنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ما مضى من صلاتِه إلى بيت المقدسِ؛ استدلَّ بذلكَ على أنَّ الحكمَ إذا تَحوَلَ المصلِّي في أثناء صلاتِهِ انتقلَ ما تحوَّل إليه، وبنى على ما مضى من صلاته.
فيدخلُ في ذلكَ الأَمَةُ إذا أُعتِقَتْ في صلاتِها وهي مكشوفةُ الرأسِ.
والسترة قريبةٌ، والمتيممُ إذا وجدَ الماءَ في صلاتِهِ قريبًا، وقدرَ على الطهارةِ بهِ، والمريضُ إذا صلَّى بعضَ صلاتِهِ قاعدًا، ثم قدرَ على القيامِ.
وإنْ كانَ التحويلُ وقعَ قبلَ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابِهِ، ولكن لم يبلغْ غيرَهم إلا في أثناءِ صلاتِهِم فبنَوْا؛ استدلَّ به على أن من دخلَ في صلاتِه باجتهادٍ سائغ إلى جهةٍ، ثمَّ تبينَ لهُ الخطأُ في أثناءِ الصلاةِ، أنَّه ينتقل ويبني.
ويستدلُّ به على أنَّ حكمَ الخطابِ لا يتعلقُ بالمكلفِ قبلَ بلوغِهِ إياه.(1/125)
ويستدلُّ بهِ - على التَّقْديرَينِ - على قبولِ خبرِ الواحدِ الثقةِ في أمورِ
الدياناتِ، مع إمكانِ السماع منَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بغيرِ واسطةٍ، فمع تعذرِ ذلكَ أولَى وأحرى.
وما يقالُ من أنَّ هذا يلزمُ منه نسخُ المتواترِ - وهو الصلاةُ إلى بيتِ
المقدسِ - بخبرِ الواحدِ، فالتحقيقُ في جوابِهِ: أنَّ خبرَ الواحدِ يفيدُ العلمَ إذا
احتفتْ بهِ القرائنُ، فنداءُ صحابيًّ في الطرقِ والأسواقِ بحيثُ يسمعُهُ
المسلمونَ كلُّهم بالمدينةِ، ورسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بها موجود لا يتداخل مَن سمِعَه شكّ فيه أنَّه صادق فيما يقولُهُ وينادي به. واللَّهُ أعلم.
وقولُ البراءِ: "إنَّه ماتَ على القبلةِ قبلَ أن تُحوَّل رجالٌ وقُتِلُوا، فلم ندرِ ما
نقولُ فيهم، فأنزلَ اللَّهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضيعَ إِيمَانَكمْ) ".
فهذا خرَّجه مسلمٌ من طريقِ إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عنِ البراءِ -
أيضًا.
ورواه شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ - موقوفًا - في قولِهِ تعالى:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ) ، قالَ: صلاتكم إلى بيتِ المقدسِ.
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ - وصحَّحه - من حديثِ
سماكٍ، عن عكرمةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، قال: لما وُجِّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبةِ، قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، كيفَ بإخوانِنا الذَيْنَ ماتُوا وهُم يصلونَ إلى بيتِ(1/126)
المقدسِ؛ فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الآية.
قالَ عبيدُ اللَّه بنُ موسى: هذا الحديثُ يخبرُكَ أن الصلاةَ من الإيمانِ.
وهذا هو الذي بوَّبَ عليه البخاريُّ في هذا الموضع؛ ولأجلهِ ساقَ حديثَ
البراءِ فيه.
وكذلك استدلَّ به ابنُ عيينةَ وغيرُهُ من العلماءِ على أنَّ الصلاةَ من الإيمانِ.
وممَّن رُويَ عنه أنَّه فسَّر هذه الآيةَ بالصلاةِ إلى بيتِ المقدسِ: ابنُ عباسٍ
من روايةِ العوفيِّ، عنه - وسعيدُ بنُ المسيبِ، وابنُ زيدٍ، والسُّدِّيُّ
وغيرُهُم.
وقال قتادةُ والربيعُ بنُ أنسٍ: نزلتْ هذه الآية ُ لمَّا قالَ قومٌ من المسلمينَ:
كيف بأعمالِنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟
وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بها الصلاةُ أيضًا؛ لأنَّها هي التى تختصُّ بالقبلة
من بينِ الأعمال، ولم يذكرْ أكثرُ المفسرينَ في هذا خلافًا، وأنَّ المرادَ بالإيمانِ
ها هنا الصلاةُ، فإنَّها عَلمُ الإيمانِ وأعظمُ خصالِهِ البدنيةِ.
وروى ابنُ إسحاقَ: حدثني محمدُ بنُ أبي محمدٍ، عن عكرمة أو سعيدِ
ابنِ جبير -، عن ابنِ عباسٍ: (وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) .(1/127)
قال: أيْ: بالقبلةِ الأولى، وتصديقِكم نبيَّكم، واتِّباعه إلى الآخرةِ، أيْ: ليعطينَكم أجرَهما جميعًا، (إِنَّ اللهَ بِالناسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ) .
وعنِ الحسنِ في هذه الآيةِ، قالَ: ما كانَ اللَّهُ ليضيعَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وانصرافَكم معه حيثُ انصرفَ، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ) .
وهذا القولُ: يدلُّ على أنَّ المرادَ بالإيمانِ التصديقُ مع الانقياد، الاتباعُ
المتعلقُ بالقبلتينِ معاً، فيدخلُ في ذلكَ الصلاةُ - أيضًا.
* * *
قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ - كلاهُما - عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ لأهلِ ذكرِ اللَّهِ أربعا: تنزلُ عليهمُ السَّكينةُ، وتغشاهمُ الرَّحمةُ، وتحفُّ بهم الملائكةُ، ويذكرُهُم الرَّبُّ فيمن عندَهُ".
وقد قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، وذِكْرُ اللَّهِ
لعبدِهِ: هو ثناؤهُ عليهِ في الملإِ الأعلَى بين الملائكةِ ومباهاتُهُم به وتنويهُهُ
بذكره.
قال الربيعُ بنُ أنسٍ: إنَّ اللَّهَ ذاكر مَنْ ذكرهُ، وزائد مَنْ شكَرَهُ، ومعذِّب من
كفره.
وقال عزَ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .(1/128)
وصلاةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ على العبدِ: هو ثناؤهُ عليهِ بين ملائكته.
وتنويههُ بذكر، كذا قالَ أبو العاليةَ، ذكرهُ البخاريُّ في "صحيحِهِ ".
وقالَ رجل لأبي أمامةَ: رأيتُ في المنامِ كأن الملائكةَ تُصلّي عليكَ كلَّما
دخلتَ، وكلَّما خرجتَ، وكلَّما قمتَ، وكلَّما جلستَ، فقالَ أبو أمامةَ:
وأنتم لو شئتم صلَّت عليكم الملائكةُ، ثم قرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ) .
* * *
قالَ تعالى: (وَاشْكرُوا لِي وَلا تَكْفُرونِ) ، وقال: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) .
والشكرُ بالقلب واللسانِ، والعملُ بالجوارح؛ فالشكرُ بالقلبِ: الاعترافُ
بالنعم للمنعم، وأَنها منه وبفضلِهِ.
وجاءَ من حديثِ عائشةَ مرفوعًا: "ما أنعمَ اللَّهُ على عبد نعمةً فعلمَ أنَّها من عندِ اللَّهِ إلا كتبَ اللَهُ له شكرَهَا".
ومن الشكر بالقلبِ: محبةُ اللهِ على نعمِهِ، ومنه حديثُ ابنِ عباسٍ
المرفوعُ: "أحبوا اللَّهَ لما يغذوكُم به من نعمِهِ ".
قالَ بعضُهم: إذا كانتِ القلوبُ جبلتْ على حبِّ من أحسنَ إليهَا
فواعجبًا لمنْ لا يَرى محسِنًا إلا اللَّه! كيف لا يميلُ بكلِّيته إليه! وقالَ بعضُهم:(1/129)
إذا أنتَ لم تَزْددْ على كلِّ نعمة. . . لمؤتِيكَهَا حبًّا فلستَ بشَاكرٍ
إذا أنتَ لم تؤثرْ رِضا اللهِ وحدَهُ. . . على كلِّ ما تهْوَى فلستَ بصَابرٍ
والشكرُ باللسانِ: الثناءُ بالنعم وذكرُها وتعدادُها، وإظهارُهَا، قالَ اللَّهُ
تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) . وفي حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ
المرفوع: "التحدثُ بالنعم شكر وتركُها كفر".
وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: "ذكرُ النعم شكرُها".
وكانَ يقولُ في دعائِهِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بكَ أن أُبدلَ
نعمتَكَ كُفرًا، وأن أكفرَهَا بعد معرفتِهَا أو أنسَاهَا فلا أُثنِي بهَا".
قال فضيلٌ: "كانَ يُقال: مِن شكرِ النعمةِ أن تحدِّثَ بهَا"
وجلسَ ليلةً هو وابنُ عيينةَ يتذاكرنِ النعمَ إلى الصباح.
والشكرُ بالجوارح: أن لا يستعانَ بالنعم إلا على طاعةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وأن
يحذرَ من استعمالِهَا في شيءٍ من معاصِيه؛ قالَ تعالَى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شكْرًا) .
قال بعضُ السلف: "لما قيلَ لهم هذا؛ لم تأتِ عليهم ساعةٌ
إلا وفيهم مُصَلٍّ.
وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقومُ حتى تتورمَ قدماهُ.
وقالَ: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا".
ومرَّ ابنُ المنكدرِ بشابٍ يقاومُ امرأةً، فقالَ: "يا بنيَّ ما هذا جزاء نعمةِ اللَّهِ
عليكَ ".
العجبُ ممَّنْ يعلمُ أنَّ كلَّ ما بِهِ من النعم من اللَّهِ ثمَّ لا يستحيي من
الاستعانةِ بها على ارتكابِ ما نهاهُ.(1/130)
هبِ البعثَ لم تأتِنا رسلُهُ. . . وجَاحِمَةُ الجحيم لم تُضرَمِ
أليسَ من الواجبِ المسْتَحِقِّ. . . حياءُ العبادِ من المُنعِمِ
وحافظْ عليها بشكرِ الإلهِ. . . فشكرُ الإله يزيلُ النقمِ
دخلَ خالدُ بنُ صفوانَ على عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فقالً: يا أميرَ المؤمنينَ.
إنَّ اللَّهَ لم يرضَ أن يكونَ أحدٌ فوقك، فلا ترضَ أن يكونَ أحدٌ أولى بالشكر
له منكَ. فبكى عمرُحتى غُشِيَ عليهِ.
* * *
قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
الرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه، مستحبٌّ، والصبرُ واجبٌ على المؤمنِ حتمٌ.
وفي الصَّبرِ خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ اللَّه أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجرِ.
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا يُوَفَى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
وقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) .
قال الحسنُ: الرِّضا عزيزٌ، ولكنَّ الصبر معولُ المؤمنِ.
والفرقُ بين الرِّضا والصبرِ: أن الصَّبرَ: كفُّ النَّفس وحبسُها عن
التسخطِ مع وجودِ الألم، وتمنِّي زوالِ ذلكَ، وكفُّ الجوارح عن العملِ
: بمقتضَى الجزع، والرِّضا: انشراحُ الصدرِ وسعتُهُ بالقضاءِ، وترك تمنَي زوالِ ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسَ بالألمِ، لكنَّ الرِّضا يخفِّفُه، لما يباشر(1/131)
القلبَ من رَوح اليقينِ والمعرفةِ، وإذا قوِيَ الرِّضا، فقد يزيلُ الإحساسَ بالألم
بالكليّة.
كان العقلاءُ في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعُوا كلامَهُ وما يدعُو إليه، عرفُوا أنَّه صادقٌ، وأنَه جاء بالحقًّ، وإذا سمعُوا كلامَ مسيلمةَ، عرفُوا أنَه كاذبٌ، وأنَّ هجاءَ بالباطلِ، وقد رُويَ أن عمرَو بنَ العاصِ سمعُهُ قبلَ إسلامِهِ يدَّعي أنَّه أنزلَ عليه: يا وَبْرُ يا وَبْر، لَكِ أذنانِ وصَدْرُ، وإنَّك لتعلمُ يا عمرُو، فقالَ:
واللَّه إني لأعلم أنك: تكْذِبُ.
وقال بعضُ المتقدمينُ: صوِّرْ ما شئتَ في قلبِكَ، وتفكَّر فيهِ، ثم قِسه إلى
ضدِّه، فإنَّك إذا ميَّزْتَ بينهُمَا، عرفتَ الحقَّ من الباطلِ، والصدقَ من
الكذبِ، قال: كأنك تصَورُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ثم تتفكر فيما أتَى به من القرآنِ
فتقرأُ: (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) الآية، ثم تَتَصورُ ضدَّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - تجدُهُ مسيلمةَ، فتتفكرُ فيما جاء به فتقرأُ:
ألا يا رَبَّةَ المَخْدع. . . لقَدْ هُيئ لَكِ المَضْجَعْ
يعني: قولَه لِسجاح حين تزوَّج بِهَا، قال: فترى هذا - يعني القرآن -
رصينًا عجيبًا، يلوطُ بالقلبِ، ويحْسُنُ في السمع، وترى ذا - يعني قولَ
مسيلمةَ - باردًا غثًّا فاحشًا، فتعلمُ أن محمَّدًا حق أُتِيَ بوحي، وأنَّ مسيلمةَ
كذَّابٌ أُتِيَ بباطلٍ.
* * *(1/132)
قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[قالَ البخاريُّ] : وقوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلى قوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .
وأمور الإيمانِ: خصالُهُ وشُعَبُهُ المتعددة.
واستدل البخاريُّ بقولهِ تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .
وقد سألَ أبو ذر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الإيمانِ.
فتلا عليهِ هذهِ الآيةَ.
وهذا يدلُّ على أن الخصالَ المذكورةَ فيها، هي خصالُ الإيمانِ المطلقِ، فإذا
أطلقَ الإيمانُ دخلَ فيه كلُّ ما ذكرَ في هذهِ الآيةِ، كما سألَ السائلُ عن
الإيمانِ، فتلا عليهِ النبى - صلى الله عليه وسلم - هذهِ الآيةَ.
وإذا قُرن الإيمانُ بالعملِ، فقد يكونُ من بابِ عطفِ الخاص على العامَ.
وقد يكون المرادُ بالإيمانِ حينئذٍ التصديقَ بالقلبِ، وبالعملِ عملَ الجوارح.
كما ذكرَ في هذهِ الآيةِ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ، ثمَّ عطفَ عليه أعمالَ الجوارح.(1/133)
والبرُّ يطلقُ بمعنيينِ:
أحدهما: بمعنى الإحسانِ إلى الناسِ، كما يُقال: البرُّ والصِّلةُ، وضدُّه
العُقُوقُ.
وفي "صحيح مسلم " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنِ البِرِّ، فقالَ: "البرُّ: حُسْنُ الخُلُق".
وكان ابنُ عمرَ - رضي الله عنها - يقولُ: إنَّ البرَّ شيْء هيِّنٌ: وجْهٌ طليق، وكلام ليِّنٌ.
المعنى الثاني: مما يُرادُ بالبِرِّ فعْلُ الطَّاعاتِ كُلّها، وضدُّهُ الإثمُ، وقد فسَّر اللهُ
تعالى البِرَّ بذلك في قولِهِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .
فتضمَّنتِ الآية ُ أنَّ أنواعَ البِرِّ ستَّةُ أنواع، مَن استكملهَا فقد استكمَلَ البِرَّ.
أولها: الإيمانُ بأصولِ الإيمانِ الخمسةِ.
وثانيها: إيتاءُ المالِ المحبوبِ لذوي القُرْبَى واليتامى والمساكين وابنِ السبيلِ
والسَّائلين وفي الرقاب.
وثالثُها: إقامُ الصلاةِ.
ورابعُها: إيتاءُ الزكاةِ.
وخامسُها: الوفاءُ بالعهدِ.
وسادسُها: الصَّبْرُ على البأساءِ والضَّرَّاءِ وحين البأس.(1/134)
وقال إبراهيمُ التيميُّ: ما من عبدٍ وهبَهُ اللَّهُ صبرًا على الأذى، وصبرًا على
البلاءِ وصبرًا على المصائبِ، إلا وقد أُوتي فضلاً، ما أوتيهِ أحدٌ بعدَ الإيمانِ
باللَّه عز وجلَّ.
وهذا منتزعٌ من قولِه تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
والمرادُ بالبأساءِ: الفقرُ ونحوُه، وبالضَّرَّاءِ. المرضُ ونحوُه.
وحينَ البأسِ: حالُ الجهادِ.
وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: ما أنعمَ اللَّه علَى عبدٍ نعمةً فانتزعَهَا منه.
فعاضَهُ مكانَ ما انتزعَ منه الصبرَ إلا كانَ ما عوضَهُ خيرًا مما انتزعَ منه، ثم
تلا: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
وكان بعضُ الصالحينَ في جيبهِ ورقةٌ يفتحُهَا كلَّ ساعةٍ فينظرُ فيها، وفيها
مكتوبٌ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) .
والصبرُ الجميلُ هو أن يكتمَ العبدُ المصيبةَ ولا يخبرَ بِهَا.
قالَ طائفةٌ من السلفِ في قولِهِ تعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، قال: لا شكوى معه.
* * *
قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
وقد أمرَ اللَّه سبحانه وتعالى عبادَهُ بشُكْر نعمةِ صيام رمضانَ بإظهارِ ذكْرِهِ.
وغيرِ ذلكَ من أنواع شكرِهِ، فقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)(1/135)
فمن جملةِ شكرِ العبْدِ لربِّه على توفيقِه لصيامِ
رمضانَ وإعانتِهِ عليه ومغفرةِ ذنوبِهِ أنْ يصومَ له شكرًا عقيب ذلكَ.
كانَ بعضُ السلفِ إذا وُفِّقَ لقيام ليليةٍ من الليالي أصبَحَ في نهارِهَا صائمًا.
ويجعلُ صيامَه شكرًا للتوفيق للقيامِ.
وكان وهيبُ بنُ الوردِ يُسأل عن ثوابِ شيء من الأعمالِ، كالطوافِ
ونحوه، فيقول: تسألوا عن ثوابِهِ؟! ولكنْ سلُوا ما الذي على مَن وُفِّقَ لهذا
العملِ من الشكرِ، للتوفيقِ والإعانةِ عليهِ؟!
إذا أنْتَ لم تَزْدَدْ على كُلِّ نعْمَةٍ. . . لموليكها شكْرًا فلسْتَ بشاكرٍ
كُلُّ نعمةٍ على العبدِ منَ اللهِ في دِينٍ أو دنيا يحتاجُ إلى شكرٍ عليها، ثمَّ
التوفيقُ للشكرِ عليها نعمةٌ أخرى تحتاجُ إلى شكرٍ ثانٍ، ثم التوفيقُ للشكر
الثاني نعمةٌ أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا فلا يقدِرُ العبادُ على
القيامِ بشكْرِ النعم.
وحقيقةُ الشُّكْرِ الاعترافُ بالعجزِ عن الشكر، كما قيل:
إذا كان شكْري نعْمةَ اللَّهِ نعْمَةً. . . عليَّ لَهُ في مِثْلِها يجبُ الشُّكْرُ
فكيفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إلا بفَضْلِهِ. . . وإن طالتِ الأيَّامُ واتَصَلَ العُمْرُ
قال أبو عمرٍو الشيبانيُّ: قالَ موسى - عليه السلامُ - يومَ الطُّور: يا ربّ!
إنْ أنا صليتُ فَمِن قِبَلِكَ، هان أنا تصدَّقْتُ فمن قبَلكَ، وإن بلَّغْتَ رسالاتك
فَمِنْ قِبَلِكَ، فكيف أشكرك؟
قال: يا موسى، الَآنَ شكرتَني، فأمَّا مقابلة نعمة التوفيق لصيامِ شهر رمضانَ بارتكابِ المعاصي بعده، فهو من فِعْلِ مَن بدَّلَ نِعْمةَ اللَّهِ كفرًا، فإن كان قد عَزَمَ في صيامِهِ على معاودةِ المعاصِي بعدَ انقضاءِ الصيامِ، فصيامُه عليه مردودٌ، وبابُ ألرَّحمةِ في وجههِ مسدودٌ.
قال كعبٌ: مَن صامَ رمضانَ وهو يُحدِّثُ نفسَهُ أنَّه إن أفطر رمضانَ(1/136)
أن لا يعصِي اللَّهَ، دخلَ الجنةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حساب، ومَن صامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر عصَى ربَّه، فصيامُه عليه مردودٌ.
* * *
لمَّا كانتِ المغفرةُ والعِتْقُ من النارِ كلٌّ منهما مرتبًا على صيامِ رمضانَ
وقيامِهِ، أمرَ اللَّهُ سبحانَه وتعالى عندَ إكمالِ العدَّةِ بتكبيره، وشكره، فقال:
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكمْ تَشْكُرُونَ) .
فشُكْرُ من أنعَمَ على عبادِهِ بتوفِيقهِم للصيامِ، وإعانتِهِم عليه، ومغفرتِه لهم
بهِ، وعتقهِم من النَّارِ، أن يذكُروه ويشكروه ويتَّقوه حقَّ تُقَاتِهِ.
وقد فسَّرَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللَهُ عنه تقواه حقَّ تُقاتِهِ بأنْ يطاعَ فلا يُعْصَى، ويذكرَ فلا يُنْسى، ويُشكرَ لا يُكْفَر.
فيا أربابَ الذُّنوبِ العظيمةِ! الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمةِ؛ فما
منها عوضٌ ولا لها قيمةٌ، فكم يعتقُ فيها من النَّارِ من ذي جريرة وجريمة.
فمن أُعتقَ فيها من النَّارِ فقد فازَ بالجائزةِ العميمةِ والمنحةِ الجسيمةِ.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
وقد أخبرَ اللَّهُ تعالَى بقربِهِ ممن دعاهُ، وإجابتِهِ لهُ، فقالَ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .
وقد رُوي في سببِ نزولهَا: أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أقريبٌ ربُّنا
فنناجيهِ، أم بعيدٌ فننادِيهِ؟
فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) .(1/137)
خرَّجه ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حادمٍ.
وروى عبدُ الرزاقِ، عن جعفرِ بنِ سليمانَ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال:
سالَ أصحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: أين ربُّنا؟ فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَاْ سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب) .
وروى عبدُ بنُ حميدٍ بإسنادِهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبيدِ بنِ عميرٍ، قالَ:
نزلتْ هذهِ الآية ُ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قالُوا: كيفَ لنا بهِ أن نلقَاهُ
حتى ندعُوه؟ فأنزلَ اللَّهُ عز وجل على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِذَا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .
فقالُوا: صدَق ربُّنا، هوَ بكلِّ مكانِ.
وقَد خرَّج البخاريُّ في "الدعوات " حديثَ أبي مُوسى، أنَهم رَفَعُوا
أصواتَهُم بالتكبير، فقالَ لَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّكم لا تدعونَ أصمَّ ولا غائبًا، إنَّكم تدعون سميعًا قريبًا".
وفي روايةٍ: "إنَّه أقربُ إليكُم من أعناقِ رواحِلِكُمْ ".
ولم يكنْ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يفهمونَ من هذهِ النصوصِ غيرَ المعنى الصحيح المرادِ بها، يستفيدونَ بذلكَ معرفةَ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ، واطلاعِهِ على عبادِهِ وإحاطتِهِ بهم، وقربِه من عابديهِ، وإجابتِه لدعائهِم، فيزدادونَ به خشيةً للَّهِ وتعظيمًا وإجلالاً ومهابةً ومراقبةً واستحياءً، ويعبدونَهُ كأنَّهم يرونَه.
ثم حدث بعدَهُم مَن قلَّ ورعُهُ، وساءَ فهمُهُ وقصدُهُ، وضعفت عظمةُ اللَّه
وهيبتُهُ في صدره، وأرادَ أن يُري الناسَ امتيازَهُ عليهم بدِقةِ الفهمِ وقوةِ النظرِ.(1/138)
فزعمَ أنَّ هذه النصوصَ تدلُّ على أن اللَّهَ بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ، كما يحكى
ذلك عن طوائفَ من الجهميةِ والمعتزلةِ ومن وافقَهُم، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون
علوًّا كبيرًا، وهذا شيءٌ ما خطرَ لمن كان قبلَهُم من الصحابة - رضي اللَّه
عنهم، وهؤلاءِ ممن يتبعُ ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويله " وقد حذَّر
النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَه منهم في حديثِ عائشةَ الصحيح المتفقِ عليهِ.
وتعلَّقُوا - أيضًا - بما فهمُوه بفهمهم القاصرِ مع قصدِهِم الفاسدِ بآياتٍ في
كتاب اللَّهِ، مثل قولِهِ تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كنتُمْ) .
وقولِهِ: (مَا يَكُون مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) .
فقالَ من قال من علماءِ السلفِ حينئذٍ: إنَّما أرادَ أنَّه معهم بعلمِهِ، وقصدُوا بذلكَ إبطالَ ما قالَهُ أولئكَ، مما لم يكنْ أحدٌ قبلهم قالَهُ ولا فهمَهُ من القرآنِ.
وممن قالَ: إنَّ هذهِ المعيةَ بالعلم مُقاتِلُ بنُ حيَّانَ، ورويَ عنه أنَه رواهُ عن
عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ.
وقاله الضحاكُ، قالَ: اللَّهُ فوقَ عرشِهِ، وعلمُهُ بكلِّ مكانٍ.
ورويَ نحوُه عن مالكٍ وعبدِ العزيزِ الماجشون والثوريِّ وأحمدَ وإسحاقَ
وغيرِهِم من أئمةِ السلفِ.
وروى الإمامُ أحمدُ: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نافع، قال: قالَ مالكٌ: اللَّهُ في
السماءِ، وعلمُهُ بكلِّ مكانٍ.
وروي هذا المعنى عن علي وابنِ مسعودٍ - أيضًا.
وقالَ الحسنُ في قولِهِ تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) .(1/139)
قالَ: علمُهُ بالناسِ.
وحكى ابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُهُ إجماعَ العلماءِ من الصحابةِ والتابعينَ في تأويلِ
قولِهِ: (وَهُوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) ، أنَّ المرادَ علمُهُ.
وكلُّ هذا قصدُوا به ردَّ قولِ من قالَ: إنَّه تعالى بذاتِهِ في كل مكانٍ.
وزعم بعضُ من تَحَذْلَقَ أنَّ ما قاله هؤلاءِ الأئمةُ خطأٌ، لأنَّ علم اللَّهِ صفةٌ
لا تفارقُ ذاتِهِ، وهذا سوءُ ظنٍّ منه بأئمةِ الإسلامِ؛ فإنَّهم لم يريدُوا ما ظنَّه
بهم، وإنما أرادُوا أن علمَ اللَّهِ متعلِّقٌ بما في الأمكنةِ كلِّها ففيها معلوماتِهِ، لا
صفةَ ذاتِهِ، كما وقعتِ الإشارةُ في القرآنِ إلى ذلكَ بقولِهِ تعالى: (وَسِعَ كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا) ، وقولِهِ: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا) .
وقولِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُج مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) .
وقالَ حربٌ: سألتُ إسحاقَ عن قولِهِ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ
رَابِعُهُمْ) ، قال: حيثُ ما كنتَ هو أقربُ إليكَ من حبلِ الوريدِ، وهو
بائِنٌ من خلقِهِ.
وروى عمرُ بنُ أبي سلمةَ، عن أبيه، أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ مرَّ بقاصٍّ وقد
رفعُوا أيدِيهم، فقالَ: ويلكم! إنَّ ربكم أقربُ ممَّا ترفعون، وهو أقربُ إلى
أحدِكُم من حبلِ الوريدِ.
وخرَّجه أبو نُعيمٍ، وعندَهُ: أنَّ المارَّ والقائلَ بذلك هو ابنُ عمرَ.
وخطبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، فذكرَ في خطبتِهِ: إنَّ اللَّهَ أقربُ إلى عبادِهِ
من حبلِ الوريدِ. وكانَ مجاهدٌ حاضِرًا يسمعُ، فأعجبه حسنُ كلامِ عمرَ.(1/140)
وهذا كلّه يدلُّ على أن قربَ اللَّه من خَلْقِهِ شاملٌ لهم، وقرئهُ من أهلِ
طاعتِهِ فيه مزيدُ خصوصيةٍ، كما أنًّ معيّتهُ مع عبادِهِ عامَّة حتى ممَّن عصاهُ.
قالَ تعالَى: (يَستَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِدْ يبَيِّتونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) ، ومعيّته مع أهلِ طاعتهِ خاصةً لهُم، فهو
سبحانه مع الذين اتقَّوا والذين هم محسنونَ.
وقال لموسى وهارونَ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وَأَرَى) .
وقال موسى: (إِنَّ مَعِيَ رَبِي سَيَهْدِينِ) .
وقال في حقِّ محمدٍ وصاحبِهِ: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
ولهذا قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ في الغارِ:
"ماظنُّك باثنينِ اللَهُ ثالثُهما".
فهذه معية خاصةٌ غيرَ قولِهِ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَة إِلَّا هو رَابِعُهُمْ) الآية، فالمعيَّةُ العامُّةُ تقتضِي التحذير من علمِهِ واطلاعِهِ وقدرتِهِ
وبطشِهِ وانتقامِهِ، والمعيةُ الخاصةُ تقتضِى حسنَ الظنِّ بإجابتِهِ ورضَاه وحفظِهِ
وصيانتِهِ، فكذلك القربُ.
وليسَ هذا القربُ كقربِ الخلقِ المعهودِ منهم، كما ظنَه من ظنه من أهلِ
الضلالِ، وإنَّما هو قربٌ ليسَ يشبهُ قربَ المخلوقينَ، كما أنَّ الموصوفَ به
(لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
وهكذا القولُ في أحاديث النزولِ إلى سماءِ الدنيا، فإنَه من نوع قربِ
الربِّ من داعيهِ وسائليهِ ومستغفريهِ.
وقد سئلَ عنه حماد بنُ زيدٍ، فقالَ هو في مكانِهِ يقربُ من خلقه كما
يشاءُ.(1/141)
ومرادُه أنَّ نزولَهُ ليس هو انتقال من مكانٍ إلى مكانٍ كنزول المخلوقينَ.
وقال حنبل: سألتُ أبا عبدِ اللَّه: ينزل اللَّهُ إلى سماءِ الدُّنيا؟
قال: نعم.
قلتُ: نزولُهُ بعلمِهِ أو بمَاذا؟
قال: اسكتْ عن هذا، مالكَ ولهذَا؛ أمْضِ
الحديثَ على ما رُوي بلا كيفٍ ولا حَدٍّ، إلا بما جاءت به الآثار، وجاءَ به
الكتابُ، قال اللَّهُ: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) ، ينزل كيفَ شاءَ.
بعلمِهِ وقدرتِهِ وعظمتِهِ، أحاطَ بكلِّ شيء علمًا، لا يبلغُ قَدْرَه واصفٌ، ولا
ينأَى عنه هَربُ هاربٍ، عزَّ وجلَّ.
ومرادُهُ: أنَّ نزولَهُ تعالى ليس كنزول المخلوقينَ، بل هو نزول يليقُ بقدرتِهِ
وعظمتِهِ وعلمِهِ المحيطِ بكلِّ شيءٍ، والمخلوقونَ لا يحيطونَ به عِلمًا، وإنَّما
ينتهونَ إلى ما أخبرهم به عن نفسِهِ، أو أخبرَ به عنه رسولُهُ.
فلهذا اتفقَ السلفُ الصالحُ على إمرارِ هذهِ النصوصِ كما جاءت من غيرِ
زيادةٍ ولا نقصٍ، وما أشكلَ فهمُهُ منها، وقصرَ العقلُ عن إدراكِهِ وُكِلَ إلى
عالمه.
* * *
قوله تعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
وقد قال طائفة من السَّلفِ في تفسيرِ قولِهِ تعالَى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) : إنه طلبُ ليلةِ القدرِ.
والمعنى في ذلكَ أنَّ اللَّهَ تعالى لما أباحَ مباشرةَ النِّساءِ في ليالي الصيامِ، إلى(1/142)
أنْ يتبيَّنَ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ، أمَرَ مَعَ ذلك بطلبِ ليلةِ القدْرِ.
لئلا يشتغلَ المسلمونَ في طولِ ليالِي الشهرِ بالاستمتاع المباح، فيفوتُهم طلبُ
ليلةِ القدْرِ، فأمرَ مع ذلكَ بطلبِ ليلةِ القَدْرِ بالتهجُّد من الليلِ، خصوصًا في
الليالِي المرجُوِّ فيها ليلةُ القَدْرِ، فمن هاهُنا كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصيبُ من أهلِهِ في العشرينَ من رمضانَ، ثم يعتزلُ نساءَه ويتفرغَّ لطلب ليلةِ القَدْرِ في العشر الأواخرِ.
* * *
قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حِمَى، وإنَّ حِمَى اللَّهِ محارمُهُ ":
هذا مَثَلٌ ضربَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنْ وقع في
الشبهاتِ، وأنَّه يقرُبُ وقوعُهُ في الحرامِ المحضِ، وفي بعضِ الرواياتِ أنَّ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"وسأضربُ لَكُم مثلاً" ثم ذكرَ هذا الكلامَ، فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المحرَّماتِ كالحِمى الَّذي تحميه الملوكُ، ويمنعونَ غيرَهم من قُربانِهِ، وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حولَ مدينتِهِ اثني عشرَ ميلاً حِمى محرَّمًا، لا يُقطعُ شجرُه، ولا يُصادُ صيدُه، وحَمَى عمرُ وعثمانُ أماكنَ ينبتُ فيها الكلأ لأجلِ إبلِ الصدقةِ.
واللَّهُ عزَّ وجلَّ حَمَى هذه المحرَّماتِ، ومنعَ عبادَهُ من قربانِهَا، وسمَّاها
حدودَه، فقالَ تعالَى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) .(1/143)
وهذا فيه بيانُ أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهُم وما حرَّم
عليهم، فلا يقربُوا الحرامَ، ولا يتعدَّوْا الحلالَ، ولذلكَ قالَ في آيةٍ آخرى:
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وجعلَ من يرعى حولَ الحِمى وقريبا منه جديرًا بأن يدخُلَ الحِمى ويرتعَ فيه.
فكذلكَ منْ تعدَّى الحلالَ، ووقعَ في الشبهاتِ، فإنَّه قد قاربَ الحرامَ غايةَ
المقاربةِ، فما أخلقَهُ بأن يُخالِطَ الحرامَ المحضَ، ويقع فيهِ، وفي هذا إشارةٌ إلى
أنَّه ينبغي التباعدُ عن الحرَّماتِ، وأنْ يجعلَ الإنسانُ بينه وبينها حاجزًا.
وقد خرَّج الترمذيُ وابنُ ماجةَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ يزيدَ عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتَقين حتى يدع ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأس".
وقال أبو الدرداءِ: تمامُ التقوى أن يتقي اللَّهَ العبدُ، حتَّى يتقيَه منْ مثقالِ
ذرَّةٍ، وحتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ، خشية أن يكون حرامًا، حجابًا
بينه وبيْنَ الحرامِ.
وقال الحسنُ: ما زالتِ التقوى بالمتقينَ حتى تركُوا كثيرًا من الحلالِ مخافةِ
الحرامِ.
وقال الثوريُّ: إنَّما سُموا "المتقين " لأنَّهم اتَّقوا ما لا يُتَّقى.
ورُوي عن ابنِ عمرَ قالَ: إنِّى لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرامِ سترة من الحلالِ لا أخرقُها.
وقال ميمونُ بنُ مهرانَ: لا يسْلَمُ للرجلِ الحلالُ حتى يجعلَ بينه وبين
الحرامِ حاجزًا من الحلالِ.
وقال سفيانُ بن عيينةَ: لا يصيبُ عبد حقيقةَ الإيمانِ حتى يجعلَ بينه وبين(1/144)
الحرامِ حاجزًا من الحلالِ، وحتى يدعَ الإثمَ وما تشابَهَ منه.
ويَستدلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهبُ إلى سدِّ الذرائع إلى المحرماتِ وتحريمِ
الوسائلِ إليها، ويدُلُّ على ذلكَ أيضًا من قواعدِ الشَّريعة تحريمُ قليلِ ما يُسكر
كثيرُه، وتحريمُ الخلوةِ بالأجنبيةِ، وتحريمُ الصَّلاةِ بعدَ الصُّبح وبعدَ العصرِ سدًّا
لذريعةِ الصَّلاةِ عند طلوع الشمسِ وعندَ غروبِهَا، ومنعُ الصَّائم من المباشرةِ إذا كانت تحرِّكُ شهوتَهُ، ومنعُ كثيرٍ من العلماءِ مباشرةَ الحائض فيما بين سرَّتها
ورُكبتِهَا إلا مِنْ وراءِ حائلٍ، كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ امرأتَه إذا كانت حائضًا أن تتَّزر، فيباشِرُها من فوق الإزارِ.
ومن أمثلةِ ذلكَ وهو شبيهٌ بالمثلِ الذي ضربَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من سيَّبَ دابَّتَه ترعى بقُرْبِ زرع غيره، فإنَّه ضامنٌ لما أفسدتْهُ من الزرع، ولو كانَ ذلك نهارًا.
هذا هو الصحيحُ، لأنَّه مفرط بإرسالِهَا في هذه الحالِ.
وكذا الخلافُ لو أرسلَ كلبَ الصَّيدِ قريبًا من الحرمِ، فدخل الحرمَ فصادَ
فيه، ففي ضمانِهِ روايتانِ عن أحمدَ، وقيل: يضمنُهُ بكلِّ حالٍ.
* * *
قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) .
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "النفقةُ(1/145)
في الحَجِّ كالنَّفقةِ في سبيلِ اللهِ بسبعمائةِ ضعفٍ".
وخرَّجه الطبرانيُّ من حديثِ أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "النفقةُ في سبيلِ اللِّهِ؛ الدِّرْهَمُ فيه بسبعمائةِ" ويُدلُّ عليه قولُهُ تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) .
ففيه دليلٌ على أنَّ النفقةَ في الحجِّ والعمرةِ تدخلُ في جملةِ النَّفقة في سبيلِ اللَّهِ. وقد كانَ بعضُ الصحابةِ جعلَ بعيرَهُ في سبيلِ اللَّهِ، فأرادتْ امرأتُهُ أن تحجَّ عليه، فقالَ لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"حجِّي عليه؛ فإنَّ الحجَّ في سبيلِ اللَّهِ ".
وقد خرَّجه أهلُ المسانيد والسنن من وجوهٍ متعدِّدةٍ، وذكره البخاريُّ تعليقًا، وهذا يستدل به على أنَّ الحجَّ يصرف فيه من سهمِ سبيلِ اللَّهِ المذكورِ في آيةِ الزكاةِ، كما هو أحدُ قولي العلماءِ، فيعطى من الزَّكاةِ من لم يحجَّ ما يحجُّ به. وفي إعطائِهِ لحجِّ التطوعُّ اختلافٌ بينهم أيضًا.
* * *
وقال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
قالَ ابنُ عمرَ: الفسوقُ: ما أصيبَ مِنْ معاصِي اللَّهِ صيدًا كانَ أو غيرُهُ،(1/146)
وعنه قالَ: الفسوقُ إتيانُ معاصِي اللَّهِ في الحرمِ.
وقال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) .
وكانَ جماعة من الصحابةِ يتَّقون سُكْنى الحرمِ، خشيةَ ارتكابِ الذُّنوبِ
فيه: منهمُ ابنُ عباسٍ، وعبدُ اللَّهِ بن عمرِو بنِ العاصِ، وكذلكَ كانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يفعلُ، وكانَ عبدُ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ يقولُ: الخطيئةُ فيه
أعظمُ.
ورُويَ عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قال: لأنْ أُخطى سبعينَ خطيئةً - يعني بغير مكةَ - أحبُّ إليَّ منْ أن أُخطئ خطيئةً واحدةً بمكةَ.
وعن مجاهدٍ قالَ: تُضاعفُ السيئاتُ بمكةَ كما تُضاعفُ الحسناتُ.
وقال ابنُ جريجِ: بلغني أن الخطيئةَ بمكةَ بمائةِ خطيئةٍ، والحسنةَ على نحو ذلكَ.
وقال إسحاقُ بنُ منصور: قلتُ لأحمدَ: في شيء من الحديثِ أنَ السيئةَ
تُكتبُ بأكثرَ منْ واحدةٍ؟ قالَ: لا، ما سمعْنا إلا بمكَّةَ لتعظيم البلدِ "ولو أنَّ
رجلاً بعَدنِ أبْيَنَ همَّ ". وقال إسحاقُ بنُ راهويه كما قالَ أحمدُ، وقولهُ: "ولو أنَّ رجلاً بعدنِ أبْينَ همَّ "، هو من قولِ ابنِ مسعود، وسنذكرُهُ فيما بعدُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
وقد تضاعفُ السيِّئاتُ بشرفِ فاعلِها، وقوَّةِ معرفتهِ باللَّهِ، وقُرْبِهِ منه، فإنَّ
من عصى السُّلطانَ على بساطه أعظمُ جُرْمًا ممَّن عصاهُ على بُعدٍ، ولهذا توعَّدَ
اللَّهُ خاصَّة عبادِهِ على المعصيةِ بمضاعفةِ الجزاءِ، وإن كانَ قد عصمَهم منها.
ليبيِّنَ لهُم فضلَهُ عليهم بعصمَتِهم منْ ذلكَ، كما قالَ تعالى:(1/147)
(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) .
وقال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) .
وكانَ عليٌّ بنُ الحسينِ يتأوَّلُ في آل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم مثك ذلك لقربِهِم من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
وقد رُويَ عن ابنِ عباسٍ، قالَ: كانَ أهلُ اليمنِ يَحُجُّون ولا يتزوَّدونَ.
ويقولونَ: نحن متوكِّلون، فيحجونَ، فيأتونَ مكةَ، فيسألونَ الناسَ، فأنزلَ
اللَّهُ هذه الآيةَ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) ، وكذا قالَ
مجاهد، وعكرمةُ، والنخعيُّ، وغيرُ واحدٍ من السلفِ، فلا يُرخَصُ في ترك
الكَسْبِ بالكليةِ إلا لمنِ انقطعَ قلبُه عن الاستشرافِ إلى المخلوقينَ بالكليةِ.
وقدْ رُويَ عن أحمدَ أنه سُئلَ عن التوكُلِ، فقالَ: قطعُ الاستشرافِ باليأسِ
من الخلقِ، فسُئلَ عن الحجةِ في ذلكَ، فقالَ: قولُ إبراهيمَ عليه السلامُ لما
عرضَ له جبريلُ وهو يُرْمَى في النارِ، فقالَ لهُ: ألكَ حاجة، فقالَ: أمَّا إليكَ
فلا.
وظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّ الكسبَ أفضلُ بكلِّ حالٍ، فإنَّه سُئلَ عمَّن يقعدُ ولا
يكتسبُ ويقولُ: توكَّلتُ على اللَّهِ، فقالَ: ينبغي للناسِ كُلِّهم يتوكَّلونَ على(1/148)
اللَّهِ، ولكنْ يعودونَ على أنفسِهِم بالكَسْبِ.
ورَوَى الخَلاَّلُ بإسنادِه عن الفضيلِ بنِ عِياضٍ أنَّهُ قيلَ لهُ: لو أن رجلاً قعدَ
في بيتِهِ زعمَ أنَّه يثقُ باللًّهِ، فيأتيِه برزقهِ، قالَ: إذا وثقَ باللَّهِ حتى يعلمَ منه أنَّه
قدْ وثقَ به لم يمنعْهُ شيءٌ أرادَهُ، لكنْ لم يفعلْ هذا الأنبياءُ ولا غيرُهم، وقد
كانَ الأنبياءُ يؤجَرون أنفسَهم، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يؤجِّرُ نفْسَه وأبو بكرٍ وعمرُ، ولم يقولوا: نقعدُ حتَّى يرزقُنا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
وقالَ اللَّهُ عزَّ وجل: (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) ، ولا بُدَّ من طلبِ المعيشةِ.
وقد رُوي عن بِشْرٍ ما يُشعرُ بخلافِ هذا، فرَوَى أبو نُعيمٍ في "الحلْيةِ" أنَّ
بشرًا سُئلَ عن التوكُلِ، فقالَ: اضطرابٌ بلا سكونٍ، وسكونٌ بلا اضطرابٍ، فقالَ له السائلُ: فسِّره لنا حتى نفقهَ، قالَ بشرٌ: اضطرابٌ بلا سكونٍ: رجلٌ يضطربُ بجوارحِهِ، وقلبُه ساكنٌ إلى اللَّهِ لا إلى عملِهِ، وسكونٌ بلا
اضطرابِ: فرجلٌ ساكنٌ إلى اللَّهِ بلا حركةٍ، وهذا عزيزٌ، وهوَ من صفاتِ
الأبدالِ.
* * *
قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
والاستغفارُ طلبُ المَغْفرةِ، والمغفرةُ هى وِقَايةُ شَرِّ الذنوبِ معَ سَترِهَا وقد
كثرُ في القرآنِ ذكرُ الاستغفارِ، فتارةً يؤمرُ به، كقولِهِ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وقولِهِ: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إِليه) .
وتارةً يمدحُ أهلَهُ، كقولِهِ: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) .
وقوله:(1/149)
(وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) .
وتارةً يذكرُ أن اللَّهَ يغفرُ لمن استغفرهُ، كقولِهِ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) .
وكثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبةِ، فيكونُ الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن
طلبِ المغفرةِ باللسانِ، والتوبةُ عبارةٌ عن الإقلاع عن الذنوبِ بالقلوبِ
والجوارح.
وتارةً يفردُ الاستغفارُ، ويُرتَّبُ عليه المغفرةُ، كما ذكرَ في هذا الحديثِ وما
أشبههُ، فقد قيلَ: إنَه أريدَ به الاستغفارُ المقترنُ بالتوبةِ، وقيلَ: إنَّ نصوصَ
الاستغفارِ المفردةَ كلَّها مطلقةٌ تُقيَّدُ بما يذكر في آيةِ "آلِ عمرانَ " من عدمِ
الإصرارِ؛ فإنَّ اللَّه وعدَ فيها المغفرةَ لمن استغفرَهُ من ذنوبِهِ، ولم يُصِرَّ على
فعلِهِ، فتُحْمَلُ النُصوصُ المطلقةُ في الاستغفارِ كلها على هذا المقيد.
ومجرَّدُ قولِ القائل: اللَّهُمَّ اغفر لي، طلبٌ منه للمغفرةِ ودعاءٌ بها، فيكونُ
حكمُهُ حكمَ سائرِ الدعاءِ، فإنْ شاءَ اللَّهُ أجابه وغفرَ لصاحبِهِ، لا سيما إذا
خرجَ عن قلبِ منكسرٍ بالذنبِ أو صادفَ ساعةً من ساعاتِ الإجابةِ كالأسحارِ وأدبارِ الصلواتِ.
ويُروَى عن لُقمانَ عليه السلامُ أنّه قالَ لابنِه: يا بنيَّ عَوِّدْ لسانكَ اللَّهمَّ
اغفرْ لي، فإنَّ للَّهِ ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلاً.
وقال الحسنُ: أكثِروا من الاستغفارِ في بيوتِكم، وعلى موائِدكم، وفي
طُرقِكُم، وفي أسواقِكُم، وفي مجالسِكُم أينما كُنتُم، فإنَّكم ما تدرونَ متى
تنزلُ المغفرةُ.(1/150)
وخرَّج ابن أبي الدنيا في كتاب " حسنِ الظنِّ " من حديثِ أبي هريرةَ
مرفوعًا: "بينما رجلٌ مستلقٍ إذْ نظرَ إلى السماءِ وإلى النجومِ، فقال: إني لأعلمُ أن لكِ ربًّا خالِقًا، اللَّهُمَّ اغفرْ لي، فغفرَ له ".
وعن مُوَرِّقٍ قالَ: كانَ رجلٌ يعملُ السيئاتِ، فخرجَ إلى البريةِ، فجمعَ
ترابًا، فاضطجَعَ عليه مستلقيًا، فقالَ: ربِّ اغفرْ لي ذنوبي، فقالَ: إنَّ هذا
ليعرفُ أنَّ له ربَّا يغفرُ ويعذِّب، فغفرَ له.
وعن مُغيثِ بنِ سُميٍّ، قالَ: بينما رجلٌ خبيثٌ، فتذكر يومًا، فقال: اللَّهمَّ
غُفرانَك، اللَّهمَّ غفرانَك، اللَّهمَّ غفرانَك، ثم ماتَ فغُفِر له.
ويشهد لهذا ما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ عبدًا أذنَبَ ذنبا، فقالَ: ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفرْ لي.
قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: عَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذُ به، غفرتُ لعبدِي، ثمَّ مكثَ ما شاء الله، ثم أذنبَ ذنبًا آخر فذكرَ مثل
الأولِ مرتينِ أُخريينِ "
وفي روايةٍ لمسلمٍ أنه قالَ في الثالثةِ: "قد غفرتُ لعبدِي، فليعملْ ماشاءَ".
والمعنى ما دامَ على هذه الحالِ كلَّما أذنبَ استغفرَ.
والظاهرُ أنَّ مرادَهُ الاستغفارُ المقرونُ بعدم الإصرارِ، ولهذا في حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما أصرَّ من استغفرَ وإن عادَ في اليوم سبعين مرّة"
وخرَّجه أبو داودَ والترمذيُّ.
وأمَّا استغفارُ اللسانِ معَ إصرارِ القلبِ على الذنبِ، فهو دُعاءٌ مجرَّدٌ إنْ(1/151)
شاء اللَّهُ أجابهُ، وإن شاءَ ردَّه.
وقد يكون الإصرارُ مانعًا من الإجابةِ، وفي "المسندِ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ
ابنِ عمرٍو مرفوعًا: "ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلُوا وهم يَعلَمون ".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: "التائبُ من الذَّنبِ
كمن لا ذنبَ لهُ، والمستغفرُ من ذنبٍ وهو مُقيم عليه كالمستهزئِ بربِّهِ " ورَفعُه منكر، ولعلَّه موقوف.
قال الضحاكُ: ثلاثة لا يُستجاب لهم، فذكرَ منهُم: رجل مقيم على امرأةِ
زِنى كلَّما قَضِى منها شهوتَهُ، قالَ: ربِّ اغفرْ لي ما أصبتُ من فلانةٍ، فيقولُ
الربُّ: تحوَّلْ عنها، وأغفرُ لكَ، فأمَّا ما دمتَ مقيمًا عليها، فإنِّي لا أغفرُ
لكَ، ورجل عندَهُ مالُ قومٍ يَرى أهلَهُ، فيقول: ربِّ اغفرْ لي ما آكلُ من مالِ فلانٍ، فيقولُ تعالى: ردَّ إليهم مالَهُم، وأغفرُ لكَ، وأمَّا ما لم تردَّ إليهم، فلا أغفرُ لك.
وقولُ القائلِ: أستغفرُ اللهَ، معناه: أطلبُ مغفرتَهُ، فهو كقولِهِ اللَهُمَّ اغفرْ
لِي، فالاستغفارُ التامُ الموجبُ للمغفرةِ: هو ما قارنَ عدمَ الإصرارِ، كما مدحَ اللَّهُ أهلَهُ، ووعدَهُم المغفرةَ.
قال بعضُ العارفينَ: من لم يكنْ ثمرةَ استغفاره تصحيحَ توبتِهِ، فهوَ كاذب في استغفاره، وكان بعضُهم يقولُ: استغفارُنا هذا
يحتاجُ إلى استغفارٍ كثيرٍ، وفي ذلكَ يقولُ بعضُهم:
أستغفرُ اللَّهَ من أستغفرُ اللَّهَ. . . منْ لفْظَةٍ بَدَرَتْ خالفْتُ معناها(1/152)
وكيفَ أرجُو إجاباتِ الدُّعاءِ وقد سدَدْتُ بالذَّنبِ عندَ اللَّهِ مجرَاها
فأفضلُ الاستغفارِ ما اقترَنَ به ترْكُ الإصرارِ، وهو حينئذٍ توبة نصوح، وإن
قالَ بلسانِهِ: أستغفرُ اللَّهَ، وهو غيرُ مقلع بقلبِهِ، فهو داع للَّه بالمغفرةِ، كما
يقولُ: اللَّهُمَّ اغفر لي، وهو حسن، وقد يُرجَى له الإجابةُ، وأما من قالَ:
هو توبةُ الكذابينَ، فمرادُه: أنَّه ليسَ بتوبة، كما يعتقدُهُ بعضُ الناسِ، وهذا
حقّ، فإن التوبةَ لا تكونُ مع الإصرارِ.
* * *
قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)
[قال البخاري] : "بابُ فضْلِ العملِ في أيَّامِ التشريقِ ":
وقالَ ابنُ عباسٍ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) : أيامُ
العشرِ. والأيَّامُ المعدوداتُ: أيَّام التَّشريقِ.
وكانِ ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ يخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أيام العشْرِ، يُكبِّرانِ
ويُكبرُ الناسُ بتكبيرِهِمَا، وكبَّر محمدُ بنُ علي خلفَ النَّافلة.
بوَّبَ على فضلِ أيام التشريق والعملِ فيها، وذكر في البابِ أيامَ التشريق
وأيامَ العشرِ، وفضلَهُما جميعًا.
وذكر عنِ ابنِ عباسٍ: أنَّ الأيامَ المعلوماتِ المذكورةَ في سورة الحج هي أيامُ
العشرِ، والأيامَ المعدوداتِ المذكورةَ في سورة البقرةِ هي أيامُ التشريقِ.(1/153)
وفي كلٍّ منهما اختلافٌ بين العلماءِ.
فأمَّا المعلوماتُ:
فقد رُوي عن ابنِ عباسٍ، أنَّها أيامُ عشرِ ذي الحجةِ، كما حكاه عنه
البخاريُّ.
ورُوي - أيضًا - عن ابنِ عُمرَ، وعن عطاءٍ والحسنِ ومجاهدِ وعكرمةَ
وقتادةَ. وهو قولُ أبي حنيفة والشافعيِّ وأحمدَ - في المشهور عنه.
وقالت طائفةٌ: الأيامُ المعلوماتُ: يومُ النحرِ ويومانِ بعدَهُ، رُوي عن ابنِ
عمرَ وغيرِه من السلفِ، وقالُوا: هي أيامُ الذَّبح.
ورُويَ - أيضًا - عن علي وابنِ عباسٍ، وعن عطاءٍ الخراسانيِّ والنخعيِّ.
وهو قولُ مالكٌ وأبي يوسفَ ومحمدٍ وأحمدَ - في رواية عنه.
ومن قالَ: أيامُ الذبح أربعةٌ، قالَ: هي يومُ النحرِ وثلاثةُ أيامٍ بعدَه.
وقد رُوي عن أبي موسى الأشعريِّ، أنَّه قالَ - في خطبتِهِ يومَ النحرِ -:
هذا يومُ الحجِّ الأكبرِ، وهذه الأيامُ المعلوماتُ التسعةُ التي ذكرَ اللَّهُ في القرآنِ، لا يُردُّ فيهنَّ الدُّعاءُ، هذا يومُ الحجِّ الأكبرِ، وما بعدَه من الثلاثةِ اللائي ذكرَ اللَّهُ الأيامُ المعدوداتُ، لا يُرَدُ فيهنَّ الدُّعاءُ.
وهؤلاء جعلُوا ذكرَ اللَّهِ فيها هو ذكره على الذَّبائح.
ورُويَ عن محمد بنِ كعبٍ، أنَّ المعلوماتِ أيامُ التشريقِ خاصة.
والقولُ الأولُ أصحُّ، فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قالَ بعد ذكره في هذه الأيامِ
المعلوماتِ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) .(1/154)
والتفثُ: هو ما يصيبُ الحاجَّ منَ الشعَثِ والغبارِ.
وقضاؤه: إكماله.
وذلك يحصل يومَ النحرِ بالتحللِ فيه من الإحرامِ، فقد جعلَ ذلكَ بعد
ذكر في الأيامِ المعلوماتِ، فدلَّ على أنَّ الأيَّامَ المعلوماتِ قبل يومِ النحرِ الذي
يقضى فيه التفث ويُطَّوف فيه بالبيت العتيقِ.
فلو كانت الأيامُ المعلوماتُ أيامَ الذبح لكان الذكرُ فيها بعدَ قخحاءِ التفثِ
ووفاءِ النذورِ والتطوفِ البيتِ العتيقِ، والقرآنُ يدلُّ على أنَّ الذكرَ فيها قبلَ
ذلك.
وأمَّا قولُهُ تعالى: (عَلَى مَا رَزَقَهم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) .
فإمَّا أنْ يقالَ: إنَّ ذكرَه على الذبائح يحصلُ في يوم النحرِ، وهو أفضلُ
أوقاتِ الذبح، وهو آخرُ العشرِ.
وإمَّا أنْ يقالَ: إنَّ ذكرَه على ما رزقَنا من بهيمةِ الأنعامِ، ليسَ هو ذكره
على الذبائح، بل ذكرُهُ في أيامِ العشرِ كلِّها، شكرًا على نعمةِ رزقهِ لنا من
بهيمةِ الأنعامِ، فإنَّ للَّهِ تعالى علينا فيها نِعَمًا كثيرةً دنيويةً ودينيةً.
وقد عدَّدَ بعضَ الدنيويةِ في سورة النَّحلِ، وتختصُ عشرُ ذي الحجةِ منها
بحملِ أثقالِ الحاجِّ، وإيصالهم إلى قضاء مناسكِهِم والانتفاع بركوبِها ودرِّها
ونسلِها وأصوافِهَا وأشعارِهَا.
وأمَّا الدينية فكثيرةٌ، مثلُ: إيجابِ الهدْي وإشعارِه وتقليدِهِ، وغالبًا يكونُ
ذلكَ في أيامِ العشرِ أو بعضِهَا، وذبحهُ في آخرِ العشرِ، والتقربُ به إلى اللَّهِ.
والأكلُ من لحمِهِ، وإطعامُ القانِع والمعترِّ.(1/155)
فلذلك شُرعَ ذكرُ اللَّهِ في أيامِ العشر شكرًا على هذه النعم كلِّها، كما
صرَّح به في قولِهِ تعالى: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّروا اللَّهَ عَلَى ما هَدَاكُم) ، كما أمَرَ بالتكبيرِ عندَ قضاءِ صيامِ رمضانَ، وإكمالِ العدةِ، شكرًا
على ما هدانا إليه من الصيامِ والقيامِ المقتضِي لمغفرةِ الذنوبِ السابقةِ.
وأمَّا الأيامُ المعدوداتُ:
فالجمهورُ على أنَّها أيامُ التشريقِ، ورُوي عن ابنِ عُمرَ وابنِ عباسٍ
وغيرِ هِما.
واستدل ابنُ عُمرَ بقولهِ: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) .
وإنَّما يكون التعجيلُ في ثاني أيامِ التشريقِ.
قال الإمامُ أحمدُ: ما أحسنَ ما قالَ ابنُ عمرَ.
وقد رُوي عن ابنِ عباسٍ وعطاء أنها أربعةُ أيام: يومُ النحرِ، وثلاثة بعدَه.
وفي إسناد المرويِّ عن ابنِ عباسٍ ضعفٌ.
وأمَّا ما ذكرَه البخاريُّ عن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ، فهو من روايةِ سلامٍ أبي
المنذرِ، عنْ حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ، أن ابنَ عمرَ وأبا هريرةَ كانا يخرجانِ
في العشر إلى السوقِ يكبِّرانِ، لا يخرجَانِ إلا لذلكَ.
خرَّجه أبو بكر عبدُ العزيز بنُ جعفرَ في "كتاب الشافي " وأبو بكرٍ المروذيُّ
القاضي في "كتاب العبدين ".
ورواه عفانُ: نا سلام أبو المنذرِ - فذكره، ولفظه: كانَ أبو هريرةَ وابنُ عُمرَ يأتيانِ السوقَ أيامَ العشر، فيكبِّرانِ، ويكبِّرُ الناسُ معهما، ولا يأتيانِ لشيءٍ(1/156)
إلا لذلكَ.
وروى جعفر الفريابيُّ، من روايةِ يزيدَ بنِ أبي زياد، قالَ: رأيتُ سعيدَ بنَ
جبير وعبدَ الرحمنِ بن أبي ليلى ومجاهدًا - أو اثنينِ من هؤلاء الثلاثةِ - ومن
رأينَا من فقهاءِ الناسِ يقولون في أيامِ العشرِ: "اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، لا إله إلا
اللهُ، واللَّه أكبرُ اللَّهُ أكبرُ وللَّهِ الحمدُ".
وروى المروزيُّ، عن ميمونَ بن مهرانَ، قالَ: أدركتُ الناسَ وإنَّهم ليكبرون
في العشرِ، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتِهَا، ويقول: إنَّ الناسَ قد
نقصُوا في تركِهمُ التكبيرَ.
وهو مذهبُ أحمدَ، ونصَّ على أنَّه يجهرُ به.
وقال الشافعيُّ: يكئرُ عند رؤيةِ الأضاحي.
وكأنه أدخله في التكبيرِ على بهيمةِ الأنعامِ المذكورِ في القرآنِ، وهو وإنْ
كان داخلاً فيه، إلا أنه لا يختصُّ به، بل هو أعمُّ من ذلكَ كما تقدم.
وهذا على أصلِ الشافعيِّ وأحمدَ: في أن الأيامَ المعلوماتِ هي أيامُ العشرِ.
كما سبق.
فأمَّا من قالَ: هي أيامُ الذبح، فمنهُم من لم يستحبُّ التكبيرَ في أيامِ
العشرِ، وحُكي عن مالكٍ وأبي حنيفة.
ومنَ الناسِ مَن بالغَ، وعدَّه من البدع، ولم يبلغْه ما في ذلكَ من السُّنَّةِ.
وروى شعبةُ قالَ: سألتُ الحكمَ وحمادًا عنِ التكبيرِ أيامَ العشرِ؛ فقالا:
لا؛ مُحْدَثٌ. خرَّجه المروزيُّ.(1/157)
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ ابنِ عُمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما منْ أيام أعظم عندَ اللَّهِ ولا أحبُّ إليه العملُ فيه من هذه الأيام العشرِ، فأكثروا فيهنَّ منَ التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ".
ويروى نحوُه من حديثِ ابنِ عباسٍ - مرفوعًا، وفيه: "فأكثروا فيهنَّ
التهليل والتكبير، فإنَّها أيامُ تهليلٍ وتكبير وذكر اللَّهِ عزَّ وجلَّ ".
وأمَّا ما ذكره عن محمدِ بنِ على في التكبيرِ خلفَ النافلةِ، فهوَ في أيامِ
التشريقِ.
ومرادُه: أنَ التكبيرَ يُشْرعُ في أيامِ العشرِ وأيام التشريقِ جميعًا.
* * *
أيام مِنًى هي الأيامُ المعدوداتِ التي قالَ اللَهُ عزَّ وجلَّ فيها: (وَاذْكرُوا اللَّهَ
فِي أَيَّامٍ معْدُودَاتٍ) ، وهي ثلاثةُ أيام بعدَ يومِ النحرِ، وهيَ أيامُ
التشريقِ، هذا قولُ ابنِ عمرَ وأكثر العلماءِ.
ورُوي عن ابنِ عباسِ وعطاءٍ أنَّها أربعة أيام: يومُ النَّحْرِ، وثلاثةُ أيامٍ بعدَه، وسمَّاها عطاء أيَّامَ التشريقِ، والأولُ أظهرُ.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيَّامُ مِنًى ثلاثةٌ، (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) "
خرَّجه أهل السنن الأربعة من حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ يَعْمُرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم.(1/158)
وهذا صريحٌ في أنَّها أيامُ التشريقِ، وأفضلُها أولُها، وهو يوم القَرِّ؛ لأنَّ
أهلَ مِنًى يستقرِّون فيه، ولا يجوزُ فيه النَّفر.
وفي حديثِ عبد اللَّهِ بن قُرْط عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعظم الأيام عندَ اللَّهِ يومُ النَّحرِ، ثمَّ يومُ القَرِّ".
وقد رُوي عن سعيد بنِ المسيبِ أنَّ يومَ الحج الأكبرِ هو
يومُ القَرِّ، وهو غريبٌ. ثم يومَ النَّفْر الأوَّل، وهو أوسطُها. ثم يومَ النَّفْر
الثاني، وهو آخرُها، قال اللَّهُ تعالى: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثمَ عَلَيْهِ وَمَن
تَأخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) .
قال كثيرٌ من السّلَفِ: يريدُ أن المتعجِّل والمتأخِّر يُغفَر له، ويذهبُ عنه الإثمُ الذي كان عليه قبلَ حجِّه، إذا حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفْسُقْ، ورَجَعَ من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّه، ولهذا قال تعالى: (لِمَنِ اتَّقَى) ، فتكونُ التقوى شَرْطا لذهابِ الإثم على هذا التقديرِ، وتصيرُ الآيةُ
دالَّةً على ما صرَح به قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"مَن حجَّ فلم يرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذُنوبِه كيومِ ولدتْهُ أمَّهُ ".
وقد أمرَ اللَّهُ تعالى بذكْرِه في هذه الأيامِ المعدُوداتِ، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّها أيامُ اكْل وشُرْب وذِكرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ "
وذِكْرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المأمورُ بهِ في أيامِ التشريقَِ أنواعٌ متعددة:
منها: ذِكْرُ اللَّه عزَّ وجلَّ عقبَ الصَّلواتِ المكتوباتِ بالتكبيرِ في أدْبارها.
وهوَ مشروعٌ إلى آخرِ أيَّام التشريقِ عند جمهورِ العلماءِ.
وقد رُوي عن عمرَ(1/159)
وعليٍّ وابنِ عباسٍ، وفيه حديث مرفوع في إسنادِهِ ضعف.
ومنها: ذِكْرُه بالتَّسميةِ والتكبيرِ عند ذبْح النُّسُك، فإنَّ وقتَ ذبْح الهدايا
والأضاحي يمتدُّ إلى آخر أيامِ التشريقِ عند جماعةٍ من العلماءِ، وهو قولُ
الشافعيِّ، ورواية عن الإمامِ أحمدَ، وفيه حديثٌ مرفوع: "كلُّ أيام مِنًى
دبْحٌ "، وفي إسنادهِ مقالٌ.
وأكثرُ الصحابةِ على أنَّ الذبح يختصُّ بيومين من أيَّامِ التشريقِ مع يومِ النَّحْرِ، وهو المشهورُ عن أحمدَ، وقول مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والأكثرينَ.
ومنها: ذِكْرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ على الأكْلِ والشربِ؛ فإن المشروع في الأكلِ
والشربِ أن يُسمِّيَ اللَّه في أولِهِ، ويحمَدَهُ في آخر.
وفي الحديثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إن اللَّهَ عزَّ وجلَّ يرْضَى عن العبْدِ أن يأكُلَ الأكْلَةَ
فيحمدَهُ عليها، ويشربَ الشَّرْبةَ فيحمَدَهُ عليها".
وقد رُوي أنَّ من سمَّى على أول طعامه وحمدَ اللَّهَ على آخر، فقد أدَّى ثمنَه، ولم يُسأل بعدُ عن شكر.
ومنها: ذِكْرُهُ بالتكبيرِ عند رَمْي الجمارِ في أيَّامِ التشريقِ، وهذا يختصُّ بِهِ
أهلُ الموسم.
ومنها: ذِكْرُ اللَّه تعالَى المطلقُ، فإنَّه يستحبُّ الإكثارُ منه في أيَّامِ التشريقِ.
وقد كان عُمَرُ يُكبِّر بمنًى في قبّته، فيسمعُهُ الئاسُ فيكبِّرون فترتجّ منًى
تكبيرًا.
وقد قال اللَّهُ تعالى:(1/160)
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) .
وقد استحبَّ كثير من السَّلفِ كثرةَ الدعاء بهذا في أيام
التشريقِ.
قال عكرمة: كان يُستحبُّ أن يُقالَ في أيامِ التشريقِ: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
وعن عطاءٍ، قال: ينبغِي لكُلِّ من نَفَر أن يقولَ حين ينفرُ متوجهًا إلى
أهلِه: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
خرَّجهما عبدُ بن حُميدٍ في "تفسيره" وهذا الدعاءُ من أجمع الأدعيةِ للخير.
وكانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ منه.
ورُوي أنَّه كان أكثرَ دعائِهِ، وكانَ إذا دعا بدعاءٍ
جعله معه، فإنَّه يجمعُ خيرَ الدنيا والآخرةِ.
قالَ الحسنُ: الحسنةُ في الدُّنيا العْلمُ والعبادةُ، وفي الآخرةِ الجنة.
وقالَ سفيانُ: الحسنةُ في الدنيا العِلْمُ والرزقُ الطيّبُ؛ وفي الآخرةِ الجنة.
والدُّعاءُ من أفضلِ أنواع ذكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وقد روى زيادٌ الجصَّاصُ عن
أبي كنانةَ القرشيِّ أنَّه سمع أبا مُوسى الأشعريَّ، يقولُ في خطبتِهِ يومَ النَّحْر:
بعد يومِ النَّحرِ ثلاثةُ أيامٍ التي ذكرَ اللَّهُ الأيامَ المعدُوداتِ لا يُرَدُّ فيهنَ الدُّعاءُ.
فارفعُوا رغبتكُم إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وفي الأمرِ بالذكرِ عند انقضاء النُّسُك معنًى، وهو أنَّ سائر العباداتِ(1/161)
تنقضِي ويُفرغُ منها، وذِكْرُ اللَّه باقٍ لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمرٌ
للمؤمنينَ في الدنيا والآخرةِ.
وقد أمرَ اللَّه تعالى بذكر عند انقضاءِ الصلاةِ، قال اللَّهُ تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) .
وقال تعالى في صلاةِ الجمعةِ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) .
وقال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) .
رُوي عن ابنِ مسعود، قالَ: فإذا فرغتَ من الفرائضِ فانْصَبْ.
وعنه في قولِه تعالى: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال: في المسألةِ، وأنتَ جالسٌ.
وقال الحسنُ: أمرَه إذا فرغَ من غزوهِ أن يجتهدَ في الدُّعاءِ والعبادةِ.
والأعمالُ كلُّها يُفرغُ مِنْهَا، والذِّكْرُ لا فراغَ له، ولا انقضاءَ، والأعمالُ
تنقطعُ بانقطاع الدنيا ولا يبقى منها شيءٌ في الآخرة، والذِّكرُ لا ينقطعُ.
المؤمنُ يعيشُ على الذكرِ، ويموتُ عليه، وعليه يُبعثُ.
أحسِبْتُمُ أنَّ اللياليَ غَيَّرَْتْ. . . عهْدَ الهَوى لا كانَ مَن يتغيَرُ
يفنى الزَّمانُ وليس يفنى ذِكْرُكُمْ. . . وعلى محبَّتِكُم أمُوتُ وأحْشَرُ
قال ذو النون: ما طابتِ الدُّنيا إلا بذكره، ولا الآخرةُ إلا بعفوه، ولا الجنَّةُ
إلا برؤيتِهِ.(1/162)
بذكر اللَّهِ ترْتَاحُ القُلُوبُ. . . ودُنيانا بذكْراهُ تطيبُ
إذا ذُكِرَ المحبوبُ عندَ حبيبِهِ. . . ترَنَّح نشوانٌ وحنَّ طروبُ
فأيَّامُ التشريقِ يجتمعُ فيها للمؤمنينَ نعيمُ أبدانهِم بالأكْل والشُّربِ، ونعيمُ
قلوبهِم بالذِّكرِ والشكرِ، وبذلكَ تتمُّ النِّعمةُ، وكلمَا أحدثُوا شكرًا على النِّعمةِ كان شكرُهُم نعمةً أخرى، فيحتاجُ إلى شكرٍ آخرَ، ولا ينتهي الشكر أبدًا.
إذا كان شكْرِي نعْمةَ اللَّهِ نعْمَةً. . . عليَّ لَهُ في مِثْلِها يجبُ الشُّكْرُ
فكيف بلوغ الشُّكْر إلا بفضلِهِ. . . وإنْ طالتِ الأيَّامُ واتَّصلَ العُمْرُ
وفي قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها أيامُ أكْلٍ وشُرْب وذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ "، إشارةٌ إلى أنَّ الأكل في أيام الأعيادِ والشُّربَ إنَّما يستعانُ به على ذِكْرِ اللَّهِ تعالى وطاعتِهِ، وذلكَ من تمامِ شُكْرِ النِّعْمة أن يستعانَ بها على الطاعاتِ.
وقد أمرَ اللَّهُ تعالى في كتابِهِ بالأكلِ من الطَيِّباتِ والشكرِ لَهُ، فمنَ استعانَ بنعمِ اللَّهِ على معاصِيه فقدْ كفرَ نِعْمةَ اللَّهِ وبدَّلَها كُفْرًا، وهو جديرٌ أن يُسْلَبَها، كما قيل:
إذا كنتَ في نعْمةٍ فارْعَها. . . فإنَّ المعاصي تُزيلُ النعم
وداوِمْ عليها بشُكْر الإلهِ. . . فشُكْرُ الإله يزيلُ النقَم
وخصوصًا نعمةُ الأكلِ من لحومِ بهيمةِ الأنعامِ، كما في أيامِ التشريقِ، فإنَّ
هذه البهائمَ مطيعةٌ للَّه لا تعصيه، وهي مُسبِّحةٌ له قانتةٌ، كما قال تعالى:
(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، وأنَّها تسجد لَهُ، كما أخبرَ بذلكَ(1/163)
في سورةِ النحلِ وسورةِ الحج، وربما كانت أكثر ذكرًا للَّهِ من بعضِ بني آدمَ.
وفي "المسندِ" مرفوعًا: "رُبَّ بهيمةٍ خيرٌ من راكِبِها، وأكثرُ للَّهِ منه ذكرًا".
وقد أخبر اللَّه تعالى في كتابِهِ أنَّ كثيرًا من الجنِّ والإنسِ كالأنعامِ بل هم
أضلُّ.
فأباحَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ذبْحَ هذه البهائم المطيعةِ الذاكرةِ له لعبادِهِ المؤمنينَ حتى
تتقوى بها أبدانُهم، وتكمُلَ لذَّاتُهم في أكلِهِم اللحومَ، فإنَها من أجلِّ الأغذيةِ
وألذِّها، مع أنَّ الأبدانَ تقومُ بغيرِ اللحم من النباتاتِ وغيرها، لكن لا تكمُل
القوَّةُ والعقلُ واللذةُ إلا باللحم، فأباحَ للمؤمن قَتْلَ هذه البهائم والأكْلَ من
لحومها، ليكمّل بذلك قوَّةَ عباده وعقولَهم، فيكونُ ذلك عوْنًا لهم على علومٍ نافعةٍ وأعمال صالحةٍ يمتازُ بها بنو آدمَ على البهائم، وعلى ذكْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وهو أكثرُ من ذكرِ البهائم، فلا يليقُ بالمؤمن مع هذا إلا مقابلةُ هذه النعم بالشكرِ عليهَا، والاستعانةُ بها على طاعةِ الله عزَّ وجلَّ، وذكْرِه حيثُ فضَّلَ اللَّهُ ابنَ آدمَ على كثيرٍ من المخلوقات، وسخَّر له هذه الحيواناتِ، قال اللَّهُ تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) .
فأمَّا من قَتَلَ هذه البهائمَ المطيعةَ الذَّاكرة للَّهِ عزَّ وجلَّ، ثم استعانَ بأكلِ
لحومِهَا على معاصِي اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ونسِي ذكرَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فقد قَلَبَ
الأمرَ وكفرَ النِّعمةَ، فلا كانَ من كانتِ البهائمُ خيرًا منه وأطوعً.
نهارُك يا مَغْرُورُ سهْوٌ وغَفْلَة. . . وليلُك نَوْمٌ والرَّدَى لكَ لازِمُ(1/164)
وتتعَبُ فيما سَوْفَ تكرَهُ غِبَّهُ. . . كذلك في الدُّنيا تعيشُ البهائمُ
وإنَّما نُهيَ عن صيامِ أيامِ التشريقِ، لأنَّها أعيادٌ للمسلمينَ مع يومِ النَّحرِ.
فلا تُصامُ بمنًى ولا غيرها عندَ جمهورِ العلماء، خلافًا لعطاءٍ، في قولِهِ: إنَّ
النهي مختصّ بأهل منًى، وإنَّما نُهِي عن التطوَع بصيامها، سواء وافقَ عادةً أو لم يُوافق.
فأمَّا صيامُها عن قضاءِ فرضٍ أو نَذْرٍ، أو صيامُها بمنًى للمتمتع إذا لم يجدِ
الهَدْيَ، ففيه اختلافٌ مشهورٌ بين العلماءِ، ولا فرقَ بينَ يومٍ منها ويومٍ عند
الأكثرين، إلا عندَ مالكٍ، فإنَّه قال: في اليومِ الثالثِ منها يجوزُ صيامُه عن
نَذْرٍ خاصةً.
وفي النهي عن صيامِ هذه الأيامِ والأمرِ بالأكلِ فيها والشُّرب سِرٌّ حسنٌ.
وهو أنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا علِمَ ما يُلاقي الوافِدون إلى بيتِهِ من مشاقِّ السَّفرِ وتعبِ
الإحرامِ وجهادِ النفوسِ على قضاء المناسك، شرع لهم الاستراحةَ عقيبَ ذلك بالإقامةِ بمنًى يومَ النَّحْرِ وثلاثةَ أيامٍ بعدَه، وأمرَهُم بالأكْلِ فيها من لحومِ
نُسُكِهم، فهم في ضيافةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فيها، لطفًا من اللَّه بهم، ورأفةً
ورحمةً. وشاركَهُم أيضًا أهلُ الأمصارِ في ذلكَ؛ لأنَّ أهلَ الأمصارِ شاركُوهم
في حصولِ المغفرةِ والنَّصَبِ للَّهِ والاجتهادِ في عشْرِ ذي الحجَّة، بالصَّومِ
والذِّكْرِ والاجتهادِ في العباداتِ، وشاركُوهم في حُصولِ المغفرةِ وفي التقرُّبِ
إلى اللَّهِ تعالى بإراقةِ دماءِ الأضاحي، فشاركُوهم في أعيادهم، واشتركَ
الجميعُ في الراحةِ في أيامِ الأعيادِ بالأكْلِ والشربِ، كما اشتركُوا جميعًا في
أيام العشْرِ في الاجتهادِ في الطاعةِ والنَّصَبِ، وصارَ المسلمونَ كلُّهم في ضيافةِ(1/165)
اللَّهِ عزَّ وجل في هذه الأيامِ، يأكلونَ من رزقِه، ويشكرونَهُ على فضلِهِ.
ونُهوا عن صيامِها؛ لأنَّ الكريمَ لا يليقُ به أن يُجيعَ أضيافَهُ، فكأنَّه قيل
للمؤمنينَ في هذه الأيامِ: قد فَرغ عملُكم الذي عَمِلْتُموه، فما باقي لكُم إلا
الرَّاحةُ؛ فهذه الرَّاحةُ بذلك التعبِ، كما أُريح الصائمونَ لله في شهر رمضانَ
بأمرِهم بإفطارِ يومِ عيدِ الفطر.
ويؤخذُ من هذا إشارةٌ إلى حالِ المؤمنِ في الدنيا، فإنَّ الدُّنيا كلَّها أيامُ سفرٍ كأيَّامِ الحجِّ، وهي زمانُ إحرامٍ المؤمنِ عمَّا حرَّم اللَّهُ عليه من الشهواتِ.
فمن صبَرَ في مدَّةِ سفرِهِ على إحرامِهِ وكفَّ عن الهوى، فإذا انتهى سفرُ عمى، ووصَلَ إلى مِنَى المُنَى، فقد قضى تَفَثَه ووفَّى نذْرَه، فصارتْ أيامُه كلُّها كأيامِ مِنًى، أيامُ أكل وشُربٍ وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ.
وصارَ في ضيافةِ اللَّهِ عزَّ وجل في جوارر أبدَ الأبدِ، ولهذا يُقال لأهلِ الجنةِ:
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) .
وقد قيل: إنَّها نزلتْ في الصُّوَامِ في الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
وقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إلى قوله: (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) .(1/166)
خرَّج مسلمٌ في "صحيحهِ " من حديثِ حمَّاد بن سلَمَةَ: نا ثابتٌ، عن
أنَسٍ، أنَّ اليهودَ كانوا إذا حاضت المرأةُ فيهم لم يُؤاكلُوها ولم يُجامِعوهُنَّ في
البيوتِ، فسأل أصحابُ النبيَِّ - صلى الله عليه وسلم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إلى آخرِ الآيةِ.
فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلا النكِّاحَ " -
وذكر بقيَّةَ الحديثِ.
فقولُهُ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، أي: عن حُكمِهِ
والمباشرةِ فيه.
و"المحيضُ "، قيل: إنَّه مَصْدَرٌ كالحَيْضِ، وقيلَ: بل هو اسم للحيض.
فيكونُ اسمَ مصدرٍ.
وقولُهُ تعالى: (قُلْ هُوَ أَذًى) ، فُسِّر الأذى بالدَّمِ النَّجسِ وبما فيه
من القَذَرِ والنّتنِ وخروجهِ من مَخْرج البَوْل، وكل ذلك يُؤذِي.
قال الخطَّابيُّ: الأذي هو المكروهُ الذي ليسَ بشديد جدًّا، كقولِهِ: (لَن
يَضُرُوكُمْ إِلاَّ أَذًى) ، وقولِهِ: (إِن كانَ بِكمْ أَذًى مِن مَطَرٍ) ، قال: والمرادُ: أذًى يعتزِل منها مَوْضِعَه لا غيره، ولا يتعدَّى ذلك
إلى سائرِ بدنِها، فلا يُجْتنبْنَ ولا يُخْرَجْنَ من البيوت كفعلِ المَجُوسِ وبعض
أهلِ الكتابِ، فالمرادُ: أن الأذى بهنَّ لا يبلغ الحدَّ الذي يُجاوِزُونه إليه، وإنَّما يُجْتنب منهن موضحُ الأذى، فإذا تطهَّرنَ حلَّ غِشْيانُهنَّ.
وقولُهُ تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) ، قد فسَّره النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - باعتزال النكاح.
وسيأتي فيما بعدُ - إنْ شاء اللَّهُ تعالى - ذِكْرُ ما يَحْرُم من(1/167)
مباشرةِ الحائضِ وما يَحِلُّ منه في البابِ الذي يخْتَصُّ المباشرةَ من الكتابِ.
وقد قيلَ: بأن المرادَ بالمحيضِ ها هُنا: مكانَ الحيضِ، وهو الفَرجُ، ونصَّ
على ذلكَ الإمامُ أحمدُ، وحكاه الماورْدِيُّ عن أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وجمهورِ المفسرينَ، وحكى الإجماعَ على أنَّ المرادَ بالمحيضِ المذكورِ في أولِ الآية: الدَّمُ.
وقد خالفَ في ذلك ابنُ أبي موسى من أصحابنِا في "شرح الخِرَقي ".
فزعم أن مذهبَ أحمدَ أنَّه الفرجُ - أيضًا -، وفيه بُعدٌ.
وجمهورُ أصحابِ الشافعيِّ على أنَّ المرادَ بالمحيضِ في الآيةِ الدَّمُ، في
الموضعينِ.
وقولُهُ: (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) ، نهي بعدَ الأمرِ باعتزالِهنَّ في المحيضِ عن
قرْبأنهنَّ فيه، والمرادُ به: الجماعُ - أيضًا -، وفيه تأكيد لتحريمِ الوَطْءِ في
الحيضِ.
وقولُهُ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فيه قراءتان: "يَطهُرْنَ " - بسكُونِ الطاءِ وضمَ الهاءِ -، و"يَطَّهَّرْنَ " - بفتح الطاءِ وتشديدِهَا وتشديدِ الهاءِ.
وقد قيل: إنَّ القراءة الأولى أُريدَ بها انقطاعُ الدَّمِ، والقراءةُ الثانيةُ أُريدَ بها
التَّطَهُّر بالماءِ.
وممن فسر الأولى بانقطاع الدمِ ابنُ عباسٍ ومُجاهد وغيرُهما.
وابنُ جريرٍ وغيرُهُ: يشيرونَ إلى حكايةِ الإجماع على ذلكَ.
ومنَعَ غيرُه الإجماعَ، وقال: كل من القراءتينِ تحتملُ أن يُراد بها الاغتسالُ
بالماءِ، وأنْ يُراد بها انقطاعُ الدمِ، وزوَالُ أذَاهُ.(1/168)
وفي ذلك نظر، فإنَّ قراءةَ التشديدِ تدل على نسبة فِعْلِ التطهر إليها.
فكيف يُراد بذلكَ مجردُ انقطاع الدمِ ولا صنع لها فيه.
وقولُهُ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، غاية النَّهْي عن قربأنهن، فيدل بمفهومِهِ
على أنَّ ما بعد التطهير يزول النهي.
فعلى قراءةِ التشديدِ المُفَسَّرة بالاغتسال إنَّما يزول النَّهْيُ بالتطهرِ بالماءِ.
وعلى قراءةِ التخفيفِ يدل على زوال النهي بمجردِ انقطاع الدمِ.
واستدل بذلكَ فرقةٌ قليلة على إباحةِ الوطْءِ بمجرد انقطاع الدمِ، وهو قول
أبي حنيفةَ، وأصحابِهِ، إذا انقطعَ الدمُ لأكثرِ الحيضِ، أو لدونِهِ، ومضَى عليها وقتُ صلاةٍ، أو كانتْ غيرَ مخاطبةٍ بالصلاةِ كالذِّمِّيَّة.
وحُكي عن طائفةٍ إطلاقُ الإباحةِ، منهم: ابنُ بُكَيْرٍ وابنُ عبدِ الحَكَم.
وفي نقله عنهُما نظرٌ.
والجمهورُ على أنَّه لا يباحُ بدونِ الاغتسال، وقالُوا: الآيةُ وإنْ دلَّتْ
بمفهومِهَا على الإباحةِ بالانقطاع إلا أن الإتيانَ مشروطٌ له شَرْطٌ آخرُ وهو
التَّطَهُر، والمرادُ به: التطهرُ بالماءِ، بقوله: (فَإِذَا تَطَهَرْنَ فَأتُوهُنَّ) .
فدل على أنَّه لا يكفي مجردُ التطهرِ، وأن الإتيانَ متوقفٌ على التطهرِ، أو
على الطُهْرِ والتَّطَهُّرِ بَعْدَه، وفسَّر الجمهورُ التَّطَهُّرَ بالاغتسال، كما في قولهِ:
(وَإِن كنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّرُوا) .
وحُكي عن طائفةٍ من السَّلفِ: أن الوضوءَ كافٍ بعد انقطاع الدمِ، منهم:
مُجاهدٌ، وعِكْرمةُ، وطاوسٌ، على اختلافٍ عنهم في ذلك.
قال ابنُ المنذرِ: رُوِّينا بإسنادٍ فيه مقال عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ، أنهم(1/169)
قالُوا: إذا أدركَ الزوجَ الشَّبَقُ أمَرَها أنْ تتوضأ، ثم أصابَ منها
وأصحُّ من ذلكَ عن عطاءٍ ومجاهدٍ موافقةُ القولِ الأولِ -
وكراهتَه بدونِ الغُسلِ -، قالَ: ولا يثبتْ عن طاوسٍ خلافُ ذلك
قال وإذا بطَلَ أن يَثبت عن هؤلاء قولٌ ثانٍ كان القولُ الأولُ كالإجماع، انتهى.
ولذلك ضَعَفَ القاضي إسماعيلُ المالكي الروايةَ بذلك عن طاووس وعطاء
لأنَّها من روايةِ لَيْثِ بنِ أبي سُلَيْم عنهما، وهو ضعيفٌ.
وحُكي عن بعضِ السلفِ أن التطهرَ غَسْلُ الفرْج خاصة، رواه ابن جريج
ولَيْث عن عطاءٍ، ورواه مَعْمَرٌ عن قتادةَ، وحكاه بعض أصحابنا عن
الأوزاعيِّ، ولا أظنَّه يصحُّ عنه، وقاله قومٌ من أهل الظاهرِ.
والصحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ: أنّ تطَهُّر الحائضِ كتطهر الجُنُب.
وهو الاغتسال.
ولو عَدِمَتِ الماءَ، فهل يُباح وطؤهَا بالتيمم؛ فيه قولان:
أحدهما: يباحُ بالتيمم، وهو مذهبُنا، ومذهبُ الشافعيَ وإسحاقَ
والجمهورِ، وقولُ يحيى بن بُكَيْرٍ من المالكية، والقاضِي إسماعيلَ منهم أيضًا.
وقالَ مكْحُولٌ ومالكٌ: لا يُباح وطْؤُها بدون الاغتسال بالماءِ.
وقوله: (فَأتُوهُنَّ) ، إباحةٌ، وقولُهُ: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكمُ اللَّهُ) .
أي: باعتزالِهنَّ، وهو الفَرْجُ، أو ما بين السّرَّةِ والركبةِ، على ما فيه
من الاختلافِ كما سيأتِي.
روي هذا عن ابنِ عباسٍ، ومُجاهد وعِكرِمةَ.
وقيلَ: المرادُ: من الفَرْج دون الدُّبر، رواه عليٌّ بنُ أبي طلْحةَ عنِ ابنِ
عباسٍ.(1/170)
وروى أبانُ بنُ صالح، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: (مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُم اللَّهُ) أن تعتزلوهنَّ. ورواه عِكْرمةُ، عن ابنِ عباسٍ - أيضًا.
وقيل: المرادُ من قِبَلِ التطهرِ لا من قِبَلِ الحيض، ورُوي عن ابن عباسٍ -
أيضًا -، وغير.
و"التوابون ": الرَّجَّاعونَ إلى طاعةِ اللَّهِ من مخالفتِهِ.
و"المتطهرونَ ": فسَّره عطاءٌ وغيرُهُ: بالتطهرِ بالماءِ، ومجاهدٌ وغيرةُ: بالتطهرِ
من الذنوبِ.
وعن مجاهدٍ، أنَّه فسَّره: بالتَّطهرِ من أدبارِ النساءِ.
ويشهدُ له قولُ قومِ لُوطٍ: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) .
* * *
والاعتزالُ الذي أمرَ اللَّهُ به: هو اجتنابُ جماعِهِنَّ، كما فَسَره بذلك رسولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
وقال عِكْرمةُ: كان أهلُ الجاهليةِ يصنعونَ في الحيضِ نحوًا سن صنيع
المَجُوسِ، فذكرُوا ذلكَ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلتْ: (وَيسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قلْ هُوَ أَذًى) الآية، فلم يَزِدِ الأمرُ فيهن إلا شدَّةً، فنزلت: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) : أن تعتزِلُوا.
أخرَّجَهُ القاضِي إسماعيلُ، بإسنادٍ صحيح.
وهو يدلُّ على أنَّ أولَ ما نزلَ الأمرُ باعتزالِهنَّ فَهِمَ كثيرٌ من الناسِ منه(1/171)
الاعتزال في البيوتِ والفرش كما كانوا يصنعونَ أوَّلاً، حتى نزل آخرُ الآيةِ:
(فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْث أَمَرَكمُ اللَّهُ) ، ففُهِم من ذلك أن اللَّهَ أمر
باعتزالِهنَّ في الوطْءِ خاصةً.
وفسَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقولِهِ: "اصنعوا كلَّ شيءٍ غيرَ النِّكاح "، وبِفعْله مع أزواجِهِ؛ حيث كان يباشرهنَّ في المحيضِ.
* * *
قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)
[قال البخاريّ] : "بابُ: قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"أنا أعلمُكُمْ باللَّهِ "، وأنَّ المعرفةَ فعْلُ القَلْبِ، لقوْلِهِ تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) .
مرادُه بهذا التبويبِ: أن المعرفةَ بالقلبِ التي هي أصلُ الإيمانِ فعلٌ للعبدِ
وكسبٌ له، واستدلَّ بقوله تعالى: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، فجعلَ
للقلوبِ كسبًا، كما جعل للجوارح الظاهرةِ كسبًا.
والمعرفةُ: هي مركبة من تصور وتصديقٍ، فهي تتضمنُ علمًا وعملاً، وهو
تصديقُ القلبِ، فإن التصورَ قد يشتركُ فيه المؤمنُ والكافرُ.
والتصديقُ يختصُّ به المؤمنُ، فهو عملُ قلبِهِ وكسبهُ.
وأصلُ هذا: أن المعرفةَ مكتسبة، تُدركُ بالأدلةِ، وهذا قول أكثرِ أهلِ السنن
من أصحابِنا وغيرِهِم، ورجَّحه ابنُ جريرٍ الطبريُّ.(1/172)
وروى بإسنادِهِ، عن الفضيلِ بنِ عياضٍ، أنَّه قال: أهلُ السنةِ يقولونَ:
الإيمانُ: المعرفةُ والقولُ والعملُ.
وقالت طائفةٌ: إثها اضطراريةٌ، لا كسبَ فيها.
وهو قولُ بعض أصحابِنا، وطوائفَ منَ المتكلمينَ والصوفيةِ وغيرِهِم.
وخرَّج البخاريُّ في هذا البابِ:
حديثَ: هشامٍ، عنْ أبيه، عنْ عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرَهُم أمرَهُم منَ الأعمالِ بما يطيقُونَ، قالُوا: إنَّا لسْنا كهيْئتكَ يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قد غفَرَ لكَ ما تقدَّم من ذنْبِكَ وما تأخَّرَ، فيغضبُ حتَى يُعرفَ الغضبُ في وجْههِ، ثمَّ يقولُ: "إنَّ أتقاكم وأعلمَكُم بالله أنا".
كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ أصحابَه بما يطيقونَ من الأعمالِ، وكانوا لشدةِ حرصِهِم على الطاعاتِ يريدونَ الاجتهادَ في العملِ، فربما اعتذرُوا عن أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالرفقِ، واستعمالِهِ له في نفسه، أنَّه غيرُ محتاج إلى العملِ بضمانِ المغفرةِ له، وهم غيرُ مضمونٍ لهم المغفرةُ، فهم محتاجونَ إلى الاجتهادِ، ما لا يحتاجُ هوَ إلى ذلك، فكانَ - صلى الله عليه وسلم - يغضبُ من ذلك، ويخبرُهُم أنَّه أتقاهم للَّهِ
وأعلمُهُم به.
فكونُه أتقاهُم للَّهِ يتضمنُ شدةَ اجتهادِهِ في خصالِ التقوى، وهو العملُ.
وكونُه أعلمُهُم به يتضمنُ أنَّ علمَه باللَّهِ أفضلُ من علمِهِم باللَّهِ.
وإنَّما أراد علمَه باللَّهِ، لمعنيينِ:
أحدُهما: زيادةُ معرفتِهِ بتفاصيلِ أسمائه وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه وعظمتِه(1/173)
وكبريائِه، وما يستحقُّه من الجلال والإكرامِ والإجلال والإعظامِ.
والثاني: أن علمَهُ باللَّهِ مستندٌ إلى عينِ اليقينِ؛ فإنَّه رآهُ، إما بعينِ بصرِه.
أو بعينِ بصيرتِه.
كما قالَ ابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وغيرُهما: رآه بفؤادِه مرتينِ..
وعلمُهم به مستندٌ إلى علمِ يقينٍ، وبينَ المرتبتينِ تباينٌ.
ولهذا سألَ إبراهيمُ - عليه السلامُ - ربَّه أن يرقيه من مرتبةِ علمِ اليقينِ إلى
مرتبةِ عينِ اليقينِ، بالنسبةِ إلى رؤيةِ إحياءِ الموتى، وقد سبقَ التنبيهُ على ذلكَ
والكلامُ في تفاصيل المعرفةِ القائمةِ بالقلبِ.
فلمَّا زادتْ معرفةُ الرسولِ بربِّه، زادتْ خشيتُه له وتقواه، فإنَّ العلمَ التامَّ
يستلزمُ الخشيةَ، كما قالَ تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) .
فمن كان باللَّهِ وبأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه أعلم، كان له أخشى
وأتقى، وإنَّما تنقص الخشيةُ والتقوى بحسبِ نقصِ المعرفةِ باللَّهِ.
وقد خرَجَ البخاريُ في آخرِ: "صحيحِهِ " عن مسروقٍ، قالَ: قالتْ
عائشةُ: صنعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ترخَّصَ فيه، وتنزَّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ اللَّهَ، ثمَّ قالَ: "ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهون عن الشيءِ أصنَعُه، فواللَّهِ؛ إنِّي لأعلمُهُم باللهِ وأشدُّهم له خشيةً".
وفي "صحيح مسلم" عن عائشةَ، أنَّ رجلاً قالَ لرسولِ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ اللهِ إني أصبحُ جنبًا، وأنا أريدُ الصيامَ. فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أصبحُ جنبًا، وأنا أريدُ الصيامَ، فأغتسلُ وأصومُ ".(1/174)
فقال الرجلُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنك لستَ مثلَنا، قد غُفرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ، فغضب رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال:
"إنِّي لأرجو أنْ أكونَ أخشاكُم للَّهِ وأعلَمكُم بما أتَقِي ".
وفي حديثِ أنسٍ، أن ثلاثةَ رهطٍ جاءُوا إلى بيوتِ أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
يسألونَ عن عبادةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أُخبروا بها كأنَّهم تقالُّوهَا، فقالُوا:
وأينَ نحنُ منَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قد غَفَرَ اللَّهُ له ما تقدَّم من ذنبهِ وما تأخَرَ، فقالَ أحدُهم: أمَّا أنا، فإنِّي أصلِّي الليلَ أبدًا، وقالَ آخرُ: أصومُ الدهرَ ولا أفطرُ.
وقال الآخرُ: أنا أعتزلُ النساءَ ولا أتزوّجُ أبدًا. فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقالَ: "أنتم الذين قلتُمْ كذ وكذا؛ أما واللَّهِ، إنِّي لأخشاكُم للَّهِ، وأتقاكُم له، لَكِنِّي أصومُ وأُفطرُ، وأصلِّي، وأرقدُ، وأتزوج النساءَ، فمن رغبَ عن سنتي فليسَ منِّي ".
وقد خرَّجاه في "الصحيحينِ " بمعناه.
ففي هذه الأحاديثِ كلِّها: الإنكارُ على مَن نسبَ إليه التقصيرَ في العملِ
للاتكالِ على المغفرةِ، فإنَّه كان يجتهدُ في الشكرِ أعظمَ الاجتهادِ، فإذا عُوتبَ
على ذلكَ، وذُكرتْ له المغفرةُ، أخبرَ أنَه يفعلُ ذلك شكرًا.
كما في "الصحيحينِ " عن المغيرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقومُ حتى تتفطَّر قدمَاه، فيقالَ له: تفعلُ هذا، وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبِكَ وما تأخَّرَ.
فيقولُ: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا".
وقد كان يواصلُ في الصيامِ وينهاهم، ويقول: "إنِّي لستُ كهيئتِكم، إنِّي أظلُّ(1/175)
عند ربي يطعمنِي ويسقيني ".
فنسبةُ التقصيرِ إليه في العملِ لاتكالِه على المغفرةِ خطأ فاحشٌ، لأنه
يقتضي أن هديَه ليسَ هو أكمل الهديِ وأفضلَه، وهذا خطأ عظيم، ولهذا كانَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خطبته:
"خير الهديِ هديُ محمد".
ويقتضي - أيضًا - هذا الخطأ أنَّ الاقتداءَ بهديِه في العملِ ليس هو أفضلَ.
بلِ الأفضلُ الزيادةُ على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدًّا؛ فإنَّ اللَّهَ
تعالى قد أمرَ بمتابعتِه، وحثَّ عليها، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
فلهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يغضبُ من ذلك غضبًا شديدًا، لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعتِه والاقتداءِ به.
وفي روايةِ للإمامِ أحمد: "واللَّهِ، إنّي لأعلمُكُم باللَّهِ، وأتْقَاكم له قلبًا".
وقولُه في الروايةِ التي خرَّجها البخاريُّ في هذا الباب:
"إنَّ أتقاكمْ وأعلمكُم باللَّهِ أنا"، فيه: الإتيانُ بالضميرِ المنفصلِ مع تأتَي الإتيانِ بالضميرِ المتصلِ، وهو ممنوع عند أكثرِ النحاةِ، إلا للضرورةِ، كقولِ الشاعِرِ:
ضَمِنَتْ إيَّاهُمُ الأرْضُ في دَهْرِ الدَّهَارِيرِ
وإنَّما يجوزُ اختيارًا، إذا لم يتأتَّ الإتيانُ بالمتصلِ، مثلُ أن تبتدئ بالضميرِ
قبلَ عاملِهِ، نحوُ: (إِياكَ نَعْبُدُ) ، فإنَه لا يُبتدئ بضميرٍ متصلٍ، أو
يقعُ بعدَ نحوِ: "إلا إياهُ ".(1/176)
فأمَّا قولُ الشاعر:
أنْ لا يُجَاوِرُنَا إلاكِ ديَّارُ
فَشَاذٌّ.
وأمَا قولُهُ:
وإنَّما يُدَافعُ عنْ أحْسَابِهِم أنا أوْ مثْلِي
فهو - عندهم - متأوَّل على أنَّ فيه مَعْنى الاستثناءِ.
كأنَّه قال: ما يدافعُ عن أحْسابهم إلا أنا.
ولكن؛ هذا الذي وقعَ في هذا الحديثِ يشهدُ لجوازه من غيرِ ضرورةٍ.
ويكون حينئذٍ قولُهُ: "إنَّما يدافعُ عن أحْسابِهم أنا" شاهدًا له، غيرَ محتاج إلى
تأويلٍ. واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
أما قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)
فإنَّه يدلُّ على أنَّ المرأةَ مؤتمنةْ على الإخبار بما في رحِمِها.
ومُصَدَّقة فيه إذا ادَّعَتْ من ذلك مُمْكِنًا.
روى الأعْمشُ، عن مُسْلمٍ، عن مسروق، عن أبيِّ بنِ كعْبٍ.
قال: إنَّ من الأمانةِ أن ائتمنتِ المرأة على فَرْجِها.(1/177)
وقد اختلفَ المفسرونَ من السلفِ فمن بعدَهم في المرادِ بقولِهِ تعالى: (مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) ، ففسَّره قومٌ بالحملِ، وفسَّره قومٌ بالحيضِ.
وقال آخرونَ: كل منهما مراد، واللَّفظُ صالحٌ لهما جميعًا، وهذا هو
المروِي عن أكثرِ السلفِ، منهم: ابن عمرَ، وابنُ عباسٍ، ومجاهد، والحسنُ
والضَّحاك.
وأمَّا ما ذكره عن عَليٍّ وشُرَيْحٍ:
فقال حَرْبٌ الكرمانيُّ: ثنا إسحاقُ - هو: ابن راهويه -: ثنا عيسى بن
يونسَ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن الشَّعْبيِّ، أنَّ امرأةً جاءت إلى عليِّ
بن أبي طالبٍ فقالت: إني طُلِّقْتُ، فحضْتُ في شهرٍ ثلاثَ حِيَضٍ؛ فقال
عليٌّ لشريح: قُل فيها، فقالَ: أقول فيها وأنت شاهد، قال: قُلْ فيها، قال: إنْ جاءت ببطانة من أهلها ممن يُرضى دينُهنَّ وأمانتهن فقل: إنَّها حاضت ثلاثَ حيضٍ طَهُرت عند كل حيضة، صُدِّقَتْ، فقال عليٌّ: قالون. قال عيسى: با لرُّوميَّةِ: أصبتَ.
قال حرْبٌ: وثنا إسحاقُ: أبنا محمدُ بن بكرٍ، ثنا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ.
عن قتادةَ، عن عزرةَ، عن الحسنِ العُرَنيِّ، أنَّ امرأةً طلَّقها زوجُها، فحاضت
في خمس وثلاثينَ ليلةً ثلاثَ حيضٍ، فرفعتْ إلى شُريح فلم يَدرِ ما يقول
فيها، ولم يَقُل شيئًا، فرُفعت إلى عليِّ بنِ أبي طالب، فقال: سلُوا عنها
جاراتِها، فإنْ كان هكذا حيضُها فقد انْقضَتْ عدَّتها، وإلا فأشهر ثلاثٌ.
وهذا الإسنادُ فيه انقطاعٌ، فإنَّ الحسنَ العُرني لم يدرك عليًّا -: قاله(1/178)
أبو حاتمٍ الرازيُّ.
وأمَّا الإسنادُ الذي قبله، فإنَّ الشعبيَّ رأى عليًّا يرجُم شُراحة ووصفَه.
قال يَعْقُوبُ بنُ شيْبةَ: لكنه لم يُصحَّح سماعُه منه.
* * *
قوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
قال تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) .
وقال: (وَبُعولَتُهُنَّ أَحَق بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا) .
فدلَّ ذلكَ على أنَّ من كانَ قصدُه بالرَّجعةِ المضارَّةَ، فإنَّه آثم بذلكَ، وهذا
كما كانُوا في أوَّلِ الإسلامِ قبل حصرِ الطَّلاقِ في ثلاثٍ، يطلًّقُ الرجلُ امرأتَه
ثمَّ يتركُها حتى تقاربَ انقضاءَ عدَّتها، ثمَّ يراجعُها، ثم يطلِّقُها، ويفعلُ ذلكَ
أبدًا بغيرِ نهايةٍ، فيدعُ المرأة لا مُطلقة ولا ممسكةً، فأبطلَ اللَّهُ ذلك، وحصر
الطلاقَ في ثلاثِ مراتٍ.
وذهبَ مالكٌ إلى أنَّ من راجعَ امرأتَهُ قبلَ انقضاءِ عدَّتِها، ثم طلَّقها من
غيرِ مسيس: إن قصدَ بذلك مضارَّتها بتطويلِ العدَّة لم تستأنفِ العدَّةَ، وبَنتْ
على ما مضى منها، وإنْ لم يقصدْ ذلكَ استأنفتْ عدَّةً جديدةً، وقيل: تَبْنِ
مطلقًا، وهو قولُ عطاءٍ وقتادةَ، والشافعيِّ في القديم، وأحمدَ في روايةٍ.
وقيل: تستأنفُ مطلقًا، وهو قولُ الأكثرينَ، منهم: أبو قِلابة، والزُّهريُّ(1/179)
والثَّوريُّ وأبو حنيفة والشافعيُّ - في الجديدِ - وأحمدُ في روايةٍ وإسحاقُ وأبو
عُبيدٍ وغيرُهم.
قال تعالى: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)
قال مجاهدٌ في قولِهِ: (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) قال: لا يَمنع أمَّه أن
تُرضِعَهُ ليحزنَها، وقال عطاءٌ وقتادةُ والزهريُّ وسفيانُ والسُّدِّيُّ وغيرُهم: إذا رضيَتْ ما يرضَى به غيرُها فهي أحقُّ به.
وهذا هو المنصوصُ عن أحمدَ، ولو كانتَ الأمُّ في حبالِ الزَّوج.
وقيلَ: إن كانتْ في حبالِ الزَّوج، فله منعُها منْ إرضاعِهِ، إلا أن لا يُمكنَ
ارتضاعُه من غيرِها، وهو قولُ الشافعيِّ، وبعضِ أصحابِنا، لكن إنَّما يجوزُ
ذلكَ إذا كان قصدُ الزوج به توفيرَ الزوجة للاستمتاع، لا مجرَّدَ إدخالِ الضررِ عليها.
وقوله تعالى: (وَلا مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ) يدخلُ فيه أدنَّ المطلقةَ إذا
طلبتْ إرضاعَ ولدِهَا بأجرةِ مثْلِها لزمَ الأب إجابتُها إلى ذلك، وسواءٌ
وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ، هذا منصوصُ الإمامِ أحمدَ، فإنْ طلبَتْ زيادةً
على أجرةِ مثلها زيادةً كثيرةً، ووجدَ الأبُ منْ يُرضعُه بأجرةِ المثلِ، لم يلزمِ
الأبَ إجابتُها إلى ما طلبَتْ، لأنَّها تقصدُ المضارَّةَ، وقد نصَّ عليه الإمامُ
أحمدُ أيضًا.
* * *(1/180)
قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)
[قال البخاريّ] : ثنا إبْراهيمُ بنُ موسى: ثنا عيسى - هو: ابنُ
يونسَ -، ثنا إسماعيلُ - هو: ابنُ أبي خالدٍ -، عنِ الحارثِ بنِ شُبَيْلٍ.
عنْ أبي عمرو الشيبانيِّ، قال: قالَ لي زَيدُ بنُ أرقمَ: إنْ كُنَّا لنتكلمُ في الصلاةِ على عهدِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيكلِّمُ أحدُنا صاحبَه بحاجَته حتى نزلتْ: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) ، فأُمِرْنا بالسُّكُوتِ.
وخرَّجه مسلمٌ، وزاد فيه: "ونُهينا عن الكلامِ "، وليس عنده: ذكرُ عهدِ
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّجه النسائيُّ، وعندَهُ: "فأمِرْنا حينئذ بالسكوتِ ".
وخرَّجه الترمذيُّ، ولفظُه: كنا نتكلمُ خلفَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ، فيكلمُ الرجلُ منَّا صاحبَه إلى جنبِه، حتى نزلتْ
(وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، قال: "فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلامِ ".
وهذه الروايةُ صريحةٌ برفع آخر.
واختلفَ الناسُ في تحريمِ الكلامِ في الصلاةِ: هل كان بمكةَ، أو بالمدينةِ؟
فقالتْ طائفةٌ: كان بمكةَ.
واستدلُّوا بحديثِ ابنِ مسعودٍ المتقدمِ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنعَ من الكلامِ عند قدومِهِم عليه من الحبشةِ، وإنَّما قدِمَ ابنُ مسعود عليه من الحبشةِ إلى مكةَ،(1/181)
ثم هاجرَ إلى المدينةِ، كذا ذكرَه ابنُ إسحاقَ وغيرُه.
ويعضدُ هذا: أنَه رُويَ: أنَّ امتناعهم من الكلامِ كان بنزولِ قولِهِ: (وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعوا لَهُ وَأَنصِتوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وهذه الآيةُ مكيَّةٌ.
فروى أبو بكرٍ بنُ عياشٍ، عن عاصمٍ، عن المسيّبِ بنِ رافعِ، قالَ:
قالَ ابنُ مسعودٍ: كنا يسلمُ بعضُنا على بعضٍ في الصلاةِ، فجاءَ القرآنُ (وَإِذَا قُرِئَ الْقرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتوا) .
وأخرَّجَه ابنُ جريرٍ وغيرُه.
وهذا الإسنادُ منقطعٌ؛ فإن المسيبَ لم يلقَ ابنَ مسعودٍ.
وروى الهَجَريُّ، عن أبي عياضٍ، عن أبي هريرةَ، قال: كانوا يتكلَّمون
في الصلاةِ، فلما نزلتْ هذه الآيةَُ (وَإِذَا قرِئَ الْفرْآنُ) ، والآيةُ
الأخرى، قال: فأمِرْنا بالإنصاتِ.
وخرَّجه بقيُّ بنُ مخلدٍ في "مسندهِ ". وخرَّجه غيرُه، وعنده: "أو الآيةُ
الأخرى" - بالشكِّ. والهجريُّ، ليس بالقويِّ.
ولكن يشكلُ على أهلِ هذه المقالةِ حديثُ زيدِ بنِ أرقم، الذي خرَّجه
البخاريُّ هاهنا، فإن زيدًا أنصارفيٌ، لم يصلِّ خلفَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ، إنَّما صلى خلفه بالمدينةِ، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلَّمون حتى نزلتْ (وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، وهي مدنيةٌ بالاتفاق.
وأجابَ أبو حاتمٍ ابنُ حبانِ - وهو ممن يقولُ: إن تحريمَ الكلامِ كان(1/182)
بمكة -: وأجيبَ عن هذا بجوابينِ:
أحدُهما: أن زيدَ بنَ أرقم حكى حال الأنصارِ وصلاتَهم بالمدينةِ قبلَ هجرة
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وأنَّهم كانوا يتكلمونَ حينئذٍ في الصلاةِ، فإنَّ الكلامَ حينئذٍ كان مباحًا، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ ذاكَ بمكةَ، فحكى زيد صلاتَهم تلك الأيامَ، لا أنَّ نسخَ الكلامِ كانَ بالمدينةِ.
قلتُ: هذا ضعيف، لوجهينِ:
أحدُهما: أن في روايةِ الترمذيِّ: "كنَّا نتكلمُ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ"، فدلَّ على أنَّه حكى حالَهم في صلاتِهم خلفَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرتِهِ إلى المدينةِ.
والثاني: أنه ذكرَ أنهم لم يُنْهوا عن الكلامِ حتى نزلتِ الآية ُ، وهي إنَما
نزلتْ بعدَ الهجرةِ بالاتفاقِ، فعلمَ أنَّ كلامَهم استمرَّ في الصلاةِ بالمدينةِ، حتى
نزلتْ هذه الآية ُ.
ثم قال ابنُ حبانَ:
والجوابُ الثاني: أن زيدًا حكى حال الصحابةِ مطلقًا من المهاجرينَ وغيرِهم.
ممن كانَ يصلِّي مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ تحريمِ الكلامِ في الصلاةِ، ولم يرد الأنصارَ، ولا أهلَ المدينةِ بخصوصِهم، كما يقولُ القائلُ: فعلْنا كذا وإنَّما فعلَه بعضُهم.
قلتُ: وهذا يردُّه قولُه: "حتى نزلتِ الآية ُ"، فإنَّه يصرحُ بأن كلامَهم
استمرَّ إلى حين نزولِها، وهي إنما نزلتْ بالمدينةِ.
وأجابَ غيرُ ابنِ حبانَ بجوابينِ آخرينِ:(1/183)
أحدُهما: أنَّه يحتملُ أنه كان نهى عن الكلامِ متقدمًا، ثم أذنَ فيه، ثم نهى
عنه لما نزلتِ الآيةُ.
والثاني: أنه يحتملُ أن يكونَ زيدُ بنُ أرقم ومن كان يتكلَّمُ في الصلاةِ لم
يبلغْهم نهيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما نزلتِ الآيةُ انتهَوْا.
وكلا الجوابينِ فيه بُعْدٌ، وإنَّما انتهوا عند نزولِ الآيةِ، بأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ، ونهيِه عن الكلامِ، كما تقدمَ.
وقالت طائفةٌ أخرى: إنَّما حُرِّمَ الكلامُ في الصلاةِ بالمدينةِ؛ لظاهرِ حديثِ
زيدِ بنِ أرقم، ومنعُوا أن يكونَ ابنُ مسعود رجعَ من الحبشةِ إلى مكةَ.
وقالُوا: إنما رجع من الحبشةِ إلى المدينةِ، قبيل بَدْرٍ.
واستدلُّوا بما خرَّجه أبو داودَ الطيالسيُّ في "مسندِهِ " من حديثِ عبدِ اللَّهِ
بنِ عتبةَ، عن ابنِ مسعود، قال: بعثنَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشيِّ، ونحن ثمانونَ رجلاً، ومعنا جعفرُ بنُ أبي طالب - فذكرَ الحديثَ في دخولِهم على النجاشيِّ، وفي آخر -: فجاءَ ابنُ مسعود، فبادرَ، فشهدَ بدرًا.
وروى آدمُ ابنُ أبي إياسٍ في "تفسيره": حدثَنا أبو مَعْشر، عن محمدِ بنِ
كعبٍ، قال: قدمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، والناسُ يتكلمونَ بحوائجِهم في الصلاةِ، كما يتكلَّمُ أهلُ الكتابِ، فأنزلَ اللَّهُ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، فسكتَ القومُ عن الكلامِ.
وهذا مرسلٌ. وأبو معشرٍ، هو: نجيحٌ السِّنديُّ، يتكلمونَ فيه.
وقد اتفقَ العلماءُ على أنَّ الصلاةَ تبطلُ بكلامِ الآدميين فيها عمدًا لغيرِ(1/184)
مصلحةِ الصلاةِ، واختلفُوا في كلامِ الناسي والجاهلِ والعامدِ لمصلحةِ الصلاةِ.
فأمَّا كلامُ الجاهلِ، فيأتي ذكرُه - قريبًا.
وأمَّا كلامُ الناسي والعامد لمصلحة، فيأتي ذكرُه في "أبواب سجود السهوِ"
قريبًا - إن شاءَ اللَّه تعالى َ.
* * *
قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
[قال البخاريُّ] : "بابُ: صلاةِ الخوفِ رِجَالاً ورُكْبَانًا":
رَاجِل: قَائِمٌ.
حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى بنِ سعيدٍ القُرشيُّ: أنا أبي: نا ابنُ جُريج عن
موسى بنِ عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ - نحوًا من قولِ مجاهدٍ: إذا
اختلطُوا قيامًا. وزادَ ابنُ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كانُوا أكثرَ منْ ذلكَ فليُصَفُوا قيامًا ورُكبَانًا".
وخرَّج مسلم من حديثِ سفيانَ، عن موسى بن عقبةَ، عن نافعِ، عن
ابنِ عمرَ، قال: صلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ في بعضِ أيامه، فقامتْ طائفة معه، وطائفةٌ بإزَاءِ العدوِّ، فصلَّى بالذين معه ركعةً، ثم ذهبُوا، وجاء الآخرونَ فصلَّى بهم ركعةً، ثم قضتِ الطائفتانِ ركعةً، ركعةً.(1/185)
قال: وقالَ ابنُ عمرَ: فإذا كان خوف أكثرُ من ذلك فصلِّ راكبًا أو قائمًا
تُومِيءُ إيماءً.
فجعلَ هذ الوجهَ من قولِ ابنِ عُمرَ، ولم يرفعْه.
وروى أبو إسحاق الفزاريُّ، عن موسى بن عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ
- الحديثَ مرفوعًا، ولم يذكرْ في آخرِه: "فإذا كان خوف أكثرُ من ذلك " -
إلى آخر.
وخرَّج ابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحِه " من حديثِ جريرٍ، عن
عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، عن نافع، عنِ ابنِ عمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الخوفِ
- فذكرَ صفتِها بمعنى حديثِ موسى بنِ عقبةَ، وقال في آخرِ الحديثِ: "فإنْ
كانَ خوفًا أشدَّ من ذلك فَرِجالاً أو رُكبانًا".
وقد خالفَ جريرًا يحيى القطَّانُ وعبدُ اللَّهِ بنُ نُميرٍ ومحمدُ بنُ بشرٍ
وغيرُهم، روَوْه عن عبيدِ اللَّهِ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ - موقوفًا كلَّه.
ورواه مالكٌ في "الموطإِ"، عن نافع، عنِ ابنِ عُمرَ - في صفةِ صلاةِ
الخوفِ بطولِهِ -، وفي آخره: "فإن كان خوفًا هو أشدَّ من ذلك صلُّوا رجالاً
قيامًا على أقدامِهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلةِ، أو غيرَ مستقبِليها".
قال مالكٌ: قال نافع: لا أرى ابنَ عمرَ ذكرَ ذلك إلا عن رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّجه البخاريُّ في "التفسيرِ" من طريقِ مالكٍ كذلك.(1/186)
قال ابنُ عبدِ البرِّ: رواه مالكٌ، عن نافع على الشكِّ في رفعهِ، ورواه
عن نافع جماعةٌ لم يشكُّوا في رفعهِ، منهمُ: ابنُ أبي ذئبٍ وموسى بنُ عقبةَ
وأيوبُ بنُ موسى.
وذَكَرَ الدارقطنيُّ أن إسحاق الطبَّاعَ رواه عن مالكٍ ورفعَهُ من غيرِ شكٍّ.
وهذا الحديثُ ينبغِي أن يضافَ إلى الأحاديثِ التي اخْتَلفَ في رفعِها نافعٌ
وسالم، وهي أربعةٌ سبقَ ذكرُها بهذَا الاختلافِ في رفع أصلِ الحديثِ في
صلاةِ الخوفِ عن نافع.
وبقي اختلافٌ آخرُ، وهو في قولِهِ في آخرِ الحديثِ: "فإنْ كان خوفًا أكثرَ
من ذلك " إلى آخر؛ فإن هذا قد وقفه بعضُ من رفعَ أصلَ الحديثِ، كما
وقفَه سفيانُ، عن موسى بن عقبةَ، وجعلَه مُدرجًا في الحديثِ.
وقد ذكرَ البخاريُ؛ أنَّ ابنَ جريج رفعَه عن موسى، وخرَّجه من طريقِه
كذلك.
وأمَّا قولُ مجاهدٍ المشارُ إليه في روايةِ البخاريِّ: روى ابنُ أبي نجيحٍ، عن
مجاهدٍ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا) ، إذا وقعَ الخوفُ صلَّى على
كلِّ وجهةٍ، قائمًا أو راكبًا أو ما قدرَ، ويومئُ برأسِهِ، ويتكلَّمُ بلسانهِ.
وروى أبو إسحاقَ الفزاريُّ، عن ابن أبي أنيسةَ، عن أبي الزبير، قالَ:
سمعتُ جابرًا سُئلَ عن الصلاةِ عند المسايفة؟
قال: ركعتينِ ركعتينِ، حيث
توجهتَ على دابتكَ تومى إيماءً.
ابنُ أبي أنيسةَ، أظنُّه: يحيى، وهو ضعيفٌ.(1/187)
وخرَّج الإسماعيليُّ في "صحيحِه "، وخرَّجه من طريقه البيهقى، من
روايةِ حجاج بنِ محمدٍ، عن ابنِ جريجٍ، عن ابنِ كثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال:
إذا اختلطُوا، فإنَما هو التكبير والإشارةُ بالرأسِ.
قال ابنُ جريج: حدثني موسى بنُ عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عُمرَ، عنِ
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثلِ قولِ مجاهدٍ: إذا اختلطُوا، فإنَّما هو التكبيرُ والإشارةُ بالرأسِ.
وزاد: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ كثرُوا فليصلُّوا ركبانًا أو قياما على أقدامِهِم " - يعني: صلاةَ الخوفِ.
وخرَّجه - أيضًا - من رواية سعيدِ بنِ يحيى الأمويِّ، عن أبيه، عن ابنِ
جريجٍ، ولفظُه: عن ابنِ عمرَ - نحوًا من قولِ مجاهد: إذا اختلطوا، فإنَّما
هو الذكرُ وإشارةٌ بالرأسِ.
وزاد ابنُ عمرَ: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"وإن كانُوا أكثرَ من ذلك فليصلُّوا قيامًا وركبانًا ".
كذا قرأتُه بخط البيهقيِّ.
وخرَّجه أبو نُعيمٍ في "مستخرجِهِ على صحيح البخاريّ " من هذا الوجهِ.
وعندَهُ: "قيامًا وركباناً"، وهو أصحُّ.
وهذه الروايةُ أتمُّ من روايةِ البخاريِّ.
ومقصودُ البخاريِّ بهذا: أنَّ صلاةَ الخوفِ تجوزُ على ظهورِ الدوابِّ(1/188)
للركبانِ، كما قال تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ ركبانًا) .
ويعني: "رجالاً": قيامًا على أرجلهم، فهو جمعُ راجلٍ، لا جمعَ رجلٍ، و"الركبانُ ": على الدوابِّ.
وقد خرَّج فيه حديثًا مرفوعًا.
وقد روي عن ابنِ عمرَ وجابرٍ، كما سبق.
وقال ابنُ المنذرِ: أجمعَ أهلُ العلم على أن المطلوبَ يصلِّي على دابتِهِ -
كذلك قال عطاءُ بنُ أبي رباحِ، والأوزاعيُّ، والشافعيّ وأحمدُ، وأبو ثورٍ -، وإذا كان طالبًا نزلَ فصلى بالأرضِ.
قال الشافعيُّ: إلا في حالٍ واحدةٍ، وذلك أن يقل الطالبونَ عن المطلوبين.
ويُقطَع الطالبونَ عن أصحابِهم، فيخافون عودةَ المطلوبين عليهم، فإذا كانُوا
هكذا كان لهم أن يصلُّوا يُومِئُون إيماءً، انتهى.
وممن قال: يصلِّي على دابته ويومِئُ: الحسنُ والنخعي والضحاكُ، وزاد:
أنه يصلِّي على دابَّتِه طالبًا كانَ أو مطلوبًا، وكذا قال الأوزاعيُّ.
واختلفتِ الروايةُ عن أحمدَ: هل يصلِّي الطالبُ على دابتِه، أم لا يصلِّي
إلا على الأرضِ؟ على روايتين عنه، إلا أن يخافَ الطالبُ المطلوبَ، كما قال الشافعيُّ، وهو قولُ أكثرِ العلماءِ.
قال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ بنُ جعفرٍ: أما المطلوبُ، فلا يختلفُ القولُ فيه، أنه
يصلِّي على ظهرِ الدابةِ.
واختلفَ قولُه في الطالبِ، فقالُوا عنه: ينزلُ فيصلِّي
على الأرضِ، وإن خافَ على نفسِهِ صلَّى وأعادَ، وإنْ أخَّرَ فلا بأسَ، والقولُ الآخرُ: أنه إذا خافَ أن ينقطعَ عن أصحابِهِ أن يعودَ العدوُّ عليه، فإنه يصلِّي على ظهرِ دابتِه، فإنه مثلُ المطلوبِ لخوفِهِ، وبه أقولُ. انتهى.
وما حكاه عن أحمدَ من أن الطالبَ إذا خافَ فإنه يصلِّي ويعيدُ، فلم يذكر(1/189)
به نصًّا عنه، بل قد نصَ على أنه مثلُ المطلوبِ.
قال - في رواية أبي الحارث -: إذا كان طالبًا وهو لا يخافُ العدوَّ، فما
علصتُ أحدًا رخَّص له في الصلاة على ظهرِ الدابةِ، فإن خافَ إنْ نزلَ أن
ينقطعَ من الناسِ، ولا يأمنُ العدوًّ فليصل على ظهرِ دابتِه ويلحقُ بالناسِ.
فإنه في هذه الحالِ مثلُ المطلوبِ.
ونَقَلَ هذا المعنى عنه جماعةٌ، منهم: أبو طالبٍ والأثرمُ.
وله أن يصلِّيَ مستقبلَ القبلةِ وغيرَ مستقبلِها على حسبِ القدرةِ.
وفي وجوبِ استفتاح الصلاةِ إلى القبلةِ روايتانِ عن أحمدَ:
فمن أصحابِنا من قال: الروايتانِ مع القدرةِ، فأمَّا معَ العجزِ فلا يجبُ.
روايةً واحدةً.
وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ عكسَ ذلك، قال: يجبُ مع القدرةِ لأ ومع عدمِ
الإمكانِ، روايتانِ.
وهذا بعيدٌ جدًّا - أعني: وجوبَ الاستفتاح إلى القبلةِ مع العجزِ، ولعلَّ
فائدة إيجابِ الإعادةِ بدونِهِ.
ولهم أن يصلُّوا صلاةَ شدةِ الخوفِ رجالاً وركبانًا في جماعةٍ، نصَّ عليه
أحمدُ، وهو قولُ الشافعيِّ ومحمدِ بنِ الحسنِ.
وقال أبو حنيفةَ والثوريُّ والأوزاعيُّ: لا يصلونَ جماعةً، بل فرادَى؛ لأنَّ
المحافظةَ على الموقفِ والمتابعةِ لا تمكنُ.
وقال أصحابُنا ومَن وافقهم: يُعْفَى عن ذلك هاهنا، كما يُعْفَى عن استدبارِ
القبلةِ والمشي في صلواتِ الخوفِ، وإن كان معَ الانفرادِ يمكن تركُ ذلك.(1/190)
قالُوا: ومتى تعذَّرتِ المتابعةُ لم تصحَّ الجماعةُ بلا خلافٍ.
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
وقد قيلَ في تأويلِ قولِهِ تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) : إنه يدخل فيها دفْعُهُ عن العُصاةِ باهلِ الطَّاعةِ، وجاءَ في
الآثارِ: إنَّ اللهِ يدْفَعُ بالرجلِ الصالح عن أهلهِ وولدِهِ وذريَّتِه ومنْ حَوله.
وفي بعضِ الآثارِ يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: "أحبُّ العبادِ إليَّ المتحابونَ بجلالِي المشَّاءونَ في الأرضِ بالنصيحةِ، المشَّاءونَ على أقدامِهِم إلى الجُمُعاتِ ".
وفي رواية: "المعلَّقةُ قلوبُهم بالمساجدِ، والمستغفرونَ بالأسحارِ، فإذا أردْتُ إنزالَ عذاب بأهلِ الأرضِ فنظَرْتُ إليهم صرفْتُ العذابَ عن الناسِ "
وقال مكحولٌ: ما دامَ في الًنَّاسِ خمسةَ عشرَ يستغفرُ كلّ منهُم اللَّهَ كلَّ يومٍ خمسًا وعشرينَ مرَّةً لم يَهْلِكُوا بعذابِ عامَّة.
والآثارُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
[قال البخاريُّ] : وقال إبراهيمُ عليهِ السلامُ: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
وقد فسَّرها سعيدُ بن جبيرٍ بالازديادِ من الإيمانِ، فإنَّه قال لَهُ:(1/191)
(أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، فطلبَ زيادةً في إيمانِهِ؛ فإنَّه
طلبَ أن ينتقل من درجةِ علم اليقينِ إلى درجة عينِ اليقينِ وهي أعلى
وأكمل، وفي "المسندِ" عن ابنِ عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الخبر كالمعاينةِ".
* * *
قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
في صدقةِ السِّرِ، وفي فضلِهَا، نصوصٌ كثيرة، فمن القُرآنِ:
قولُهُ: (وَإِن تخْفُوهَا وَتؤْتوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكمْ) .
ومن السنة: حديثُ:
"رجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفَاهَا، حتى لا تعلمَ شمالُه، ما تُنفق يمينُه ".
وحديثُ: "الجاهرُ بالقرآنِ كالجاهرِ بالصدقةِ، والمسرُّ بالقرآنِ كالمُسِر
بالصدقةِ".
وحديثُ أنسٍ: "لمَّا خلقَ اللَّهُ الأرضَ، جعلَتْ تميدُ فخلقَ الجبالَ.. "
الحديثَ، وفي آخره: "قيلَ: فهل منْ خلقِكَ شيء أشدُّ من الريحِ؛ قالَ: نعمْ، ابنُ آدمَ يتصدقُ بيمينِه فيُخفِيهَا عنْ شمالِهِ ".
وحديثُ أبي ذر، وزادَ: ثمَّ نزعَ بهذه الآية: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) .(1/192)
وحديثُ: "صدقة السرِّ، تُطفئُ غضبَ الربَ عزَّ وجلَّ، وتدفعُ مِيتةَ السوءِ"
خرَّجه الترمذيُّ، وابنُ حبانٍ.
وحديثُ أبي طلحةَ، لمَّا تصدَّقَ بحائِطِه، وقالَ: "لو استطعتُ أن أُسره، لم
أعلنْه " خرَّجه الترمذيُّ في "تفسير".
واختلفُوا في الزكاةِ: هلِ الأفضلُ إسرارُها أم إظهارُها؟
فرُويَ عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، قالَ: جعلَ اللَّهُ صدقةَ الفريضة علانيتَها أفضلَ من سرِّها، يُقالُ: بخمسةٍ وعشرينَ ضعفًا، خرَّجه ابنُ جريرٍ.
وفي روايةٍ، قال: وكذلك جميعُ الفرائضِ والنوافلِ في الأشياءِ كلِّها.
وقال سفيانُ الثوريّ في هذه الآيةِ: هذا في التطوع.
وعن يزيد بنِ أبي حبيب: إنَّما نزلتْ هذه الآية ُ في اليهودِ والنصارى وكان
يأمرُ بِقَسم الزكاةِ في السرِّ، قالَ ابنُ عطيةَ: وهذا مردود، لا سيَّما عند
السلفِ الصالح، فقد قالَ ابنُ جريرٍ الطبريِّ: أجمعَ الناسُ، أنَّ إظهارَ
الواجبِ، أفضلُ.
قال المهدويُّ: وقيل المُرادُ بالآيةِ فرضُ الزكاةِ والتطوعُ، وكان الإحفاءُ فيها
أفضلَ في مدّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ ساءتْ ظنونُ الناسِ، بعد ذلك، فاستحسنَ العلماءُ، إظهارَ الفرائضِ، لئلا يُظن بأحدٍ المنعُ.
قال ابنُ عطيةَ: وهذا القولُ مخالف للآثارِ، قالَ: ويشبه في زمنِنا أنْ(1/193)
يحسنَ التسترُ بصدقةِ الفرضِ، فقد كثر المانعُ لها، وصار إخراخها عُرضةً
للرِّياءِ.
وهذا الذي تخيَّله ابنُ عطيةَ ضعيف، فلو كانَ الرجلُ في مكانٍ يتركُ أهلُه
الصلاةَ، فهل يُقال: إن الأفضلَ أنْ لا يُظهرَ صلاتَه المكتوبة؟!.
وقال النَّقاشُ: إنَّ هذه الآيةَ نسخَها قولُهُ تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقونَ أَموَالَهُم
بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) الآية. انتهى ما ذكرَهُ.
ودعوى النسخ ضعيف جدًّا، وإنَّما معْنى هذه الآيةِ، كمَعْنى التِي قبلها:
إنَّ النفقةَ تُقبلَ سرًّا، وعلانيةً.
وحُكي عن المهدويِّ أنَّ قولَه تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِن اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) ، رخَّصتْ في صدقةِ الفرضِ، على أهلِ القراباتِ المشركين.
قال ابنُ عطيةَ: وهذا عندي مردود.
وحكي عن ابنِ المنذرِ نَقْلُ إجماع من يحفظُ: أنَّه لا يُعْطَى الذِمِّيُّ من
صدقةِ المالِ شيئًا.
قلتُ: رُوي عن ابنِ عمرَ أنَّه قال: في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ) : أن المساكينَ: أهلُ الكتابِ، وإسنادُهُ لا يثبتُ.
وروى الثعلبيُّ بإسنادِهِ عن سعيدِ بنِ سُويدٍ الكلبيِّ يرفعُه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الجهرِ بالقراءة، والإخفاءِ فقالَ -: هي كمنزلةِ الصدقةِ (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تخْفوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) .
وروى الثعلبيُّ في "تفسيره"، عن أبي جعفرٍ في قولِهِ تعالى: (إِن تُبْدُوا
الضَدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال: هي الزكاةُ المفروضةُ، (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ)(1/194)
قال: يعني التطوعَ. هذا تفسير غريب.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
[قال البخاريُّ] : "بابُ: تحْريمِ تجارةِ الخَمْرِ في المسْجِدِ":
حدثنا عبْدانُ، عنْ أبي حمزةَ، عن الأعمش، عنْ مسلمٍ عن مسروقٍ، عن
عائشةَ، قالتْ لما أُنزلتْ الآياتُ من سُورة البقرةِ في الرِّبا خرجَ رسولُ اللِّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجدِ، فقرأهُنَّ على الناسِ، ثمَّ حرَّم تجارةَ الخمرِ.
ذكْرُ الخمرِ بالتحريمِ - إما لشربِه، أو للتجارةِ فيه -: من جملةِ تبليغ دينِ
اللَّهِ وشرعِهِ، وذلكَ لأنَّه تُصان عنه المساجدُ، فإنَّ اللَّهَ ذكرَ في كتابِهِ الذي
يُتلى في الصلواتِ في المساجدِ: الخمرَ والميسرَ والأنصابَ والأزلامَ، كما ذكرَ: الزِّنا والرِّبا وسائرَ المحرمات من الشركِ والفواحشِ، ولم يزلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلُو(1/195)
ذلكَ في المسجدِ في الصلواتِ وغيرِها، ولم يزلْ يذكرُ تحريمَ ما حرَمه اللَّهُ في
المساجدِ وفي خطبِهِ على المنبرِ، وهذا البابُ مما لا تدعُو الحاجةُ إليه؛ لظهوره.
ولكن يشكل في هذا الحديثِ أمرانِ:
أحدُهُما: أن تحريمَ التجارة في الخمرِ مما شرعَ من حينِ نزولِ تحريمِ الخمرِ.
ولم يتأخرْ إلى نزولِ آياتِ الرًّبا، فإنَّ آياتِ الرّبا من آخر ما نزلَ من القرآنِ.
كما رَوَى البخاريّ في "التفسيرِ" من روايةِ الشعبيِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال:
آخرُ آيةٍ نزلتْ على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - آيةُ الرئا.
وفي "الصحيحينِ " عن جابرٍ، أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح وهو بمكةَ يقولُ: "إن اللَهَ ورسولَهُ حرَّمَ بيع الخمر والميتةَ والخنزيرَ والأصنامَ ".
وخرَّج مسلم من حديثِ أبي سعيد الخدري، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يا أيها
النَّاسُ، إن اللَّهَ يعرِّض بالخمرِ، ولعل الله سينزلُ فيها أمرًا، فمنْ كانَ عندَهُ منها شيء فليبْعهُ ولينتفعْ بهِ " قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتَى قالَ: "إن اللَّه حرَّم الخمرَ، فمنْ أدركتْه هذه الآيةُ وعندَهُ منها شيء فلا يشربْ ولا يبعْ "، قال: فاستقبلَ الناسُ بما كانَ عندَهُم منها في طريقِ المدينةِ فسفكُوهَا.
وهذا نصّ في تحريمِ بيعِها مع تحريمِ شربِها.
والثاني: أن آياتِ الربا ليسَ فيها ذكرُ الخمرِ، فكيفَ ذكرَ تحريمَ التجارةِ في
الخمرِ مع تحريمِ الرِّبا؟
ويجابُ عن ذلكَ: بأنَّ مرادَ عائشةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبرَ بتحريمِ التجارةِ في(1/196)
الخمرِ مع الرِّبا، وإنْ كانَ قد سبقَ ذكرُ تحريمِ بيع الخمرِ.
وقد رَوى حجَّاجُ بنُ أرطأة - حديثَ عائشةَ -، عن الأعمشِ بإسنادِ
البخاريِّ، ولفظُهُ: لما نزلتْ الآياتُ التي في سورةِ البقرةِ نَهَى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الخمرِ والرِّبا.
وإنَّما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واللَّهُ أعلمُ - بتحريمِ التجارةِ في الخمرِ مع الربا ليُعْلمَ بذلك أنَّ الرِّبا الذي حرَّمه اللَّهُ يشملُ جميعَ أكل المالِ مما حرَّمه اللَّهُ من المعاوضاتِ، كما قالَ: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، فما كانَ بيْعًا فهو حلالٌ، وما لم يكن بيْعًا فهو رِبًا حرام - أي: هو زيادة على البيع الذي أحلَّه اللَّهُ.
فدخلَ في تحريمِ الربا جميعُ أكلِ المالِ بالمعاوضاتِ الباطلةِ المحرمةِ، مثلُ رِبا
الفضلِ فيما حرَّم فيه التفاضلُ، وربا النَّسَاء فيما حرَّم فيه النَّسأ، ومثل أثمانِ
الأعيانِ المحرَّمة، كالخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ، ومثل قَبولِ الهدية على
الشَّفاعةِ، ومثل العقودِ الباطلةِ، كبيع الملامسةِ والمنابذةِ، وبيع حَبَلِ الحبلةِ.
وبيع الغَرَرِ، وبيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحِها، والمُخَابرةِ، والسَّلَفِ فيما لا يجوز السَّلَفُ فيه.
وكلامُ الصحابةِ في تسميةِ ذلكَ رِبًا كثير، وقد قالُوا: القَبَالاتُ رِبا، وفي
النَّجشِ أنه رِبا، وفي الصفقتين في الصفقةِ أنه رِبا، وفي بيع الثمرةِ قبلَ بدوِّ
صلاحِها أنَه رِبا.
ورُوي: أنَّ غَبْنَ المُسْتَرسلِ رِبًا، وأنَّ كلَّ قرْضٍ جَرَّ نفْعًا فهو رِبًا.(1/197)
وقال ابنُ مسعود: الرِّبا ثلاثة وسبْعُونَ بابًا.
وخرَّجه ابنُ ماجةَ والحاكمُ عنه مرفوعًا.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ، أن عمر قالَ: من آخرِ ما نزلَ آيةُ
الرِّبا، وإنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قبِضَ قبلَ أن يُفسِّرها لنا، فدَعُوا الرِّبا والريبةَ.
يشيرُ عمرُ إلى أنَّ أنواعَ الرِّبا كثيرة، وأنَّ من المُشْتَبِهَاتِ ما لا يتحققُّ دخولُه
في الرِّبا الذي حرَّمه اللَّهُ، فما رابكم منه فدعُوه.
وفي "صحيح مسلم " عن عمرَ، أنَّه قالَ: ثلاث وددتُ أنَّ رسولَ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - كانَ عهِدَ إلينا عهْدًا ننتهي إليه: الجَدُّ، والكَلالةُ، وأبوابّ من أبوابِ الرَبا.
وبعضُ البيوع المنهيِّ عنها نُهِيَ عنها سدًا لذريعةِ الرِّبا، كالمُحاقَلةِ.
والمزَابنةِ، وكذلك قِيلَ في النهي عن بيع الطعامِ قبل قبضِهِ، وعن بيعتينِ في
بيعيةٍ، وعن ربح ما لم يضمنْ، وبسطُ هذا موضعُهُ "البيوعُ ".
وإنَّما أشرْنَا هنا إلى ما يبيِّنْ كثيرةَ أنواع أبوابِ الرِّبا، وأنَّها تشملُ جميعَ
المعاوضاتِ المحرمة، فلذلكَ لمَّا نزلَ تحريمُ الرِّبا نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الرِّبا، وعن بيع الخمرِ، ليبينَ أنَّ جميعَ ما نُهِيَ عن بيعِهِ داخل في الرِّبا المنهيِّ عنه. واللَّهُ أعلم.
* * *(1/198)
قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
ولمَّا نزل قولُه تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) ، شقَّ ذلك على المسلمين، وظنُّوا دخُولَ
هذه الخواطرِ فيهِ، فنزلتْ الآية ُ التي بعدَها، وفيها قولُه: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ، فبيَّنت أنَّ ما لا طاقةَ لهُم بهِ، فهو غيرُ مؤاخذٍ لهِ.
ولا مُكلَّف به، وقد سمَّى ابنُ عباسٍ وغيرُه ذلك نسْخًا، ومرادهُم أنَّ هْذه
الآيةَ أزالتِ الإيهامَ الواقعَ في النُّفوسِ من الآيةِ الأُولى، وبيَّنت أنَّ المرادَ:
بالاَية الأُولى العزائمُ المصمَّمُ عليْهَا، ومثل هذا البيان كانَ السلفُ يسمّونَه
نسخًا.
* * *(1/199)
سُورَةُ آلِ عِمْرَان
قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ)
إنَّ الشهادتينِ منْ خصالِ الإسلامِ بغير نزاع، وليسَ المرادُ الإتيانَ بلفظِهِمَا
دونَ التَّصديقِ بهما، فعُلِمَ أنَّ التصديق بهِمَا، داخلٌ في الإسلامِ، وقد فسَّرَ
الإسلامَ المذكورَ في قولِهِ تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) .
بالتَوحيدِ والتَّصديقِ، طائفةٌ من السلفِ، منهُم محمدُ بنُ جعفرِ بنِ الزُّبيرِ.
وأمَّا إذا نُفِيَ الإيمانُ عنْ أحدٍ، وأُثبتَ له الإسلامُ، كالأعرابِ الَّذينَ أَخبرَ
اللَّهُ عنهُم، فإنَه ينتفِي عنهُم رسُوخُ الإيمانِ في القلبِ، وتثبُتُ لهم الشاركةُ
في أعمالِ الإسلامِ الظاهرةِ مع نوع إيمان يُصحِّحُ لهم العملَ، إذْ لولا هذا
القدرُ منَ الإيمانِ، لم يكونُوا مسلمينَ، وإنَّما نَفَى عنهُمُ الإيمانَ، لانتفاءِ ذوقِ
حقائقه، ونقصِ بعضِ واجباتِهِ، وهذَا مبنيٌّ على أنَّ التصديقَ القائمَ بالقلوبِ
يتفاضل.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
المحبةُ الصحيحةُ تقتضِي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوباتِ وبغضِ(1/200)
المكروهاتِ، قالَ عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) .
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
قال الحسنُ: قال أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نُحبّ ربَّنا حبًّا شديدًا، فأحبَّ اللَّه أن يجعلَ لحبّه علمًا، فأنزلَ اللَّهُ هذه الآية.
وفي "الصحيحين " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ثلاثٌ منْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سواهُمَا، وأنْ يُحبَّ المرءَ لا يُحبُه إلا للَّهِ، وأنْ يكره أن يرْجِعَ إلى الكُفرِ بعد إذ أنقذَهُ اللَّهُ منه كما يكرَهُ أنْ يُلقَى في النارِ".
فمنْ أحبَّ اللَّهَ ورسولَهُ محبةً صادقةً من قلبِهِ، أوجبَ له ذلكَ أنْ يحبَّ
بقلبِهِ ما يُحبُّه اللَّهُ ورسولُهُ، ويكرهُ ما يكرههُ اللَّهُ ورسولُهُ، ويرضَى بما يَرضَى اللَّهُ رسولُهُ، ويسخطُ ما يسخطهُ اللَّهُ ورسولُهُ، وأنْ يعملَ بجوارحِهِ بمقتضَى هذا الحبِّ والبغضِ، فإنْ عملَ بجوارِحِهِ شيئًا يخالفُ ذلكَ، بأن ارتكبَ بعض ما يكرههُ اللَّهُ ورسولُه، أو تركَ بعضَ ما يحبهُ اللَّهُ ورسولُهُ مع وجوبِهِ والقدرةِ عليه، دل ذلكَ على نقصِ محبَّته الواجبةِ، فعليهِ أن يتوبَ من ذلكَ ويرجعَ إلى تكميلِ المحبةِ الواجبةِ.
قال أبو يعقوب النَّهْرُجُوريُّ: كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّه عزَّ وجل ولم يوافقِ
اللَّهَ في أمرِهِ، فدعواهُ باطلةٌ، وكلُّ محب ليسَ يخافُ اللَّهً، فهو مغرور.(1/201)
وقالَ يحيى بنُ معاذٍ: ليسَ بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ عزَ وجلَّ ولم
يحفظْ حدودَهُ.
وسُئلَ رُويمٌ عن المحبةِ، فقالَ: الموافقةُ في جميع الأحوالِ، وأنشدَ:
ولو قُلتَ لي مُتْ مِتُّ سمعًا وطاعةً. . . وقُلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرْحبًا
ولبعضِ المتقدمينَ:
تعصي الإلهَ وأنت تزعُمُ حُبَّه. . . هذا لعَمْرِي في القياسِ شَنيعُ
لو كانَ حُبُّك صادقًا لأطعتَه. . . إنَّ المُحِبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ
فجميعُ المعاصِي تنشأُ من تقديمِ هوى النفوسِ على محبةِ اللَّهِ ورسولِهِ.
وقد وصفَ اللَهُ المشركينَ باتِّباع الهَوى في مواضعَ منْ كتابِهِ، وقال تعالى:
(فَإِن لَّم يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاه بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) .
وكذلكَ البدعُ إنَّما تنشأُ من تقديمِ الهَوى على الشَّرع، ولهذا يُسمَّى أهلُها
أهلَ الأهواءِ.
وكذلكَ المعاصِي إنَّما تقعُ من تقديمِ الهوى على محبةِ اللَّهِ، ومحبةِ ما
يحبه.
وكذلك حَبُّ الأشخاصِ: الواجبُ فيه أنْ يكونَ تبعًا لما جاءَ بهِ الرسولُ
- صلى الله عليه وسلم -.
فيجبُ على المؤمنِ محبةُ اللَّهِ ومحبةُ من يحبُّهُ اللَّهُ من الملائكةِ والرسلِ
والأنبياءِ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ عمومًا، ولهذا كانَ من علاماتِ
وجودِ حلاوةِ الإيمانِ أن يُحبَّ المرءَ لا يحبُه إلا للَّهِ، ويحرِّمَ موالاةَ أعداءِ اللهِ
ومن يكرهُهُ اللَّهُ عمومًا، وقد سبقَ ذلكَ في موضع آخرَ، وبهذا يكونُ الدِّينُ(1/202)
كلُّه للِّهِ. و"منْ أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للِّهِ، وأعطَى للهِ، ومنع للهِ، فقدِ استكملَ الإيمانَ ".
ومن كانَ حُبُّه وبُغضُه وعطاؤه ومنعُه لِهَوى نفسِهِ، كانَ ذلك نقصًا في
إيمانِهِ الواجبِ، فيجبُ عليه التَّوبةُ من ذلكَ والرُّجوعُ إلى اتِّباع ما جاء به
الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تقديمِ محبةِ اللَّهِ ورسولِهِ، وما فيهِ رضا اللَّهِ ورسولِهِ على هوى النفوسِ ومراداتِهَا كلِّها.
قال وهيبُ بنُ الوردِ: بلغَنَا - واللَّهُ أعلمُ - أنَّ موسى - عليهِ السلامُ - قالَ: يا ربَ أوصِني؟
قال: أوصيكَ بي، قالَهَا ثلاثاً، حتَّى قال في الآخرةِ:
أوصيكَ بي أن لا يعرضَ لكَ أمرٌ إلا آثرتَ فيه محبَّتِي على ما سِواها، فمنْ
لم يفعلْ ذلكَ لم أزكِّهِ ولم أرحمْهُ.
والمعروفُ في استعمال الهَوى عند الإطلاقِ أنَّه الميلُ إلى خلافِ الحق، كما
في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) .
وقالَ: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) .
وقد يُطلقُ الهوى بمعنى المحبةِ والميلِ مطلقًا، فيدخلُ فيه الميل إلى الحقِّ
وغيرِهِ، وربَّما استُعْمِلَ بمعنى محبةِ الحقِّ خاصةً والانقيادِ إليه.
وسئلَ صفوانُ بنُ عسَّالٍ: هل سمعتَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ الهَوى؟
فقال: سأله أعرابيٌّ عن الرجل يُحبُّ القومَ ولم يلحقْ بِهِم، فقال: "المرءُ مَعَ مَنْ أحبَّ ".(1/203)
ولمَّا نزلَ قولُهُ عزَّ وجل: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) ، قالتْ عائشةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما أرَى ربَّك إلا يُسارِعُ في هواك.
وقال عمرُ في قصة المشاورةِ في أُسارَى بدرٍ: فهوَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالَ أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قلتُ، وهذا الحديثُ مما جاء استعمالُ الهَوى فيه بمعنى المحبةِ المحمودةِ.
وقد وقعَ مثلُ ذلكَ في الآثارِ الإسرائيليةِ كثيرًا، وكلامُ
مشايخ القومِ وإشاراتُهم نظمًا ونثرًا يكثُر فيها هذا الاستعمال.
وممَّا يناسبُ معنى الحديثِ من ذلكَ قولُ بعضهِم:
إن هواكَ الَّذي بقلْبِي. . . صَيرنِي سامِعًا مطِيعًا
أخذتَ قلْبي وغَمْضَ عيني. . . سَلَبتنِي النَّومَ والهُجُوعا
فذَرْ فؤادِي وخُذْ رُقادِي. . . فقالَ: لا بلْ هُمَا جميعًا
* * *
قوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37"
[قالَ البخاريُّ] : وقال ابنُ عباسٍ: (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)(1/204)
: للمسجدِ يخدُمُها.
هذا من روايةِ عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ.
وقاله - أيضًا -: مُجاهد، وعكرمة، وقتادةُ، والربيعُ بنُ أنسٍ وغيرُهم.
وقال قتادةُ والربيعُ وغيرُهما: كانوا يُحَرِّرُونَ الذكورَ من أولادِهِم للكنيسةِ
يخدُمُها، فكانتْ تظن أنَّ ما في بطنِهَا ذكرًا، فلمَّا وضعتْ أنثى اعتذرتْ من
ذلكَ إلى اللَّهِ، وقالتْ: (وَلَيْسَ الذَّكَر كالأُنثَى) ، لأنَ الأنثى لا
تقْوى على ما يقْوَى عليه الذكرُ من الخدمةِ، ولا تستطيعُ أن تلازمَ المسجدَ في
حيضِها، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبول حَسَنٍ) - يعني:
أنَّ اللَّهَ قبِلَ نَذْرَها، وإنْ كان أنثَى، فإنه أعلمُ بما وضعتْ، وهذا كان في دينِ بني إسرائيلَ.
وقد ذكَرَ طائفة من المفسرينَ: أنَّ هذا كانَ شرعًا لهُم، وأنَّ شرْعَنا غيرَ
موافقٍ له.
وخالفهُم آخرونَ:
قال القاضي أبو يَعْلَى في "كتاب أحكام القرآنِ ": هذا النذرُ صحيح في
شريعتِنَا، فإنَّه إذا نذَرَ الإنسانُ أن ينَشِّئَ ولدَهُ الصغيرَ على عبادةِ اللَّهِ وطاعتِهِ
وأنْ يعلمَه القرآنَ والفقهَ وعلومَ الدِّينِ صَحَّ النذرُ.
وهذا الذي قالَهُ حقٌّ، فقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"من نذَرَ أن يطيعَ اللهَ فليطعْه ".
فلو نذرَ أحد أن يخدُمَ مسجدا للَّهِ عزَّ وجلَّ لزِمَه الوفاءُ بذلكَ مع القدرةِ،(1/205)
وأمَّا إنْ نذَرَ أن يجعلَ ولده للَّهِ ملازمًا لمسجدٍ يخدُمُه ويتعبَّدُ فيه، فلا يبعد أن
يلزمَهُ الوفاءُ بذلكَ، فإنَّه نذرُ طاعةٍ فيلزمه أن يجرِّد ولدَه لما نذرَهُ له، ويجبُ
على الولدِ طاعةُ أبيه إذا أمرَهُ بطاعةِ اللِّهِ عزَّ وجلَّ.
وقد نصَّ الإمامُ أحمدُ على أن الكافرينِ إذا جعَلا ولدهُمَا الصغيرَ مسلمًا
صار مسلمًا بذلكَ.
ولو وقفَ عبْدَهُ على خدمةِ الكعبةِ صحَ - نصَّ عليه أحمدُ - أيضًا.
ونصَّ في عبدٍ موقوفٍ على خدمةِ الكعبةِ أنَّه إذا أبَى أن يخدُمَ بيعَ واشتُري
بثمنِهِ عبد يخدمُ مكانَهُ.
ورَوَى سعيدُ بنُ سالم القداحُ، عن ابنِ أبي نَجيح، عن أبيهِ، أنَّ معاويةَ
أخدَمَ الكعبةَ عبيدًا بعثَ بهم إليها، ثم اتَّبعتطْ ذلك الولاةُ بعدَهُ. خرَّجه
الأزْرقي.
* * *
قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
قال اللَّهُ تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) .
قالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه - في هذه الآيةِ:
يجيئونَ بهِم في السَّلاسلِ حتَّى يُدخلونَهُم الجنَّةَ.
وفي الحديثِ المرفوع: "عجبَ ربُّك من قومٍ يُقَادُون إلى الجنَّةِ بالسّلاسلِ ".(1/206)
فالجهادُ في سبيلِ اللَّهِ دعاءُ الخلْقِ إلى الإيمانِ باللَّهِ ورسولِهِ بالسَّيفِ
واللسان، بعدَ دعائهِم إليه بالحجَّةِ والبرهانِ.
وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أولِ الأمرِ
لا يقاتلُ قومًا حتى يدعُوهم.
فالجهادُ به تعلُو كلمةُ الإيمانِ، وتتسعُ رُقْعَةُ الإسلامِ، ويكثُرُ الداخلون فيه.
وهو وظيفةُ الرُّسل وأتباعهم، وبه تصيرُ كلمةُ اللَّهِ هي العُليا.
والمقصودُ منه أن يكونَ الدِّينُ كلُّه للَّهِ، والطاعةُ له، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) .
والمجاهدُ في سبيلِ اللَّه هو المقاتلُ لتكونَ
كلمةُ اللَّهِ هي العُليا خاصَّة.
* * *
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وقد وصفَ اللَّهُ في كتابِهِ أهلَ الجنةِ ببذل النَّدى وكفِّ الأذى ولو كانَ
الأذَى بحقٍّ فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) .
فهذا حال معاملتِهِم للخلقِ، ثم وصفَ قيامَهُم بحقِّ الحقِّ فقالَ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) .(1/207)
فوصفَهُم اللَّهُ عندَ الذنوبِ والاستغفارِ وعدمِ الإصرارِ وهو حقيقةُ التوبةِ
النصوح.
وقريبٌ من هذهِ الآيةِ قولُهُ تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) .
والعقبةُ قد فسَّرَها ابنُ عباس بالنارِ.
وفسَّرها ابنُ عمرَ بعقبةٍ في النارِ كما تقدَّم، فأخبرَ سبحانَهُ أنَّ اقتحامَهَا.
وهو قطعُها ومجاوزتُها يحصلُ بالإحسانِ إلى الخلقِ، إما بعتقِ الرقبةِ وإما بالإطعامِ في المجاعة، والمطعَمُ إما يتيمٌ من ذوي القُربى أو مسكينٌ قد لصِقَ بالترابِ فلم يبقَ له شيءٌ، ولا بدَّ مع الإحسانِ أن يكونَ من أهلِ الإيمانِ، والآمرُ لغيرِهِ بالعدلِ والإحسانِ، وهو التواصِي بالصبرِ والتواصي بالمرحمةِ، وأخبرَ سبحانَهُ أنَّ هذه الأوصافَ:
أوصافُ أصحابِ الميمنةِ.
* * *
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: خوفِ المؤمنِ أنْ يَحْبَطَ عملُهُ وهو لا يَشْعُرُ":(1/208)
وقال إبراهيمُ التَيْمي: ما عرضتُ قوْلِي على عملي إلا خشيتُ أن أكُونَ
مُكَذَّبًا.
وقال ابنُ أبي مليكةَ: أدركتُ ثلاثينَ منْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسِهِ، ما منهم أحدٌ يقولُ: إنَّه على إيمانِ جبريلَ وميكائيلَ.
ويذكَرُ عنِ الحسنِ: ما خافَهُ إلا مُؤمنٌ، ولا أَمِنَهُ إلا مُنافقٌ.
وما يحذَرُ منَ الإصرارِ على النفاق والعصيانِ من غيرِ توبة؛ لقولِ اللَّهِ
تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمون) .
مرادُ البخاريِّ بهذا البابِ: الردُّ على المرجئةِ، القائلين بأنَّ المؤمنَ يقطعُ
لنفسهِ بكمالِ الإيمان، وأنَّ إيمانَهُ كإيمانِ جبريلَ وميكائيلَ، وأنَّه لا يخافُ على
نفسِهِ النفاقَ العمليًّ ما دام مؤمنًا.
فذكر عن إبراهيمَ التيميِّ، أنَّه قال: ما عرضتُ قولي على عملي إلا
خشيتُ أن أكونَ مكذَّباً.
وهذا معروفٌ عنه.
وخرَّجه جعفر الفريابيُّ، بإسنادٍ صحيح عنه، ولفظُه: ما عرضتُ قولي
على عملي إلا خشيتُ أن أكون كذابًا.
ومعناهُ: أنَّ المؤمنَ يصفُ الإيمانَ بقولِهِ، وعمَلُهُ يقصرُ عن وصفِه، فيخشى
على نفسه أن يكونَ عملُه مكذبا لقولهِ.
كما رُوي عن حذيفةَ، أنَّه قال: المنافقُ الذي يصفُ الإسلامَ، ولا يعملُ
له.
وعن عمرَ، قالَ: إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكمُ المنافقُ العليمُ.
قالُوا: وكيفَ(1/209)
يكونُ المنافقُ عليمًا؟
قالَ: يتكلمُ بالحكمةِ، ويعملُ بالجورِ - أو قال: بالمنكرِ.
وقال الجعدُ أبو عثمانَ: قلتُ لأبي رجاءٍ العطارديِّ: هل أدركتَ منْ
أدركتَ من أصحابِ رسول اللِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ّ يخشَونَ النفاق؟ قال: نعم، إنِّي أدركتُ - بحمدِ اللَهِ - منهم صدرًا حسنًا، نعم، شديدًا، نعم، شديدًا - وكان قد أدركَ عمرَ.
وممَّن كان يتعوذُ من النفاقِ ويتخوَّفه من الصحابةِ: حذيفةُ وأبو الدرداءِ
وأبو أيوب الأنصاريُّ.
وأما التابعونَ، فكثير:
قال ابنُ سيرينَ: ما عليَّ شيء أخوفُ من هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) .
وقالَ أيوبُ: كلُّ آيةٍ في القرآنِ فيها ذكرُ النفاقِ، فإنِّي أخافُها على نفسِي.
وقال معاويةُ بنُ قرَّةَ: كان عُمَرُ يَخْشاهُ، وآمنُهُ أنا؟!
وكلامُ الحسنِ في هذا المعنى كثيرٌ جدا، وكذلك كلامُ أئمةِ الإسلامِ
بعدَهم.
قال زيدُ بنُ أبي الزرقاءِ، عن سفيانَ الثوريِّ: خلافُ ما بيننا وبينَ المرجئةِ
ثلاثٌ. نقول: الإيمانُ قولٌ وعملٌ، وهم يقولون: الإيمانُ قول ولا عملٌ.
ونقولُ: الإيمانُ يزيدُ وينقصُ، وهم يقولونَ: لا يزيدُ ولا ينقصرُ.
ونحنُ نقول: النفاقُ، وهمْ يقولونَ: لا نفاقَ.
وقال أبو إسحاقَ الفزاريُّ، عن الأوزاعيِّ: قد خاف عمرُ على نفسِهِ
النفاقَ، قال: فقلتُ للأوازعيِّ، إنهم يقولون: إن عمرَ لم يخفْ أن يكون(1/210)
يومئذٍ منافقًا حين سأل حذيفة، لكن خافَ أن يُبتَلَى بذلك قبلَ أن يموتَ
قال: هذا قولُ أهلِ البدع.
وقال الإمامُ أحمدُ - في روايةِ ابنِ هانئٍ - وسئلَ: ما تقول فيمن لا
يخافُ النفاقَ على نفسِه؟ فقال: ومن يأمنُ على نفسِه النفاقَ؟
وأصلُ هذا: يرجعُ إلى ما سبقَ ذكْرُهُ من أن النفاقَ أصغرُ وأكبرُ.
فالنفاقُ الأصغرُ هو نفاقُ العملِ، وهو الذي خافه هؤلاءِ على أنفسهم.
وهو بابُ النفاقِ الأكبرِ، فيُخْشى على من غلبَ عليه خصال النفاقِ الأصغرِ في حياتِهِ أن يخرِجَه ذلك إلى النفاقِ الأكبرِ، حتى ينسلخَ من الإيمانِ بالكليةِ. طما قال اللَّهُ تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبَهُمْ) .
وقال: (وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
والأثرُ الذي ذكرَهُ البخاريُّ عن ابنِ أبي مليكةَ، هو معروفٌ عنه من روايةِ
الصلتِ بنِ دينارٍ، عنه.
وفي الصلتِ ضعفٌ.
وفي بعضِ الرواياتِ عنهُ، عنِ ابنِ أبي مليكةَ، قال: أدركتُ زيادةً على
خمسمائةٍ من أصحابِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ما ماتَ أحدٌ منهم إلا وهو يخافُ النفاقَ على نفسِهِ.
وأما الأثرُ الذي ذكرَهُ عن الحسنِ، فقال: ويُذْكَر عنِ الحسنِ، قال: ما
خافَه إلا مؤمنٌ، ولا أَمِنَهُ إلا منافقٌ.(1/211)
فهذا مشهور عن الحسنِ، صحيحٌ عنه.
والعجبُ من قولِه في هذا: "ويُذْكَرُ".
وفي قولِهِ في الذي قبلَهُ:
"وقالَ ابنُ أبي مليكةَ" جزمًا.
قال الإمامُ أحمدُ في "كتاب الإيمانِ " له: حدثنا مؤمل، قال: سمعتُ
حمَّادَ بنَ زيد، قال: ثنا أيوبُ، قال: سمعتُ الحسنَ يقولُ: واللَّهِ، ما أصبحَ
على وجهِ الأرض مؤمن، ولا أمسَى على وجهها مؤمن، إلا وهو يخافُ
النفاقَ على نفسه، وما أمِنَ النفاقَ إلا منافق.
حدثنا روحُ بنُ عبادةَ، قالَ: ثنا هشام، قالَ: سمعتُ الحسنَ يقولُ: واللَّهِ.
ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخافُ النفاقَ، ولا أمِنَهُ إلا منافق.
وروى جعفرُ الفريابيُّ في "كتاب صفة المنافقِ " من حديثِ جعفرِ بنِ
سليمانَ، عن معلَّى بنِ زيادٍ، قال: سمعتُ الحسنَ يحلفُ في هذا المسجدِ
باللَّهِ الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاقِ
مشفقٌ، ولا مضى منافق قطُّ ولا بقيَ إلا وهو منَ النفاقِ آمِن.
قال: وكانَ يقولُ: من لم يخفِ النفاقَ فهو منافقٌ.
وعن حبيبِ بنِ الشهيدِ، عنِ الحسنِ، قال: إنَّ القومَ لما رأوْا هذا النفاقَ
يغُولُ الإيمانَ لم يكن لهم همّ غيرَ النفاقِ.
والرواياتُ في هذا المعنى عن الحسنِ كثيرةٌ.
وقولُ البخاريِّ بعدَ ذلكَ: "وما يحذرُ من الإصرارِ على النفاقِ والعصيانِ(1/212)
من غيرِ توبة، لقولِ اللَّهِ تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
فمرادُه: أنَّ الإصرارَ على المعاصِي وشعبِ النفاق من غيرِ توبة؛ يُخشى
منها أن يعاقبَ صاحبُها بسلبِ الإيمانِ بالكليَّة، وبالوصولِ إلى النفاقِ الخالصِ
وإلى سوءِ الخاتمةِ، نعوذُ باللَّهِ من ذلكَ، كما يقال: إنَّ المعاصي بريدُ الكفرِ.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، قال: "ويل لأقْماع القولِ، ويل للذين يُصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون ".
وأقماعُ القولِ: الذين آذانهم كالقمع، يدخلُ فيه سماعُ الحقِّ من جانبٍ.
ويخرجُ من جانبٍ آخرَ، لا يستقرُّ فيه.
وقد وصفَ اللَّهُ أهلَ النارِ بالإصرارِ على الكبائرِ، فقال: (وَكانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيم) .
والمرادُ بالحنثِ: الذنبُ الموقِعُ في الحنْثِ، وهوَ الإثمُ.
وتبويبُ البخاريِّ لهذا البابِ يناسبُ أن يذكرَ فيه حبوطَ الأعمالِ الصالحةِ
ببعضٍ الذنوبِ، كما قال تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكمْ وَأَنتمْ لا تَشْعُرُونَ) .
قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا الحسنُ بنُ موسى، قالَ: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ.
عن حبيب بنِ الشهيد، عن الحسنِ، قالَ: ما يرى هؤلاءِ أن أعمالاً تحبطُ
أعمالاً، واللًّهُ عزَّ وجلًّ يقولُ: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ) إلى قوله: (أَن تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) .(1/213)
وما يدل على أن هذا - أيضًا - قولُ اللَّهِ عزَّ وجل: (يَا أَيهَا الَذِينَ آمَنُوا لا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) الآية.
وقال: (أَيَوَدُّ أَحَدُكم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ من نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) الآية.
وفي "صحيح البخاريِّ "، أن عمر سألَ الناسَ عنها، فقالُوا: اللَّه أعلمُ.
فقال ابنُ عباس: ضربتْ مثلاً لعمل. قال عمرُ: لأيِّ عملٍ؟
قال ابنُ عباسٍ: لعملٍ. قال عمرُ: لرجل غني يعملُ بطاعةِ اللَّهِ، ثم يبعثُ اللَّهُ إليه الشيطان فيعملُ بالمعاصي، حتى أغرقَ أعمالَه.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجلُ يختمُ له بشركٍ أو عملِ كبيرةٍ، فيحبطُ
عملَه كلَّه.
وصحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال:
"من ترك صلاةَ العصرِ حبطَ عملُهُ ".
وفي "الصحيح " - أيضًا -: "أنَّ رجلاً قال: واللَّهِ، لا يغفرُ اللَّهُ لفلانٍ، فقالَ اللهُ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلانٍ، قد غفرتُ لفلانٍ وأحبطتُ عملَك ".
وقالتْ عائشةُ: أَبْلِغِي زيدًا، أنه أحبطَ جهادَه مع رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يتوب.
وهذا يدلُّ على أن بعضَ السيئاتِ تحبطُ بعضَ الحسناتِ، ثم تعودُ بالتوبةِ
منها.(1/214)
وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسيره"، من روايةِ أبي جعفرَ، عن الربيع بن
أنسٍ، عن أبي العاليةِ، قال: كانَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يرونَ أنه لا يضرّ مع الإخلاص ذنبٌ، كما لا ينفعُ مع الشركِ عملٌ صالحٌ، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعوا اللَّهَ وَأَطِيعوا الرَّسولَ وَلا تبْطِلُوا أَعْمَالَكمْ) .
فخافُوا الكبائرَ بعدُ أن تحبطَ الأعمالَ.
وبإسنادهِ، عن الحسنِ، في قولِهِ: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ، قال: بالمعاصي.
وعن معمرٍ، عن الزهري، في قولِهِ تعالى: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم) قال:
بالكبائر.
وبإسنادِهِ، عن قتادةَ، في هذه الآيةِ، قال: من استطاعَ منكم أن لا يبطلَ
عملاً صالحًا عملَه بعملٍ سيئٍ فليفعلْ، ولا قوةَ إلا باللَّهِ، فإن الخير ينسخُ
الشرَّ، وإن الشرَّ ينسخُ الخير، وإن مِلاكَ الأعمالِ خواتيمُها.
وعن السّدِّيِّ، قال في هذه الآية: يقول: لا تعصوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمرُكم به من القتالِ، فتبطل حسناتُكم
وعن مقاتلِ بنِ حيان، قال: بلغَنَا أنها نزلتْ فشقَّت على أصحابِ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - وهم يومئذ يروْنَ أنه ليس شيءٌ من حسناتِهِم إلا هي مقبولةٌ، فلما نزلتْ هذه الآيةُ، قال أبو بكرٍ:
ما هذا الذي يبطلُ أعمالنا؟ فبلغني - واللهُ أعلمُ -
أنهم ذكروا الكبائرَ التي وجبتْ لأهلها النارُ، حتى جاءت الآيةُ الأخرى: (إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) .
فقال ابنُ عمرَ: لما جاءتْ هذه الآية ُ، كفَفْنا عن القولِ في ذلك، وردَدْنا إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ،(1/215)
وكنا نخافُ على من رَكبَ الكبائرِ والفواحشَ أنها تهلكُه.
والآثارُ عن السلفِ في حبوطِ بعضِ الأعمالِ بالكبيرةِ كثيرة جدًّا، يطولُ
استقصاؤها.
حتَّى قالَ حذيفةُ: قذفُ المُحْصنةِ يَهدِمُ عملَ مائة سنةٍ.
وخرَّجه البزار عنه مرفوعًا.
وعن عطاءٍ، قال: إنَّ الرجل ليتكلَّمُ في غضبِهِ بكلمةٍ، يهدِم بها عملَ
ستينَ سنةٍ، أو سبعينَ سنةٍ.
وقال الإمامُ أحمدُ - في روايةِ الفضلِ بنِ زيادٍ، عنه -: ما يؤمنُ أحدُكم
أن ينظرَ النظرةَ، فيحبطَ عملُه.
وأمَّا مَن زعم أن القولَ بإحباطِ الحسناتِ بالسيئاتِ قولُ الخوارج والمعتزلةِ
خاصةً، فقد أبطلَ فيما قال، ولم يقفْ على أقوالِ السلفِ الصالح في ذلك.
نعم، المعتزلةُ والخوارجُ أبطلُوا بالكبيرةِ الإيمانَ كلَّه، وخلَّدُوا بها في النارِ.
وهذا هو القولُ الباطلُ، الذي تفرَدُوا به في ذلك.
ثم خرَّج البخاريُ في هذا البابِ حديثينِ:
أحدُهما: حديث: شُعْبةَ، عن زُبيدٍ، قالَ: سألتُ أبا وائل عن المُرْجئة؟
فقالَ: حدَّثني عبدُ اللَّهِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "سبابُ المسلم فُسُوقٌ وقِتالُهُ كفرٌ".
فهذا الحديثُ ردَّ به أبو وائلٍ على المرجئةِ، الذي لا يُدخلون الأعمالَ في(1/216)
الإيمانِ، فإن الحديثَ يدلُّ على أنَّ بعضَ الأعمالِ يسمَّى كفرًا، وهو قتالُ
المسلمينَ، فدلَّ على أنَّ بعضَ الأعمالِ يسمَّى كفرًا، وبعضَها يسمَّى إيمانًا.
وقد اتهمَ بعضُ فقهاءِ المرجئة أبا وائلٍ في روايةِ هذا الحديثِ.
وأما أبو وائلٍ، فليس بمتهمٍ، بل هو الثقةُ العدلُ المأمونُ.
وقد رواه معه، عن ابنِ مسعودٍ - أيضًا - أبو عمرٍو الشيبانيُّ وأبو الأحوصِ
وعبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ.
لكن، فيهم من وقفَه.
ورواه - أيضًا - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، وغيرُه.
ومثلُ هذا الحديثِ: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا ترجعوا بعدِي كفارًا، يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ".
وقد سبقَ القولُ في تسميةِ بعضِ الأعمالِ كفرًا وإيمانًا مستوفًى في
مواضعَ.
قال أبو الفرج زينُ الدّينِ ابنُ رجبٍ: وقد ظهرَ لي في القرآن شاهدٌ
لتسميةِ القتالِ كفرًا، وهو قولُه تعالى - مخاطبًا لأهلِ الكتابِ -:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) .(1/217)
والمعنى: أنَّ اللَّهَ حرَّم على أهلِ الكتابِ أن يقتلَ بعضُهم بعضًا، أو يخرجَ
بعضُهم بعضًا من دارِه، وكان اليهودُ حلفاء الأوسِ والخزرج بين المدينة، فكانَ إدْا وقعَ بينَ الأوسِ - أو الخزرج - وبينَ اليهودِ قتالٌ، ساعدَ كل فريقٍ من اليهودِ بحلافه من الأوسِ والخزرج على أعدائِهم، فقتلوهم معهم.
وأخرجُوهم معهُم من ديارِهم، بعد أن حُرِّم عليهم ذلكَ في كتابهِم وأقرُّوا
بهِ، وشهدُوا به، ثُمَّ بعدَ أن يؤسَرَ أولئكَ اليهودُ يفدوهُم هؤلاءِ الذين
قاتلُوهم، امتثالاً لما أُمِروا به في كتابِهم من افتداءِ الأسرى منهم.
فسمَّى اللَّهُ عزَّ وجلَّ فعلَهم للافتداءِ لإخوانهم إيمانًا بالكتابِ، وسمَّى
قتلَهم وإخراجَهم من ديارِهم كفرًا بالكتابِ، فدلتْ هذه الآية ُ على أنَّ القتالَ والإخراجَ من الديارِ إذا كان محرَّمًا يسمَّى كفرًا، وعلى أن فعلَ بعضِ
الطاعاتِ يسمَّى إيمانًا؛ لأنه سمَّى افتداءهم للأسارى إيمانًا.
وهذا حسنٌ جدًّا، ولم أرَ أحدًا من المفسرينَ تعرَّض له، وللَّهِ الحمدُ والمنَّةُ.
والحديثُ الثاني:
حديث: عُبادةَ بنِ الصامتِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
خرَجَ يُخبرُ بليْلةِ القدْرِ، فتَلاحَى رَجُلانِ من المسلمينَ، فقالَ: "إنِّي خرجتُ لأخْبِرَكُم بليلةِ القدْرِ، وإنَّه تلاحَى فُلانٌ وفُلانٌ فَرُفِعَتْ، فعسى أن يكون خيرًا لكُم، التمسُوها في السَّبعْ والتِّسع والخَمْسِ ".
إنَّما خرَّج البخاريُّ هذا الحديثَ في هذا البابِ، لذكرِ التلاحي.
والتلاحي: قد فسِّر بالسبابِ، وفسِّر بالاختصامِ والمُمَاراةِ من دونِ سبابِ.(1/218)
ويؤيدُ هذا: أنه جاء في روايةٍ في "صحيح مسلم ": "فجاء رجلانِ
يحتقَّان "أيْ: يطلبُ كلُّ واحدٍ منهما حقَّه من الآخرِ، ويخاصمُه في ذلكَ.
فمن فسَّره بالسبابِ احتملَ عنده إدخال البخاريِّ للحديثِ في هذا البابِ:
أنَّ السباب تُعجَّلُ عقوبتُه حتى يُحرمَ المسلمونَ بسببِه معرفةَ بعضٍ ما يحتاجُون
إليه من مصالح دينهم.
وإنما رجا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك خيرًا، لأن إبهامَ ليلةِ القدْرِ أدْعى إلى قيام العشر كلِّه - أو أوْتَارِه - في طلبِها، فيكونُ سببًا لشدةِ الاجتهادِ وكثرتِه، ولكنَّ بيانَ تلك الليلةِ ومعرفتَهم إياها بعينِها له مزيةٌ على إبهامِها، فرُفِع ذلك بسبب التلاحي.
فدلَّ هذا الحديثُ على أن الذنوبَ قد تكون سببًا لخفاءِ بعضِ معرفةِ ما
يحتاجُ إليه في الدِّينِ.
وقال ابنُ سيرينَ: ما اختلفَ في الأهلِ (1) حتى قُتلَ عثمانُ.
فكلَّما أحدثَ الناسُ ذنوبًا أوجب ذلك خفاءَ بعضِ أمورِ دينِهِم عليهم.
وقد يكونُ في خفائِه رخصةٌ لمن ارتكبَه، وهو غيرُ عالمٍ بالنهي عنه، إذ لو
علِمَه ثم ارتكبَه لاستحقَّ العقوبةَ.
ومَن فسَّر التلاحي بالاختصامِ، قال: مرادُ البخاريِّ بإدخالهِ هذا الحديثَ
في هذا البابِ: أنَّ التلاحِي من غيرِ سبابٍ ليس بفسوق، ولا يترتَّبُ عليه
حكمُ الفسوقِ، لأنه كان سببًا لما هو خيرٌ للمسلمينَ.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله الأهلة.(1/219)
وهذا هو الذي أشارَ إليه الإسماعيليُّ.
وفيه نظر. واللَّهُ أعلمُ.
ويحتملُ أن يكونَ مرادُ البخاريِّ: أن السبابَ ليس بمخرج عن الإسلامِ.
مع كونِه فسوقا، ولهذا قالَ في الحديثِ: "فتلاحى رجلانِ من المسلمين ".
فسمَّاهُما مسلمينِ مع تلاحِيهما.
وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ معاذٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قالَ: "إنَّ أولَ شيءٍ نهاني عنه ربِّي بعد عبادةِ الأوثانِ شربُ الخمرِ، وملاحاةُ الرِّجالِ ".
وفي إسنادِهِ: عمرُو بنُ واقدٍ الشاميُّ، وهو ضعيف جدًّا.
وإنما حُرمتِ الخمرُ بعدَ الهجرةِ بمدةٍ.
ولكن رواه الأوزاعيُّ، عن عروةَ بنِ رُوَيم - مرسلاً.
خرَّجه أبو داودَ في "مراسيلِهِ ".
* * *
قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
فالعبدُ يحتاجُ إلى الاستعانةِ باللَّهِ والتوكلِ عليهِ في تحصيلِ العزمِ، وفي
العملِ بمقتضَى العزمِ بعدَ حصولِ العزمِ، قالَ اللَّهُ: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) .(1/220)
والرشدُ: هو طاعةُ الله ورسولِه، قالَ اللهُ تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) .
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خطبتِهِ: "من يطع اللَّهَ ورسولَهُ فقدْ رَشَد، ومن يعصِ اللهَ ورسولَهُ فقد غَوَى".
والرشدُ ضِدُّ الغَيِّ، قال تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) .
فمن لم يكنْ رشيدًا فهوَ إمَّا غاوٍ وإمَّا ضال، كما قالَ تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) .
فالغاوي: من تعمَّدَ خلافَ الحقِّ، والضالُّ: من لم يتعمَّدْ.
والعزمُ نوعانِ: أحدُهما: عزمُ المريدِ على الدخولِ في الطريقِ، وهو من
البداياتِ.
والثانِي: العزمُ على الاستمرارِ على الطاعاتِ بعدَ الدخولِ فيها، وعلى
الانتقالِ من حالٍ كامل إلى حالٍ أكملَ منهُ، وهو مِنَ النهاياتِ، ولهذا سمَّى
اللَّهُ تعالى خواصَّ الرسلِ وهم أُولُو العزمِ، وهم خمسةٌ، وهم أفضلُ
الرسلِ، فالعزمُ الأولُ يحصِّلُ للعبدِ الدخولَ في كلّ خيرٍ والتباعُد من كلِّ شر
إذْ به يحصلُ للكافرِ الخروجُ من الكفرِ والدخولُ في الإسلامِ، وبه يحصلُ
للعاصِي الخروجُ من المعصيةِ والدخولُ في الطاعةِ، فإذا كانتِ العزيمةُ صادقةً.
وصمَّمَ عليها صاحبُها، وحملَ على هَوَى نفسِهِ وعلى الشيطانِ حملةً صادقةً
ودخلَ فيما أُمِرَ به من الطاعاتِ؛ فقد فازَ.
وعونُ اللَّهِ للعبدِ على قدرِ قوةِ عزيمتِهِ وضعفِهَا، فمنْ صمَّمَ على إرادةِ(1/221)
الخيرِ أعانَهُ وثبته؛ كما قِيل:
على قدرِ أهلِ العزمِ تأتى العزائمُ. . . وتأتِي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
قال أبو حازمٍ: إذا عَزَمَ العبدُ على تركِ الآثامِ أتتْهُ الفتوح.
يشيرُ إلى ما يفتحُ عليه بتيسيرِ الإنابةِ والطاعةِ ومقاماتِ العارفينَ.
سُئِلَ بعضُ السلفِ: متى ترتحلُ الدُّنيا من القلبِ؟
قال: إذا وقعتِ العزيمةُ، ترحلتِ الدنيا من القلبِ
ودرجَ القلبُ في ملكوتِ السماءِ، وإذا لم تقع العزيمةُ اضطربَ القلبُ ورجعَ
إلى الدُّنيا، مَنْ صدقَ العزيمةَ يئسَ منه الشيطانُ، ومتى كانَ العبدُ مترددًا طمعَ فيه الشيطانُ وسوَّفَهُ ومنَاه، يا هذا، كلما رآكَ الشيطانُ قد خرجتَ من مجلسِ الذكرِ كما دخلتَ، وأنت غيرُ عازمٍ على الرشدِ فرِحَ بك إبليسُ، وقال: فديتُ من لا يفلحُ.
* * *
قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
إنَّ أعظم نعم اللَّهِ على هذه الأُمَّة إظهارُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لهم وبعثتهُ وإرسالُهُ إليهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) .
فإنَّ النِّعْمةَ على الأُمَّةِ بإرسالِهِ أعظمُ من النِّعْمةِ عليهم بإيجادِ السماءِ.
والأرضِ، والشَّمسِ، والقمرِ، والرِّياح، والليلِ، والنَّهارِ، وإنزال المطرِ،(1/222)
وإخراج النباتِ، وغيرِ ذلك؛ فإنَّ هذه النِّعمة كلَّها قد عمَّتْ خلْقًا من بني آدمَ كفَرُوا باللَّهِ وبرُسُلهِ وبلقاءهِ، فبدّلوا نعمةَ اللَّهِ كفرًا.
وأمَّا النِّعْمةُ بإرسالِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ بها تمَّتْ مصالحُ الدنيا والآخرةِ، وكَمُلَ بسببها دينُ اللهِ الذي رَضيَهُ لعبادِه، وكان قبولُه سببَ سعادَتِهِم في دُنياهم وآخرتِهِم، فصيامُ يومٍ تجدَّدَتْ فيه هذه النِّعمُ من اللَّه على عبادهِ المؤمنينَ حسنٌ جميلٌ، وهو من بابِ مقابلةِ النِّعم في أوقاتِ تجدُّدِها بالشكر.
ونظيرُ هذا صيامُ يومِ عاشوراءَ حيث أنجَى اللَّهُ فيه نوحًا من الغرقِ، ونجَّى فيه
موسى وقوْمَه من فرعون وجنودِهِ، وأغرقهم في اليمِّ، فصامَهُ نوح وموسى
شكرًا للَّهِ، فصامَهُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - متابعةً لأنبياءِ اللَّهِ، وقال لليهودِ: "نحنُ أحقُّ بموسى منكم " فصامه وأمَرَ بصيامِهِ.
وقد رُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرَّى صيامَ يومِ الاثنينِ ويومِ الخميس، رُوي ذلك عنه من حديثِ عائشةَ، وأبي هريرةَ، وأسامةَ بن زيدٍ.
وفي حديثِ أُسامةَ أنَّه سأله عن ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهما يومان تُعرَضُ فيهما الأعمالُ على رَبِّ العالمين، فأُحِبُّ أن يُعْرَضَ عمَلِي وأنا صائم".
وفي حديثِ أبي هريرةَ، أنَّه سُئِلَ عن ذلك، فقال، "إئه يُغْفَرُ فيهما لكل مسلم، إلا مُهْتجِرَيْنِ، يقولُ: دعْهُما حتى يصطلحا".(1/223)
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة مرفوعًا: "تفتح أبوابُ الجنةِ يومَ الاثنين
والخميس، فيُغْفَرُ لكلّ عبدٍ لا يُشْركُ باللَّهِ شيئًا، إلا رجلٌ كانتْ بينه وبين أخيه شحناءُ.
فيقالُ: أنظِرُوا هذين حتَّى يصْطلحا".
ويُروى من حديثِ أبي أمامة مرفوعًا:
"تُرْفع الأعمالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ.
فيُغْفَرُ للمستغْفِرينَ، ويُتركُ أهلُ الحِقْدِ بحقدِهِم ".
وفي "المسندِ" عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ أعمالَ بني آدمَ تُعْرَضُ على اللَّهِ تبارك وتعالى عشيّةَ كلِّ خميسٍ، ليلة الجُمعة، فلا يُقْبَل عَمَلُ قاطع رَحِم ".
كان بعضُ التابعينَ يبْكي إلى امرأته يومَ الخميسِ وتبكي إليه، ويقول:
اليومَ تُعْرَضُ أعمالُنا على اللَّهِ عز وجلَّ.
يا من يُبَهْرِجُ بعملِهِ، على مَنْ تُبَهْرِجُ، والناقدُ بصيرٌ؛ يا منْ يُسوِّفُ بتطويلِ
أمَلِه، إلى كمْ تسوِّفُ والعُمُرُ قصير؟
صرُوفُ الحَتْفِ مُتْرَعَةُ الكؤوسِ. . . تُدارُ على الرَّعايا والرُّؤوسِ
فلا تتْبَعْ هواكَ فكل شَخْصٍ. . . يصيرُ إلى بِلى وإلى دُرُوسِ
وخَفْ مِن هوْلِ يومٍ قمطريرٍ. . . مَخُوفٍ شرةُ ضنْكٍ عبُوسِ
فما لَكَ غيرُ تقوى اللَهِ زادًا. . . وفِعْلُكَ حين تُقْبَرُ من أنيسِ
فحَسِّنْهُ ليُعْرضَ مُستقيمًا. . . ففي الاثنينِ يُعرَضُ والخميسِ
* * *(1/224)
قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
أما الأنبياءُ عليهمُ الصلأةُ والسلامُ، فليسَ فيهم شكّ أنَّ أرواحَهم عندَ اللَّه
في أعلى عليين.
وقد ثبتَ في "الصحيح " أنَّ آخرَ كلمة تكلَّم بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند موتِهِ أنْ قالَ: "اللَّهُمَّ الرفيقُ الأعلى" وكرَّرها حتى قبضَّ.
وقال رجل لابنِ مسعود: قُبضَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأينَ هُو؟ قال: في الجنةِ.
وأمَّا الشهداءُ فأكثرُ العلماءِ على أنهم في الجنةِ، وقد تكاثرتِ الأحاديثُ
بذلك.
ففي "صحيح مسلم " عن مسروق، قالَ: سألنا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودَ - رضي الله عنه -، عن هذه الآيةِ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، فقالَ: أما إنا قدْ سألنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ، فقال: "أرواحُهُم في جوفِ طيرٍ خضرٍ، لها قناديلُ معلقة بالعرشِ، تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم تأوي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطلاعة، فقالَ:
هل تشتهونَ شيئًا؛ قالُوا: أيَّ شيء نشتهي ونَحنُ نسرحُ من الجنةِ حيثُ شِئنا، ففعلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرات، فلمَّا رأوَا أنَّهم لم يُتركوا من أنْ يُسألوا، قالُوا: يا ربَّ نريدُ أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حقى نقتلَ في سبيلِكَ مرة أُخرى، فلمَّا رأى أنْ ليسَ لهم حاجةً تُرِكُوا ".(1/225)
روى الإمام أحمدُ، وأبو داودَ، والحاكم، من حديثِ سعيدِ بنِ جبيرٍ.
عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنها -، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا أصيبَ إخوانُكم بأحدٍ جعلَ اللَّهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تردُ أنهارَ الجنةِ، وتأكلُ من ثمارِها، وتأوِي إلى
قنادِيلَ من ذهبٍ، معلقةٍ في ظلِّ العرشِ، فلمَّا وجدُوا طيبَ مأكلهِم ومشربِهِم ومقيلِهم، قالُوا: من يبلغُ عنَّا إخوانَنا أنا أحياءٌ في الجنةِ نرزقُ، لئلا ينكُلوا عن الحربِ، ولا يزهدُوا في الجهادِ؟ " قال: "فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أنا أبلِّغُهم عنكُم، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ".
وخرَّج أبو عبد اللَّهِ بن منده وغيرُهُ، حدثنا إسماعيلُ بنُ المختارِ عن عطيةَ.
عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أرواحُ الشهداءِ في طيرٍ خضرٍ، ترعى في رياضِ الجنةِ، ثم يكونُ مأواها إلى قناديلَ معلقةٍ بالعرشِ، فيقولُ لهم الربّ عزَّ وجلَّ:
هلْ تعلمونَ ك رامةً أكرمَ مِنْ كرامةٍ أَكْرَمتُكُموها؟
فيقولون: لا، إنَّا وَدَدْنا أنك رددتَ أرواحَنا في أجسادنا حتى نقاتلَ مرةً أخرى، فنقتلَ في سبيلِكَ ".
وخرَّج أبو الشيخ الأصبهانيُّ وغيرُهُ، من طريقِ عبدِ اللَّهِ بنِ ميمونَ، عن
عمِّه مصعبِ بنِ سليمٍ، عن أنسٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يبعثُ اللَهُ الشهداءَ من حواصلِ طيرٍ بيضٍ كانُوا في قناديلَ معلقةٍ بالعرشِ ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ وصححه، من حديثِ عمرِو بنِ دينارٍ.
عن الزهريِّ، عن عبد الرحمن بن كعبِ بنِ مالكٍ، عن أبيه، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/226)
قالَ: "إنَّ أرواح الشهداءِ في طير خضر، تعْلُقُ من شجرِ الجنة".
كذا رواه عمرُو، عنِ الزهريّ، ورواه سائرُ أصحابِ الزهريِّ عنه، ولم يذكرُوا: الشهداءَ، إنَّما ذكروا نسمةَ المؤمنِ وسيأتِي حديثُهم إن شاءَ اللَّهُ.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديثَ أبي عبادةَ عيسى بنِ عبدِ الرحمنِ، عن
الزهريِّ، عن عامرِ بنِ سعدٍ، عن إسماعيلَ بنِ طلحةَ بنِ عبيدِ اللَّهِ، عن
أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في شهداءِ أحدٍ، وهو منكر، وأبو عبادةَ هذَا: ضعيفٌ جدًّا.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ معاويةَ بنِ صالح، عن سعيدٍ بنِ سويدٍ، أنّه
سألَ ابنَ شهابٍ عن أرواح المؤمنينَ فقالَ: بلغني أن أرواحَ الشهداءِ كطيرٍ
خضرٍ معلقة بالعرشِ، تغدُو ثم تروحُ إلى رياضِ الجنةِ، تأتي ربَّها عزَّ وجلَّ
في كلِّ يومٍ تسلِّمُ عليه، وهذا أشبهُ.
وكذا قال الضحاكُ، وإبراهيمُ التيميُّ، وغيرُهما من السلفِ، في أرواح
الشهداءِ.
وخرَج ابنُ منده، من طريقِ عبدِ الرحمن بن زيادِ بنِ أنعمَ، عن حِبَّانَ بنِ
أبي جبلةَ، قالَ: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ الشهداءَ إذا استشهدُوا أنزلَ اللَّهُ جسدًا كأحسنِ جسد، ثم يقالُ لروحه: ادخلي فيه، فينظر إلى جسدهِ الأولِ ما يُفْعلُ به، ويتكلمُ فيظنُ أنهم يسمعونَ كلامَه، وينظرُ بهِم، فيظنُّ أنهم ينظرونَه، حتى تأتيَه أزواجُه - يعني الحورَ العينِ - فيذهبْنَ بِهِ ".
ويشهدُ لهذه النصوصِ - أيضًا - ما في "الصحيحينِ " عن جابرٍ، قالَ:(1/227)
قالَ رجل يومَ أُحُدٍ: أين أنا إنْ قتلتُ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمراتٍ كنَّ في يدهِ، ثم قاتلَ حتى قُتِلَ.
وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِهِ يومَ بدرٍ:
"قومُوا إلى جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ".
وذكر قصةَ عميرِ بن الحمامِ.
وفي "صحيح البخاريِّ " عن المغيرةِ بن شعبةَ، قالَ: أخبرنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - عن رسالةِ ربِّنا أنه من قُتِلَ صارَ إلى الجنةِ.
و"فيه " - أيضًا - عن المسورِ بنِ مَخْرَمةَ، ومروانَ بنِ الحكم، أنَّ عمرَ
- رضي الله عنه -، قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحديبيةِ: أليسَ قتلانا في الجنةِ وقتلاهُم في النارِ؟
قال: "بلَى".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي مُوسى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قالَ: "إنَّ أبوابَ الجنةِ تحتَ ظلالِ السيوفِ ".
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قالَ: أصيبَ حارثة يومَ بدرٍ - وهو غلامٌ - فجاءتْ أمُّه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، قد عرفتَ منزلةَ حارثةَ مِنِّي، فإن يكنْ في الجنةِ صبرتُ واحتسبتُ، وإن تكن الأُخرى ترى ما أصنعُ؟
قالَ: "ويحكِ أو هبلتِ؟ جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنهُ في جنةِ الفردوسِ ".(1/228)
وخرَّج الترمذيُّ، والحاكم، من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "رأيتُ في الجنةِ جعفرًا يطيرُ مع الملائكةِ".
وخرَّج الحاكم من حديثِ ابنِ عباس - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"دخلتُ البارحةَ الجنةَ فنظرتُ فيها، فإذا جعفرُ يطيرُ مع الملائكةِ، وإذا حمزةُ متكئٌ على سرير".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو يَعْلى، وابنُ أبي الدنيا، من حديثِ ثابتٍ.
عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تعجبُهُ الرؤيا الحسنةُ، فكانَ فيما يقولُ: "هل رأى أحا منكم رؤْيا؟ "
فإذا رأى الرجلُ الذي لا يعرفُه الرؤْيا، سألَ عنه، فإن أخبرَ عنه بمعروفٍ كان أعجبَ لرؤياه، قال: فجاءتِ امرأةٌ فقالتْ:
يا رسولَ اللَّهِ، رأيتُ في المنامِ كأنَي خرجتُ فأُدْخِلتُ الجنةَ، فسمعتُ وجبةً
ارتجتْ لها الجنةُ، فإذا أنا بفلانٍ وفلان وفلانٍ، حتى عدَّتْ اثني عشرَ رجلاً -
وبعثَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سرية قبل ذلكَّ فَجيءَ بهم عليهم ثيابٌ طلس تشخبُ أوداجُهم، فقالَ: "اذهبوا بهم إلى نهرِ البيذخ، فغمسُوا فيه، فأخرجُوا ووجوهُهم كالقمرِ ليلةَ البدرِ، وأُتوا بكراسي من ذهبٍ فأقعدوا عليها، وجيءَ بصحفةٍ من ذهب فيها
بسر، فأكلوا من بُسره ما شاءُوا فما يقلِّبونَها لوجهٍ إلا أكلوا
من فاكهةٍ ما شاءُوا".
قالتْ: وأكلتُ معهُم، قال: فجاءَ البشيرُ من تلك السريةِ، فقال: يا
رسولَ اللَّه! كان كذا وكذا، وأصيبَ فلان وفلان حتى عدَّ اثني عشر رجلاً، فقالَ: عليًّ بالمرأةِ" فقال: "قصِّي رؤياكَ على هذا" فقال الرجلُ: هو كما قالتْ، أصيب فلان وفلان.(1/229)
وروى ابنُ عيينةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي يزيدَ، سمعَ ابنَ عباسٍ، يقول:
أرواحُ الشهداءِ تجول في حواصلِ طيرٍ خضرٍ، تعْلُقُ في ثمرِ الجنةِ.
وروى معمر، عن قتادةَ، قالَ: بلغنا أن أرواحَ الشهداءِ في حواصلِ طيرٍ
بيضٍ، تأكلُ من ثمارِ الجنةِ.
وروى أبو عاصم، عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ
ابنِ عمرٍو، قال: أرواحُ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ كالزرازيرِ، يتعارفونَ
ويرزقونَ من ثمرِ الجنةِ.
وروى ابنُ المباركِ، عن زائدةَ، حدَّثنا ميسرةُ الأشجعيُّ، عن عكرمةَ، عن
ابنِ عباسٍ، عن كعبٍ - رضي الله عنه -، قال: جنةُ المأوَى: جنةٌ فيها طير خضرٌ، ترعى فيها أرواحُ الشهداءِ.
كذا رواه عطيةُ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: قلت لكعبٍ: إني أسألُك عن أشياءَ
فإنْ كانتْ في كتابِ اللَّهِ فحدِّثْني، وإن لم يكنْ في كتابِ اللَّهِ فلا تحدثني.
فذكرَ مسائلَ، فقال كعبٌ: ما سألْتَني عن شيءٍ إلا وهوَ في كتابِ اللَّهِ، قال: وأمَّا جنةُ المأوى فإنَّها جنة فيها أرواحُ الشهداءِ، في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تأوي إلى قناديلِ الجنةِ.
وروى أبو المغيرةِ عبدُ القدوسِ بن الحجاج، حدثنا عمرُو بنُ عمرَ
الأحموسي، عن السفرِ بنِ نسيرٍ، قال: سئلَ أبو الدرداء عنْ أرواح الشهداءِ
فقال: هي طيرٌ خضرٌ، معلقةٌ في قناديلَ تحت العرشِ، تسرحُ في الجنةِ حيثُ
شاءتْ، ثم ترجعُ إلى قناديلِها.
وروى ليثٌ عنِ أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: أرواحُ(1/230)
الشهداءِ طيرٌ خضرٌ في قناديلَ تحتَ العرشِ تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم
تأوِي إلى قناديلِها.
ورُوي عن مجاهد، أنه قالَ: ليس الشهداءُ في الجنة، ولكنَّهم يرزقونَ
منها. ً
فروى آدمُ بنُ أبي إياسٍ، حدثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحِ، عن مجاهدٍ في
قولِهِ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءِّ عِندَ رَبِّهِم
يرْزَقُونَ) الآية.
قال: يقول: أحياءٌ عندَ ربِّهم يرزقونَ من ثمرِ الجنةِ، ويجدونَ ريحَها وليسُوا فيها.
وروى ابنُ المباركِ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: ليس هم في
الجنةِ، ولكنَّهم يأكلونَ من ثمارِهَا، ويجدونَ ريحَهَا.
وقد يستدل لقولِهِ بما رواه ابنُ إسحاقَ، عن عاصمٍ بنِ عمرَ بنِ قتادةَ، عن
محمودِ بنِ لبيدٍ، عن ابن عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم -: "الشهداءُ على بارقِ نهر بباب الجنة، في قبة خضراءَ، يخرجُ عليهم رزقُهم من الجنةِ بكرةً وعشيًّا". ًً
وخرَّجه ابنُ منده، ولفظُه: "على بارقِ نهر في الجنةِ".
وهذا يدلُّ على أنَّ النهرَ خارجٌ من الجنةِ، وابنُ إسحاقَ مدلسٌ، وليس
يصرحُ بالحديثِ هنا، ولعلَّ هذا في عمومِ الشهداءِ، والذينَ في القناديلِ التي
تحتَ العرشِ خواصُّهم، ولعلَّ المرادَ بالشهداءِ هنا من هو شهيدٌ من غيرِ قَتْلٍ.(1/231)
في سبيلِ اللَّهِ، كالمطعونِ والمبطون والغريقِ وغيرِهم ممنْ وردَ النصُّ بأنه
شهيدٌ.
والأحاديثُ السابقةُ كلُّها فيمن قُتِلَ في سبيلِ اللَّهِ، وبعضُها صريحٌ في
ذلكَ.
وفي بعضِها أن الآيةَ نزلتْ في ذلك، وهو قولُهُ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الآية، والاَية نصٌّ في المقتولِ في سبيلِ اللَّهِ.
وقد يطلقُ الشهيدُ على من حقَّقَ الإيمانَ وشهدَ بصحتِهِ بقولِهِ، كما قال
تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) .
قالَ ابنُ أبي نجيحٍ، عن مجاهد، في هذه الآية يقولُ: يشهدونَ على
أنفسِهِم بالإيمانِ باللَّهِ.
وروى سفيانُ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، قالَ: كلُّ مؤمنٍ صدِّيقٌ وشهيدٌ.
ثم قرأ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ همُ الصِّدِيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) .
وخرج ابن أبي حاتمٍ، من رواية رِشدين بنِ سعدٍ، عن ابنِ عقيلٍ، عن
أبيه عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قالَ: كلُّكم صديقٌ وشهيد، قيلَ له: ما تقولُ يا أبا هريرة؟ قالَ: اقرأوا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) .
وخرَّج ابنُ جريرٍ، من طريقِ إسماعيلَ بنِ يحيى التيمي،(1/232)
عن ابنِ عجلانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن البراءِ بن عازدب، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مؤمنو أمتِي شهداءٌ" ثم تلا رسولُ اللَّهِ هذه الآيةَ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلهِ أوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِيقُونَ وَالشّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) ، وإسماعيلُ هذا: ضعيفٌ جدًّا.
ويَعضَدُ هذا ما وردَ في تفسير قولِه تعالى: (لِّتَكونوا شهَدَاء عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) من شهادةِ هذه الأمةِ للأنبياءِ عليهم
السلامُ بتبليغ رسالاتِهم.
وبكلِّ حالٍ فالأحاديثُ المتقدمةُ كلُّها في الشهيدِ المقتولِ في سبيلِ اللَّهِ عزَّ
وجلَّ لا تحتملُ غيرَ ذلكَ، وإنَّما النظرُ في حديثِ ابنِ إسحاقَ هذا واللَّهُ
أعلمُ.
وأما بقيةُ المؤمنينَ سوى الشهداءِ؛ فينقسمونَ إلى: أهلِ تكليف، وغيرِ أهلِ
تكليفٍ؛ فهذانِ قسمانِ:
أحدُهما: غيرُ أهل التكليفِ: كأطفالِ المؤمنينَ.
فالجمهورُ على أنهم في الجنة، وقد حكى الإمامُ أحمدُ الإجماعَ على
ذلك.
وقال - في روايةِ جعفرِ بنِ محمدٍ -: ليسَ فيهم اختلافٌ، يعني أنهم في
وقالَ - في روايةِ الميمونيّ -: لا أحدَ يشكُّ أنَّهم في الجنةِ.
وذكر الخلالُ من طريقِ حنبل، عن أحمدَ، قالَ: نحن نقرُّ بأنّ الجنةَ قد
خلقتْ، ونؤمنُ بها، والجنةُ والنار مخلوقتانِ، قال اللَّهُ عزَّ وجل: (النَّارُ
يُعْرَضونَ عَلَيْهَا غُدوًّا وَعَشِيًّا) ، لآلِ فرعونَ، وقالَ: أرواحُ ذراري(1/233)
المسلمينَ، في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تسرحُ في الجنةِ، يكفلُهم أبوهم إبراهيمُ.
فيدلُّ هذا على أنهما قد خلقَتا.
وكذلكَ نصَّ الشافعيُّ على أن أطفال المسلمينَ في الجنةِ.
وجاء صريحًا عن السلفِ على أنَّ أرْواحهم في الجنةِ كما روى الليثُ، عن
أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: إنَّ أرواحَ الشهداءِ في أجوافِ
طيرٍ خضرٍ، تسرحُ بهم في الجنةِ حيث شاءُوا، وإن أرواحَ ولدانِ المسلمينَ
في أجوافِ عصافيرَ في الجنة، تسرحُ بهم في الجنة حيثُ شاءتْ فتأوِي إلى
قناديلَ معلقةٍ في العرشِ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
ورواه الثوريُّ والأعمشُ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، من قولِه، لم يذكرِ
ابنَ مسعودٍ.
وخرَّج البيهقيُّ، من طريقِ عكرمة، عن ابنِ عباسٍ، عن كعبٍ، نحوَه.
وخرَّج الخلالُ، من طريقِ ليثٍ، عن أبي الزبيرِ، عن عبيدِ بنِ عميرٍ.
قالَ: إنَّ في الجنةِ لشجرةً لها ضروعٌ كضروع البقرِ، يغذَّى به ولدانُ أهلِ
الجنةِ، حتَّى إنَّهم ليستنونَ استنانَ البكارةِ.
وخرَّج ابنُ أبي حاتمِ بإسنادهِ، عن خالدِ بن معدانَ، قالَ: إنَّ في الجنةِ
شجرةً يقال لها: طُوبى ضروعٌ كلُّها، تُرْضِعُ صبيانَ أهلِ الجنةِ، وإنّ سقْطَ
المرأةِ يكونُ في نهرٍ من أنهارِ الجنةِ، يتقلبُ فيه حتى تقومَ الساعةُ، فيبعثُ ابنَ
أربعينَ سنةٍ.
ويدلُّ على صحةِ ذلك ما في "صحيح مسلمٍ" عن أنسٍ قالَ: لما تُوفِّي(1/234)
إبراهيمُ عليه السلامُ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ إبراهيمَ ابني، وإنه ماتَ في الثدْي، وإنَّ له لظئرَيْنِ فيكفَلانِ رِضاعَهُ في الجنةِ"
وخرَّجَ ابنُ ماجةَ نحوَه من حديثِ ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -.
وحْرَّج الإمامُ أحمد نحوَه من حديثِ البراءِ بن عازبٍ.
وروى سعيدُ بن منصورٍ، عن إسماعيلَ بنِ عياشٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عثمانَ
بنِ خُثَيْم، عن مكحولٍ، أن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن ذرارِي المؤمنينَ أرواحُهم في عصافيرَ في شجرٍ في الجنةِ، يلقاهُم أبوهُم إبراهيمُ عليه السلامُ ".
وكذا رواه عليٌّ بنُ عثمانَ اللاحقيُّ، عن حمَّادِ بنِ سلمةَ، عن أبنِ خُثَيْم.
عن مكحولٍ، إلا أنه قالَ: عصافيرُ حْضر في الجنةِ. وهذا مرسلٌ، ولفظه
يشبُه لفظَ الحديثِ الذي احتجَ به الإمامُ أحمدُ على خلقِ الجنةِ، كما تقدَّم.
وقد رُويَ متصلاً من وجهٍ آخرَ، من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ ثابتِ بنِ
ثوبانَ، عن عطاءِ بنِ قُرة، عن عبدِ اللَّهِ بنِ ضمرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ذرارِي المؤمنينَ يكفلُهم إبراهيمُ عليه السلامُ في الجنةِ"
خرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحِه " والحاكمُ وقالَ: صحيحُ الإسنادِ.
وخرَّجهُ الإمامُ أحمد، عن موسى بن داودَ، عن ابنِ ثوبانَ، إلا أنَّه ذكرَ
أنَّ موسى شكَّ في رفعهِ.
ولكنْ رواهُ غيرُ واحدٍ، عن ثوبانَ، ولم يشكُّوا في رفعِهِ.(1/235)
ورُويَ من وجهٍ آخرَ، من روايةِ مؤملٍ، عن سفيانَ، عن ابنِ الأصبهانيِّ.
عن أبي حازمً، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أولادُ المسلمين في جبلٍ في الجنةِ، يكفلُهم إبراهيمُ وسارةُ - عليهما السلامُ - فإذا كان يومُ القيامةِ دُفعوا إلى آبائِهِم ".
وكذا رواه محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ نمير، عن وكيع، عن سفيانَ مرفوعًا.
ورواهُ ابنُ مهدي وأبو نعيم، عن سفيانَ، موقوفًا، قال الدارقطنيُّ:
والموقوفُ أشبهُ.
ومما يستدلُّ لهذا - أيضًا - ما خرَّجه البخاريُّ عن سمرةَ بتِ جندبٍ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه رأى في منامِهِ جبرائيل وميكائيل أتياه فانطلَقَا بهِ، وذكر حديثًا طويلاً، وفيه: "فإذا روضة خضراءُ فيها شجرةٌ عظيمةٌ وإذا شيخٌ في أصلِها حولَهُ صبيانُ، فصعدَا بي الشجرةَ وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسنَ منها، فإذا فيها رجالٌ وشيوخ وشبابٌ وفيها نساءٌ وصبيانٌ "، وذكرَ الحديثَ وفيه: "قالا: فأمَّا الشيخُ الذي رأيتَ في أصلِ الشجرةِ فذاك إبراهيمُ، وأمَّا الصبيانُ الذي رأيتَ حولَه فأولادُ الناسِ ".
وفي روايةٍ: "فكل مولودٍ ماتَ على الفطرةِ، وأمَّا الدارُ التي دخلتَ أولاً فدارُ عامةِ المؤمنينَ، وأمَّا الدارُ الأخرى فدار عامةِ الشهداءِ ".
ورواه ابنُ خلدةَ، عن أبي رجاءٍ العطارديِّ، عن سمرةَ، وفي حديثِه:
"قلتُ: فالذينَ في الروضة؟
قال: أولئكَ الأطفالُ، وُكِّلَ بهم إبراهيمُ عليه السلامُ، يربِّيهم إلى يوم القيامةِ".(1/236)
وخرَّج الطبرانيُّ، والحاكم، من حديثِ سليم بنِ عامرٍ، عن أبي أمامةَ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينَا أنا نائم انطلقَ بي إلى جبل وعرٍ"، فذكرَ الحديثَ، وفيه: "ثمَّ انطلقَ بي حتى أشرفتُ على غلمانٍ يلعبونَ بين نهرين، قلتُ: مَنْ هؤلاءِ؟
قال: ذراري المؤمنينَ يحضنُهم أبوهم إبراهيمُ - عليه السلامُ - ثم انطلقَ بي حتى أشرفتُ على ثلاثة نفرٍ، قلتُ: من هؤلاءِ؟
قال: إبراهيمُ وموسى وعيسى - عليهم السلامُ - وهم ينتظرونك ".
وذهبتْ طائفةٌ إلى أنَّه يشهدُ لأطفالِ المؤمنينَ عمومًا أنهم في الجنةِ ولا
يُشهد لآحادِهِم، كما يُشهدُ للمؤمنينَ عمومًا أنهم في الجنةِ، ولا يشهد
لآحادهم وهو قولُ إسحاقَ بن راهويه، نقله عنه إسحاقُ بنُ منصورٍ وحربٌ
في مسائلِهما، ولعلَّ هذا يرجعُ إلى الطفل المُعَيَّنِ لا يُشْهَد لأبيه بالإيمانِ، فلا
يُشْهدُ له حينئذٍ أنه من أطفالِ المؤمنين، فيكونُ الوقفُ في آحادهم كالوقفِ في
إيمانِ آبائِهم.
وحكى ابنُ عبد البرِّ عن طائفةٍ من السلفِ القولَ بالوقفِ في أطفالِ
المؤمنينَ، وسمَّى منهم حمادَ بنَ زيدٍ، وحمادَ بنَ سلمةَ، وابنَ المباركِ.
وإسحاقَ، وهذا بعيدٌ جدًّا، ولعله أخذَ ذلكَ من عموماتِ كلامٍ لهم، وإنما
أرادوا بها أطفالَ المشركين.
وكذلكَ اختارَ القولَ بالوقفِ طائفةٌ منهُم: الأثرمُ، والبيهقيُّ.
وذكِرَ أنَّ ابنَ عباسٍ رجعَ إليه والإمامُ أحمدُ ذكر أن ابنَ عباسٍ إنما قالَ ذلك في أطفال المشركينَ، وإنما أخذه البيهقي من عمومِ لفظٍ رُويَ عنه، كما أنه رُوي في(1/237)
بعص ألفاظِ حديثِ أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الأطفالِ، فقالَ: "اللهُ أعلمُ بما كانُوا عاملينَ "، ولكن الحفَّاظَ الثقاتِ ذكرُوا أنه سئلَ عن أطفالِ المشركينَ.
واستدلَّ القائلونَ بالوقفِ، بما أخرَّجَهُ مسلم، من حديثِ فضيلِ بنِ
عمرو، عن عائشةَ بنتِ طلحةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ - رضي الله عنها -، قالتْ: توفِّي صبيّ، فقلتْ: طُوبى له، عصفور من عصافيرِ الجنةِ.
فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"أو لا تدرينَ أنَّ اللَّهَ خلقَ الجنةَ وخلقَ النارَ، فخلقَ لهذهِ أهلاً ولهذِه أهلاً".
وخرَّجه مسلم - أيضًا - من طريقِ طلحةَ بنِ يحيى، عن عمّتِه عائشةَ بنتِ
طلحةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ رضيَ اللَّهُ عنها، قالتْ: دُعِيَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازةِ صبيٍّ من الأنصارِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ طُوبى لهذا، عصفور من عصافيرِ أهلِ الجنةِ، لم يعملِ السوءَ ولم يدركه، قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أو غيرَ ذلكَ يا عائشةَ، إن اللَّهَ خلق للجنَّةِ أهلاً، خلقَهُم لها وهمْ في أصلابِ آبائِهِم ".
وقد ضعَف الإمامُ أحمدُ رضيَ اللَهُ عنه هذا الحديثَ من أجلِ طلحةَ بنِ
يحيى، وقالَ: قد رَوى مناكيرَ، وذكر له هذا الحديثَ، وقال ابنُ معينٍ فيه:
ليس بالقويِّ.
وأما روايةُ فضيلِ بنِ عمرٍو له عن عائشةَ، فقال أحمدُ: ما أراه سمعهُ إلا
من طلحةَ بنِ يحيى، يعني أنه أخذه عنه، ودلَّسهُ، حيثُ رواه عن عائشةَ بنتِ
طلحةَ.(1/238)
وذكر العقيليُّ أنه لا يُحفظُ إلا من حديثِ طلحةَ.
ويعارِضُ هذا ما خرَّجه مسلمٌ، من حديثِ أبي السليلِ، عن أبي
حسانَ، قال: قلتُ لأبي هريرةَ: إنه قد مات لي ابنتانِ، فما أنتَ محدِّثي عن
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بحديثٍ تطيبُ به أنفسنَا عن موتانَا، قال: نعم، صغارُهم دعاميصُ أهلِ الجنة، يتلقَّى أحدُهم أباه - أو قالَ أبويه - فيأخذُ بثوبِهِ، أو قال بيدهِ - كما آخذُ أنا بصنفةِ ثوبِكَ هذا فلا يتباهى أو قال: فلا ينتهي حتَّى يدخلَه اللَّهُ وأباهُ الجنةَ".
وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ رضيَ اللَّه عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما من الناسِ مسلم يموتُ له ثلاثة من الولدِ لم يبلغوا الحِنْثَ إلا أدخلَهُ اللَّهُ الجنةَ بفضلِ رحمتِهِ إياهُم ".
ولهذا قالَ الإمامُ أحمدُ: "هو يُرجى لأبويه، فكيف يُشكُّ فيه؟ "
يعني أنه يُرجى لأبويه بسببه دخول الجنةِ.
ولعلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أولاً عن الشهادةِ لأطفال المسلمينَ بالجنةِ قبل أن يطلع على ذلك، لأن الشهادةَ على ذلك تحتاجُ إلى علم به، ثم اطلعَ على ذلك فأخبرَ بهِ، واللَّهُ أعلمُ.
القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء:
وقد اختلفَ العلماءُ فيه قدِيمًا وحديثًا والمنصوصُ عن الإمامِ أحمدَ: أنَّ
أرواحَ المؤمنينَ في الجنةِ، ذكرَ ذلك الخلال في كتابِ "السنةِ" عن غيرِ واحدٍ
عن حنبلٍ، قال: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ يقول: أرواحُ الكفارِ في النارِ، وأرواحُ(1/239)
المؤمنينَ في الجنةِ، وقال حنبل في موضع آخرَ: قال: عمومُ أرواح المؤمنينَ في
الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ في النارِ، والأبدانُ في الدنيا يعذِّبُ اللَّهُ من يشاءُ.
ويرحمُ من يشاءُ بعفوهِ.
قال أبو عبدِ اللَّهِ: ولا نقولُ إنهما يفنيانِ، بلْ هُما على علم الله باقيتانِ.
يبلغُ اللَّهُ فيهما عملَه، نسأل اللَّهَ التثبيتَ وأن لا يُزِيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا.
وقولُهُ: ولا نقولُ: هما يفنيانِ، يعني الجنةَ والنارَ، فإن في أولِ الكلامِ عن
حنبلٍ، أن أبا عبدِ اللَّهِ حكى قصةَ ضرار، وحكايتَه اختلافَ العلماءِ في خلقِ
الجنةِ والنارِ، وأن القاضيَ الجمعي أهدر دمَ ضرار، فلذلكَ استخفَى إلى أن
ماتَ. وأن أبا عبدِ اللَّه، قالَ: هذا كفرٌ، يعني القولَ بأنهما لم يُخْلَقَا بعدُ.
قال حنبل: وسألتُ أبا عبدِ اللَّهِ، عمَّن قالَ: إنْ كانتا خلِقَتَا فإنهما إلى
فناء، ثمَّ ذكرَ هذا الجوابَ عن أحمدَ.
ولا يصحُّ أن يقالَ: إنَّ أحمدَ إنما نفى الفناءَ عنهُما معًا، فيصدق ذلك بأن
تكونَ الجنةُ وحدها لا تَفْنى لأنَّ ما بعدَ هذا مبطلٌ لهذا التأويلِ، وهو قوله:
بلْ هما على علم اللَّهِ باقيتانِ. فإنَّ هذا ينفي ذلك الاحتمالَ والتوهمَ، ويثبتُ
لهما البقاءُ معًا، وهذا كما تقولُ: زيدٌ وعمرُ ولا يعلمانِ، فهذا قد يحتمل أن
يرادَ به نفي العلم عنهُما جميعًا دونَ أحدِهما، فإذا قلتَ بعدَ ذلك: بل هُما
جاهلانِ، زالَ ذلك الاحتمالُ، وأثبتَ الجهلَ لهما جميعًا، وأيضًا فلا يقعُ
استعمالُ نفي عن شيئينِ والمرادُ نفيُ اجتماعهما خاصةً، إلا معَ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ ذلك في سياقِ الكلامِ، أو عن لفظٍ يدلُّ عليه، فأمَّا مع الإطلاقِ فلا يقع ذلكَ، بل لا يجوزُ استعمالُهُ مع الإيهامِ، كما لا يُقالُ: الجنةُ والنارُ لا يفنيانِ،(1/240)
وكما لا يُقالُ: الخالقُ والمخلوقُ لا يفنيانِ، ويرادُ به أنَّ المخلوقَ وحدَه يقنى، ولا يقالُ: الدنيا والآخرةُ لا تبقيانِ، ويُرادُ به أنَّ الدنيا وحدها تفْنى، ولا يُقالُ: إنَّ محمدًا ومسيلمةَ لا يصدَّقانِ أو لا يكذَّبانِ، ويرادُ به صدقَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وحده، وكذبُ مسيلمة وحدَه، فإن هذا كلَّه استعمالٌ قبيحٌ ممنوعٌ؛ ولا يُعهدُ مثلُه في كلامِ أحدٍ ممنْ يُعتدُّ بهِ.
وقولُ أحمدَ بعد هذا: "نسألُ اللَّهَ التثبيتَ أن لا يُزيغَ قلوبنَا بعدَ إذْ هدَانا"
يدلُّ على أنَّ القولَ بخلافِ ذلك عندَهُ من الضلالِ والزيغ، وقد صرَّح بهذا
فيما نقلَهُ عنه حربٌ، قال حربٌ في مسائِلِهِ: هذا مذهبُ أئمة أهل العلمِ
وأصحابِ الأثرِ، وأهلِ السنةِ المعروفينَ بها، المقتدَى بِهِم، وأدركتُ من
أدركتُ من علماءِ أهل العراقِ والحجازِ والشامِ وغيرِهم، فمن خالف شيئًا مِنْ هذه المذاهبِ أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدعٌ خارجٌ من الجماعةِ، زائلٌ عن منهج السنة وسبيلِ الحقِّ، وهو مذهبُ أحمدَ، وإسحاق والحميديِّ، وسعيدِ بنِ منصورٍ، وغيرِهم ممَّن جالسْنَا، وأخذنا عنهم العلمَ، فكانَ من
قولِهِم: الإيمانُ قولٌ وعملٌ - وذكرَ العقيدةَ ومن جملتها - قالَ: ولقد خُلِقتِ الجنةُ وما فيها وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خَلَقَهما اللَّهُ ثم خلقَ الخلقَ لهما لا يفنيانِ، ولا يفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ تعالى: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا، فقلْ له: كل شيء ممَّا
كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا
للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا. . . وذكر بقيةَ العقيدةِ.
فقوله في آخرِ كلامِهِ: "خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ " يبطل تأويلَ مَنْ
تأوَّلَ أولَ الكلامِ على أنَّ المرادَ به لا يفْنى مجموعُهُما.(1/241)
وقد نُقلَ هذا الكلامُ الذي نقلَهُ حربٌ كلُّه، عن أحمدَ صرِيحًا.
كذلك نقلَهُ عنه أبو العباسِ أحمدُ بنُ جعفرِ بنِ يعقوبَ الأصطخريُّ، أنَّه
قال: إنَّ هذه مذاهبَ أهلِ العلم وأصحابِ الأثرِ، وأهلِ السنةِ، المتمسكينَ
بعروقِها، المعروفينَ بها، المقتدَى بهم فيها، ومن لدنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى يومِنا هذا، وأدركتُ من أدركتُ من علماءِ الحجازِ وأهلِ الشامِ وغيرِهِم، فمنْ خالفَ شيئًا من هذهِ المذاهبِ، أو طعنَ فيها، أو عابَ قائلَها، فهو مخالفٌ مبتدعٌ خارجٌ من الجماعةِ، زائلٌ عن منهج السنةِ وسبيلِ الحقِّ - فذكرَ العقيدةَ كلَّها - وفيها: وقد خُلقتِ الجنةُ وما فيها، وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خلقهُما اللَّهُ، وخلقَ الخلقَ لَهُما، ولا يفنيانِ، ولا يَفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا من متشابه القرآنِ؟
قيلَ لهُ: كلُّ شيءٍ هالك مما كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا، وذكرَ بقيةَ العقيدةِ.
وقدْ رُويَتْ هذه العقيدةُ عن الإمامِ أحمدَ: أرواحُ المؤمنينَ في الجنةِ
وأرواخُ الكفارِ في النارِ.
وقد حكَى القاضي أبو يَعْلَى في كتابِ "المعتمدِ" ومن تبعهُ من الأصحابِ
هذا الكلامَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ عن أبيه، ولم ينقلْه عبدُ اللَّهِ عن أبيهِ إنَّما
نقلَهُ عن حنبلٍ.
إنما نقل عبدُ اللَّهِ عن أبيه، فقالَ الخلالُ: أنبأنا عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنُ
حنبلٍ، قال: سألتُ أبي عن أرواح الموتى، أتكونُ في أفنيةِ قبورِها، أم في(1/242)
حواصلِ طيرٍ، أم تموتُ كما تموتُ الأجسادُ؟
قال: رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "نسمةُ المؤمنِ إذا ماتَ طائرٌ يعلقُ في شجرِ الجنةِ حتَّى يرجعَهُ اللَّهُ إلى جسدِهِ يومَ بعثه ".
وقد رُوي عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ
خضرٍ كالزرازيرِ ثم يتعارفونَ فيها ويرزقونَ من ثمارِهَا.
وقال بعضُ الناسِ: أرواحُ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تأوِي إلى
قناديلَ في الجنةِ معلقةٍ بالعرشِ. انتهى.
وهذا الكلامُ - أيضًا - يدلُّ على أنَّ أرواحَ المؤمنينَ عندَ اللَّهِ في الجنةِ، لأنَّه
ذكَرَ في جوابِهِ الأحاديثَ الدالةَ المرفوعةَ والموقوفةَ على ذلكَ. ولم يذكرْ سوى ذلكَ، ففي روايةِ حنبلٍ جزمَ بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ في الجنةِ.
وفي روايةِ عبدِ اللَّهِ ذكرَ الأدلةَ على ذلكَ.
فأمَّا الحديثُ المرفوعُ الذي ذكرَهُ، فهو من روايةِ مالكٍ، عن ابنِ شهابٍ.
أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ كعبِ بنِ مالكٍ أخبره أنَّ أباه كعْبًا، كان يحدِّثُ عن
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّما نسمةُ المؤمنِ طائرٌ يعلق في شجرِ الجنةِ، حتى يرجعَهُ اللَّهُ
إلى جسدهِ "، كذا رواه مالكٌ في "الموطإ" ورواه عن مالكٍ جماعة منهُم
الشافعيُّ، ورواه الإمامُ أحمد في "مسندهِ " عن الشافعيِّ، وخرَّجهُ الشافعيّ
من طريقِ مالكٍ أيضًا.(1/243)
وخرَّجه ابنُ ماجةَ من طريقِ الحارثِ بنِ فضيلٍ، عن الزهريِّ، بهذا
الإسنادِ. وكذا رواه عن الزهريِّ: يونسُ والزبيديُّ والأوزاعيُّ وابنُ إسحاقَ، ورواه شعيبٌ وابنُ أخي الزهريِّ وصالحُ بنُ كيسانَ، عن الزهريِّ، عن
عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ كعب بنِ مالكٌ عن جدة كعبٌ.
وقال صالحٌ في حديثِهِ: إنَّه بلَغَه أنَّ كعبًا كان يحدًّثُ؛ وقال شعيبٌ في حديثِهِ: إنَّ كعبًا كان يحدِّثُ فهو على روايةِ صالح ومن وافقه فهو منقطعٌ، وذكر محمد بنُ يحيى الذهليُّ أنَّ ذلكَ هو المحفوظُ، وخالفَهُ ابنُ عبدِ البرِّ في ذلكَ. ورجَّح روايةَ مالكٍ ومن وافقَهُ، وقد روي - معنى حديثِ كعبِ - من وجوه متعددة.
فروى حمادُ بنُ سلمةَ، عن محمدِ بنِ عمرو، عن أبي سلمةَ، عن أبي
هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ حديثَ القبرِ بطولِهِ، وفيه في حقِّ المؤمنِ، قال:
"ويُعادُ الجسدُ إلى ما بُدئُ منهُ، ويجعل روحُه في نسيمٍ طيب يعلقُ في شجرِ الجنةِ"
خرَّجه الطبراني وغيرُهُ.
وخرَّجه ابنُ حبانُ في "صحيحِه " من طريقِ معمرٍ، عن محمدِ بنِ عمرٍو
بهِ، ولفظُه: "وتُجعلُ نسمتُه في النسيمِ الطيبِ، وهو طير يعلقُ في شجرِ الجنةِ"
وقد سبقَ أنَّ غيرَهُما رواه عن محمدِ بنِ عمرٍو، ووقَفَهُ على أبي هريرةَ.
وقد تقدَّم حديثُ أمِّ هانئ الأنصاريةِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكونُ النَّسَمُ طيرًا تعلَّقُ بالشجرِ، حتى إذا كان يومُ القيامةِ دخلتْ كلّ نفسي في جسدِها".
وخرَّج ابنُ منده، من روايةِ موسى بنُ عبيدةَ الربَذيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ
زيدِ، عن أمِّ بشرِ بنتِ العرورِ، قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أرواحَ المؤمنينَ(1/244)
في حواصِلِ طيرٍ خضرٍ، تَرعَى في الجنةِ، تاكُلُ من ثمارِهَا، وتشربُ مِنْ مائِها، وتأوِي إلى قناديلَ من ذهبٍ تحتَ العرشِ، فتقولُ: ربَّنا ألحِقْ بنا إخوانَنا وآتِنَا ما وعدْتنا، وإنَّ أرواحَ الكفارِ في حواصلِ طيرٍ سود، تأكلُ من النارِ، وتشربُ مِنَ النارِ، وتأوِي إلى حجرة في النارِ، فيقولونَ: ربَّنا لا تلحِق بنا إخوانَنا، ولا تؤْتِنا ما وعدْتنا".
وموسى بنُ عبيدةَ شيخ صالح، شغلتْه العبادةُ عن حفظِ الحديثِ، فكثرتْ المناكيرُ في حديثه.
وخرَّج ابنُ منده - أيضا - من روايةِ معاويةَ بنِ صالح، عن سمرةَ بنِ
جندبٍ، قالَ: سئلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أرواح المؤمنينَ، فقالَ: "في طيرٍ حضرٍ تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءَتْ ".
قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، أرواحُ الكفارِ؟
قال: "محبوسةٌ في سجينٍ ".
وهذا مرسل.
وخرَّج أيضًا من روايةِ عيسى بنِ موسى، عن سفيانَ الثوريِّ، عن ثورِ بنِ
يزيدَ، عن خالدِ بن معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ: قالَ رسولُ اللِّهِ
- صلى الله عليه وسلم -:
"أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ كالزرازير كلُ من ثمرِ الجنة".
ثم قالَ ابنُ منده: رواه جماعةٌ عن الثوريِّ موقوفًا، يعني على عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو.
قلتُ: والصوابُ وقفُه.
وقد سبقَ أنَّ الإمامَ ذكرَهُ في روايةِ ابنِهِ عبدِ اللَّهِ موقوفًا، وكذا رواهُ وكيع.
عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ كالزرازيرِ، يتعارفونَ فيها، ويرزقونَ من ثمارِها.
خرَّجه الخلالُ.
وخرَّجَ - أيضًا - من حديثِ أبي هاشم، عن أبي إسحاق، عن أبي(1/245)
الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، فذكرَ احتضارَ المؤمنِ، وأنَّ روحَهُ تعادُ
إلى جسدِه عند سؤالهِ في القبرِ، ثم تُرفعُ روحُهُ، فتجعلُ في أعْلى عليين.
ثم تلا عبدُ اللهِ الآيةَ: (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) .
قال: في السماءٍ السابعةِ، فأمَّا الكافرُ فذكرَ الكلامَ، وتلا: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) .
قالَ: الأرضُ السابعةُ.
ورُوي مثلُ هذا المعنى عن أبي هريرةَ وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو.
وذكرَه ابنُ عبدِ البرِّ.
وروى سعيدٌ، عن قتادةَ قالَ: ذُكر لنا أنَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو كانَ يقولُ: في
سجِّين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفارِ.
وروى ابنُ المباركِ، عن ابن لهيعةَ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، أنَّ منصورَ بنَ
أبي منصورٍ، حدّثه، قالَ: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو، عن أرواحِ المسلمينَ
حينَ يموتونَ، قالَ: ما تقولونَ يا أهلَ العراقِ؟
قلتُ: لا أدرِي. قالَ: فإنَّها صُوَر طيرٍ بيضٍ في ظلِّ العرشِ، وأرواحُ الكفارِ في الأرضِ السابعَةِ.
وروى - أيضًا - عن كعبٍ، من روايةِ الأعمشِ، عن شمْر بنِ عطيةَ عنْ
هلالِ بنِ يسافٍ قالَ: كنّا جلوسًا إلى كعبٍ، فجاءَ ابنُ عباسٍ، فقالَ: يا
كعبُ، كل ما في القرآنِ قد عرفتُ، غيرَ أربعةِ أشياءَ، فأخبرْنِي عنهُنَّ، فسأله عن سجِّينٍ وعلِّيين، فقال كعبٌ: أما علِّيون فالسماءُ السابعةُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، وأمَّا سجِّين فالأرضُ السابعةُ السُّفلى وفيها أرواحُ الكفارِ تحتَ خد إبليس.(1/246)
وقد ثبتَ بالأدلةِ أنَّ الجنةَ فوقَ السماءِ السابعةِ، وأنَّ النارَ تحتَ الأرضِ
السابعةِ وقد ذكرْنا ذلك في كتابِ: "صفة النارِ" مستوفىً.
وروى أبو نُعيمٍ، من طريقِ الحكم بنِ أبانَ، قالَ: نزلَ بي ضيفٌ من أهلِ
صنعاءَ، فقال: سمعتُ وهبَ بنَ منبه، يقولُ: إنَّ للَّهَ عزَّ وجلَّ في السماءِ
السابعةِ دارًا يُقالُ لها: البيضاءُ، تجتمعُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، فإذا ماتَ الميتُ
من أهلِ الدنيا تلقتْهُ الأرواحُ، فيسألونَهُ عن أخبارِ أهلِ الدنيا، كما يسألُ
الغائبُ أهلَهُ إذا قدِمَ عليهِم.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ سفيانَ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ
المسيبِ، أنَّ سلمانَ الفارسيَّ وعبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ، لقيَ أحدُهُما صاحبَهُ.
فقالَ: إنْ متَّ قبلي فحدِّثني بما لقيتَ، وإنْ مِتُ قبلَك حدَّثْتُك بما لقيتُ.
قالَ: وكيف يكونُ ذلك؟
فقال: أرواحُ المؤمنينَ تذهبُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ.
وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ جرير عنْ يحيى به.
وخرَّج - أيضًا - من طريقِ ابنِ لهيعةَ، عن يزيدِ بنِ أبي حبيبٍ، عن
منصورِ بنِ أبي منصورٍ، أنه سألَ عبدَ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن أرواح المؤمنينَ إذا
ماتُوا أينَ هِي؟
قالَ: هي صورُ طيرٍ بيضٍ، في ظلِّ العرشِ.
وروى ليثٌ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعود، قالَ: إنَّ أرواحَ
آلِ فرعود في أجواف طير سود، تغدُو على جهنَّم، وتروحُ إليها، فذلكَ
عرضُها. َ(1/247)
وقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، في قولِهِ تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، قالَ: هم فيها اليوم، يُعدَى بهم ويُراح إلى أن تقومَ
الساعةُ.
خرَّجهما ابنُ أبي حاتمٍ.
وخرَّج اللالكائيُّ، من روايةِ عاصم، عن أبي وائل، عن أي موسى
الأشعريِّ، قال: تخرجُ روحُ المؤمنِ وهي أطيبُ من المسكِ، فتعرجُ به
الملائكةُ إلى ربِّه عزَّ وجل، حتى تأتِي ربَّه، وله برهانٌ مثلُ الشمسِ، وروحُ
الكافرِ - يعني: أنتن من الجيفةِ -، وهو بوادِي حضرموْت، في أسفلِ الثَّرَى، من سبع أرضينَ.
وقد يُستدلّ للقولِ بأنَّ أرواحَ المؤمنين في الجنةِ، وأرواحَ الكفارِ في النارِ.
من القرآنِ بأدلة، منها قولُه تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) .
إلى قولِهِ: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) .
هو دخولُ النارِ مع إحراقِهَا وإنضاجِها، فجعل هذا كلَّه متعقبًا للاحتضارِ والموت.
وكذلك قولُه تعالى في قصةِ المؤمنِ في سورةِ يس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) .
وإنَّما قالَ هذا بعدَ أن قتلوه، ورأى ما أعدَّ اللَّهُ له وكذلكَ قولُهُ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) .
على تأويلِ من تأوَّل ذلك عند الاحتضارِ.(1/248)
وكذلك قولُهُ تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) .
ونظيرُ هذه الآيةِ قولُهُ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) .
وممَّا يُستدلُّ به - أيضًا - لذلكَ، ما رواه مجالدٌ، عن الشعبيِّ، عن جابرٍ.
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن خديجةَ، قال: "أبصرتُها على نهر من أنهارِ الجنة، في بيت من قصبٍ، لا لغو فيه ولا نصب "
خرَّجه البزارُ والطبرانيُّ. َ
وخرَج الطبرانيُّ أيضًا بإسنادٍ منقطع عن فاطمةَ رضيَ اللَّهُ عنها، أنها
قالتْ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أين أُمُّنَا خديجة رضيَ اللَّه عنها؟
قال: "في بيتٍ من قصبٍ لا لغوٌ فيه ولا نصب مع مريمَ وآسيةَ امرأةِ فرعونَ " قالتْ: ممن هذا القصبُ؟
قال: "من القصبِ المنظوم بالدررِ واللؤلؤ والياقوتِ ".
وخرَّج أبو داودَ في "سننهِ " من حديثِ أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما رجمَ الأسلميّ - الذي اعترفَ عنده بالزِّنا - قال: "والذي نفسِي بيدِه إنه الآن لفي أنهارِ الجنةِ ينغمسُ فيها".(1/249)
فصل
وإنَّما تدخلُ أرواحُ المؤمنينَ والشهداءِ الجنةَ إذا لم يمنعْ من ذلكَ مانع، من
كبائرَ تستوجبُ العقوبةَ، أو حقوقِ آدميينَ حتَّى يبرأَ منها.
ففي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ رضي اللَّهُ عنه، أنَ مِدْعَمًا قتلَ يومَ
خيبرٍ، فقال الناسُ: هنيئًا له الجنةَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كلاَّ، والذي نفسِي بيده إن الشَّمْلةَ التي أخذَهَا يومَ خيبرَ لم تصبْها المقاسمُ لتشتعلُ عليه نَارًا".
وعن سمرةَ بنِ جندبٍ، قالَ: صلَّى بنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "ها هنا أحدٌ من بني فلانٍ؟ " ثلاثًا، فلم يجبْهُ أحد، ثم أجابهُ رجلٌ، فقالَ: "إنَّ فلانًا الذي تُوفِّيَ احتبسَ عن الجنةِ من أجلِ الدَّينِ الذي عليهِ، فإن شئتم فافْتَكُّوه - أو فافدُوه - وإن شئتُم فأسْلِمُوه إلى عذاب اللهِ عزَّ وجلَّ "
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، بألفاظ مختلفة.
وخرَّج البزارُ من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
وفي حديثِه قالَ: "إنَّ صاحبَكُم محبوس على بابِ الجنةِ" أحسبه قال: بدينٍ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ ثوبانَ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "من فارقَ الروحُ الجسدَ، وهو بريءٌ من ثلاث، دخلَ الجنةَ، من الكبرِ، والغلولِ، والدَّينِ ".
وخرَّج الطبرانيُّ، من حديثِ أنسٍ، قالَ: أُتِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برجل يصلِّي(1/250)
عليه، فقالَ: "على صاحبِكُم دَيْنٌ؟ " فقالُوا: نعم، قالَ: " فما ينفعُكُم أنْ أصلِّيَ على رجلٍ مرتهن في قبرِهِ، لا تصعدُ روحُه إلى السماءِ، فلو ضمِنَ رجلٌ دَيْنَه قمتُ فصلَّيتُ عليه، فإنَّ صلاِتي تنفعُهُ ".
وفي المعنى أحاديث متعددة.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، في كتابِ "من عاشَ بعد الموتِ " من طريقِ سيَّارِ
ابنِ جسرٍ، قالَ: خرج أبي وعبدُ اللَهِ بنُ زيدٍ، يريدانِ الغزوَ، فهجمُوا على
رَكيةٍ عميقةٍ واسعةٍ، فأدلَوا حبالَهُم بقدرٍ، فإذا القدر قد وقعت في الرَّكِيَّةِ.
قالَ: فقرنوا حبالَ الرفقةِ بعضُها ببعضٍ، ثم دخلَ أحدُهما إلى الرَّكيِّ، فلمَّا
صارَ في بعضِه إذا هُوَ بهمهمةٍ في الرَّكِيِّ، فرجعَ فصعدَ، فقالَ: أتسمعُ ما
أسمعُ؟ قالَ: نعمْ، فناولني العمودَ، فأخذ العمود ثم دخلَ الرَّكِيَّةَ، فإذا هُو
برجلٍ جالسٍ على ألواح وتحتَهُ الماءُ. فقالَ: أجنيّ أم إنسيّ؟
قال: بل إنسيٌّ، فقالَ: ما أنت؟
قال: أنا رجل من أهلِ إنطاكية، وإني مِتُّ فحبسنِي ربِّي عزَّ وجلَّ ها هُنا بدَيْنٍ عليَّ، وإن ولَدي بإنطاكية، ما يذكروني، ولا يقضونَ عنَي.
فخرجَ الذي كان في الرَّكِيًّةِ، فقال لصاحبِهِ: غزوةٌ بعدَ غزوة، فدعْ
أصحابَنا يذهبونَ، فسارُوا إلى إنطاكية، فسألوا عن الرجلِ وعن بَنِيه، فقالوا: نعم، إنه - واللَّهِ - لأبونا، وقد بعنا ضيعةً لنا، فامشوا معنا حتى نقضيَ عنهُ دَيْنَهُ، قال: فذهبُوا معهُم، حتى قضوا ذلك الدَّينَ، قال: ثم رجعْنا من
إنطاكية حتى أتيْنَا موضعَ الركيةِ، ولا نشكُّ أنها ثمَّ، فلم يكنْ ركيةً ولا شيء
فأمسُوا فباتُوا هناكَ. فإذا الرجلُ قد أتاهُم في منامِهِم، وقال: جزاكمُ اللَّهُ
خيرًا، فإن ربِّي عزَّ وجلَّ حَوَلني إلى مكانِ كذا وكذا من الجنةِ حيثُ قُضِي
عنَي دَيني.(1/251)
وروى في كتابِ "المناماتِ " قال: حدثنا زكريا بنُ الحارثِ البصريُّ، قالَ:
رُئِيَ محمدُ بنٍ عبادٍ في النومِ، فقيلَ لهُ: ما فعلَ اللَّهُ بك؟
فقالَ: لولا دَيْنِي أُدْخِلتُ الجنةَ.
وقالتْ طائفةٌ: الأرواحُ في الأرضِ، ثم اختلفُوا.
فقالتْ فرقةٌ منهم: الأرواحُ تستقرُّ على أفنيةِ القبورِ.
وهذا القولُ هو الذي ذكرَه عبدُ اللَّهِ ابن الإمامِ أحمدَ لأبيه في سؤالِهِ المتقدمِ. وحكى ابنُ حزمٍ هذا القولَ عن عامَّة أصحابِ الحديثِ.
وقال ابنُ عبدِ البرِّ: كان ابنُ وضَّاحٍ يذهبُ إليه، ويحتجُّ بحديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين خرجَ إلى المقبرةِ فقال: "السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنينَ "، فهذا يدلُّ على أنَّ الأرواحَ بأفنيةِ القبور.
ورجَّح ابنُ عبدِ البرِّ أنَّ أرواحَ الشهداءِ في الجنةِ، وأرواحَ غيرِهِم على أفنيةِ
القبورِ تسرحُ حيثُ شاءتْ.
وذَكرَ عن مالكٍ أنه قالَ: بلغَنِي أنَّ الأرواحَ مرسلةٌ تذهبُ حيثُ شاءتْ.
وعن مجاهدٍ قالَ: الأرواحُ على القبورِ سبعةُ أيامٍ، من يومِ دفنِ الميتِ، لا
تفارقُ ذلكَ.
واستدلَّ هو وغيرُه بحديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قالَ: "إذا ماتَ أحدُكُم عُرِضَ عليه مقعدُه بالغداةِ والعشيِّ، إنْ كانَ من أهل الجنةِ فمنْ أهلِ الجنةِ، وإنْ كانَ من
أهلِ النارِ فمِنْ أهلِ النارِ، يُقالُ له: هذا مقعدُك حتَّى يبعثَكَ اللَهُ يومَ القيامةِ"(1/252)
وهذا يدلُّ على أنَّ الأرواحَ ليستْ في الجنةِ، وإنّما تعرضُ عليها بكرةً وعشيًّا.
كذلك ذكرَ ابنُ عطيةَ وغيرُه.
وهذا لا حجةَ لهم فيه لوجهين:
أحدهما: أنه يحتملُ أنْ يكون العرضُ بكرةً وعشيًّا على الروح المتصلةِ
بالبدنِ، والروحُ وحدَها في الجنةِ فتكونُ البشارةُ والتخويفُ للجسدِ في هذينِ
الوقتينِ باتصالِ الروح به. وأما الروحُ فهيَ أبدًا في نعيم أو عذابٍ.
والثاني: أن الذي يُعرضُ بالغداةِ والعشيِّ هو مسكنُ ابنِ آدمَ الذي يستقرُ فيه
في الجنةِ أو النارِ، وليستِ الأرواحُ مستقرةً فيه في مدةِ البرزخ، وإنْ كانتْ في الجنةِ أو النارِ.
ولهذا جاءَ في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ إذا فتحَ له في قبى بابٌ إلى الجنةِ، وقيلَ له: هذا منزلُكَ. فيقولُ: ربِّ أقِم الساعةَ حتَى أرجعَ إلى أهلِي ومالِي ".
وأمَّا السَّلامُ على أهلِ القبورِ فلا يدلّ على استقرارِ أرواحهِم على أفنيةِ
قبورِهم، فإنَّه يسلِّمُ على قبورِ الأنبياءِ والشهداءِ، وأرواحُهم في أعلى عليِّين، ولكنْ لها مع ذلكَ اتصالٌ سريعٌ بالجسدِ، ولا يعلمُ كُنْهَ ذلكَ وكيفيتَهُ على
الحقيقةِ إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
ويشهدُ لذلكَ الأحاديثُ المرفوعةُ والموقوفةُ على أصحابِهِ، كأبي الدرداءِ.
وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي اللَّه عنهم، في أنَّ النائمَ يُعرجُ بروحِهِ
إلى العرشِ مع تعلّقها ببدنِهِ، وسرعةِ عودِها إليه عند استيقاظهِ، فروحُ الموتى(1/253)
المتجردةُ عن أبدانِهِم أوْلَى بعروجِهَا إلى السماءِ وعودِها إلى القبرِ في مثلِ تلك
السرعةِ، واللَّهُ أعلمُ.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ عليِّ بنِ زيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، أنَّ
سلمانَ قال لعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ في برزخٍ مِنَ الأرضِ
تذهبُ حيثُ شاءتْ، وإنَّ أرواحَ الكفارِ في سجِّين.
وخرَّجه ابن سعدٍ في "طبقاتِهِ " ولفظُه: "إنَّ روحَ المؤمنِ تذهبُ في الأرضِ حيثُ شاءتْ، وروحَ الكافر في سجين ".
وعليٌّ بنُ زيدٍ ليسَ بالحافظِ، خالفَهُ يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ مع عظمتِهِ وجلالتِه وحفظِهِ.
فرواه عن سعيدِ بنِ السيبِ، قالَ فيهِ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ تذهبُ في الجنةِ
حيثُ شاءتْ، كما سبقَ ذكرهُ، وخرَّجه ابنُ سعدٍ في "طبقاتِهِ " ولفظُه: "إنَّ
المؤمنَ روحُهُ تذهبُ في الأرضِ حيثُ شاءتْ، ونسمُ الكافرِ في سجِّين ".
وقد تقدَّمَ عن مالكٍ أنَّه قالَ: بلغَنِي أنَّ الأرواحَ مرسلة تذهبُ حيثُ
شاءتْ، وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، عن خالدِ بنِ خداشٍ، قالَ: سمعتُ مالكًا
يقولُ ذلكَ.
وخرَّج - أيضًا - عن حسينِ بنِ على العجليِّ، حدثنا أبو نُعيمٍ، حدثنا
شريلث عن يعْلَى بنِ عطاءِ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ؛ مثلُ:
المؤمنِ حينَ تخرجُ نفسُهُ، أو قالَ روحُهُ، مثلُ رجلٍ كان في سجْنٍ، فأُخْرِجَ منه، فهو ينفسحُ في الأرضِ ويتقلبُ فيها.
ومما استدلَّ به على أنَّ الأرواحَ في الأرضِ، حديثُ البراءِ بن عازبٍ.
الذي تقدَّم سياقُ بعضِه، وفيه صفةُ قبضِ رُوح المؤمنِ: "فإذا انتهَى إلى العرشِ(1/254)
كتبَ كتابَهُ في علِّيين، ثم يقولُ الربُّ عزَّ وجلَّ: ردُّوا عبدِي إلى مضجعِهِ، فإنَي وعدتُهم أني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى، فيُرَدُّ إلى مضجعِهِ ".
وذكرَ الحديثَ. وقال في روء الكافرِ: "فيصعدُ بها إلى السماءِ، فتغلق دونه أبوابُ السماءِ قال: ويُقالُ: اكتبوا كتابَهُ في سجِّين، قالَ: ثم يقالُ: أعيدُوا عبدِي إلى الأرضِ، فإني وعدتُهُم أنِّى منها خلقتُهم، وفيها أعيدُهُم، ومنها أخرجُهم تارةً أخرى".
وفي روايةٍ: "فيقولُ اللَّهُ تعالى: ردُّوا روحَ عبدِي إلى الأرضِ، فإنِّي وعدتُهُم أنِّي أردُّهم فيها" ثم قرأ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) .
وهذا يدل على أنَّ أرواحَ المؤمنينَ تستقرُ في الأرضِ، ولا تعودُ إلى السماءِ
بعد عرضِها ونزولهَا إلى الأرضِ، ولكنَّ حديثَ البراءِ وحدَهُ لا يعارضُ
الأحاديثَ المتقدمةَ في أنَّ الأرواحَ في الجنةِ، ولا سيما الشهداءُ.
وفي "صحيح مسلم" عن عبدِ اللَّهِ بن شقيقٍ، عن أبي هريرةَ، في صفةِ
قبضِ روء المؤمنِ، قالَ: "ثم يصعدُ به إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ - فيقولُ: ردُوه إلى آخر الأجلبنِ "، وذكرَ مثلهُ في روءِ الكافرِ، وقال فيه: وردَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ريطةً كانتْ له على أنفهِ، يعني لمَّا ذكر نتن ريحهِ. وهذا يشهدُ لرفع الحديث كلِّهِ.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، منْ حديثِ قتادةَ عن قسامةَ بنِ زهيرٍ، عن أبي
هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ المؤمنَ إذا احتُضِرَ أتتهُ الملائكةُ بحريرة فيها مسكٌ وضبائرُ
الريحانِ، فتُسل روحُهُ كما تُسلُّ الشعرةُ من العجينِ، وتقولُ: أيتها النفسُ المطمئنةُ اخرجِي راضيةً، مرضيًّا عنكِ إلى روحِ اللَّهِ وكرامتِهِ، فإذا خرجتْ روحُه وُضِعَتْ على(1/255)
ذلكَ المسكِ والريحانِ، وطويتْ عليها الحريرةُ، وبُعثِ بها إلى عليين.
وإنَّ الكافرَ إذا احتضرَ أتتْهُ الملائكةُ بمسحٍ فيه جمرةٌ، فتنزعُ روحُهُ نزعًا شديدًا، ويقالُ: أيتها النفس الخبيثةُ، اخرجِي ساخطةً مسخوطًا عليكِ إلى هوانِ اللَّهِ وعذابِهِ، فإذا أُخرجَتْ روحُه وُضِعَتْ على تلكَ الجمرةِ، فإنَّ لها نشيشًا، يُطوى عليها المسحُ ويذهبُ بها إلى سِجِّين ".
وخرَّجه النسائيُّ وغيرُه، من حديثِ قتادةَ، عن أبي الجوزاءِ عن
أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولفظُهُ مخالفٌ لما قبلَهُ، وذكرَ فيه في روح المؤمنِ: حين ينتهوا به إلى السماءِ العُليا، وقال في روح الكافرِ، حينَ ينتهوا به إلى الأرضِ السّفلى.
وقد ذكرنا فيما تقدَّم عن ابنِ مسعودٍ: أنَّ الروحَ بعدَ السؤالِ في القبرِ تُرفع
إلى عليينَ، وتلا قولَهُ تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِيِّينَ) .
وقالتْ فرقة: تجتمعُ الأرواحُ بموضع من الأرضِ، كما روى همامُ بنُ يحيى
المسعوديُّ، عن قتادةَ: قالَ: حدثني رجل، عن سعيدِ بن المسيبِ، عن
عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو، قالَ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ تجتمعُ بالجابيةِ، وأمَّا أرواحُ الكفارِ فتجمعُ بسبخةٍ بحضرموت، يُقال لهُ: برهوتُ، خرَّجه ابنُ منده.
ورواه هشامُ الدستوائيُّ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ من قولِهِ، ولم
يذكرْ عبدَ اللَّهِ بنِ عمرو، خرَّجه من طريقِ ابنِ أبي الدنيا، وقد تبيّنَ أن قتادةَ
لم يسمعْه من سعيدٍ، إنما بَلَغَه عنه ولا يدرِ عَمَّن أخذهُ.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ فراتِ القزازِ، عن أبي الطفيلِ، عن علي.
قال: شرُّ وادٍ بئر في الأحقافِ: برهوتُ، بئرٌ في حضرمَوت، ترده
أرواحُ الكفارِ.(1/256)
قال: ورواه حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن يوسفَ بن مهرانَ.
عن ابنِ عباسٍ: عن عليٍّ - رضي الله عنه -، قال: أبغضُ بقعة في الأرضِ وادٍ بحضرموت، يُقال له: بَرهوتُ، فيه أرواحُ الكفارِ، وفيه بئر ماؤُه بالنهارِ أسودُ كأنه قيحٌ تأوِي إليه الهوامُ.
وروى بإسناده عن شهرِ بنِ حوشبٍ، أنَّ كعبًا رأى عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو.
وقد تكالبَ الناسُ عليه يسألونَهُ، فقال رجل لرجلٍ: سله أينَ أرواحُ المؤمنينَ؟
قال: بالجابيةِ وأرواحُ الكفارِ ببرهوتَ.
وبإسنادٍ عن سفيانَ، عن أبانَ بنِ تغلبٍ، قال: قال رجل: بتّ فيه - يعني
وادي برهوت، وكأنَّما حُشدتْ فيه أرواحُ الناسِ، وهم يقولونَ: يا دومةُ يا
دومةُ، قال أبانُ: فحدثنا رجل من أهلِ الكتابِ: هو المَلكُ الذي على أرواحِ الكفارِ.
قال سفيانُ: وسألنا الحضرميّينَ، فقالُوا: لا يستطيعُ أن يبيتَ فيه أحدٌ
بالليلِ.
وقال ابنُ قتيبةَ في كتابِ: "غريبِ الحديثِ ": ذكرَ الأصمعيُّ، عن رجلٍ
من أهلِ برهوتَ - يعني البلدَ فيه هذا البئرُ -، قال: نجدُ الرائحة المنتنةَ
الفظيعةَ جدًّا، ثم نمكثُ حينًا، فيأتينا الخبرُ بأن عظيمًا من عظماء الكفارِ قد
ماتَ، فنرى أن تلكَ الرائحةَ منْهُ.
قال: وقالَ ابنُ عيينةَ: أخبرنِي رجل أنه أمْسَى ببرهوتَ، فكأنَّ فيه
أصواتُ الحاجِّ، قال: وسألتُ أهلَ حضرموت، فقالُوا: لا يستطيعُ أحدُنا أن(1/257)
يمشي به فيه.
وقال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا الحسينُ بنُ عبدِ العزيزِ، حدثنا عمرو بنُ أبي
سلمةَ، عن عمرَ بنِ سليمانَ، قالَ: ماتَ رجلٌ من اليهودِ وعندَهُ وديعةٌ
لمسلم، وكانَ لليهوديِّ ابنٌ مسلمٌ، فلم يعرفْ موضعَ الوديعةِ، فأخبرَ شعيبًا
الجبائيَّ، فقال: ائت برهوتَ فإنَّ دونهُ عينٌ تسيبُ، فإذا جئتَ في يومِ السبتِ فامشِ عليها حتَّى تأتِي عينًا هناكَ، فادعُ أباك فإنه سيجيبُكَ، فاسألْه عما تريدُ، فعلَ ذلك الرجلُ، ومضى، حتى أتى العينَ، فدعا أباه مرتينَ أو ثلاثاً فأجابَهُ، فقالَ: أين وديعةُ فلانٍ؟ فقال: تحت إسكفةِ البابِ، فادفعْها إليه.
وفي كتابِ "الحكاياتِ " لأبي عمرٍو أحمدَ بنِ محمدٍ النيسابوريِّ، قالَ:
حدثنا أبو بكرٍ بنُ محمدِ بنِ عيسى الطرطوسيُّ، حدثنا حامدُ بنُ يحيى حدثنا
يحيى بنُ سليم، قالَ: كانَ عندنا بمكةَ رجلُ صدق من أهلِ خراسانَ يُودعَ
الودائعَ فيؤدِّيها، فأودعه رجلٌ عشرة آلافِ دينارٍ، وغابَ، فحضرتِ
الخراسانيَّ الوفاةُ، فما ائتمنَ أحدًا من ولدِهِ، فدفنَهَا في بعضِ بيوتِهِ، وماتَ.
فقدِمَ الرجلُ وسألَ بنيهِ، فقالُوا: ما لنا بها علمٌ، قالَ العلماءُ الذين بمكةَ.
وهم يومئذٍ متوافرونَ، فقالُوا: ما نراهُ إلا من أهلِ الجنةِ، وقد بلغَنا انَّ أرواحَ أهل الجنةِ، في زمزمَ، فإذا مضى من الليلِ ثلثُه أو نصفُهَ فائتِ زمزمَ، فقفْ على شفيرِهَا، ثم نادِهِ، فإنا نرجُو أن يجيبَكَ، فإنْ أجابكَ فاسْألْه عن مالِكَ.
فذهبَ كما قالُوا: فنادَى أولَ ليلةٍ وثانيةٍ وثالثةٍ، فلم يُجَبْ، فرجَعَ إليهم.
فقالَ: ناديتُ ثلاثا فلم أُجَبْ؛ فقالُوا: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، ما نرى
صاحبَك إلا من أهل النارِ، فاخرجْ إلى اليمنِ، فإنَّ بها واديًا يُقالُ له:
برهوتَ، فيه بئرٌ يقالُ له: يلهوتُ فيها أرواحُ الكفارِ، فقِفْ على شفيرها فنادِهِ(1/258)
في الوقت الذي ناديتَهُ في زِمزمَ، فذهب كما قيل له في الليلِ، فنادَى يا
فلانُ يا فلانُ بنُ فلانٍ أنا فلانُ بنُ فلانٍ، فأجابَهُ في أولِ صوتِ، فقال له:
ويحكَ ما أنزلَكَ ها هنا وقد كنتَ صاحبَ خيرٍ؟
قال: كان لي أهلٌ بخراسانَ، فقطعتُهم حتى مِتُّ، فأخذَنِي اللَّهُ فأنزلني هذا المنزلَ، وأمَّا مالُك فإني لم آمنْ عليه ولدِي، وقد دفنتُه في موضع كذا.
فرجع صاحبُ المالِ إلى مكةَ، فوجدَ المالَ في المكانِ الذي أخبرَهُ.
ورجَّحت طائفةٌ من العلماء أن أرواحَ الكفارِ في بئر برهوت، منهم
القاضي أبو يعْلَى من أصحابِنا في كتابِه: "المعتمد" وهو مخالفٌ لنص أحمدَ:
أنَّ أرواح الكفارِ في النارِ.
ولعلَّ لبئر برهوت اتصالاً في جهنَّم في قعرِها، كما رُوي في البحرِ أنَّ
تحته جهنَّم، واللَّه أعلمُ.
ويشهدُ لذلكَ ما سبقَ من قولِ أبي موسى الأشعريِّ: فروحُ الكافرِ بوادي حضرَموت، في أسفلِ الثرى من سبع أرضينَ.
وقال صفوانُ بنُ عمرٍو: سألتُ عامرَ بنَ عبدِ اللَّهِ اليمانيَّ، هل لأنفسِ
المؤمنينَ مجتمعٌ؟
فقال: يُقالُ: إن الأرضَ التي يقولُ اللَّهُ: (أَنَّ الأَرْض يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، قالَ: هي الأرض التي تجتمعُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، حتى يكونَ البعثُ.
خرَّجه ابنُ منده، وهذا غريبٌ جدًّا، وتفسيرُ الآيةِ بذلك ضعيفٌ.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، في كتابِ "من عاشَ بعدَ المماتِ " من طريقِ(1/259)
عبدِ الملكِ بنِ قدامةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن دينارٍ، عن أبي أيوبَ اليمانيِّ، عن
رجلٍ من قومِهِ يقال له: عبدُ اللَّه، إنه ونفرٌ من قومِهِ ركبُوا البحرَ، وإنَّ
البحرَ أظلمَ عليهم أيامًا، ثم انجلتْ عنهم تلك الظلمةُ، وهم قرب قريةٍ، قالَ
عبدُ اللَّه: فخرجتُ ألتمسُ الماءَ، فإذا أبوابَ المدينةِ مغلقة، تجأجأ فيها الريحُ
فهتفتُ بها، فلم يجبْني أحدٌ، فبينا أنا كذلك إذ طلعَ عليَّ فارسانِ، تحتَ كلِّ
واحدٍ منهما قطيفةٌ بيضاءُ، فسألانِي عن أمرِي، فأخبرتُهما بالذي أصابَنا في
البحرِ، وإني خرجتُ أطلبُ الماءَ. فقالا لي: يا عبدَ اللَّهِ، اسْلُكْ في هذه
السكّةِ، فإنك ستنتهِي إلى بركةٍ فيها ماءٌ فاسْقِ منها، ولا يهولنّك ما ترى
فيها، قال: فسألتُهما عن تلكَ البيوتِ المغلقةِ التي تجاجا فيها الريحُ فقالا:
هذه بيوت فيها أرواحُ الموتى.
قال: فخرجتُ حتى انتهيتُ إلى البركةِ، فإذا فيها رجلٌ مصلوبٌ معلَّقٌ
على رأسِهِ، يريدُ أن يتناولَ الماءَ بيدِهِ، وهو لا ينالُه، فلما رآني هتفَ بِي.
وقال: يا عبدَ اللَّهِ اسقنِي، قال: فغرفتُ بالقدح لأناوَلَهُ فقبضتْ يدِي، قالَ
لي: بلَّ العمامةَ ثم ارمِ بها إليَّ، قال: فبللت العمامة لأرمي بها إليه.
فقبضت يدي العمامةَ، ثم بللتُ ثانيًا لأرمي بها إليه قبضتْ يدي. فقلتُ: يا
عبدَ اللَّه غرفتُ بالقدح لأناولكَ فقُبِضَتْ يدي، ثم بللتُ العمامة لأرمي بها
إليكَ فقُبِضَتْ يدي، فأخبرْنِي من أنت؟
فقال: أنا ابنُ آدم، أنا أول من سفكَ دمًا في الأرضِ.
خرَّجَ أبو نعيمٌ بإسنادِهِ عن ابنِ وهبٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ بنِ
أسلمَ، قالَ: بينا رجلٌ في مركبٍ في البحرِ، إذ انكسرَ بهم مركبُهم، فتعلقَ
بخشبةٍ، فطرحتُه في جزيرة من الجزائرِ، فخرج يمشي، فإذا هو بماءٍ، فتبعهُ(1/260)
فدخلَ في شعبٍ، فإذا رجل في رجليه سلسلةٌ مربوطٌ بها، بينه وبينَ الماءِ
شبرٌ، فقال: اسقني رحمكَ اللَهُ، قال: فأخذتُ ملءَ كفي ماءً فرفعَ بالسلسلةِ فذهبَ الماءُ، فلما ذهبَ الماءُ حطّ الرجل: قال: ففعلتُ ذلكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، أو أربعًا، قال: فلما رأيتُ ذلك منه، قلتُ له: ما لكَ ويحكَ؟
قال: هو ابنُ آدم الذي قتلَ أخاهُ، والله ما قُتِلَتْ نفسٌ ظُلْمًا منذ قتلتُ أخي إلا يعذِّبني اللهُ بها، لأنِّي أوَّل من سنًّ القتلَ.
وروى تمامُ بنُ محمدِ الرازيُّ في كتابِ "الرهبانِ " حدثنا عصمةُ العبادانيُّ.
قال: كنتُ أجول في بعضِ الفلواتِ، إذ بصرتُ دِيرًا وفيه صومعةٌ، وفيها
راهب، فناديتُه، فأشرفَ عليَّ، فقلتُ له: من أينَ تأتيكَ الميرةُ؟
قال: من مسيرة شهرٍ.
قلتُ: حدثني بأعجبِ ما رأيتَ في هذا الموضع. قال: بينا أنا
ذاتَ يومٍ أديرُ ببصري في هذهِ البريةِ القفرِ وأتفكر في عظمةِ اللَّهِ وقدرتِهِ، إذ
رأيتُ طائرًا أبيضَ مثلَ النعامةِ كبيرًا، قد وقعَ على تلك الصخرةِ - وأومئ
بيده إلى صخرةٍ بيضاء فتقيأ رأسًا، ثمَّ رجلاً، ثم ساقًا، فإذا هو كلما تقيأ
عضوًا من تلك الأعضاءِ التمتْ بعضُها إلى بعضِ أسرعَ من البرقِ، فإذا هَمَّ
بالنهوضِ نقره الطائرُ نقرةً قطعه أعضاءً، ثم يرجعُ فيبتلعه، فلم يزل على
ذلك أيامًا، فكثرَ تعجبي منه، وازددتُ يقينًا بعظمة اللَّهِ، وعلمت أن لهذهِ
الأجسادِ حياةً بعد الموتِ، وذكر أنه سأل عن ذلكَ الرجلَ يومًا عن أمر.
فقال: أنا عبدُ الرحمنِ بنُ مُلجم، قاتلُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ كرَّم اللَّه وجهَهُ.
أمرَ اللَّهُ هذا المَلَكَ أن يعذِّبني إلى يومِ القيامة، قال: وقال لي الملكُ: أمرَنِي
رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أن أمضي بهذا الجسدِ إلى جزيرةِ في البحرِ الأسودِ التي يخرجُ
منه هوامُ أهلِ النارِ، فأعذدهُ إلى يومِ القيامةِ.(1/261)
وقد رويتْ هذه الحكايةُ من وجه آخرَ، خرَّجها ابنُ النجارِ في "تاريخه "
من طريقِ السلَفيِّ، بإسنادٍ له، إلى الحسينِ بنِ محمدِ بنِ عبيدِ العسكريَ.
أخبرنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ أحمدَ بنِ يحيى بنِ النجم - سنةَ ثلاثَ
عشرةَ وثلاثمائة - أنه حضر مع يوسفَ بنِ أبي التياح ببلاد سنجاطَ حينَ
فتحَهَا، وأن سنباطَ حضر مجلسَهُ، وحدّثه عن راهبٍ سماه لي، فأحضرَ
يوسفُ الراهبَ، فحدَّثه الراهبُ بعد الامتناع، أن مَلِكا نفاهُ إلى جزيرةٍ على
البحرِ منفردةٍ، قال: فرأيتُ يومًا طيرًا - فذكرَ شبيهًا بالحكايةِ.
ورُويتْ من وجهٍ آخرَ، من طريقِ أبي عبدِ اللَّهِ محمدِ بن أحمدَ بنِ إبراهيمَ
الرازيِّ، صاحب "السداسياتِ " المشهورةِ، عن عليِّ بنِ بقاءِ بنِ محمدٍ
الوراقِّ، حدثنا أبو محمدٍ عبد الرحمنِ بن عمرَ البزارِ، قال: سمعتُ أبا بكر
محمدَ بنَ أحمدَ بنَ أبي الأصبغ، قال: قَدِم علينا شيخٌ غريبٌ، فذكرَ أنه كان
نصرانيًّا سنينَ، وأنه تعبَّدَ في صومعتِهِ قال: فبينما هو جالسٌ ذاتَ يومٍ، إذ
جاءَ طائرٌ كالنسرِ، أو كالكرْكِيِّ. فذكر شبيهًا بالحكايةِ مختصرًا.
وكلُّ ما وردَ من هذه الآثارِ فإنه محمولٌ على أنَّ الأرواحَ تنتقل من مكانٍ
إلى مكانٍ، ولا يدلُّ على أنَّها تستقرُ في موضع معينٍ من الأرضِ، واللَّهُ
أعلمُ.
ويشهدُ لهذا ما رُوي عن شهرِ بنِ حوشبٍ، قال: كتبَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو
إلى أبي بن كعبٍ، يسأله: أين تلْتَقِي أرواحُ أهلِ الجنةِ وأرواحُ أهلِ النارِ.
فقال: أما أرواحُ أهلِ الجنةِ فبالباديةِ، وأما أرواحُ الكفارِ، فبحضرَموت، ذكره ابنُ منْدَه تعلِيقًا.(1/262)
وقالتْ طائفة من الصحابةِ: الأرواحُ عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقد صحَّ ذلك
عن ابنِ عمرٍو، وقد سبقَ قولُهُ.
وكذلكَ رُوي عن حذيفةَ، خرَّجه ابن منده، من طريقِ داودَ الأوديِّ، عن
الشعبيِّ، عن حذيفةَ، قال: إنَّ الأرواحَ موقوفة عندَ اللَّهِ تعالى، تنتظرُ
موعدَها، حتَّى ينفخَ فيها، وهذا إسناد ضعيف، هذا لا ينافي ما وردتْ به
الأخبارُ من محلِّ الأرواح على ما سبقَ.
وقال طائفةٌ: أرواحُ بني آدمَ عند أبيهم آدمَ عليه السلامُ عن يمينِه وشمالِه
وهذا يستدل له بما في "الصحيحينِ " عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -، عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة"، فذكر الحديثَ وفيه: "فلمَّا فتحَ، علونَا السماءَ الدنيا، فإذا رجل قاعد عن يمينِهِ أسوِدَة، وعن يسارِهِ أسودة، فإذا نظر قِبَل يمينهِ ضحكَ، وإذا نظرَ قِبَلِ شمالهِ بَكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالح والابن الصالحِ، قلتُ لجبريلَ: من هذَا؟
قال: هذا آدمُ، وهذه الأسودةُ عن يمينِهِ وعن شمالِهِ نسمُ بني آدمَ، فأهل
اليمينِ منهم أهلُ الجنةِ، والأسودةُ التي عن شمالِهِ أهلُ النارِ، فإذا نظرَ عن يمينِهِ ضحكَ، وإذا نظرَ عن شمالِهِ بَكَى.. " وذكر بقية الحديثِ.
وظاهرُ هذا اللفظِ يقتضِي أنَّ أرواحَ الكفارِ في السماءِ، وهذا مخالف لقولِهِ
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَاب السَّمَاءِ) ، وكذلك حديثُ البراءِ وأبي هريرةَ وغيرِهما، أنَّ السماءَ لا تفتحُ
لروح الكافرِ، وأنها تطرحُ طرْحًا، وأنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قرأ: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَاَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(1/263)
قد حملَهُ بعضُهم على أنَّ هذه الأرواحَ التي عن يمينِ آدمَ وشمالِه هي
أرواحُ العصاةِ من الموحدينَ وحملَها بعضُهم على أنها أرواحُ بنيهِ الذينَ لم
تُخلقْ أجسادُهُم بعد، وهذا في غايةِ البعدِ مع منازعةِ بعضِهم في خلقِ
الأرواح قبل أجسادِها.
وقد وردَ من حديثِ أبي هريرةَ، ما يزيلُ هذا الإشكالَ كلَّه، من روايةِ أبي
جعفر الرازيِّ، عن الربيع بنِ أنسي عن أبي العاليةَ أو غيرِه، عن أبي هريرةَ.
فذكر حديثَ الإسراء بطول، إلى أن قال: "ثمَّ صعد به إلى سماءِ الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟
قال: جبريلُ، قيلَ: ومن معك؟
قال: محمدٌ قالُوا: وقد أُرسِلَ محمد؟
قال: نعمْ، قالَ: حيَّاه اللَّهُ من أخٍ ومن خليفة، فنِعْمَ الأخُ، ونعمَ الخليفةُ، ونعِمَ المجيءُ جاءَ، قال: فدخلَ فإذا هو برجلٍ تامِّ الخلقِ، لم ينقص خلقِه شيء كما ينقص من خلقِ الناسِ، عن يمينِهِ باب يخرجُ منه ريح طيبة وعن شمالِهِ باب يخرجُ منه ريح خبيثة إذا نظرَ إلى البابِ الذي عن يمينِهِ ضحكَ واستبشرَ، وإذا نظرَ إلى البابِ الذي عن شمالهِ بكى وحزنَ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريلُ من هذا الشيخُ التامُّ الخلقِ الذي لم ينقصْ من خلقِهِ شيء؛ وما هذانِ البابانِ؟
قال: هذا أبوكَ آدمُ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم.
البابُ الذي عن يمينِه بابُ الجنةِ، فإذا نظرَ من يدخلُ الجنةَ من ذرينِه ضحكَ واستبشرَ، والبابُ الذي عن شمالِهِ بابُ جهنّم، فإذا نظرَ من يدخلُ من ذريتِه النارَ بكى وحزِنَ "، وذكر الحديثَ.
وقد خرَّجه بتمامِهِ البزَّارُ في "مسندهِ "، وأبو بكرٍ الخلالُ وغيرُ واحدٍ.
وفيه التصريحُ بأن أرواحَ ذريته في الجنة والنارِ، وأنه ينظرُ إلى أهلِ الجنة من
بابٍ عن يمينِه، وإلى أهلِ النارِ من باب عن شمالِه، وهذا لا يقتضِي أن تكون(1/264)
الجنةُ والنارُ في السماءِ الدنيا، وإنَّما معناه أنَّ آدمَ في السماء الدنيا، يفتحُ له
بابانِ إلى الجنةِ والنارِ، ينظرُ منهما إلى أرواح ولدِه فيهما.
وقد رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الجنةَ والنارَ في صلاةِ الكسوفِ وهو في الأرضِ وليستِ الجنةُ في الأرضِ.
ورُوي أنه رآها ليلةَ الإسراء في السماءِ؛ ليستِ النارُ في السماءِ.
ويشهدُ لذلكَ - أيضًا - ما في حديثِ أبي هارونَ العبدِيِّ - مع ضعفِ
حديثِهِ - عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الإسراءِ الطويلِ إلى أنْ ذكرَ السماءَ الدنيا: "وإذا أنا برجلٍ كهيئتِه يومَ خلقَهُ اللَهُ - عزَّ وجلَّ - لم يتغيرْ منه شيءٌ، وإذا تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريتِهِ، فإذا كان روحُ مؤمنٍ قال: روحٌ طيبةٌ، وريحٌ
طيبة اجعلُوا كتابَهُ في عليّينَ. وإذا كان روحُ كافرٍ، قال: روحٌ خبيثةٌ، وريحٌ خبيثة اجعلُوا كتابه في سجِّين، قلتُ: يا جبريلُ من هذا؟
قال: أبوكَ آدمُ "، وذكر الحديثَ.
ففي هذا أنه تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريتِه في السماءِ الدنيا، وأنه يأمرُ بجعلِ
الأرواح في مستقرِّها من علِّيينَ وسجًّينَ، فدلَّ على أن الأرواحَ ليس محل
استقرارِها في السماءِ الدُّنيا.
وزعمَ ابنُ حزمٍ أنَّ اللَّه خلقَ الأرواحَ جملةً قبلَ الأجسادِ، وأنه جعلها في
برزخ، وذلك البرزخُ عند منقطع العناصرِ، يعني حيثُ لا ماءَ ولا هواءَ ولا
نارَ ولا ترابَ، وأنه إذا خلقَ الأجسادَ أدخلَ فيها تلكَ الأرواحَ، ثم يعيدها
عند قبضِها إلى ذلك البرزخ، وهو الذي رآها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في ليلةِ أُسْرِي به، عند سماءِ الدنيا، أرواحُ أهلِ السعادةِ عن يمينِ آدمَ، وأرواحُ أهلِ الشقاوةِ عن يسارِهِ، وذلك عند منقطع العناصرِ، وتُجعلُ أرواحُ الأنبياء والشهداءِ إلى الجنةِ.
قال: وذكرَ محمدُ بنُ. نصر المروزيُّ، عن إسحاقَ بنِ راهويه، أنه ذكرَ هذا(1/265)
الذي قلنَاه بعينِه، قالَ: وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلم، قالَ ابنُ حزمٍ: وهو
قولُ جميع أهلِ الإسلامِ، هذا مختصرُ ما ذكرَهُ، ولا يُعرفُ ما قالَهُ في هذا
عن أحدٍ من أهلِ الإسلامِ غيرِهِ.
فكيفَ يكونُ قولَ جميعَ أهلِ الإسلامِ، وكلامُهُ يقتضِي أن الأرواحَ رآها
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الإسراءِ تحتَ السماءِ الدُّنيا، والحديثُ إنما يدلُّ على أنه إنما راَها فوقَ السماءِ الدنيا، وما حُكِي عن محمدِ بن نصرٍ، عن إسحاقَ بنِ راهويْهِ، فلا يدلُّ على ما قالَهُ بوجهٍ، فإن محمدَ بنَ نصرٍ حكى عن إسحاقَ بنِ راهويْهِ إجماعَ أهلِ العلم على أنَّ اللَّهَ تعالى استخرجَ ذريتَهُ من صلبِهِ قبلَ خلقَ أجسادِهم واستنطَقَهُم واستشهدَهُم على أنفسِهِم (ألَسْتُ بِرَبِّكم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) .
ولم يذكر أكئرَ من هذا، وهذا لا يدلُّ على شيءٍ مما
قاله ابنُ حزمٍ في مستقرِّ الأرواح الميتةِ، بل ولا على أنَّ الأرواحَ بقيتْ على
حالِها، بلْ في بعضِ الأحاديثِ أنه ردَّها إلى صلبِ آدمَ، ولم يقلْ إسحاقُ
ولا غيرُه من المسلمينَ: إن مستقرَ الأرواح حيثُ منقطع العناصِر، بل وليسَ
هذا من جنسِ كلامِ المسلمينَ، بل من جنسِ كلامِ المتفلسفةِ.
وقد خرَّج ابنُ جريرٍ الطبريُّ في كتابِ "الآدابِ " لهُ، من طريقِ أبي
معشرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، عن المغيرةِ بنِ عبدِ الرحمنِ، قالَ: قالَ سلمانُ
لعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ: إنَّ متَّ قبلي فأخبرْنِي بما تلْقَى، وإنْ متُّ قبلكَ أخبرتُك
بما ألْقى، فقالَ له الناسُ: يا عبدَ اللَّهِ كيف تخبرُنا وقد مِتَّ؟ قالَ: ما منْ روح تُقبضُ من جسدٍ إلا كانتْ بينَ السماءِ والأرضِ حتى تُردَّ في جسدهِ الذي أخذتْ منه، وهذا لا يثبتُ وهو منقطعٌ، وأبو معشرٍ: ضعيفٌ، وقد سبقَ روايةُ سعيدِ بنِ المسيبِ لهذه القصة بغير هذا اللفظِ وهو الصحيحُ.(1/266)
وقد تقدمَ في سؤال عبدِ اللَّهِ بنِ الإمامِ أحمدَ لأبيهِ عن الأرواح هل تموتُ
بموتِ الأجسادِ؟ وهذا يدلُّ على أنَّ هذا قد قيل أيضًا وهو كذلكَ.
وقد حُكِي عن طائفة من المتكلمينَ وذهبَ إليه جماعة من فقهاءِ الأندلسِ
قدِيمًا، منهم عبدُ الأعلى بنُ وهبٍ ومحمدُ بنُ عمرَ بن لبابة، ومن متأخرِيهم
كالسهيلي وأبي بكرِ بنِ العربيِّ وغيرِهِما، قال أبو الوليد بنُ الفرضيِّ في
"تاريخ الأندلسِ ": أخبرني سليمانُ بنُ أيوبَ، قالَ: سألتُ محمدَ بنَ
عبدِ الملكِ بنِ أيمن، عنِ الأرواح؟
فقال لِي: كانَ محمدُ بنُ عمرَ بنِ لبابةِ
يذهبُ إلى أنها تموتُ. وسألته عن ذلكَ؟
فقال: كذا كانَ عبدُ الأعْلَى يذهبُ
فيها، قال ابنُ أيمن، فقلتُ له: إنَّ عبدَ الأعْلَى كان قدْ طالعَ كتبَ المعتزلةِ
ونظرَ في كلامِ المتكلمينَ، فقال: إنَّما قلدتُ عبدَ الأعْلَى ليسَ عليَّ من هذا
شيء. انتهى.
وقد استدل أربابُ هذا القول بقولِهِ تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموتِ) ، وهذا حقّ كما أخبرَ اللَّهُ به، لا مِرْيَةَ فيه، ولكن الشأنَ في فهم
معناهُ، فإن النفسَ يُرادُ بها مجموعُ الروح والبدنِ. كما في قولِهِ تعالى:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8".
وقوله سبحانه وتعالى: (فَلا تُزَكوا أَنفُسَكُمْ) .
وقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)
وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسَبَتْ رَهِينَة) .
وقوله تعالى: (يَوْمَ تَأتِي كلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن ئفْسِهَا) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منْ نفسٍ مَنْفُوسةٍ إلا اللَهُ خالقُها".(1/267)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - ا: "ما مِنْ نفسٍ منْفُوسة اليومَ، يأتي عليها مائةُ سنة وهي حيَّةّ يومئذٍ".
وفي رواية: "لا يأتي مائةُ سنة وعلى الأرضِ نفسٌ منفوسةٌ اليومَ ".
والمرادُ موتُ الأحياءِ الموجودينَ في يومِهِ ذلكَ، ومفارقةَ أرواحِهِم
لأبدانِهِم، قبلَ المائةِ سنةِ، ليس المرادُ عدمَ أرواحِهِم واضمحلالِهَا، فكذلك
قولُهُ سبحالهُ وتعالى: (كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، إنَّما المرادُ كلُّ
مخلوق فيه حياةٌ فإنَه يذوقُ الموتَ، وتفارقُ رُوحُه بدَنَه، فإنْ أرأدَ من قالَ: إن النفسَ والروحَ تموتُ، إنها تذوقُ ألمَ مفارقةِ الجسدِ فهو حق، وإنْ أرادَ أنَّها تُعدم وتتلاشى فليسَ بحق، وقدْ استنكرَ العلماءُ هذه المقالةَ، حتى قالَ
سحنونُ بنُ سعيد وغيرُهُ: هذا قولُ أهلِ البدع، والنصوصُ الكثيرةُ الدالةُ على بقاءِ الأرواح بعدَ مفارقِتها للأبدانِ تردُّ ذلكَ وتبطلُهُ.
ولكن قد تخيلَ بعضُ المتأخرينَ موتَ الأرواح عند النفخةِ الأولى مستدِلاً
بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض إلاَّ مَن شَاءَ اللهُ) .
وردَّ عليه آخرونَ، وقالَ: إنَّما المرادُ أنه يموتُ من لم يكنْ
ماتَ قبلَ ذلكَ، ولكنْ وردَ عن طائفةٍ من السلفِ في قولِهِ: (إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ) أن المستثنى هم الشهداءُ.
روي ذلك عن أبي هريرةَ وابنِ عباس وسعيدِ بنِ جبيرٍ وغيرِهم - رضي الله عنهم -.
ورُوي ذلكَ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الصورِ الطويلِ، ومن وجهٍ آخرَ بإسنادٍ أجودَ من إسنادِ حديثِ الصورِ، وهذا يدلُّ على أن للشهداءِ حياةً يشاركونَ بها الأحياءَ، حتى يحتاجَ إلى استثنائهِم ممن يصعقُ من(1/268)
الأحياءِ وقد قيلَ في الأنبياءِ مثلُ ذلكَ أيضًا.
وعلى هذا حمَلَ طائفةٌ من العلماءِ منهمُ البيهقي وأبو العباسِ القرطبيُّ قولَ
النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) ، فأكونُ أنا أولُ من يبعثُ، فإذا موسى آخذٌ بالعرشِ، فلا أدْرِي أحوسبَ بصعقةِ الطورِ أم بُعثَ قبلِى".
وفي رواية: "أوْ كانَ ممن استَثْنى اللَّهُ ". فإن حياةَ الأنبياءِ أكملُ من حياةِ الشهداءِ، بلا ريبٍ، فيشملُهم حكمُ الأحياءِ أيضًا، ويصعقونَ مع الأحياءِ حينئذ، لكن صعقةُ غشي لا صعقةَ موتٍ، إلا موسى فإنه تردَّدَ فيه هل صُعِقُ أم كان ممن استثْنى اللَّهُ، فلم يُصعقْ لمجازاةِ اللَّه له، بصعقةِ الطورِ؛ ولكنْ على هذا التقدير فموسى مبعوثٌ قبل مَحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، لا محالةَ، فكيفَ تردَّد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك
في كونِ الشهداءِ لا يُصعقونَ والأنبياءُ يُصعقُونَ، إشكالٌ أيضًا، واللَّه أعلمُ
بمرادِهِ ومرادِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كلِّه.
والفرقُ بينَ حياةِ الشهداءِ وغيرِهم منَ المؤمنينَ الذين أرواحُهُم في الجنةِ.
وجهين:
أحدُهُما: أنَّ أرواحَ الشهداءِ تُخلقُ لها أجسادٌ، وهي الطيرُ التي تكونُ في
حواصِلِها، ليكملَ بذلك نعيمُها، ويكونُ أكملُ من نعيم الأرواء المجردةِ عنِ
الأجسادِ، فإن الشهداءَ بذلُوا أجسادَهُم للقتلِ في سبيلِ اللَهِ فعوّضوا عنها بها
الأجسادَ في البرزخ.
والثاني: أنهم يُرزقونَ في الجنةِ، وغيرُهُم لم يثبتْ له في حقِّه مثلُ ذلكَ فإنه(1/269)
جاءَ أنهم يُعلَّقون في شجرِ الجنةِ. ورُوي يعلقون بفتح اللامِ وضَقَها، فقيلَ:
إنَّهما بمعى، وأنَّ المرادَ الأكلُ من الشجرِ، قال ابنُ عبدِ البرِّ: وقيل: بلْ روايةُ الضمِّ معناها الأكلُ، وروايةُ الفتح معناها التعلُّق.
وهو التسترُ. وبكلِّ حالٍ فلا يلزم مساواتُهُم للشهداءِ في كمالِ تنعمهم بالأكلِ، واللَّهُ أعلم.
وقد ذهبَ طائفةٌ من المتكلمينَ إلى أن الروحَ عرضٌ لا تبقى بعدَ الموتِ.
وحملُوا ما وردَ من عذابِ الأرواح ونعيمِها بعدَ الموتِ على أحدِ أمرينِ: إما
أنَّ العرضَ الذي هو الحياةُ يعادُ إلى جزءٍ من البدنِ، أو على أنْ يخلقَ في بدنٍ
آخرَ.
وهذا الثاني باطلٌ قطْعًا، لأنه يلزمُ منه أنْ يعذَّب بدنٌ غيرُ بدنِ الميتِ، معَ
روح غيرِ روحِهِ، فلا يعذَّبُ حينئذٍ بدنُ الميتِ ولا رُوحُه، ولا يتنعمانِ أيضًا، وهذا باطلٌ قطعًا، والأولُ باطلٌ - أيضًا - بالنصوصِ الدالةِ على بقاءِ الروح منفردةً عن البدنِ بعد مفارقتِها له، وهي كثيرةٌ جدًّا وقد سبقَ ذكرُ بعضِها.
وقد احتجَّ بعضُهم على فناءِ الأرواح وموتِها بما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كانَ إذا دخلَ المقابرَ قالَ: "السَّلامُ عليكُم أيتُها الأرواحُ الفانيةُ، والأبدانُ الباليةُ، والعظامُ النخرةُ، التي خرجتْ من الدُّنيا وهي باللَّه مؤمنه اللَّهُمَّ أدخلْ عليهم رَوْحًا منكَ وسَلاما مِنَّا".
وهذا حديثٌ خرَّجه ابنُ السُّني، من طريقِ عبدِ الوهابِ بنِ جابرِ
التيميِّ، حدثنا حبانُ بنُ عليٍّ، عن الأعمشِ، عن أبي رزينٍ، عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يثبت رفعُه، وعبدُ الوهابِ لا يُعرفُ، وحبّانُ ضعيف، ولو صحَّ حُمِلَ على أنَّه أرادَ بفناءِ الأرواح ذهابَها من الأجسادِ(1/270)
المشاهدةِ، كما في قوله تعالى: (كلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، وبعضُ الأبدانِ باقية، كأجسادِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ وغيرِهم، وإنما تفارقُ
أرواحُها أجسادَها.
وذَكَرَ بعضُهم عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - أنه سئل أينَ تكونُ الأرواح إذا فارقتِ الأجسادَ؟
فقال: أين يكونُ السراجُ إذا طُفِي، والبصرُ إذا عَمِيَ، ولحمُ المريضِ
إذا مَرِض؛ فقالُوا: إلى أينَ؟
قال: فكذلكَ الأرواحُ، وهذا لا يصحّ عنِ ابنِ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
إذا وفَّق اللَهُ عبدًا: توكَّلَ بحفْظِهِ وكلاءته، وهدايتِهِ وإرشادِهِ، وتوفيقِه
وتسديدِهِ. وإذا أخذلَهُ وكله إلى نفسِهِ أو إلى غيرِه، ولهذا كانتْ هذه الكلمةُ:
(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، كلمةً عظيمةً، وهي التي قالها إبراهيمُ
عليه الصلاةُ والسلامُ حين أُلقيَ في النارِ، وقالَهَا محمد رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حين قالَ لهُ الناسُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، وقالتْهَا عائشةُ حين ركبتِ الناقةَ لمَّا انقطعتْ عن الجيشِ، وهي كلمةُ المؤمنينَ.
فمن حقَّق التوكلَ على اللَّهِ لم يكلْهُ إلى غيره، وتولاَّه بنفسِهِ.
وحقيقةُ التوكلِ: تكِلة الأمورِ كلِّها إلى من هي بيدِهِ. فمن توكَّلَ على اللَّهِ(1/271)
في هدايتِهِ وحراستِه وتوفيقِهِ وتأييدِهِ ونصى ورزقِهِ، وغير ذلك من مصالح
دينِهِ ودنياهُ تولَّى اللًّه مصالحَهَ كلَّها، فإنَّه تعالى ولِيُّ الذين آمنوا. وهذا هو
حقيقةُ الوثوقِ برحمةِ اللَّهِ كما في هذا الدعاءِ "فإني لا أثقُ إلا برحمتِكَ ".
فمن وثقَ برحمةِ ربِّه ولم يثقْ بغيرِ رحمتِهِ، فقد حقَّقَ التوكلَ على ربِّه في
توفيقِهِ وتسديدِهِ، فهو جديرٌ بأن يتكفلَ اللَهُ بحفظِهِ، ولا يكلُهُ إلى نفسِهِ.
* * *
قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
ومِنْ أظهرِ التَّعييرِ: إظهارُ السوءِ وإشاعتُه في قالَبِ النُّصح وزعْمُ أنه إنما
يحملُهُ على ذلك العيوبُ إما عامًا أو خاصًا وكان في الباطن إنما غرضُهُ التعييرُ
والأذَى فهو من إخوانِ المنافقينَ الذينَ ذمَّهم اللَّهُ في كتابه، في مواضعَ، فإنَّ
اللًّهَ تعالى ذمَّ من أظهرَ فعلاً وقولاً حسنًا وأرادَ به التوصُّلَ إلى غَرَضٍ فاسدٍ
يقصدُهُ في الباطنِ، وعدَّ ذلك من خصال النفاقِ كما في سورةِ براءةَ التي
هتَكَ فيها المنافقينَ وفضَحَهُمْ بأوصافهم الخبيثة، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) .
وقال تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا..) ، وهذه الآيةُ نزلتْ في اليهودِ لمَّا سالهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتمُوه وأخبرُوه بغيرِه، وقد أرَوْه أنْ قد أخبرُوه بما سألهم عنه، واستحمدُوا بذلك عليه وفرحوا بما أتَوا من كتمانِهِ ما سألهُم عنه.(1/272)
كذلك قالَ ابنُ عباسٍ - رضي الله عنه -، وحديثُه بذلكَ مخرَّجٌ في "الصحيحين ".
وعن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين كانُوا إذا خرج رسولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - إلى الغزوِ وتخلَّفوا عنه وفرِحُوا بمقعدهِم خلافَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قدِمَ رسولُ اللَّهُ اعتذرُوا إليه وحَلَفُوا، وأحبُوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا.
فنزلتْ هذه الآية ُ.
فهذه الخصالُ، خصالُ اليهودِ والمنافقينَ، وهو أن يُظهرَ الإنسانُ في الظاهرِ
قولاً أو فعلاً، وهو في الصورةِ التي ظهرَ عليها حسنٌ، ومقصودُهُ بذلك
التوصُّلُ إلى غَرَضٍ فاسدٍ، فيحمدُهُ على ما أظهر من ذلك الحسَنِ، ويتوصَّلُ
هو به إلى غرَضِهِ الفاسدِ الذي هو أبْطَنَهُ، ويفرحُ بحمدِهِ على ذلك الذي
أظهرَ أنه حسنٌ وفي الباطنِ شيء، وعلى توصُّلِهِ في الباطنِ إلى غرضِهِ
الستَيِّئ، فتتمُّ له الفائدةُ وتُنفّذُ له الحيلةُ بهذا الخداع!!.
ومَنْ كانتْ هذه صفتُهُ فهو داخلٌ في هذه الآيةِ ولا بُدَّ، فهو مُتَوَعَّدٌ
بالعذابِ الأليم، ومثالُ ذلك: أن يُريدَ الإنسانُ ذمَّ رجل وتنقُّصَهُ وإظهارَ عيْبِهِ لينفر الناس عنه إما محبةً لإيذائهِ أو لعداوتِهِ، أو مخافةً من مُزاحمتِهِ على مالٍ أو رئاسة أو غير ذلك من الأسبابِ المذمومةِ، فلا يتوصَّل إلى ذلك إلا بإظهار الطَّعْنِ فيه بسببِ ديني، مثل: أن يكونَ قد ردَّ قولاً ضعيفًا من أقوالِ عالمٍ مشهور فيشيعُ بين من يُعَظِّم ذلك العالِمَ، أن فلانًا يُبْغِضُ هذا العالِمَ ويذمُّه ويطعنُ عليه فيغِرُّ بذلك كلَّ من يُعظمه ويُوهمهُم أن بُغْضَ الرادِّ وأذاهُ من أعمال العربِ، لأنه ذبٌّ عن ذلك العالِم، ورفع الأذى عنه، وذلك قُربةٌ إلى(1/273)
اللَّهِ تعالى وطاعتِهِ فيجمعُ هذا الظْهِرُ للنصح بين أمرين قبيحين مُحرَّمين:
أحدهما: أن يُحملَ ردُّ هذا العالِم القولَ الآخرَ على البُغْضِ والطَّعْنِ
والهَوَى، وقد يكونُ إنَّما أراد به النُّصحَ للمؤمنينَ، وإظهارَ ما لا يحلُّ له
كتمانُه من العلم.
والثاني: أن يُظهرَ الطَّعْنَ عليه ليتوصَّل بذلكَ إلى هواه وغَرَضه الفاسد في
قالَبِ النُّصح والذَّبِّ عن عُلماءِ الشرع، وبمثلِ هذه المكيدةِ كان ظلمُ بني
مروانَ وأتباعُهم يستميلونَ الناسَ إليهم ويُنفِّرون قلوبَهُم عن عليِّ بنِ أبي
طالبٍ والحسنِ والحسينِ وذريتِهم - رضي الله عنه أجمعين.
وأنه لما قُتِلَ عثمانُ - رضي الله عنه - لم تَرَ الأمَّةُ أحقَّ من عليٍّ - رضي الله عنه - فبايعوه فتوصَّلَ منْ توصَّل إلى التنفير عنه، بأنْ أظهرَ تعظيمَ قتلَ عثمانَ وقُبْحَهُ، وهو في نفس الأمر كذلكَ، ضُمَّ إلى ذلك أن المُؤلِّب على قتلِهِ والسَّاعِي فيه عليّ - رضي الله عنه -، وهذا كان كَذِبًا وبهْتًا.
وكان عليّ - رضي الله عنه - يحلفُ ويُغَلِّظُ الحَلِفَ على نفي ذلكَ، وهو الصادقُ البارُّ في يمينِهِ - رضي الله عنه -، وبادرُوا إلى قتالِهِ ديانةً وتقربا ثم إلى قتالِ أولادِهِ رضوانُ اللهِ عليهم، واجتهدَ أولئكَ في إظهارِ ذلك وإشاعتِهِ على المنابِرِ في أيَّامِ الجُمع وغيرِها من المجَامِع العظيمةِ، حتى استقرَّ في قلوبِ أتباعِهِم أنَّ الأمرَ على ما قالوه، وأن بني مروانَ أحقُّ بالأمرِ من عليٍّ وولدِهِ لقُربِهِم من عُثمانَ، وأخْذهم بثأرِه، فتوصَّلوا بذلكَ إلى تأليفِ قُلوبِ الناسِ عليهم، وقتالهم لعليٍّ وولدِهِ من بعْدِهِ، ويثبُتُ بذلكَ لهم المُلْكُ، واستوثقَ لهم الأمرُ.
وكان بعضُهم يقولُ في الخَلْوة لمن يثقُ إليه كلامًا ما معناه: "لم يكن أحد(1/274)
من الصحابة أكفأ عن عثمان من عليٍّ " فيقالُ له: لِمَ يسبُّونه إذًا؛ فيقول: "إنَّ المُلْكَ لا يقومُ إلا بذلك ".
ومُرادُهُ أنَّه لولا تنفيرُ قلوبِ الناسِ عن عليٍّ ووَلَدِهِ ونسبُهم إلى ظلم عثمانَ
لما مالتْ قلوبُ الناسِ إليهم، لما علموه من صفاتِهِم الجميلةِ وخصائصِهم
الجليلةِ، فكانوا يُسرعون إلى مُتابعتهم ومبايعتِهم فيزولُ بذلك مُلكُ أميَّة.
وينصرفُ الناسُ عن طاعتِهِم.
* * *
ومن هذا البابِ - أيضًا - أن يحبَّ ذُو الشرفِ والولايةِ أن يُحمدَ على
أفعالِهِ ويُثْنَى عليه بها، ويَطلبُ من الناسِ ذلك، ويَتَسببُ في أذى من لا
يُجيبُه إليه، ورُبَّما كان ذلك الفعلُ إلى الذمِّ أقربَ منه إلى المدح، ورُبَّما أظهر أمرًا حسنًا في الظاهرِ، وأحبَّ المدحَ عليه وقصَدَ به في الباطنِ شرًّا، وفرِحَ بتمْويهِ ذلك وترويجه على الخلقِ.
وهذا يدخلُ في قولِهِ تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) ، الآية.
فإن هذه الآيةَ إنما نزلتْ فيمن هذهِ صفاتُهُ، وهذا الوصفُ - أعني: طلبَ
المدح منَ الخلقِ ومحبَّتَهُ والعقوبةَ على تركِهِ - لا يصلحُ إلا للَّه وحدَهُ لا
شريكَ لهُ، ومن هُنا كان أئمةُ الهُدى ينهَوْن عن حمدِهِم على أعمالِهِم وما
يَصدُرُ منهم منَ الإحسان إلى الخلْقِ، ويأمرُونَ بإضافةِ الحمدِ على ذلكَ للَّهِ
وحدَهُ لاشريكَ لهُ، فإن النًّعَمَ كلَّها منه.(1/275)
وكانَ عُمرُ بنُ عبد العزيزِ - رحمه اللَّهُ - شديدَ العنايةِ بذلكَ، وكتبَ مرَّةً
إلى أهلِ الموْسم كتابًا يُقرأ عليهم، وفيه الأمرُ بالإحسانِ إليهم، وإزالةُ المظالم
التي كانَتْ عليهم، وفي الكتابِ: "ولا تَحْمدُوا على ذلكَ كُلِّه إلا اللَّه، فإنَّه
لوْ وَكَلَنِي إلي نفْسِي كُنْتُ كغيرِي ".
وحكايتُهُ مع المرأةِ التي طلبتْ منه أن يَفرضَ لبَناتها اليتامى مشهورةٌ، فإنها
كانتْ لها أربعُ بنَاتٍ، ففرض لثْنتينِ منهنَّ، وهي تحمدُ اللَّه، ثم فرض للثالثةِ
فشكرتْهُ فقال: إنَّما كُنَّا نفرِضُ لهُنَّ حيثُ كُنتِ تولينَ الحمدَ أهلَهُ، فمُري هذه الثلاثَ يُواسينَ الرابعةَ. أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.
أرادَ أن يُعرفَ أنَّ ذا الولايةِ إنما هو مُنتصب لتنفيذِ أمر اللَّه، وآمرٌ العبادَ
بطاعتِهِ تعالى، وناهٍ لهم عن محارمِ اللَّهِ، ناصحٌ لعبادِ اللَّهِ بدُعائهم إلى اللَّهِ.
فهو يقصدُ أن يكون الدينُ كلُّه للَّه، وأن تكونَ العِزَّة للَّه، وهو مع ذلك
خائفٌ من التقصيرِ في حقوقِ اللَّه تعالى - أيضًا -.
فالمحبُّونَ للَّهِ غايةُ مقاصدِهِم من الخلقِ أن يُحبُّوا اللَّهَ ويطيعُوه.
ويُفردوه بالعبوديةِ والإلهيةِ، فكيفَ من يزاحِمُهُ في شيء من ذلكَ؛ فهو لا
يريدُ منَ الخلقِ جزاءًا ولا شُكُورًا، وإنما يرجُو ثوابَ عملِهِ من اللَّهِ كما قال
اللَّهُ تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُطرُوني كما أطرَتِ النصارى المسيحَ ابنَ مريمَ، إنَّما أنا عبد، فقولُوا: عبدَ اللَّهِ ورسولَهِ ".(1/276)
وكان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ينُكر على من لا يتأدَّبُ معه في الخطابِ بهذا الأدبِ، كما قال: "لاتقولُوا: ما شاءَ اللَّهُ وشاءَ محمدٌ بلْ قُولُوا: ما شاءَ اللَّهُ ثم شاءَ محمدٌ".
وقال: لمن قال: ما شاء اللَّه وشِئتَ: "أجَعَلتَنِى للَّه ندًا؟ بل ما شاءَ اللَّهُ
وحده ".
فمِن هُنا كان خُلفاءُ الرُّسل وأتباعُهم من أُمراءِ العدل وأتباعِهم وقُضاتِهم لا
يدْعُون إلى تعظيم نُفُوسهم ألبتَّة، بل إلى تعظيم اللَّه وحدَه، وإفرادِهِ بالعبوديةِ
والإلهيةِ، ومنهُم من كان لا يريدُ الولايةَ إلا للاستعانةِ بها على الدعوةِ إلى
اللَّهِ وحدَه.
وكان بعضُ الصالحينَ يتولَّى القضاءَ ويقول: ألا أتولاهُ لأستعينَ به على
الأمر بالمعروفِ والنهي عن المُنكر.
ولهذا كانتِ الرُّسل وأتباعُهُم يصبرونَ على الأذى في الدعوة إلى اللَّهِ.
ويتحملونَ في تنفيذِ أوامرِ اللَّه من الخلقِ غايةَ المشقةِ وهُم صابرونَ، بل
رَاضُون بذلكَ، فإنَّ المحبَّ رُبَّما يتلذذُ بما يُصيبه منَ الأذى في رضى محبوبِه.
كما كانَ عبدُ الملك بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز - رحمه اللَّهُ - يقولُ لأبيه في
خلافتِهِ إذا حرصَ على تنفيذِ الحق وإقامةِ العدل: با أبَتِ، لودِدْت أنِّي غَلتْ(1/277)
بي وبِكَ القُدورُ في اللَّهِ عزَ وجلَّ.
وقال بعضُ الصالحين: وددتُ أنَّ جسمي قُرِضَ بالمقاريضِ وأنَ هذا الخلقَ
كلَّهم أطاعُوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، فعُرِض قولُهُ على بعضِ العارفينَ فقال: إن كان
أراد بذلك النصيحةَ للخلقِ وإلا فلا أدري، ثم غُشيَ عليه.
ومعنى هذا: أن صاحبَ هذا القولِ قد يكونُ لَحِظَ نُصحَ الخلقٍ والشفقةَ
عليهم من عذابِ اللَّه، وأحبَّ أن يفديَهم من عذابِ اللَّهِ بأذى نفسِهِ، وقد
يكونُ لَحِظَ جلالَ اللَّهَ وعظمتِه وما يستحقُهُ من الإجلالِ والإكرامِ والطَّاعةِ
والمحبةِ، فوَدَّ أن الخلقَ قاموا بذلك، وإن حصلَ له في نفسِهِ غايةُ الضرر.
وهذا هو مشهدُ خَواصِّ المُحبين العارفينَ بملاحظتِهِ فغشي على هذا الرجلِ
العارفِ.
وقد وصفَ اللَّهُ تعالى في كتابِهِ أن المحبين له يجاهدون في سبيله ولا
يخافون لومة لائم.
وفي ذلك يقولُ بعضُهُم:
أجدُ الملامةَ في هَواَك لذيذةً. . . حبًّا لذكْرِكَ فلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
* * *(1/278)
سُورَةُ النِّسَاءِ
قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
ومما يستدلُّ به على فضلِ قلةِ العيالِ قولُهُ تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) ، على تفسير من فسَّرَهُ
بكثرة العيال، ولكنَّ الجمهورَ على تفسير بالجورِ والحيفِ، فإنَّ ملكَ اليمينِ
قد تكثرُ به الأولادُ أكثرُ من الزوجاتِ الأربع، فإنه لا ينحصرُ في عددٍ.
وكانَ الإمامُ أحمدُ ينكرُ على من كرهَ كثرةَ الأزواج والعيال، ويستدلُّ بحال
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه من كثرةِ أزواجهِم وعيالِهِم، وبمثلِ قولهِ: "تزوجُوا الودودَ الولودَ، فإنِّي أكاثرُ بكُمُ الأممَ يومَ القيامةِ"، ولكنه يأمرُ مع هذا بطلبِ الحلالِ والكسبِ، والصبرِ على الفقرِ وإنْ شقَّ.
فالإمامُ أحمدُ أمرَ بما جاءَ الأمرُ به في الشرع، وسفيانُ نظرَ إلي قلَّةِ صبرِ
الناسِ إلى ما يئولُ إليهِ حالُهم عند كثرةِ عيالهِم منْ تركِ الورع، والتكسبِ من الوجوهِ المكروهةِ، وهذا هُوَ الغالبُ على النَّاسِ لا سيَّما مع قلةِ العِلْم
والصبرِ، وأمَّا حالُ الصابرينَ على العيالِ المحافظينَ على الورع معهُم فعزيز
جدًا.(1/279)
قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قال المباركُ بنُ كاملٍ: سمعتُ عبدَ الوهابِ بنِ قاسم بنِ عليٍّ الشعرانيَّ.
قال: رأيتُ جعفرَ الدرزيجاني جاء إلى بغدادَ، فالتقى به أبو الحسين
الدرزيجانيُ، فقال له: كيف تركتَ الصبيانَ؟
فقال له: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
تقوى اللَّهِ لنا ولَهُم.
* * *
قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) .(1/280)
قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
فهذا حكمُ اجتماع ذكورِهم وإناثِهم أنَّه يكونُ للذكرِ منهم مثلُ حط الأنثيينِ، ويدخلُ في ذلك الأولادُ، وأولادُ البنينَ باتِّفاقِ العلماءِ، فمتى اجتمعَ من
الأولادِ إخوةٌ وأخواتٌ، اقتسَمُوا الميراثَ على هذا الوجهِ عند الأكثرينَ، فلو كانَ هناكَ بنتٌ للصُّلبِ أو ابنتانِ، وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقِي أثلاثا، لدخولِهم في هذا العمومِ.
هذا قولُ جمهورِ العلماءِ، منهم عمرُ وعليٌّ وزيدٌ وابنُ عباسٍ، وذهبَ إليه عامَّة العلماءِ، والأئمةُ الأربعة.
وذهبَ ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقي بعدَ استكمالِ بناتِ الصُّلبِ الثلثين، كلُّه
لابن الابنِ، ولا يُعصِّبُ أخته، وهو قولُ علقمةَ وأبي ثورٍ وأهلِ الظاهرِ، فلا
يُعصِّبُ عندَهُم الولدُ أختَه إلا أن يكونَ لها فريضةٌ لو انفردتْ عنه، فكذلك
قالُوا فيما إذا كان هناكَ بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكورٌ وإناث: إنَّ الباقي لجميع ولد
الابنِ، للذكرِ منهم مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
وقال ابنُ مسعودٍ في بنتٍ وبناتِ ابنٍ وبني ابنٍ: للبنتِ النصفُ، والباقي
بين ولدِ الابنِ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأُنثيين إلا أن تزيدَ المقاسمةُ بناتَ الابنِ على
السدسِ، فيُفرضُ لهنَّ السدسُ، ويجعلُ الباقي لبني الابنِ، وهو قولُ أبي
ثَوْر.
وأمَّا الجمهورُ، فقالُوا: النصفُ الباقي لولدِ الابنِ، للذكرِ مثلُ حط الأنثيين
عملاً بعمومِ الآيةِ، وعندهم أن الولدَ وإن نزَلَ يُعَصّبُ من في درجتِهِ بكلِّ(1/281)
حالٍ، سواء كان للأنثى فرض بدونه أو لم يكن، ولا يُعَصِّبُ من أعلى منه
من الإناثِ إلا بشرطِ أن لا يكونَ لها فرضٌ بدونه، ولا يُعصِّبُ من أسفلَ منه
بكلِّ حالٍ.
ثم قالَ تعالى: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَإِن كانَت واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فهذا حكمُ انفرادِ الإناثِ من الأولاد أن للواحدةِ
النصفَ، ولما فوقَ الاثنتينِ الثلثانِ، ويدخلُ في ذلك بناتُ الصلبِ وبناتُ
الابنِ عند عدمهِنَّ، فإنِ اجتمعنَ، فإن استكملَ بناتُ الصلبِ الثلثين، فلا
شيءَ لبناتِ الابنِ المنفرداتِ، وإن لم يستكملِ البناتُ الثُّلثين، بل كانَ ولدُ
الصلبِ بنتًا واحدةً، ومعها بناتُ ابنٍ، فللبنتِ النِّصفُ، ولبناتِ الابنِ السدسُ تكملةَ الثلثين، لئلا يزيدَ فرض البنات على الثلثين.
وبهذا قَضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي تقدَّمَ ذكرُهُ، وهو قولُ عامَّةِ العلماءِ، إلا ما رُوي عن أبي مسعودٍ وسلمانَ بنِ ربيعةَ أنه لا شيء لبنتِ الابنِ، وقد رجعَ أبو موسى إلى قولِ ابنِ مسعودٍ لما بلغَهُ قولُهُ في ذلك.
وإنما أُشكِلَ على العلماءِ حكمُ ميراثِ البنتينِ، فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع
كما حكاه ابن المنذرِ وغيرُه، وما حُكيَ فيه عن ابن عباسٍ أنَّ لهما النِّصفَ.
فقد قيل: إن إسنادَهُ لا يصحُّ، والقرآنُ يدل على خلافِهِ، حيث قال تعالى:
(وَإِن كانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف) ، فكيف تُورث أكثرُ من واحدةٍ(1/282)
النصفَ؛ وحديثُ ابن مسعودٍ في توريثِ البنتِ النصفَ وبنتِ الابنِ السدسَ
تكملة الثلثين يدلُّ على توريثِ البنتين الثلثين بطريقِ الأولى.
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ من حديثِ جابرٍ: أنَّ النبيَّ
- صلى الله عليه وسلم - ورَّث ابنتيْ سعدِ بنِ الرَّبيع الثلثينِ.
ولكن أشكلَ فهمُ ذلكَ من القرآنِ لقولِهِ تعالى: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوقَ اثْنَتَين) ، فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا، وقالَ كثيرٌ من الناسِ فيه أقوالاَ
مستبعدة.
ومنهم من قالَ: استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين، فإنَّه قال
تعالى: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهمَا الثلثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، واستفيد حكمُ
ميراثِ أكثر من الأختينِ من حكم ميراثِ ما فوقَ الاثنتينِ.
ومنهم من قال: البنتُ مع أخيها لها الثلثُ بنصِّ القرآنِ، فلأن يكونَ لها
الثلثُ مع أختِهَا أولى، وسلكَ بعضُهم مسلكًا آخر، وهو أنَّ اللَّهَ تعالى ذكرَ
حُكمَ توريثِ اجتماع الذكورِ والإناثِ من الأولادِ، وذكر حُكْمَ توريثِ الإناثِ إذا انفردنَ عن الذكور، ولم ينصَّ على حكم انفرادِ الذكور منهم عن الإناثِ، وجعل حُكمَ الاجتماع أن الذكرَ له مثلُ حظِّ الأنثيين، فإن اجتمعَ مع الابنِ ابنتان فصاعدًا، فله مثلُ نصيبِ اثنتينِ منهنَّ، وإن لم يكنْ معهُ إلا ابنةٌ واحدةَ فله الثلثانِ ولها الثلثُ، وقد سمَّى اللَّه ما يستحقه الذكرُ حظَّ الأنثيين مطلقًا، وليس الثلثان حظَّ الأنثيين في حالِ اجتماعِهِمَا مع الذكرِ، لأنَّ حظَّهما حينئذٍ النِّصفُ، فتعيَّن أن يكونَ الثُّلثان حظَّهما حال الانفرادِ.(1/283)
وبقي ها هنا قسم ثالثٌ لم يصرِّح القرآنُ بذكر، وهو حكمُ انفرادِ الذكورِ
من الولدِ، وهذا مما يُمكن إدخالُهُ في حديثِ ابن عباسٍ: "فما بقي فلأوْلى
رجل ذَكَرٍ"، فإنَّ هذا القسمَ قد بقي ولم يصرَّح بحكمه في القرآن، فيكون
المالُ حينئذٍ لأقربِ الذكور مِنَ الولد والأمرُ على هذا، فإنَّه لو اجتمعَ ابن
وابنُ ابنٍ، لكانَ المالُ كُلُّه للابنِ، ولو كان ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابني، لكانَ المالُ كُلُّه لابنِ الابنِ على مقتضى حديثِ ابنِ عباسٍ، واللَّه أعلم.
ثم ذكر تعالى حكمَ ميراثِ الأبوين، فقال: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ، فهذا حكمُ ميراثِ الأبوين إذا كانَ للولدِ المتوفَّى ولدٌ، وسواءٌ في الولدِ الذكر والأنثى، وسواء فيه ولدُ الصلبِ وولدُ الابنِ، هذا كالإجماع من العلماءِ، وقد حكى بعضُهُم عن مجاهدٍ فيه خلافًا، فمتى كانَ للميتِ ولدٌ، أو ولدُ ابنٍ، وله أبوان، فلكلِّ واحدٍ من أبويه السُّدسُ فرضًا، ثم إن كان الولدُ ذكرًا، فالباقي بعد سدسي الأبوين له، وربما دخل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلهِا، فما بقي فلأوْلى رَجُل ذَكَرٍ ".
وأقرب العصباتِ الابنُ، وإن كان الولدُ أنثى، فإن كانتَا اثنتينِ فصاعدًا.
فالثُّلثان لهنَّ، ولا يَفضُلُ منَ المالِ شيءٌ، وإن كانت بنتًا واحدةً، فلها النصف ويفضلُ من المال سدسٌ آخر، فيأخذُهُ الأبُ بالتَّعصيبِ، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"ألحقوا الفرائض بأهلِهَا، فما بقي فلأولى رجل ذكر".
فهو أولى رجلٍ ذكر عندَ فقدِ الابنِ، إذ هو أقربُ من الأخ وابنِه والعمِّ وابنِهِ.
ثم قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)(1/284)
يعني: إذا لم يكن للميت ولدٌ، وله أبوانِ يرثانِه، فلأُمه الثلث، فيُفهم من
ذلك أنَّ الباقي بعد الثلثِ للأبِ، لأنه أثبتَ ميراثَه لأبويه، وخصَ الأمَّ من
الميراثِ بالثلثِ، فعلم أنَّ الباقي للأبِ، ولم يقُل: فللأبِ - مثلاً -: ما للأمِّ، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المال هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوةِ، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ.
وكان ابنُ عباسٍ يتمسَّكُ بهذهِ الآيةِ بقولِهِ في المسألتين الملقبتينِ بالعُمريتينِ
وهما زوجٌ وأبوان، وزوجةٌ وأبوان، فإن عمر قضى أن الزوجين يأخذان
فرضَهُما من المال، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين، فللأم ثلثُه، والباقي
للأب، وتابعه على ذلك جمهور الأمَّة.
وقال ابن عباسٍ: بل للأم الثلثُ كاملاً، تمسُّكًا بقوله: (فَإِن لَمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَة أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) .
وقد قيلَ في جوابِ هذا: إنَّ اللَّهَ إنما جعل للأمِّ الثلثَ بشرطينِ: أحدُهما
أن لا يكونَ للولدِ المُتوفَّى ولدٌ، والثاني: أن يرثَه أبواه، أي: أن ينفرِدَ أبواه
بميراثه، فما لم ينفردْ أبواه بميراثِهِ، فلا تستحقُّ الأئمُ الثلثُ، وإن لم يكن
للمتوفَّى ولدٌ.
وقد يقال - وهو أحسنُ -: إن قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) .
أي: مما ورثه الأبوانِ، ولم يقل: فلأمه الثلثُ مما ترك كما قال في السُّدسِ.
فالمعنى أنَّه إذا لم يكن له ولدٌ، وكان لأبويه من ماله ميراثٌ، فللأمَ ثُلُثُ ذلك
الميراثِ الذي يختصّ به الأبوان، ويبقى الباقي للأبِ.
ولهذا السرِّ - واللهُ أعلمُ - حيثُ ذكرَ اللَّه الفروضَ المقدَّرةَ لأهلها، قال(1/285)
فيها: (مِمَّا تَرَكَ) ، أو ما يدلُّ على ذلك، كقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ، ليبين أن ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزءُ المفروضُ المقدَّر له من جميع المالِ بعد الوصايا والديونِ، وحيثُ ذكر ميراثَ العصباتِ، أو ما يقتسمُه الذُّكورُ والإناثُ على وجهِ التَّعصيبِ، كالأولادِ والإخوةِ لم يقيِّده بشيءٍ من ذلك، ليبيِّنَ أنَّ المالَ المقتسَمَ بالتَّعصيبِ ليسَ هو المال كُلَّهُ، بل تارةً يكونُ جميعَ المالِ، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروضِ المفروضةِ المقدَّرةِ.
وهُنا لمَّا ذكرَ ميراثَ الأبوينِ من ولدِهِما الذي لا ولدَ لَهُ، ولم يكنْ
اقتسامُهُما للميراثِ بالفرضِ المحضِ، كما في ميراثِهِما مع الولد، ولا كان
بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى، ويأخذ مِثليَ ما تأخذُهُ
الأنثى، بل كانتِ الأمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرضِ، والأبُ يأخذُ ما يأخذُهُ
بالتَّعصيبِ، قال: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث) ، يعني: أن القدرَ الذي
يستحقُّه الأبوانِ من ميراثِهِ تأخذُ الأمُّ ثلثُه فرضًا، والباقي يأخذه الأب
بالتَّعصيبِ، وهذا ممَّا فتح اللَّه به، ولا أعلم أحدًا سبقَ إليه، وللَّه الحمد
والمنَّة.
ثم قال تعالى: (فَإِن كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ) ، يعني للأمِّ السدس مع الإخوةِ من جميع التركة الوروثةِ
التي يقتسمُها الورثةُ، ولم يذكرْ هُنَا ميراثَ الأبِ مع الأمِّ، ولا شكًّ أنَّه إذا
اجتمعَ أمٌّ وإخوةٌ وليس معهم أبٌ، فإنَّ للأمِّ السدسَ، والباقي للإخوةِ.
ويحجُبُها الأخوانِ فصاعدًا عندَ الجمهورِ.
وأما إن كانَ مع الأمِّ والإخوةِ أبٌ، فقال الأكثرونَ: يحجبُ الإخوةَ الأمُّ
ولا يرثون، ورُويَ عن ابنِ عباسٍ أنهم يرثُون السُّدسَ الذي حجبوا عنه الأمَّ(1/286)
بالفرضِ، كما يَرِثُ ولدُ الأمِّ مع الأمِّ بالفرضِ.
وقد قيلَ: إنَّ هذا مشيّ على قولِهِ: "إنَّ الكلالة من لا ولدَ له خاصّة".
ولا يُشترط للكلالةِ فقْدُ الوالدِ، فيرثُ الإخوةُ مع الأبِ بالفرضِ.
ومن العلماءِ المتأخرين من قالَ: إذا كانَ الإخوةُ محجوبينَ بالأبِ، فلا
يَحجُبُون الأمَ عن شيءٍ، بل لها الثُّلثُ، ورجَّحَهُ الإمامُ أبو العباسِ ابنِ تيميةَ
رحمة اللَّهِ عليه، وقد يُؤخذُ من عمومِ قولِ عمرَ - رضي الله عنه - وغيره من السَّلف: من لا يرثُ لا يَحجبُ، وقد قالَ نحوَه أحمدُ والخِرَقي، لكن أكثرَ العلماءِ يحملونَ ذلكَ على أنَّ المرادَ منْ ليسَ له أهليّةُ الميراث بالكليَّة ِ كالكافرِ والرقيقِ، دونَ من لا يرثُ لانحجَابِهِ بمنْ هو أقربُ منه، واللًّهُ أعلم.
وقد يشهدُ للقولِ بأن الإخوةَ إذا كانُوا محجوبينَ لا يحجُبونَ الأمَّ أنَّ اللَّهَ
تعالى قال: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، ولم يدْكرِ الأبُ، فدلَّ
على أنَّ ذلك حكمُ انفرادِ الأم مع الإخوةِ، فيكون الباقي بعد السدسِ كلِّه
لهم، وهذا ضعيفٌ، فإن الإخوةَ قد يكونون من أمٍّ، فلا يكون لهم سوى
الثلث، واللَّهُ تعالى أعلمُ.
واعلم أن اللَّهَ تعالى ذكرَ حُكْمَ ميراثِ الأبوين، ولم يذكر الجَدَّ ولا الجَدةَ.
فأما الجدةُ، فقد قال أبو بكرٍ الصديقُ وعمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنهما -: إنه ليسَ لهَا في كتابِ اللَّهِ شيء، وقد حكَى بعضُ العلماءِ الإجماعَ على ذلكَ، وأنَ فرضَهما إنما ثبتَ بالسُّنّة، وقيلَ: إنَّ السدسَ طُعْمةٌ أطعَمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وليس بفرضِ، كذا رُوي عن ابنِ مسعودٍ وسعيدِ بنِ المُسيبِ.(1/287)
وقد رُوي عنِ ابنِ عباسٍ من وجوهٍ فيها ضعف أنها بمنزلةِ الأمَ عند فقْدِ
الأمِّ ترثُ ميراثَ الأمِّ، فترثُ الثلثَ تارةً، والسدسَ أخرى، وهذا شذوذٌ، ولا يصحُّ إلحاقُ الجدّة بالجدِّ، لأن الجدَّ عصبة يُدْلى بعصبة، والجدّة ذاتُ فرضٍ تُدلي بذات فرض فضعفت، وقد قيل: إنَّه ليس لها فرضٌ بالكليةِ، وإنما السدسُ طعمةٌ أطعَمَها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالتْ طائفةٌ ممن يرى الردَّ على ذوي الفروضِ: إنه لا يرد على الجدةِ، لضعفِ فرضِها، وهو روايةٌ عن أحمدَ.
وأما الجد، فاتَّفقَ العلماءُ على أنَّه يقومُ مقامَ الأبِ في أحوالِهِ المذكورةِ من
قبلُ، فيرثُ مع الولدِ السُّدسَ بالفرضِ، ومع عدمِ الولد يرثُ بالتعصيبِ، وإن بقيَ شيء مع إناثِ الولدِ أخذهُ بالتعصيبِ - أيضًا - عملاً بقوله: "فما أبقت الفرائضُ، فلأولى رَجُلٍ ذكر ".
ولكن اختلفُوا إذا اجتمعَ أمٌّ وجد مع أحدِ الزوجينِ، فرُوي عن طائفةٍ من
الصَّحابةِ أن للأمِّ ثُلُثَ الباقي، كما لو كانَ معها الأبُ كما سبقَ، رُوي ذلك
عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ كذا نقلهُ بعضُهم، ومنهم من قال: إنما رُوي عن
عمرَ، وابنِ مسعودٍ في زوج وأم وجد: أن للأمِّ ثلثَ الباقي.
ورُوي عن ابنِ مسعود رواية أخرى: أنَّ النِّصفَ الفاضلَ بين الجدِّ والأمِّ
نصفانِ، وأمَّا في زوجةٍ وأمًّ وجدٍّ، فرُوي عن ابنِ مسعودٍ رواية شاذّة: أنَّ
للأمِّ ثلثَ الباقي، والصَّحيحُ عنه، كقولِ الجمهورِ: أن لها الثُّلثَ كاملاً، وهذا يشبهُ تفريقَ ابنِ سيرينَ في الأمِّ مع الأبِ أنَه إن كانَ معهُما زوج، للأمِّ ثلثُ الباقي، وإن كان معهُمَا زوجةٌ، فللأمِّ الثُلث.
وجمهورُ العلماءِ على أنَّ الأمَّ لها الثلثُ مع الجدِّ مطلقًا، وهو قولُ على(1/288)
وزيدٍ، وابنِ عباسٍ، والفرقُ بين الأمِّ مع الأبِ ومعَ الجدِّ أنها مع الأبِ
يشملُها اسمٌ واحدٌ، وهما في القُربِ سواءٌ إلى الميتِ، فيأخذُ الذكر منهما
مثلَ حظِّ الأنثى مرتينِ كالأولادِ والإخوةِ، وأما الأمُّ مع الجدِّ، فليسَ يشملُها
اسمٌ واحدٌ، والجدُّ أبعدُ من الأبِ، فلا يلزمُ مُساواتُهُ به في ذلكَ.
وأمَّا إن اجتمع الجدُّ مع الإخوةِ، فإن كانُوا لأمٍّ سَقَطُوا به، لأنهم إنما
يرثون من الكلالةِ، والكلالةُ: منْ لا وَلَدَ له ولا والد، إلا رواية شذَّتْ عن
ابنِ عباسٍ.
وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين، فقد اختلفَ العلماءُ في حكم ميراثِهِم قديمًا
وحديثًا، فمنهم من أسقطَ الإخوةَ بالجدِّ مطلقًا، كما يسقطونَ بالأبِ، وهذا
قولُ الصديق، ومعاذ، وابنِ عباسٍ، وغيرهم، واستدلُّوا بأنَّ الجدَّ أبٌ في
كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فيدخلُ في مسمى الأبِ في المواريثِ، كما أنَّ ولدَ
الولدِ ولدٌ، ويدخل في مسمَّى الولد عندَ عدم الولدِ بالاتفاقِ، وبأن الإخوة
إنما يرثونَ مع الكلالةِ، فيحجبُهُم الجدُّ كالإخوةِ من الأم، وبأنَّ الجدَّ أقوى
من الإخوةِ، لاجتماع الفرضِ والتَّعصيب له من جهةٍ واحده، فهو كالأبِ.
وحينئذ، فيدخلُ في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"فما بقي، فلأولى رجلٍ ذكر".
ومنهم من شرَّك بين الإخوةِ والجدِّ وهو قولُ كثيرٍ من الصحابةِ، وأكثر
الفقهاءِ بعدهم على اختلافٍ طويل بينهم في كيفية التشريكِ بينهم في
الميراثِ، وكان من السلفِ منْ يتوقَّف في حكمهم ولا يُجيبُ فيهم بشيء.
لاشتباهِ أمرهم وإشكالِهِ، ولولا خشيةُ الإطالةِ لبسطنا القولَ في هذه المسألةِ.
ولكن ذلك يؤدِي إلى الإطالةِ جدًّا.(1/289)
وأما حكمُ ميراثِ الإخوةِ للأبوينِ أو للأبِ، فقد ذكره اللَّه تعالى في آخر
سورة النساءِ في قولِهِ تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) .
والكَلالةُ: مأخوذةٌ من تكلُّلِ النسبِ وإحاطتِهِ بالميثِ، وذلك يقتضِي انتفاءَ
الانتسابِ مطلقًا من العمودينِ الأعلى والأسفل، وتنصيصُه تعالى على انتفاءِ
الولدِ تنبيهٌ على انتفاءِ الوالدِ بطريقِ الأوْلى، لأن انتسابَ الولدِ إلى والدِهِ أظهرُ من انتسابِهِ إلى ولدِهِ، فكانَ ذكرُ عدمِ الولد تنبيهًا على عدمِ الوالدِ بطريقِ الأولى.
وقد قال أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه -: الكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، وتابعَهُ جمهورُ الصحابةِ والعلماءِ بعدَهُم.
وقد رُوي ذلك مرفوعًا من مراسيلِ أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خرَّجه أبو داود في "المراسيل "، وخرَّجه الحاكم من روايةٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرةَ مرفوعًا، وصحَّحَه ووصْلُه بذكرِ أبي هريرةَ ضعيف.
فقوله: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أختٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ، يعني إذا لم يكنْ للميتِ ولدٌ بالكليَّة ِ لا ذكرٌ ولا أنثى، فللأختِ - حينئذٍ - النِّصفُ مما تركَ فرضًا، ومفهومٌ هذا أنه إذا كان له ولد فليسَ للأختِ النِّصفُ فرضًا، ثم إنْ كان الولدُ ذكرًا، فهو أولى بالمالِ كلِّه لما سبقَ تقريرُه في ميراثِ الأولاد الذُّكور إذا انفردُوا، فإنهم أقربُ العصباتِ، وهم يُسقطُون الإخوةَ فكيف لا يُسقِطون(1/290)
الأخوات؛ وأيضًا، فقد قال تعالى: (وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ، وهذا يدخل فيه ما إذا كانَ هناك ذو فرضةٍ كالبناتِ وغيرِهنَّ، فإذا استحقَّ الفاضلُ ذكورَ الإخوةِ مع الأخواتِ، فإذا انفردُوا، فكذلك يستحقُّونه وأوْلى، وإن كانَ الولدُ أنثى، فليسَ للأختِ هنا النِّصفُ بالفرضِ، ولكن لها الباقي بالتَّعصيب عندَ جمهورِ العلماءِ، وقد سبقَ ذكرُ ذلك والاختلافُ فيه، فلو كانَ هناكَ ابنٌ لا يستوعِبُ المالَ وأختٌ، مثلُ ابنٍ نِصْفُه حُر عندَ من يُورِّثه نصفَ الميراثَ، وهو مذهبُ الإمامِ أحمدَ وغيرِه من
العلماءِ، فهل يقالُ: إن الابنَ هنا يسقط نصفَ فرضِ الأختِ، فترثَ معه
الرُّبعَ فرضًا؛ أم يقال: إنَه يصيرُ كالبنتِ فتصيرَ الأختُ معه عصبة كما تصيرُ
مع الأخت، لكنه يُسقط نصفَ تعصيبها، فتأخذُ معه النِّصفَ الباقي
بالتعصيب؛ هذا محتملٌ، وفي هذه المسألةِ لأصحابِنا وجهانِ.
وقوله تعالى: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكن لَّهَا وَلَدٌ) ، يعني أنَّ الأخَ يستقلُّ بميراثِ
أخته إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى، فإن كان لها ولدٌ ذكرٌ، فهو أوْلى من
الأخ بغير إشكالٍ، فإنَّه أولى رجلٍ ذكرٍ، وإن كان أنثى، فالباقي بعد فرضِها
يكونُ للأخ، لأنَّه أوْلى رجلٍ ذكر، ولكن لا يستقلُّ بميراثِها حينئذِ، كما إذا
لم يكن لها ولدٌ. وقوله: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) يعني: أنَّ فرضَ الثِّنتين الثلثان، كما أنَّ فرضَ الواحدةِ النِّصفُ، فهذا كلُّه في حكم انفرادِ الإخوةِ والأخواتِ.
وأما حكمُ اجتماعِهِم، فقد قالَ تعالى: (وَإِن كانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ، فيدخلُ في ذلكَ ما إذا كانوا مفردينِ، وأما إذا كان هناكَ(1/291)
ذو فرضٍ منَ الأولادِ أو غيرِهم، كأحدِ الزوجينِ أو الأمّ أو الإخوةِ من الأم.
فيكونُ الفاضلُ عن فروضِهم للإخوةِ والأخواتِ بينهم للذَّكَر مثلُ حظِّ
الأنثيين.
فقد تبيَّن بما ذكرناهُ أنَّ وجودَ الولد إنما يُسقط فرضَ الأخواتِ منَ الأبوينِ
أو الأبِ، ولا يُسقط توريثهُن بالتَّعصيبِ مع أخواتِهِنَّ بالإجماع، ولا
تَعْصيبَهُنَّ بانفرادهِنَّ مع البناتِ عثدَ الجمهورِ، فالكلالةُ شرطٌ لثبوتِ فرضِ
الأخواتِ، لا لثبوتِ ميراثِهنَّ، كما أنَّه ليسَ بشرطٍ لميراثِ ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ، فإنَّ انتفاءَ الكلالةِ أسقطت فروضَهم، وإذا أسقطت فروضَهم، سقطت مواريثُهُم، لأنَّه لا تعصيبَ لهم بحالٍ لإدلائهم بأنثى، والأخوات للأبوين أو للأب يدلون بذكرٍ، فيرثنَ بالتَّعصيبِ مع إخوتِهِنَّ بالاتفاقِ، وبانفرادِهِنَّ مع البناتِ عند الجمهورِ.
وإذا كانَ الولدُ مسقطًا لفرضِ ولد الأبوينِ، أو الأبِ دونَ أصلِ توريثهم
بغيرِ الفرضِ، فقد يقال: إنَّ اللَّهَ تعالى إنَّما خصَّ انتفاءَ الولدِ في قوله:
(لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، ولم يذكر انتفاءَ الولدِ، أو الأبِ، لأنَّه كان يدخلُ
فيه الجدُّ، والجدُّ لا يُسقطُ ميراثَ الإخوةِ بالكليَّة، وإنَّما يشتركون معه في
الميراثِ، تارةً بالفرضِ، وتارةً بغيرهِ، وهذا على قول من يقول: إنَّ الجدَّ لا
يُسقطُ الإخوةَ - وهمُ الجمهورُ - ظاهرٌ، وهذا كلُّه في انفرادِ ولدِ الأبوينِ أو
الأبِ، فإن اجتمعُوا فإن العصباتِ منْ ولدِ الأبوينِ يُسقطونَ ولدَ الأبِ كلهم
بغير خلافٍ حتى في الأختِ منَ الأبوينِ مع البنتِ عند من يجعلُها عصبةً
يُسقط بها الأخ من الأبوينِ.
وفي "المسندِ" و"الترمذيِّ " و"ابن ماجةَ " عن علي قال: قَضَى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/292)
أن أعيانَ بني الأم يرثُون دونَ بني العلاَّتِ، يرثُ الرَّجُلُ أخاه لأبيه وأمّهِ
دونَ أخيه لأبيه.
وقال عمرُو بنُ شُعيبٍ: قضى رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن الأخَ للأبِ والأم أولى بالكلالةِ بالميراثِ، ثم الأخُ للأبِ، وهذا - أيضا - مما يدخلُ في قولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "فما بقي فلأوْلى رجُلٍ ذكرَ".
والتحقيقُ في ذلك: أن كلَّ ما دلَّ عليه القرآنُ، ولو بالتَّنبيه، فليسَ هو ممَّا
أبقته الفرائضَ، بل هوَ من إلحاقِ الفرائضِ المذكورةِ في القرآنِ بأهلِهَا.
كتوريثِ الأولادِ ذكورِهم وإناثِهم الفاضلَ عن الفروضِ، للذَّكرِ مثلُ حظِّ
الأنثيينِ، وتوريثِ الإخوةِ ذكورِهم وإناثِهم كذلك، ودلَّ ذلكَ بطريقِ التَّنبيه
على أنَّ الباقي يأخذه الذَّكرُ منهم عند الانفرادِ بطريق الأوْلى، ودلَّ - أيضًا - بالتَّنبيه على أنَّ الأختَ تأخذُ الباقي مع البنتِ كما كانتْ تأخذُهُ مع أخيهَا، ولا يُقدَّمُ عليها من هو أبعدُ منها، كابنِ الأخ والعمِّ وابنِهِ، فإنَّ أخاها إذا لم
يُسقِطها فكيف يُسقِطها من هو أبعدُ منه؛ فهذا كلُّه من باب إلحاقِ الفرائضِ
بأهلها، ومن باب قسمة المالِ بين أهلِ الفرائضِ على كتابِ اللًّهِ.
وأمَّا منْ لم يُذكر باسمِهِ منَ العصباتِ في القرآنِ، كابنِ الأخ والعمِّ وابنِه.
فإنَّما دخلَ في عموماتِ مثلِ قولِهِ تعالى: (وَأُولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَولى بِبَعْضٍ فِي كتَابِ اللَّهِ) ، وقوله: (وَلِكل جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ)
، فهذا يحتاجُ في توريثِهم إلى هذا الحديثِ: أعني حديثَ ابنِ
عباسٍ، فإذا لم يُوجَدْ للمالِ وارثٌ غيرُهم، انفردُوا به، ويقدَّم منهُمُ الأقربُ(1/293)
فالأقربُ، لأنَه أولى رجلٍ ذكر، وإن وُجِدَتْ فروضٌ لا تستغرقُ المالَ، كأحدِ الزوجينِ أو الأمِ، أو ولد الأمِّ، أو بناب منفرداتٍ، أو أخواتٍ منفرداتٍ، فالباقي كلُّه لأوْلى ذكرٍ من هؤلاءِ.
ولهذا لو كانَ هؤلاء إخوةً رجالاً ونساءً، لاختصَّ به رجالُهم دون نسائِهم، بخلافِ الأولادِ والإخوةِ فإنَّه يشتركُ في الباقي أو في المالِ كلِّه ذكورُهم وإناثُهِم، بنصِّ القرآنِ، والحديثُ إنَّما دلَّ على
توريثِ العصباتِ الذينَ يختصُّ ذكورُهم دونَ إناثِهم، وهم مَنْ عدا الأولادِ
والإخوةِ، فهذا حكمُ العصباتِ المذكورينَ في كتابِ اللَّهِ، وفي حديثِ ابنِ
عباسٍ.
وأما ذوو الفروضِ، فقد ذكرنَا حكمَ موارِيثِهم، ولم يبقَ منهم إلا الزوجانِ
والإخوةِ للأم.
فأما الزوجانِ، فيرثانِ بسببِ عقدِ النكاح، ولمَّا كان بين الزوجينِ من الألفةِ
والمودةِ والتَّناصُرِ والتعاضُدِ ما بينَ الأقاربِ، جُعِلَ ميراثُهما كميراثٍ الأقاربِ، وجُعل للذَّكرِ منهما مثْلا ما للأنثى، لامتيازِ الذكرِ على الأنثى بمزيدِ النَّفع
بالإنفاقِ والنصرةِ.
وأما ولدُ الأمِّ، فإنَهم ليسُوا من قبيلةِْ الرَّجُلِ، ولا عشيرِتِه، وإنما هم في
المعنى من ذوي رحمِهِ، ففرضَ اللَّهُ لواحدِهِم السُّدُسَ، ولجماعتِهِم الثُّلثَ
صِلَةً، وسوَّى فيه بين ذكورِهِم وإناثِهم، حيثُ لم يكنْ لذكرِهِم زيادةً على
أنثاهم في الحياةِ من المعاضدةِ والمناصرةِ، كما بين أهلِ القبيلةِ والعشيرةِ
الواحدةِ، فسوَّى بينَهُم في الصلةِ، ولهذا لم تُشرع الوصيَّةُ للأجانبِ بزيادةٍ
على الثلثِ، بل كانَ الثُّلثُ كثيرًا في حقِّهم، لأنَهم أبعدُ من ولدِ الأمِّ.
فينبغِي أن لا يُزادوا على ما يُوصل به ولدُ الأمِ، بل ينقصونَ منه.(1/294)
واستدلَّ بعضُهم بقولِهِ: "فما بقيَ فلأوْلى رجلٍ ذكر" على أنْ لا ميراثَ لذوي
الأرحامِ، لأنَّه لم يجعلْ حقَّ الميراثِ لمنْ لم يُذكر في القُرآنِ إلا لأقربِ
الذكورِ، وهذا الحكمُ يختصُّ بالعصباتِ دونَ ذوِي الأرحامِ، فإنَّ منْ ورَّث
ذوي الأرحامِ، ورَّث ذكورَهُم وإناثَهُم.
وأجابَ من يرى توريثَ ذوي الأرحامِ بأنَّ هذا الحديثَ دلَّ على توريثِ
العصباتِ، لا على نفي توريثِ غيرِهم، وتوريثُ ذوي الأرحامِ مأخوذٌ من
أدلةٍ أخرى، فيكونُ ذلكَ زيادةً على ما دلَّ عليه حديثُ ابنِ عباسٍ.
وأمَّا قوله: "لأوْلى رجلٍ ذكَرٍ" مع أنَّ الرجُلَ لا يكون إلا ذكرًا، فالجوابُ
الصحيحُ عنه أنه قد يُطْلَقُ الرجل ويرادُ به الشخصُ، كقولِهِ: "منْ وَجَدَ ماله
عندَ رجلٍ قد أفلس " ولا فرقَ بين أن يجده عند رجل أو امرأة، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمالَ، ويُخلصهُ للذكرِ دونَ الأنثي وهو المقصود، وكذلك الابنُ: لمَّا كان قد يُطلق، ويُراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييدُ ابنِ اللّبون في نُصُبِ الزكاة بالذكرِ.
وللسهيليِّ كلامٌ على هذا الحديثِ فيه تكلُّف وتعسُّفٌ شديد ولا طائلَ
تحتَه، وقد ردَّه عليه جماعة ممن أدركنَاهُم، واللَّهُ أعلمُ.
* * *
قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍ)
وفي حديثِ أبي هريرةَ المرفوع: "إنَّ العبد ليعملُ بطاعةِ اللَّهِ ستِّينَ سنة، ثم(1/295)
يَحضُره الموتُ، فيضارَّ في الوصيةِ، فيدخلُ النارَ"، ثم تلا: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، إلى قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَاا) .
وخرَّجه الترمذيُّ وغيرُه بمعناه.
وقال ابنُ عباسٍ: الإضرارُ في الوصيةِ من الكبائرِ، ثم تلا هذه الآية.
والإضرارُ في الوصيَّةِ تارةً يكونُ بأنْ يخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فَرْضَه
الذي فرَضَهُ اللَّهُ له فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثةِ بتخصِيصِه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنًّ اللَّهَ قدْ أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصيَّةَ لوارث ".
وتارةً بأن يُوصِي لأجنبيًّ بزيادة على الثُّلثِ، فتنقصُ حقوقاُ الورثةِ، ولهذا
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث والثلثُ كثيرٌ.
ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثلثِ لم ينفذْ ما وصىَّ به إلا
بإجازة الورثةِ، وسواء قصدَ المضارَّة أو لم يقصدْ، وأمَّا إنْ قصدَ المضارة
بالوصيًّةِ لأجنبيٍّ بالثلثِ فإنه يأثمُ بقصدِهِ المضارَّة، وهلْ تُرَدُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ
ذلكَ بإقراور أم لا؛ حكَى ابنُ عطيةَ روايةً عن مالكٌ أنها تُرَدُّ، وقيلَ: إنه
قياسُ مذهبِ أحمد.
* * *(1/296)
قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
خرَج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ ابنِ
عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقبَلُ توبةَ العبدَ ما لم يُغَرْغِر"
وقال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. دلَّ هذا الحديثُ على قبولِ توبةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لعبده ما دامَتْ روحُه في جسدِهِ لم تبلُغ الحُلْقُومَ والتراقي.
وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ ذلك أيضًا، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، وعمَلُ السُّوءِ إذا أفرد دَخَل فيه جميعُ السَّيئات، صغيرُها وكبيرُها، والمرادُ بالجهالة الإقدامُ على عملِ السُّوء.
وإنْ علِمَ صاحبُه أنه سوء، فإنَّ كُلَّ من عَصَى اللًّهَ فهو جاهلٌ، وكُلَّ من أطاعَهُ فهو عالمٌ، وبيانُهُ من وجهينِ:
أحدُهما: أنَّ من كانَ عالِمًا باللَّهِ تعالى وعظمتِهِ وكبريائِهِ وجلالِهِ، فإنَّه
يَهَابُهُ ويخشاهُ، فلا يقعُ منه مع استحضارِ ذلكَ عصيانُه، كما قال بعضُهم:
لو تفكَّر الناسُ في عظمةِ اللَّه تعالى ما عَصَوهُ، وقال آخرُ: كفَى بخشيةِ اللَّه
عِلْمًا، وكَفى بالاغترارِ باللَّهِ جهلاً.(1/297)
والثاني: أنَّ مَنْ آثرَ المعصيةَ على الطاعةِ فإنَّما حَمَلَهُ على ذلك جهلُه وظنُّه
أنها تنفعُهُ عاجلاً باستعجالِ لذَّتِها، وإن كان عندهُ إيمان فهو يرجو التخلُّصَ
من سوءِ عاقِبتها بالتوبةِ في آخر عمى، وهذا جَهْل محْضٌ، فإنَّه يتعجَّلُ الإثمَ
والخزي، ويفوتُه عِزُّ التقوى وثوابُها ولذَّةُ الطاعة، وقد يتمكَّنُ من التوبةِ بعد
ذلك، وقد يعاجلُهُ الموتُ بغتةً، فهو كجائع أكلَ طعامًا مسمومًا لدفع جوعه
الحاضر، ورجا أن يتخلَّص من ضرره بِشُرْبِ الدِّرياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهلٌ، وقد قال تعالى في حقِّ الذين يؤثرونَ السحرَ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) .
والمرادُ: أنَّهم آثرُوا السحرَ على التقوى والإيمانِ، لما رجوا فيه من منافع
الدنيا المعجلةِ، مع علمهم أنَّهم يفوتُهم بذلكَ ثوابُ الآخرةِ، وهذا جهلٌ
منهم، فإنَّهم لو علمُوا لآثرُوا الإيمانَ والتقوى على ما عَداهُمَا، فكانُوا
يحرزونَ أجرَ الآخرةِ ويامنونَ عقابَها، ويتعجَّلونَ عِزَّ التقوى في الدنيا، وربما
وصلُوا إلى ما يأمُلُونه في الدنيا أو إلى خيرٍ منه وأنفعُ، فإنَّ أكثر ما يُطلبُ
بالسِّحرِ قضاءُ حوائجَ محرَّمةٍ أو مكروهةٍ عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
والمؤمنُ المتقي يُعوِّضُه اللَّهُ في الدنيا خيرًا مما يطلبُه السَّاحرُ ويؤثِرُه، مع
تعجيلهِ عِزَّ التّقوى وشرفِها، وثوابَ الآخرةِ وعلُوَّ درجاتِهَا، فتبيَّن بهذا أنَّ
إيثارَ المعصيةِ على الطاعةِ إنما يحملُ عليه الجهلُ، فلذلكَ كان كُل منْ عصَى
اللَّهَ جاهلاً، وكُلُّ من أطاعه عالِمًا، وكفى بخشية اللَّهِ علْمًا، وبالاغترارِ به
جهْلاً.(1/298)
وأمَّا التوبةُ من قريبٍ فالجمهورُ على أنَّ المرادَ بها التوبةُ قبلَ الموتِ، فالعمرُ
كلُّه قريب، والدنيا كلُّها قريبٌ، فمن تابَ قبلَ الموتِ فقد تابَ من قريبٍ.
ومن ماتَ ولم يتُبْ فقد بَعُدَ كلَّ البُعد، كما قيل:
يقولون لا تبْعد وَهُم يدْفِنُونني. . . وأينَ مكانُ البُعْد إلا مكانِيا
وقال آخرُ:
مِن قبْل أن تلقِي وليـ. . . سَ النأْيُ إلا نأيُ دارِك
وكما قيل:
فهم جِيرةُ الأحياءِ أمَّا مزارُهُم. . . فدانٍ وأمَّا المُلْتَقى فبَعيدُ
فالحيُّ قريبٌ، والميتُ بعيدٌ من الدنيا على قُربه منها، فإنَّ جسْمَهُ في
الأرضِ يبْلى ورُوحَه عند اللَّهِ تُنَعَّم أو تُعَذَّبُ، ولقاؤهُ لا يرجى في الدنيا.
كما قيل:
مقيمٌ إلى أن يبعثَ اللَّهُ خلْقَهُ. . . لقاؤك لا يُرجَى وأنتَ قريبُ
تزيدُ بِلى في كل يومٍ وليلةٍ. . . وتُنْسَى كما تُبْلى وأنتَ حبيبُ
وهذان البيتانِ سمعَهما داودُ الطائيُّ - رحمه اللَّه - من امرأة في مقبرةٍ تَنْدُبُ
بهما ميّتًا لها، فوقعتا من قلبه موقِعًا، فاستيقظَ بهما ورَجَع زاهدًا في الدنيا.
راغبًا في الآخرة، فانقطع إلى العبادةِ إلى أن ماتَ - رحمه اللَّهُ.
فمن تابَ قبل أن يغرغِر، فقد تاب من قريبٍ، فتقبَلُ توبتُهُ ورُوي عن ابنِ
عباسٍ، في قوله تعالى: (يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) ، قال: قبل المرض
والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضلَ أوقاتِ التوبةِ، هو أن يبادرَ الإنسانُ بالتوبةِ في صحتِهِ قبل نُزولِ المرضِ به حتَّى يتمكَّن حينئذٍ من العمل الصالح.(1/299)
ولذلك قَرَنَ اللَّه تعالى التوبةَ بالعملِ الصالح في مواضعَ كثيرة من القرآنِ.
وأيضًا فالتوبةُ في الصحةِ ورجاءِ الحياةِ تُشبهُ الصَّدَقةَ بالمالِ في الصحةِ ورجاءِ
البقاءِ، والتوبةُ في المرضِ عند حضورِ أماراتِ الموت تشبهُ الصدقةَ بالمالِ عندَ
الموتِ، فكأنَّ من لا يتوبُ إلا في مرضه قد استفْرغً صِحَتَه وقوَتَه في شهواتِ
نفسه وهواه ولذَّات دنياه، فإذا أيسَ من الدنيا والحياةِ فيها تابَ حينئذٍ وتركَ ما كانَ عليه، فأين توبةُ هذا من توبةِ مَنْ يتوبُ من قريبٍ، وهو صحيحٌ قويٌّ قادرٌ على عملِ المعاصي، فيتركها خوفًا من اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ورجاءً لثوابه، وإيثارًا لطاعتِهِ على معصيتِه.
دخلَ قومٌ على بِشْرِ الحافي، وهو مريضٌ، فقالوا له: على ماذا عزَمْتَ؟
قال: عزَمْتُ أنى إذا عُوفِيتُ تُبْتُ، فقال له رجلٌ منهم: فهلا تُبْتَ السَّاعةَ؟
فقال: يا أخي: أما علِمْتَ أنَّ الملوك لا تقبَلُ الأمانَ ممن في رجليه القيدُ.
وفي رقبتِه الغلُّ؛ إنَّما يُقبَلُ الأمانُ ممن هو راكبٌ الفرسَ والسيفُ مجرَّدٌ بيده.
فبكى القومُ جميعًا.
ومعنى هذا أنَّ التائب في صحتِه بمنزلة من هو راكبٌ على متن جوادِهِ
وبيدِهِ سيفٌ مشهور، فهو يقدرُ على الكَرِّ والفَرِّ والقتالِ، وعلى الهربِ من
الملكِ وعصْيانِهِ، فإذا جاء على هذه الحالِ إلى بينَ يدي الملكِ ذليلاً له، طالبًا لأمانهِ، صارَ بذلك من خواص الملكِ وأحبابِهِ، لأنَه جاءهُ طائعًا مختارًا له، راغبًا في قربه وخدمتِهِ.
وأمَّا من هو في أسْرِ الملك، وفي رِجْلِه قيْدٌ، وفي رقبتِهِ غُلٌّ، فإنه إذا
طلب الأمانَ من الملكِ فإنَّما طلبه خوفًا على نفسه من الهلاكِ، وقد لا يكونُ
محبّا للملكِ ولا مؤثرًا لرضاه، فهذا مَثَلُ من لا يتوبُ إلا في مرضِهِ عند(1/300)
موتِهِ، والأولُ بمنزلة من يتوبُ في صحَّته وقوَّتِهِ وشبيبته، لكن مَلكُ الملوكِ.
أكرمُ الأكرمين، وأرحَمُ الراحمينَ، وكُلُّ خلْقه أسيرٌ في قبضتِهِ، لا يُعْجِزُه
منهم أحَدٌ، لا يُعْجِزُه هاربٌ، ولا يفوتُه ذاهبٌ، كما قيل: لا أقدَرَ ممَّن طلبتُه في يده، ولا أعْجَز مِمَّن هو في يد طالبِهِ، مع هذا فكُلُّ منْ طلبَ الأمانَ من عذابِهِ من عبادِهِ أمنَهُ على أي حالٍ كانَ، إذا علم منه الصِّدْقَ في طلبه أنشد
بعض العارفين:
الأمانَ الأمانَ وِزْرِي ثَقِيلُ. . . وذُنُوبي إذا عدَدْتُ تَطُولُ
أوْبَقَتْنِي وأوْثَقَتْنِي ذُنُوبي. . . فتُرَى لي إلى الخلاصِ سبيلُ
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) .
فسوَّى بين مَن تابَ عند الموتِ ومن ماتَ من غيرِ توبةٍ، والمرادُ
بالتوبةِ عندَ الموتِ التوبةُ عند انكشافِ الغطاءِ، ومعاينةِ المحتضرِ أمورَ الآخرةِ.
ومشاهدةِ الملائكةِ، فإنَّ الإيمانَ والتوبةَ وسائرَ الأعمالَ إنَّما تنفعُ بالغيبِ، فإذا كُشِفَ الغِطاءُ وصارَ الغيبُ شهادةً، لم ينفع الإيمانُ ولا التوبةُ في تلكَ الحالِ.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن على، قال: لا يزالُ العبدُ في مهلٍ من
التَّوبةِ ما لم يأتِه ملَكُ الموتِ يقبضُ رُوحَه، فإذا نزل ملَكُ الموتُ فلا توبةَ
حينئذ.
وبإسنادِهِ عن الثوريِّ، قال: قال ابنُ عمرَ: التوبةُ مبسوطةٌ ما لم ينزلْ
سلطانُ الموت.
وعن الحسن، قال: التوبةُ معروضةٌ لابنِ آدمَ ما لم يأخُذِ الموتُ بِكَظَمِه.(1/301)
وعن بكرٍ المزنيِّ، قال: لا تزالُ التوبةُ للعبدِ مبسُوطةً ما لم تأتِه الرسلُ، فإذا
عاينَهم انقطعتِ المعرفةُ، وعن أبي مجْلَزٍ قال: لا يزالُ العبدُ في توبةٍ ما لم
يعاين الملائكةَ.
وروى أيضًا في "كتاب الموت " بإسنادِهِ عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: إذا
عايَنَ الميتُ الملَكَ ذهبتِ المعرفةُ. وعن مجاهد نحوه.
وعن حصينٍ، قالَ: بلغني أنَّ ملَكَ الموتِ إذا غَمَزَ ورِيدَ الإنسانِ حينئذٍ
يشخَصُ بصرُهُ، ويذهَلُ عن الناسِ.
وخرَّج ابنُ ماجةَ حديثَ أبي موسى الأشعريِّ مرفوعًا، قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: متى تنقطعُ معرفةُ العبد من الناس؟
قال: "إذا عاينَ ". وفي إسنادِهِ مقالٌ. والموقوفُ أشبَهُ.
وقد قيل: إنَّه إنَّما مُنع من التوبةِ حينئذٍ، لأنَّه إذا انقطعتْ معرفتُه وذهَلَ عقلُه، لم يتصوَّر منه ندم ولا عزْم، فإنَّ النَّدمَ والعزمَ إنَّما يصحُّ مع حضورِ العقْل، وهذا ملازم لمعاينةِ الملائكةِ، كما دلَّت عليه هذه الأخبار.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابنِ عمرَ: "ما لم يُغَرْغِر"، يعني إذا لم تبلُغْ رُوحُه عند خروجِهَا منه إلى حلْقِه، فشبَّه تردُّدها في حلقِ المحتضرِ بما يتغرْغَرُ به الإنسانُ من الماءِ وغيرِه، ويردده في حلقِهِ. وإلى ذلكَ الإشارة في القرآن بقولِهِ عزَّ وجلَّ: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) .
وبقولِهِ عزَّ وجلَّْ (كلَّا إِذا بَلَغَتِ التَرَاقِيَ) .
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن الحسنِ، قالَ: أشدُّ ما يكونُ الموتُ على(1/302)
العبدِ إذا بلغتِ الروحُ التَّراقيَ، قالَ: فعندَ ذلكَ يضطربُ ويعلو نَفَسُهُ ثم بكى الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى.
عِشْ ما بدَالك سالما. . . في ظِلِّ شاهقةِ القُصورِ
يُسْعَى عليكَ بما اشتهيـ. . . ت لدَى الرَّواح وفي البُكُور
فإذا النُّفوسُ تقَعْقَعَتْ. . . في ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدورِ
فهناكَ تعْلمُ مُوقِنًا. . . ما كنْتَ إلا في غُرورِ
واعلم؛ أن الإنسانَ ما دامَ يؤملُ الحياةَ فإنه لا يقطعُ أملَه من الدنيا، وقد لا
تسمحُ نفسُه بالإقلاع عن لذَّاتِها وشهواتِها من المعاصِي وغيرِها، ويُرجِّيه
الشيطان التوبةَ في آخرِ عُمُر، فإذا تيقَّن الموتَ، وأيسَ من الحياة، أفاقَ من
سكرته بشهواتِ الدنيا، فندِم حينئذٍ على تفريطه ندامةً يكادُ يقتلُ نفسَهُ.
وطلبَ الرَّجعةَ إلى الدنيا ليتوبَ ويعمَلَ صالحًا، فلا يجابُ إلى شيءٍ من
ذلك، فيجتمعُ عليه سكرةُ الموتِ مع حَسرةِ الفَوْتِ.
وقد حذَّر اللَهُ تعالى عبادَهُ من ذلكَ في كتابِهِ؛ ليستعدُّوا للموتِ قبلَ
نزولِهِ، بالتوبةِ والعملِ الصالح، قال اللَّهُ تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) .
سُمِعَ بعضُ المُحْتضرين عند احتضاره يلطِمُ على وجههِ ويقول:، (يا حَسْرَتَى
عَلَى مَا فرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) ، وقال آخر عند احتضاره: سخرَت بي الدنيا
حتى ذهبتْ أيامي.
وقال آخرُ عند موتِهِ: لا تغرنَّكُم الحياة الدنيا كما غرَّتني.(1/303)
وقال اللَّهُ تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) ، وقال اللَّهُ
تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) .
قال اللَهُ تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) ، وفسَّره طائفةٌ من السَّلفِ؛ منهم عمرُ بنُ عبد العزيزِ رحمه اللَّه: بأنهم طلبوا التوبةَ حين حِيلَ بينهم وبينها.
قال الحسنُ: اتقِ اللَّه يا ابنَ آدمَ، لا يجتمع عليك خَصْلتانِ، سكرةُ الموتِ.
وحَسْرةُ الفوْتِ.
وقال ابنُ السَّمَّاك: احْذر السَّكرةَ والحَسْرةَ أن يفجأك الموتُ وأنت على
الغِرَّةِ، فلا يصفُ واصفٌ قدْرَ ما تلقى ولا قدْرَ ما ترى.
قال الفُضيلُ: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ابنَ آدمَ، إذا كنتَ تتقلَّب في نِعمتي
وأنتَ تتقلَّبُ في معصيتي، فاحْذَرْني لا أصْرعُك بين معاصيَّ.
وفي بعض الإسرائيليات: ابنَ آدم، احْذر لا يأحذك اللَّهُ على ذنب فتلقاهُ
لا حُجَّةَ لك، مات كثير من المُصِرِّين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم
مباشرون للمعاصي، فكان ذلك خزيًّا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من
عذاب الآخرةِ.
وكثيرًا ما يقَعُ هذا للمصِرِّين على الخمرِ المدمنينَ لشربِهَا، كما
قال القائلُ:
أتأمنُ أيها السكرانُ جهْلا. . . بأنْ تفْجاكَ في السُّكْر المنِيَّة
فتضْحى عِبْرةً للنَّاسِ طُرأ. . . وتلقى اللهَ مِن شَرِّ البريَّة(1/304)
سكر بعضُ المتقدمين ليلةً، فعاتبته زوجتُه على تركِ الصلاةِ، فحلف
بطلاقِهَا ثلاثًا لا يُصلِّي ثلاثة أيام، فاشتدَّ عليه فراقُ زوجتِهِ، فاستمرَّ على
ترك الصلاة مدَّة الأيام الثلاثة، فماتَ فيها على حالِهِ وهو مُصِرّ على الخمر.
تاركٌ للصلاةِ.
كان بعضُ المصرّين على الخمر يُكنى أبا عمرو، فنام ليلةً وهو سكران.
فرأى في منامه قائلاً يقول له:
جَدَّ بك الأمرُ أبا عمرو. . . وأنْتَ معْكُوفٌ على الخَمْر
تشربُ صَهْباءَ صُرَاحِيَّةً. . . سالَ بكَ السَّيْلُ ولا تدْرِي
فاستيقظ منزعجًا وأخبر مَن عنده بما رأى، ثم غلبَه سُكْرُه فنامَ، فلمَّا كان
وقتُ الصُّبح مات فجأة.
قال يحيى بن معاذٍ: الدنيا خمرُ الشيطان، من سكرَ منها لم يُفقْ إلا في
عسْكَر الموتى نادمًا مع الخاسرين.
وفي حديثٍ خرَّجه الترمذيُّ مرفوعًا: "ما من أحد يموتُ إلا نَدِمَ " قالوا:
وما ندامتُه؟
قال: "إنْ كان مُحْسِنًا ندِمَ أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندِمَ أن لا
يكون استعتَبَ ".
إذا ندم المحسنُ عندَ الموتِ فكيفُ يكون حالُ المسيء. غايةُ أمنيَّةِ الموتى في
قبورِهم حياةُ ساعةٍ يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعملٍ صالحِ، وأهلُ
الدنيا يفرِّطون في حياتِهم فتذهبُ أعمارُهم في الغفْلَّةَ ضياعًا، ومنهم من
يقطَعُها بالمعاصي.(1/305)
قال بعضُ السلفِ: أصبحتُم في أمنيَّةٍ ناسٍ كثيرٍ، يعني أنَّ الموتَى كلَّهم
يتمنَّون حياةَ ساعةٍ، ليتوبوا فيها ويجتهدُوا في الطَّاعةِ، ولا سبيل لهم إلى
ذلك، وقد أنشدَ بعضُهُم:
لو قيلَ للقومِ ما مُنَاكُم طلَبُوا. . . حياةَ يومٍ ليتوبُوا فاعْلَم
ويْحَكِ يا نَفْسُ ألا تيقُّظٌ. . . ينْفَعُ قبلَ أن تزِل قدمِي
مضى الزَّمان في توَانٍ وهَوَى. . . فاسْتدْرِكي ما قدْ بقي واغْتنمِي
الناسُ في التوبة على أقسامٍ:
فمنهم: من لا يوفَّقُ لتوبة نصوح، بل ييسَّر له عملُ السَّيّئات من أوَّل عُمُره
إلى آخره حتى يموتَ مُصِرًّا عليها، وهذه حالةُ الأشقياء.
وأقبحُ من ذلك من يُسِّر له في أوّلِ عمر عملُ الطاعاتِ، ثم خُتِمَ له بعملٍ سيِّى حتى ماتَ عليه، كما في الحديثِ الصحيح:
"إنَ أحدكم ليَعْملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعمَلُ بعملِ أهلِ النار فيدخُلُها".
وفي الحديثِ الذي خرَّجه أهلُ السننِ:
"إنّ العبدَ ليعْملُ بعملِ أهلِ الجنةِ سبعينَ عامًا، ثم يحضرُه الموتُ فيجورُ في وصيتِهِ فيدخلُ النارَ".
ما أصعبَ الانتقال من البصرِ إلى العَمَى، وأصعبُ منه الضلالةُ بعد
الهُدى، والمعصيةُ بعد التُّقى. كم من وجوهٍ خاشعةٍ وُقِّعَ على قصص أعمالِها: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) ، كم من شارَفَ مركَبُهُ(1/306)
ساحِلَ النَّجاة، فلمَّا همَّ أن يرْتَقِي لعِبَ به موْجُ الهوى فغرق.
الخلْقُ كلُّهم تحت هذا الخطرِ. قلوبُ العبادِ بينَ أصبعينِ من أصابع الرحمنِ يُقلِّبها كيف يشاءُ.
قال بعضُهُم: ما العجبُ ممن هلكَ كيفَ هلكَ، إنَّما العجب ممن نجا كيف
نجا، وأنشدَ:
يا قلبُ إلام تطالبُني. . . بلِقا الأحبابِ وقدْ رحَلُوا
أرسلتُك في طلبي لهُمُ. . . لتعودَ فضِعْتَ وما حَصَلُوا
سلِّمْ واصْبِرْ واخضعْ لهُمُ. . . كم قبْلَكَ مِثلكَ قد قَتَلُوا
ما أحسنَ ما علَّقْتَ به. . . آمالَك مِنْهُمْ لو فعلوا
وقسمٌ: يفنى عمرُهُ في الغفلةِ والبطالة، ثم يوفَّقُ لعملٍ صالحِ فيموت عليه.
وهذه حالة من عملَ بعملِ أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع.
فيسبق عليه الكتابُ فيعمَلُ بعملِ أهل الجنة فيدخلها.
الأعمالُ بالخواتيم، وفي الحديثِ:
"إذا أراد اللَّهُ بعبد خيرًا عسَلَه " قالوا: وما عسْلُه؟
قال: "يوفِّقه لعمل صالحٍ ثم يقبضُهُ عليه ".
وهؤلاء منهم من يوقَظُ قبل موته بمدَّةٍ يتمكَّن فيها من التزوُّد بعملٍ صالح.
يختم به عمرَه، ومنهم من يُوقَظُ عندَ حضورِ الموت فيُوفَّقُ لتوبةٍ نصوح يموت
عليها.
قالتْ عائشة - رضي الله عنها -: إذا أرادَ اللَّه بعبدٍ خيرًا قيَّضَ له مَلَكًا قبل موتِهِ بعامٍ(1/307)
فيُسدِّدُه وييسِّرهُ حتى يموتَ وهو خير ما كان، فيقولُ الناسُ: ماتَ فلان خير
ما كان.
وخرَّجه البزارُ عنها مرفوعًا، ولفظُه:
"إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بعثَ إليه ملَكًا من عامِهِ الذي يموتُ فيه فيُسَدِّدُه وييسِّره، فإذا كان عند موته أتاه مَلَكُ الموت فقعد عند
رأسه، فقالَ: أيتها النفس المطمئنة اخْرُجي إلى مغفرة من اللَّهِ ورضوانٍ، فذلك حين يُحِبُّ لقاءَ اللهِ ويحبُّ اللُّهُ لقاءَه، وإذا أرادَ اللَهُ بعبدٍ شرًّا بعثَ إليه شيطانًا من عامِهِ الذي يموتُ فيه فأغواهُ، فإذا كان عند موتِهِ أتاه ملكُ الموت فقَعَدَ عند رأسه، فقال: أيتها النفس الخبيثةُ، اخْرُجِي إلى سخط من اللَهِ وغضبٍ، فتتفرق في جسده، فذلكَ حين يُبغضُ لقاءَ اللهِ، ويُبْغِضُ الله لقاءَه "وفي الدعاء المأثورِ: "اللهمَّ، اجعلْ خير عملي خاتمتَه، وخير عمري آخره"
وفي "المسند" عن عبدِ اللَّهِ بن عمرِو بن العاص، قالَ: من تاب قبْلَ
موْتِهِ عامًا تِيبَ عليه، ومن تاب قبل موتِه شهرًا تِيبَ عليه، حتى قال: يومًا، حتى قال: ساعةً، حتى قال: فُوَاقًا.
قالَ: قال له إنسان: أرأيتَ إن كان
مشركًا فأسلمَ؟
قال: إنما أحدِّثُكم ما سمعتُ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه ايضا، عن عبد الرحمنِ البيلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدُهم: سمعْتُ رسولَ اللَّهِ يقولُ: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يقبلُ توبةَ العبْدِ قبلَ أن يموت بيومٍ " قال الآخر: أنتَ سمعتَ هذا من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/308)
قال: نعم، قال: وأنا سمعْتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله عزَ وجلَّ يقبل توبة العبدِ قبل أن يموتَ بنصف يوم ". فقال الثالثُ: أنتَ سمعْتَ هذا من رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: نعم، قال: وأنا سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يقبَلُ توبةَ العبدِ قبل أن يموتَ بضَحْوَة"
قال الرابع: أنتَ سمعتَ هذا من رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: نعم، قال: وأنا سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يقبل توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ بنفسه ".
وفيه أيضًا: عن أبي سعيدٍ الخدريَ - رضي الله عنه -.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إن الشيطان قال: وعِزَّتِك يا رب، لا أبرحُ أُغوِي عبادَك ما دامتْ أرواحُهم في أجسادِهِم.
فقال الربُّ عزَّ وجلَّ: وعِزتي وجلالي، لا أزالُ أكفِرُ لهم ما استغفروني ".
ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له: أنَّ رجلاً من ملوكِ البصرةِ كان قد تَنَسَّك.
ثمَّ مالَ إلى الدنيا والشيطان فبنى دارًا وشيَّدها، وأمر بها ففُرشتْ له ونُجِّدَتْ، واتَّخذ مأدُبةً، وصنع طعامًا ودعا الناس، فجعلوا يدخلون فيأكلون ويشربونَ وينظرونَ إلى بنائه ويعجبون منه، ويدْعُون له ويتفرَّقون، فمكث بذلك أيامًا حتى فرغَ من أمر الناس. ثم جلسَ في نفرٍ من خاصة إخوانه، فقال: قد ترون سُروري بدارِي هذه، وقد حدَّثت نفسِي أن أتخذ لكلِّ واحدٍ من ولدي مثلَها، فأقيموا عندِي أيامًا أستمتع بحديثِكم وأشاوركم فيما أريدُ من هذا البناءِ لولدي، فأقاموا عنده أيامًا يلْهُون ويلعبون ويشاوِرُهم كيف يبني لولده، وكيف يريد أن يصنع، فبينما هم ذات ليلةٍ في لهوهِم إذ سمعوا قائلاً يقولُ من أقاصي الدَّار:(1/309)
يا أيها الباني النَّاسِي مَنِيَّتَه. . . لا تأمننَّ فإنَّ الموتَ مكتُوبُ
على الخلائِق إن سُرُّوا وإنْ فرِحوا. . . فالموتُ حتْفٌ لذي الآمالِ منصُوبُ
لا تبنين ديارًا لسْتَ تسْكُنُها. . . وراجِع النُسْك كيما يغفرَ الحُوبُ
قال: ففزع من ذلك وفزع أصحابه فزعًا شديدًا، وراعَهُم ما سمعوا من
ذلك، فقال لأصحابه: هل سمِعْتم ما سمِعْتُ؟ قالوا: نعم، قال: فهل
تجدون ما أجدُ؟ قالوا: وما تجدُ؟
قال: أجد واللَّه مسْكة على قلبي ما أراها إلا علَّة الموت، قالوا: كلا، بل البقاءُ والعافية، قال: فبكى وقال: أنتم أخلائي
وإخواني فما لي عندكُم؟ قالوا: مُرْنا بما أحببتَ.
قال: فأمر بالشراب فأُهريق، وبالملاهي فأخرجت، ثم قال: اللَّهُمَّ إني أشهدُك ومن حضر من عبادِك أني تائبٌ إليك من جميع ذنوبي، نادم على ما فرطَّت أيام مُهلتي، وإياك أسالُ إن أقلْتَنِي أن تُتِمَّ عليَّ نعمتك بالإنابةِ إلى طاعتِك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفرَ لي ذنوبي تفضلاً منك عليَّ.
واشتدَّ به الأمرُ فلم يزلْ يقول: الموتُ واللهِ، الموتُ واللَّهِ، حتى خرجتْ نفسُه فكان الفقهاء يرون أنه مات على توبة.
وروى الواحدي في كتابِ "قتلى القرآنِ " بإسنادٍ له، أن رجلاً من أشراف
أهلِ البصرةِ كان مُنحدرًا إليها في سفينةٍ ومعه جاريةٌ له، فشربَ يومًا، وغنَّتَهُ
جاريته بعودٍ لها، وكان معهم في السفينة فقير صالحٌ، فقال له: يا فتى
تُحسِنُ مثل هذا؟
قال: أُحْسِنُ ما هو أحسن منه، وكان الفقيرُ حسنَ الصوت.
فاستفتح وقرأ: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) .(1/310)
فرمَى الرَّجُلُ ما بيده من الشرابِ في الماء، وقال: أشهدُ أن هذا أحسنُ مما سمعت، فهل غير هذا؟
قال: نعم فتلا عليه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) الآية، فوقعت
من قلبه موْقعًا، ورمَى بالشرابِ وكسر العُودَ، ثم قال: يا فتى هل هنا فرجٌ
قال: نعم. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) .
فصاح صيْحة عظيمةً، فنظروا إليه فإذا هو قد ماتَ - رحمه اللَّه.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له أنَّ صالحًا المُرِّيَّ - رحمه اللَّه - كان يومًا في
مجلسِه يقُصُّ على الناس، فقرأ عنده قارئ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) .
فذكر صالحٌ النار وحالَ العصاة فيها، وصِفَةَ سياقهم إليها، وبالغ في ذلك وبكى الناس، فقام فتًى كان حاضرًا من مجلسِه، وكان مسرفًا على نفسه، فقال: أكُلُّ هذا في القيامة؟
قال صالح: نعم، وما هو أكثر منه، لقد بلغني أنَّهم يصرخُون
في النار حتى تنقطع أصواتُهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنينِ من المريضِ
المدنَفِ، فصاح الفتى: يا للَّه وا غفْلتاهُ عن نفسِي أيامَ الحياة، وا أسفاهُ على
تفريطي في طاعتك يا سيداهُ وا غفلتاه على تضييع عمري في دارِ الدنيا ثم
استقبلَ القِبْلةَ، وعاهَدَ اللَّهَ على توبةٍ نصوح، ودعا اللَّهَ أنا يتقبَّلَ منه وبكى
حتى غُشي عليه، فحُمِلَ من المجلسِ صريعًا، فمكث صالح وأصحابه
يعودُونه أيامًا، ثم مات، فحضره خَلْقٌ كثير، فكان صالح يذكره في مجلسِهِ
كثيرًا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن؛ وبأبي قتيلَ المواعظِ والأحزانِ؛ فرآه رجل في منامِهِ، فقال: ما صنعتَ؟
قال: عمَتْنِي بركةُ مجلس صالح فدخلتُ في(1/311)
سعة رحمة اللَّه التي (وَسِعَتْ كُل شَيْءٍ) .
من آلمتُه سياطُ المواعظِ فصاح فلا جناح، ومن زاد ألمه فمات فدسُهُ مباح.
قضى اللَّهُ في القتْلى قصاصَ دمائهم ولكن دماء العاشقين جُبَارُ
وبقي ها هنا قسمٌ آخرُ، وهو أشرفُ الأقسامِ وأرفعُها، وهو من يُفْني عمرَه في الطاعة، ثمَّ يُنبَّه على قرْبِ الأجلِ، ليجدَّ في التزودِ ويتهيأ للرحيلِ بعملٍ
صالح للقاء، ويكونُ خاتمةً للعملِ قال ابنُ عباسٍ: لما نزلتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ، نُعِيتْ لرسولِ اللِّه - صلى الله عليه وسلم - نفسُه؛ فأخذ في أشدِّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرةِ.
قالت أم سلمةَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخرِ أمرهِ لا يقومُ ولا يقعُد ولا يذهبُ ولا يجيءُ إلا قال: "سبحان الله وبحمدهِ "
فذكرتُ ذلك له، فقال: "إني أمِرتُ بذلك " وتلا هذه السورة.
وكان من عادتِهِ أن يعتكفَ في كُلِّ عامٍ في رمضانَ عشرًا، ويعرضُ القرآنَ
على جبريلَ مرة، فاعتكف في ذلك العامِ عشرين يومًا، ويعرض القرآنَ
مرَتينِ، وكان يقولُ: "ما أرى ذلك إلا لاقترابِ أجِلي " ثم حجَ حجةَ الوداع، وقال للناس: "خذوا عنَي مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". وطفقَ يودعُّ الناسَ، فقالوا: هذه حجَّةُ الوداع، ثم رجع إلى المدينةِ فخطبَ قبل وصولِهِ إليها، وقال: "أيها الناس إنَّما أنا بشر، يُوشِكُ أن يأتيَني رسولُ ربِّي فأجيبَ "(1/312)
، ثم أمر بالتمسُّكِ بكتابِ اللِّه، ثم توفي بعد وصولِهِ إلى المدينةِ
بيسير - صلى الله عليه وسلم -
إذا كان سيِّدُ المحسنينَ يُؤمَرُ أن يختِمَ عمرَه بالزِّيادة في الإحسان فكيف
يكون حالُ المسيء. دُو بيْت:
خُذْ في جد فقد تولَّى العُمُر. . . كم ذا التفريطُ قد تدانى الأمرُ
أقبِل فعسى يُقبلُ منك العُذْر. . . كم تبني كم تنقضُ كم ذا الغَدْرُ
مرض بعضُ العابدينَ فوُصِف له دواءٌ يشربُه، فأتي في منامه فقيل له:
أتشربُ الدواء والحورُ العينُ لك تُهَيّأ؛ فانتبه فزِعًا، فصلَّى في ثلاثة أيام.
حتى انحنى صُلْبُه، ثم ماتَ في اليوم الثالثِ.
وكان رجلٌ قد اعتزل وتعبَّد، فرأى في منامِهِ قائلاً يقول له: يا فلان ربُّك
يدعوك فتجهَّزْ واخْرُج إلى الحجِّ، ولسْتَ عائدًا، فخرج إلى الحج فماتَ في
الطريقِ.
رأى بعضُ الصالحينَ في منامِهِ قائلاً يُنشدُهُ:
تأهَّبْ للذي لا بُدَّ منه. . . من الموت المُوَكَّل بالعبادِ
أترضى أن تكون رفيق قومٍ. . . لهُمْ زادٌ وأنتَ بغير زادٍ
خرَّج ابنُ ماجةَ من حديثِ جابرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال في خطبتِهِ: "أيَّها الناس، توبوا إلى ربّكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشْغَلُوا".(1/313)
وفي سنده ضعف، فأمرَ بالمبادرةِ بالتوبةِ قبل الموت، وكلُّ ساعةٍ تمرُّ على
ابن آدمَ فإنَّه يمكنُ أن تكون ساعة موتِهِ، بل كلُّ نفسٍ، كما قِيل:
لا تأمَن الموتَ في طرف ولا نفَسٍ. . . ولو تمنَّعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ
قال لقمانُ لابنِهِ: يا بني، لا تؤخِّر التوبةَ، فإنَّ الموتَ يأتي بغتةً.
وقالَ بعضُ الحكماءِ: لا تكنْ ممن يرجُو الآخرةَ بغير عملٍ، ويؤخِّرُ التوبةِ لطولِ الأملِ.
إلى اللَّه تب قبل انقضاءٍ من العمر. . . أُخَيَّ ولا تأمَنْ مفاجأة الأمر
ولا تستصمَنْ عن دُعائي فإنما. . . دعوتُك إشفاقًا عليك من الوزرِ
فقد حَذَّرَتْك الحادثاتُ نزولها. . . ونادَتْك إلا أنَّ سمعَكَ ذو وَقْرِ
تَنُوحُ وتبكي للأحبَّة إن مضَوا.. ونفْسَكَ لا تبكي وأنتَ على الإثْرِ
قال بعضُ السلف: أصبِحُوا تائبين، وأمسُوا تائبين، يشير إلى أنَّ المؤمن لا
ينبغي أن يُصبح ويُمسي إلا على توبةٍ، فإنه لا يدري متى يفجأه الموتُ صباحًا
أو مساءً، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة، فهو على خطرٍ، لأنه يُخشى
أن يلقَى اللَّه غير تائب، فيُحشر في زمرة الظالمين، قال اللَّه تعالى:
(وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأوْلَئِكَ هُم الظَّالِمونَ) .
تُبْ من خطاياكَ وابْكِ خشْيَةً. . . ما أثبت منها عليك في الكُتُبِ
أيَّةُ حالٍ تكون حالَ فتًى. . . صارَ إلى ربِّه ولم يتُبِ
تأخيرُ التوبةِ في حال الشباب قبيحٌ، ففي حال المشيبِ أقبْحُ وأقبَحُ.
نَعَى لك ظِلَّ الشبابِ المشيبُ. . . ونادتْكَ باسم سواكَ الخطوبُ(1/314)
فكُنْ مستعدًا لداعِي الفنا. . . فكُلُّ الذي هو آتٍ قريبُ
ألسْنا نَرَى شهواتِ النُفوسِ. . . تفْنَى وتبقى علينا الذُّنوبُ
يخافُ على نفسِهِ من يتوبُ. . . فكيفَ يكنْ حالُ من لا يتوبُ
فإن نزلَ المرضُ بالعبدِ فتأخيرُهُ للتوبةِ حينئذٍ أقبحُ من كلِّ قبيع، فإنَّ المرضَ
نذيرُ الموتِ، وينبغي لمن عادَ مريضًا أن يذكره التوبةَ والاستغفارَ، فلا أحسنَ
من ختامِ العملِ بالتوبةِ والاستغفارِ، فإنْ كان العملُ سيئًا كان كفَّارةً له، وإنْ
كان حسنًا كان كالطابَع عليه.
وفي حديث "سيد الاستغفارِ" المخرَّج في "الصحيح " أنَّ من قاله إذا
أصبح وإذا أمسَى، ثم ماتَ من يومِهِ أو ليلتِهِ، كان من أهلِ الجنةِ، وليُكْثِرْ
في مرضِهِ من ذكر اللَّهِ عزَّ وجلَّ، خصوصًا كلمةَ التوحيدِ، فإنَّه من كانتْ
آخِرَ كلامِهِ دخل الجنة.
وفي حديثِ أبي سعيد وأبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه: "من قالَ في مرضِهِ: لا إله إلا اللَّهُ، اللَّهُ أكبرُ، لا إله إلا اللَّهُ وحده لا شريكَ لهُ، له الملك وله الحمدُ، لا إله إلا اللَّهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ، فإنْ مات من مرضه لم تطعَمْهُ النار".
خرَّجه النسائي وابنُ ماجةَ والترمذيُّ وحسَّنه.
وفي روايةٍ للنسائي: "من قالَهُنَّ في يومٍ أو في ليلةٍ أو في شهرٍ، ثم ماتَ في
ذلك اليومِ أو في تلك الليلةِ، أو في ذلك الشهرِ، غُفِرَ له ذنبُه ".
ويُروى من حديثِ حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من خُتم له بقولِ لا إله إلا اللَّهُ دخلَ الجنة، ومن خُتِمَ له(1/315)
بصيام يومٍ أراد به وَجْهَ اللَّه أدخله اللَّه الجنة، ومنْ خُتِمَ له بإطعام مسكينٍ أراد به وجه اللَّه أدخله اللَّه الجنةَ".
كان السلف يرون أن من مات عقيبَ عمل صالح، كصيامِ رمضانَ، أو
عقيبَ حج أوعمرةٍ، أنَّه يُرجَى له أن يدخل الجنة، وكانوا مع اجتهادهم في
الصحة في الأعمالِ الصالحةِ يجددون التوبةَ والاستغفارَ عندَ الموتِ، ويختمُونَ
أعمالهم بالاستغفارِ وكلمةِ التوحيدِ.
لما احتُضِرِ العلاءُ بن زيادٍ، بكى، فقيلَ له: ما يُبكيك؟
قال: كنتُ واللَّهِ أحب أن أستقبلَ الموتَ بتوبةٍ.
قالوا: فافعلْ رحمك اللَّه، فدعا بطَهُور فتطهَّر، ثم دعا بثوبٍ له جديد فلبسه، ثم استقبلَ القبلةَ، فأومَأ برأسه مرتينِ
أو نحو ذلك، ثم اضطجع ومات.
ولما احتُضِرَ عامر بن عبد الله بكى، وقال: لمثل هذا المصرع فليعملِ
العاملونَ، اللَهُمَّ إنِّي أستغفرك من تقصيرِي وتفريطي، وأتوبُ إليك من جميع
ذنوبي، لا إله إلا اللَهُ، ثم لم يزل يردِّدُها حتى ماتَ - رحِمَه اللَّهُ.
وقال عمرو بن العاص - رحمه اللَّهُ - عند موتِهِ: اللَّهُمَ أمرتنا فعصيْنا.
ونهيتنا فركبنا، ولا يسعُنا إلا عفوُك، لا إله إلا اللَهُ، ثم ردَّدها حتى مات.
وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رحمهُ اللَّهُ - عند موتِهِ: أجلِسُوني، فأجلسُوه.
فقالَ: أنا الذي أمرْتَني فقصَّرْتُ، ونهيتني فعصيْتُ، ولكن لا إله إلا اللَّهُ، ثم
رَفَعَ رأسه فأحَدَّ النظرَ، فقالُوا له: إنَّك تنظرُ نظرًا شديدًا يا أميرَ المؤمنين.
قال: إنِّي أرى حضرةً ما هم بإنسٍ ولا جنٍّ، ثم قُبضَ رحمةُ اللَّهُ عليه.
وسمعوا تاليًا يتلو: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) .(1/316)
يا غافِل القلْبِ عن ذِكْرِ المَنيَّاتِ. . . عما قليل ستثْوِي بين أمْواتِ
فاذكُرْ مَحَلَّكَ مِن قبْلِ الحُلُولِ بهِ. . . وتُبْ إلى اللَّهِ منْ لهوٍ ولذاتِ
إنَّ الحمامَ لهُ وقْتٌ إلى أجَلٍ. . . فاذْكُرْ مصائبَ أيَّامٍ وساعاتِ
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها. . . قدْ حانَ للموْتِ يا ذا اللبِّ أن ياتِي
التَوبةَ التوبةَ قبل أن يصل إليكم من الموت النَّوْبة، فيحصلُ المفرطُ على
الندمِ والخيبةِ.
الإنابة الإنابةَ قبل غَلْقِ بابِ الإجابةِ، الإفاقةَ الإفاقةَ فقد قرُبَ وقتُ الفاقَة.
ما أحسنَ قلقَ التُّوَّاب! ما أحْلَى قدومَ الغُيَّابِ! ما أجملَ وقوفَهم بالبابِ!
أسأتُ ولم أُحْسنُ وجئتُك تائبًا. . . وأنَّى لعبْدٍ من مواليه مهْرَبُ
يُؤمِّلُ غُفرانًا فإنْ خابَ ظَنُّه. . . فما أحَدٌ منه على الأرضِ أخيَبُ
من نزلَ به الشيبُ فهو بمنزلةِ الحاملِ التي تمَتْ شهورُ حَمْلِها، فما تنتظر إلا
الولادةَ، كذلك صاحبُ الشيبِ لا ينتظر غير الموت، فقبيحٌ منه الإصرارُ على الذنبِ.
أىُّ شيءٍ تُريدُ منِّي الذُّنوبُ. . . شَغُفَتْ بي فليس عنِّي تَغيبُ
ما يضرُ الذنُوبَ لو أعتقتني. . . رحمةً بي فقد علاني المشيبُ
ولكن توبة الثالث أحسنُ وأفضلُ.
في حديث مرفوع خرَّجه ابنُ أبي الدنيا:
"إنَ اللَّه يحبّ الشابَّ التائبَ ".
قال عُمير بن هانئٍ: تقول التوبةُ للشابِ:
أهلاً ومرحبًا، وتقول للشيخ: نقبَلُكَ على ما كان منك.(1/317)
الشابُّ ترك المعصيةَ مع قوَّةِ الدَّاعِي إليها، والشيخُ قد ضعُفتْ شهوتُه وقلّ
داعيه فلا يستويانِ، وفي بعض الآثار، يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أيها الشابُّ.
التارك شهوتَه، المبتذِلُ شبابَه لأجلي، أنتَ عندِي كبعضِ ملائكتي.
قال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه -: إنَّ الذين يشتهونَ المعاصِي ولا يعملونَ بها (أولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) كم بين حالِ الذي (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَتْوَايَ) ، وبين شيخ عِنِّين
يُدعَى لمثلِ ذلك فيجيبُ.
كان عمرُ يَعُسُّ بالمدينةِ فسمعَ امرأةً غابَ عنها زوجُها تقولُ:
تطاولَ هذا الليلُ واسْوَدَّ جانبُه. . . وأرَّقني أن لا خليلٌ ألاعِبُهْ
فواللَّهِ لولا اللَّه لا شيءَ غيرُهُ. . . لَحُرِّكَ من هذا السَّرير جوانِبُه
ولكن تقْوى اللَّهِ عنْ ذا تَصُدُّني. . . وحِفظا لبَعْلي أن تنالَ مراكبُه
ولكنَّني أخْشَى رَقيبًا موكَّلاً. . . بأنْفُسِنا لا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كاتبُه
فقال لها عمرُ: يرحمك اللَّهُ، ثم بعثَ إلى زوجها فأمره أن يقدُمَ عليها.
وأمَرَ أن لا يغيبَ أحد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر وعشرًا.
الشيخُ قد تركتك الذنوب، فلا حمدَ له على تركها.
كما قيل:
تاركَكَ الدْنبُ فتارَكْتَهُ. . . بالفعْلِ والشهَوْةُ في القلبِ
فالحَمْدُ للذَّنْبِ على تركِهِ. . . لا لكَ في تركِكَ للذَّنْبِ
أما تستحِي منا لما أعرضَتْ لذاتُ الدنيا عنك فلم يبقَ لك فيها رغبةٌ.
وصِرْتَ من سَقَطِ المتاع لا حاجةَ لأحدٍ فيك، جئت إلى بابنا فقلْتَ: أنا(1/318)
تائبٌ، ومع هذا فكُلُّ من أوى إلينا آويناه، وكلُّ من استجارَ بنا أجرْناه، ومن تابَ إلينا أحببناه، أبشر، فربَّما يكون الشَّيبُ شافعًا لصاحبه من العقوباتِ.
مات شيخ كان مفرِّطًا، فرؤي في المنامِ، فقيل له: ما فعَلَ اللَّهُ بك، قال:
قال لي: لولا أنَّك شيخ لعذَّبْتُك.
وقفَ شيخٌ بعرفةَ والنَّاسُ يضِجُّون بالدُّعاءِ، وهو ساكتٌ، ثم قبض على
لحيته، وقال: يا ربِّ، شيخ يا ربِّ، شيخ يرجُو رحمتك.
لمَّا أتَوْنا والشَّيْبُ شافعُهُمْ. . . وقدْ توالَى عليهم الخَجَلُ
قُلْنا لِسُودِ الصَّحائفِ انقلِبي. . . بيضًا فإنَّ الشُّيوخَ قد قُبِلُوا
كان بعضُ الصالحينَ يقولُ:
إنّ الملوكَ إذا شابَتْ عبيدُهُم. . . في رِقِّهم عتقُوهُم عِتْقَ أبرارِ
وأنتَ يا خالِقي أوْلى بذا كَرَمًا. . . قد شِبْتُ في الرقِّ فأعْتِقْنِي منَ النَارِ
أيها العاصِي، ما يقطعُ من صلاحِك الطَّمَعُ، ما نصبنا اليومَ شركَ المواعِظِ
إلا لتقَعُ، إذا خرجتَ من المجلسِ وأنتَ عازِم على التوبةِ، قالتْ لك ملائكةُ
الرحمةِ: مرحبًا وأهلاً، فإن قال لكَ رفقاؤُك في المعصيةِ: هَلُمَّ إلينا، فقلْ
لهُم: كلاَّ، ذاك خَمْرُ الهوى الذي عهدتمُوه قد استحالَ خلاَّ: يا مَن سوَد
كتابَهُ بالسيئاتِ قد آنَ لك بالتَّوبةِ أن تمحُو. يا سكرانَ القلبِ بالشهواتِ أما آن لفؤادِك أن يصحُو.
يا ندامَاي صحَا القلبُ صَحَا. . . فاطرُدُوا عنِّي الصبَا والمَرَحا
زَجَرَ الوعْظُ فؤادِي فارْعَوى. . . وأفاقَ القلْبُ منِّي وصَحَا
هَزَم العَزْمُ جُنودًا للهوى. . . فاسِدِي لا تعْجَبُوا إن صَلَحَا(1/319)
بادِرُوا التَوْبةَ من قبلِ الرَّدى. . . فمُنادِيه يُنادينا الوَحَا
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
[قالَ البخاريُّ] : ويُذْكر: أنَّ عمرَو بن العاصِ أجنبَ في ليلةٍ باردةٍ فتيمَّم، وتلا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، فذكر ذلك للنبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - فلم يُعَنِّفْ.
حديثُ عمرِو بن العاصِ خرَّجه أبو داود من روايةِ يحيى بنِ أيُّوبَ.
عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عن عِمرانَ بنِ أبي أنَسٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن
جُبيرٍ، عن عمرِو بنِ العاصِ، قال: احتلمْتُ في ليلةٍ بارد في غزوةِ ذاتِ
السَّلاسلِ، فأشفقتُ إن اغتسَلْتُ أنْ أهلِكَ، فتيَمَّمْتُ ثم صلَّيت بأصحابي
الصُّبْح، فذكرُوا ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا عمرُو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنب! " فأخبرتُه بالذي منَعَني من الاغتسالِ، وقلتُ: إني سمعتُ اللَّهَ يقولُ: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِن اللهَ كَانَ بِكمْ رَحِيمًا) ، فضحِكَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولمْ يقُل شيئًا.
وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ عمرِو بنِ الحارثِ وغيرِه، عن يزيدَ بنِ أبي(1/320)
حبيبٍ، عن عِمرانَ، عن عبدِ الرحممنِ بن جُبَيْرٍ، عن أبي قيْسٍ مولى عمرِو
ابنِ العاصِ، أن عمرَو بن العاصِ كانَ على سَرِيَّة - فذكر الحديثَ بنحوهِ.
وقال فيه: فغسَلَ مَغابِنَه وتوضَّأ وضوءه للصلاةِ، ثم صلَّى بهم - وذكر باقيه
بنحوه، ولم يذكرِ التيممَ.
وفي هذه الروايةِ زيادةُ: "أبي قيسٍ " في إسنادِهِ، وظاهرُهَا الإرسالُ.
وخرَّجه الإمامُ أحمدُ والحاكم، وقال: على شرط الشيخينِ، وليس كما
قال، وقال أحمدُ: ليس إسنادُه بُمتصلٍ.
وروى أبو إسحاقَ الفزاريُّ في "كتابِ السيرِ" عن الأوْزاعيِّ، عن حسَّان بنِ
عطيّةَ، قال: بعَثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعْثًا وأمَّر عليهم عمرَو بنَ العاصِ، فلما أقبلوا سألهم عنه، فأثْنَوْا خيرًا، إلا أنه صلَّى بنا جُنبا، فسأله، - فقال: أصابتْنِي جنابة فخشيتُ على نفسِي من البردِ، وقد قال اللَّهُ تعالى: (وَلا تقْتُلوا أَنفسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكمْ رَحِيمًا) ، فتيبسَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا مرسلٌ.
وقد ذَكَره أبو داودَ في "سننِهِ " تعليقًا مختصرًا، وذكر فيه: أنه تيمَّمَ.
وأكثرُ العلماءِ: على أن من خافَ من استعمال الماءِ لشدةِ البردِ فإنه يتيمم
ويصلِّي، جُنبا كان أو مُحْدِدثًا.
واختلفوا: هل يُعِيد أم لا؟
فمنهُم من قال: لا إعادةَ عليه، وهو قول الثوريِّ، والأوْزاعيِّ.
.(1/321)
وأبي حنيفةَ، ومالكٍ، والحسنِ بنِ صالح، وأحمدَ في روايةٍ.
ومنهم من قال: عليه الإعادةُ بكلِّ حالٍ سواءٌ كان مسافرًا أو حاضرًا، وهو
قولُ الشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ.
ومنهم من قالَ: إن كانَ مسافرًا لم يُعِد، وإن كانَ حاضِرًا أعادَ، وهو قولٌ
آخرُ للشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ، وقولُ أبي يوسف ومحمدٍ.
وحكى ابنُ عبدِ البرِّ عن أبي يوسفَ وزُفَرَ: أنه لا يجوزُ للمريضِ في
الحضرِ التيممُ بحالٍ.
وذكرَ أبو بكرٍ الخلاَّلُ من أصحابِنا: أنه لا يجوزُ التيممُ في الحضرِ لشدةِ
البردِ، وهو مخالفٌ لنصِّ أحمدَ وسائرِ أصحابهِ.
وحكى ابنُ المنذرِ وغيرُه عن الحسنِ وعطاءٍ: أنه إذا وَجَدَ الماءَ اغتسل به وإن
ماتَ، لأنه واجدٌ للماءِ، إنما أُمِرَ بالتيمم من لم يجدِ الماءَ.
ونقلَ أبو إسحاق الفزاريُّ في كتابِ "السيرِ" عن سُفيانَ نحوَ ذلك، وأنه لا
يتيممُ لمجردِ خوفِ البردِ، وإنما يتيممُ لمرضٍ مخوفٍ، أو لعدمِ الماءِ.
وينبغي أن يُحمل كلامُ هؤلاءِ على ما إذا لم يخْشَ الموتَ، بل أمكنهُ
استعمالُ الماء المُسخَّن وإن حصلَ له به بعضُ ضررٍ، وقد رُوي هذا المعنى
صريحًا عن الحسنِ - أيضًا - وكذلك نقلَ أصحابُ سفيانَ مذهبَهُ في
تصانيفهم، وحكَوا أن سفيان ذكر أن الناسَ أجمعُوا على ذلكَ.
وقد سبقَ الكلامُ في تفسيرِ الآيةِ، وأنَّ اللهَ تعالى أذِن في التيمم للمريضِ
وللمسافرِ ولمن لم يجدِ الماءِ من أهلِ الأحداثِ مُطلقًا، فمن لم يجدِ الماءَ(1/322)
فالرحْصةُ له محققة.
* * *
وفرَّق اللَّهُ بين الظلم والعُدوانِ، في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) .
وقد يُفرق بين الظلم والعُدوانِ، بأنَّ الظلمَ: ما كانَ بغيرِ حقً بالكليَّة.
كأخذ مالٍ بغير استحقاقٍ لشيء منه، وقتلِ نفس لا يحلُّ قتلُها، وأمَّا
العُدوانُ: فهو مُجاوزةُ الحدودِ وتعدَّّيَهَا فيما أصلُه مباح، مثل أن يكونَ له
على أحدٍ حقّ من مالٍ أو دمٍ أو عرضٍ، فيستوفي أكثرَ منه، فهذا هو
العُدوانُ، وهو تجاوزُ ما يجوزُ أخذُه، فيأخذُ ما لَهُ أخْذُهُ وما ليسر له أخْذُهُ.
وهو من أنواع الرِّبا المحرَّمةِ.
وقد ورد "السبتانِ بالسبةِ رِبا".
والظلمُ المُطلقُ: أخذُ ما ليسَ له أخْذُهُ ولا شيءٍ منه من مال أو دمٍ أو
عرضٍ.
كلاهما في الحقيقةِ ظلم، وقد حرَّم اللَّهُ الظلمَ، وفي "الصحيح " عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -: "يقولُ اللَهُ: يا عبادِي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسِي وجعلتُه بينكُم محرَّمًا فلا تظالموا ".(1/323)
وفي "الصحيحينِ " عنه - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ".
وفيهما عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"إن اللهَ يُملي للظالم حتى إذا أخذَهُ لم يُفلته "
ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .
وفي "البخاري" عنه - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه فليتحلله منها، فإنَّه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا دِرْهَمٌ من قبل أن يُؤخذَ لأخيهِ من حسناتِهِ فإن لم يكنْ له حسنات أخذ من سيئاتِ أخيه فطُرحتْ عليهِ ".
وفي "صحيح مسلم " عنه - صلى الله عليه وسلم - قال:
(أتدرونَ من المفلسُ؟ " قالوا: المُفلسُ من لا درهمَ له ولا متاعَ.
قال: "إن المفلس من أمَّتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وقيامٍ، وقد شتمَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيقضِي
هذا من حسناتِهِ وهذا من حسناتِهِ، فإذا فنيتْ حسناتُهُ قبل أنْ يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من سيئاتِهِم فطرحتْ عليه، ثم طُرِحَ في النارِ".
وفي الحديثِ: "لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أهلها يومَ القيامةِ، حتى يُقادَ للشاةِ الجمَّاءِ من الشاةِ القرناءِ ".
وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ أُنيسٍ: "وليسألَنَّ الحجرُ لم نكبَ الحجرَ، وليسألن
العُودَ لم خدشَ صاحبَهُ ".(1/324)
شعر:
فخِفِ القضاءَ غدًا إذا وافيتَ ما. . . كسبتْ يداك اليومَ بالقِسطاسِ
أعضاؤُهُم فيه الشهودُ وسجنُهم. . . نارٌ وحاكمُهُم شديدُ الباسِ
في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ. . . أو مهطعٌ أو مقنعٌ للراسِ
إن تمطلِ اليومَ الحقوقَ مع الغِنى. . . فغدًا تؤديهَا معَ الإفلاسِ
والظلمُ المحرَّمُ: تارةً يكون في النفوسِ، وأشدهُ في الدماءِ وتارةً في
الأموالِ، وتارةً في الأعراضِ، ولهذا قالَ - صلى الله عليه وسلم - في خطبتِهِ في حجةِ الوداع:
"إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكم حرامٌ كحرمةِ، يومِكُم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
وفي روايةٍ: ثم قال:
"ألا اسمعوا منِّي تعيشُوا، ألا لا تظالموا ألا لا تظالموا، فإنه لا يحلّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفْسٍ منه ".
وفي "صحيح مسلمٍ " عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعِرضُه ".
فظلمُ العبادِ شر مكتسبٌ، لأنَّ الحقَّ فيه لآدميّ مطبوع على الشحِّ، فلا
يتركُ من حقِّه شيئًا لا سِيَّما مع شدةِ حاجتِهِ يومَ القيامةِ، فإن الأمَّ تفرحُ يومئذٍ
إذا كانَ لهَا حقٌّ على ولدِهَا لتأخذَ منهُ.
ومع هذا؛ فالغالبُ أنَّ الظالمَ تُعجَّل له العقوبةُ في الدنيا وإنْ أُمهل، كما
قالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"إن اللَّهَ يُملي للظالم حتَّى إذا أخذَهُ لم يفلتْهُ " ثم تلا: (وكَذَلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .(1/325)
وذهبَ قوم من أهلِ الحديثِ وغيرُهم إلى أنَّ هذهِ الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ.
ومنهُم ابنُ حزمٍ الظاهريُّ، وإيَّاه عنى ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِ "التمهيدِ" بالردِّ
عليه، وقالَ: قد كنتُ أرغبُ بنفسِي عن الكلامِ في هذا البابِ، لولا قولُ
ذلكَ القائلِ، وخشيتُ أن يغترَّ به جاهل، فينهمِكَ في الموبقاتِ، اتكالاً على
أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندمِ والاستغفارِ والتوبةِ، واللَّهَ نسألُهُ العصمةَ
والتوفيقَ.
قلتُ: وقد وقعَ مثلُ هذا في كلامِ طائفةٍ من أهلِ الحديثِ في الوضوءِ
ونحوِه، ووقعَ مثلُه في كلام ابنِ المنذرِ في قيامِ ليلةِ القدرِ، قالَ: يُرجى لمنْ
قامَهَا أن يغفرَ لهُ جميعُ ذنوبه صغيرُها وكبيرُها، فإن كان مرادُهم أنَّ مَنْ أتى
بفرائضِ الإسلامِ وهو مُصِرًّ على الكبائرِ تُغفرُ له الكبائرُ قطْعًا، فهذا باطلٌ
قطعًا، يُعْلَمُ بالضرورةِ من الدِّينِ بطلانُهُ، وقد سبقَ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"منْ أساءَ في الإسلام اخِذَ بالأولِ والآخرِ"
يعني: بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلامِ، وهذا
أظهرُ من أن يحتاجَ إلى بيانٍ، وإن أرادَ هذا القائلُ أن من تركَ الإصرارَ على
الكبائرِ، وحافظَ على الفرائضِ من غيرِ توبةٍ ولا ندم على ما سلفَ منه.
كُفِّرَتْ ذُنوبُهُ كلُّهَا بذلكَ، واستدلَّ بظاهرِ قولِهِ: (إِن تَجْتَنِبوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) .
وقال: السيئاتُ تشملُ الكبائرَ والصغائرَ، وكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتنابِ
الكبائرِ من غيرِ قصدٍ ولا نيّة، فكذلكَ الكبائرُ، وقد يستدلُّ لذلكَ بأنَّ اللَّهَ
وعدَ المؤمنينَ والمتقينَ بالمغفرةِ وبتكفيرِ السيِّئاتِ، وهذا مذكورٌ في غيرِ موضع
من القرآنِ، وقد صارَ هذا من المتقين، فإنَّه فعلَ الفرائضَ، واجتنبَ الكبائرَ،(1/326)
واجتنابُ الكبائرِ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ، فهذا القولُ يمكنُ أن يُقالَ في
الجملةِ.
والصَّحيحُ قولُ الجمهورِ: إنَّ الكبائرَ لا تُكفَّرُ بدونِ التوبةِ، لأنَّ التوبةَ
فرضٌ على العبادِ، وقد قالَ عزَّ وجلَّ: (وَمَن لَّمْ يَتبْ فَأوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وقد فسَّرتِ الصحابةُ كعمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ التوبةَ بالندمِ، ومنهم من
فسرها بالعزمِ على أن لا يعودَ، وقد رويَ ذلك مرفوعًا من وجهٍ فيه ضعف.
لكن لا يعلمُ مخالفٌ من الصحابةِ في هذا، وكذلك التابعونَ ومَن بعدَهُم.
كعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والحسنِ، وغيرِهما.
وأما النصوصُ الكثيرةُ المتضمنةُ مغفرةَ الذنوبِ، وتكفيرَ السيئات للمتقينَ.
كقولِهِ تعالى: (إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويغفِرْ لَكُمْ) .
وقولِهِ: (وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يكَفِّرْ عَنْهُ سَيئَاتهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) .
وقولِهِ: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفَر عَنْهُ سَيئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) .
فإنه لم يُبينْ في هذهِ الآياتِ خصالَ التقوى، ولا العملَ الصالحَ.
ومن جملةِ ذلكَ: التوبةُ النصوحُ، فمَنْ لم يتُبْ، فهو ظالمٌ، غيرُ متَقٍ.
* * *
قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
وقد بَيَّنَ في سورةِ آلِ عمرانَ خصالَ التقوى التي يَغفر لأهْلِهَا ويدخلهم(1/327)
الجنةَ، فذكرَ منها الاستغفارَ، وعدمَ الإصرارِ، فلم يضمنْ تكفير السيئاتِ
ومغفرة الذنوبِ إلا لمن كان على هذهِ الصفةِ، واللهُ أعلمُ.
الصغائرُ هل تجبُ التَّوبةُ منها كالكبائرِ أم لا؟
لأنها تقعُ مكفرةً باجتنابِ الكبائرِ، لقولِهِ تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ؟
هذا ممَّا اختلفَ الناسُ فيه.
فمنهم من أوجبَ التوبةَ مِنْهَا.
وهو قولُ أصحابِنا وغيرِهم من الفقهاءِ والمتكلمينَ وغيرِهم.
وقد أمر اللَّهُ بالتوبةِ عقيبَ ذكرِ الصغائرِ والكبائرِ، فقالَ تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) الآية إلى قولِهِ: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
وأمرَ بالتوبةِ من الصَّغائرِ بخصوصِهَا في قولِهِ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) .
ومن الناس من لم يُوجب التوبةَ منها، وحكي عن طائفةٍ من المعتزلةِ ومن
المتأخرينَ من قالَ: يجبُ أحدُ أمرينِ، إمَّا التَوبةُ منها، أو الإتيانُ ببعض
المكفِّرات للذنُوب من الحسناتِ.
وحكى ابنُ عطيّة في "تفسيره" في تكفير الصغائر بامتثالِ الفرائضِ
واجتنابِ الكبائرِ قولينِ:(1/328)
أحدهما - وحكاه عن جماعة من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ -. أنه يُقطع
بتكفيرها بذلك قطعًا، لظاهر الآية والحديثِ.
والثاني - وحكاه عن الأصوليين -: أنه لا يُقطع بذلك، بل يُحمل على
غلبةِ الظنِّ وقوَّة الرجاء، وهو في مشيئةِ اللَّه عزَّ وجلَّ، إذ لو قطع بتكفيرها، لكانتِ الصغائر في حكم المباح الذي لا تبِعَةَ فيه، وذلك نقضٌ لِعُرى
الشريعة.
قلتُ: قد يقال: لا يُقطع بتكفيرها لأنَّ أحاديثَ التكفيرِ المطلقةِ بالأعمالِ
جاءتْ مقيَّدةً بتحسينِ العملِ، كما وردَ ذلك في الوضوءِ والصَّلاةِ، وحينئذٍ
فلا يتحقَّقُ وجودُ حسنِ العملِ الذي يوجب التَّكفير، وعلى هذا الاختلافِ
الذي ذكره ابنُ عطيّة ينبني الاختلافُ في وجوبِ التوبةِ من الصغائر.
وقد خرَّج ابنُ جريرٍ من روايةِ الحسنِ أن قومًا أتوا عمرَ، فقالوا: نرى
أشياءَ من كتابِ اللَّهِ لا يُعْمَلُ بها، فقال لرجلٍ منهم: أقرأتَ القرآن كُلَّه؟
قال: نعم، قال: فهل أحصيتَهُ في نفسك؟
قال: اللَّهُمَّ لا، قال: فهل أحصيتَهُ في بصرك؟ فهل أحصيتَهُ في لفظك؟
هل أحصيتَهُ في أثَرِكَ؟ ثم تتبعهم حتَّى أتى على آخرِهِم، ثم قال: ثكِلَت عمرَ أمُّهُ أتكلفونه أن يُقيمَ على الناس كتابَ اللَّهِ؟ قد علم ربُّنا أنه سيكون لنا سيئات، قال وتلا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) .
وبإسنادِهِ عن أنس بن مالكٍ أنه قال: لم أرَ مثلَ الذي بلغنا عن ربِّنا
تعالى، ثم لم نَخْرُجْ له عن كلِّ أهلٍ ومال، ثم سكت، ثم قال: واللَّه لقد(1/329)
كلَّفنا ربُّنا أهونَ من ذلك، لقد تجاوزَ لنا عمَّا دونَ الكبائر، فما لنا ولها؛ ثم
تلا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) .
وخرَّجه البزارُ في " مسندِهِ " مرفوعًا، والموقوف أصحَّ.
وقد وصف اللَّهُ المحسنينَ باجتنابِ الكبائرِ، قالَ اللَّهُ تعالى: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) .
وفي تفسيرِ اللَّمم قولانِ للسَّلفِ:
أحدُهُما: أنَّه مقدماتُ الفواحشِ كاللمسِ والقبلةِ ة.
وعن ابن عباسٍ: هو ما دونَ الحدَّينِ: وعيدِ الآخرةِ بالنارِ وحدَ الدنيا.
والثاني: أنَّه الإلمامُ بشيءٍ من الفواحشِ والكبائر مرَّةً واحدةً، ثم يتوبُ منه.
ورويَ عن ابنِ عباسٍ وأبي هريرة.
ورويَ عنه مرفوعًا بالشَّكِّ في رفعِهِ، قال: "اللمةُ من الزنى ثم يتوبُ فلا يعودُ، واللمةُ من شرب الخمرِ ثم يتوبُ فلا يعودُ، واللمة من السرقةِ ثم يتوبُ فلا يعود".
ومن فسَّر الآيةَ بهذا قالَ: لا بدَّ أن يتوبَ مِنْهُ، بخلافِ من فسَّرَهُ
بالمقدِّماتِ، فإنَّه لم يشترطْ توبةً.(1/330)
والظاهرُ: أن القولينِ صحيحانِ، وأنَّ كلاهُما مرادٌ من الآيةِ، وحينئذٍ
فالمحسنُ: هو من لا يأتِي بكبير إلا نادرًا ثم يتوبُ منها، ومن إذا أتى
بصغيره كانتْ مغمورةً في حسناتِهِ المكفرةِ لها، ولا بُد أن لا يكونَ مصِرًّا
عليها، كما قال تعالى: (وَلَمْ يصِرّوا عَلَى مَا فَعَلوا وَهُمْ يَعْلَمون) .
ورويَ عن ابن عباسِ أنَّه قالَ: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع
استغفار، ورويَ مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة.
وإذا صارتِ الصغائرُ كبائرَ بالمداومةِ عليها، فلا بُدَّ للمحسنينَ من اجتنابِ
المداومةِ على الصغائر حتى يكونوا مجتنبينَ لكبائرِ الإثم والفواحشِ.
وقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) .
فهذه الآياتُ تضمنتْ وصفَ المؤمنينَ بقيامِهِم بما أوجبَ اللَّه عليهم منَ
الإيمانِ والتوكلِ، وإقامِ الصلاةِ، والإنفاقِ مما رزقهَمُ اللَهُ والاستجابةُ للهِ في
جميع طاعاتِهِ، ومع هذا، فهم مجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش، فهذا هو
تحقيقُ التقوى، ووصفهم في معاملتهم للخلقِ بالمغفرةِ عندَ الغضبِ، وندبهم
إلى العفوِ والإصلاح.
وأمَّا قولُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) ، فليس منافيًا للعفوِ، فإن الانتصارَ يكونُ بإظهارِ القُدرة على الانتقامِ، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك، فيكونُ أتمَّ وأكملَ، قال النخعيُّ في هذهِ(1/331)
الآية ِ: كانُوا يكرهونَ أن يُستذلُّوا فإذا قَدَرُوا عَفَوْا.
وقال مجاهدٌ: كانوا يكرهون للمؤمنِ أن يذلَّ نفسَهُ، فيجترئُ عليه الفُسَّاقُ، فالمؤمنُ إذا بُغِي عليهِ يُظهرُ القدرةَ على الانتقامِ، ثم يعفوُ بعدَ ذلك، وقد جَرَى مثلُ هذا لكثيرٍ من السلفِ، منهم قتادةُ وغيرُه.
فهذه الآياتُ تتضمنُ جميعَ ما ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لمعاذٍ، فإنَّها تضمنتْ أصولَ خصالِ التقوى بفعلِ الواجباتِ، والانتهاءِ عن كبائرِ المحرَّماتِ ومعاملةِ الخلقِ بالإحسانِ والعفوِ، ولازِمُ هذا أنَّه إنْ وقعَ منهم شيء من الإثم من غيرِ الكبائرِ والفواحشِ، يكونُ مغمورًا بخصالِ التَّقوى المقتضيةِ لتكفيرِهَا ومحوِها.
وأما الآياتُ التي في سورةِ "آل عمرانَ "، فوَصَفَ فيها المتقينَ بالإحسانِ إلى
الخَلْقِ، وبالاستغفارِ من الفواحشِ وظلم النفسِ، وعدمِ الإصرارِ على ذلكَ.
وهذا هو الأكملُ، وهو إحداثُ التوبة، والاستغفارُ عَقِيْبَ كل ذنبٍ مِنَ
الذنوبِ صغيرًا كان أو كبيرًا، كما رُويَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى بذلكَ معاذًا، وقد ذكرناهُ فيما سبَقَ.
وإنما بسطنا القولَ في هذا، لأنَّ حاجةَ الخلقِ إليه شديدة، وكلّ أحد
يحتاجُ إلى معرفةِ هذا، ثم إلى العملِ بمقتضاهُ، واللَّهُ الموفقُ والمعين.
* * *(1/332)
قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
قول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) .
فقد فُسِّرَ ذلك بالحسدِ، وهو تمنّي الرجلِ نفسَ ما أُعطي أخوهُ من أهلٍ ومالٍ
وأن ينتقلَ ذلك إليهِ، وفُسِّرَ بتمنِّي ما هو ممتنع شرعًا أو قدرًا، كتمنِّي النِّساءِ
أن يكنَّ رجالاً أو يكون لهن مثلُ ما للرجالِ من الفضائِل الدينيةِ، كالجهادِ.
والدنيويةِ كالميراثِ والعقلِ والشهادةِ، ونحو ذلك.
وقيل: إنَّ الآيةَ تشملُ ذلك كُلَّه.
* * *
قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
وأمَّا إكرامُ الجارِ والإحسانُ إليه، فمأمور به، وقد قال اللَهُ عزَّ وجل:
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) .
فجمعَ اللَّهُ تعالى في هذهِ الآيةِ بينَ ذكرِ حقِّه على العبدِ وحقوقِ العبادِ على العبدِ - أيضًا - وجعلَ العبادَ(1/333)
الذينَ أمرَ بالإحسانِ إليهم خمسةَ أنواع:
أحدُها: من بينه وبينَ الإنسانِ قرابة، وخصَّ منهُمُ الوالدين بالذِّكرِ.
لامتيازِهِمَا عن سائرِ الأقاربِ بما لا يشْركونهما فيه، فإنهما كانا السببَ في
وجودِ الولدِ ولهما حقُّ التربيةِ والتأديبِ وغيرِ ذلك.
الثاني: منْ هو ضعيف محتاج إلى الإحسان وهو نوعانِ: من هو محتاج
لضعفِ بدنِهِ، وهو اليتيمُ، ومن هو محتاج لقلَّةَ مالِهِ، وهو المسكينُ.
والثالثُ: منْ له حقُّ القُربِ والمخالطةِ، وجعلَهُم ثلاثةَ أنواعْ جار ذو
قُربى، وجار جُنب، وصاحبُ بالجنبِ.
وقد اختلفَ المفسرونَ في تاويلِ ذلكَ، فمنهُم من قالَ: الجارُ ذو القُربى:
الجارُ الذي له قرابة، والجارُ الجُنب: الأجنبيّ، ومنهم من أدخلَ المرأةَ في
الجارِ ذىِ القربى، ومنهم من أدخلها في الجار الجنب، ومنهم من أدخلَ
الرَّفيقَ في السَّفرِ في الجارِ الجُنب.
وقد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقولُ في
دعائِهِ: "أعوذُ بك من جارِ السَّوءِ في دار الإقامةِ، فإنَّ جارَ الباديةَ يتحوَّلُ ".
ومنهم من قال: الجارُ ذو القربى: الجارُ المسلمُ، والجارُ الجنبُ: الكافرُ.
وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ جابرٍ مرفوعًا:
"الجيرانُ ثلاثة: جار له حقّ واحد وهو أدنى الجيرانِ حقًّا، وجاز له حَقَّانِ، وجاز له ثلاثةُ حقوقٍ، وهو أفضلُ الجيرانِ حقًّا.
فأمَّا الذي له حق واحد فجارْ مشركٌ لا رَحِمَ له، له حقُّ الجوارِ، وأمَّا الذي له حقَّانِ، فجارٌ مسلمٌ له حقُّ الإسلام، وحقّ الجوارِ، وأمَّا الذي له ثلاثةُ حقوقٍ، فجارٌ مسلمٌ ذو رحمٍ، له حقُّ الإسلام،(1/334)
وحق الجوارِ، وحقُّ الرحم ".
وقد رُوي هذا الحديثُ من وجوه أخرَ متصلةٍ ومرسلةٍ، ولا تخلو كلُّها منْ
مقال.
وَقيلَ: الجارُ ذو القُربى: هو القريبُ الجوارِ الملاصقُ، والجارُ الجنبُ: البعيدُ
الجوارِ.
وفي "صحيح البخاريِّ ": عن عائشةَ، قالتْ: قلتُ: يا رسولَ اللَّه إنَّ لي
جارينِ، فإلى أيهِمَا أُهدِي؛ قالَ: "إلى أقربِهِمَا منك بابًا".
وقالَ طائفة من السلفِ: حدُّ الجوارِ أربعون دارًا، وقيل: مستدار أربعينَ
دارًا من كل جانبٍ.
وفي "مراسيلِ الزهريِّ ": أن رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يشكُو جارًا له، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ أصحابِهِ أن ينادِي: "ألا إنَّ أربعين دارًا جار".
قال الزهريُّ: أربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، يعني بين يديه ومِن خلفِهِ، وعن يمينِهِ، وعن شمالِهِ.
وسئلَ الإمامُ أحمدُ عمَّن يطبخُ قدرًا، وهو في دار السبيل، ومعه في الدار
نحو ثلاثين أو أربعين نفسًا: يعني أنهم سكان معه في الدارِ، فقال: يبدأ
بنفسِهِ، وبمن يعول، فإن فضلَ فضل، أعطى الأقرب إليه، وكيفَ يُمكنه أن
يُعطِيهُم كلَّهم؛ قيلَ لهُ: لعل الذي هو جارُهُ يتهاونُ بذلكَ القدرِ ليسَ له عنده موقعٌ؛ فرأى أنه لا يبعثُ إليه.(1/335)
وأمَّا الصَّاحبُ بالجنبِ ففسره طائفةٌ بالزَّوجةِ، وفسرهُ طائفة منهم ابنُ
عباسٍ بالرَّفيقِ في السفر، ولم يريدُوا إخراجَ الصاحبِ الملازِمِ في الحضرِ، إنما
أرادُوا أن صحبةَ السفرِ تكفِي، فالصحبةُ الدائمةُ في الحضرِ أوْلى، ولهذا قالَ
سعيدُ بنُ جبيرٍ: هو الرفيقُ الصالحُ، وقالَ زيدُ بنُ أسلمَ: هو جليسُك في
الحضرِ، ورفيقُك في السفرِ، وقالَ ابنُ زيدٍ: هو الرَّجلُ يعتريكَ ويُلِمُّ بك
لتنفعه.
وفي "المسندِ" والترمذيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قال:
"خيرُ الأصحابِ عندَ اللهِ خيرُهم لصاحبِهِ، وخيرُ الجيرانِ عند اللهِ خيرُهُم
لجارِهِ ".
الرابعْ: من هو واردٌ على الإنسانِ، غيرُ مقيم عندَهُ، وهو ابن السبيلِ: يعني
المسافرَ إذا وردَ إلى بلد آخرَ، وفسَّره بعضُهم بالضَّيفِ: يعني به ابنَ السبيلِ إذا نزلَ ضيفًا على أحدٍ.
والخامس: ملكُ اليمين، وقد وصَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم كثيرًا وأمر بالإحسانِ إليهم، ورُوي أنَّ آخرَ ما وصَّى به عندَ موتِهِ:
"الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ".
وأدخل بعضُ السلفِ في هذه الآيةِ: ما يملُكُه الإنسانُ من الحيواناتِ
والبهائم.
* * *(1/336)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
[قال البخاريُّ] : "كتابُ الغُسْلِ "، وقولُ اللَّهِ تعالى: (وَإِن كنتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَروا) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ) ، وقوله: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى) إلى قولِهِ: (عَفُوًّا غَفْورًا) .
صدَّر البخاريُّ - رحمه اللَّهُ - "كتابَ الغُسْلِ " بهاتينِ الآيتينِ، لأن غُسلَ
الجنابةِ مذكورٌ فيهما.
أما قولُه تعالى: (وَإِن كنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّرُوا) ، فأمْر للجنبِ إذا قام إلى
الصلاة أن يتطهَّر.
وتطهُّرُ الجُنبِ هو غُسْلُه، كما في تطهُّر الحائضِ إذ انقطعَ دمُها، ولهذا قال
تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) .
والمرادُ بتطهرهنَّ: اغتسالُهُنَّ عند جمهورِ العلماءِ، فلا يُباحُ وطؤها حتى
تغتسلَ، وسيأتي تفسيرُ الآيةِ في "كتابِ الحيضِ " - إن شاء اللَّهُ تعالى.
وأما قولُه تعالى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، فنهْي عن قُربانِ الجنبِ الصلاةَ
حتى يغتسلَ، فصرَّح هُنا بالغُسْلِ، وهو تفسيرُ التطهيرِ المذكورِ في آيةِ المائدةِ.
وهل المرادُ: نهيُ الجنبِ عن قُربانِ الصلاةِ حتى يغتسلَ، إلا أن يكونَ(1/337)
مسافرًا - وهو عابرُ السبيلِ -، فيعدمُ الماءَ، فيصلِّي بالتيمم؛ أو المرادُ: نهيُ الجنبِ عن قربانِ موضع الصلاةِ - وهو المسجدُ - إلا عابرَ سبيل فيه.
غيرَ جالسٍ فيه، ولا لابث؛ هذا مما اختلفَ فيه المفسرونَ من السلفِ.
وبكلِّ حالٍ؛ فالآيةُ تدلُّ على أن الجنبَ ما لم يغتسلَ مَنْهِيّ عن الصلاةِ، أو
عن دخولِ المسجدِ، وأنَّ استباحةَ ذلك يتوقفُ على الغسلِ، فيُستدلُّ به على وجوبِ الغُسل على الجنبِ إذا أرادَ الصلاةَ، أو دخولَ المسجدِ.
* * *
وقد تأول طائفةٌ من الصحابةِ قولَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقولُونَ وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) .
بأنَّ المرادَ: النهيُ عن قُربانِ موضع الصلاةِ - وهو المسجدُ - في حالِ الجنابةِ، إلا أن يكونَ عابرَ سبيلٍ، وهو المجتازُ به من غيرِ لبثٍ فيه.
وقد رُوي ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وأنسٍ - رضي الله عنهم -.
وفي "المسندِ" عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سدَّ أبوابَ المسجدِ غيرَ بابِ عليٍّ.
قالَ: "فيدخلُ المسجدَ جنبًا، وهو طريقُه ليسَ له طريق غيرُهُ ".
وروى ابنُ أبي شيبة بإسنادِهِ، عن العوامِ، أن عليًا كان يمرُّ في المسجدِ
وهو جنب.(1/338)
وبإسنادِهِ، عن جابرٍ، قالَ: كانَ أحدُنا يمشِي في المسجدِ وهو جنبٌ.
مجتازًا.
وخرَّجه - أيضًا - سعيدُ بنُ منصورٍ وابنُ خزيمةَ في "صحيحِهِ ".
وعن زيدِ بن أسلمَ، قالَ: كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يمشون في المسجدِ، وهمْ جنبٌ.
خرَّجه ابنُ المنذرِ وغيرُه.
* * *
وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ من روايةِ قيسٍ، عن خُصيفٍ، عن مجاهدٍ، في قولِهِ
تعالى: (وَإِن كنتُم مَّرْضَى) ، قالَ: نزلتْ في رجلٍ من الأنصارِ.
كان مريضًا فلم يستطع أن يقومَ فيتوضأ، ولم يكنْ له خادم فيناولَهُ، فأتى
رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك لهُ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى هذهِ الآية.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
قالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ..) ، فمن جاء مع التوحيدِ
بقُرابِ الأرضِ - وهو ملؤُهَا، أو ما يقاربُ ملأَهَا - خطايا، لقيَهُ اللَّهُ بقرابِهَا(1/339)
مغفرة، لكنْ هَذا مع مشيئةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فإن شاء غفرَ له، وإن شاءَ
أخذه بذنوبِهِ، ثم كان عاقبتُهُ ألاَّ يُخلَّدَ في النار، بل يخرج منها، ثم يدخلُ
الجنَةَ.
قال بعضُهم: الموحِّد لا يُلقى في النارِ كما يُلقى الكفارُ، ولا يَلقى فيها ما
يَلقى الكفارُ، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفارُ، فإنْ كَمُلَ توحيدُ العبدِ
وإخلاصُه للَّهِ فيه، وقامَ بشروطِهِ كلها بقلبِهِ ولسانِهِ وجوارحِهِ، أو بقلبِهِ
ولسانِهِ عندَ الموتِ، أوجبَ ذلك مغفرةَ ما سلفَ من الذنوبِ كلِّها، ومنعَهُ من دخولِ النَّارِ بالكليةِ.
فمن تحقَّق بكلمةِ التوحيدِ قَلبُه أخرجَتْ منه كلَّ ما سوى الله محبةً
وتعظيمًا وإجلالا ومهابةً، وخشيةً، ورجاءً وتوكُّلاً، وحينئذٍ تحرَقُ ذنوبه
وخطاياهُ كلُّها ولو كانتْ مثلَ زبدَ البحرِ، وربما قلبتَها حسناتٍ، كما سبق
ذكره في تبديلِ السيئاتِ حسناتٍ، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ، فلو وُضع ذرَّة منها على جبالِ الذنوبِ والخطايا، لقلبها حسناتٍ، كما في "السندِ" وغيره، عن أم هانِئ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا إله إلا اللَّهُ لا تترُكُ ذنبا ولا يسبِقها عمل ".
وفي "المسندِ" عن شدَّادِ بنِ أوسٍ، وعبادة بن الصامت أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِهِ:
"ارفعُوا أيديَكم، وقولُوا: لا إلهَ إلا اللًّهُ "، فرفعنا أيدينا ساعةً، ثم
وضعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ، ثم قالَ: "الحمدُ اللَّهِ، اللهُمَّ بعثتني بهذهِ الكلمةِ، وأمرتنِي بهَا، ووعدتنِي الجنةَ عليْهَا، وإنَّك لا تُخلِفُ الميعادَ"، ثم قالَ: " أبشِرُوا، فإن اللهَ قد غفرَ لكُم".(1/340)
***
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) .
روى نافعٌ مولى يوسف السلمي عن نافع عن ابنِ عمرَ، قالَ: قرأ رجلٌ
عندَ عمرَ هذه الآيةَ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) .
فقال عمرُ: أعِدْ علي فأعادَهَا عليهِ، فقال معاذُ بنُ جبلٍ: عندي تفسيرُها، تبدَّل في الساعةِ الواحدةِ مائةَ مرة، فقال عمرُ: هكذا سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ مردويه.
وخرَّجه ابنُ مردويهِ أيضًا من طريقِ نافع أبي هرمز أنبانا نافعٌ عن ابنِ عمرَ
قال: تلا رجلٌ عندَ عمرَ هذه الآيةَ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، فقال عمرُ: أعِدْه عليَّ، وثَمَّ كعب، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ
أنا عندِي تفسيرُ هذه الآيةِ قرأتُها قبلَ الإسلام، قالَ: فقالَ: هاتِهَا يا كعبُ، فإن جئت به كما سمعتُ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صدَّقناك، وإلا لم ننظرْ إليها.
قالَ: إني قرأتُها قبلَ الإسلامِ: ((كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، في الساعة الواحدة عشرينَ ومائةَ مرة، فقالَ عمرُ: هكذا سمعتُ
من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.(1/341)
نافع أبو هرمزٍ ضعيفٌ جدًّا، وهو نافعُ مولى يوسفَ السلمي أيضًا، عند
طائفةٍ من الحفاظ منهم ابن عدي، ومنهم من قال: هما اثنانِ وكلاهما
ضعيفٌ.
وروى الربيعُ بنُ برةَ عن الفضلِ الرقاشيِّ أنَّ عمرَ سألَ كعبًا عن هذه الآيةِ
فقالَ: إن جلَدَه يحرقُ ويجدَد في ساعةٍ أو في مقدارِ ساعةٍ مائةَ ألفِ مرةٍ.
قال عمرُ: صدقتَ، وهذا منقطعٌ.
وروى ثوير بن أبي فاختة - وهو ضعيفٌ - عن ابنِ عمرَ أنه قالَ في هذه
الآية ِ: إذا أُحرقتْ جلودُهُم بُدلُوا جلودًا بيضاءَ أمثالِ القراطيس.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
وخرَّج أيضًا بإسنادِهِ عن يحي بن يزيدَ الحضرميِّ أنه بلغه في هذهِ الآيةِ.
قالَ: يجعلُ اللَّهُ للكافرِ مائةَ جلدٍ لين كلِّ جلدين لونٌ من العذابِ.
وعن هشامٍ عن الحسنِ في هذهِ الآيةِ، قالَ: تأكلُهُم النارُ كلَّ يومٍ سبعينَ
ألفَ مرةٍ كلما أكلتهم قيلَ لهُم: عودُوا، فيعودُون كما كانوا.
وعن الربيع بنِ أنسٍ، قالَ: مكتوبٌ في الكتابِ الأولِ أن جلدَ أحدِهِم
أربعونَ ذراعًا، وسنَّه تسعونَ ذراعًا، وبطنَهُ لو وُضِعَ فيه جبلٌ لوسعَهُ، فإذا
أكلتِ النارُ جلودَهُم بُدلُوا جلودًا غيرَها.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)(1/342)
وسُئل عكرمة عن أمِّ الولدِ؟
فقالَ: تعتقُ بموتِ سيِّدها فقيلَ لهْ بأيِّ شيء تقولُ؟
قالَ: بالقرآنِ، قالَ: بأيِّ القرآنِ؟
قالَ: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، وعمرُ من أولي الأمر.
وقال وكيعٌ: إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيء، فهو الأمرُ.
ورُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كان يحلفُ بالله: إنَّ الصراطَ المستقيمَ هو الذي
ثبتَ عليه عمرُ حتى دخلَ الجنة.
* * *
قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
قوله تعالى: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) .
قال ابنُ عباسٍ وغيرُهُ؛ القاعدونَ المفضَّلُ عليهم المجاهدونَ درجةً هم
القاعدونَ من أهلِ الأعذارِ، والقاعدونَ المفضَّل عليهم المجاهدون درجات هم
القاعدونَ من غيرِ أهلِ الأعذارِ.(1/343)
قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
[قالَ البخاريُّ] : وقول اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) إلى قولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) .
قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح أَن تَقْصُرُوا منَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
قد ذكر طائفة من السلفِ أنها نزلتْ في صلاةٍ في السفرِ، لا في صلاةِ
السفرِ بمجردِهِ، ولهذا ذكرَ عقيبها قولَه تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) .(1/344)
ثمَّ ذكر صفةَ صلاةِ الخوفِ، فكان ذلك تفسيرًا للقَصْرِ
المذكورِ في الآيةِ الأولى.
وهذا هو الذي يُشير إليه البخاريُّ، وهو مَرْوي عن مُجاهد والسُّدِّيِّ
والضَّحَّاكِ وغيرِهِم، واختارَهُ ابنُ جريرٍ وغيرُهُ.
وتقديرُ ذلك من وَجْهَيْنِ:
أحدُهُما: أنَّ المراد بقصرِ الصلاةِ قصرُ أركانِها بالإيماءِ ونحوهِ، وقصرُ عددِ
الصلاةِ إلى ركعةٍ، فأمَّا صلاة السفرِ، فإنها ركعتانِ، وهي تمامٌ غيرُ قصرٍ، كما قاله عمرُ - رضي الله عنه -.
ورَوى سماكٌ الحنفيُّ، قالَ: سمعتُ ابنَ عمرَ، يقولُ: الركعتانِ في السفرِ
تمامٌ غيرُ قصرٍ، إنما القصرُ صلاةُ المخافةِ.
خرَّجه ابنُ جريرٍ وغيرُه.
ورَوى ابنُ المباركِ عن المسْعُودِيِّ، عن يزيدَ الفقِيرِ، قالَ: سمعتُ جابرَ بنَ
عبدِ اللَّهِ يُسألُ عن الركعتينِ في السفرِ، أقصْرٌ هُما؟
قال: إنَّما القصرُ ركعةٌ عند القتال، وإن الركعتينِ في السفرِ ليستا بقصرٍ.
وخرَّج الجوزَجانيُّ من طريقِ زائدةَ بنِ عُميرٍ الطَّائيِّ، أنه سأل ابنَ عباسٍ
عن تقصيرِ الصلاةِ في السفرِ، قال: إنها ليستْ بتقصير، هما ركعتانِ من حين
تخرجُ من أهلِكَ إلى أن ترجعَ إليهم.(1/345)
وخرَّج الإمامُ أحمد بإسنادٍ منقطع، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: صلَّى
رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ركعتينِ ركعتينِ، وحين أقامَ أربعًا أربعًا، وقال ابن عباسٍ: فمن صلَّى في السفرِ أربعًا كمن صلَّى في الحضرِ ركعتينِ. وقال ابنُ عباسٍ.
لم تُقصر الصلاةُ إلا مرَّةً واحدةً حيثُ صلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ركعتنِ، وصلَّى الناسُ ركعةً واحدةً.
يعني: في الخوفِ.
وروى وكِيع، عن سفيانَ، عن سالمٍ الأفْطسِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قالَ:
صلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ ركعةً ركعةً.
قال سعيد: كيف تكون مقصورةً وهما ركعتانِ.
والوجهُ الثاني: أن القصرَ المذكورَ في هذهِ الآيةِ مطلق، يدخلُ فيه قصرُ
العددِ، وقصرُ الأركانِ، ومجموعُ ذلك يختصُّ بحالةِ الخوفِ في السفرِ، فأمَّا
إذا انفردَ أحدُ الأمرينِ - وهو السفرُ أو الخوف - فإنه يختصّ بأحدِ نوعي
القصرِ، فانفرادُ السفرِ يختصُّ بقصرِ العددِ، وانفرادُ الخوفِ يختصُّ بقصرِ
الأركانِ.
لكنْ هذا مما لم يُفهم من ظاهرِ القرآنِ، وإنما بيَّن دلالته عليه رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، والآيةُ لا تنافيه، وإن كانَ ظاهرُها لا يدلُّ عليه، والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
وقيلَ: إنَّ قولَه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تقصُروا مِنَ الصَّلاةِ)(1/346)
نزلتْ بسببِ القصر في السفرِ من غيرِ خوفٍ، وأنَّ بقيةَ
الآية ِ مع الآيتينِ بعدَها نزلتْ بسببِ صلاةِ الخوفِ.
رُوي ذلك عن عليٍّ - رضي الله عنه -.
خرَّجه ابنُ جريرٍ عنه، بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، لا يصحُّ.
واللَّه سبحانه وتعالى أعلمُ.
وقد رُوي ما يدلُّ على أنَّ الآيةَ الأُولى المذكورَ فيها قصرُ الصلاةِ إنما نزلتْ
في صلاةِ الخوفِ.
فروى منصورٌ، عن مجاهدٍ، عن أبي عيَّاشٍ الزرقي، قالما: كنا مع
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان - وعلى المشركينَ خالدُ بنُ الوليدِ - فصلَّيْنا الظهرَ، فقال المشركونَ: لقد أصبْنا غِرَّةً، لقد أصبْنَا غفْلةً، لو كنا حمَلْنا عليهم وهُم في الصلاةِ، فنزلتْ آيةُ القصرِ بينَ الظهرِ والعصرِ، فلما حضرتِ العصرُ قامَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مستقبلَ القبلةِ، والمشركونَ أمامَه، فصفَّ خلفَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
صفٌّ، وصف بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وركعُوا جميعًا، ثم سجدُوا وسجدَ الصفُّ الذين يلُونَه، وقام الآخرونَ يحرسونَهم، فلما صلَّى هؤلاءِ سجدتينِ وقاموا، سجدَ الآخرونَ الذين كانوا خلفَه، ثم تأخَّر الصفُّ الذي يليه إلى مقامِ الآخرينَ، وتقدَّمَ الصفُّ الآخرُ إلى مقامِ الصفِّ الأولِ، ثم ركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وركعُوا جميعًا، ثم سجدَ وسجدَ الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرونَ يحرسونَهم، فلما جلسَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - والصفُّ الذي يليه سجدَ الآخرونَ، ثم جلَسُوا جميعًا فسلَّم عليهم(1/347)
جميعًا، فصلاَّها بعُسْفان، وصلاَّها يومَ بني سُلَيْم.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ - وهذا لفظُه - والنسائيُّ وابنُ حبانَ في
" صحيحِه " والحاكم، وقال: على شرطِهما.
وفي رواية للنسائيِّ وابنِ حبان، عن مجاهدٍ: نا أبو عيَّاشٍ الزرقيُّ.
قالَ: كُنَّا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. . . فذكرَهُ.
ورَدَّ ابنُ حبانَ بذلك على من زعَمَ: أن مجاهدًا لم يسمعْه من أبي عيَّاشٍ.
وأن أبا عياش لا صُحبة له.
كأنه يشيرُ إلى ما نقله الترمذيُّ في "عللِهِ " عن البخاريِّ، أنه قالَ: كلّ
الرواياتِ عندي صحيحٌ في صلاةِ الخوفِ، إلا حديثُ مجاهدِ عن أبي
عياش الزرقيِّ، فإني أراه مرسلاً.
وابن حبانَ لم يَفهْم ما أرادَه البخاريُّ، فإنَّ البخاريَّ لم ينكرْ أن يكونَ أبو
عيَّاشٍ له صحبة، وقد عَدَّة في "تاريخه " من الصحابةِ، ولا أنكرَ سماعَ
مجاهدٍ من أبي عيَّاشٍ، وإنَّما مرادُه: أن هذا الحديثَ الصوابُ: عن مجاهدٍ
إرسالُهُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ ذكرِ أبي عياشٍ، كذلك رواهُ أصحابُ مجاهدٍ، عنهُ بخلافِ روايةِ منصورٍ، عنه، فرواهُ عكرمةُ بنُ خالدٍ وعُمر بن ذَرٍّ وأيوبُ ابنُ موسى ثلاثتُهم عن مجاهدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً من غيرِ ذكرِ أبي عياشٍ.(1/348)
وهذا أصحّ عند البخاريِّ، وكذلكَ صحَّح إرسالَهُ عبدُ العزيز النخشبيُّ
وغيرُهُ من الحفاظِ.
وأما أبو حاتمٍ الرازيُّ، فإنَّه قال - في حديثِ منصور، عن مجاهدٍ، عن
أبي عياشٍ -: إنه صحيحٌ، قيل له: فهذه الزيادةُ "فنزلتْ آيةُ القصرِ بينَ
الظهرِ والعصرِ" محفوظة هي؛ قالَ: نعم.
وقال الإمامُ أحمدُ: كُلُّ حديثٍ رُوي في صلاةِ الخوفِ فهو صحيحٌ.
وقد جاءَ في روايةٍ: فنزلتْ: (وَإِذَا كنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) .
وهذا لا ينافي روايةَ: "فنزلتْ آيةُ القصرِ" بل تبيَّن أنه لم تنزل آيةُ القصرِ
بانفرادِها في هذا اليومِ، بل نزل معها الآيتانِ بعدَها في صلاةِ الخوفِ.
وهذا كلّه مما يشهد بأن آية القَصْرِ أُريدَ بها قصْرُ الخوفِ في السفرِ، وإنْ
دلَّت على قصرِ السفرِ بغيرِ خوفٍ بوَجْهٍ من الدلالةِ، واللَّهُ سبحانه وتعالى
أعلمُ.
[قالَ البخاريُّ] : نا أبو اليمانِ: ثنا شُعيْب عن الزُّهريِّ، قالَ: سألتُهُ:
هلْ صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ؟
فقالَ: أخبرني سالمٌ أنَّ عبدَ اللَّه بنَ عُمرَ.
قالَ: غزوتُ معَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ نَجْدٍ، فوازَيْنا العدُوَّ، فصاففنا لهُم، فقام رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي لنا، فقامتْ طائفةٌ معَهُ وأقْبلتْ طائفة على العدوِّ، وركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بمن معَهُ وسجدَ سجْدتيْنِ، ثمَّ انصرفُوا مكانَ الطائفة
التي لم تُصَلِّ، فجاءُوا فركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعةً وسجدَ سجْدتينِ، ثم سلَّمَ، فقامَ كُل واحدٍ منهم فركعَ لنفْسِهِ ركعة وسجدَ سجدتينِ ".(1/349)
وخرَّجه في موضع آخرَ من روايةِ معمرٍ.
وخرَّجه مسلمٌ من روايةِ معمرٍ وفُلَيْح كلاهُما، عن الزهريِّ، به - بمعناه.
وقد رُوي عن حُذيفةَ نحوُ روايةِ ابنِ عمرَ - أيضًا.
خرَّجه الطبرانيُّ من روايةِ حكَّام بنِ سلْم، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن
قتادةَ، عن أبي العاليةِ، قالَ: صلَّى بَنا أبو موسى الأشْعريُّ بأصبهانَ صلاةَ
الخوفِ، وما كانَ كبيرُ خوْفٍ؛ ليريَنا صلاةَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقام فكبَّرَ، وكبَّرَ معه طائفة من القومِ، وطائفة بإزاء العدوِّ، فصلَّى بهم ركعة فانصرفوا، وقامُوا مقامَ إخوانِهِم، فجاءت الطائفةُ الأخرى فصلَّى بهم ركعةً أخرى، ثم سلَّمَ، فصلَّى كل واحدٍ منهمُ الركعةَ الثانية وُحْدَانًا.
ورواه سعيدُ بنُ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن أبي العاليةِ، أنَّ أبا موسى كان
بالدارِ من أرضِ أصبهانَ، وما بها كَبيرُ خوفٍ، ولكن أحب أن يعلِّمهم دينَهم
وسنةَ نبيِّهم، فجعلَهم صفَّينِ: طائفةً معها السلاحُ مُقْبِلةً على عدوِّها، وطائفةً من ورائهَا، فصلَّى بالذين بإزائِه ركعةً، ثم نكصُوا على أدبارِهم حتى قامُوا مقامَ الأخرَى، وجاءُوا يتخفَلونَهم حتى قاموا وراءَه فصلَّى بهم ركعةً أخرَى، ثم سلَّم، فقام الذين يلونَه والآخرونَ فصلَّوا ركعةً ركعةً، ثم سلَّم بعضُهم على بعضٍ، فتمَّتْ للإمامِ ركعتانِ في جماعةٍ، وللناسِ ركعةٌ ركعة.(1/350)
يعني: في جماعةٍ.
خرَّجه ابنُ أبي شيبة، وعنه بقيُّ بنُ مَخْلدٍ في "مسندهِ ".
وهو إسنادٌ جيدٌ.
وهو في حكمُ المرفوع، لما ذكر فيه من تعليمِهم بسُنةِ نبيِّهم.
ورواه أبو داود الطيالسيُّ، عن أبي حُرَّةَ، عن الحسنِ، عن أبي موسى، أنَّ
رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابهِ - فذكرَ نحوَه، وفيه زيادةٌ على حديثِ ابنِ عُمرَ: أنَّ الطائفة الأولى لما صلَّت ركعة وذهبتْ لم تستدبر القبلةَ، بل نَكَصَتْ على أدبارِها.
ورُويَ - أيضًا - عن ابنِ مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، من روايةِ خُصَيفٍ، عن أبي عُبيدةَ، عن عبدِ اللَّهِ، قالَ: صلَّى بنا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ، فقامُوا صفَّين، فقامَ صفٌّ خلفَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وصفٌّ مُستقبلَ العدوِّ، فصلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالصفِّ الذين يلُونَه ركعةً، ثم قامُوا
فذهبُوا، فقامُوا مقامَ أولئك مستقبلي العدوِّ، وجاءُوا أولئك فقامُوا مقامَهم.
فصلَّى بهم رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ركعةً، ثم سلَّم، ثم قامُوا فصلَّوا لأنفسِهِم ركعةً، ثم سلَّموا ثم ذهبُوا، فقامُوا مقامَ أولئك مستقبلي العدوِّ، ورجع أولئك إلى مقامِهِم، فصلَّوْا لأنفسهِمِ ركعةً ثم سلَّموا.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ - وهذا لفظُه - وأبو داودَ - بمعناه.
وخُصَيفٌ، مختلَفٌ في أمر، وأبو عُبيدةَ لم يسمعْ من أبيهِ، لكن(1/351)
رواياتُه عنه أخذَها عن أهلِ بيتِه، فهي صحيحة عندهم.
وهذه الصفةُ توافقُ حديثَ ابنِ عمرَ وحذيفةَ، إلا في تقدُّمِ الطائفةِ الثانيةِ
بقضاءِ ركعةٍ، وذَهابهم إلى مقامِ أولئك مستقبلي العدوِّ، ثم مجيءِ الطائفة
الأولَى إلى مقامِهم فقضوْا ركعةً.
وحديثُ ابنِ عمرَ وحذيفةَ فيهما: قيامُ الطائفتينِ يقضُون لأنفسِهِم.
وظاهرُهُ: أنهم قامُوا جملةً وقضَوْا ركعة ركعةً وُحْدَانًا.
وقد رواه جماعة، عن حصيف، عن أبي عُبيدةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وزادُوا
فيه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كبَّر وكبَّر الصفاَّنَ معه جميعًا.
وقد خَرَّجه كذلك الإمامُ أحمدُ وأبو داود.
وزاد الإمامُ أحمدُ: "وهمْ في صلاةٍ كلُّهم ".
واختلفَ العلماءُ في صلاةِ الخوفِ على الصفةِ المذكورةِ في حديثِ ابنِ
عُمرَ وما وافقَهُ:
فذهبَ الأكثرونَ إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرُها أفضلَ منها، هذا
قولُ الشافعيِّ - في أصحِّ قوليه - وأحمدَ وإسحاقَ وغيرِهم.
وقالت طائفةٌ: هي غيرُ جائزة على هذه الصفةِ، لكثرةِ ما فيه من الأعمالِ
المباينةِ للصلاةِ من استدبارِ القبلةِ والمشىِ الكثيرِ، والتخلُّفِ عن الإمامِ، وادَّعَوا أنها منسوخة، وهو أحدُ القولينِ للشافعيِّ.
ودعوى النسخ ها هنا لا دليلَ عليها.(1/352)
وقالتْ طائفة: هي جائزةٌ كغيرِها من أنواع صلاةِ الخوفِ الواردةِ عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، لا فضلَ لبعضِها على بعضٍ، وهو قولُ إسحاقَ -: نقله عنه ابن ُمنصورٍ.
ونقلَ حرب عن إسحاقَ، أن حديثَ ابنِ عمرَ وابنِ مسعودٍ يعملُ به إذا
كانَ العدوُّ في غير جهةِ القبلةِ.
وكذلك حكى بعضُ أصحابِ سفيانَ كلامَ سفيانَ في العملِ بحديثِ ابنِ
عُمرَ على ذلك.
وقالتْ طائفة: هي أفضلُ أنواع صلاةِ الخوفِ، هذا قولُ النخعيِّ، وأهلِ
الكوفةِ وأبي حنيفةَ، وأصحابِهِ، ورواية عن سفيانَ، وحكيَ عن الأوزاعيِّ
وأشهبَ المالكيِّ.
وروى نافع، أنَ ابنَ عمرَ كان يعلِّم الناسَ صلاةَ الخوفِ على هذا الوجهِ.
وحُكِي عن الحسنِ بنِ صالح، أنه ذهبَ إلى حديثِ ابنِ مسعودٍ، وفيه: أن
الطائفةَ الثانيةَ تصلِّي مع الإمامِ الركعةَ الثانيةَ، ثم إذا سلَّم قضتْ ركعةً، ثم
ذهبتْ إلى مكانِ الطائفةِ الأولى، ثم قضت الطائفةُ الأولَى ركعةً، تم تسلِّمُ.
وقد قيلَ: إنَّ هذا هو قولُ أشهبَ.
وحكَى ابنُ عبدِ البر، عن أحمدَ، أنَّه ذهبَ إلى هذا - أيضًا.
وقال بعضُ أصحابِنا: هو أحسنُ من الصلاةِ على حديثِ ابنِ عمر" لأنَّ
صلاةَ الطائفةِ الثانيةِ خلتْ عن مفسدٍ بالكليةِ.(1/353)
وحُكي عن أبي يوسفَ ومحمدٍ والحسنِ بن زيادٍ والمزَنيِّ: أنَّ صلاةَ الخوفِ
لا تجوز بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لظاهرِ قولِ اللَّهِ تعالى: (وَإِذَا كنتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم مَّعَكَ) الآية.
قالُوا: وإنَّما يصلِّي الناسُ صلاةَ الخوفِ بعدَهُ بإمامين، كلُّ إمامٍ يصلي
بطائفةٍ صلاةً تامةً، ويسلِّم بهم.
وهذا مردودٌ بإجماع الصحابةِ على صلاتِها في حروبِهم بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد صلاَّها بعدَهُ: عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وحذيفةُ بنُ اليمانِ، وأبو موسى الأشعريُّ، مع حضورِ غيرِهم من الصحابةِ، ولم ينكرْه أحدٌ منهم.
وكان ابنُ عمرَ وغيرُه يعلِّمون الناسَ صلاةَ الخوفِ، وجابرٌ، وابنُ عباس
وغيرُهما يروونها للناس تعليمًا لهم، ولم يقل أحدٌ منهم: إن ذلك من
خصائصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخطابُه - صلى الله عليه وسلم - لا يمنعُ مشاركةَ أُمَّتِه له في الأحكام، كما في قوله تعالى: (يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) .
وقوله. (خُذ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) .
وحُكي عن مالكٍ، أنها تجوزُ في السفرِ دون الحضرِ، وهو قول عبدِ الملكِ
ابنِ الماجشونِ من أصحابِهِ.
ويحتجُّ له بحملِ آيةِ القصرِ على صلاةِ الخوفِ، وقد شُرط لها شرطانِ:
السفرُ والخوفُ، كما سبقَ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كان يصلِّي صلاةَ الخوفِ في(1/354)
أسفارِهِ، ولم يصلِّها في الحضرِ مع أنه حُوصرَ بالمدينةِ عامَ الخندقِ، وطالتْ
مدةُ الحصارِ، واشتدَّ الخوفُ، ولم يصلِّ فيها صلاةَ الخوفِ.
وقد قيلَ: إنَّ صلاةَ الخوفِ إنَّما شُرعتْ بعدَ غزوةِ الأحزاب في السنةِ
السابعةِ.
وقد ذكرَ البخاريُّ في "المغازي " من "كتابِهِ " هذا - تعليقًا - من حديثِ
عِمرانَ القطَّانِ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن أبي سلمةَ، عن جابرٍ، قال:
صلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابِهِ في الخوفِ في غزوةِ السابعةِ: غزوةِ ذاتِ الرقاع.
وخرَّجه الإمامُ أحمد من روايةِ ابنِ لهيعةَ، عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ.
قالَ: غزَا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّ مِرَارٍ قبلَ صلاةِ الخوفِ، وكانتْ صلاةُ الخوفِ في السابعةِ.
وقد تقدَّمَ في حديثِ أبي عيَّاشٍ، أنَّ أولَ صلاةِ الخوفِ كانت بعُسْفانَ.
وعلى المشركين خالدٌ.
وقد روى الواقديُّ بإسنادٍ له، عن خالدِ بنِ الوليدِ، أنَّ ذلك كان في
مخْرج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمرةِ الحديبيةِ.
وقد تقدَّمَ أنَّ أبا موسى صلَّى بأصبهَانَ هذه الصلاةَ، ولم يكن " هناك كبيرُ
خوفٍ، وإنَّما صلَّى بهم ليعلِّمَهم سنةَ صلاةِ الخوفِ.
وهذا قد يحملُ على أن كانَ ثمَّ خوفٌ يُبيحُ هذه الصلاةَ، ولم يكن وُجد(1/355)
خوفٌ شديدٌ يبيحُ الصلاةَ بالإيماءِ.
وقد قالَ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيّ: لو صلَّى صلاةَ الخوفِ على ما في
حديثِ ابنِ عُمرَ في غيرِ خوف لم تصح صلاةُ المأمومين كلهم؛ لإتيانِهِم بما لا
تصحُّ معه الصلاةُ في غيرِ حالةِ الخوفِ من المشي والتخلّفِ عن الإمامِ.
فأما الإمامُ، فلأصحابِنا في صلاتِهِ وجهانِ، بناءً على أنَّ الإمامَ إذا بَطَلَتْ
صلاةُ منْ خلفَه، فهل تبطلُ صلاتُهُ لنيته الإمامةَ وهو منفردٌ، أو يتمُّها منفردًا
وتصحُّ؛ وفيه وجهان للأصحابِ.
* * *
قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
[قالَ البخاريُّ] : وقولُ الله عزَّ وجلِّ: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ علَى الْمُؤْمِنِينَ
كتَابًا مَّوْقُوتًا) ، مُوَقَتَا، وَقًّتَهُ علَيْهِم.
أمَّا "الكتابُ " فالمرادُ به: الفرْضُ ولم يُذْكَر في القرآن لفظُ الكتاب وما
تصرَّف منه إلا فيما هو لازِم: إمَّا شرعًا، مثل قوله: (كُتِبَ عَلَيْكمْ الصِّيَامُ)
، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) ، وقوله: (كتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) .
وإمَّا قدرًا، نحو قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَن أَنَا وَرُسُلِي) .
وقوله: (وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) .(1/356)
وأما قوله: (مَوْقُوتًا) ففيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى المؤقَتِ في أوقات معلومة، وهو قولُ ابنِ مسعودٍ
وقتادةَ وزيد بن أسلمَ، وهو الذي ذكره البخاريّ هنا، ورجَّحه ابنُ قُتيبةَ وغيرُ واحدٍ.
قال قتادةُ في تفسيرِ هذهِ الآيةِ: قال ابنُ مسعود: إنَّ للصلاةِ وقتًا كوقتِ
الحجَ.
وقال زيدُ بنُ أسلمَ: مُنجَّمًا، كلما مضى نَجْمٌ جاء نَجْمٌ، يقول: كلما
مضى وقت جاء وقت.
وقالتْ طائفةٌ: معنى (مَوْقُوتًا) : مفروضًا أو واجبًا: قاله
مجاهدٌ والحسنُ وغيرُهُما.
ورَوَى عليّ بن أبي طلحة، عن ابنِ عباس، قال: يعني: مفروضًا.
وتأوَّل بعضُهم الفرضَ هنا على التقدير، فرَجعَ المعنى حينئذٍ إلى تقديرِ
أعدادِها ومواقيتِها، واللَّهُ أعلمُ.
وقال الشافعيّ: الموقوتُ - واللَّهُ أعلمُ -: الوقتُ الذي تُصلَّى فيه
وعددُها.(1/357)
قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
وقوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
فنَفَى الخيرَ عن كثيرٍ مما يتناجى به الناسُ إلا في الأمرِ بالمعروفِ، وخصَّ
من أفرادِهِ الصَّدقةَ والإصلاحَ بينَ الناسِ لعمومِ نفعِهِما، فدلَّ ذلكَ على أنَّ
التناجِي بذلكَ خير، وأمَّا الثوابُ عليه مِنَ اللَّهِ، فخصَّه بمنْ فعله ابتغاءَ
مرضاتِ اللَّهِ.
وإنَّما جعلَ الأمرَ بالمعروفِ مِنَ الصَّدقة والإصلاح بينَ الناسِ وغيرِهما
خيرًا، وإنْ لم يُبْتَغَ به وجهُ اللَّهِ، لما يترَتَّبُ على ذلكَ منَ النَّفعْ المُتعدِّي.
فيَحْصُلُ به للناسِ إحسانٌ وخيرٌ، وأمَّا بالنسبةِ إلى الأمرِ، فإن قَصَدَ به وجْهَ
اللهِ، وابتغاءَ مرضاتِهِ، كان خيرًا له وأُثِيبَ عليه، وإنْ لم يقصدْ ذلك، لم
يكن خيرًا له، ولا ثوابَ له عليه.
وهذا بخلافِ من صامَ وصلَّى وذكرَ اللَّهَ، يَقصدُ بذلك عَرَضَ الدنيا، فإنَّه
لا خيرَ له فيه بالكُليّة، لأنَّه لا نفعَ في ذلكَ لصاحبِهِ، لما يترتَّب عليه من
الإثم فيهِ، ولا لغير؛ لأنَّه لا يتعدَّى نفعُه إلى أحدٍ، اللَّهُمَّ إلا أنْ يحصُلَ
لأحدٍ به اقتداء في ذلك.
* * *(1/358)
قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ عائشةَ أنها سألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قولِهِ تعالى: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) .
وعن قولِهِ: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، فقال: "هذه معاتبةُ اللَّهِ العبدَ بما
يصيبُه من الحمَّى، والنكبةِ، حتى البضاعةِ يضعها في جيبِ قميصِه، فيفقدُها، فيفزعُ لذلك، حتَّى إنَّ العبدَ ليخرجَ من ذنوبِهِ، كما يخرجُ التَبْر الأحمرُ من الكِيرِ".
وقال: حسنٌ غريب.
* * *
وفي الترمذي عن أبي بكرٍ الصديقِ أنه كانَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقرأ هذه الآيةَ حين أنزلتْ: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
قالَ: ولا أعلم إلا أنِّي وجدتُ في ظهري انفصامًا، فتمطأتُ لَهَا.
وقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وأيُّنا لم يعملْ سوءًا؟ أو إنَّا لمجزيون بما عملْنَا؟
فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا أنت يا أبا بكرٍ والمؤمنونَ، فتجزونَ بذلكَ في الدُّنيا، حتى تلقوا اللَّهَ وليس لكم ذنب وأمَّا الآخرونَ
فيجمعُ ذلك لهم حتَّى يُجزوا به يومَ القيامةِ".
وفي "مسندِ بقيِّ بن مَخْلَدٍ" بإسنادٍ جيدٍ - عن عائشةَ أنَّ رجلاً تلا هذه
الآية: (مَن يَعْمَلْ سوءًا يجْزَ بِهِ) ، فقالَ: إنا لَنُجْزَى بكلِّ عملٍ
عملنا؛ هلكنا إذًا! فبلغَ ذلكَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "نعم، يُجزى به المؤمنُ في(1/359)
الدنيا، في نقسِهِ، في جسدِهِ فما دونَهُ.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
حقُّ اللَّهِ على عبادِهِ أن يتَقُوهَ حقَّ تقاتِه، والتَّقوى وصيةُ اللهِ للأولينَ
والآخرينَ، قالَ تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) .
وأصلُ التقوى: أن يجعل العبدُ بينه وبينَ ما يخافُهُ ويحذرُهُ وقايةً تقيهِ منه.
فتقوى العبدِ لربِّه أن يجعلَ بينَه وبينَ ما يخشاهُ من رّبه من غضبِهِ وسخطِهِ
وعقابِهِ وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعلُ طاعتِهِ واجتنابُ معاصيهِ.
وتارةً تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ عزَّ وجلَّ، كقولِهِ تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانَهَ وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطَهُ وغضبَهُ.
وهو أعظمُ ما يُتَّقَى، وعن ذلكَ ينشأ عقابُهُ الدنيويُّ والأخرويُّ.
قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
وقال تعالى: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، فهوَ(1/360)
سبحانَهُ أهلٌ أن يُخشى ويُهابَ، ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عبادِهِ حتَّى يعبدوُهُ
ويُطيعوهُ، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمةِ وقوَّة البطشِ، وشدَّةِ البأسِ.
وفي الترمذيِّ عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذهِ الآيةِ: (هُوَ أَهْلُ التَّقوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، قال: "قال اللَّهُ تعالى: أنا أهلٌ أنْ أُتَّقى، فمنْ اتقاني فلم يَجْعَل معِي إلهًا آخرَ، فأنا أهْل أن أغْفِرَ له ".
وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقابِ اللَّهِ وإلى مكانِهِ، كالنارِ، أو إلى زمانِه.
كيومِ القيامةِ، كما قالَ تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) .
وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ) ، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ) .
(وَاتَّقُوا يَومًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) .
ويدخلُ في التقوى الكاملةِ فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرَّماتِ والشبهاتِ.
وربما دخلَ فيها بعدَ ذلكَ فعلُ المندوباتِ، وتركُ المكروهاتِ، وهيَ أعْلى
درجاتِ التَّقوى، قالَ اللَّهُ تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) .
وقال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .(1/361)
قال مُعُاذُ بنُ جبلٍ: يُنادَى يومَ القيامةِ: أين المتقونَ؟ فيقومون في كَنَفٍ من
الرحمنِ لا يحتجِبُ منهُم ولا يستترُ، قالُوا لَهُ: مَن المتَّقونَ؟
قال: قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثانِ، وأخلصُوا للَّهِ بالعبادةِ.
وقالَ ابنٍ عباسٍ: المتَقونَ الذين يحْذَرون من اللَهِ عقوبتَه في تركِ ما يعرِفُون
من الهُدى، ويَرجونَ رحمته في التصديقِ بما جاء به.
وقال الحسنُ: المتقونَ اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهِم، وأدَوا ما افْتُرِص عليهم.
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيزِ: ليسَ تقوى اللَهِ بصيامِ النهارِ، ولا بصيامِ الليلِ.
والتخليطِ فيما بيْنَ ذلكَ، ولكن تقوى اللَّهِ تركُ ما حرَّم اللَّهُ، وأداءُ ما افترضَ اللَّه، فمن رُزِقَ بعدَ ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خيرٍ.
وقال طلقُ بن حبيبٍ: التَّقوى أن تعملَ بطاعة اللَّهِ على نورٍ من اللَّهِ ترجُو
ثوابَ اللَّه، وأن تتركَ معصيةَ اللَّهِ على نورٍ من اللهِ تخافُ عقابَ اللهِ.
وعن أبي الدرداءِ قالَ: تمامُ التقوى أن يتقيَ اللَّهَ العبدُ حتى يتقيَة من مثقال
ذرَّه، حتى يترك بعضَ ما يرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكونَ حرامًا يكونَ حجابًا
بينه وبين الحرامِ، فإنَّ اللَهَ قد بيَّنَ للعبادِ الذي يُصيرِهم إليه فقال:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
فلا تحقرنَّ شيئًا من الخيرِ أن تفعلَهُ، ولا شيئًا من الشرِّ أن تتقيَهُ.
وقال الحسنُ: ما زالتِ التَّقوى بالمتقينَ حتَّى تركُوا كثيرًا من الحلالِ مخافةَ
الحرامَ.
وقال الثوريُّ: إنَّما سُمُّوا متقينَ، لأنهم اتقوْا ما لا يُتَّقَى.
وقال موسى بنُ أعْينَ: المتقونَ تنزَّهوا عن أشياءَ من الحلالِ مخافةَ أن يقعُوا(1/362)
في الحرامِ، فسماهُم اللَّهُ متقينَ.
وقد سبقَ حديثُ: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتقينَ حتَى يدعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأس ".
وحديث: "من اتَقى الشبهاتِ استبرأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ ".
وقال ميمونُ بنُ مِهرانُ: المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسِهِ، من الشريكِ الشحيح
لشريكه.
وقال ابنُ مسعودٍ في قولِهِ تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) .
قال: أن يُطاعَ، فلا يُعصَى، ويُذكرُ فلا يُنْسَى، وأن يُشكرَ، فلا يُكفر.
وخرَّجه الحاكمُ مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ، وشكرُه يدخلُ شيه جميعُ
فعلِ الطاعاتِ.
ومعنى "ذكره فلا يُنْسى": ذكرُ العبدِ بقلبِهِ لأوامرِ اللَّهِ في حركاتِهِ وسكناتِهِ
وكلماتِهِ فيمتثلها، ولنواهِيهِ في ذلكَ كلِّه فيجتنبهَا.
وقد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتنابِ المحرَّماتِ، كما قالَ أبو هريرةَ
وسئلَ عن التَّقوى، فقالَ: هلْ أخذتَ طريقًا ذا شوْك؟
قالَ: نعم، قالَ: فكيف صنعتَ؟
قالَ: إذا رأيتُ الشوكَ عدلتُ عنه، أو جاوزتُه، أو قصرتُ
عنه، قال: ذاك التَّقوى.
وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خلِّ الذنُوب صَغيرَها. . . وكبيرَها فهوَ التُّقَى(1/363)
واصْنَع كماشٍ فَوْقَ أرْ. . . ضِ الشَّوْكِ يحْذَرُ ما يرَى
لا تحْقِرَنَ صغيرةً. . . إن الجبالَ من الحَصَى
وأصلُ التَّقوى: أن يعلمَ العبدُ ما يُتَّقى ثم يتَّقِي.
قال عونُ بن عبدِ اللَّهِ:
تمامُ التقوى أن تبتغيَ علمَ ما لم تعلمْ منها إلى ما علمتَ منها.
وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ، قال: كيف يكون متقيًا من لا
يدري ما يَتَّقي؟
ثم قال معروفٌ: إذا كنتَ لا تحسنُ تتقي أكلتَ الرِّبا، وإذا
كنتَ لا تُحسن تتقي لقيتك امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرَك، وإذا كنتَ لا تحسنُ تتقي وضعتَ سيفَكَ على عاتقِكَ.
وقد قالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمدِ بنِ مسلمةَ:
"إذا رأيتَ أُمَّتي قد اختلفَتْ، فاعمدْ إلى سيفِكَ فاضْرِبْ به أُحُدًا".
ثم قال معروفٌ: ومجلسِي هذا لعلَّهُ كان ينبغي لنا أن نتَّقيَه، ثم قالَ:
ومجيئكم معِي من المسجدِ إلى هَاهُنا كان ينبغِي لنا أن نتقيَهُ، أليس جاءَ في
الحديثِ: "إنه فتنة للِمَتْبُوع، مذلةٌ للتابع ".
يعني: مشيَ الناسِ خلفَ الرجلِ.
وفي الجملةِ، فالتقوى هي وصيةُ اللَّهِ لجميع خلْقِهِ، ووصيةُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأمتِهِ، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - إذا بَعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أوصاهُ في خاصةِ نفسهِ بتقوى اللَّهِ، وبمن معهُ من المسلمينَ خيرًا.(1/364)
ولما خطبَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداع يومَ النَّحرِ وصَّى الناسَ بتقوى اللَّهِ وبالسمع والطاعةِ لأئمتِهِم.
ولما وعَظَ الناسَ، وقالُوا له: كأنَّها موعظةُ مودعٍ فأوصِنَا، قالَ:
"أُوصيكم بتقْوَى اللهِ والسَّمعْ والطَّاعةِ".
وفي حديثِ أبي ذزٍّ الطويلِ الذي خرَّجهُ ابنُ حبانَ وغيرُه:
قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أوصِني، قالَ: "أوصيكَ بتقوى اللهِ، فإنَه رأسُ الأمرِ كلِّهِ ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريَ، قالَ.
قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أوصِنِى، قالَ: "أوصيكَ بتقوى اللَّهِ، فإنَّه رأسُ كل شيءِ، وعليكَ بالجهادِ، فإنَّه رهبانيةُ الإسلام".
وخرَّجه غيرُه ولفظُهُ: قالَ: "عليكَ بتقوى اللَّهِ، فإنها جِماعُ كلِّ خيرٍ".
وفي الترمذيِّ عن يزيدَ بنِ سلمةَ: أنه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسولَ اللَّهِ، إني سمعتُ منكَ حديثًا كثيرًا فأخافُ أن ينسنِي أوَّلَه آخرُه، فحدَثني بكلمة تكونُ جِماعًا، قالَ: "اتَقِ اللَّه فيما تعْلَمُ ".
ولم يزلِ السلفُ الصالحُ يتَواصَوْنَ بِهَا، كان أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه -، يقولُ في خطبتِهِ: أما بعدُ، فإنِّي أُوصيكُم بتقْوَى اللَّهِ، وأن تُثْنُوا عليه بما هو أهلُهُ،(1/365)
وأن تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبةِ، وتجمعُوا الإلحافَ بالمسألةِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل أثنى على زكريا وأهلِ بيتِهِ، فقالَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) .
ولمَّا حضرتهُ الوفاةُ، وعهدَ إلى عمرَ، دعاهُ فوصَّاهُ بوصيَّةٍ، وأوَّلُ ما قالَ
لهُ: اتَّقِ اللَّهَ يا عُمرُ.
وكتبَ عُمَرُ إلى ابنِهِ عبدِ اللَهِ: أمَّا بعدُ، فإني أوصيك بتقوى اللَّهِ عزَّ
وجلَّ، فإنَّه من اتَّقاه وقاهُ، ومنْ أقرضَهُ جزاه، ومنْ شكرهُ زاده، فاجعلِ
التَّقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل عليٌّ بنُ أبي طالبٍ رجلاً على لسَرِيَّةٍ، فقالَ لَهُ: أُوصيكَ بتقوى
اللَّهِ عزَّ وجلَّ الذي لا بُدَّ لك من لقائِهِ، ولا مُنتهى لك دونَه، وهو يَمِلكُ
الدنيا والآخرة.
وكتبَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى رجلٍ: أُوصيكَ بتقْوَى اللَّهِ عزَ وجلَّ التي
لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحَمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها، فإنَّ الواعظينَ بها
كثير، والعاملينَ بها قليل، جعلنا اللَّهُ وإيَّاك من المتقينَ.
ولما وُلِّي خطبَ، فحَمِد اللَّهَ، وأثنى عليه، وقالَ: أُوصيكم بتقوى اللَّهِ عزَّ
وجلَّ، فإنَّ تقوى اللَّهِ عزَّ وجلَّ خلف من كلِّ شيءٍ، وليس من تقوى اللَّهِ
خلَفٌ.
وقالَ رجل ليونسَ بنِ عُبيدٍ: أوصِنِي، فقالَ: أُوصيك بتقوى اللَّهِ
والإحسانِ. فإنَّ اللَّهَ مع الذين اتَّقوا والذين هم محسِنُون.(1/366)
وقال له رجل يُريدُ الحَجَّ: أوصِنِي، فقالَ له: اتَّقِ اللَّهَ، فمن اتَّقى اللَّهَ
فلا وحشةَ عليه.
وقيل لرجل من التابعينَ عندَ موتِه: أوصِنَا، فقالَ: أوصيكُم بخاتمةِ سورةِ
النحلِ: (إِنَّ اللَّهَ معَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون.
وكتبَ رجل من السلفِ إلى أخٍ له: أوصيكَ بتقْوَى اللَّه، فإنَّها أكرمُ ما
أسررتَ، وأزينُ ما أظهرتَ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ، أعاننَا اللًّهُ وإيَّاك عليها.
وأوجبَ لنا ولكَ ثوابَها.
وكتبَ رجل إلى أخٍ لهُ: أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقْوى، فإنَّها خيرُ زادِ الآخرةِ
والأُولى، واجعلْهَا إلى كلِّ خيرٍ سبيلكَ، ومنْ كلِّ شرٍّ مهرَبك، فقدْ توكل
اللَّهُ عزَّ وجلَّ لأهلِهَا بالنجاةِ مما يحذرُون، والرزق من حيثُ لا يحتسبونَ.
وقالَ شعبةُ: كنتُ إذا أردتُ الخروجَ، قلتُ للحكم: ألك حاجة؟
فقال: أوصيكَ بما أوصَى به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معاذَ بنَ جبلٍ: "اتَّق اللهَ حيثُما كنتَ، وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ ".
وقد ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقولُ في دعائه: "اللَهُمَّ إني أسألُك الهُدى والتُّقى والعفَّة والغِني ".
* * *(1/367)
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
قال اللَهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) .
وقد قرئ "الدركُ " بسكونِ الراءِ وتحريكِها وهىَ لغتانِ، قال الضحاكُ: الدرْكُ إذا كان بعضُها فوقَ بعضٍ، والدرَكُ إذا كان بعضُها أسفلَ من بعضٍ، وقال غيرُه: الجنةُ درجاتٌ والنارُ دركاتٌ.
وقد تسمَّى النارُ درجاتٍ أيضًا، كما قالَ تعالى بعد أن ذكر أهلَ الجنةِ
وأهلَ النارِ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مَمَّا عَمِلُوا) ، وقال: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) .
قال عبدُ الرحمن بن زيد بنِ أسلمَ: درجاتُ الجنةِ تذهبُ علوًّا
ودرجاتُ النارِ تذهبُ سُفُولاً.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن عكرمةَ في قولِهِ تعالى:
(لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) ، قالَ: لها سبعةُ أطباقٍ.
وعن قتادةَ: (لِّكُلِّ بَاب مِنْهُمْ جُزْءٌ مًقْسُومٌ) ، قال: هي واللَّهِ
منازلٌ بأعمالهم.
وعن يزيدَ بنِ أبي مالكٍ الهمدانيِّ، قال: لجهنمَ سبعةُ نيران تأتلق ليس
منها نارٌ إلا وهي تنظرُ إلى التي تحتَه مخافةَ أن تأكلَها.
وعن ابنِ جريجٍ في قولِهِ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قال: أوَّلها جهنَّمُ.
ثمَّ لظَى، ثم الحطمةُ، ثم السعيرُ، ثم سقر، ثم الجحيمُ، ثم الهاويةُ، وفيها
أبو جهل.
وروى سلامُ المدائنيُّ - وهو ضعيفٌ - عن الحسنِ عن أبي سنانَ عن(1/368)
الضحاكِ، قالَ: للنارِ سبعةُ أبوابٍ هي سبعةُ أدراكٍ بعضُها على بعضٍ.
فأعلاَها فيه أهلُ التوحيدِ يعذبَون على قدرِ أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثم
يخرجون منها، وفي الثاني اليهودُ، وفي الثالثِ النَّصَارى، وفي الرابع
الصابئُون، وفي الخامسِ المجوسُ، والسادسُ فيه مشركُو العربِ، وفي السابع
المنافقونَ، وهو قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) .
وروى العلاءُ بنُ المسيبِ عن أبيهِ وخيثمةُ بنُ عبدِ الرحمن قالا: قالَ ابنُ
مسعودٍ: أيُّ أهلِ النارِ أشدُّ عذابًا؟ قالُوا: اليهودُ والنصارَى والمجوسُ، قال: لا ولكن المنافقينَ في الدركِ الأسفلِ من النارِ في توابيت من نارٍ مطبقةٍ عليهم
ليسَ لها أبوابٌ.
ورَوى عاصمٌ عن أبي صالح عن أبي هريرةَ في قولِهِ تعالى:
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، قال: الدركُ الأسفلُ بيوتّ لها أبوابٌ تطبقُ عليها فيوقدُ من فوقِهم ومن وتحتِهم، قال تعالى:
(لَهُم مِّن فوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) .
وقال ابنُ المباركِ، عن يحيى بن أيوبَ، عن عبيدِ اللَّهِ بنِ زحرٍ، عن أبي
يسارٍ قال: الظلةُ من جهنَّمَ فيها سبعونَ زاويةً، في كلّ زاويةٍ صنفٌ من
العذابِ ليسَ في الأخرى.
وروى ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن كعب، قال: اقتحامُ العقبةِ في كتابِ
اللهِ، يعني قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، سبعينَ درجةً في النار.
وعن ضمرةَ قالَ: سمعتُ أبا رجاء قال: بلغَنِي أنَّ العقبةَ التي ذكرَ اللَهُ في
كتابِهِ مطلعهَا سبعةُ آلافِ سنة ومهبطُهَا سبعةُ آلافِ سنةٍ.(1/369)
وعن عطيةَ عن ابنِ عمرَ، قال في العقبةِ: جبلٌ في جهنَّم، أفلا أجاوزه
بعتقِ رقبةٍ؟!!
وعن مقاتلِ بنِ حئانَ قال: هيَ عقبةٌ في جهنَّم، قيلَ: بأيِّ شيءٍ تُقطعُ.
قال: رقبةٌ.
وفي "الصحيحينِ " ولفظُه للبخاريِّ عن ابنِ عمرَ، قال: رأيتُ في المنامِ أنه
جاءني ملكانِ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما مقمعةٌ من حديد، ثم لقيني ملكٌ في
يدِهِ مقمعةٌ من حديدٍ، قالُوا: لنْ تُرع، نِعْمَ الرجلُ أنتَ كنتَ تكثرُ الصلاةَ
من الليلِ، فانطلقُوا بي حتَّى وقفُوا بي على شفير جهنَّم، فإذا هي مطويةٌ
كطي البئر لها قرونٌ كقرونِ البئر، بين كلِّ قرنينِ ملكٌ بيدِهِ مقمعةٌ من حديدٍ، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسِلِ رءوسُهُم أسفلُهم، وعرفت رجالاً من
قريشٍ فانصرفُوا بي عن ذاتِ اليمين، فقصصتُها على حفصةَ، فقصتها حفصةُ
على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"إنَّ عبدَ اللَّهِ رجلٌ صالحٌ ".
عن خالدِ بنِ عميرٍ، قال: خطبنا عتبةُ بنُ غزوانَ فقال: إنَّه ذُكِر لنا أنَّ
الحجرَ يُلقى من شفةِ جهنَم فيهوِي فيها سبعينَ عامًا ما يدركُ لها قعرًا، واللَّهِ
لنملأنَّه، أفعجبْتُم؟
خرَّجهُ هكذا مسلمٌ موقوفًا، وخرَّجه الإمامُ أحمدُ موقوفًا
ومرفوعًا والموقوفُ أصح.
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ الحسنِ، قال: قال عتبةُ بنُ غزوانَ على منبرِنَا
هذا - يعني منبرَ البصرةِ - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ الصخرة العظيمةَ لتُلقَى من شفيرِ جهنَّم فتهوِي سبعينَ عامًا وما تفضي إلى قعرها".
قال: وكان عمرُ يقول:(1/370)
أكثِرُوا ذكرَ النارِ، فإنَّ حرَّها شديدٌ، وإن قعرَهَا بعيدٌ، وإن مقامِعَها حديد.
ثم قالَ: لا يعُرفُ للحسنِ سماعٌ من عتبةَ بنِ غزوانَ.
وخرَّج مسلمٌ أيضًا من حديثِ أبي هريرةَ، قالَ: كُنَّا عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا فسمعنا وجبةً، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرونَ ما هذا؟ " فقلنا: الله ورسولُه أعلمُ.
قالَ: "هذا حجرٌ أرسلَ في جهنَّم منذ سبعينَ خرِيفا، فالآنَ انتهَى إلى قعرِهَا".
وخرَّج أيضًا عن أبي هريرةَ قالَ: والذي نفسُ أبي هريرةَ بيدِهِ، إنَّ قعرَ
جهنَم لسبعين خرِيفًا.
وخرَّج الحاكمُ منْ حديثِ أبي هريرةَ أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أُخذَ سبعُ خلفاتٍ بشحومهنَّ فألقينَ من شفيرِ جهنم ما انتهينَ إلى آخرِهَا سبعينَ عامًا".
وخرَّج البزارُ والطبرانيُّ من حديثِ بريدةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَ الحجرَ ليزنُ سبعَ خلفاتٍ يُرمى به في جهنَّمَ فيهوِي سبعينَ خرِيفًا، وما يبلغُ قعرَهَا".
وخرَّج ابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ أبي مُوسى الأشعريِّ عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لو أنَّ حجرًا قُذفَ به في جهنَّم لهوَى سبعينَ خرِيفًا قبل أن يبلغَ قعرَها".
وقد سبقَ من حديثِ أنسٍ وأبي سعيدٍ مَعنى حديثِ أبي هريرةَ في سماع
الهدَّةِ.(1/371)
وقال ابنُ المباركِ: أنبأنا يونسُ عن الزهريِّ، قالَ: بلغنا أنَّ معاذَ بنَ جبلٍ
كانَ يحدِّثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"والذي نفْسِي بيدِه إنَّ ما بينَ شفةِ النارِ وقعرها كصخرةٍ زنةُ سبع خلفات بشحومهن ولحومِهِنَّ وأولادهِنًّ، تهوي من شفة النارِ قبلَ أن
تبلغُ قعرَها سبعينَ خريِفًا".
قال ابنُ المباركِ: وإنَّ هُشيْمًا قالَ: أخبرني زكريا بنُ أبي مريمَ الخزاعيُّ.
قال: سمعتُ أبا أمامةَ يقولُ: إنَّ ما بين شفيرِ جهنَّم مسيرةَ سبعينَ خرِيفًا من
حجرٍ يهوي أو صخرةٍ تهوي عظَمُها لعِظَمُ عشرِ عُشراواتٍ عظامٍ سمان، فقال
له رجل: هلْ تحتَ ذلك منْ شيءٍ يا أبا أمامةَ؛ قالَ: نعمْ، غيّ وآثام.
وقد رُوي هذا بإسنادٍ فيه ضعف من طريقِ لقمانَ بنِ عامرٍ عن ابي أمامةَ
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وزادَ فيه قلتُ: وما غيٌّ وما آثام؟
قال: "بئرٌ يسيلُ فيهما صديدُ أهلِ النارِ".
وهما اللتانِ ذكرَهُما اللَّهُ تعالى في كتابِهِ (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) .
وفي الفرقان: (يَلْقَ أَثَامًا) .
والموقوفُ أصحُّ.
وقد رُوي من وجهٍ آخرٍ، قالَ حريزُ بنُ عثمانَ: حدَّثَنِي عبدُ الرحمنِ بنُ
ميسرةَ الحضرمي عن أبي أمامةَ أنه كانَ يقولُ: إنَّ جهنَّم ما بينَ شفتيَها إلى
قعرِها سبعون، أو قالَ: خمسونَ خرِيفًا للحجرِ المتردِّي، والحجر مثلُ سبع خلفاتٍ مملوءةٍ شحمًا ولحمًا.
خرَّجه الجوزجَانيُ.
وروى مجالدٌ عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللَّهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ما منْ حاكمٍ يحكمُ بينَ الناسِ إلا يُحبسُ يومَ القيامةِ وملكٌ آخذٌ بقفاهُ حتى يقِفَهُ(1/372)
على جهنَّم، ثم يرفعُ رأسَهُ إلى اللَهِ عزَّ وجلَّ، فإنْ قالَ له: ألقِهِ ألقاهُ في مَهوى أربعينَ خرِيفًا"
خرَّجه الإمامُ أحمدُ.
وروى عبدُ اللَّهِ بنُ الوليدِ الوصافيُّ، حدثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عبيدِ بنِ عميرٍ عن
أبيه، قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"يجاءُ بالوالي يومَ القيامةِ فينبذُ على جسرِ جهنمَ فيرتجّ ذلك الجسرُ به ارتجاجة لا يبقى منه مفصلٌ إلا زالَ عن مكانِهِ، فإن كان مُطيعًا للَّهِ
في عملهِ مَضَوا به، وإنْ كانَ عاصيًا للَّهِ في عملهِ انخرقَ به الجسرُ، فيهوِي في جهنَّم مقدارَ خمسينَ عامًا"
فقال له عمرُ: من يطلبُ العملَ بعدَ هذا؟
قال أبو ذرٍّ: من سلتَ الله أنفه وألصق خدَّه بالترابِ، فجاء أبو الدرداءِ فقال له عمرُ: يا أبا الدرداءِ هلْ سمعتَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديثًا حدَّثني به أبو ذرٍّ، قالَ: فأخبره
أبو ذرٍّ فقال: نعمْ ومع الخمسينَ خمسونَ عامًا يهوِي به إلى النارِ، الوصافيُّ
لا يحفظُ الحديثَ، كان شيخًا صالحًا رحمه اللَّهُ.
وروى سويدُ بنُ عبدِ العزيزِ وفيه ضعفٌ شديدٌ عن سيار عن أبي وائلٍ أنَّ
أبا ذرٍّ قال لعمرَ: سمعتُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكرَ معناه، وفي حديثه:
"وإنْ كان مسيئًا انخرقَ به الجسرُ فهوَى في قعرِهَا سبعينَ خرِيفا".
وفي موعظة الأوزاعيِّ للمنصورِ، قال: أخبرَني يزيدُ بنُ جابر، عن عبدِ
الرحمنِ بنِ أبي عمرةَ الأنصاريِّ أن أبا ذرٍّ وسلمانَ قالا لعمر:
سمعنا سول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ، فذكراه بمعناهُ.
وقال: (هَوَى به في النارِ سبعينَ خرِيفًا".
وفي "الصحيحين " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ ما يتبينُ فيها، يزلَُّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ ".(1/373)
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة لايَرى بها بأسًا يهوِي بها في النارِ سبعينَ
خرِيفًا".
وخرَّج البزارُ نحوَه من حديثِ ابنِ مسعود عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وفي "تفسيرِ ابنِ جريرٍ" من روايةِ العوفي عن ابنِ عباسٍ، في قولِهِ تعالى:
(وقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) .
قالَ: ذُكِرَ أنَّ اليهودَ وجدُوا في التوراةِ مكتوبًا أن ما بينَ طرفي جهنَم مسيرةُ
أربعينَ سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرةِ الزقومِ ثابتة في أصل الجحيم.
وكان ابن عباسٍ يقولُ: إن الجحيمَ سقر وفيها شجرةُ الزقومِ، فزعمَ أعداءُ اللَّه أنه إذا خَلا العددُ الذي وجدُوا في كتابِهِم أيامًا معدودةً، وإنما يعني بذلكَ
السيرَ الذي ينتهي إلى أصلِ الجحيم، فقالُوا: إذا خلا العدد انقضى الأجلُ فلا عذابَ، وتذهبُ جهنم وتهلكُ، فذلك قولُهُ: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا معْدُودَةً) .
يعنون بذلكَ الأجلَ، فقالَ ابنُ عباس: لما اقتحمُوا من بابِ جهنَّم
سارُوا في العذابِ حتى انتهَوا إلى شجرةِ الزقومِ آخرُ يومٍ من الأيامِ المعدودة.
وهي أربعونَ سنةً، فلمَّا أكلُوا من شجرةِ الزقومِ وملؤوا البطونَ آخرَ يومٍ من
الأيامِ المعدودةِ، قال لهمْ خزنةُ سقر: زعمتُم أنكم لن تمسَّكُمَ النارُ إلا أيامًا
معدودةً وقد خلا العددُ وأنتم في الأبدِ، فأخذَ بهم في الصعودِ في جهنم
يرهقونَ.
ففي هذه الروايةِ عن ابنِ عباسٍ أنَّ قعرَ جهنَّمَ ومسافةَ عمقِها أربعونَ عامًا.
وأنَّ ذلك هو معنى ما في التوراةِ، ولكنَّ اليهودَ حرَّفُوه فجعلوهُ مسافةَ ما بين
طرفيَها، وزعمُوا أنه إذا انقضتْ هذه المدةُ أنَّ جهنَّم تخربُ وتهلك، فإنَّ ذلك(1/374)
من كذبِهِم على اللَّهِ، وتحرِيفِهِم التوراة.
* * *
قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
ورُوي عنِ ابنِ عباسٍ، في قولِهِ تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، قال: لا يحبُّ اللَّه أن يدعُو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن
يكونَ مظلومًا، فإنَه قد رُخِّصَ لهُ أن يدعُوَ على من ظلَمَهُ، وذلكَ قولُهُ
تعالى: (إِلاَّ مَن ظُلِم) ، ومن صَبَرَ فهوَ خيرٌ.
وقال الحسنُ: قد أرخصَ له أن يدعوَ على من ظَلَمَهُ، وذلكَ قوله تعالى:
(إِلاَّ مَن ظُلِم) ، ومن صبر فهو خيرٌ.
وقال الحسنُ: قد أرخصَ له أن يدعوَ على من ظلَمَه، من غيرِ أن يعتَدِي
عليهِ.
وروي عنه قالَ: لا تدعُ علِيه، ولكنْ قُل: اللَّهُمَّ أعني عليه.
واستخرِج حقِّي منه.
* * *(1/375)
قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
وقد اختلفَ العلماءُ في معنى قولِهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"ألحقُوا الفرائضَ بأهلِهَا":
فقالتْ طائفةٌ: المرادُ بالفرائضِ الفروضُ المقدَّرةُ في كتابِ اللَهِ تعالى.
والمرادُ: أعطُوا الفروضَ المقدرةَ لمن سمَّاها اللَهُ لهم، فما بقِيَ بعدَ هذه
الفروضِ، فيستحقّه أوْلى الرجال، والمرادُ بالأوْلى: الأقربُ، كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يَقرُبُ منه، فأقربُ الرجال هو أقربُ العَصَباتِ، يستحقُّ الباقي بالتعصيبِ، وبهذا المعنى فسَّر الحديثَ جماعةٌ من الأئمةِ، منهم: الإمامُ أحمدُ، وإسحاقُ بنُ رَاهويه، نقله عنهما إسحاقُ بنُ منصورٍ.
وعلى هذا، فإذا اجتمعَ بنتٌ وأختٌ وعمٌّ، أو ابنُ عم، أو ابنُ أخ.
فينبغِي أن يأخذَ الباقِي بعدَ نصف البنتِ العصبةُ، وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، وكان يتمسَّكُ بهذا الحديثِ، ويقر بأنًّ النَّاسَ كلَّهم على خلافِهِ، وذهبتْ الظاهريةُ إلى قولِهِ أيضًا.
وقال إسحاقُ: إذا كانَ مع البنتِ والأختِ عصبةٌ، فالعصبةُ أوْلَى، وإن لى
يكن معَهُمَا أحدٌ، فالأختُ لها الباقى، وحُكي عن ابنِ مسعودٍ، أنه قالَ:
البنتُ عصبةُ مَنْ لا عصبَةَ له، ورَدَّ بعضُهم هذا، وقال: لا يصحُّ عن ابنِ
مسعودٍ.
وكان ابنُ الزبيرِ ومسروقّ يقولانِ بقولِ ابنِ عباسٍ، ثم رجعَا عنه.
وذهب جمهورُ العلماءِ إلى أن الأختَ مع البنتِ عصبةٌ لها ما فضلَ،(1/376)
منهم: عمرُ، وعليّ، وعائشةُ، وزيد، وابنُ مسعودٍ، ومعاذُ بنُ جبلٍ.
وتابعهم سائرُ العلماءِ.
وروى عبدُ الرزاقِ، أخبرنا ابنُ جريج: سألتُ ابنَ طاووس عن ابنةٍ
وأختٍ، فقالَ: كانا أبي يذكرُ عن ابنِ عباسٍ، عن رجلٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئًا، وكان طاووسُ لا يرضَى بذلكَ الرجلِ، قالَ: وكان أبي يشكُّ فيها، ولا يقولُ فيها شيئًا، وقد كانَ يسأل عنْهَا.
والظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ -: أن مرادَ طاووس هو هذا الحديث، فإنَّ ابنَ عباسٍ لم يكنْ عندَهُ نصّ صريحٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ميراثِ الأختِ مع البنتِ، إنما كان يتمسك بمثلِ عمومِ هذا الحديثِ.
وما ذكره طاووسٌ أن ابنَ عباسٍ رواه عن رجل وأنه لا يرضاه، فابن
عباسٍ أكثرُ رواياته للحديثِ عن الصحابةِ، والصحابةُ كلُّهم عدولٌ قد رضي
اللَّه عنهم، وأثنى عليهم، فلا عبرةَ بعد ذلك بعدمِ رضا طاووس.
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي قَيْسٍ الأوْديِّ، عن هُزيلِ بنِ شرحبيلَ.
قالَ: جاءَ رجلٌ إلى أبي مُوسى، فسألَهُ عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ وأختٍ لأبٍ وأمٍّ.
فقالَ: للابنةِ النصفُ، وللأختِ ما بَقِيَ وائتَ ابنَ مسعودٍ فسيُتابعني، فأتى
ابنَ مسعودٍ، فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين.
لأقضينَّ فيها بقضاءِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
للابنةِ النِّصف، ولابنةِ الابنِ السُّدُسُ تكْمِلَةُ الثلثين، وما بَقِيَ، فللأختِ، قال: فأتينا أبا مُوسى، فأخبرناه بقولِ ابنِ مسعودٍ، فقالَ: لا تسألونُي ما دامَ هذا الحَبْرُ فيكُم.
وفيه - أيضًا - عن الأعْمشِ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ بنِ يزيدَ، قال:(1/377)
قَضى فينا معاذُ بنُ جبلٍ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: النصفُ للابنة، والنصفُ للأختِ، ثم تركَ الأعْمشُ ذِكْرَ عهْدِ رسولِ اللًّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكره.
وحْرَّجه أبو داود من وجهٍ آخرَ عن الأسودِ، وزادَ فيه: ونبيُّ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ حي.
واستدلَّ ابنُ عباسٍ لقولِهِ بقولِ اللَّهِ عزَّ وجل:
(قلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ، وكان يقولُ: أأنتم أعلمُ أمِ اللَّهُ؟
يعني أن اللَّهَ لم يجعلْ لها النصفَ إلا مع عدمِ الولد، وأنتم تجعلونَ لها النصفُ مع الولدِ وهو البنت.
والصوابُ: قولُ عمرَ والجمهورِ، ولا دلالةَ في هذه الآيةِ على خلافِ
ذلكَ، لأن المرادَ بقولِهِ: (فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) بالفرضِ، وهذا
مشروطٌ بعدمِ الولدِ بالكلية، ولهذا قال بعدَهُ: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، يعني بالفرضِ، والأخت الواحدةِ إنَّما تأخذُ النصفَ مع
عدمِ وجودِ الولدِ الذكرِ والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدًا إنما يستحقُّون
الثُّلثين مع عدمِ وجودِ الولدِ الذكرِ والأنثى، فإن كان هناك ولدٌ، فإن كان
ذكرًا، فهو مقدَّمٌ على الإخوةِ مطلقًا ذكورهم وإناثهم، وإن لم يكن هناكَ ولدٌ ذكرٌ، بل أنثى، فالباقِي بعد فرضِها يستحقُّهُ الأخُ مع أختِهِ بالاتفاقِ، فإذا كانت الأختُ لا يُسقِطُها أخوها، فكيفَ يُسقطها من هو أبعدُ منه من
العَصَباتِ كالعمِّ وابنِهِ؛ وإذا لم يكن العصبةُ الأبعدُ مسقطَا لها، فيتعيَّنُ تقديمُها
عليه، لامتناع مشاركتِهِ لها.(1/378)
فمفهومُ الآيةِ: أن الولدَ يمنعُ أن يكون للأختِ النصفُ بالفرضِ، وهذا
حقٌّ، ليس مفهومُها أنَّ الأختَ تسقطُ بالبنتِ، ولا تأخذُ ما فضل من
ميراثِهَا، يدلُّ عليه قولُهُ تعالى: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ) .
وقد أجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّ الولدَ الأُنثى لا يمنعُ الأخَ أن يرثَ من مالِ أختِهِ ما
فضلَ عن البنتِ أو البناتِ، وإنَّما وجودُ الولدِ الأنثى يمنعُ أنْ يجوزَ الأخُ
ميراثَ أختِهِ كُلَّه، فكما أنَّ الولدَ إن كانَ ذكرًا، منعَ الأخَ من الميراثِ، وإن
كان أنثى، لم يمنعْهُ الفاضلَ عن ميراثِهَا، وإن منعَهُ حيازةَ الميراثِ، فكذلك
الولدُ إن كانَ ذكرًا منَعَ الأختَ الميراثَ بالكليةِ، وإن كانَ أنثى، منعتِ الأختَ أن يفرضَ لها النصفُ، ولم تمنعْهَا أن تأخذَ ما فَضَلَ عن فرضها، واللَّهُ
أعلمُ.
وأمَّا قولُهُ: "فما أبقتِ الفرائضُ، فلأوْلى رَجُلٍ ذكر".
فقد قيل: إنَّ المرادَ به العَصَبةُ البعيدُ خاصَّةً، كبني الإخوةِ والأعمامِ وبنيهم، دون العصبةِ القريبِ، بدليلِ أنَّ الباقي بعدَ الفروضِ يشتركُ فيه الذكرُ والأنثى إذا كانَ العصبةُ قريبًا، كالأولادِ والإخوةِ بالاتفاقِ، فكذلك الأختُ مع البنتِ بالنصِّ الدالِّ عليهِ.
وأيضًا فإنه يُخَصُّ منه هذه الصورُ بالاتفاقِ، وكذلك يُخصُّ منه المُعْتَقةُ
مولاة النعمة بالاتفاقِ، فتخصُّ صورةُ الأختِ مع البنتِ بالنصِّ.
وقالتْ طائفة آخرونَ: المرادُ بقولِهِ: "ألحقُوا الفرائضَ بأهلِهَا":
ما يستحقُّه ذوو الفروضِ في الجملةِ، سواء أخذُوه بفرضٍ أو بتعصيبٍ طرأ لهُم، والمرادُ بقولِهِ: "فما بَقِيَ، فلأوْلى رجلٍ ذكر" العصبةُ الذي ليس له فَرْضٌ بحالٍ.
ويدلُّ عليه أنه قد رُوي الحديثُ بلفظ آخرَ، وهو: "اقسِموا المالَ بينَ أهلِ
الفرائضِ على كتابِ اللَّهِ "(1/379)
، فدخلَ في ذلكَ كلُّ من كل مَن مِنْ أهلِ الفروضِ بوجه
من الوجوهِ.
وعلى هذا، فما تأخذُهُ الأختُ مع أخيها، أو ابنِ عمِّها إذا عصبَهَا هو
داخل في هذه القسمةِ، لأنها منْ أهلِ الفرائضِ في الجملةِ، فكذلكَ ما تأخذُه
الأختُ مع البنتِ.
وقالتْ فرقة أخرى: المرادُ بأهلِ الفرائضِ في قولِهِ: "ألحقُوا الفرائضَ
بأهلها"، وقولُهُ: "اقسموا المالَ بين أهلِ الفرائضِ "، جملةُ من سمَّاه اللهُ في كتابِهِ من أهلِ المواريثِ من ذوي الفروضِ والعصباتِ كلّهم، فإنَّ كلَّ ما يأخذهُ الورثةُ، فهو فرض فرضَهُ اللَّهُ لهُم، سواء كان مقدَّرًا أو غيرَ مقدر، كما قالَ بعدَ ذكرِ ميراثِ الوالدينِ والأرلادِ:
(فَرِيضَةً منَ اللَّهِ) ، وفيهم ذو فرضٍ وعصبةٍ، وكما قال:
(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) .
وهذا يشملُ العَصَباتِ وذوي الفروضِ، فكذلكَ قولُهُ:
"اقسِمُوا الفرائضَ بين أهلها على كتابِ اللَّهِ ".
يشملُ قسمتَهُ بينَ ذوي الفروضِ والعصباتِ على ما في كتابِ اللَّهِ، فإنْ قَسَمَ
على ذلكَ ثمَّ فضَلَ منه شيء، فيختصُّ بالفاضلِ أقربُ الذكورِ من الورثةِ.
وكذلكَ إن لم يُوجدَ في كتابِ اللَّهِ تصريح بقسمته بين من سمَّاه اللَّهُ من
الورثةِ، فيكونُ حينئذٍ المالُ لأوْلى رجلٍ ذَكَر منهم.
* * *(1/380)
سُورَةُ المَائِدَةِ
قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
إن البرَّ يطلقُ باعتبار معنيينِ:
أحدُهُما: باعتبارِ معاملةِ الخلقِ بالإحسانِ إليهِم، وربَّما خصَّ بالإحسانِ إلى
الوالدينِ، فيقالُ: برُّ الوالدينِ، ويطلقُ كثيرًا على الإحسانِ إلى الخلقِ عمومًا، وقد صنفَ ابنُ المباركِ كتابًا سماه: "كتاب البرِّ والصلةِ"، وكذلكَ في "صحيح البخاريِّ "، و"جامع الترمذيِّ ": "كتاب البرِّ والصِّلة"، ويتضمن هذا الكتاب الإحسانَ إلى الخلقِ عمومًا، ويقدَّم فيه برُّ الوالدينِ على غيرِهِمَا.
وفي حديثِ بهزِ بنِ حكيم، عن أبيه، عن جدِّهِ، أنه قالَ: يا رسولَ اللَّهِ
مَنْ أبرُّ؛ قالَ: "أمُّك "، قال: ثم مَن؟
قال: "ثمَّ أباك "، قال: ثم مَنْ؟ قالَ: "ثم الأقربُ فالأقربُ ".
ومن هذا المعنى: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"الحجُّ المبرورِ ليسَ له جزاءٌ إلا الجنَّة".
وفي "المسندِ" أنه - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن برِّ الحجِّ، فقالَ:
"إطعامُ الطَّعام، وإفشاءُ السَّلام".
وفي روايةٍ أخرى: "وطيبُ الكلام".(1/381)
وكان ابنُ عمرَ رضيَ اللَّه عنهما يقولُ: البرّ شيء هيِّنٌ: وجهٌ طليق وكلامٌ
وإذا قرنَ البر بالتَّقوى، كما في قولِهِ عزَّ وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، فقدْ يكونُ المرادُ بالبرِّ: معاملةَ الخلقِ بالإحسانِ، وبالتَقوى:
معاملةَ الحقّ بفعلِ طاعتِهِ، واجتنابِ محرماتِه، وقد يكونُ أُريدَ بالبرّ: فعلُ
الواجباتِ، وبالتقوى: اجتنابُ المحرماتِ، وقولُهُ: (وَلا تَعَاوَنوا عَلَى الإِثْم
والْعُدْوَانِ) ، قد يُرادُ با لإثم: المعاصِي، وبالعدوان: ظلمُ الخلقِ، وقد
يُرادُ بالإثم: ما هو مَحرَّمٌ في نفسِهِ كالزِّنى، والسرقةِ، وشربِ الخمرِ.
وبالعُدوانِ: تجاوزُ ما أذنَ فيه إلى ما نُهِيَ عنهُ ممَّا جنسُهُ مأذونٌ فيه، كقتلِ مَنْ
أُبيح قتلُهُ لقِصاصٍ، ومن لا يُباحُ، وأخذُ زيادة على الواجبِ من الناسِ في
الزكاةِ ونحوِها، ومجاوزةِ الجلدِ الذي أمرَ به في الحدودِ ونحوِ ذلك.
والمعنى الثاني من معنى البر: أن يُرادَ به فعلُ جميع الطاعاتِ الظاهرةِ والباطنةِ.
كقولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .
وقد رُويَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الإيمانِ، فتلا هذه الآية.
فالبر بهذا المعنى يدخلُ فيه جميعُ الطاعاتِ الباطنةِ كالإخانِ باللهِ وملائكتِهِ(1/382)
وكتبِهِ ورسلِهِ، والطاعاتِ الظاهرةِ كإنفاقِ الأموالِ فيما يحبُّه اللَّهُ، وإقامِ
الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والوفاءِ بالعهدِ، والصَّبر على الأقدارِ، كالمرضِ
والفقرِ، وعلى الطَّاعاتِ، كالصَّبرِ عند لقاءِ العدو.
* * *
قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
في "الصحيحينِ " عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه -، أنَّ رجلاً من اليهود قال له: يا أميرَ المؤمنينَ، آيةٌ في كتابِكُم لو علينا مَعْشَرَ اليهودِ نزلت، لاتًّخذنا ذلك اليومَ عيدًا.
فقالَ: أيُّ آيةٍ؟ قالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) .
فقال عمرُ: إنِّي لأعلمُ اليومَ الذي نزلَتْ فيه، والمكانَ الذي نزلتْ فيه، نزَلَتْ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائِمٌ بعَرَفَةَ يوم
جُمعة.
وخرَّج الترمذيُّ عن ابنِ عباسٍ نحوَه، وقالَ فيهِ: نزلتْ في يوم عيدٍ
من يومِ جمعةٍ ويومِ عرفةَ.
العيدُ هو موسمُ الفرح والسرورِ، وأفراحُ المؤمنينَ وسرورُهم في الدنيا إنما
هوَ: بمولاهُم، إذا فازُوا بإكمالِ طاعتِهِ، وحازوا ثوابَ أعمالِهِم بوثوقِهم بوعدِهِ لهم عليها بفضلِهِ ومغفرتِهِ، كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ) .(1/383)
***
وقد يجتمعُ في يوم واحدٍ عيدانِ، كما إذا اجتمعَ يومُ الجمعةِ مع يومِ عرفةَ
أو يومِ النَّحْر، فيزدادُ ذلك اليومُ حُرْمةً وفضلاً، لاجتماع عيدينِ فيه.
وقد كانَ ذلك؛ اجتمعَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حجتِهِ يومَ عرفةَ، فكانَ يومَ جمعةٍ، وفيه نزلتْ هذه الآية ُ: (الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) ، وإكمالُ الدِّينِ في ذلك اليومِ حصلَ من وجوهٍ:
منها: أنَّ المسلمينَ لم يكونُوا حجُّوا حجَّة الإسلامِ بعدِ فرضِ الحجِّ قبل
ذلكَ، ولا أحد منهم، هذا قولُ أكثرِ العلماءِ أو كثير منهم، فكمُل بذلك
دينُهم لاستكمالهِم عملَ أركانِ الإسلامِ كلِّها.
ومنها: أنَّ اللَهَ تعالى أعادَ الحجَّ على قواعدِ إبراهيمَ عليه السلامُ، ونفَى
الشرك وأهلَه، فلم يختلطْ بالمسلمينَ في ذلكَ الموقفِ منهم أحد.
قال الشعبيُّ: نزلتْ هذه الآية ُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفةَ حين وقفَ موقِفَ
إبراهيمَ، واضمحلَّ الشِّرْكُ، وهُدِّمتْ منارُ الجاهليةِ، ولم يَطُف بالبيتِ
عُريانِ.
وكذا قالَ قتادةُ وغيرُه. وقد قيل: إنه لم ينزلْ بعدَها تحليل ولا تحريم، قاله
أبو بكر بنُ عياشٍ.
وأمَّا إتمامُ النِّعمةِ فإنَّما حصلَ بالمغفرةِ، فلا تَتمُّ النِّعْمةُ بدونها، كما قالَ
لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) .(1/384)
وقالَ تعالى في آيةِ الوضوءِ: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ، ومن هنا استنبط محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ بأنَّ الوضوءَ يكفر الذنوبَ، كما وردتْ السّنَةُ بذلك صريحًا، ويشهَدُ له أيضًا أن
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمعَ رجلاً يدعُو ويقولُ: اللَّهُمَّ إني أسالُك تمامَ النعْمةِ. فقال له: "تمامُ النعْمةِ: النَّجاةُ من النَّارِ، ودخولُ الجنَّة ".
فهذه الآية ُ تشهدُ لما رُوِي في يومِ عرفةَ اْنه يومُ المغفرةِ والعتقِ من النارِ.
* * *
[قال البخاريُّ] : "بابُ: زيادةِ الإيمانِ ونُقْصَانِهِ ":
وقولِ اللَّهِ تعالى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) ، (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) .
وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ) ، فإذا تركَ شيئا من الكمالِ فهوَ
ناقِصٌ.
استدل البخاريُّ على زيادةِ الإيمانِ ونقصانهِ بقولِ اللَّه عزَّ وجلَّ:
(وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) ، وفي زيادةِ الهدَى إيمان آخرُ، كقوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) .
ويُفسَّر هذا الهدَى بما في القلوبِ منَ الإيمانِ باللَّهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ
واليومِ الآخرِ، وتفاصيلِ ذلك.
ويفسَّر بزيادةِ ما يترتبُ على ذلكَ منَ الأعمالِ الصالحةِ: إمَّا القائمةُ(1/385)
بالقلوبِ، كالخشيةِ للهِ ومحبتِهِ ورجائه والرضا بقضائِهِ والتوكلِ عليه، ونحوِ
ذلك.
أو المفعولةِ بالجوارح كالصلاةِ والصيامِ والصدقةِ والحجِّ والجهادِ والذكرِ
والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ ونحوِ ذلك.
وكلُّ ذلك داخل في مسمَّى الإيمانِ عندَ السلفِ وأهلِ الحديثِ ومَنْ
وافقَهم، كما سبقَ ذكرُهُ.
واستدلَّ - أيضًا - بقولِهِ تعالى: (وَيَزْدَادَ الَذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) .
وفي معنى هذه الآيةِ: قولُهُ تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادتْهمْ إِيمَانًا) ، وقولُهُ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) .
ويفسَّر الإيمانُ في هذهِ الآياتِ بمثلِ ما فُسَر به الهدَى في الآياتِ المتقدمةِ.
واستدلَّ - أيضًا - بقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ) ، فدلَّ على أنَّ الدِّينَ ذو أجزاءِ، يكملُ بكمالِها، وينقصُ بفواتِ
بعضِها.
وهذه الآيةُ نزلتْ في آخرِ حياةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حجةِ الوداع، وقد قيلَ: إنه لم ينزلْ بعدَها حلالٌ ولا حرام، كما قالَهُ السديُّ وغيرُه.
وكذا قالَ علي بنُ أبي طلحةَ عنِ ابنِ عباسِ: قال: بعثَ اللَهُ نبيَّه بشهادةِ
أن لا إله إلا اللَهُ، فلما صدَّق بها الؤمنون زادَهم الصلاةَ، فلما صدَّقوا بها
زادَهُم الصيامَ، فلما صدَّقوا به زادهم الزكاةَ، فلما صدَّقوا بها زادَهم الحجَّ، فلمَّا صدَّقوا به زادَهم الجهادَ، ثم أكملَ اللَهُ لهم دينَهم، فقال:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) .
ومعلوم أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَهُ لم يحجوا حجةَ الفرضِ إلا ذلك العامَ،(1/386)
فلما حجُّوا حجةَ الإسلامِ كملَ لهمُ الدينُ بتكميلِهِم أركانَ الإسلامِ حينئذٍ.
ولم يكنِ الدّينُ قبلَ ذلكَ ناقصًا، كنقصِ مَنْ تركَ شيئًا من واجباتِ دِينه، بل
كانَ الدِّينُ في كلّ زمانٍ كاملاً بالنسبةِ إلى ذلكَ الزمانِ بما فيه من الشرائع
والأحكام، وإنَّما هو ناقصٌ بالنسبةِ إلى زمانِ الذي بعدَه الذي تجدَّد فيه من
الشرائع والأحكامِ ما لم يكنْ قبلَ ذلك.
كما يقالُ: إنَّ شريعةَ الإسلامِ أكملُ من شريعةِ موسى وعيسَى، وإنَّ القرآنَ
أكملُ من التوراةِ والإنجيلِ.
وهذا كما سمَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النساءَ ناقصاتِ دينٍ، وفَسَّر نقصانَ دينهنَّ بتركِ الصلاةِ والصيامِ في زمنِ حيضِهِنَّ، مع أنها قائمةٌ في تلكِ الحال بما وجبَ عليها من غيرِ الصلاةِ، ولكنَّ نقصانَ دينِها بالنسبةِ إلى مَن هي طاهرةٌ تصلِّي وتصومُ.
وهذا مبنيٌّ على أنَّ الدِّين هو الإسلامُ بكمالِهِ، كما تقدَّمَ ذكرُهُ، والبخاريُّ
عنده أنَّ الإسلامَ والإيمانَ واحدٌ، كما تقدَّم ذكرُهُ.
وقد احتجَّ سفيانُ بنُ عيينةَ وأبو عبيدٍ وغيرُهم بهذه الآيةِ على تفاضلِ
الإيمانِ.
قال أبو عبيدٍ: قد أخبرَ اللَّهُ أنَّه أكملَ الدِّينَ في حجةِ الوداع في آخرِ
الإسلامِ، وزعم هؤلاءِ أنَّه كان كاملاً قبل ذلك بعشرينَ سنةً في أولِ ما نزلَ الوحيُ.
قال: وقد اضطَّر بعضُهم حين أدخلتُ عليه هذه الحجةَ إلى أن قالَ: الإيمانُ
ليسَ هو مجموعَ الدِّين، ولكنَّ الدِّين ثلاثةُ أجزاءٍ، فالإيمانُ جزءٌ، والفرائضُ(1/387)
جزء، والنوافلُ جزء.
قال أبو عبيدٍ: وهذا غيرُ ما نطقَ به الكتابُ، فإنَّ اللَّهَ أخبرَ أن الإسلامَ هو
الدِّينُ برمَّته، وزعمَ هؤلاءِ أنَّه ثلثُ الدِّينِ. انتهى.
فالمرجئةُ، عندهم: الإيمانُ التصديقُ، ولا يدخلُ فيه الأعمالُ، وأمَّا الدِّينُ
فأكثرُهم أدخلَ الأعمالَ في مسمَّاه، وبعضُهم خالفَ في ذلك - أيضًا، والآيةُ
نصّ في ردِّ ذلكَ. واللَّهُ أعلمُ.
ثمَّ خرَّج البخاريُّ في هذا البابِ حديثينِ:
أحدُهما: حديثُ ة هشامٍ الدسْتوائيِّ: ثنا قتادةُ عنْ أنسٍ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يخرجٌ منَ النارِ من قالَ: لا إله إلا اللَّهُ وفي قلبه وزْنُ شعيرة من خير، ويخرجٌ من النارِ منْ قال: لا إله إلا اللَهُ وفي قلبهِ وزنُ بُرَّةٍ منْ خير، ويخرجٌ من النارِ من قال: لا إله إلا اللهُ وفي قلبِهِ وزْنُ ذَرة من خيْر".
خرَّجه عن مسلمٍ بنِ إبراهيمَ، عن هشامٍ، به.
ثمَّ قال: وقال أبانُ: ثنا قتادةُ ثنا أنس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من إيمانٍ "، مكانَ: "منْ خَيْر".
ففي هذه الروايةِ التي ذكرَها تعليقًا: التصريحُ بتفاوتِ الإيمانِ الذي في
القلوبِ.
وأيضًا؛ فيها: التصريحُ بسماع قتادة له من أنسٍ، فزالَ ما كان يتوهَّم من
تدليسِ قتادةَ.(1/388)
وقد خرَّج البخاريُّ هذه اللفظةَ في حديثِ أنسٍ في أواخرِ كتابِهِ مسندةً.
من روايةِ معبدِ بنِ هلالٍ العنزيِّ، عن أنسٍ.
وخرَّج حديثَ أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى فيما تقدَّم من "كتابِهِ " باختلافِ لفظِ الخيرِ والإيمانِ، كاختلافِ حديثِ أنسٍ.
والحديثُ نصّ في تفاوتِ الإيمانِ الذي في القلوبِ، وقد سبقَ القولُ في
تفاوتِ المعرفةِ وتفاضلِها فيما تقدَّم.
الحديثُ الثاني الذي خرَّجه في هذا البابِ:
حديثُ: طارقِ بنِ شهابٍ، عنْ عمرَ بنِ الخطابِ، أنَّ رجلاً منَ اليهودِ.
قالَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ، آية في كتابِكُم تقرءونها لو علينا معْشرَ اليهودِ نزلتْ
لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيُّ آيةٍ؟
قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ) ، فقال عمرُ. قدْ عرفْنا ذلك اليومَ، والمكانَ الذي نزلَتْ فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، نزَلَتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
وهوَ واقِف بعرفَةَ يومَ الجُمُعةِ.
وقد خرَّجه ابنُ جريرٍ الطبريُ في "تفسيره" من وجهٍ آخرَ عن عمرَ.
وزاد فيه: أنَّه قال: وكلاهُما بحمدِ اللَّهِ لنا عيدٌ.
وخرَّج الترمذيُ، عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قرأ هذه الآيةَ، وعندَه يهوديّ.
فقال: لو أُنزلتْ هذه الآية ُ علينَا لاتخذنا يومَها عيدًا، فقال ابنُ عباسٍ: فإنَّها
.(1/389)
نزلتْ في يوم عيدينِ: في يومِ جُمعةٍ، ويومِ عرفةَ.
فهذا قد يُؤخذُ منه أنَّ الأعيادَ لا تكونُ بالرأي والاختراع كما يفعلُه أهلُ
الكتابيْنِ من قبلنا، وإنَّما تكونُ بالشرع والاتباع.
فهذه الآية ُ لما تضمنتْ إكمالَ الدِّين وإتمامَ النِّعمة، أنزلَها اللَّهُ في يومٍ شرعَه
عيدًا لهذه الأمة من وجهينِ:
أحدهما: أنه يوم عيدِ الأسبوع، وهو يومُ الجمعةِ.
والثاني: أنَّه يومُ عيدِ أهلِ الموسم، وهوَ يومُ مجمَعِهم الأكبرِ وموقفهم
الأعظم.
وقد قيل: إنَّه يومُ الحجِّ الاكبرِ.
وقد جاء تسميتُه عيدًا في حديثٍ مرفوع خرَّجه أهلُ "السنن" من
حديثِ عقبةَ بن عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يومُ عرفةَ، ويومُ النَّحْرِ، وأيامُ التشريقِ، عيدُنا أهلَ الإسلامِ، وهي أيامُ أكلٍ وشرب ".
وقد أُشكلَ وجهُهُ على كثيرٍ من العلماءِ، لأنَّه يدلُّ على أنَّ يومَ عرفةَ يومُ
عيدٍ لا يصامُ، كما رُوي ذلك عن بعضِ المتقدِّمينَ.
وحملَهُ بعضُهم على أهلِ الموقفِ.
وهو الأصحُ، لأنَّه اليومُ الذي فيه أعظمُ مجامِعِهم، ومواقفِهم، بخلافِ
أهلِ الأمصارِ فإنَّ يومَ اجتماعهم يوم النحرِ، وأمَّا أيامُ التشريقِ فيشاركُ أهلُ
الأمصارِ أهلَ الموسم فيها؛ لأنها أيامُ ضحاياهم وأكلهم من نسكِهِم، هذا قولُ جمهورِ العلماءِ.(1/390)
وقال عطاءٌ: إنَّما هي أعيادٌ لأهلِ الموسم، فلا يُنْهى أهل الأمصارِ عن
صيامِها.
وقولُ الجمهورِ أصحُ.
ولكنَّ الأيامَ التي تحدثُ فيها حوادثُ من نعم اللَّه على عبادِهِ، لوْ صامَها
بعضُ الناسِ شكرًا، من غيرِ اتخاذِها عيدًا، كان حسنًا، استدلالاً لصيامِ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - عاشوراءَ، لما أخبرَه اليهودُ بصيامِ موسى له شكراً، وبقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عن صيامِ يومِ الاثنين.
قال: "ذلك يومٌ وُلدتُ فيه، وأُنزلَ عليَّ فيه".
فأمَّا الأعيادُ التي يجتمعُ عليها الناسُ، فلا يُتجاوزُ بها ما شرعَهَ اللَّهُ
لرسولِهِ، وشرعَه الرسولُ لأُمَّتِهِ.
والأعيادُ هي مواسمُ الفرح والسرورِ، وإنَّما شرعَ اللَّهُ لهذهِ الأمَّة الفرحَ
والسرورَ بتمامِ نعمته وكمالِ رحمتِهِ، كما قال تعالى:
(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ، فشرعَ لهم عيدينِ في سنةٍ، وعيدًا في كلِّ أسبوعٍ.
فأمَّا عيدا السنةِ:
فأحدُهُما: تمامُ صيامهم الذي افترضه عليهم كلَّ عامٍ، فإذا أتمُّوا صيامَهم
أعتقهم من النارِ، فشرعَ لهم عيدًا بعدَ إكمالِ صيامِهم، وجعله يومَ الجوائِزِ.
يرجعونَ فيه من خروجِهِم إلى صلاتِهِم وصدقتِهم بالمغفرةِ، وتكونُ صدقةُ
الفطرِ وصلاةُ العيدِ شكرًا لذلكَ.(1/391)
والعيدُ الثاني: أكبرُ العيدينِ، عندَ تمامِ حجِّهم، بإدراكِ حجِّهم بالوقوفِ
بعرفةَ، وهو يومُ العتقِ منَ النارِ، ولا يحصل العتقُ من النارِ والمغفرةُ للذنوبِ
والأوزارِ في يومٍ من أيامِ السنةِ أكثرَ منه، فجعلَ اللَّهُ عقبَ ذلك عيدًا.
بل هو العيدُ الأكبرُ، فيكملُ أهلُ الموسم فيه مناسكَهم، ويقضُون فيه
تفثَهم، ويوفونَ نذورَهم، ويطوفونَ بالبيتِ العتيقِ.
ويشاركُهُم أهلُ الأمصارِ في هذا العيدِ؛ فإنَّه يشاركونَهم في يومِ عرفةَ في
العتقِ والمغفرة، وإنْ لم يشاركوهم في الوقوفِ بعرفةَ، لأنَّ الحجَّ فريضةُ العمرِ
لا فريضةَ كلًّ عامٍ، بخلافِ الصيامِ.
ويكون شكرُ عيدِ أهلِ الأمصارِ: الصلاةُ والنحرُ، والنحرُ أفضلُ من
الصدقةِ التي في يومِ الفطرِ، ولهذا أمرَ اللَّهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يشكر نعمته عليه بإعطائهِ الكوثَرَ بالصلاةِ له والنَّحْرِ، كما شرع ذلك لإبراهيمَ خليلِهِ - عليه السلامُ - عند أمرِه بذبح ولدِه وافتدائِهِ بذبْح عظيم.
وأمَّا عيدُ الأسبوع، فهو يومُ الجمعةِ، وهو متعلقٌ بإكمالِ فريضة الصلاةِ.
فإنَّ اللَّهَ فرضَ على عبادِهِ المسلمينَ الصلاةَ كلَّ يومٍ وليلةٍ خمسَ مرَّاتٍ، فإذا
كمُلَتْ أيامُ الأسبوع التي تدورُ الدنيا عليهَا، وأكملُوا صلاتَهم عليها، شرعَ لهم يومَ إكمالِهَا - وهوَ اليومُ الذي انتهى فيه الخلقُ، وفيه خُلِقَ آدمُ، وأُدخلَ الجنَّةَ - عيدًا، يجتمعونَ فيه على صلاةِ الجمعةِ.
وشرع لهم الخطبة تذكيرًا بنعم اللَّهِ عليهم، وحثّا لهم على شكرها، وجعلَ(1/392)
شهودَ الجمعةِ بأدائها كفارةً لذنوب الجمعة كلِّها وزيادة ثلاثةِ أيامٍ.
وقد رُوي أن يومَ الجمعةِ أفضلُ من يومِ الفطرِ ويومِ النحر.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ في "مسندهِ ".
وقاله مجاهدٌ وغيرُه.
ورُوي أنه حجُّ المساكين.
ورُوي عن عليٍّ، أنَّه يومُ نسكِ المسلمينَ.
وقال ابن المسيبِ: الجمعةُ أحبُّ إليَّ من حجِّ التطوع.
وجعلَ اللَّهُ التبكيرَ إلى الجمعةِ كالهدي، فالمبكِّرُ في أول ساعةٍ كالمهدي
بدنة، ثم كالمهدي بقرةً، ثم كالمهديِ كبشًا، ثم كالمهدي دجاجةً، ثم كالمهدي بيضه.
ويوم الجمعةِ يومُ المزيدِ في الجنة، الذي يزورُ أهلُ الجنةِ فيه ربَّهم، يتجلَّى
لهم في قدرِ صلاةِ الجمعة.
وكذلك رُوي في يومِ العيدينِ أنَّ أهلَ الجنةِ يزورون ربهم فيها، وأنَه
يتجلَّى بها لأهلِ الجنَةِ عمومًا، يشاركُ الرجالَ فيها النساءُ.
فهذه الأيامُ أعياد للمؤمنينَ في الدنيا، وفي الآخرةِ عمومًا.
وأمَّا خواصُ المؤمنينَ، فكل يوم لهم عيدٌ، كما قالَ بعضُ العارفينَ.(1/393)
ورُوي عن الحرمِ: كلُّ يومٍ لا يُعصَى اللَهُ فيه فهو عيدٌ.
ولهذا رُوي أنَّ خواصَّ أهلِ الجنة يزورون ربَّهم، وينظرونَ إليه كلَّ يومٍ
مرتينِ بُكرةً وعشيًا.
وقد خرَّجه الترمذيُّ من حديث ابنِ عمرَ - مرفوعًا، وموقوفًا.
ولهذا المعنى - واللَّهُ أعلمُ - لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤيةَ في حديثِ جريرِ بنِ عبدِ اللَّهِ البجلي، أمرَ عقبَ ذلك بالمحافظة على الصلاةِ قبل طلوع الشمسِ وقبلَ غروبِها، فإنَّ هذينِ الوقتينِ وقتٌ لرؤيةِ خواصِّ أهلِ الجنةِ ربَّهم، فمن حافظَ على هاتينِ الصلاتينِ على مواقيتهما، وأدائهما.
وخشوعهما، وحضورِ القلبِ فيهما، رُجي له أن يكون ممن ينظرُ إلى اللَّهِ في
الجنةِ في وقتهما.
فتبين بهذا: أن الأعيادَ تتعلقُ بإكمال أركانِ الإسلامِ، فالأعيادُ الثلاثةُ
المجتمَعُ عليها تتعلقُ بإكمال الصلاةِ والصيامِ والحج.
فأمَّا الزكاة، فليس لها زمانٌ معينٌ تكملُ فيه. وأما الشهادتانِ، فإكمالُهما
هو الاجتهادُ في الصدق فيهما، وتحقيقِهما والقيامِ بحقوقِهما.
وخواصُّ المؤمنينَ يجتهدون على ذلكَ كلَّ يومٍ ووقتٍ، فلهذَا كانتْ أيامُهُم
كلُّها أعيادًا، ولذلكَ كانتْ أعيادُهم في الجنةِ مستمرةً. واللَّهُ أعلم.
* * *(1/394)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
[قالَ البخاريُّ] : ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يوسفَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ(1/395)
فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
قيل: إن الرواية هنا: "فقامَ حتَّى أصبح " ورواه في "التفسيرِ" بلفظ: "فنام
حتى أصبح " وهو لفظُ مسلم، وكذا في "الموطأ".
هذا السياقُ سياقُ عبدِ الرحمنِ بنِ القاسم لهذا الحديثِ عن أبيه، عن
عائشة. وقد رواه هشامُ بنُ عُرْوةَ عن أبيه، عن عائشةَ فخالَفَ في بعضِ
ألفاظِه ومعانِيه مما لا يَضُرُّ. وقد خرَّجه البخاريّ في موضع آخرَ، وفي بعضِ
ألفاظِهِ اختلافٌ على عروة - أيضًا.
ومما خالفَ فيه: أنه ذكر أن عائشة استعارتْ قلادةً من أسماءَ فسقطتْ.
وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرسلَ رَجُليْنِ في طلَبِها وليس معهما ماءٌ فنزلتْ آيةُ التيمم.
وفي روايةٍ: أنَّهُما صلَّيا بغيرِ وضوءِ.
وهذا يمكنُ الجمعُ بينه وبين حديثِ القاسم، عن عائشة بأن القلادة لمَّا
سقطتْ ظنُّوا أنها سقطتْ في المنزلِ الماضى، فأرسلُوا في طلبِها وأقامُوا في
منزلهِم وباتُوا فيه، وفقد الجميعُ الماءَ حتى تعذَّر عليهم الوضوء.
وفي حديثِ هشامٍ: أنَّ ذلك كان ليْلَةَ الأبواءِ.
وفي روايةٍ عنه: أنَّ ذلك المكانَ كان يُقال له: الصلصل.
وروى ابنُ إسحاقَ: حدثني يحيى بن عبَّادِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبيرِ، عن
أبيه، عن عائشة، قالتْ: أقبلْنا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أسفاره، حتى إذا كنَّا بِتُرْبانَ - بلدٌ بينه وبين المدينةِ بَرِيدٌ وأميالٌ، وهو بلدٌ لا ماءَ به - وذلك من(1/396)
السَّحَر، انْسَلَّتْ قلادة لي من عُنُقِي فوقَعتْ - وذكر بقيةَ الحديثِ.
خرَّجه الإمامُ أحمد.
وقد رُوِي هذا الحديثُ من حديثِ عمَّارِ بن ياسرٍ - أيضًا - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَّسَ بأولاتِ الجيشِ ومعه عائشةُ، فانقطعَ عِقْد لها من جزع ظَفَاهـ، فحُبِس الناسُ ابتغاءَ عِقْدها ذلك حتى أضاءَ الفجرُ، وليس مع الناسِ ماء، فتغَيَّظ عليها أبو بكرٍ وقال: حبَسْتِ الناسَ وليس معهم ماء؟ فأنزلَ اللَّهُ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رُخصةَ التطهر بالصعيدِ الطيب، فتيمم المسلمون مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
وذكر الحديثَ.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود - وهذا لفظُهُ - والنسائي وابنُ ماجةَ.
وفي إسنادِهِ اختلافٌ.
والآية التي نزلتْ بسببِ هذه القصةِ كانتْ آيةَ المائدة، فإنَّ البخاريَّ خرَّج
هذا الحديثَ في "التفسيرِ" من كتابِهِ هذا من حديثِ ابنِ وهبٍ، عن عمرٍو
عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسم، وقال في حديثِهِ: فنزلتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) هذه الآية ُ.
وهذا السفرُ الذي سَقَط فيه قلادة عائشة أو عِقْدُها كان لغزوة المرَيْسِيع إلى
بني المُصْطَلِق من خُزاعةَ سنةَ ستٍّ، وقيلَ: سنة خمسٍ، وهو الذي ذكره ابنُ
سعدٍ عن جماعةٍ من العلماءِ، قالُوا: وفي هذه الغزوةِ كان حديثُ الإفْكِ.
وقد ذكر الشافعيُّ: أنَّ قصة التيمم كانتْ في غزوةِ بني المُصْطَلِق، وقال:(1/397)
أخبرَني بذلك عددٌ من قريشٍ منْ أهلِ العلم بالمغازِي وغيرِهم.
فإن قيلَ: فقد ذكر غيرُ واحدٍ، منهُم: ابنُ عبدِ البر: أنه يُحتملُ أنْ يكون
الذي نزلَ بسببِ قصة عائشةَ الآيةُ التي في سورةِ النساءِ، فإنها نزلتْ قبلَ
سورةِ المائدة بيقين، وسورةُ المائدةِ من أواخِر ما نزل من القرآنِ، حتى قيلَ:
إنها نزلتْ كلُّها أو غالبُها في حَجَّةِ الوداع، وآيةُ النساءِ نزولها متقدِّم.
وفي "صحيح مسلم " من حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ أنها نزلتْ فيه لمَّا
ضَرَبَه رجلٌ قد سكِر بِلَحْي بعير، ففزَرَ أنْفَه.
وفي "سن أبي داودَ" والنسائيِّ وابنِ ماجةَ، عن عليٍّ، أنَّ رجلاً صلَّى
وقد شربَ الخمرَ، فخَلَّطَ في قراءتِهِ، فنزلتْ آيةُ النساءِ.
فقد تبيَّن بهذَا: أنَّ الآيةَ التي في سورةِ النساءِ نزلتْ قبلَ تحريمِ الخمرِ.
والخمرُ حُرِّمتْ بعد غزوةِ أُحُدٍ، ويقال: إنها حرمتْ في محاصرةِ بني النضيرِ
بعدَ أُحُدٍ بيسيرٍ، وآيةُ النساءِ فيها ذكر التيمم، فلو كانتْ قد نزلتْ قبل قصةِ عائشةَ لما توقفوا حينئذٍ في التيممِ، ولا انتظرُوا نزولَ آية أخرى فيه.
قيلَ: هذا لا يصح؛ لوجوهٍ:
أحدها: أنَّ سببَ نزولِ آيةِ النساءِ قد صحَّ أنه كانَ ما ينشأُ من شربِ الخمرِ
من المفاسدِ في الصلاةِ وغيرِها، وهذا غيرُ السببِ الذي اتَّفَقَتِ الرواياتُ عليه
في قصةِ عائشةَ، فدل على أنَّ قصةَ عائشةَ نزلَ بسببِها آيةٌ غيرُ آيةِ النساءِ.
وليسَ سوى آيةِ المائدةِ.(1/398)
والثاني: أنَّ آيةَ النساءِ لم تُحَرِّم الخمرَ مطلقًا بل عند حضورِ الصلاةِ، وهذا
كان قبلَ أحد، وقصة عائشةَ كانتْ بعد غزوةِ أُحُدٍ بغيرِ خلافٍ، وليسَ في
قصَّتِها ما يناسبُ النهي عن قربانِ الصلاةِ مع السُّكْرِ حتى تُصَدَّر به الآيةُ.
وأمَّا تصديرُ الآيةِ بذكرِ الوضوءِ فلم يكنْ لأصلِ مشروعيتِهِ، فإنَّ الوضوءَ
كان شُرع قبلَ ذلك بكثيرٍ، كما سبقَ تقريرُه في أولِ "كتابِ الوضوءِ"، وإنَّما كان تمهيدًا للانتقالِ عنه إلى التيمم عندَ العجزِ عنه.
ولهذا قالتْ عائشةُ: فنزلتْ آيةُ التيمم، ولم تقل: آيةُ الوضوءِ.
والثالث: أنه قد ورد التصريحُ بذلكَ في "صحيح البخاريِّ " كما ذكرناه.
وأمَّا توقُّفهم في التيممِ حتَّى نزلتْ آيةُ المائدةِ مع سبْقِ نزولِ التيممِ في
سورة النساءِ، فالظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ - أنَّهم توقَّفوا في جوازِ التيممِ في مثلِ
هذه الواقعةِ، لأنَّ فَقْدَهم للماءِ إنما كانَ بسببِ إقامتِهِم لطلبِ عقْدٍ أو قلادة، وإرسالِهم في طلبِها من لا ماءَ معه مع إمكانِ سيرِهم جميعًا إلى مكانٍ فيه
ماءٌ، فاعتقدُوا أنَّ في ذلك تقصيرًا في طلبِ الماءِ، فلا يُباحُ معه التيممُ.
فنزلتْ آيةُ المائدةِ مُبَيِّنةً جوازَ التيمم في مثلِ هذه الحالِ، وأنَّ هذه الصورةَ
داخلةٌ في عمومِ آيةِ النساءِ.
ولا يُستبعدُ هذا، فقد كان طائفةٌ من الصحابةِ يعتقدونَ أنَّه لا يجوزُ
استباحةُ رُخَصِ السَّفرِ من الفطرِ والقَصْرِ إلا في سفرِ طاعةٍ دونَ الأسفارِ
المُباحةِ، ومنهم من خَصَّ ذلك بالسفرِ الواجبِ كالحجِّ والجهادِ، فلذلكَ توقَّفوا في جوازِ التيمم للاحتباسِ عن الماءِ لطلب شيءٍ من الدنيا حتى بيَّن لهم
جوازَهُ ودخولَهُ في عمومِ قولهِ: (فَلَمْ تَجِدوا مَاءً) ، ويدل ذلك على(1/399)
جوازِ التيمم في سفرِ التجارةِ وما أشبهه من الأسفارِ المباحةِ، وهذا مما يَستأنس به من يقول: إنَّ الرُّخَصَ لا تُستباح في سفرِ المعصية.
وأمَّا دعوى نزول سورةِ المائدةِ كلِّها في حجِّةِ الوداع فلا تَصحُّ، فإن فيها
آيات نزلتْ قبلَ ذلكَ بكثيرٍ، وقد صحَّ أن المقْدادَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدرٍ: لا نقول لكَ كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلا إنَّا هَا هُنا قاعدُون، فدل هذا على أنَّ هذه الآية نزلتْ قبل غزوةِ بدر. واللَّهُ أعلمُ.
وقد ذكرَ اللَّهُ تعالى التيممَ في الآيتينِ بلفظ واحد، فقال فيهما:
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) .
فقولُهُ تعالى: (وَإِن كنتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ، ذكر شيئين مبيحين
للتيمم:
أحدهما: المرضُ، والمرادُ به عندَ جمهورِ العلماءِ: ما كانَ استعمال الماءِ معه
يُخشى منه الضررُ.
والثاني: السفرُ، واختلفُوا: هل هوَ شرطٌ للتيمم مع عدمِ الماءِ، أم وقعَ
ذكرُه لكونِهِ مظنَّة عدمِ الماءِ غالبًا، فإن عدمَ الماء في الحضرِ قليل أو نادرٌ، كما قال الجمهورُ في ذكرِ السفرِ في آيةِ الرَّهْنِ، أنَّهَ إنما ذُكِر السَّفرُ لأنه مظنَّةُ عدمِ الكاتب، وليس بشرط للرَّهنِ.
والجمهورُ: على أنَّ السفر ليس بشرط للرهنِ ولا للتيمم مع عدمِ الماءِ.
وأنَه يجوزُ الرهنُ في الحضرِ، والتيمم مع عدمِ الماءِ في الحضرِ.
وقالت الظاهريةُ: السفر شرطٌ في الرهنِ والتيمم.(1/400)
وعن أحمدَ روايةٌ باشتراطِ السفرِ للتيمم خاصةً، وحُكي روايةً عن أبي
حنيفة وعن طائفة من أصحابِ مالكٍ.
وعلى هذا: فلا فرق بين السفرِ الطويلِ والقصيرِ على الأصح عندهم.
وقولُهُ: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم منَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتمُ النِّسَاءَ) .
قد قيل: إنَّ "أو" هنا بمعنى الواو، كما يقولُ الكوفيونَ ومنْ وَافَقَهُم، فإنه
لما ذَكَر السببينِ المبيحينِ للتيمم، وهما التضررُ باستعمالِهِ بالمرضِ ومظنةُ فقْدِهِ
بالسفرِ ذكر ما يُستباحُ منه الصلاةُ بالتيمم وهو الحدثُ، فإنَّ التيمم يُبيحُ
الصلاةَ من الحدثِ الموجودِ ولا يرفعُه عند كثيرٍ من العُلماءِ، وهو مذهبُ
الشافعيِّ، وظاهرُ مذهبِ أحمدَ وأصحابِه، ولهذا قالُوا: يجب عليه أن ينوي
ما يستبيحُه من العباداتِ وما يَستبيح فعلَ العباداتِ منه من الأحداثِ.
وقالتْ طائفةٌ: بل التيمم يرفع الحدثَ رفْعًا مؤقتًا بعدمِ القدرةِ على
استعمالِ الماءِ، ورُبَّما استدل بعضُهم بهذه الآيةِ، وقالُوا: إنَّما أمرَ اللَّهُ بالتيمم مع وجودِ الحدثِ، ولو كانَ التيممُ واجبًا لكلِّ صلاةٍ أو لوقتِ كل صلاةٍ - كما يقولُهُ من يقول: إنَّ التيممَ لا يرفعَ الحدثَ، على اختلافٍ بينهم في ذلك - لما كان لذكرِ الحدثِ معنًى.
والأظهرُ - واللهُ أعلمُ -: أنَّ "أو" ها هُنا ليست بمعنى الواو، بل هي على
بابها، وأُرِيدَ بها: التقسيم والتنويع، وأنَّ التيممَ يُباح في هذه الحالاتِ
الثلاثِ، واثنتان منهما مَظِنَّتان، وهُما: المرضُ والسفرُ، فالمرضُ مظنَّة التضررِ باستعمالِ الماء، والسفر مظنة عدم الماءِ، فإن وُجدتْ الحقيقةُ في هاتينِ المظنتينِ جازَ التيممُ، وإلا فلا.(1/401)
ثمَّ ذكرَ قسمًا ثالثًا، وهو وجودُ الحقيقةِ نفسِها، فذكر أنَّ من كانَ مُحْدِثًا
ولم يجدْ ماءً فلْيَتَيمَّم، وهذا يشملُ المسافرَ وغيرَه، ففي هذا دليلّ على أنَّ
التيممَ يجوز لمن لم يجدِ الماءَ، مسافرًا كان أو غيرَ مسافرٍ، واللَّهُ أعلمُ.
وقد ذكر سبحانَهُ حدثَين:
أحدهما: الحدثُ الأصغرُ، وهو المجيء من الغائطِ، وهو كناية عن قضاء
الحاجةِ والتَّخَلِي، ويلتحقُ به كلُّ ما كانَ في معناهُ، كخروج الريح أو
النجاساتِ من البدَنِ عندَ من يرى ذلكَ.
والثاني: ملامسةُ النساءِ، واختلفُوا: هل المرادُ بها الجماعُ خاصةً، فيكونُ
حينئذٍ قد أمَرَ بالتيمم من الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ، وفي ذلكَ رد على من
خالفَ في التيمم للجنابةِ كما سيأتي ذكْرُهُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى - أو المرادُ
بالملامسةِ مقدِّماتُ الجِماع من القُبْلةِ والمباشرةِ لشهوة، أو مطلقُ التقاء
البَشْرَتين، وعلى هذين القولينِ فلم يذكر في الآيةِ غير التيمم من الحدث
الأصغر.
وقولُه تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) ، متعلِّق بمن أحدثَ، سواء كان
على سفر أو لم يكنْ، كما سبق تقريرُه، دون المريضِ، لأنَّ المريضَ لا يُشترط لتيممه فقْدُ الماءِ، هذا هو الذي عملَ به الأُمة سلفًا وخلفًا.
وحُكِيَ عن عطاءٍ والحسنِ: أنَّ فقْدَ الماء شرط للتيمم مع المرض - أيضًا -
فلا يُباحُ للمريض أن يتيممَ مع وجودِ الماءِ وإن خشي التلفَ.
وهذا بعيدُ الصحةِ عنهما، فإنه لو لم يَجُزِ التيممُ إلا لفقدِ الماء لكان ذِكْرُ
المرضِ لا فائدةَ له.(1/402)
وقولُهُ: (فَتَيَمَّمُوا) ، أصلُ التيمم في اللغةِ القصدُ، ثم صارَ علمًا
على هذه الطهارةِ المخصوصةِ.
وقولُهُ: (صَعِيدًا) ، اختلَفُوا في المرادِ بالصعيدِ، فمنهُم من فَسَّره
بما تصاعدَ على وجهِ الأرضِ من أجزائها، ومنهم: من فسره بالتراب خاصةً.
وقولُهُ: (طَيِّبًا) ، فسره من قال: الصعيدُ: ما تصاعدَ على وجهِ
الأرضِ " بالطاهرِ، ومن فسره بالترابِ، قال: المرادُ بالصعيدِ التراب المُنْبِت، كقوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُج نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، وهذا مذهبُ
الشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ عنه.
وقال ابنُ عباسٍ: الصعيدُ الطيبُ ترابُ الحَرْثِ.
وقولُهُ: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) ، كقولِهِ في الوضوءِ:
(وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) .
وقد ذكرنا فيما سبَقَ في "أبوابِ الوضوءِ" أنَّ كثيرًا من العلماءِ أوجبوا
استيعاب مسح الرأسِ بالماءِ، وخالفَ فيه آخرونَ، وأكثرُهم وافقُوا هاهُنا.
وقالُوا: يجبُ استيعابُ الوجهِ والكفينِ بالتيمم، ومنهُم من قال: يُجْزِئُ
أكثرُهما، ومنهم من قال: يجزئُ مسحُ بعضِهما كالرأسِ - أيضًا.
وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمَّار: "إنَّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرضَ، ثم تمسحُ بهما وجهك وكفَّيْك "يردُّ ذلك ويبينُ أنَّ المأمورَ به مسحُ جميعهما.
وسيأتِي الكلامُ على حدِّ اليدينِ الأمورِ بمسحِهِما في التيممِ - إن شاءَ
تعالى.
وقولُهُ تعالى: (مِّنْهُ) يستدل به منْ قال: لا تيمم إلا بترابٍ لَهُ(1/403)
غبارٌ يعلق باليدِ، فإن قوله: (مِّنْهُ) ، يقتضي أن يكونَ الممسوحُ به
الوجهُ واليدان بعض الصعيدِ، ولا يمكنُ ذلك إلا فيما له غبارٌ يَعْلَق باليد حتى
يقع المسح به، ومَنْ خالَفَ في ذلك، جعَل "مِن" هاهُنا لأبعد الغاية، لا
للتبعيض، وهو بعيد يأباه سياق الكلامِ، واللَّهُ تعالى أعلم.
* * *
وقد أجمع العلماءُ على أنَّ مسح الوجهِ واليدينِ بالترابِ في التيمم فرضٌ
لا بدَّ منه في الجملةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: (فَامْسَحوا بِوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) .
ولكن اختلفوا في قَدْر الفَرْضِ من ذلك:
فأمَّا " الوجهُ ":
فمذهبُ مالكٍ والشافعيَ وأحمدَ وجمهورِ العلماءِ: أنه يجب استيعابُ
بشرتِهِ بالمسح بالترابِ، ومسْحُ ظاهرِ الشعرِ الذي عليه، وسواءٌ كان ذلك
الشعر يجب إيصالُ الماءِ إلى ما تحتَه كالشعرِ الخفيفِ الذي يَصِفُ البشرةَ، أم
لا، هذا هو الصحيحُ.
وفي مذهبِنَا ومذهبِ الشافعيِّ وجهٌ آخرُ: أنه يجب إيصالُ الترابِ إلى ما
تحتَ الشعورِ التي يجبُ إيصالُ الماءِ إلى ما تحتها، ولا يجبُ عند أصحابِنَا
إيصالُ الماءِ إلى باطنِ الفم والأنفِ، وإن وجبَ عندهم المضمضةُ والاستنشاقُ
في الوضوءِ.
وعن أبي حنيفةَ روايات، إحدَاهَا: كقولِ الشافعيِّ وأحمدَ.(1/404)
والثانية: إن ترك قدرَ درْهم لم يُجزئْه، وإن تركَ دونَهُ أجْزأه.
والثالئةُ: إن تركَ دون ربع الوجهِ أجَزأه، وإلا فلا.
والرابعةُ: إن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه، وإلا فلا، وحكاهُ الطحاويُّ عن أبي حنيفةَ وأبي يوسفَ وزُفَرَ.
وحكى ابنُ المنذرِ، عن سُليْمان بن داودَ الهاشميِّ: أن مسحَ التيمم حُكْمُه
حكْمُ مسح الرأس في الوضوءِ، يجزئُ فيه البعضُ.
وكلامُ الإمامِ أحمدَ يدلُّ على حكايةِ الإجماع على خلافِ ذلك.
قال الجوزجانيُّ: ثنا إسماعيلُ بنُ سعيدِ الشالنجيُّ، قال: سألتُ أحمدَ بن
حنبلٍ عمن ترك مسحَ بعضِ وجههِ في التيمم؟
قال: يُعيدُ الصلاةَ. فقلتُ له:
فما بالُ الرأسِ يجزئُ في المسح ولم يَجُز أن يتركَ ذلكَ من الوجهِ في التيمم؟
فقال: لم يبلغْنا أن أحدًا تركَ ذلك من تيممه.
قال الشَّالنجي: وقال أبو أيُّوبَ - يعني: سليمانَ بنَ داودَ الهاشميَّ يجزئه
في التيمم إن لم يُصب بعضَ وجهه أو بعضَ كفَّيه، لأنه بمنزلةِ المسح على
الرأس؛ إذا تركَ منه بعضًا أجزأه.
قال الجوزجانيُّ: فذكرتُ ذلك ليحى بنِ يحيى - يعني: النَّيْسابوريَّ فقال:
المسحُ في التيمم كما يَمْسَحُ الرأسَ، لا يتعمَّد لتركِ شيء من ذلكَ، فإنْ بَقِيَ شيء منه لم يُعِدْ، وليسَ هو عندي بمنزلةِ الوضوءِ.
قال الجوزجانيُّ: لم نسمعْ أحدًا يتَّبِعُ ذلكَ من رأسِهِ في المسح، ولا بينَ
أصابِعِه في التيممِ كما يتَّبِعُوا في الوضوءِ بالتخليلِ، فأحسن الأقاويل منها ما
ذكَرَه يحيى بن يحيى: أن لا يتعمَّد تركَ شيء من ذلك، فإن بقي شيءٌ لم
يُعِد. انتهى.(1/405)
وظاهرُ هذا: يدلُّ على أنَّ مذهبَ سليمانَ بنِ داودَ ويحيى بن يحيى
والجوزجانيَّ: أنه إذا ترك شيئًا من وجهه ويديه في التيمم لم يُعِد الصلاةَ.
ونقل حرْب، عن إسحاقَ، أنه قال: تضربُ بكفَّيْك على الأرضِ، ثم
تمْسح بهما وجهَك، وتَمُرُّ بيديك على جميع الوجه واللِّحْية، أصابَ ما
أصابَ وأخطأ ما أخطأ، ثم تضرب مرة أخرى بكفَّيْك.
ومُرادُ إسحاقَ: أنه لا يشترط وصولُ الترابِ إلى جميع أجزاءِ الوجهِ كما
يقولُهُ من يقولُهُ من الشافعيَّةِ وغيرِهم، حتى نص الشافعي: أنه لو بَقَيَ من
مَحِلِّ الفرض شيء لا يدركه الطَّرْفُ لم يصحَّ التيممُ.
واستشكل أبو المعالِي الجُوَيْنىُّ تحقُّق وصولِ الترابِ إلى اليدينِ إلى المرفقينِ
بضربةٍ واحده، وقالَ: الذي يجبُ اعتقادُه أنَّ الواجبَ استيعابُ الَمَحِلِّ بالمسح باليدِ المغبَّرةِ من غير ربطِ الفكر بانبساطِ الغبارِ على جميع المحل.
قال: وهذا شيء أظهر به، ولم أرَ منه بُدًّا.
وحكى ابنُ عطية في "تفسيرِهِ " عن محمدِ بنِ مسلمةَ من المالكية: أنه لا
يجبُ أن يُتْبَعَ الوجهُ بالترابِ كما يُتْبعُ بالماءِ، وجعله كالخُفِّ وما بين الأصابع
في اليدينِ - يعني: في التيمم.
وحكى في وجوبِ تخليلِ الأصابع وتحريكِ الخاتَم قولينِ لأصحابِهِم:
بالوجوبِ، والاستحبابِ.
وحكَى ابنُ حزمٍ في وجوبِ تخليلِ اللحيةِ بالترابِ اختلافًا.
وأما " اليدانِ ":
فأكثرُ العلماءِ على وجوبِ مسح الكفين: ظاهرهما وباطنهما بالترابِ إلى(1/406)
الكُوعين، وقد ذكرنا أن بعض العلماء لم يوجب استيعابِ ذلك بالمسح.
وحكى ابنُ عطية عن الشَّعْبيِّ: أنه يمسح الكفينِ فقطِ، لحديثِ عمَّارٍ، وأنَّه
لم يُوجبْ إيصال الترابِ إلى الكُوعين، وهذا لا يصحُّ. واللَّهُ أعلم.
وإنَّما المرادُ بحديثِ عمَّارٍ، وبما قالُه الشعبيُّ وغيرُه من مسح الكفينِ:
مسحُهما إلى الكُوعين، وقد جاء ذلك مقيَّداً، رواه أبو داود الطيالسيُّ.
عن شعبةَ، عن الحكَم: سمعَ ذَرَّ بن عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ عبدِ الرحمنِ بنِ
أبْزَى، عن أبيه، عن عمَّارٍ، أنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: "إنَّما كان يُجزئك " وضربَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بيدهِ الأرضَ إلى الترابِ، ثم قال: "هكذا"، فنفخَ فيها.
ومسَحَ وجهه ويديهِ إلى المفْصَلِ، وليسَ فيه الذراعانِ.
ورَوى إبراهيمُ بنُ طهْمان، عن حُصينٍ، عن أبي مالكٍ، عن عمَّارٍ بنِ
ياسرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنَّما كان يكفيك أنْ تضْرِبَ بكفيك في الترابِ، ثم تنْفُخ فيهما، ثم تمسحُ بهما وجهك وكفيك إلى الرُّسْغَيْنِ ".
خرَّجه الدارقطنيُّ وقال: لم يَروه عن حُصَين مرفوعًا غيرُ إبراهيمَ بنِ
طهمانَ، ووقفه شعبةُ وزائدةُ وغيرُهما.
يعني: أنهم رَوَوْه عن حُصينٍ، عن أبي مالكٍ، عن عمَّارٍ موقوفًا.
والموقوفُ أصحُّ -: قاله أبو حمادتمٍ الرَّازيُّ.
وأبو مالكٍ، قال الدارقطنيُّ: في سماعِه من عمَّارٍ نظرٌ، فإن سلمةَ بنَ(1/407)
كُهَيلٍ رواه عن أبي مالكٍ، عن ابنِ أبْزَى، عن عمَّارٍ.
وقال أبو حاتمٍ: يُحتمل أنه سمع منه.
وأبو مالكٍ، هو: الغِفاريُّ، سُئل أبو زرعةَ: ما اسمه؟
فقال: لا يُسمى.
وقال السهيليُّ: اسمُهُ حبيبُ بنُ صُهْبانَ.
وفيما قاله نظرٌ؛ فإن حبيبَ بنَ صهبانَ هو: أبو مالكٍ الكاهليّ الأسديُّ.
وأما الغفاريُّ فاسمه: غزوانُ -: قالهُ ابنُ معينٍ. وقد فرَّق بينهما ابنُ أبي
حاتمٍ، ووقع في بعضِ نُسخ البخاريِّ، غير أنَّ البخاريَّ متوقفٌ غيرُ جازمٍ
بأنَّ حبيبَ بنَ صُهبانَ يكنى: أبا حاتمٍ، ولا أنَّ أبا مالكٍ الغِفاريَ اسمُه:
غزوانُ.
ورُوِيَ حديثُ عمَّارٍ على وجهٍ آخرَ: فروى الأعْمشُ، عن سلمةَ بنِ
كُهَيلٍ، عن عبدِ الرحمن بن أبْزَى، عن عمَّار، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنما كان يكفيك هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرَى، ثم مسح وجهه، والذراعينِ إلى نصفِ الساعدينِ، ولم يبلغ المرفقينِ، ضربةً واحدةً.
خرَّجه أبو داود.
وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ سفيانَ الثوريِّ، عن سلمةَ بن كُهَيْلٍ، عن
أبي مالك، عن عبدِ الرحمن بن أبزى، قالَ: كنتُ عند عمرَ، فقال عمَّار:
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا" وضربَ بيديه إلى الأرضِ، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصفِ الذراع.(1/408)
وخرَّجه النسائيُّ من طريقِ سفيانَ، عن سلمةَ، عن أبي مالكٍ - وعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبْزى، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبْزى، قال:
كنَّا عند عمر - فذكر الحديثَ، وفيه: ثم مسح وجهه وبعضَ ذراعيهِ.
وقد رواه عن سلمةَ بنِ كُهَيْل: شعبةُ، وسفيانُ، والأعْمش، واختُلِفَ
عنهم في إسنادِهِ.
وقد تقدَّمَ: أن في رواية شعبةَ أن سلمةَ شكَّ: هل ذكر فيه الذراعين، أو
الكفين خاصةً، وهذا يدل على أن ذكْرَ الذراعينِ أو بعضهِمَا لم يحفظه
سلمةُ، إنَّما شكَّ فيه، لكنَّه حفظ الكفينِ وتيقنَهُما، كما حفظه غيره.
وعلى تقديرِ أن يكون ذكرُ بعضِ الذراعينِ محفوظا فقد يحملُ على
الاحتياطِ لدخولِ الكوعينِ، أو يكونُ من بابِ المبالغةِ وإطالةِ التَّحجيلِ، كما
فعلَهُ أبو هريرةَ في الوضوءِ، وقد صرَّح الشافعيةُ باستحبابِهِ في التيمم -
أيضًا.
وقد رُويَ عن قتادةَ، قال: حدَّثني محدِّثٌ عن الشعبيِّ، عن عبدِ الرحمنِ
بن أبْزى، عن عمَّارِ بن ياسرٍ، أنَّ رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إلى المرفقين ".
خرَّجه أبو داود.
وهذا الإسنادُ مجهولٌ لا يَثْبُت.
والصحيحُ: عن قتادةَ، عن عزرةَ، عن سعيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيهِ.
عن عمَّارٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ بالتيمم للوجه والكفينِ.(1/409)
خرَّجه الترمذيُّ وصححه.
وخرَّجه أبو داود، ولفظُه: أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَه في التيمم: ضربةً واحدةً للوجه والكفينِ.
وقد روي عن عمَّارٍ، أنَهم تيمَّموا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباطِ: من روايةِ الزهريِّ، عن عُبيد اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن عمَّارٍ، قال: نزلتْ رخصةُ التطهر بالصَّعيد الطيب، فقام المسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربوا بأيديهم الأرضَ، ثم رفعوا أيديَهم ولم يَقبضوا من الترابِ شيئًا، فمسحوا بها وجوهَهم وأيديَهم إلى المناكبِ، ومن بُطُون أيديهم إلى الآباط.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ.
وقد اختُلِفُ في إسنادِهِ على الزهري:
فقيل: عنه، كما ذكرنا.
وقيل: عنه، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّه بنِ عُتْبةَ، عن أبيهِ، عن عمَّارٍ.
كذا رواه عنه: مالكٌ وابنُ عُيْينةَ، وصحَّحَ قولهما أبو زُرعةَ وأبو حازمٍ
الرَازِيَانِ.
وقيل: عن الزِّهريِّ، عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن عمَّارٍ - مرسلاً.
وهذا حديث منكر جدًّا، لم يزلِ العلماءُ يُنكرونه، وقد أنكَرَهُ الزهريُّ
راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناسُ -: ذكره الإمامُ أحمد وأبو داود(1/410)
وروي عن الزهريِّ، أنه امتنع أن يُحَدِّث به، وقال: لم أسمعْه إلا من
عُبَيْدِ اللَّهِ، ورويَ عنه، أنه قالَ: لا أدْري ما هو؟!.
وروي عن مكحولٍ، أنه كان يغضبُ إذا حدَّث الزهريُّ بهذا الحديثِ.
وعن ابنِ عُيَيْنة، أنه امتنع أن يُحدِّث به، وقال: ليسَ العملُ عليه.
وسئل الإمامُ أحمدُ عنه، فقالَ: ليسَ بشيء - وقال - أيضًا -: اختلفُوا
في إسنادِهِ، وكانَ الزهريُّ يهابُه، وقال: ما أرى العملَ عليه.
وعلى تقديرِ صحَّتِه، ففي الجوابِ عنه وجهانِ:
أحدهما: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُعلِّمْ أصحابَهُ التيممَ على هذهِ الصفَةِ، وإنَّما فعلوه عند نزولِ الآيةِ، لظنِّهم أن اليدَ المطلقةَ تشملُ الكفينِ والذراعينِ والمَنْكبَيْن والعضدين، ففعلُوا ذلكَ احتياطا كما تمعَّك عمَّار بالأرض للجنابةِ، وظنًّ أنَّ تيمُّمَ الجُنُبِ يعُمُّ البدنَ كلَّه كالغُسلِ، ثم بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - التيممَ بفعلِهِ.
وقولِه: "التيمم للوجه والكفين " فرجَعَ الصحابةُ كلُّهم إلى بيانِهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عمَّار راوِي الحديثِ، فإنه أفتى أن التيممَ ضربة للوجهِ والكفينِ، كما رواه حُصينٌ، عن أبي مالكٍ، عنه، كما سبق.
وهذا الجوابُ ذكره إسحاقُ بنُ راهويه وغيره من الأئمةِ.
والثاني: ما قالهُ الشافعيُّ، وأنّه إن كان ذلكَ بأمْرِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهو منسوخ، لأنَّ عمَّارًا أخْبر أن هذا أولُ تيمُّم كان حينَ نزلتْ آيةُ التيمم، فكلُّ تيمَّم كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَهُ مخالفٌ له، فهو له ناسح.
وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيرُه من العلماءِ.
وقد حكى غيرُ واحدٍ من العلماءِ عن الزهري، أنَّه كان يذهبُ إلى هذا(1/411)
الحديثِ الذي رواه.
ورُوي عن عبدِ الوهَّابِ بنِ عطاءٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، أن الزُّهريَّ
قال: التيمم إلى الآباط، قال سعيد: ولا يُعجبنا هذا..
قلت: قد سبقَ عن الزهري أنه أنكر هذا القول، وأخبر أن الناس لا
يعتبرونَ به، فالظاهرُ أنه رجع عنه لما علم إجماع العلماءِ على مخالفتِهِ.
واللَّهُ أعلمُ.
وذهبَ كثيرٌ من العلماءِ إلى أنه ينتهي المسحُ لليدين بالترابِ إلى المرفقينِ.
هذا مروي عن ابنِ عمرَ وجابرٍ - وروي - أيضًا - عن سالم بنِ
عبدِ اللَّه، والشَّعْبيِّ، والحسنِ، والنخَعِيَّ، وقتادةَ، وسفْيانَ، وابن المباركِ.
واللَّيْثِ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابِهِ.
واستدلَّ بعضُهم: بالأحاديثِ المرفوعةِ المروية في ذلكَ، ولا يثبت منها
شيء، كما سبق الإشارةُ إلى ذلك.
واستدلُّوا - أيضًا -: بأنَّ اللَّه تعالى أمرَ بغسلِ اليدينِ في الوضوءِ إلى
المرفقين، ثم ذكر في التيمم مسحَ الوجهِ واليدينِ، فينصرفُ إطلاقهما في
التيمم إلى تقييدِهِما في الوضوءِ، لا سيَّما وذلكَ في آيةٍ واحده. فهُوَ أولى
منْ حَمْلِ المُطْلَقِ علي المُقَيَّدِ في آيتينِ.
وأجابَ من خالفَهُم: بأن المطلق إنما يحملَ على المقيدِ في قضيةٍ واحدة.
والوضوءُ والتيممُ طهارتانِ مختلفتان، فلا يصحُّ حمْلُ مطلقِ أحدِهما علَّىَ
مقيدِ الآخرِ.
ويدلُّ على ذلك: أن أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند نزولِ آيةِ التيمم لم يَفهموا(1/412)
حملَ المطلقِ على المقيدِ فيها، بل تيمَّمُوا إلى المناكبِ والآباطِ، وهم أعلمُ
الناسِ بلُغةِ العربِ، ثم بيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن التيممَ للوجهِ والكفينِ، وهو - أيضًا - يُنافي حمْلَ المطلقِ على المقيدِ فيها.
وذهب آخرونَ: إلى أن التيممَ يمسح فيه الكفان خاصةً.
وقد حكى ابنُ المنذرِ لأهلِ هذه المقالةِ قولينِ: أحدهما: يمسحُ الكفين إلى
الرسغينِ، وحكاه عن عليٍّ، والثاني: يمسحُ الكفين مطلقًا، قال: هو قولُ
عطاءٍ، ومكحولٍ، والشعبي، والأوزا عيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ.
قال: وبهذا نقولُ للثابتِ عن نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "التيممُ ضربة للوجهِ والكفينِ ".
قلتُ: هذا يُوهم أن من قالَ بمسح الوجهِ والكفين، أنه لا ينتهي مسحُهُما
إلى الكوعين، وهذا كما حكاهُ ابنُ عطيّة عن الضعبيِّ، كما سبق عنه، وليس
هذا قولُ الأئمةِ المشهورينَ.
وقد روى داودُ بنُ الحُصَيْنِ، عن عكرمة، عن ابنِ عباسٍ، أنه سُئل عن
التيمم، فقال: إنَّ اللَّهَ قال في كتابِهِ حينَ ذكر الوضوءَ:
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) ، وقال في التيممِ: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكمْ وَأَيدِيكُم منه) ، وقال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، فكانتِ السُّنةُ في القطع الكفين، إنما هو: الوجهُ والكفينِ - يعني: التيمم.
خرَّجه الترمذيُّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ غريب.
وروى الحكمُ بنُ أبانِ، عن عكرمةَ هذا المعنى - أيضًا.(1/413)
وكذلك استدلَّ بهذا الدليلِ مكْحُولٌ وأحمدُ وغيرُهما من الأئمةِ، وقالُوا:
إنَّ القطعَ يكونُ من الرُّسْغ، فكذلك التيممُ.
والرسغُ: هو مَفْصل الكفِّ، وله طرفانِ هما عظمانِ، فالذي يلِي الإبهامَ
كوعٌ، والذي يلي الخِنْصرَ كُرسُوعٌ.
ومضمون هذا الاستدلال: أن اليدَ إذا أُطلقتْ انصرفتْ إلى الرُّ سغْ، وإن
قيّدت بموْضِع تقيدتْ به، فلما قيدتْ بالمرفقين في الوضوءِ وجبَ غَسْلُ
الذراعينِ إلى المرفقين، ولما أُطلقتْ في التيمم وجبَ إيصالُ الترابِ إلى
الرسغ، كما تُقطع يدُ السارقِ ويدُ المحاربِ منه.
وكذا قالَ الأوزاعيُّ: التيممُ ضربةٌ للوجهِ والكفينِ إلى الكُوعينِ.
وكذلك نص إسحاقُ على أنَّ التيممَ يبلغ إلى الرسغ، وخطَّأ من قال: لا
يُجزئ ذلك. وقال: الصحيحُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المعروفُ المشهورُ الذي يرويه الثقة عن الثقة بالأخبارِ الصحيحةِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّم عمَّارَ بنَ ياسرٍ التيممَ للوجهِ والكفينِ، قال: وعلى ذلكَ كان عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللَّهِ بن عباسٍ، والشعبيُّ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، ومكحُولٌ وغيرُهم، فلا يجوزُ لأحد أن يدَّعي على هؤلاء أنهم لم يعرِفُوا التيممَ.
قال: ولو قالُوا: الذراعين أحبُّ إلينا اختيارًا لكان أشْبَهُ.
وروى حرْبٌ بإسنادِهِ، عن زائدة، عن حُصينِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي
مالكٍ، عن عمَّارٍ، أنه غَمَس باطنَ كفَّيْه بالترابِ، ثم نفخ يدَه، ثم مسح
وجهَهُ ويديه إلى المفْصلِ.
وبإسنادِهِ: عن عبدِ العزيزِ بن أبي رَوَّادٍ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، قالَ:(1/414)
التيممُ ضَرْبَتَانِ: ضربةٌ للوجهِ، وضربةٌ للكفَّيْنِ.
قال: وثنا أحمدُ بنُ حنبل: ثنا سليمانُ بنُ حيَّانَ: أبنا حجَّاج، عن عطاءٍ
والحَكَم، عن إبراهيمَ، قال: التيممُ ضربتانِ للكفين والوجهِ.
قال: وثنا محمودُ بنُ خالدٍ: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن حامدٍ وسعيدِ بنِ
بشيرٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، قال: التيممُ ضربة واحدةٌ للوجهِ
والكفين.
قال الوليدُ: وأبنا الأوزاعيُّ، عن عطاءٍ، أنه كان يقولُ في التيمم: مسحة
واحدة للوجهِ، ثم ضربة أخرى لكفَّيْه، وبه يأخذُ الأوزاعيُّ.
وروى حرْبٌ بإسنادِهِ عن إسماعيلَ بنَ أبي خالدٍ، قال: سألتُ الشَّعْبيَّ عن
التيممَ؛ فضربَ بيديه الأرضَ، ثم قرن إحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه
وكفيه.
قال حرْبٌ: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ حنْبَل، يقول: والتيممُ ضربةٌ
واحدة للوجهِ والكفينِ، يبدأُ بوجههِ، ثم يمسحُ كفَّيهِ إحداهُما بالأخرَى، قيل
له: صحَّ حديثُ عمَّارٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قال: نعَمْ، قد صح.
والقول بأنَّ الواجبَ في التيمم مسحُ الكفينِ فقط: رواية عن مالكٍ، وقول
قديم للشافعيِّ، قال في القديمِ - فيما حكاه البيهقيُّ في "كتابِ المعرفةِ" -:
قد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الوجهِ والكفينِ، ولو أعلمُه ثابتًا لم أعدهُ، قال: فإنه ثبت عن عمَّارٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفين، ولم يثبت إلى المرفقينِ، فما يثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أولى، وبهذا كان يُفتي سعيدُ بنُ سالمٍ، انتهى.
ومن العلماءِ من قال: الواجبُ مسحُ اليدينِ إلى الكُوعَيْنِ، ويُستحبُّ(1/415)
مسحُهما إلى المرفقينِ، ولعله مرادُ كثيرٍ من السَّلَفِ - أيضًا - فإنَّ منهم من
رُوي عنه: إلى الكُوعين، وروي عنه: إلى المرفقينِ، كالشعبيِّ وغيرِه، فدل
على أن الكُلَّ عندَهُم جائز.
وهو - أيضًا - رواية عن مالكٍ، وقول وكيع، وإسحاقَ، وطائفةٌ من
أصحابِنا، وحكَوْه روايةً عن أحمدَ، والمنصوصُ عنه يدلُّ على أن ذلك جائزٌ.
لا أنه أفضلُ.
وسيأتي ذكْرُ الضربةِ الواحدةِ، والضربتين فيما بعد - إن شاء اللَّه تعالى.
فإن البخاريَّ أفْرَدَ لذلك بابًا.
* * *
وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أمْرُ الجنبِ إذا لم يجدِ الماءَ بأن يتيمَّمَ ويصلِّي، في حديث عمرانَ بنِ حُصينٍ المتقدمِ، وحديثِ عمَّارٍ، ورويَ - أيضًا - من حديثِ أبي ذرٍّ وغيرِه.
وشُبهةُ المانعينَ: أن اللهَ تعالى قال: (وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَى تغْتَسِلُوا)
، وقال: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّرُوا) - يعني به: الغُسْلَ - ثم
ذكرالتيممَ عند فقْدِ الماءِ بعد ذكره الأحداثَ الناقضةَ للوضُوءِ، فدل على أنَّه
إنَما رخَّصَ في التيمم عثدَ عدمِ الماءِ لمن وُجدتْ منه هذه الأحداثُ، وبقِيَ
الجُنُبُ مأمورًا بالغسلِ بكلِّ حالٍ.
وهذا مردودٌ؛ لوجهينِ:
أحدهما: أنَّ آيةَ الوضوءِ افتتحتْ بذكر الوضوءِ، ثم بغسلِ الجنابةِ، ثم أمرَ(1/416)
بعد ذلك بالتيمم عند عدمِ الماءِ، فعادَ إلى الحدثينِ معًا.
وإن قيلَ: إنه يعود إلى أحدهما، فعودُه إلى غسلِ الجنابةِ أولى، لأنه أقربُهُما، فأما عودُه إلى أبعدِهِم وهو - وضوءُ الصلاةِ - فممتنعٌ.
وأمَّا آيةُ سورةِ النساءِ، فليسَ بها سوى ذكرِ الجنابةِ، وليسَ للوضوءِ فيها
ذكرٌ، فكيفَ يعودُ التيممُ إلى غيرِ مذكورِ فيها، ولا يعودُ إلى المذكورِ.
والثاني: أنَّ كلتا الآيتينِ: أمر اللَّهُ بالتيمم من جاء من الغائط، ولمَسَ النساءَ أو لم يجد الماءَ، ولَمْسُ النِّساءِ إما أن يراد به الجِماعُ خاصةً، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه، أو أنه يدخل فيه الجماعُ وما دونه من الملامسةِ لشهوةٍ كما يقولُه غيرُهُ، فأما أن يُخَصَّ به ما دون الجماع ففيه بُعْدٌ.
ولمَّا أوردَ أبو موسى على ابنِ مسعودٍ الآيةَ تحيَّر ولم يْدرِ ما يقول، وهذا
يدلُّ على أنه رأى أن الآية يدخل فيها الجنب كما قاله أبو موسى.
وفي أمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجنبَ العادِمَ للماءِ أن يتيمَّمَ ويصلِّي دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - فهِمَ دخولَ الجنبِ في الآيةِ، وليس بعد هذا شيء.
ورَدُّ ابنِ مسعودٍ تيممَ الجنبِ، لأنه ذريعةٌ إلى التَّيَمُّم عندَ البردِ؛ لم يوافقْ
عليه، لأنَّ النصوصَ لا تُرَدُّ بسدِّ الذرائع، وأيضًا، فيقالُ: إن كان البردُ
يخشى معه التلف أو الضرر فإنه يجوز التيمم معه كما سبق.
وقد روى شُعْبةُ، أنَّ مُخارِقًا حدثهم، عن طارق، أنَّ رجلاً أجنبَ فلم
يصلِّ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقالَ لهُ: "أصَبْتَ "، وأجنب رجل آخرُ فتيمم وصلَّى، فأتاه - صلى الله عليه وسلم -، فقال له نحوًا مما قال للآخرِ - يعني: "أصَبْتَ ".(1/417)
خرَّجه النسائيُّ وهو مرسل.
وقد يُحملُ هذا على أنَ الأولَ سأله قبل نزول آيةِ التيمم، والآخرَ سأله
بعد نزولها.
وروى أبو داود الطيالسيُّ، عن شعبةَ، عن الحكم، عن ذَرٍّ، عن ابنِ
أبْزى، عن أبيه أنَّ عمَّارًا قال لعمرَ: أما تذْكُر يا أمير المؤمنين أني كنتُ أنا
وأنت في سَرِيَةٍ فأجنبنا ولم نجدِ الماءَ، فأما أنت فلم تصلِّ، وأما أنا فتمعكتُ
بالترابِ وصليتُ، فلما قدِمنا على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذكرنا ذلكَ لهُ، فقالَ: "أما أنت فلم يكن ينبغي لك أن تدع الصلاة، وأما أنت يا عمَّارُ فلم يكنْ لكَ أن تتمعك كما تتمعكُ الدابةُ، إنما كان يُجزيك " - وضربَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بيدِهِ إلى الأرضِ إلى
الترابِ، ثم قال: "هكذا"، ونفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى المفْصل. وليس فيه الذراعان
* * *
قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
ليُتدبرْ ما ذمَّ اللَّهُ به أهلَ الكتابِ من قسوةِ القلوبِ بعد إيتائِهم الكتابَ
ومشاهدتِهِم الآياتِ كإحياءِ القتيلِ المضروبِ ببعضِ البقرةِ، ثم نهينا عن
التشبيهِ بهم في ذلك، فقيل لنا: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) .(1/418)
وبيَّنَ في موضع آخرَ سببَ قسوةِ قلوبِهِم، فقال: سبحانه: (فَبِمَا نَقْضِهِم
مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) ، فأخبرَ أنَّ قسوةَ قلوبِهِم كانَ
عقوبةً لهُم على نقضِهم مواثيقَ اللَّهِ وعهودِهِ أنْ لا تفعلُوا ذلك.
ثمَّ قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكروا بِهِ) .
فذكرَ أنَّ قسوةَ قلوبِهم أوجبتْ لهم خصلتينِ مذمومتينِ:
إحداهما: تحريف الكلم من بعدِ مواضِعِهِ.
والثانية: نسيانُهم حظا ممَّا ذكِّرُوا به، والمرادُ تركُهُم وإهمالُهُم نصيبًا ممَّا ذُكَرُوا به من الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، فنسوا ذلكَ وتركُوا العملَ به وأهملوه.
وهذانِ الأمرانِ موجودانِ في الذين فسدُوا من علمائِنا لمشابهتِهِم لأهلِ
الكتاب:
أحدهما: تحريفُ الكلم، فإنَّ من تفقَّه لغير العملِ يقسُو قلبُه فلا يشتغلُ
بالعملِ، بل بتحريفِ الكلم، وصرفِ ألفاظِ الكتابِ والسنةِ عن مواضِعِها.
والتلطفِ في ذلكَ بأنواع الحيلِ اللطيفةِ، من حمْلِهَا على مجازاتِ اللغةِ
المستبعدَةِ ونحوِ ذلك، والطعنُ في ألفاظِ السنن حيثُ لم يمكنْهم الطعنُ في
ألفاظِ الكتابِ، ويذمُّونَ من تمسَّكَ بالنصوصِ وأجْرَاها على ما يُفهمُ منها
ويسمونه جاهلاً أو حسودًا.
وهذا يوجدُ في المتكلمينَ في أصولِ الدياناتِ، وفي فقهاءِ الرأي، وفي صوفيةِ الفلاسفةِ والمتكلمينَ.
والثاني: نسيانُ حظ مما ذُكِّرُوا به من العلم النافع فلا تتعظُ به قلوبُهم، بل(1/419)
يذمُّون من تعلَّمَ ما يبُكيه ويرِّقُ به قلبُه ويسمونَهُ قاصا.
ونقلَ أهلُ الرأي في كتبِهِم عن بعضِ شيوخِهِم أنَّ ثمراتِ العلومِ تدلُّ على
شرفِهَا، فمن اشتغلَ بالتفسيرِ فغايتُه أن يقصَّ على الناسِ ويذكرَهم.
ومن اشتغلَ برأيهم وعلمِهِم فإنَّه يفتي ويقضِي ويحكمُ ويدرِّسُ، وهؤلاء لهُم
نصيبٌ من الذين: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مَنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرَةِ هُم غَافِلُونَ) .
والحاملُ لهم على هذا شدَّةُ محبَّتِهم للدنيا وعلوّها ولو أنهم زهِدُوا في
الدنيا ورغِبُوا في الآخرةِ، ونصحُوا أنفسَهُم وعبادَ اللَّهِ لتمسَّكُوا بما أنزلَ اللَّهُ
على رسولِهِ، وألزمُوا الناسَ بذلك، فكان الناسُ حينئذٍ أكثرُهُم لا يخرجونَ
عن التقوى.
فكان يكفِيهم ما في نصوصِ الكتابِ والسنةِ، ومن خرج منهُم
عنها كانَ قليلاً، فكانَ اللَّهُ يقيضُ من يفهمُ من معاني النصوص ما يردُّ به
الخارجُ عنْهَا إلى الرجوع إليهَا ويستغنِي بذلكَ عمَّا ولَّدوه من الفروع الباطنةِ
والحيلِ المحرّمةِ التي بسببهَا انفتحتْ أبوابُ الرياءِ وغيرِه من المحرَّمات.
واستُحِلَّتْ محارمُ اللِّهِ بأدنى الحيل، كما فعلَ أهلُ الكتابِ: (فَهَدَى اللَّه
الَّذِينَ آمَنوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّه يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ) .
* * *(1/420)
قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
أما زِنى الثيبِ فأجمع المسلمونَ على أنَّ حَدَّه الرجمُ حتى يموتَ، وقد
رجمَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامديّة، وكان في القرآن الذي نُسخَ لفظُهُ:
"والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ".
وقد استنبطَ ابنُ عباس الرجمَ من القرآنِ من قولِهِ تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
قال: فمن كفرَ بالرَّجم، فقد كفرَ بالقرآن من حيثُ لا يحتسب.
ثم تلا هذه الآيةَ وقال: كان الرجمُ مما أخفوا، خرَّجه النسائي، والحاكمُ.
وقال: صحيحُ الإسنادِ.
ويُستنبط - أيضًا - من قولِهِ تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) إلى قولهِ تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) .
وقال الزهري: بلغنا أنها نزلتْ في اليهوديَّيْنِ اللَّذيْنِ رجمهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّي أحكمُ بما في النوراةِ" وأمر بهما فرُجِما.
وخرَّج مسلمٌ في "صحيحِهِ " من حديثِ البراءِ بن عازبٍ قصةَ رجمِ
اليهوديينِ، وقال في حديثِهِ: فأنزل اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحزُنك الذِين
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)(1/421)
وأنزل: (وَمَن لَّمْ يَحْكم بِمَا أَنزَلَ اللَّه فَأولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ، في الكفارِ كلِّها.
وخرَّجه الإمامُ أحمد وعندَهُ: فأنزلَ اللَّهُ: (لا يَحْزنكَ الَّذِينَ يسارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ) إلى قولِه: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) ، يقولونَ: ائتوا محمدًا.
فإن أفتاكُم بالتًّحميمِ والجلدِ، فخُذوه، وإن أفتاكُم بالرَّجم، فاحذَرُوا، إلى
قولِهِ: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرونَ) .
قال: في اليهودِ.
ورُوي من حديثِ جابرٍ قصةُ رجم اليهوديينِ، وفي حديثِهِ قالَ: فأنزلَ
اللَّهُ: (فَإِن جَاءوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إلى قوله: (وَإِنْ حَكمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ) .
وكانَ اللَّهُ تعالى قد أمر أوَّلاً بحبسِ النِّساءِ الزَّواني إلى أن يتوفاهنَّ الموتُ
أويجعلَ اللَّهُ لهن السبيلَ ثم جعلَ اللُّه لهنَّ سبيلاً.
ففي "صحيح مسلمٍ " عن عبادةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"خُذوا عنِّي خُذوا عنِّي قد جعلَ اللَّهُ لهنَّ سبيلاً:
البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائة والرَّجْمُ ".
وقد أخذَ بظاهرِ هذا الحديثِ جماعة من العلماءِ، وأوجبوا جلدَ الثيبِ
مائة، ثم رجمه كما فعل عليّ بشُراحة الهَمْدَانيِّة، وقال: جلدتُها بكتاب اللَّه.
ورجمتُها بسنّة رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.(1/422)
قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
كانتْ هذه الآية ُ يشتدُّ منها خوفُ السلفِ على نفوسِهِم فخافُوا أن لا
يكونُوا من المتَّقينَ الذين يُتقبلُ منهم.
وسُئلَ الإمامُ أحمدُ عن معنى "المتقينَ " فيها، فقالَ: يتقي الأشياءَ، فلا يقعُ
فيما لا يحِلُّ له.
* * *
وكان السلفُ يوصونَ بإتقانِ العملِ وتحسينِهِ دون مجردِ الإكثار منه، فإنّ
العملَ القليلَ مع التحسينِ والإتقانِ أفضلُ من الكثيرِ مع عدمِ الإتقانِ.
قالَ بعضُ السلفِ: "إن الرجلينِ ليقومانِ في الصفِّ وبينَ صلاتيهِما كما بينَ
السماءِ والأرضِ، كم بينَ من تصعدُ صلاتُه لها نور وبرهان كبرهان الشمسِ.
وتقولُ: حفظك اللَهُ كما حفظتني، وبينَ من تُلَفّ صلاتُهُ كما يلَفّ الثوبُ
الخَلِق ويضربُ بها وجهُ صاحبِها، وتقولُ: ضيعكَ اللَّهُ كما ضيعتَنِي ".
ولهذا قالَ ابنُ عباسٍ وغيرُهُ: "صلاةُ ركعتين في تفكر خير من قيامٍ ليلةٍ
والقلبُ ساهٍ ".
قال بعضُ السلفِ: "لا يقلُّ عمل مع تقوى، وكيف يقِل ما يُتقبلُ؟ "
يشيرُ إلى قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، ولهذا قال من قالَ
من الصحابة: لو علمتُ بأنَّ اللَّهَ قبلَ منَي ركعتينِ كانَ أحبَّ إليَّ من كذا
وكذا، فمن اتًّقى اللَّهَ في العملِ قَبِلهُ منه، ومن لم يتَّقِهِ لم يقبلْهُ منه.
والتقوى في العملِ: أنْ يأتي به على وجهِ إكمالِ واجباتِهِ الظاهرةِ والباطنةِ،(1/423)
وإن ارتقى إلى الإتيانِ بآدابِهِ وفضائِلِهِ كانَ أكملَ، في الملأ الأعْلَى، ومباهاة
الملائكةِ، وقد يراد بالقبولِ: الثوابُ على العملِ، وإن لم يرضَ به والقبولُ هنا يُراد به: الرضا بالعملِ، والمدحُ لعاملِهِ، والثناءُ عليه، في الملأ الأعلى.
ومباهاة الملائكةِ.
وقد يُرادُ بالقبول: الثوابُ على العملِ، وإن لم يرضَ به ولم يمدحْ عاملُهُ.
فيجازى عليه بأنواع من الجزاءِ، فضلاً من اللهِ وإحسانًا، وإن لم يرضَ عن
عاملِهِ كما رُؤيَ بعضُ المفرطينَ في النومِ فسُئِلَ عن حالِهِ فقالَ: غَفرَ لي
وأعرض عني، وعن جماعة من العلماءِ لم يعملُوا بعلمِهِم.
ويطلقُ القبولُ على إسقاطِ الفرضِ بالعملِ، وإن لم يُثَبْ عليه بثوابٍ غيرِ
سقوطِ العقوبةِ والمطالبةِ بأداءِ الفرضِ بهِ، والعارفون كلهم إنَما يطلبون القبولَ بالوجهِ الأولِ، وهو الرضا، ويخافون من فواتِهِ أشدَّ الخوفِ.
قالَ مالكُ بنُ دينارٍ: "ودِدتُ أنَّ اللَّهَ إذا جمعَ الخلائقَ يقولُ لي: يا مالكُ، فأقولُ: لبيَّكَ، فيأذنُ لي أن أسجدَ بينَ يديهِ سجدةً فأعرفُ أنه قد رضيَ عني، ثم يقولُ: يا مالكُ، كنْ ترابًا اليومَ، فأكونُ ترابًا".
وكان بعضُهم يقولُ في سجودِهِ:
متى ألقاكَ وأنتَ عنَي راضِ. . . وعذبتني بكثرةِ الإعراضِ
وأعتاضُ ولستُ عنه بالمعتاضِ. . . يا من بوصالِهِ شفى أمراضي
هل أنتَ عليَّ ساخطٌ أم راضِ
رضاه أكبرُ من الجنةِ ونعيمِهَا فليسَ للعارفينَ همٌّ سواهُ.
لعلك غضبان وقلبِي غافلٌ. . . سلامٌ على الدارينِ إن كنتَ راضِيًا(1/424)
قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)
قول اللَّه عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) يدلُّ على أنّه إنما يباحُ
قتلُ النفسِ بشيئينِ: أحدهما: بالنفسِ، والثانِي: بالفسادِ في الأرض.
ويدخلُ في الفسادِ في الأرضِ: الحرابُ والرِّدَّةُ والزنى، فإنَّ ذلكَ كلَّه فسادٌ
في الأرضِ، وكذلكَ تكرر شربِ الخمرِ والإصرارِ عليه هو مظنةُ سفكِ الدماءِ
المحرمةِ.
وقد اجتمعَ الصحابة في عهدِ عمرَ على حدِّه ثمانينَ، وجعلُوا
السكرَ مَظِنَّة الافتراءِ والقذفِ الموجبِ لجلد الثمانين.
ولمَّا قدِمَ وفدُ عبدِ القيسِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهُم عن الأشربةِ والانتباذِ في الظُّروفِ قال:
"إن أحدكم ليقومُ إلى ابنِ عمِّه - يعني: إذا شربَ - فيضربه بالسَّيْفِ ".
وكان فيهم رجلٌ قد أصابته جراحةٌ من ذلك، فكانَ يخبؤها حياءً
من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا كلُّه يرجِعُ إلى إباحةِ الدَّمِ بالقتلِ إقامةً لمظان القتلِ مقامَ حقيقته، لكنْ
هلْ نُسِخَ ذلكَ أم حكْمُهُ باقٍ؟ هذا هو محلُ النزاع.
* * *
قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
خرَّج البخاريُّ ومسلمٌ: من حديثِ: مالكٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن(1/425)
عطاءِ بنِ يسارٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "أُرِيتُ النَّارَ، فرأيتُ أكثرَ أهلها النساءَ، بِكُفْرِهِنَّ "، قيل: أيكفرن؟
قال: "يكفرنَ العشيرَ، ويكفُرْنَ الإحسانَ، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر، ثم رأتْ منك شيثًا، قالتْ: ما رأيتُ منكَ خيرًا قطّ ".
وقال البخاريّ: كُفْر دونَ كُفْرٍ.
والكفرُ، قد يطلق ويرادُ به الكفرُ الذي لا ينقلُ عن الملةِ، مثلُ كفرانِ
العشيرِ ونحوِه.
وهذا عندَ إطلاقِ الكفر، فأمَّا إن وردَ الكفرُ مقيدًا بشيء، فلا إشكالَ في
ذلكَ، كقولِهِ تعالى: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) .
وإنَّما المرادُ هاهُنا: أنه قد يَرِدُ إطلاقُ الكفرِ، ثم يفسَّر بكفرٍ غير ناقلٍ عن
الملة.
وهذا كما قالَ ابنُ عباسٍ، في قولِهِ تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافرُونَ) ، قال: ليسَ بالكفرِ الذي يذهبونَ إليه، إنه
ليس بكفرٍ ينقلُ عن الملةِ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) ، كفر دونَ كفرٍ.
خرَّجه الحاكم.
وقال: صحيحُ الإسنادِ.
وعنه في هذه الآيةِ، قال: هو به كُفْرٌ، وليس كَمَنْ كَفَرَ باللَّه وملائكتِهِ
وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ.(1/426)
وكذا قال عطاءٌ وغيرُه: كفرٌ دونَ كفر.
وقال النخعيُّ: الكفر كفرانِ: كفرٌ باللهِ، وكفرٌ بالمُنْعِم.
واستدلَّ البخاريُّ لذلكَ بحديثِ ابنِ عباسٍ الذي خرَّجه هاهُنا، وهو قطعةٌ
من حديثٍ طويلٍ، خرَّجه في "أبواب الكسوفِ "، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أطلقَ على النِّساءِ الكفرَ، فسئلَ عنه، ففسَّرَه بكفرِ العشيرِ.
وحديثُ أبي سعيدٍ في هذا المعنى يشبه حديثَ ابنِ عباسٍ.
وقد خرَّج هذا المعنى من حديثِ ابنِ عمرَ، وأبي هريرةَ - أيضًا.
وفي المعنى - أيضًا -: حديثُ ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "سبابُ المسلم فسوق وقتالُهُ كفرٌ".
وقد خرَّجه البخاريُّ في موضعِ آخرَ.
وكذلكَ قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا ترجعُوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ ".
وقولُهُ: "من قالَ لأخيهِ: يا كافرُ، فقدْ باءَ بها أحدُهُما".
وللعلماء في هذه الأحاديثِ - وما أشبهها - مسالك متعددةٌ:
منهم: من حَمَلَها على من فعلَ ذلكَ مستحلاً لذلكَ.
وقد حملَ مالكٌ حديثَ: "من قال لأخيه: يا كافرُ" على الحَرُوريَّةِ، المعتقدينَ
لكفر المسلمينَ بالذنوبِ - نقلَهُ عنه أشهبُ.(1/427)
وكذلك حملَ إسحاقُ بنُ راهويه حديثَ: "من أتى حائضًا - أو امرأةً - في
دُبُرها فقد كفر" على المستحل لذلكَ: نقله عنه حربٌ وإسحاقُ الكوسجُ.
ومنهم: من يحملُها على التغليظِ والكفر الذي لا ينقلُ عن الملةِ، كما
تقدَّمَ عن ابنِ عباس وعطاءٍ.
ونقلَ إسماعيلُ الشالنجي عن أحمدَ، وذُكِرَ له قولُ ابنِ عباسٍ المتقدمُ.
وسأله: ما هذا الكفرُ؟
قال أحمدُ: هو كفر لا ينقلُ عن الملةِ، مثلُ الإيمانِ
بعضُه دونَ بعضٍ، فكذلك الكفرُ، حتى يجيءَ من ذلكَ أمرٌ لا يختلفُ فيه.
قال محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ:
واختلفَ من قالَ من أهلِ الحديثِ: إن مرتكبَ الكبائرِ مسلم وليسَ بمؤمنٍ: هل يسمَّى كافرًا كفرًا لا ينقلَ عن الملةِ؟
كما قال عطاءٌ: كفر دون كفرٍ، وقالَ ابنُ عباس وطاووسُ: كفرٌ لا ينقلُ عن الملةِ؛ على قولينِ لهم.
قالَ: وهما مذهبانِ في الجملةِ محكيانِ عن أحمدَ بنِ حنبلِ، في موافقيه
من أهلِ الحديثِ.
قلتُ: قد أنكرَ أحمدُ - في روايةِ المرُّوذيِّ - ما رُوي عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو
أنَّ شاربَ الخمرِ يسمَّى كافرًا، ولم يُثْبِتْه عنه، مع أنَّه قد رُوي عنه من وجوهٍ
كثيرةٍ، وبعضُها إسنادُهُ حسن.
ورُوي عنه مرفوعًا.
وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جوازَ إطلاقِ كفرِ النعمةِ على أهلِ الكبائرِ.
ونصبَ الخلافَ في ذلك معَ الزيديةِ من الشيعةِ والإباضيةِ من الخوارج.(1/428)
وروايةُ إسماعيلَ الشالنجيِّ عن أحمدَ قد توافقُ ذلك، فمن هنا حكى
محمدُ بنُ نصر عن أحمدَ في ذلك مذهبينِ.
والذي ذكرهُ القاضي أبو عبد اللَّهِ بنُ حامدٍ شيخُ القاضي أبي يعلى، عن
أحمدَ: جوازُ إطلاقِ الكفرِ والشركِ على بعضِ الذنوبِ التي لا تخرجُ عن
الملةِ، وقد حكاهُ عن أحمدَ.
وقد رُوي عن جريرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنه سئلَ: هل كنتُم تسمونَ شيئًا منَ
الذنوبِ الكفر أو الشركَ؟
قال: معاذَ اللَّهِ، ولكنَّا نقولُ: مؤمنينَ مذنبينَ.
خرَّجه محمدُ بنُ نصر وغيرُهُ.
وكان عمَّارٌ ينهى أن يقال لأهلِ الشامِ الذين قاتلوهم بصفِّينْ كفروا.
وقال: قولُوا: فسقُوا، قولُوا: ظلموا.
وهذا قولُ ابنِ المباركِ، وغيرِه من الأئمةِ.
وقد ذكرَ بعضُ الناسِ أن الإيمانَ قسمانِ:
أحدُهما: إيمانٌ باللَّهِ، وهو الإقرارُ والتصديقُ به.
والثاني: إيمانٌ للَّه، فنقيضُ الإيمانِ الأولِ الكفرُ، ونقيضُ الإيمانِ الثاني:
الفسقُ، وقد يسمَّى كفرًا، ولكن لا ينقلُ عن الملةِ.
وقد وردتْ نصوصٌ، اختلفَ العلماءُ في حملِهَا على الكفرِ الناقلِ عن
الملةِ، أو على غيره، مثلُ الأحاديثِ الواردةِ في كفرِ تاركِ الصلاةِ.
وتردَّدَ إسحاقُ بنُ راهويهِ فيما وردَ في إتيانِ المرأةِ في دُبُرها، أنه كفرٌ: هلْ
هو مُخرِجٌ عن الدِّينِ بالكليَّة ِ، أم لا؟(1/429)
ومن العلماءِ: من يتوقَّى الكلامَ في هذه النصوصِ تورعًا، ويمرُّها كما
جاءتْ من غيرِ تفسيرٍ، مع اعتقادِهِم أنَّ المعاصي لا تخرجُ عن الملةِ.
وحكاه ابنُ حامدٍ روايةً عن أحمدَ.
ذكرَ صالحُ بنُ أحمدَ وأبو الحارثِ: أنَّ أحمدَ سُئل عن حديثِ أبي بكرٍ
الصديقِ: كفر باللَّه تبرِّي من نسبٍ وإنْ دق، وكفر باللَّهِ ادعاء إلى نسبٍ لا
يُعلَمُ.
قالَ أحدُهما: قالَ أحمدُ: قد رُوي هذا عن أبي بكرٍ، واللَّهُ أعلمُ، وقال
الآخرُ: قالَ: ما أعلمُ، قد كتبنَاها هكذَا.
قالَ أبو الحارثِ: قيل لأحمدَ: حديثُ أبي هريرةَ: "من أتى النساءَ في
أعجازِهِنَّ فقد كفر" فقال: قد رُوي هذا، ولم يزِدْ على هذا الكلامِ.
وكذا قالَ الزهريُّ، لمَّا سُئلَ عن قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منَّا من لطمَ الخدودَ"
وما أشبهه من الحديثِ - فقالَ: من اللَّه العلمُ، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التسليمُ.
ونقلَ عبدوسُ بنُ مالكٍ العطارُ، عن أحمدَ، أنه ذكر هذه الأحاديثَ التي
وردَ فيها لفظُ الكفرِ، فقال: نسلِّمُها، وإن لم نعرفْ تفسيرَها، ولا نتكلَّمُ
فيه، ولا نفسرُها إلا بما جاءتْ.
ومنهم: من فرَّقَ بين إطلاقِ لفظِ الكفرِ، فجوَّزه في جميع أنواع الكفرِ.
سواء كان ناقلاً عن الملةِ أو لم يكنْ، وبين إطلاقِ اسم الكافرِ، فمنعَهُ، إلا(1/430)
في الكفرِ الناقلِ عن الملةِ، لأنَّ اسمَ الفاعلِ لا يُشتقُّ إلا من الفعلِ الكاملِ.
ولذلكَ قالَ في اسم المؤمنِ: لا يقالُ إلا للكاملِ الإيمانِ، فلا يستحقُّه من
كان مرتكبًا للكبائرِ حال ارتكابِهِ، وإن كان يقالُ: قد آمنَ، ومعه إيمان.
وهذا اختيارُ ابنِ قتيبةَ.
وقريبٌ منه: قولُ من قالَ: إنَّ أهل الكتابِ، يقالُ: إنهم أشركوا، وفيهم
شِرْكٌ، كما قال تعالى: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، ولا يدخلون في
اسم المشركينَ عند الإطلاقِ، بل يفرَّقُ بينهم وبينَ المشركينِ، كما في قولِهِ
تعالى: (لَمْ يَكنِ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ وَالْمُشْرِكينَ) ، فلا تدخلُ
الكتابيّةُ في قولِهِ تعالى: (وَلا تَنكِحوا الْمشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) .
وقد نصَّ على ذلك الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ.
وكذلك كرِه أكثرُ السلفِ، أن يقولَ الإنسانُ: أنا مؤمنٌ، حتى يقولَ: إن
شاءَ اللَّهُ، وأباحُوا أن يقولَ: آمنتُ باللَّهِ.
وهذا القول حسنٌ، لولا ما تأوَّله ابنُ عباسٍ وغير في قولِهِ تعالى:
(وَمَن لَّمْ يَحْكم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرونَ) ، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وأما النَفْسُ بالنفسِ، فمعناه: أن المكلَّف إذا قتل نفسًا بغيرِ حقٍّ عمدًا، فإنه(1/431)
يُقْتَلُ بها، وقد دلَّ القرآنُ على ذلكَ بقولِهِ تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) .
ويُستثنى من عُمومِ قولِهِ تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، صُور:
منها: أن يقتلَ الوالدُ ولدَه، فالجمهورُ على أنّه لا يُقْتَلُ به.
وصحَّ ذلك عن عُمرَ.
وروي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعدِّدةٍ.
وقد تُكُلِّمَ في أسانيدِها.
وقال مالكٌ: إنْ تعمَّدَ قتله تعمدًا لا يشكُّ فيه، مثل أن يذبَحَهُ، فإنه يُقتلُ به، وإن حذفَهُ بسيفٍ أو عصا، لم يقتلَ، وقال البتِّي: يقتلُ بقتلِهِ بجميع وجوهِ
العمدِ للعموماتِ.
ومنها: أن يقتلَ الحرُّ عبدًا فالأكثرون على أنَّه لا يُقتل به، وقد وردتْ في
ذلك أحاديثُ في أسانيدها مقالٌ.
وقيل: يقتلُ بعبدِ غيرِهِ دون عبدِهِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِهِ.
وقيل: يقتلُ بعبده وعبدِ غيره، وهو رواية عن الثوري.
وقولُ طائفةٍ من أهلِ الحديثِ، لحديث سمرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من قَتَلَ عبدَهُ، قتلناهُ، ومن جَدَعَهُ جدَعْناهُ "
وقد طعن فيه الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ.
وقد أجمعُوا على أنَّه لا قصاصَ بين العبيدِ والأحرارِ في الأطرافِ، وهذا
يدلُّ على أنَّ هذا الحديثَ مطرحٌ لا يُعمل به، وهذا مما يُستدلُّ به على أنَّ
المرادَ بقولِهِ تعالى: (النَّفْسَ بِالنفْسِ) ، الأحرار، لأنه ذكرَ بعدَهُ
القصاصَ في الأطرافِ وهو يختصّ بالأحرارِ.(1/432)
ومنها: أن يَقتُلَ المسلمُ كافرًا، فإن كان حربيًّا لم يقتلْ به بغير خلافِ، لأنَّ
قتل الحربيِّ مباحٌ بلا ريب، وإن كان ذميًّا أو معاهدًا، فالجمهورُ على أنَّه لا
يقتلُ بهِ - أيضًا، وفي "صحيح البخاريِّ " عن علي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يقتلُ مسلمٌ بكافرٍ".
وقال أبو حنيفةَ وجماعةٌ من فقهاءِ الكوفيين: يُقتلُ به، وقد روى ربيعةُ عن
ابن البيلماني عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قتلَ رجلاً من أهلِ القبلةِ برجلٍ من أهلِ الذمَّة، وقال: "أنا أحقّ من وفَّى بذمَّته "
وهذا مرسل ضعيف قد ضعَّفه الإمامُ أحمدُ، وأبو عبيد، وإبراهيمُ الحربيُّ، والجوزجانيُّ، وابنُ المنذرِ والدارقطنيُّ.
وقال: ابن البيلمانيّ: ضعيف لا تقومُ به حجة إذا وصلَ الحديثَ، فكيف بما
يرسلُه؛ وقال الجوزجاني: إنَّما أخذه ربيعةُ عن إبراهيمَ بن أبي يحيى عن ابنِ
المنكدرِ عن ابن البيلمانيِّ، وابنِ أبي يحيى متروك الحديثِ.
وفي "مراسيلِ أبي داودَ" حديثٌ آخرُ مرسلٌ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قتلَ يومَ خيبر مسلمًا بكافرٍ قتله غيلةً، وقال: "أنا أوْلى وأحقّ من وفَّي بذمَّتِهِ ".
وهذا مذهبُ مالكٍ وأهلِ المدينةِ أن القتلَ غيلة لا تُشرط له المكافأة، فيُقْتَلُ فيه المسلمُ بالكافرِ، وعلى هذا حملُوا حديثَ ابنِ البيلمانيِّ أيضًا على تقدير صحَّته.
ومنها: أن يقتلَ الرجلُ امرأةً فيُقتل بها بغيرِ خلاف، وفي كتابِ عمرِو بنِ
حزمٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الرجُلَ يقتلُ بالمرأةِ.
وصحَّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قتل يهوديًا قتلَ جارية ".(1/433)
وأكثرُ العلماءِ على أنَّه لا يُدفع إلى أولياءِ الرجلِ شيءٌ.
وروي عن عليٍّ أنَّه يدفع إليهم نصف الدِّيَة، لأنَّ دية المرأة نصفُ دية الرجل وهو قولُ طائفةٍ من السلفِ وأحمدَ في رواية عنه.
* * *
قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)
[قالَ البخاريُّ] : وقال ابنُ عباسٍ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، سبيلاً
وسُنَّة.
هذا، من روايةِ أبي إسحاقَ، عن التميمي، عن ابنِ عباسٍ، قال:
(شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، سبيلاً وسُنَّة.
ومعنى قولِ ابنِ عباسٍ: أنَّ المنهاجَ هو السُّنَّة، وهو الطريقُ الواسعةُ
المسلوكةُ، المداوَمُ عليها.
والشِّرْعةُ، هي السبيلُ والطريقُ المُوصلُ إليها، فهي كالمدخلِ إليها.
كمشْرَعةِ الماءِ، وهي المكانُ الذي يُورَدُ الماءُ منه.
ويقالُ: شَرعَ فلان في كذا، إذا ابتدأ فيه، وأنْهَجَ البِلى في الثوبِ، إذا
اتَّسع فيه. وبذلكَ فرَّق طائفة من المفسرينَ وأهلِ اللُّغة بين الشِّرعة والمنهاج، منهم: الزجاجُ وغيرُه.
* * *(1/434)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
علامات المحبة الصادقة: التزامُ طاعةِ اللَّهِ تعالى، والجهادُ في سبيله.
واستحلاءُ الملامةِ في ذلك، واتباعُ رسولِهِ.
قال اللَّهُ جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) .
وقال تعالى: (قُلْ إِن كُنتمْ تًحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعونِي يُحْبِبْكمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكمْ ذنُوبَكُمْ وَاللَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
فوصفَ اللَهُ سبحانه المحبينَ له بخمسةِ أوصافٍ:
أحدها: الذِّلةُ على المؤمنين، والمرادُ لِينُ الجانبِ وخفضِ الجناح والرأفةِ
والرحمةِ للمؤمنينَ، كما قال تعالى لرسولِهِ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) ، ووصفَ أصحابَه بمثلِ ذلك في قولِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، وهذا يرجعُ إلى أن
المحبينَ للَّهِ يحبونَ أحباءَهُ ويعودونَ عليهم بالعطفِ والرأفةِ والرحمةِ، وقد
سبقَ في البابِ الأولِ بيانُ ذلكَ.
الثاني: العزةُ على الكافرينَ، والمرادُ الشّدَةُ والغلظةُ عليهم، كما قالَ تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ، وهذا يرجعُ إلى
أنَّ المحبينَ لهُ يبغضونَ أعداءَه، وذلك من لوازِمِ المحبةِ الصادقةِ، كما سبقَ(1/435)
تقريرُه أيضًا.
الثالث: الجهادُ في سبيلِ اللَّه، وهو مجاهدةُ أعدائِهِ باليدِ واللسانِ، وذلك
أيضًا من تمامِ معاداةِ أعداءِ اللَّه الذي تستلزمُه المحبةُ، وأيضًا فالجهادُ في سبيلِ
اللَّه فيه دعاءُ الخلقِ إلى اللَّهِ وردُّهم إلى بابِه بالقهرِ لهم والغلبة، كما قال
تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) .
قال مجاهدٌ وغيرُهُ: يعني كنتُم خيرَ الناسِ للناسِ، فخيرُ الناس للناسِ
أنفعُهُم لهم، ولا نفعَ أعظمُ من الدعاءِ إلى التوحيد والطاعةِ والنهي عن
الشركِ والمعصيةِ، وسُئلَ الحسنُ البصريُّ عن رجلٍ له أمٌّ فاجرةٌ فقال: "يقيَدُها فما وصلَها بشيء أعظم من أن يكفَّها عن معاصي اللَّهِ تعالى".
قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: سمعتُ رجلينِ من الزُّهادِ يقول أحدُهها للآخرِ:
"يا أخي، ما ورثَ أهلَ المحبةِ محبّتهُم؟ "
قال: فأجابه الآخرُ: "ورِثُوا النظرَ بنورِ اللَّهِ والعطفَ على أهلِ معاصِي اللَّهِ " قال: فقلتُ له: "كيفَ يعطفُ على قويم قد خالَفوا أمرَ محبوبِهِم؟ "
فقال: "مقتَ أعمالَهم وعطَفَ عليهم ليزيلَهم بالمواعظِ عن فِعالِهِم وأشْفقَ على أبدانِهِم من النارِ، لا يكونُ المؤمنُ مؤمنًا حقًّا حتى يَرضى للناسِ ما يرضاهُ لنفْسِهِ ".
الرابع: أنهم لا يخافون لومةَ لائم، والمرادُ أنهم يجتهدونَ فيما يرضى به من
الأعمالِ ولا يبالونَ بلومةِ من لامَهُم في شيءٍ منه إذا كان فيه رِضا ربِّهم.
وهذا من علاماتِ المحبةِ الصادقةِ، إنَّ المحبَّ يشتغلُ بما يرضى به حبيبُه
ومولاه، ويستوِي عنده مَنْ حَمَدهُ في ذلكَ أو لامَهُ، وفي هذا المعنى يقولُ
بعضُهم:(1/436)
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ. . . فليسَ لي متأخرٌ عنه ولا متقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً. . . حبًّا لذكرِكِ فلْيلُمْني اللُّوَمُ
الخامس: متابعةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وهو طاعتُه واتباعُه في أمر ونهيهِ.
قال مباركُ بنُ فضالةَ عن الحسنِ: كان ناسٌ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولونَ: "يا رسولَ اللَّه، إنَّا نحبُّ ربَّنا حبًا شديدًا"
فأحبَّ اللَّه أن يجعلَ لحبِّه عَلَمًا، فأنزلَ اللَّهُ تباركَ وتعالى: (قُلْ إِن كُنتمْ تُحِبُونَ اللَّهَ فَاتَّبِعونِي يحْبِبْكمُ اللَّه وَيَغْفِرْ لكمْ ذنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحِيمٌ) .
وقد قرنَ اللَّهُ بين محبَّته ومحبة رسولِهِ في قولِهِ: (أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَى يَأتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ) ، وكذلك وردَ في
السّنَّة في أحاديثَ كثير جدًّا، سبقَ ذكرُ بعضِهَا والمرادُ أنَّ اللَّه تعالى لا توصلُ
إليه إلا من طريقِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - باتباعِهِ وطاعتِهِ.
كما قال الجنيدُ وغيرُه من العارفين: "الطرقُ إلى اللَّهِ مسدودةٌ إلا من اقتفى
أثرَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -.
وكلامُ أئمة العارفين في هذا البابِ كثيرٌ جدًّا.
قال إبراهيمُ بنُ الجنيدِ: يقالُ: علامةُ المحبِّ على صدقِ الحبِّ ستُّ
خصال:
أحدها: دوامُ الذكر بقلبِهِ بالسرورِ بمولاه.
والثانيةُ: إيثارُه محبةَ سيدهِ على محبةِ نفسِهِ ومحبةِ الخلائقِ، يبدأُ بمحبةِ
مولاهُ قبل محبةِ نفسه ومحبةِ الخلائقِ.(1/437)
والثالثةُ: الأُنسُ به والاستثقالُ لكلِّ قاطع يقطعُ عنه، أو شاغلٍ يشغلُهُ عنه.
والرابعةُ: الشوقُ إلى لقائهِ والنظرُ إلى وجهِهِ.
الخامسةُ. الرِّضا عنه في كلِّ شديده وضر ينزلُ به.
والسادسةُ: اتباعُ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ومحبةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - على درجتينِ:
إحداهما فرضٌ: وهي المحبةُ التي تقتِضي قبولَ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عندِ اللَّهِ وتلقِّيه بالمحبةِ والرِّضا والتعظيم والتسليم وعدمِ طلبِ الهدى من غيرِ طريقِهِ بالكليَّة ِ، ثم حسنُ الاتباع له فيما بلَّغه عن ربِّه من تصديقِهِ في كلِّ ما أخبر به، وطاعتِهِ فيما أمر به من الواجباتِ، والانتهاءِ عمَّا نهى عنه من المحرَّماتِ، ونصرةِ دِينِهِ والجهادِ لمن خالفَهُ بحسبِ القدرةِ، فهذا القدرُ لا بدَّ منه ولا يتمُّ الإيمانُ بدونِهِ.
والدرجة الثانية فضل: وهي المحبةُ التي تقتضي حسنَ التَّأسِّي بهِ وتحقيقَ
الاقتداءِ بسنتِهِ في أخلاقِهِ وآدابِهِ ونوافلِهِ وتطوعاتِهِ وأكلِهِ وشربِهِ ولباسِهِ وحسنِ معاشرتِهِ لأزواجِهِ وغيرِ ذلك من آدابِهِ الكاملةِ وأخلاقِهِ الطاهرةِ، والاعتناءَ بمعرفةِ سيرتِهِ وأيامه، واهتزازَ القلبِ عند ذكره، وكثرةَ الصلاةِ عليه لما سكنَ في القلبِ من محَبَّتَه وتعظيمِهِ وتوقيره، ومحبةَ استماع كلامِهِ، وإيثارَهُ على كلامِ غيرِه من المخلوقينَ.
ومن أعظم ذلكَ الاقتداءُ به في زهدِهِ في الدُّنيا والاجتزاءِ باليسيرِ منها
ورغبتِهِ في الآخرةِ.
قال سهل التستريُّ: من علاماتِ حبِّ اللَّهِ حبُّ القرآن، وعلامة حبِّ اللَّه(1/438)
وحبِّ القرآنِ حبُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعلامةُ حبِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حبُّ السنَّةِ، وعلامةُ حبِّ السنةِ حبُّ الآخرةِ، ومن علامةِ حبِّ الآخرة بغضُ الدنيا، وعلامةُ
بغضِ الدنيا أن لا يأخذَ منها إلا زادًا يبلِّغُه إلى الآخرةَ.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
ففي هذه الآيةِ إشارة إلى أنَّ منْ أعرض عن حبِّنا، وتولَّى عن قربِنا، لم
نبالِ بهِ، واستبدلْنَا به من هوَ أوْلَى بهذهِ المنحةِ منه وأحقُّ، فمن أعْرَضَ عنِ
اللَّهِ، فما له منَ اللَّهِ بدَلاً، وللَّهِ منه أبدالٌ.
ما لي شُغل سواه ما لي شُغلُ. . . ما يَصرِفُ عن هواه قلبِي عذلُ
ما أصنعُ إن جَفا وخابَ الأملُ. . . منِّي بدل ومنه ما لي بدَلُ
وفي بعضِ الآثارِ: "يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلًّ: ابنَ آدمَ، اطلبنِي تجدْنِي، فإنْ وجدتَّني، وجدتَ كُلَّ شيء، وإن فُتُّكَ، فاتَكَ كلُّ شيء، وأنا أَحبُّ إليك من كلِّ شيء".
كان ذو النونِ يردِّدُ هذه الأبياتِ بالليلِ كثيرًا:
اطلبوا لأنفسِكُم. . . مثلَ ما وجدتُ أنا
قد وجدتُ لي سكنًا. . . ليس في هواه عَنَا
إنْ بَعدْتُ قَربنِي. . . أو قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا(1/439)
من فاتَهُ اللَّهُ، فلو حصلتْ له الجنَّةُ بحذافِيرِهَا، لكان مغبونًا، فكيفَ إذا لم
يحصلْ له إلا نزْر يسير حقيرٌ من دارٍ كلِّها لا تَعدِلُ جناحَ بعوضةٍ:
مَنْ فاتَهُ أنْ يَراكَ يَومًا. . . فكل أوقاتِهِ فواتُ
وحَيثُما كنتُ من بلادٍ. . . فَلِي إلى وجْهِكَ التِفَاتُ
ثم ذكرَ أوصافَ الذين يُحبُّهم ويحبُّونه، فقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى المؤْمِنِينَ) ، يعني: أنهم يعامِلونَ المؤمنينَ بالذِّلَّة واللِّينِ، وخَفْضِ الجناح.
(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) يعني: أنهم يعامِلُونَ الكافرينِ بالعزَّة والشدَّةِ عليهم.
والإغلاظِ لهم، فلما أحبُّوا اللَّهَ، أحبُّوا أولياءَه الذين يُحبونَهُ، فعامَلُوهُم
بالمحبِّةِ، والرَّأفةِ، والرحمةِ، وأبغضُوا أعداءَه الذين يُعادونه، فعاملُوهُم بالشِّدَّةِ
والغلظةِ، كما قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) .
(يجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم) .
فإنَّ من تمامِ المحبةِ مجاهدةَ أعداءِ المحبوبِ - وأيضًا - فالجهادُ في سبيلِ اللَّهِ
دعاءٌ للمعرضِينَ عن اللَّهِ إلى الرجوع إليه بالسِّيفِ والسنانِ، بعد دعائِهم إليه
بالحجَّةِ والبُرْهانِ، فالمحبُّ للَّهِ يحبُّ اجتلابِ الخلقِ كلِّهم إلى بابِهِ، فمنْ لم
يُجبِ الدعوةَ إليه باللينِ والرِّفقِ، احتاجَ إلى الدعوة بالشدَّةِ والعنفِ: "عجِبَ ربُّك من قوم يُقادون إلى الجنَّةِ بالسَّلاسلِ ".
(وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ، لا هَمَّ للمحبِّ غيرُ ما يُرضِي حبيبَهُ.
رضِيَ من رَضِيَ وسخطَ من سخِطَ، من خافَ الملامةَ في هوى من يُحبُ.
فليس بصادقٍ في المحبًّةِ.(1/440)
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتَ. . . فليسَ لي مُتأخَّر عنه ولا مُتقدَّمُ
أجِدُ الملامةَ في هواكَ لذيذةً. . . حبِّا لِذكْرِكِ فلْيَلُمْنِىِ اللُّوَّمُ
قوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) ، يعني: درجةَ الذين يُحبهم
ويحبونَهُ بأوصافِهِم المذكورةِ (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) : واسعُ العطاء.
عليم بمن يستحقُّ الفضل، فيمنَحُهُ، ومن لا يستحقُّ، فيمنعُه.
* * *
وعن أبي صخرٍ عن محمدِ بنِ كعبٍ القرظيِّ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ أرسلَ
يومًا إليه، وعمرُ أمير المدينة يومئذٍ، فقال: يا أبا حمزةَ، إنَّه أسهرتني البارحةَ
آية. قال محمد: وما هي أيها الأمير؟
فقالَ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّه بِقَوْمٍ يحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) إلى قوله: (لَوْمَةَ لائِمٍ) .
قال محمد: إنَّما عنى اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الولاةَ من قريشٍ: (مَن يَرْتَدَّ مِنكمْ عَن دِينِهِ) عن الحق (فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ) .
وهم أهلُ اليمنِ.
قال عمرُ: يا ليتَني وإيَّاكَ منهم قال: آمين.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
[قالَ البخاريُّ] ؛ وقول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) .(1/441)
وقوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
يشيرُ إلى أنَّ الأذَانَ مذكورٌ في القرآنِ في هاتينِ الآيتينِ:
الأُولى منهما: تشْتمل النداءَ إلى جميع الصلوات؛ فإنَّ الأفعال نكراتٌ.
والنكرة في سياقِ الشَّرْطِ تعُمُّ كلَّ صلاةٍ.
والثانية منهما: تخْتصُ بالنداءِ إلى صلاةِ الجمعة.
وقد رَوَى عبدُ العزيزِ بنُ عِمرانَ، عن إبراهيمَ بنِ أبي حبيبةَ، عن داودَ بنِ
الحُصينِ، عن عكْرمةَ، عن ابن عباس، قال: الأذان نزل على رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مع فرضِ الصلاةِ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللهِ) .
هذا إسنادٌ ساقطٌ لا يصح.
وهذه الآية ُ مدنيةٌ، والصلاةُ فرضتْ بمكةَ، ولم يصحَّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بمكةَ جُمُعة، وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) مدنية - أيضًا - ولم يُؤذنْ للصلاةِ بمكةَ.
والحديثُ الذي رُوي أنَّ جبريلَ لمَّا أمَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ ما فُرضتِ الصلاةُ أمَرَه أن يُؤذَنَ بالصلاةِ، قد جاء مفسرًا في رواية أخرى، أنَّه يؤذن: الصلاةُ جامعة.
وقد سبقَ ذكرُهُ في أولِ كتابِ الصلاةِ.
وقد رُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أُسْرِي خرجَ ملكٌ من وراء الحجابِ فأذَّن، فحدَّثه ربُّه عزَّ وجلَّ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسمعُ ذلكَ، ثم أخذَ المَلَكُ بيدِ محمدٍ فقدَّمه(1/442)
فأمَّ أهلَ السماءِ، منهم آدمُ ونوح.
قال أبو جعفرِ محمدُ بنُ علي: فيومئذِ أكملَ اللَهُ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الشَّرف - على أهلِ السماءِ وأهلِ الأرضِ.
وقد خرَّجه البزار والهيثمُ بنُ كليبِ في "مسنديهما" بسياق مُطوَّلٍ من
طريقِ زيادِ بنِ المنذرِ أبي الجارود، عن محمدِ بنِ علي بن الحسينِ، عن أبيه.
عن جدِّه، عن على.
وهو حديث لا يصحُّ.
وزيادُ بنُ المنذرِ أبو الجارودِ الكوفي، قال فيه الإمامُ أحمدُ: متروكٌ.
وقال ابنُ معينٍ: كذَّاب عدو اللَّهِ، لا يساوي فِلْسًا، وقال ابنُ حبانَ: كان رافضيًا يضعُ الحديثَ.
وروى طلحة بن زيدِ الرقي، عن يونسَ، عن الزُّهريّ، عن سالمِ، عن
أبيه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أُسْرِي به إلى السماءِ أوحى اللَّهُ إليه الأذانَ، فنزلَ بهِ، فعلَّمه جبريلَ.
خرَّجه الطبراني.
وهو موضوع بهذا الإسنادِ بغيرِ شكٍّ.
وطلحةُ هذا، كذَّاب مشهور.
ونبهنا على ذلكَ لئلا يُغْتَّر بشيءٍ منه.
وإنَّما شُرع الأذانُ بعد هجرةِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، والأحاديث الصحيحةُ كلُّها تدلُّ على ذلكَ.(1/443)
والأذانُ له فوائدُ:
منها: أنه إعلامٌ بوَقْتِ الصلاةِ أو فعلِها.
ومن هذا الوجهِ هو إخبارٌ بالوقتِ أو الفعلِ، ولهذا كان المؤذِّنُ مؤتمنًا.
ومنها: أنه إعلامٌ للغائبينَ عن المسجدِ، فلهذا شُرِع فيه رفعُ الصوتِ، وسُمِّي نداءً، فإنَّ النِّداءَ هو الصوتُ الرفيعُ.
ولهذا المعنى قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بنِ زيد:
"قم فألقه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك ". ًً
ومنها: أنه دعاءٌ إلى الصلاةِ، فإنه معنى قولِهِ: "حيَّ على الصلاةِ، حيَّ على
الفلاح ".
وقد قيل: إنَّ قولَهُ تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلُ صَالِحًا) ، الآية: نزلتْ في المؤذنينَ، رُوي عن طائفة من الصحابةِ.
وقيلَ في قولهِ تعالى: (وَقَدْ كَانوا يُدْعَوْنَ إِلَى السّجودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) .
إنها الصلواتُ الخمسُ حين يُنادى بها.
ومنها: أنه إعلانٌ بشرائع الإسلامِ من التوحيدِ والتكبيرِ والتهليلِ والشهادةِ
بالوحدانيةِ والرسالةِ.
* * *(1/444)
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
وقد ذكرَ اللَّهُ - في كتابِهِ - العلَّةَ المقتضيةَ لتحريمِ المسكراتِ، وكان أوَّل ما
حُرّمتِ الخمرُ عند حضورِ وقتِ الصلاةِ لمَّا صلَّى بعضُ المهاجرينَ، وقرأ في
صلاتِهِ، فخَلط في قراءتِهِ، فنزلَ قولُهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنتمْ سكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانَ مُنَادي رسولِ اللَّه
- صلى الله عليه وسلم -ينادِي: لا يَقْربِ الصلاةَ سكران.
ثم إنَّ اللَّهَ حرَّمها على الإطلاقِ بقولِهِ تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) .
ْفذكرَ سبحانَهُ علَّةَ تحريمِ الخمرِ والميسرِ - وهو القِمارُ - وهو أن الشيطانَ
يُوقِعُ بهما العداوةَ والبغضاءَ، فإنَّ منْ سكرَ، اختلَّ عقلُه، فربما تسلَّط على
أذى الناس في أنفسِهِم وأموالهم، وربما بلغ إلى القتلِ، وهي أمُّ الخبائثِ.
فمنْ شربها قتلَ النفسَ وزنى، وربما كفرَ.
وقد رُوي هذا المعنى عن عثمانَ وغيرِه، ورُوي مرفوعًا أيضًا.(1/445)
ومن قامَرَ، فربما قُهِرَ وأُخذَ مالُه منه قهرًا، فلم يبقَ له شيء فيشتدُّ حِقدُهُ
على من أخذ مالَهُ.
وكلُّ ما أدَّى إلى إيقاع العداوةِ والبغضاءِ كان حرامًا.
وأخبر سبحانه أنَّ الشيطانَ يصدُّ بالخمرِ والميسرِ عن ذكرِ اللَّهِ وعن الصلاةِ.
فإنَّ السكرانَ يزولُ عقلُهُ، أو يختل، فلا يستطيعُ أن يذكرَ اللَهَ، ولا أن
يُصلِّي، ولهذا قال طائفة من السلفِ: إن شارب الخمرِ تمر عليه ساعة لا
يعرفُ فيها ربَّه، واللَّهُ سبحانه إنما خلقَ الخلقَ ليعرِفُوه، ويذكرُوه، ويعبدُوه، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحالَ بين العبدِ وبين معرفةِ ربَه
وذكرهِ ومناجاتِهِ، كان محرَّمًا، وهو السُّكْرُ، وهذا بخلافِ النَّومِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل جَبَلَ العبادَ عليه، واضطرهُم إليه، ولا قِوامَ لأبدانِهِم إلا به، إذ هو راحة لهم من السعي والنَّصَبِ، فهو من أعظم نعم اللَّهِ على عبادِهِ، فإذا نامَ المؤمنُ بقدرِ الحاجةِ، ثم استيقظَ إلى ذكرِ اللهِ ومناجاتِهِ ودعائِهِ، كان نومُه
عونًا له على الصلاةِ والذكرِ، ولهذا قالَ من قالَ من الصحابةِ: إني أحتسبُ
نَوْمَتِي كما أحتسبُ قَوْمَتِي.
وكذلك الميْسرُ: يصُدُّ عن ذكرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ، فإنَّ صاحبَه يعكفُ بقلبِهِ
عليه، ويشتغلُ به عن جميع مصالحِهِ ومهماتِهِ حتى لا يكادُ يذكرُها لاستغراقِهِ
فيه، ولهذا قالَ عليّ لما مرَّ على قومٍ يلعبون بالشطرنج: ما هذهِ التماثيلُ التي
أنتُم لها عاكفونَ؛ فشبَّههم بالعاكفينَ على التماثيلِ.
وجاءَ في الحديثِ: "إنَ مُدْمِنَ الخمْرِ كعابدِ وثنٍ " فإنه يتعلَّقُ قلبُه بها، فلا يكادُ يُمكِّنه أن يدعَها كما(1/446)
لا يدعُ عابدُ الوثنِ عبادَتَهُ.
وهذا كلُّه مضادٌّ لما خلَقَ اللَّهُ العبادَ لأجلِهِ مِنْ تفريغ قلوبِهِم لمعرفته.
ومحبَّتِه، وخشيتِه، وذكره ومناجاتِهِ، ودعائِهِ، والابتهالِ إليه، فما حالَ بين
العبدِ وبين ذلكَ، ولم يكنْ بالعبدِ إليه ضرورةٌ، بل كان ضررًا محضًا عليه.
كان محرَّمًا.
وقد رُوي عن عليٍّ أنه قالَ لمن رآهم يلعبونَ بالشِّطرئج: ما لهذا خُلقتم.
ومن هنا يعلمُ أن الميسرَ محرَّمٌ سواءٌ كان بعوضٍ أو بغيرِ عِوضٍ، وأنَّ
الشطرنج كالنَّرْدِ أو شرٌّ منه، لأنَّها تشغلُ أصحابَها عن ذكرِ اللهِ، وعن الصلاة أكثر من النَّرْدِ.
والمقصودُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"كل مسكر حرامٌ "، وكلُّ ما أسكر عن الصلاة فهو حرام.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"ما نهَيْتُكُم عنه فاجْتنبُوه، وما أمرتُكُم به، فأتُوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلَكَ الَّذين من قبلِكُم كثْرةُ مسائِلِهِم واختلافُهم على أنبيائهم ".
رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
هذا الحديثُ بهذا اللفظِ: خرَّجه مسلمٌ وحْدَه من روايةِ الزهريِّ، عن(1/447)
سعيدِ بنِ المسيَّبِ وأبي سلمةَ - كلاهُما - عن أبي هريرةَ، وخرَّجاهُ من روايةِ
أبي الزنادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "دعونِي ما تركتُكُم، إنَّما أهْلَكَ منْ كانَ قبلَكُم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائِهِم، فإذا نهيتُكُم عن شيء، فاجتنبُوه، وإذا أمرتُكُم بأمر فأتُوا منه ما استطعتُم "
وخرَّجه مسلمٌ من طريقينِ آخرينِ عن أبي هريرةَ بمعناه.
وفي رواية له ذكرُ سببِ هذا الحديثِ من روايةِ محمدِ بنِ زيادٍ، عن أبي
هريرةَ، قالَ: خطبنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "يا أيها الناسُ قد فرضَ اللَهُ عليكم
الحجَّ فحجوا" فقال رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟
فسكتَ حتَّى قالَها ثلاثاً.
فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلتُ: نعم، لوجبتْ ولما استطعتُم"، ثمَّ قال: "ذَرُوني ما تركْتُكُم، فإنما هلَكَ من كان قبلكم بسؤالِهِم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا أمرتُكُم بشيء، فأتُوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتُكُم عن شيء، فدعُوه ".
وخرَّجَه الدارقطنيُّ من وجهٍ آخرَ مختصرا.
وقال فيه: فنزل قولُهُ تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشيَاءَ إِن تبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكمْ) .
وقد رُوي من غيرِ وجه أن هذه الآيةَ نزلتْ لمَّا سالوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجِّ، وقالُوا: أفي كل عامٍ؟
وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ قالَ: خطبنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجلٌ: مَن أبي؟
فقالَ: "فلانَ "، فنزلتْ هذه الآيةُ: (لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشيَاءَ) .
وفيهما - أيضًا - عن قتادةَ، عن أنسٍ قالَ: سألُوا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى(1/448)
أحْفَوهُ في المسألةِ، فغضبَ فصَعِدَ المنبرَ، فقالَ: "لا تسألُوني اليومَ عن شيء إلا بينتُه" فقامَ رجل - كان إذا لاحى الرجالَ دُعِيَ إلى غيرِ أبيه - فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ من أبي؛ قالَ: " أبوك حُذافة"، ثمَّ أنشأ عمرُ، فقال: رضينا باللَّه ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ رسولاً، نعوذُ باللَّه من الفتنِ، وكانَ قتادة يذكرُ عندَ هذا الحديثِ هذه الآيةَ (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) .
وفي "صحيح البخاريِّ " عن ابنِ عباسٍ، قالَ: كان قومٌ يسألونَ رسولَ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقولُ الرجلُ: مَنْ أبي؟ ويقولُ الرجلُ تَضِلُّ ناقته: أين ناقَتِي؟ فأنزلَ اللَّهُ هذه الآيةَ: (يَا أَيهَا الذِينَ آمنُوا لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) .
وخرَّج ابنُ جريرٍ الطبري في "تفسيرِ" من حديثِ أبي هريرةَ، قالْ
خرجَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبانُ مُحمارٌّ وجهه، حتى جلسَ على المنبرِ، فقامَ إليه رجلٌ فقالَ: أين أنا؟
فقال: "في النارِ" فقامَ إليه آخرُ، فقالَ: من أبي؟
قال: "أبوكَ حُذافةُ"، فقامَ عمرُ فقالَ: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، وبالقرآنِ إمامًا، إنَّا يا رسولَ اللَّه حديثُو عهدٍ بجاهليةٍ وشركٍ، واللَّهُ أعلمُ من آباؤنا، قال: فسكنَ غضبُه، ونزلتْ هذه الآية ُ: (يَا أَيهَا الذِينَ آمنوا لا تَسْألوا عَنْ أَشْيَاءَ) .
وروى - أيضًا - من طريقِ العَوْفيِّ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: (يا أيهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) .
قال: إنًّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في الناسِ، فقالَ:
"يا قوم كُتِبَ عليكم الحح؟ "، فقامَ رجل، فقالَ:
يا رسولَ اللَّهِ، أفي كلِّ عامٍ؛ فأُغْضِبَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، فقالَ:(1/449)
"والذي نفسي بيدِهِ، لو قلتُ: نعم، لوجَبَتْ ولو وجبتْ ما استطعتُم، وإذن لكفرتُم، فاتركُوني ما تركتُكُم، فإذا أمرتُكُم بشيء فافعلُوا، وإذا نهيتُكم عن شيء فانتهَوا عنه "
فأنزل اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) .
نهاهُم أن يسألوا مثلَ الذي سألتِ النَصارى في المائدةِ، فأصبَحُوا
بها كافرين، فنهى اللَّهُ تعالى عن ذلكَ، وقال: لا تسألوا عن أشياء، إن نزلَ
القرآنُ فيها بتغليظٍ ساءَكُم، ولكن انتظرُوا، فإذا نزلَ القرآنُ فإنَّكم لا تسألون عن شيءٍ إلا وجدتُم تبيانَهُ.
فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤالِ عمَّا لا يُحتاجُ إليه مما يسوءُ
السائلَ جوابُهُ مثلَ سؤالِ السائلِ، هل هو في النارِ أو في الجنةِ، وهل أبوه من
ينتسبُ إليهِ أو غيرِه، وعلى النهي عن السؤالِ على وجهِ التعنتِ والعبثِ
والاستهزاءِ، كما كانَ يفعلُه كثيرٌ من المنافقينَ وغيرُهم.
وقريبٌ من ذلكَ سؤالُ الآياتِ واقتراحُها على وجهِ التعنت، كما كانَ
يسألُه المشركُون وأهلُ الكتابِ، وقد قالَ عكرمةُ وغيرُه: إنَّ الآيةَ نزلتْ في
ذلك.
ويقربُ من ذلكَ السؤالُ عما أخفاه اللَّهُ عن عبادِهِ، ولم يُطلعهم عليهِ.
كالسؤالِ عن وقتِ الساعةِ، وعن الروح.
ودلَّت - أيضًا - على نهي المسلمينَ عن السؤالِ عن كثيرٍ من الحلالِ والحرامِ
مما يُخشى أن يكونَ السؤالُ سببًا لنزولِ التشديدِ فيهِ، كالسّؤالِ عن الحجِّ: هل يجبُ كلَّ عامٍ أم لا؟
وفي "الصحيح " عن سعدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنَّ أعظمَ المسلمينَ(1/450)
في المسلمينَ جُرْمًا منْ سألَ عن شيء لم يحرم، فحُرِّم من أجْلِ مسألتِهِ ".
ولما سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اللِّعان كره المسائلَ وعابَهَا حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ وقوعِهِ بذلكَ في أهلِهِ وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينهَي عن قيلَ وقالَ، وكثرةِ السؤالِ، وإضاعةِ المالِ.
ولم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُرخِّصُ في المسائِل إلا للأعرابِ ونحوِهم من الوُفودِ القادمينَ عليه، يتألَّفهم بذلكَ، فأمَّا المهاجرونَ والأنصارُ المقيمونَ بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبِهِم، فنُهوا عن المسألةِ، كما في "صحيح مسلمٍ " عن النَّوَّاسِ بن سِمعانَ، قال: أقمتُ مع رسولِ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ سنةً ما يمنعُني من الهجرةِ إلا المسألةُ، كانَ أحدُنا إذا هاجرَ لم يسألِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه أيضًا عن أنسٍ، قال: نُهينا أن نسأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ، فكان يُعجِبُنا أن يجيءَ الرجلُ من أهلِ الباديةِ العاقلُ، فيسألُهُ ونحنَ نسْمعُ.
وفي "المسندِ" عن أبي أُمامةَ، قالَ: كانَ اللَّهُ قد أنزلَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، قالَ: فكُنَّا قد كرهنا كثيرًا من
مسألتِهِ، واتَّقيْنَا ذلك حين أنزلَ اللَّهُ على نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قال: فأتينا أعرابيا، فرشوناه بُردًا، ثمَّ قلنا له: سلِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكرَ حديثًا.
وفي "مسندِ أبي يعْلى الموصليِّ " عن البراءِ بن عازبٍ قال: إنْ كان لتأتِي(1/451)
عليَّ السنةُ أريدُ أن أسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فأتهيبُ منه، وإن كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ.
وفي "مسند البزارِ" عن ابنِ عباسٍ، قال: ما رأيتُ قومًا خيرًا من
أصحابِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن اثنتي عشرةَ مسألةً، كلُّها في القرآنِ:
(يَسْاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، (يَسْاَلُونَكَ عَنِ الشَّهرِ الْحَرَامِ) ، (وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) ، وذكر الحديثَ.
وقد كانَ أصحابُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يسألونَهُ عن حكم حوادثَ قبلَ وقوعِهَا، لكن للحملِ بِهَا عند وقوعِها، كما قالُوا لهُ: إنَّا لاقُو العدوِّ غدًا، وليسَ معنا مُدًى، أفنذبحُ بالقصَبِ؛ وسألُوه عن الأُمراءِ الذين أخبر عنهم بعدَه، وعن
طاعتِهِم وقتالِهِم، وسألهُ حذيفةُ عن الفتن، وما يصنعُ فيها.
فهذا الحديثُ، وهو قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"ذَرُوني ما تركْتُكُم، فإنَّما هلَكَ من كان قبلَكُم بكثرةِ سُؤالِهِم واختلافِهِم على أنبيائِهِم " يدلُّ على كراهةِ المسائلِ وذمِّها، ولكن
بعضَ الناسِ يزعمُ أنَّ ذلكَ كان مختصًا بزمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذٍ من تحريمِ ما لم يُحرَّم، أو إيجابِ ما يشقُّ القيامُ به، وهذا قد أُمِنَ بعد وفاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن ليسَ هذا وحده هو سببَ كراهةِ المسائلِ، بل له سببٌ آخرُ، وهو
الذي أشارَ إليه ابنُ عباسٍ في كلامِهِ الذي ذكرنا بقوله: ولكن انتظرُوا، فإذا
نزلَ القرآنُ، فإنكم لا تسألون عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانَهُ.
ومعنى هذا: أنَّ جميعَ ما يحتاجُ إليه المسلمونَ في دينهم لا بدَّ أن يُبينه اللَّهُ في كتابِهِ العزيزِ،(1/452)
ويبلِّغُ ذلكَ رسولُهُ عنه، فلا حاجةَ بعد هذا لأحدٍ في السؤال، فإنَّ اللَّهَ تعالى
أعلمُ بمصالح عبادِهِ منهم، فما كانَ فيه هدايتُهم ونفعُهُم فإنَّ اللَه لا بدَّ أن
يُبيَّنه لهُم ابتداءً من غيرِ سؤالٍ، كما قالَ: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) .
وحينئذٍ، فلا حاجةَ إلى السُّؤال عن شيءٍ، ولا سيما قبلَ وقوعِهِ
والحاجة إليه، وإنَّما الحاجةُ المهمةُ إلى فَهْم ما أخبرَ اللَّهُ به ورسولُه، ثمَّ اتباعُ
ذلكَ والعملُ به، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسائلِ، فيُحيلُ على القرآنِ، كما سألَهُ عمرُ عنِ الكلالةِ فقال: "يَكفيك آيةُ الصيف ".
وأشارَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ إلى أنَّ في الاشتغال بامتثال أمرِه، واجتنابِ نهيه شغلاً عن المسائلِ، فقال:
"إذا نهيتُكُم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكُم بأمر، فأتوا منه ما استطعتُم ".
فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ أن يبحثْ عمَّا جاء عن اللَّهِ
ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يجتهدُ في فهم ذلك، والوقوفِ على معانيهِ، ثم يشتغلُ بالتصديقِ بذلكَ إنْ كان من الأمورِ العلميَّةِ، وإن كان من الأمور العمليّة، بذل وسْعهُ في الاجتهادِ في فعلِ ما يستطيعُهُ من الأوامرِ، واجتنابِ ما يُنْهى عنهُ، وتكونُ همَّتُهُ مصروفةً بالكليَّة إلى ذلكَ، لا إلى غيرِه.
وهكذا كانَ حال أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعينَ لهم بإحسانٍ في طلبِ العلمِ النافع منَ الكتابِ والسنةِ.
فأمَّا إنْ كانتْ همةُ السامِع مصروفةً عند سماع الأمرِ والنهي الى فرضِ
أمورٍ قد تقعُ، وقد لا تقعُ، فإن هذا مما يدخلُ في النَّهي ويثبِّطُ عن الجِدِّ في(1/453)
متابعةِ الأمرِ. وقد سألَ رجلٌ ابنَ عمرَ عن استلامِ الحجرِ، فقال له: رأيتُ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُهُ، فقال له الرجلُ: أرأيتَ إنْ غُلِبْتُ عليه؟ أرأيت إن زُوحِمْتُ؟
فقال له ابنُ عمرَ: اجعلْ "أرأيتَ" باليمنِ، رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُهُ.
خرَّجه الترمذيُّ.
ومرادُ ابنِ عمرَ: أن لا يكونَ لكَ همٌّ إلا في الاقتداءِ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلكَ أو تعسرِه قبلَ وقوعِهِ، فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ عن التَّصميمِ على المتابعةِ، فإنَّ التَّفْقُّهَ في الدِّين، والسُّؤالَ عن العِلْم إنَّما يُحمَدُ إذا كانَ للعملِ، لا للمراءِ والجدالِ.
وقد رُوي عن على - رضي الله عنه -، أنه ذكرَ فتنًا تكونُ في آخرِ الزمان، فقال له عمرُ: متى ذلك يا علي؟
قال: إذا تُفُقِّه لغير الدين، وتَعُلِّم لغيرِ العملِ، والتُمِسَتِ الدنيا بعملِ الآخرةِ.
وعن ابنِ مسعود أنه قال: كيف بكُم إذا لبِستكم فتنةٌ يربُو فيها الصغيرُ.
ويهْرَمُ فيها الكبيرُّ، وتُتَّخَذُ سُنَّةً، فإن غُيرَتْ يومًا قيل: هذا منكرٌ؟
قالُوا: ومتى ذلك؟ قالَ: إذا قلَّتْ أمناؤُكُم، وكثرتْ أمراؤكم، وقلَّت فقهاؤُكُم، وكثر قُرَّاؤُكُم، وتُفُقّهَ لغير الدين، والتُمِسَتِ الدنيا بعملِ الآخرةِ.
خرَّجهما عبدُ الرزاقِ في كتابِهِ.
ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابةِ والتابعينَ يكرهونَ السؤالَ عن الحوادثِ
قبلَ وقوعِها، ولا يُجيبونَ عن ذلكَ، قالَ عمرُو بنُ مُرَّةَ: خرج عمرُ على(1/454)
الناسِ، فقال: أُحرِّجُ عليكُم أن تسألونا عن ما لم يكنْ، فإنَّ لنا فيما كان
شغلاً.
وعن ابنِ عمرَ، قالَ: لا تسألوا عما لم يكنْ، فإنِّي سمعتُ عمرَ لعنَ
السَّائلَ عمَّا لم يكنْ.
وكان زيدُ بنُ ثابت إذا سُئلَ عن الشَّيْء يقولُ: كانَ هذا؛ فإن قالُوا: لا.
قالَ: دعُوه حتى يكونَ.
وقال مسروقٌ: سألتُ أُبيَّ بنَ كعبٍ عن شيءٍ، فقالَ: أكانَ بعدُ؟
فقلتُ: لا، فقال: أجِمَّنا - يعني: أرِحْنا - حتى يكونَ فإذا كان اجتهدْنا لك رأيَنا.
وقال الشعبيُّ: سئلَ عمَّارٌ عن مسألةٍ فقال: هل كان هذا بعدُ؟
قالُوا: لا، قال: فدعُونا حتى يكونَ، فإذا كان تجَشَّمْنَاهُ لكم.
وعن الصَّلتِ بنِ راشدٍ، قال: سألتُ طاووسًا عن شيءٍ، فانتهرني.
وقالَ: أكان هذا؟ قلتُ: نعم، قال: آللَّه؟ قلتُ: آللَّه. قال: إنَّ أصحابنا أخبرُونا عن معاذِ بنِ جبلٍ أنه قالَ: أيها النَّاسُ، لا تعجلُوا بالبلاء قبْلَ نزولِه فيذهبُ بكُم هَاهُنا وهَاهُنا، فإنَّكم إنْ لم تعجلُوا بالبلاء قبلَ نزولِه لم ينفكًّ المسلمونَ أن يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ، أو قال وُفِّق.
وقد خرَّجه أبو داودَ في كتابِ: "المراسيلِ " مرفوعًا من طريقِ(1/455)
ابنِ عجلانَ عن طاووسٍ عن معاذٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تعجَلُوا بالبليَّةِ قبل نزولِهَا فإنَّكم إن لم تفعلُوا لم ينفكَّ المسلمونَ منهم من إذا قال سُدِّدَ أو وقق، وإنَّكم إن عجِلتُم، تشَّتتْ بكمُ السّبلُ هاهُنا وهَاهُنا". ومعنى إرساله أن طاووسًا لم يسمعْ من معاذ.
وخرَّجه - أيضًا - من روايةِ يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمةَ، عن
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مرسلاً.
وروى الحجاجُ بنُ منهال حدثنا جريرُ بنُ حازمٍ سمعتُ الزبيرَ بنَ سعيدٍ -
رجلاً من بني هاشم - قال. سمعتُ أشياخَنا يحدثون: أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يزالُ في أُمَّتِي مَن إذا سُئلَ سُدِّد وأُرْشِدَ حتى يتساءلوا عن ما لم ينزلْ تبيينُهُ، فإذا فعلوا ذلك، ذُهِبَ بهم هاهُنا وهاهُنا".
وقد رُوي عن الصَّنابحيِّ عن معاويةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنه نهى عن الأغْلُوطاتِ، خرَّجه الإمامُ أحمد، وفسَّرها الأوزاعيُّ، قال: هي شدادُ المسائِلِ.
وقالَ عيسى بنُ يونسَ: هي ما لا يُحتاجُ إليه من كيفَ وكيفَ.
ويُروى من حديثِ ثوبانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"سيكونُ أقوامٌ من أمتي يُغَلِّطُون فقهاءَهُم بِعُضَلِ المسائِلِ، أولئك شرارُ أُمَّتِي ".
وقال الحسنُ: شرارُ عبادِ اللَّهِ الذين يتبعونَ شرارَ المسائلِ يَغُمُّون بها عبادَ
اللَّه.(1/456)
وقال الأوزاعيُّ: إنَّ اللَّهَ إذا أراد أن يحرِمَ عبدَه بركةَ العلم، ألقى على
لسانِهِ المغاليطَ، فلقد رأيتُهم أقلَّ الناسِ علمًا.
وقال ابنُ وهب عن مالكٍ: أدركتُ هذه البلدةَ، وإنَّهم ليكرهُون هذا
الإكثارَ الذي فيه الناسُ اليومَ، يريدُ المسائلَ.
وقال أيضًا: سمعتُ مالكًا وهو يعيبُ كثرةَ الكلامِ وكثرةَ الفتيا، ثم قالَ:
يتكلَّمُ كأنه جملٌ مُغْتَلِمٌ يقولُ: هو كذا، هو كذا يَهْدِرُ في كلامِهِ.
وقال: وسمعتُ مالكًا يكرهُ الجوابَ في كثرةِ المسائلِ، وقال: قال اللَّهُ عزَّ
وجلَّ: (وَيَسْأَئونَكَ عَنِ الروحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فلم يأتِهِ في
ذلكَ جوابٌ.
وكان مالكٌ يكرهُ المجادلةَ عن السُّنن أيضًا. قال الهيثمُ بنُ جميلٍ: قلتُ
لمالكٍ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، الرجلُ يكونُ عالمًا بالسُّن يُجادِلُ عنها؟
قالَ: لا، ولكن يخبر بالسُّنَّةِ، فإن قُبِلَ منه، وإلا سكتَ.
وقال إسحاقُ بنُ عيسى: كان مالكٌ يقولُ: المِراءُ والجِدالُ في العلم يذهبُ
بنورِ العلم من قلبِ الرجلِ.
وقال ابنُ وهبٍ: سمعتُ مالكًا يقولُ: المراءُ في العلم يُقسَي القلوبَ
ويورِّث الضغنَ.
وكان أبو شريح الإسكندرانيُّ يومًا في مجلسِهِ، فكثُرَتِ المسائلُ، فقال: قد
دَرِنَتْ قلوبُكم منذُ اليوم، فقومُوا إلى أبي حُميدٍ خالد بن حميد اصقُلوا
قلوبكم، وتعلَّموا هذه الرغائبَ، فإنَها تُجَدِّدُ العبادةَ، وتُورثُ الزهادةَ، وتجرُّ الصداقةَ، وأقلُّوا المسائلَ إلا ما نزلَ، فإنها تقسِّي القلوبَ، وتورثُ العداوةَ.(1/457)
وقال الميمونيُّ: سمعتُ أبا عبدِ اللَهِ - يعني أحمدَ - يُسأل عن مسألةٍ.
فقال: وقعَتْ هذه المسألةُ؟ بُليتم بها بعدُ.
وقد انقسمَ الناسُ في هذا البابِ أقسامًا:
فمن أتباع أهلِ الحديثِ منْ سدَّ بابَ المسائلِ حتَى قل فقهُهُ وعلمه بحدودِ
ما أنزلَ اللَّهُ على رسولِهِ، وصارَ حامِلَ فقهٍ غيرَ فقيه.
ومن فقهاءِ أهلِ الرأي من توسَّع في توليدِ المسائلِ قبلَ وقوعِها، ما يقعُ في
العادةِ منها وما لا يقعُ، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجوابِ عن ذلكَ، وكثرة
الخصوماتِ فيه، والجدالِ عليه حتَى يتولدَ منْ ذلكَ افتراقُ القلوبِ، ويستقرًّ
فيها بسببهِ الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترنُ ذلكَ كثيرًا بنيّةِ
الغالبةِ، وطلبِ العلوِّ والمباهاةِ، وصرفِ وجوهِ الناسِ، وهذا ممَّا ذمَّه العلماءُ
الربانيونَ، ودلَّتِ السّنَةُ على قبحِهِ وتحريمِهِ.
وأما فقهاءُ أهلِ الحديثِ العاملُون به، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني
كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وما يُفسِّره من السننِ الصحيحةِ، وكلام الصحابةِ
والتابعينَ لهم بإحسانٍ، وعن سُنَةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفةِ صحيحِهَا وسقيمِهَا، ثم التفقهُ فيها وتفهمُها، والوقوفُ على معانِيها، ثم معرفةُ كلامِ الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ في أنواع العلومِ من التفسيرِ والحديثِ، ومسائلِ الحلالِ والحرامِ، وأصولِ السنةِ والزهدِ والرقائقِ، وغير ذلك، وهذا هو طريقةُ الإمامِ أحمدَ ومَنْ وافقه من علماءِ الحديث الرّبَانيينَ، وفي معرفةِ هذا شغل شاغلٌ عن التشاغُلِ بما أُحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ولا يقعُ، وإنما يُورثُ التجادلُ فيه كثرةَ الخصوماتِ والجدالَ وكثرةَ القيلِ والقالَ.(1/458)
وكان الإمامُ أحمدُ كثيرًا إذا سُئلَ عن شيءٍ من المسائلِ المولداتِ التي لا تقعُ يقولُ: دعونا منْ هذه المسائلِ المحدثةِ.
وما أحسن ما قالَهُ يونسُ بنُ سليمانَ السَّقَطِيُّ: نظرتُ في الأمر، فإذا هو
الحديثُ والرأيُ، فوجدتُ في الحديثِ ذكرَ الربِّ عزَّ وجلَّ، وربوبيتَه وإجلاله وعظمته، وذكرَ العرشِ وصفةَ الجنةِ والنارِ، وذكرَ النبيينَ والمرسلين، والحلالِ والحرامِ، والحثَّ على صلةِ الأرحامِ، وجماعَ الخيرِ فيه، ونظرتُ في الرأي، فإذا فيه المكرُ والغدرُ، والحيلُ، وقطيعةُ الأرحامِ، وجماعُ الشَّرِّ فيه.
وقال أحمدُ بن شبويه: من أرادَ علمَ القبرِ فعليه بالآثارِ، ومن أراد علم
الخُبْزِ فعليه بالرأي.
ومن سلكَ طريقَه لطلبِ العلم على ما ذكرناه، تمكَّن من فهمِ جوابِ
الحوادثِ الواقعةِ غالبًا، لأن أصولَها تُوجدُ في تلكَ الأصولِ المشارِ إليها.
ولابدَّ أن يكونَ سلوكُ هذا الطريقِ خلفَ أئمةِ أهلِهِ المجمَع على هدايتهِم
ودرايتِهِم كالشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي عُبيدٍ ومن سلكَ مسلكَهم، فإنًّ مَنِ
ادَّعى سلوكَ هذا الطريقِ على غيرِ طريقِهِم، وقعَ في مفاوزَ ومهالكَ، وأخذَ
بما لا يجوزُ الأخذُ به، وتركَ ما يجبُ العملُ به.
ومِلاكُ الأمرِ كلِّه أن يقصِدَ بذلكَ وجهَ اللَّهِ، والتقرُّبَ إليه، بمعرفةِ ما أنزلَهُ
على رسولِهِ، وسلوكِ طريقه، والعملِ بذلكَ، ودعاءِ الخلقِ إليه، ومَنْ كان
كذلكَ، وفَّقه اللَّهُ وسدَّده، وألهمَهُ رشدَهُ، وعلَّمه ما لم يكنْ يعلمُ، وكان من العلماءِ الممدوحينَ في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاءُ) ، ومن الراسخينَ في العلم.(1/459)
فقد خرَّج ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" من حديثِ أبي الدرداءِ أنَ رسولَ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الرَّاسخينَ في العلم، فقالَ: "من برَّت يمينُه، وصدقَ لسانُه، واستقامَ قلبُه، ومَنْ عفَّ بطنُه وفرجُه، فذلكَ منَ الرَّاسخينَ في العلم".
قال نافعُ بنُ يزيدَ: يقالُ: الرَّاسخون في العلم: المتواضعونَ للَّهِ، المتذلِّلون
للَّهِ في مرضاتِهِ، لا يتعاطُون من فوقَهُم، ولا يحقرونَ من دونَهُم.
ويشهدُ لهذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أتاكُم أهلُ اليمنِ، هُمْ أبرُّ قلوبًا، وأرقُّ أفئدةً.
الإيمانُ يمانٍ، والفقهُ يمانٍ، والحكمةُ يمانيَّة".
وهذا إشارةٌ منه إلى أبي موسى الأشعريِّ، ومن كان على طريقِهِ من
عُلَماءِ أهلِ اليمنِ، ثمَّ إلى أبي مسلم الخولانيِّ، وأُويسٍ القرَنيِّ، وطاووس.
ووهبِ بنِ منبهٍ، وغيرِهم من علماءِ أهلِ اليمن، وكل هؤلاءِ من العلماء
الرَّبانيينَ الخائفينَ للَّه، وكلُّهم علماءُ باللَّهِ يخشونَه ويخافونَه، وبعضهم أوسعُ
علمًا بأحكامِ اللَّه وشرائع دينِه من بعضٍ، ولم يكنْ تميّزهم عن الناسِ بكثرةِ
قيل وقال، ولا بحثٍ ولا جدالٍ.
وكذلك معاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه -، أعلمُ الناسِ بالحلالِ والحرامِ، وهو الذي يُحشر يومَ القيامةِ أمامَ العلماءِ برَتْوةٍ، ولم يكنْ علمهُ بتوسعةِ المسائلِ وتكثيرِها، بل قد سبقَ عنه كراهةُ الكلامِ فيما لم يقعْ، وإنما كان عالما باللَّهِ وعالمًا بأصولِ دينِهِ.
وقد قيلَ للإمامِ أحمدَ: منْ نسألُ بعدَك؟
قال: عبدُ الوهَّابِ الورَّاق.
قيلَ له: إنه ليس له اتِّساعٌ في العلم، قال: إنه رجلٌ صالح، مثلُه يوفَّقُ(1/460)
لإصابةِ الحقِّ.
وسئل عن معروفٍ الكرخيِّ، فقال: كان معه أصلُ العلم: خشيةُ اللَّهِ.
وهذا يرجعُ إلى قولِ بعضِ السلفِ: كفى بخشية اللَّه علمًا، وكفى بالاغترارِ
باللَّه جهلاً.
وهذا بابٌ واسعٌ يطولُ استقصاؤه.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وقد حكى القاضي أبو يعْلى روايتينِ عن أحمدَ في وجوبِ إنكارِ المنكرِ
على من يعلمُ أنَّه لا يقبلُ منه، وصححَ القولَ بوجوبِهِ، وهو قولُ أكثرِ
العلماء.
وقد قيلَ لبعضِ السلفِ في هذا، فقالَ: يكونُ لكَ معذرة، وهذا كما أخبرَ
اللَّهُ عزَّ وجلَّ عن الذينَ أنكرُوا على المعتدينَ في السَّبتِ أنَّهم قانَوا لمن قالَ
لهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَو معَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، وقد وردَ ما يستدلُّ به على سقوطِ الأمرِ والنهي
عندَ عدمِ القبولِ والانتفاع به، ففي "سننِ أبي داودَ" وابنِ ماجةَ والترمذي
عن أبي ثعلبةَ الخُشنيِّ أنه قيلَ له: كيفَ تقولُ في هدْه الآيةِ: (عَلَيْكُمْ
أَنفُسَكُمْ) ، فقالَ: أما واللَّهِ لقد سألتُ عنها رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،(1/461)
فقالَ: "بل ائتمِروا بالمعروفِ، وانتهُوا عن المنكرِ حتى إذا رأيتَ شُحًا مُطاعًا، وهوى مُتّبعًا، ودُنيا مُؤئَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه فعليكَ بنفْسِكَ، ودعْ عنكَ أمرَ العوامِّ ".
وفي "سننِ أبي داودَ" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: بينما نحن حولَ
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إذْ ذكر الفتنة، فقالَ: "إذا رأيتُمَ الناسَ مرجَتْ عهودهم، وخفَّت أماناتهم، وكانُوا هكذا" وشبَّك بين أصابعِهِ، فقمتُ إليه، فقلتُ: كيف أفعلُ عندَ ذلك، جعلني اللَّهُ فداكَ؟
قال: "الزمْ بيتَك، واملِكْ عليكَ لسانَكَ، وخُذْ بما تعْرِفُ، ودع ما تُنكرُ، وعليكَ بأمر خاصَّةِ نفسِكَ، ودع عنك أمرَ العامَّة".
وكذلك رُويَ عن طائفةٍ من الصحابةِ فىِ قولِهِ تعالى: (عَلَيْكُم أَنفُسَكُمْ لا
يَضُرُّكم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، قالُوا: لم يأتِ تأويلُها بعدُ، إنَّما
تأويلُها في آخرِ الزمانِ.
وعن ابنِ مسعودٍ، قال: إذا اختلفتِ القلوبُ والأهواءُ، وأُلبِستم شِيَعًا.
وذاق بعضُكم بأسَ بعض، فيأمرُ الإنسانُ حينئذٍ نفسَهُ، حينئذٍ تأويل هذه
الآية.
وعن ابنِ عمرَ، قال: هذه الآيةُ لأقوامٍ يجيئونُ من بعدِنا، إن قالُوا لم
يُقبَلْ منهم.
وقال جُبيرُ بنُ نفيرٍ عن جماعةٍ من الصحابةِ، قالُوا. إذا رأيتَ
شحًا مُطاعًا وهوًى متبعًا، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسِكَ، لا
يضرُّكَ من ضلَّ إذا اهتديت.
وعن مَكْحُولٍ، قال: لم يأتِ تأويلها بعدُ، إذا هابَ الواعظُ، وأنكرَ(1/462)
الموعوظُ فعليكَ حينئذٍ بنفسِكَ لا يضرُّك من ضل إذا اهتديتَ.
وعن الحسنِ: أنه كان إذا تلا هذه الآيةَ، قال: يا لها من ثقةٍ ما أوثقها!
ومن سعةٍ ما أوسَعها!.
وهذا كلُّه قد يُحملُ على أنَّ من عجزَ عن الأمرِ بالمعروفِ، أوخافَ
الضَّررَ، سقطَ عنه، وكلامُ ابنِ عمر يدلُّ على أنَّ من عَلِمَ أنَّه لا يُقبل منه، لم يجبْ عليه، كما حُكِي روايةً عن أحمدَ، وكذا قالَ الأوزاعيُّ: " مَنْ ترى
أن يقبل منك.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
وقد دلَّ القرآنُ على استحلافِ الشهودِ عندَ الارتيابِ بشهادتِهِم في الوصيَّةِ
في السفرِ في قولِهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضرَ أَحَدَكُمُ(1/463)
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكمْ) إلى قوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ) .
وهذه الآية ُ لم يُنسخ العملُ بها عندَ جمهورِ السلفِ، وقد عَمِلَ بها
أبو موسى، وابن مسعودٍ، وأفتى بها علي، وابنُ عباسٍ، وهو مذهبُ شُريح والنخعيِّ، وابنِ أبي ليلَى، وسفيانَ والأوزاعي وأحمدَ وأبي عُبيدٍ وغيرِهم.
قالُوا: تُقبل شهادةُ الكفار في وصيَّةِ المسلمينَ في السَّفرِ، ويُستحلفانِ مع
شهادتِهِما.
وهل يمينُهُما من بابِ تكميلِ الشهادةِ، فلا يُحكمُ بشهادتِهِما بدونِ
يمينٍ، أم من بابِ الاستظهارِ عند الريبة؟ وهذا محتملٌ، وأصحابُنا جعلُوها
شرطَا، وهو ظاهرُ ما رُويَ عن أبي موسى وغيرِه.
وقد ذهبَ طائفةٌ من السلفِ إلى أنَّ اليمينَ مع الشاهدِ الواحدِ هو من بابِ
الاستظهارِ، فإنْ رأى الحاكمُ الاكتفاءَ بالشَّاهدِ الواحدِ، لبُروزِ عدالتِهِ، وظُهورِ صِدْقه اكتفَى بشهادتِهِ بدون يمينِ الطالبِ.
وقولُهُ تعالى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) ، يدلُّ على أنَّه إذا ظهر خلَلٌ في شهادةِ الكفارِ، حَلَفَ أولياءُ الميتِ على خيانتِهِمَا وكذبِهِما، واستحقُّوا ما حلَفُوا عليه.
وهذا قولُ مُجاهد وغيرُه من السلفِ.
ووَجْه ذلكَ: أن اليمينَ في جانبِ أقوى المتداعيينِ، وقد قَوِيَتْ هاهنا
دَعْوى الورثةِ بظهورِ كذبِ الشُّهودِ الكفارِ، فتُردُّ اليمينُ على المُدَّعينَ.
ويحلفونَ مع اللَّوْثِ ويستحقُون ما ادَّعَوْهُ، كما يحلفُ الأولياءُ في القَسامةِ مع
اللَّوْثِ، ويستحقّون بذلك الدِّيَةَ والدَّم - أيضًا - عندَ مالكٌ وأحمدَ وغيرِهما.(1/464)
وقضى ابنُ مسعودٍ في رجلٍ مسلم حضرَهُ الموتُ فأوصَى إلى رجلين
مسلمين معه، وسلَّمهما ما معه مِنَ المالِ، وأشهدَ على وصيَّته كفَّارًا، ثم قدِمَ
الوصيَّانِ، فدفعا بعضَ المالِ إلى الورثةِ، وكتما بعضه، ثمَّ قدِمَ الكفَارُ فشهدُوا عليهم بما كتمُوه منَ المالِ، فدعا الوصيَّينِ المسلمينِ، فاستحلفهُما: ما دفعَ إليهما أكثر ممَّا دفعاهُ، ثم دعا الكفارَ، فشهدُوا وحَلَفوا على شهادتِهِم، ثم أمرَ أولياءَ الميتِ أن يحلفُوا أنَّ ما شهدتْ به اليهودُ والنصارى حقٌّ فحلفوا، فقضى على الوصِيَّينِ بما حلفوا عليه، وكانَ ذلكَ في خلافةِ عثمانَ، وتأوَلَ ابنُ مسعودٍ الآيةَ على ذلكَ، فكأنَّه قابلَ بين يمينِ الأوصياءِ والشُّهود الكفارِ فأسقطَهُما، وبقي مع الورثةِ شهادةُ الكفار، فحلفُوا معها، واستحقُّوا، لأنَّ جانبَهم ترجَّحَ بشهادةِ الكفارِ لهم، فجعلَ اليمينَ مع أقوى المتداعيينِ، وقضَى بها.
* * *(1/465)
سُورَةُ الأنْعَامِ
قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
[قالَ البخاريُّ] : "باب لا يَدْرِي متَى يجِيءُ المطرُ إلا اللهُ ":
وقال أبو هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"خمسٌ لا يعْلَمُهُن إلا اللَّهُ ".
حديثُ أبي هريرةَ هذا، قد خرَّجه في كتابِ الإيمانِ في حديثِ سؤالِ
جبريلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وأنّه تلا عند ذلك هذه الآيةَ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) .
وقد تقدم ذكرُه والكلامُ عليه.
حدَّثنا محمدُ بنُ يوسفُ: نا سفيانُ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ
عمرَ، قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"مفتاحُ الغيْبِ خمْسٌ لا يعلَمُهُا إلاَّ اللَّهُ، لا يعلم أحد
ما يكون في غَد إلاَّ اللَّهُ، ولا يعْلَمُ أحدٌ ما يكون في الأرحام إلاَّ اللَّهُ، ولاتَعْلَمُ نفْس ما تكسبُ غَدًا، وما تَدْرِي نفْسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، وما يدْرِي أحدٌ متَى يجيءُ المطرُ".
قد سبقَ في البابِ المشارِ إليه: الإشارةُ إلى اختصاصِ اللَّهِ بعلم هذه(1/466)
الخمسِ، التي هي مفاتحُ الغيبِ، التي قال فيها: (وَعِندَهُ مَفَاتِح الْغَيبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) .
وهذه الخمسُ المذكورةُ في حديثِ ابنِ عمرَ، ليسَ فيها علمُ الساعةِ، بل
فيها ذكرُ متى يجيءُ المطرُ بدلَ الساعةِ.
وهذا مما يدلُّ على أن علمَ اللَّهِ الذي استأثر به دونَ خلْقِهِ لم ينحصرْ في
خمسٍ، بلْ هو أكثرُ من ذلكَ، مثلُ علمِهِ بعددِ خلقِهِ، كما قال:
(وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) .
ومثلُ استئثاره بعلمِهِ بذاتِهِ وصفاتِهِ وأسمائِهِ، كما قال: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْمًا) .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ - في ذكرِ أسمائِهِ -: "أو استأثرتَ به في علم الغيْبِ
عندك ".
وإنَّما ذُكرَتْ هذه الخمسُ لحاجةِ الناسِ إلى معرفةِ اختصاصِ اللَّهِ بعلمِها.
والعلم بمجموعِها مما اختصَّ اللَّهُ بعلمِهِ، وكذلكَ العلمُ القاطعُ بكلِّ فردٍ فردٍ
من أفرادِها.
وأمَّا الاطّلاع على شيءٍ يسيرٍ من أفرادِها بطريقٍ غيرِ قاطع، بل يحتملُ
الخطأ والإصابةَ هو غيرُ منفيٍّ، لأنه لا يدخلُ في العلم الذي اختصَّ اللَّهُ به.
ونفاهُ عن غير.
وتقدَّمَ - أيضًا - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوتيَ علمَ كلِّ شيءٍ، إلا هذه الخمسَ.
فأمَّا إطْلاع اللَّهِ سبحانه له على شيءٍ من أفْرادِها، فإنه غيرُ منفي - أيضًا -(1/467)
وهو داخلٌ في قولِهِ تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الآية.
ولكنَّ علمَ الساعةِ مما اختصَّ اللَّهُ به، ولم يطلعْ عليه غيرَه، كما تقدَّمَ في
حديثِ سؤالِ جبريلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك جملةُ العلم بما في غَد.
وقد قالتْ جاريةٌ بحضرتِهِ - صلى الله عليه وسلم -:
وفينا نبيٌّ يعلمُ في ما غَدِ، فنهاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قولِ ذلك.
وقد خرَّجه البخاريُّ في "النكاح ".
وأما العلمُ بما في الأرحامِ، فينفردُ اللَّهُ تعالى بعلمِهِ، قبلَ أن يأمرَ ملكَ
الأرحامِ بتخليقِه وكتابتِهِ، ثم بعد ذلك قد يُطلعُ اللَهُ عليه من يشاءُ من خلقِهِ، كما أطلَعَ عليه ملكَ الأرحامِ.
فإن كان من الرسلِ فإنَه يطلعُ عليه علمًا يقينًا، وإن كان من غيرِهم مِنَ
الصدِّيقينَ والصالحينَ، فقد يطلعُه اللَّهُ تعالى عليه ظاهرًا.
كما روى الزهريُّ، عن عروةَ، عن عائشةَ، أنَّ أبا بكرٍ لما حضرتُه الوفاةُ
قال لها - في كلامٍ ذكرَهُ -: إنما هو أخواكِ وأختاكِ.
قالتْ: فقلتُ هذا أخواي، فمن أختاي؟
قال: ذو بطنٍ ابنةُ خارجة، فإني أظنُّها جارية.
ورواه هشامٌ، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالتْ له عند ذلك: إنما هي
أسماءُ؟
فقالَ: وذاتُ بطنٍ بنتُ خارجةَ، أظنُّها جاريةً.
ورواه هشامٌ، عن أبيه: قد أُلْقِيَ في رُوعِي أنَّها جاريةٌ، فاستوصي بها
خيرًا، فولدتْ أمَ كُلثومٍ.(1/468)
وأما علمُ النفس بما تكسبُه غدًا، وبأيِّ أرضِ تموتُ، ومتى يجيءُ المطرُ.
فهذا على عمومه لا يعلَمُه إلا اللَّهُ.
وأمَّا الاطلاع على بعضِ أفرادهِ، فإنْ كانَ بإطْلاع مِنَ اللَّهِ لبعضِ رسلِهِ.
كان مخصوصًا من هذا العمومِ، كما أُطلِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على كثيرٍ من الغيوبِ المستقبلةِ، وكان يخبرُ بها.
فبعضُها يتعلقُ بكسبِهِ، مثلُ إخبارِه أنه يَقْتلُ أميَّةَ بنَ خلفٍ، وأخبر سعدُ
ابنُ معاذ بذلك أميةَ بمكةَ، وقال أميَّةُ: واللهِ، ما يكذبُ محمدٌ.
وأكثرُه لا يتعلقُ بكسبِهِ، مثلُ إخباره عن الصورِ المستقبلةِ في أمَّتِهِ وغيرِهِم.
وهو كثير جدا.
وقد أخبرَ بتبوكٍ، أنه "تهبُّ الليلةَ ريح شديدةٌ، فلا يقومَن أحدٌ"، وكان
كذلك.
والاطلاع على هبوبِ بعضِ الرياح نظيرُ الاطلاع على نزولِ بعضِ الأمطارِ
في وقتٍ معينٍ.
وكذلك إخبارُهُ - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمةَ في مرضِهِ، أنه مقبوضٌ من مرضِهِ.
وقد رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "ما بين قبرِي ومنبرى روضة من رياضِ الجنة".
خرَّجه الإمامُ أحمد من حديثِ أبي سعيد الخدريِّ، والنسائيُّ
حديثِ أمَ سلمةَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.(1/469)
وهو دليلٌ على أنَّه علمَ موضعَ موتِهِ ودفنِهِ.
وقد رُوي عنه، أنه قال: "لم يقبضْ بنبيٌّ إلا دُفنَ حيثُ يُقبضُ ".
خرَّجه ابنُ ماجة وغيرُه.
وأما إطلاع غيرِ الأنبياءِ على بعضِ أفرادِ ذلك فهو - كما تقدَّمَ - لا يحتاجُ
إلى استثنائه؛ لأنه لا يكونُ علمًا يقينًا، بل ظنًا غالبًا، وبعضُه وهمٌ، وبعضُه
حدسٌ وتخمينٌ، وكلُّ هذا ليس بعلم، فلا يحتاجُ إلى استثنائه مما انفردَ اللَّهُ
سبحانه وتعالى بعلمِهِ، كما تقدَّمَ، واللَّهُ سبحانَهُ وتعالى أعلم.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
خرَّج البخاريُّ ومسلمٌ: من حديثِ: ابنِ مسعودٍ، قالَ: لمَّا نزلتْ:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ، قال أصحابُ رسولِ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لم يظلِمْ نفْسَهُ؟ فأنزلَ اللَّهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .
معنى هذا: أنَّ الظلم يختلفُ:
فيه ظلمٌ ينقل عن الملةِ، كقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .
وقولِهِ تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فإن الظلمَ وضعُ الشيءِ
في غيرِ موضعه، وأعظمُ ذلك أن يوضعَ المخلوقُ في مقامِ الخالقِ، ويجعلَ(1/470)
شريكًا له في الربوبيةِ وفي الإلهيّة، سُبْحانه وتعالى عمَّا يشركونَ.
وأكثرُ ما يردُ في القرآنِ وعيدُ الظالمينَ، يرادُ به الكفارُ، كقوله تعالى:
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) .
وقوله: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ) . ومثلُ هذا كثير.
ويرادُ بالظلم ما لا ينقلُ عن الملةِ، كقولِهِ تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخيْرَاتِ) ، وقولِهِ: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وحديثُ ابنِ مسعودٍ هذا: صريحٌ في أنَّ المرادَ بقولِهِ تعالى:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) ، أن الظلمَ هو الشركُ.
وجاء في بعضِ رواياته: زيادةٌ: قال: "إنَّما هو الشركُ!.
وروى حمادُ بن سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن يوسفَ بنِ مهرانَ، عن ابنِ
عباسٍ، أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كانَ إذا دخلَ بيتَه نشرَ المصحفَ فقرأَ، فدخل
ذاتِ يومٍ فقرأ، فأتى على هذه الآيةِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)
، إلى آخر الآيةِ، فانتعلَ وأخذَ رداءَه، ثم أتى أُبيَّ بنَ كعبٍ.
فقال: يا أبا المنذرِ، أتيتُ قبلُ على هذهِ الآيةِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) ، وقد تَرى أنَّا نظلِمُ ونفعلُ؟
فقال: يا أمير المؤمنينَ، إنَّ هذا ليسَ بذلكَ، يقولُ اللَّه تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، إنَّما ذلك الشركُ.
وخرَّجه محمدُ بنُ نصرٍ المروذيُّ.(1/471)
وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ حمادِ بنِ زيدٍ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن سعيدِ
ابنِ المسيّبِ، أنَّ عمرَ أتى على هذه الآيةِ - فذكره.
وحمادُ بنُ سلمةَ، مقدَّم على حمادِ بن زيدٍ في علي بنِ زيدٍ خاصةً.
وروى - أيضًا - بإسنادِهِ، عن سفيانَ، عن ابن جريج، عن عطاءٍ، قال:
كفر دونَ كفرٍ، وظلم دونَ ظلم، وفسق دون فسقٍ.
يعني: أن الفسقَ قد يكونُ ناقلاً عن الملةِ، كما قال في حقِّ إبليسَ:
(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ، وقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) .
وقدْ لا يكونُ الفسقُ ناقِلاً عن الملة، كقولِهِ تعالى: (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا
شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، وقوله في الذين يرمونَ
المحصناتِ: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
وقوله: (فَلا رَفثَ وَلا فسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) .
وفسَّرتِ الصحابةُ الفسوقَ في الحجِّ بالمعاصِي كلّها، ومنهُم من خصَّها بما
يُنهى عنه في الإحرامِ خاصةً.
وكذلكَ الشركُ، منه ما ينقلُ عن الملةِ، واستعمالُهُ في ذلكَ كثير في
الكتابِ والسُّنَّةِ، ومنه ما لا ينقلُ، كما جاء في الحديثِ: "من حلفَ بغيرِ اللهِ
فقدْ أشرْكَ ".
وفي الحديثِ: "الشركُ في هذه الأمَة أخفَى من دبيبِ النملِ "،(1/472)
وسمَّى الرِّياءَ شركًا.
وتأوَّل ابنُ عباسٍ على ذلكَ قولَه تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ، قال: إنَّ أحدَهُم يشركُ حتَّى يشرك بكلبِهِ: لولا
الكلبُ لسُرِقْنا الليلةَ.
قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
وقد رُوي أنها نزلتْ في الرِّياء في العملِ.
وقيل للحسنِ: يشركُ بالله؟
قال: لا، ولكن أشركَ بذلكَ العملِ عملاً
يريدُ به اللَّهَ والناسَ، فذلك يُردُّ عليه.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) .(1/473)
قال ابنُ الجوزيِّ في "المقتبسِ ": سمعتُ الوزير يقولُ: الآياتُ اللواتي في
الأنعامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكمْ) ، محكمات، وقد اتفقتْ
عليها الشرائعُ، وإنما قالَ في الآيةِ الأولى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وفي الثانية:
(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ) ، وفي الثالثة: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ؛ لأنَّ كلَّ آيةٍ
يليقُ بها ذلكَ، فإنَّه قالَ في الأولى: (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) والعقلُ يشهدُ أنَّ
الخالقَ لا شريكَ له، ويدعُو العقلُ إلى برِّ الوالدينِ، ونهى عن قتل الولدِ.
وإتيانِ الفواحشِ؛ لأن الإنسانَ يغارُ من الفاحشةِ على ابنتِهِ وأختِهِ، فكذلكَ
هو، ينبغي أنْ يجتنبَها، وكذلك قتلُ النفسِ، فلما لاقتْ هذه الأمورُ بالعقلِ.
قالَ: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ولما قالَ في الآيةِ الثانيةِ: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)
والمعنى: اذكُرْ لو هلكتَ فصارَ ولدُك يتيمًا، واذكُرْ عند ورثتِكَ، لو كنتَ
الموروثَ لهُ، واذكُرْ كيفَ تحبُّ العدلَ لكَ في القولِ؛ فاعدِلْ في حقِّ غيرِكَ.
وكما لا تؤثرُ أن يخانَ عهدُك فلا تخن، فلاقَ بهذهِ الأشياءٍ التذكرُ فقالَ:
(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وقالَ في الثالثةِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَا) .
فلاقَ بذلكَ اتقاءُ الزللِ، فلذلك قال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .
* * *
قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
وقد دلَّ حديثُ أبي سعيدٍ وحديثُ أبي هريرةَ المذكورانِ على أنَّ
مضاعفةَ حسناتِ المسلم بحسبِ حسنِ إسلامِهِ.(1/474)
وخرَّج ابنُ أبي حازم، من روايةِ عطيةَ العوفيِّ، عن ابنِ عمر، قال:
نزلتْ: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، في الأعراب، فقال له
رجل: يا أبا عبدِ الرحمنِ، فما للمهاجرينَ؟
قال: ما هو أكثرُ، ثم تلا قولَه:
(وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) .
ويشهدُ لهذا المعنى: ما ذكره اللَّهُ عزَّ وجل في حقِّ أزواج نبيَه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِي مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مبَيِّنَةٍ) إلى قوله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) .
فدلَّ على أنَّ من عظُمَتْ منزلَتُه عندَ اللَّهِ، فإن عملَه يضاعفُ له أجرةُ.
وقد تأولَ بعضُ السلفِ من بني هاشم دخولَ آلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى، لدخولِ أزواجِهِ، فكذلك من حَسُن إسلامُهُ بتحقيقِ إيمانِهِ وعملِهِ الصالح، فإنه يضاعفُ له أجرُ عملِهِ بحسبِ حسنِ إسلامه، وتحقيقِ إيمانه وتقواه. واللَّه أعلمُ. ًً
ويشهدُ لذلك: أنَّ اللهَ ضاعفَ لهذه الأمة، لكونها خيرَ أمة أخرجتْ
للناسِ أجرَها مرتينِ، قال اللَّهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) .
وفي الحديثِ الصحيح: "إنَّ أهلَ التوراةِ عمِلُوا إلى نصفِ النهارِ على قيراط
قيراط، وعملَ أهلُ الإنجيلِ إلى العصرِ على قيراط قيراط، وعمِلتُم أنتم من العصرِ إلى(1/475)
غروبِ الشمسِ على قيراطينِ، فغضبتِ اليهودُ والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثرُ عملاً وأقلُّ أجراً؟
فقال اللَهُ: هل ظلمتُكُمْ من أجورِكُم شيئا؟
قالوا: لا، قال: فذلك فضْلِي أوتيه من أشاءُ".
وأمَّا من أحسنَ عملَه وأتقنَهُ وعمِلَهُ على الحضورِ والمراقبةِ، فلا ريبَ أنه
يتضاعفُ بذلك أجرُه وثوابُهُ في هذا العملِ بخصوصِه على من عمِل ذلك
العملَ بعينِه على وجهِ السهوِ والغفلةِ.
ولهذا؛ رُوي في حديثِ عمَّارٍ المرفوع: "إن الرجل ينصرفُ من صلاِتهِ، وما
كُتبَ له إلا نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربُعُها" حتى بلغَ العُشْر.
فليس ثوابُ من كتبَ له عشرُ عمله كثواب من كتب له نصفُه، ولا ثوابُ
من كُتبَ له نصفُ عمِلِهِ كثوابِ من كتبَ له عملُهُ كلُّه. واللَّهُ أعلم.
* * *(1/476)
سُورَةُ الأعْرَاف
قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
أما قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ) ، فإنها نزلتْ
بسببِ طوافِ المشركينَ بالبيتِ عُراةً، وقد صحَّ هذا عن ابنِ عباسٍ، وأجمعَ
عليه المفسرونَ من السلفِ بعدَهُ.
وقد ذكرَ اللَّهُ هذه الآيةَ عقِبَ ذكْر قصةَ آدمَ عليه السلامُ، وما جرَى له
ولزوجِهِ مع الشيطانِ حتى أخْرجَهُما من الجنةِ، ونزع عنهما لباسهما حتى
بدَتْ عوارتُهما، فقالَ تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) .
ثم قالَ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) .
والمرادُ بالفاحشةِ هنا: نزع ثيابِهِم عند الطوافِ بالبيتِ، وطوافُهم عراةً كما(1/477)
كان عادةَ أهلِ الجاهليةِ.
ثم قالَ بعدَ ذلكَ: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
والمرادُ بذلكَ: أن يسترُوا عوراتِهِم عندَ المساجدِ، فدخلَ في ذلك الطوافُ
والصلاةُ والاعتكافُ وغيرُ ذلك.
وقال طائفة من العلماءِ: إنَّ الآيةَ تدلُّ على أخذِ الزينةِ عندَ المساجدِ.
وذلك قدرٌ زائدٌ على سترِ العورةِ، وإنْ كان سترُ العورةِ داخلاً فيه وهو سببُ نزولِ الآياتِ، فإنَّ كشْفَ العورةِ فاحشة من الفواحشِ، وسترَها من الزينةِ، ولكنه يشملُ مع ذلكَ لبْسَ ما يُتَجَمَّل به ويُتزيَّن به عند مناجاةِ اللَّهِ وذكرِهِ ودعائِهِ والطوافِ ببيته، ولهذا قال تعالى عقِبَ ذلك: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيبَاتِ مِنَ الرزقِ قلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الذُنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
وروى موسى بنُ عُقْبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"إذا صلى أحدُكُم فليَلبَسْ ثوبَيْه، فإنَّ اللَّهَ أحق من تُزُيِّنَ له ".
خرَّجه الطبرانيُّ وغيرُه.
وقد روى جماعةٌ هذا الحديثَ عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو عن عمرَ بالشك في ذلك.
خرَّجه البزَّارُ وغيرُه.
وخرَّجه أبو داود كذلك بالشكِّ، ولم يذكر فيه: "فإنَّ اللَهَ أحقُّ من تُزيِّنَ له".(1/478)
وروي ذِكْرُ التزين من قولِ ابنِ عمرَ، فروي عن أيوبَ، عن نافعِ، قال:
رآني ابنُ عمرَ أُصلي في ثوبٍ واحدٍ، قال: ألم أكْسُكَ ثوبين؟
قلتُ: نعمْ، قال: فلو أرسلتُك في حاجةِ كنتَ تذهب هكذا؟
قلتُ: لا، قال: فاللَّهُ أحقُّ أن تَزَيَّن له.
أخرَّجَه الحاكمُ وغيرُه.
والمحفوظُ في هذأ الحديثِ: روايةُ من رواه بالشكِّ في رفْعه - قاله
الدارقطنيُّ.
وممن أمر بالصلاةِ في ثوبينِ: عمرُ، وابنُ مسعودٍ، وقال ابنُ مسعودٍ: إذْ
وسَّع الله فهو أزكى.
واستدلَّ من قالَ: إنَّ المأمورَ به من الزينةِ أكثرُ من ستْرِ العورةِ التي يجب
سترُها عن الأبصارِ، بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يصلِّي الرجلُ في ثوبٍ واحد ليس على عاتقهِ منه شيءٍ، وبأنَّ من صلَّى عاريًا خاليًا لا تصحّ صلاتُهُ، وبأنًّ المرأة الحرَّة لا تصحّ صلاتُها بدونِ خمارٍ، مع أنه يُباح لها وضعُ خمارِها عند محارمها، فدلَّ على أنَّ الواجبَ في الصلاة أمر زائد على سترِ العورة التي يجبُ سترُها عن النظرِ.
* * *(1/479)
واعلم، أنَّ الصلاةَ في الثوبِ الحسنِ غير مكروه، إلا أن يُخشى منه
الالتهاءُ عن الصلاةِ أو حدوثُ الكِبْرِ، وقد كان لتميم الداريَ حُلَّةٌ اشتراها
بألف درهم، يقومُ بها الليلَ، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يلبس حُللاً من حُللِ اليمنِ، وبُرودًا حسنةً، ولم ينقلْ عنه أنه كانَ يتجنَّب الصلاةَ فيها، وإنَّما ترك هذه الخميصةَ لما وقع له من تلك النظرةِ إلى عَلَمِها، وقد قالَ اللُّهُ عزَّ وجلَّ:
(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد) ، وسبق قول ابنِ عمرَ: اللَّهُ أحقُ
أن يُتزيَّن له. وخرَّج أبو داودَ في "مراسيله " من حديثِ عبيدِ اللَهِ بنِ عبدِ
اللَّهِ بنِ عتبةَ، قال: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصلاةِ - مما تعجبُهُ: الثيابُ النقيةُ والريحُ الطيبةُ.
ولم يزلْ علماءُ السلفِ يلبسونَ الثيابَ الحسنةَ، ولا يعدونَ ذلك كِبرًا.
وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئلَ عن الرجلِ يحبُّ أن يكونَ ثوبه حسنًا ونعلُهُ حسنًا؟
فقال: "ليس ذلك من الكبرِ، إنَّ اللَّهَ جميل يحب الجمالَ ".
وقال جريرُْ بنُ حازمٍ: رأيتُ على الحسنِ طَيْلَسَانًا كُرْدِيًّا حسنا، وخَمِيصَةً
أصبهانيّة جيدة، ذاتَ أعلامٍ خُضر وحُمرٍ، أزرَّتها من إبْرِيسَمُ، وان يرتدي
ببردٍ له يمانٍ أسودٍ مُصَلَّب، وبرد عدني وقباء من برد حَبِرَة، وعمامة سوداء.
وقال حرب: سألت إسحاقَ عن الصلاة في المنديلِ، وأريتُه مِنديلاً له
أعلام خُضْر وخُطُوط؟
فقال: جَائِزٌ.
* * *(1/480)
وفي "صحيح مسلم" عن ابنِ عباسٍ، قال: كانتِ المرأةُ تطوفُ بالبيتِ
وهي عُريانةٌ، وتقولُ:
اليومَ يبْدُو بعضُهُ أو كلُّه. . . فمَا بَدَا منهُ فَلا أحِلُّهُ
قال: فنزلتِ: (يَا يَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُل مَسْجِدٍ) .
* * *
قوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
قال اللَّهُ تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)
قال محمدُ بنُ كعبٍ والضحاكُ والسدِّيُّ وغيرُهم:
المهادُ: الفراشُ، والغواشُ: اللحفُ.
وقال الحسنُ في قولهِ تعالى: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)
قال: فِراشًا ومِهادًا.
وقال قتادةُ: محبسًا حُصروا فيها.
وروى مسكين عن حوشبٍ عن الحسنِ أنه كان إذا ذُكِرَ أهلُ النارِ قال في
وصفِهم: قد حذيت لهم نعالٌ من نارٍ وسرابيلُ من قطرانٍ، وطعامُهُم من
نارٍ، وشرابُهُم من نارٍ وفرشٌ من نارٍ ولُحُف من نارٍ ومساكنُ من نارٍ، في شرِّ
دارٍ وأسوأ عذابٍ في الأجسادِ أكلاً أكلاً، وصهْرًا صهْرًا، وحطْمًا حطْمًا.
وروى داودُ بنُ المحبرِ عن الحسنِ بنِ واصلٍ، وعبدِ الواحدِ بنِ زيدٍ عن(1/481)
الحسنِ، قال: إنَّ رجلاً من صدرِ هذهِ الأمةِ كانَ إذا دخلَ المقابرَ نادَى:
يا أهلَ القبورِ بعد الرفاهيةِ والنعيم معالجة الأغلالِ في النارِ، وبعد القطنِ والكتانِ لباسُ القطرانِ، ومقطعات للنيرانِ، وبعدَ تلطفِ الخدمِ والحشم، ومعانقة الأزواج، مقارنةُ الشيطانِ في نارِ جهنَم مقرنين في الأصفادِ.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن وهبِ بنِ منبهٍ، قال: أما أهلُ النارِ الذينَ
هم أهلُها فهم في النارِ لا يهدؤون ولا ينامونَ ولا يموتونَ، ويمشونَ على
النارِ، ويجلسونَ على النارِ، ويشربونَ من صديدِ أهلِ النارِ، ويأكلونَ من
زقومِ النارِ، فرشُهم ولحفهم نار، وقمصُهُم نار وقطران، وتغشى وجوهَهُمُ
النارُ، وجميعُ أهلِ النارِ في سلاسلَ بأيدي الخزنةِ أطرافُها يجذبونَ مقبلينَ
ومدبرينَ، فيسيلُ صديدُهم إلى حفرٍ في النارِ، فذلكَ شرابُهُم، قالَ: ثم بَكَى
وهب حتى سقطَ مغشيًا عليهِ.
وغلبَ بكرُ بنُ خنيسٍ عندَ روايتِهِ هذا الحديثِ البكاءُ حتى قامَ فلم يقدرْ أن يتكلمَ، وبكى محمدُ بنُ جعفرٍ بكاءًا شديدًا.
وبإسنادِهِ عن هدابٍ، قال: أقبلتْ أمُّ يحيى بن زكريا على يحيى في ثوبٍ
تعالجه لَهُ ليلبسه، فقال لها: أفعل، فقالتْ: من أيِّ شيءٍ؟ قالَ من شعرٍ.
قالتْ: يا بنيَّ إذًا يأكلُ لحمَكَ، قال: يا أمَّه، إذا ذكرتُ مقطعاتِ أهلِ النارِ
لانَ عليَّ جِلْدي.
وكان عطاء الخراسانيُّ ينادِي أصحابهُ في السفرِ: يا فلانُ ويا فلانُ قيامُ هذا
الليلِ وصيامُ هذا النهارِ أيسرُ من شراب الصديد ومقطعات الحديد ألواحًا ثم
ألواحًا ثم ألواحًا، ثم يقبلُ على صلاتِهِ.
* * *(1/482)
قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وقال سفيانُ بنُ عيينةَ عن عثمانَ الثقفيِّ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ
في هذهِ الآيةِ، قالَ: ينادِى الرجلُ أخاه إني قد احترقتُ فأفض عليَّ من
الماءِ، فيقال: أجبْهُ، فيقول: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) .
وقال سنيد في "تفسيرِهِ ": حدثنا حجاجُ عن أبي بكر بنِ عبدِ اللَّهِ، قال:
ينادُون أهلَ النارِ: يا أهلَ الجنةِ فلا يُجِيبونَهُم ما شاءَ اللَّه ثم يقالُ: أجيبوهم
وقد قطعَ الرحمُ والرحمةُ، فيقولُ أهلُ الجنةِ: يا أهلَ النارِ عليكم لعنة اللَّهِ، يا أهلَ النارِ عليكُم غضبُ اللَّهِ، يا أهلَ النارِ لا لبَّيكُم ولا سعديكُم، ماذا
تقولون؟ فيقولونَ: ألم نكنْ في الدنيا آباؤكم وأبناؤكم وإخوانُكم وعشيرتُكم؟
فيقولونَ: بلى، فيقولون: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) .(1/483)
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) الآيات
قال خليدٌ المصريُّ في قولِهِ تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55"، قالَ: في وسطِهَا ورأى جماجمَ تغْلِي فقال: فلانٌ؛ واللَّه لولا أنَّ اللَّهَ
عزَّ وجلَّ عرفَهُ إيَّاهُ لما عرفَهُ لقد تغير حبره وسبره فعندَ ذلك يقولُْ (تَاللهِ إِن
كِدتَّ لَتُرْدِينِ) ، وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) ، الآيات.
روى أبو الزعراء عن ابنِ مسعودٍ أنه لا يتركُ في النارِ غير هؤلاءِ الأربعةِ قال: وليسَ فيهم من خيرٍ.
وفي حديثِ مسكينِ أبي فاطمة عن اليمان بنِ يزيدَ، عن محمدِ بنِ حميرٍ.
عن محمدِ بنِ علي، عن أبيه، عن جده عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خروج أهلِ التوحيدِ من النارِ، قالَ: "ثم يقولُ اللَهُ لأهلِ الجنةِ: اطلعوا إلى من بقيَ في النارِ، فيطلعونَ إليهم فيقولون: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) .
أي: إنَّا لم نكن منهم لو كنا لخرجْنَا معهم "، خرَّجه الإسماعيليُّ
وغيرُهُ، وهو منكر كما سبقَ ذكرُهُ.
قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا علي بنُ حفصٍ، حدثنا الثوريُّ، عن أبي خالدٍ.
عن الشعبيِّ، قال: يشرفُ قوم في الجنة على قومٍ في النارِ فيقولونَ: ما لكم
في النارِ، وإنَّما كنا نعملُ بما كنتم تعلًّمون؟ فيقولونَ: إنا كُنَّا نعلِّمُكم ولا
نعملُ به.(1/484)
وقال سعيدُ بنُ بشيرٍ، عن قتادةَ: إن في الجنةِ كوى إلى النارِ فيطلعُ أهلُ
الجنةِ من تلكَ الكُوى إلى النارِ، فيقولونَ: ما بالُ الأشقياءِ، وإنما دخلنا الجنةَ
بفضلِ تأديبِكُم؛ فقالُوا: إنا كنَّا نأمرُكُم ولا نأتمرُ، وننهاكُم ولا ننتَهِي.
وقال معمرٌ عن قتادةَ: قالَ كعبٌ: إنَّ بينَ أهلِ النارِ وأهلِ الجنةِ كُوى لا
يشاءُ رجلٌ من أهلِ الجنةِ أن ينظرَ إلى عدوّه من أهلِ النارِ إلا فَعَلَ.
وقال أحمدُ بنُ أبي الحواري: حدثنا عبدُ اللَّهِ بن غياث عن الفزاريِّ، قالَ:
لكلِّ مؤمنٍ في الجنةِ أربعةُ أبوابٍ باب يدخلُ عليه زوَّارر من الملائكةِ، وبابٌ
يدخلُ عليه أزواجُهُ من الحورِ العين، وباب مقفل فيما بينه وبينَ أهلِ النارِ
يفتحُهُ إذا شاءَ أن ينظر إليهم لتعظم النِّعمةُ عليه، وباب فيما بينه وبين دارِ
السلامِ يدخلُ فيه على ربِّه إذا شاء.
وخرَّج ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن الضحاكِ في قولِهِ تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ) من الدر والياقوتِ (يَنظُرُون)
، يعني: على السررِ ينظرونَ، كان ابنُ عباسٍ يقولُ: السررُ
بين الجنةِ والنارِ، فيفتحُ أهلُ الجنةِ الأبوابَ فينظرونَ على السررِ إلى أهلِ النارِ
كيفَ يعذبونَ ويضحكونَ منهم، ويكون ذلك مما يقر اللَّهُ به أعينَهُم أن ينظروا إلى عدوِّهم كيفَ ينتقمُ اللَهُ منهُ.
وخرَّج البيهقيُّ وغيرُه من حديثِ عليِّ بنِ أبي سارةَ عن ثابتٍ، عن أنسٍ
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أن رجلاً من أهل الجنةِ يشرفُ يومَ القيامةِ على أهلِ النارِ، فيناديه
رجلٌ من أهلِ النارِ: يا فلانُ هل تعرفُني؛ فيقولُ: لا، واللهِ لا أعرفُك من أنتَ؟ فيقولُ: أنا الذي مررتَ بي في دارِ الدنيا فاستسقيتني شربةَ ماء فأسقيتُك، قال: قد عرفتُ،(1/485)
فَاشْفَعْ لي بها عندَ ربِّك، قال: فيسأل اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -، فيقولُ: يا ربِّ شفَعْني فيه، فيؤمرُ به فيخرجُ من النارِ".
* * *
قوله تعالى: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا)
قالَ شعيبٌ - عليه السلامُ -: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) .
وقال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) .
وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .
والمرادُ: أنه ينجيهم من الشركِ، ويدخلُهم في الإيمانِ، وكثيرٌ منهم لم يكن
داخلاً في الشركِ قطُّ.
* * *
قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
قالَ ليثٌ عنْ مُجاهدٍ في قولهِ تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً)
، قال ذو القَعْدَة (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) .
قال: عشْرُ ذي الحجَّةِ.
* * *(1/486)
سُورَةُ الأنْفَالِ
قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وسمع عُمرُ رجلاً يقولُ: اللَّهُمَّ إنك تحولُ بين المرءِ وقلبِهِ، فحُل بيني وبينَ
معاصيك. فأعجبَ عُمرَ ودعا له بخيرٍ.
وروى ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -، في قوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصيةِ التي تجرُّهُ إلى النارِ.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
استماعُ الغناءِ بآلاتِ اللهوِ أو بدونِها على وجهِ التقرُّبِ إلى اللَهِ تعالى.
وتحريكُ القلوبِ إلى محبتِهِ، والأُنسُ به والشَّوقُ إلى لقائِهِ، وهذا هو الَّذي
يدَّعِيه كثيرٌ من أهلِ السلوكِ، ومَن يتشبَّهُ بهم، ممن ليسَ منهُم، وإنما يتسترُ
بهم، ويتوصَّلُ بذلك إلى بُلوغ غرضِ نفسِهِ، من نيلِ لذَّتِهِ.
فهذا المتشبِّه بهم مخادِعٌ مُلَبِّسٌ. وفسادُ حالِهِ أظهرُ من أنْ يخفى على أحدٍ. وأمَّا الصادقونَ في دعواهُم ذلك وقليلٌ ما هم، فإنَّه ملبوسٌ عليهم؛ حيثُ تقرّبوا إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، بما لم يشرعْهُ اللَّهُ تعالى،(1/487)
واتخذُوا دِينًا لم يأذن اللَّهُ فيه.
فلهُم نصيب ممن قالَ اللَّهُ تعالى فيه: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيتِ إِلاَّ مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً) ، والمُكاءُ: الصَّفيرُ، والتَصْديةُ: التصفيق باليدِ.
كذلك قالهُ عْيرُ واحدٍ من السلفِ.
وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) .
فإنه إنما يتقرَّبُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، بما يُشرعُ التقربُ به إليه على لسانِ
رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
فأمَّا ما نهى عنه، فالتقربُ به إليهِ مُضادَّةٌ للَّهِ عزَّ وجلَّ في أمره.
قال القاضي أبو الطيِّبِ الطبريُّ رحمه اللَّهُ في كتابِهِ في السماع: اعتقادُ هذه
الطائفةِ، مخالف لإجماع المسلمينَ، فإنه ليسَ فيهم منْ جعل السماعَ دِينًا
وطاعةً، ولا رأى إعلانَهُ في المساجدِ والجوامع، وحيثُ كانَ من البقاع
الشريفةِ، والمشاهدِ الكريمةِ.
وكان مذهبُ هذه الطائفةِ، مخالفًا لما اجتمعتْ عليه العُلماءُ، ونعوذُ باللَّهِ
من سوءِ التوفيقِ. انتهى ما ذكره.
ولا ريب أن التقربَ إلى اللَّهِ تعالى بسماع الغناءِ المُلَحَّنِ، لا سيَّما مع آلاتِ
اللهوِ، مما يُعْلمُ بالضرورةِ من دِينِ الإسلامِ، بلْ ومنْ سائرِ شرائع المسلمينَ.
أنه ليسَ مما يُتقرَّبُ به إلى اللَّهِ، ولا مما تُزكَّى به النفوسُ وتُطهَّرُ به.
فإنَّ اللَّهَ تعالى شرعً على ألْسِنَةِ الرسلِ كل ما تَزْكُو به النفوسُ، وتطهُرُ به من أدناسها، وأوضارِها، ولم يشرعْ على لسانِ أحد من الرسلِ، في ملَّةٍ من
المللِ، شيئًا من ذلك. وإنما يأمرُ بتزكيةِ النفوسِ بذلكَ، من لا يتقيدُ بمتابعةِ(1/488)
الرُّسُلِ: من أتباع الفلاسفةِ. كما يأمرونَ بعشقِ الصورِ، وذلك كلُه ما تحيا به النفوسُ بالسُّوءِ، ولما لها فيه من الحظِّ، ويَقْوى به الهوَى، وتموت به القلوبُ المتصلةُ بعلاَّمِ الغيوبِ، وتَبْعُدُ به عنه. فَغَلِطَ هؤلاءِ واشتبَهَ عليهِم حظوظُ النفوسِ وشهواتُها بأقواتِ القلوبِ الطاهرةِ والأرواح الزكيةِ المعلَّقةِ بالمحلِّ الأعْلَى، واشتبَهَ الأمر في ذلكَ أيْضًا على طوائفَ من المسلمينَ ممَّن ينتسبُ إلى السلوكِ.
* * *(1/489)
سُورَةُ التَّوْبَة
قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
عمارةُ المساجدِ تكونُ بمعنيين:
أحدُهما: عمارتُها الحسِّيَّة ببنائِها وإصلاحِها وترميمِها، وما أشْبَه ذلك.
والثاني: عمارتُها المعنويّة بالصلاةِ فيها، وذكْرِ اللَّهِ وتلاوةِ كتابِهِ، ونشرِ العلم الذي أنزلَهُ على رسولِهِ، ونحو ذلك.
وقد فُسِّرت الآيةُ بكلِّ واحدٍ من المعنيين، وفُسِّرتْ بهما جميعاً، والمعنى
الثاني أخصُّ بها.
وقد خرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديث درَّاج، عن أبي
الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إذا رأيتم الرجلَ يعتاد المسجدَ فاشهدُوا له بالإيمان "، ثم تلا:
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.
ولكنْ قال الإمامُ أحمدُ: هو منكرٌ.(1/490)
وقوله: (مَا كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ) ، وقُرِئ: "مسْجدَ
اللهِ ".
فَقيل: إنَّ المرادَ به جميعُ المساجد على كِلا القراءتينِ، فإنَّ المفردَ المضافَ
يعمُّ، كقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) .
وقيلَ: المرادُ بالمسجدِ المسجدُ الحرامُ خاصة، كما قال: (وَمَا كانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَقُونَ) .
وقيلَ: إنه المرادُ بالمساجدِ على القراءةِ الأخرى، وأنه جَمَعَه لتعددِ بِقَاع
المناسكِ هناك، وكلُّ واحد منها في معنى مسجد.
رُوي ذلك عن عكرمة. واللَّهُ أعلمُ.
فمَنْ قالَ: إنَّ المرادَ به المسجدُ الحرامُ خاصَّة، قال: لا يُمكَّن الكفارُ من
دخولِ الحرمِ كله، بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) .
وجمهورُ أهلِ العلم على أنَّ الكفارَ يُمْنَعُون من سُكْنى الحرم، ودخولِهِ
بالكليّة، وعمارته بالطواف وغيرِه، كما أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - منْ يُنادي: "لا يحج بعد العام مشركٌ ". ً
ورَخَّصَ أبو حنيفة لهم في دخولِهِ دونَ الإقامةِ به.
ومنْ قال: المرادُ جميعُ المساجدِ، فاختلفُوا:
فمنهم: مَنْ قال: لا يُمكنُ الكفارُ من قُربان مسجد من المساجد، ودخوله
بالكليّة.(1/491)
ومنهم: من رَخَّص لهم في دخولِ مساجدِ الحِلِّ في الجملةِ.
ومنهم: من فرَّق بين أهلِ الكتابِ والمشركينَ، فرَخَّصَ فيه لأهلِ الكتابِ
دونَ المشركينَ.
وقد أفردَ البخاريُ بابًا لدخولِ المشركِ المسجدَ، ويأتي الكلام على هذه
المسألة هناك مستوفى - إنْ شاء اللَّه تعالى.
واتفقُوا على مَنْع الكفارِ منْ إظْهَارِ دِينِهِم في مساجدِ المسلمين، لا نعلم في
ذلك خلافًا.
وهذا مما يدلُّ على اتفاقِ الناسِ على أنَّ العمارةَ المعنوية مرادةٌ من الآيةِ.
واختلفُوا في تمكينِهم من عمارةِ المساجدِ بالبُنْيانِ والترميم ونحوه على
قولين:
أحدهما: المنع منْ ذلك، لدخولِه في العمارةِ المذكورةِ في الآيةِ، ذكرَ ذلك
كثيرٌ من المفسرينَ كالواحدي وأبي الفرج ابنِ الجوزيِّ، وكلام القاضي
أبي يعْلى في كتابِ "أحكام القرآنِ " يوافقُ ذلك وكذلك كِيَا الهراسي - من
الشافعيةِ -، وذكره البغويُّ منهم احتمالاً.
والثاني: يجوزُ ذلك، ولا يُمنعونَ منه، وصرَّح به طائفةٌ من فقهاءِ أصحابِنا
والبغويّ من الشافعية وغيرهم.
وهؤلاءِ، منهم مَنْ حملَ العمارةَ على العمارةِ المعنويةِ خاصة، ومنهم منْ
قالَ: الآية ُ إنما أُريد بها المسجد الحرامُ، والكفارُ ممنوعونَ من دخولِ الحرمِ على كل وَجْهٍ، بخلاف بقيةِ المساجدِ، وهذا جوابُ ابنِ عقيل من أصحابِنا.
وقد رُوي عن عُمَرَ بن عبدِ العزيزِ، أنه استعملَ طائفةً من النصارى في(1/492)
عمارةِ مسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما عمَّره في خلافةِ الوليدِ بنِ عبدِ المَلكِ.
ويتوجه قولٌ ثالثٌ، وهو: أنَّ الكافرَ إن بنى مسجدًا للمسلمينَ من مَالِهِ لم
يمكَّن من ذلكَ. ولو لم يُبَاشِره بنفسه، وإنْ باشَرَ بناءه بنفسِهِ باستئجارِ
المسلمينَ له جازَ، فإن في قبولِ المسلمينَ منَّةَ الكفارِ ذُلًّا للمسلمينَ، بخلافِ
استئجارِ الكفار للعملِ للمسلمينَ، فإن فيه ذُلًّا للكفارِ.
وقد اختلفَ الناسُ في هذا - أيضًا - على قولينِ:
أحدُهما: أنه لو وصَّى الكافرُ بمالٍ للمسجدِ أو بمالٍ يعمر به مسجد أو يُوقَدُ
به، فإنه تُقْبَلُ وصيّتُه، وصرَّح به القاضي أبو يعلى في "تعليقه " في مسألةِ
الوقيد، وكلامُه يدلُّ على أنه محلُ وفاقٍ، وليس كذلك.
والثاني: المنعُ من ذلك، وأنه لا تُقبلُ الوصيةُ بذلكَ، وصرَّح به الواحديُّ
في "تفسيره" وذكره ابنُ مزين في كتابِ "سيرِ الفقهاءِ" عن يحيى بن يحيى.
قال: سمعتُ مالكًا، وسُئلَ عن نصراني أوْصَى بمالٍ تُكْسى به الكعبةُ؛ فأنكر
ذلكَ، وقال: الكعبةُ منزهةٌ عن ذلكَ.
وكذلك المساجدُ لا تجري عليها وصايَا أهل الكفرِ.
وكذلك قال محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الأنصاري قاضي البصرةِ: لا يصحُّ وقفُ
النصرانيِّ على المسلمينَ عُمومًا، بخلافِ المسلم المعينِ، والمساجدُ من الوَقْفِ
على عمومِ المسلمين: ذكرَه حرْبٌ، عنه بإسنادِهِ.
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ أحمد: سألتُ أبي عن المرأةِ الفقيرةِ تجيءُ إلى اليهوديِّ
أو النصرانيِّ فتصدق منه؟
قال: أخْشى أنَّ ذلك ذِلَّة.(1/493)
وقال مُهنَّا: قلتُ لأحمدَ: يأخذُ المسلمُ من النصرانيِّ من صدقتِهِ شيئًا.
قال: نعم، إذا كان مُحتاجًا.
فقد يكونُ عن أحمدَ روايتان في كراهةِ أخذِ المسلم المعينِ من صدقةِ
الذِّميِّ، وقد يكونُ كرِهَ السؤالَ، ورَخَّصَ في الأخذِ منه بغيرِ سؤالِ، واللَّهُ
أعلمُ.
وأمَّا وقْفُهم على عمومِ المسلمينَ كالمساجدِ، فيتوجهُ كراهتُه بكلِّ حالٍ، كما
قالهُ الأنصاريّ.
وقد ذكَرَ أهلُ السيرِ كالواقديِّ ومحمدِ بنِ سعدٍ أنَّ رجلاً من أحبار اليهودِ.
يقال له: مُخيْريق، خرجَ يومَ أُحدٍ يقاتل مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنْ أصبتُ في وجهي هذا فمالي لمحمدٍ يضعه حيثُ شاء، فقُتل يومئذ، فقبضَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أموالَه، فقيل: إنَّه فرَّقها وتصدَّق به، وقيل: إنَّه حبسها ووقفَها.
وروى ابنُ سعدٍ ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. واللَّه أعلم.
* * *
قال الله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
وفي "صحيح مسلم" عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ، قال: كنتُ عند مِنبَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(1/494)
فقال رجلٌ: ما أبالِي أن لا أعملَ عملاً بعد الإسلامِ إلا أنْ أسقِيَ
الحاجَّ.
وقال آخرُ: ما أبالِي أنْ لا أعملَ عملاً بعد الإسلامِ، إلا أنَّ أعْمُرَ
المسجدَ الحرامَ.
وقالَ آخرُ: الجهاد في ممبيلِ اللهِ أفضلُ ممَّا قُلتم، فزجرَهُم
عُمَرُ، وقال: لا ترفعُوا أصواتكم عندَ منبرِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعةِ -، ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلْتُ فاسْتفْتيتُهُ فيما اختلفتُم فيه، فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، إلى آخرِ الآيةِ. فهذا الحديثُ الذي فيه ذِكْرُ سببِ نُزولِ هذه الآيةِ يبيِّنُ أن المرادَ أفضلُ ما يُتقرَّبُ به إلى اللَّهِ تعالى من أعمالِ النوافلِ والتطوع.
وأنَّ الآيةَ تدلُّ على أنَّ أفضلَ ذلكَ الجهادُ مع الإيمانِ.
فدل على أنَّ التطوعُ بالجهادِ أفضلُ من التطوعُّ بعمارةِ المسجد الحرامِ وسقاية الحاجِّ.
وعلى مثلِ هذا يحملُ حديثُ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
خرَّجَ البخاريُّ ومسلم:
من حديثِ: أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "والذي نفسِي بيدِهِ، لا يُؤمنُ(1/495)
أحدُكُم حتَّى كُونَ أحبَّ اليه منْ والدِهِ وولدِهِ ".
وخرَّج البخاريُّ ومسلم - أيضًا:
من حديث: أنسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يؤمنُ أحدُكُم حتَّى أكُونَ أحبَّ إليه من والدِهِ وولدِهِ والناسِ أجمعينَ ".
محبةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أصولِ الإيمانِ، وهي مقارِنة لمحبةِ اللَّه عز وجلَّ.
وقد قرنها اللَّهُ بها وتوعَّد من قدَّم عليهما محبةَ شيءٍ من الأمورِ المحبوبةِ
طبعًا، من الأقاربِ والأموالِ والأوطانِ وغير ذلك.
فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) .
ولما قال عمرُ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفْسِي.
فقال: "لا يا عُمَرُ حتَّى "أكُونَ أحبَّ إليك من نفسكَ "، فقال عمرُ: واللَّه، أنتَ الآنَ أحبُّ إليَّ من نفْسِي.
قال: "الآن يا عُمَرُ" َ.
فيجبُ تقديم محبةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - على النفوسِ والأولادِ والأقاربِ والأهلينَ والأموالِ والمساكنِ، وغيرِ ذلكَ مما يحبُّه الناسُ غايةَ المحبةِ.
وإنما تتمُّ المحبةُ بالطَّاعةِ، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .
وسئلَ بعضُهم عن المحبةِ، فقالَ: الموافقةُ في جميع الأحوالِ.(1/496)
فعلامةُ تقديمِ محبةِ الرسولِ على محبةِ كلِّ مخلوقٍ أنَّه إذا تعارضَ طاعةُ
الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في أوامر، وداع آخر يدعو إلى غيْرِها من هذه الأشياء المحبوبة، فإنْ قدَّم المرءُ طاعةَ الرسول، وامتثالَ أوامر على ذلكَ الداعِي، كان دليلاً على صحَّةِ محبتِهِ للرسولِ، وتقديمِها على كلِّ شيءٍ، وإن قدَّم على طاعتِهِ وامتثالِ أوامر شيئًا من هذه الأشياءِ المحبوبةِ طبعًا، دلَّ ذلك على عدمِ إتيانِهِ بالإيمانِ التامِّ الواجبِ عليه.
وكذلك القولُ في تعارضِ محبةِ اللَّهِ ومحبةِ داعِي الهوى والنفس، فإن
محبةَ الرسولِ تبعٌ لمحبةِ مرسلِهِ عزَّ وجلَّ.
هذا كلُّه في امتثال الواجباتِ، وتركِ المحرَّماتِ، فإن تعارضَ داعِي النفسِ.
ومندوباتِ الشريعةِ، فإنْ بلغتِ المحبةُ إلى تقديمِ المندوباتِ على دواعِي
النفسِ، كان ذلكَ علامةُ كمالِ الإيمانِ، وبلوغِهِ إلى درجةِ المقربينَ المحبوبين.
المتقربينَ بالنوافلِ بعد الفرائضِ.
وإنْ لم تبلغْ هذه المحبةُ هذه الدرجةِ، فهي درجةُ المقتصدينَ، أصحابِ
اليمينِ، الذين كملتْ محبتُهم الواجبةُ، ولم يزيدوا عليها.
* * *
وأما محبةُ الرسولِ، فتنشأ عن معرفتِهِ ومعرفةِ كمالِهِ وأوصافِهِ وعظم ما
جاءَ به، وينشأُ ذلكَ من معرفةِ مرسلِهِ وعظمتِهِ، كما سبقَ، فإنَّ محبةَ اللَّهِ لا
تتمُّ إلا بطاعتِه، ولا سبيلَ إلى طاعتِهِ إلا بمتابعةِ رسولِهِ، كما قال تعالى:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .(1/497)
ومحبةُ الرسولِ على درجتينِ - أيضًا:
إحداهُما: فرضٌ، وهي ما اقتضى طاعتَه في امتثالِ ما أمرَ به من الواجباتِ.
والانتهاءِ عمَّا نهى عنه من المحرَّماتِ، وتصديقِهِ فيما أخبرَ به من المخبراتِ.
والرضا بذلك، وأن لا يجدَ في نفسِهِ حرجًا مما جاءَ بهِ، ويسلِّمَ له تسليمًا.
وأن لا يتلقَّى الهُدى من غيرِ مشكاتِهِ، ولا يطلبُ شيئا من الخيرِ إلا ما جاء
الدرجة الثانية: فضل مندوب إليه، وهي ما ارتقى بعدَ ذلكَ إلى اتَباع سنتِهِ
وآدابِهِ وأخْلاقِهِ، والاقتداءِ به في هديه وسمتِهِ، وحسنِ معاشرتِهِ لأهلِهِ
وإخوانِهِ، وفي التخلقِ بأخلاقِهِ الظاهرةِ في الزهد في الدنيا، والرغبةِ في
الآخرةِ، وفي جُودِهِ وإيثاره وصفْحِهِ وحِلْمِهِ واحتمالِهِ وتواضعهِ.
وفي أخلاقِهِ الباطنةِ، من كمالِ خشيتِهِ للَّهِ، ومحبتِهِ له، وشوقِهِ إلى لقائهِ.
ورضاه بقضائِهِ، وتعلقِ قلبه به دائمًا، وصدقِ الالتجاءِ إليه، والتوكلِ
والاعتمادِ عليه، وقطع تعلُّقِ القلبِ بالأسبابِ كلِّها، ودوامِ لَهَج القلبِ
واللسانِ بذكره، والأنس به، والتنعم بالخَلْوةِ بمُناجاتِهِ ودعائِهِ، وتلاوةِ كتابِهِ
بالتدبرِ والتفكرِ.
وفي الجملةِ، فكان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآنُ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، فأكملُ الخلقِ من حقَّقَ متابعتَهُ وتصديقَه قولاً وعملاً وحالاً، وهم الصدِّيقونَ من أُمَّتِهِ، الذين رَأسُهم أبو بكرٍ خليفتُهُ من بعدِهِ.
* * *(1/498)
قال الله عز وجل: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) .
قال أبو عبدِ اللَّهِ محمدُ بنُ خفيفٍ الصوفيُّ: سألنا أبو العباس أبن سريجِ
بشيراز فقالَ لنا: "محبةُ اللَّهِ فرضٌ أمْ غيرُ فرضٍ؟
قلنا: فرضٌ قال: ما الدلالةُ على فرضِهَا؟
فما منا من أتى بشيءٍ يُقبلُ فرجَعْنا إليه وسألناه: ما الدليلُ على
فرضِ محبةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟
فقالَ: قولُه تعالى: (قُلْ إِن كانَ آبَاؤُكمْ) إلى قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) ، قال: فتوعدَّهم اللَّهُ عزَّ وجلَّ على تفضيلِ محبتهِم لغيرِه على محبَّتِهِ
ومحبةِ رسولِهِ، والوعيدُ لا يقعُ إلا فرضٍ لازم وحتم واجبٍ ".
وفي "الصحيحينِ " عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكُم حتَى أكُونَ أحبَّ إليهِ من والدِهِ وولدِهِ والناسِ أجمعينَ ".
وفي "الصحيحينِ " أيضًا أنَّ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قال:
يا رسولَ اللَّه، واللَّهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من كُلِّ شيءٍ إلا من نفسِي، فقال: "لا يا عمر، حتَّى أكُونَ أحبَّ إليْكَ من نفْسِك "
فقال: واللَّهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي.
فقال: "الآن يا عُمَرُ".
ومعلوم أنَّ محبةَ الرسولِ إنما هي تابعةٌ لمحبةِ اللَّه جل وعلا، فإنَّ الرسولَ
إنما يُحَبُّ موافقةً لمحبةِ اللَّه له ولأمرِ اللَّهِ بمحبته وطاعته واتباعِهِ، فإذا كان(1/499)
لا يحصلُ الإيمانُ إلا بتقديمِ محبتهِ على الأنفسِ والأولادِ والآباء والخلقِ كلِّهم.
فما الظنُّ بمحبةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وذكرَ ابنُ إسحاقَ عن المغيرةِ بنِ عثمانَ بنِ
الأخنسِ عن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ لما قدمَ المدينةَ، فقالَ في خطبتهِ: "أحِبُّوا منْ أحَبَّ اللهَ وأحِبُّوا اللَّهَ من كلِّ قلوبِكُم ".
وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تقديمَ محبةِ اللَّهِ ورسولِهِ على محبَّةِ غيرِهما من خصالِ الإيمانِ ومن علاماتِ وجودِ حلاوةِ الإيمانِ في القلوبِ:
ففي "الصحيحينِ " عن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
" ثلاثٌ منْ كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحب إليْه مما سواهُما، وأنْ يحبَّ المرْءَ لا يحبُّهُ إلا للَّهِ، وأنْ يكْرَه أنْ يعودَ في الكفر بعدَ إذ أنقذَهُ اللَهُ منه، كما يكرهُ أن يُلقى في النارِ".
وفي روايةِ النسائي: "ثلاث من كُن فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ وطعْمَهْ أن يكونَ
اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهُما، وأنْ يُحِبَّ في اللَّهِ ويبغِضَ في اللهِ، وأن تُوقَدَ نارٌ فيقعَ فيها أحب إليه من أنْ يُشْرِكَ باللَّهِ شيئًا".
وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن أبي رزين العقيلي قالَ: قلتُ يا
رسولَ اللَّهِ، ما الإيمانُ؟
قال: "أن تشهدَ أن لا إله إلا اللَّهُ، وحده لا شريكَ له، وأنَّ
محمدًا عبده ورسولُهُ، وأنْ يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليْكَ ممَّا سواهُما، وأن تُحْرَقَ في النَّارِ أحبَّ إليكَ من أنْ تُشْرِكَ باللهِ، وأنْ تحِبَّ غيرَ ذي نَسَب لا تُحبُّهُ إلا للهِ، فإذا كُنتَ كذلك فقدْ دخلَ حبُّ الإيمانِ في قلبِكَ كما دخلَ حُبُّ الماءِ للظَّمآنِ في اليومِ القائِظِ ".
وروي من حديثِ المقدادِ بنِ الأسودِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحبَّ اللَهَ ورسولَهَ(1/500)
صادقًا من قلبِهِ، ولقيَ المؤمنينَ فأحبَّهم، ومن كان أمرُ الجاهليةِ عندَهُ كنارٍ أُجِّجَتْ فأُلقيَ فيها فقد فقدْ طعِمَ طَعْمَ الإيمانِ "
أو قال: "بلغ ذُرْوةَ الإيمانِ ".
ومن هذا المعنى أن اللَّه تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فأمرَ بامتحانِهنَّ ليعْلمَ إيمانَهنَّ، فكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحلفهنَّ أنهنُّ ما خرجْنَ إلا حبًّا لله ورسولِهِ، لم يخرجْنَ رغبةً في غيرِ ذلكَ، فيكونُ ذلك عِلمًا بإيمانهنَّ.
قال ابنُ عباسٍ في هذهِ الآيةِ: "كانتِ المرأةُ إذا أتْتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِتُسْلِمَ حَلَّفها بالله ما خَرَجْتِي منْ بُغْضِ زوْج إلا حبًّا للَّه ورسولهِ " وهو موجود في بعضِ نسخ الترمذي كذلك.
وخرَّجه البزَّارُ في "مسندِهِ "، وابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتم، ولفظُه:
"حلَّفها باللَّهِ ما خرجْتِي منْ بُغْضِ زوْج، وباللَّهِ ما خرجْتِي إلا حبًّا للَّه
ورسولِهِ ".
وخرَّج إبراهيم بنُ الجنيدِ الختليُّ في كتابِ "المحبةِ" بإسنادٍ ضعيفٍ عن أبي
هريرةَ مرفوعًا قال: "الإيمانُ في قلبِ الرَّجُلِ أنْ يُحِبَّ اللَّه عزَّ وجلَّ "، ومن مراسيل الزهريِّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"رأسُ الإيمانِ المحبةُ لله عزَّ وجل، وطابِعُ الإيمانِ البِرُّ والعَدْلُ، وتحقيقُ الإيمانِ بإكرام ذي الدِّين وذي الشيْبَةِ".(1/501)
ومحبةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى على درجتينِ:
إحداهُما: فرضٌ لازِم: وهي أنْ يحبَّ اللَّه سبحانَهُ محبةً توجب لَهُ، محبةَ
ما فرضَهُ اللَّهُ عليه، وبغضَ ما حرَّمه عليه، ومحبةً لرسولِهِ المبلغ عنه أمرَهُ
ونهيَهُ، وتقديمَ محبتِهِ على النفوسِ والأهلينَ أيضًا كما سبقَ، والرِّضا بما بلَّغَهُ
عن اللَّهِ من الدّينِ وتلقِّي ذلك بالرضا والتسليم، ومحبةَ الأنبياءِ والرسل
والمتبعينَ لهم بإحسانٍ جملةً وعمومًا للَّه عزَّ وجلَّ، وبغضَ الكفارِ الفجارِ
جملةً وعمومًا للَّه عزَّ وجلَّ، وهذا القدرُ لابُدَّ منه في تمامِ الإيمان الواجبِ.
ومن أخَلَّ بشيءٍ منه فقدْ نقَصَ من إيمانِهِ الواجبِ بحسبِ ذلك.
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، وكذلك ينقُصُ من محبتِهِ الواجبةِ بحسبِ ما أخَلَّ به من ذلكَ، فإنَّ المحبةَ الواجبةَ تقتضِي فِعلَ الواجباتِ وتركَ المحرَّماتِ.
وخرَّج أبو نُعيمٍ من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ سالمًا" - يعني موْلَى أبي حذيفةَ - "شَدِيدَ الحبِّ للَّه لوْ كان لا يخافُ اللَّهَ ما عصاهُ "
يُشيرُ إلى أنَّ محبَّةَ اللَّه تمْنَعُهُ منْ أن يعصِيهُ، وذكرَ أبو عبيدٍ في
"غريبِهِ " أنَّ عمرَ قال: "نعمَ العبدُ صهيبٍ لو لم يخَفِ اللَّهَ لم يعْصِهِ ".
قال الحسنُ بنُ آدمَ: "أحبَّ اللَّهَ يحبَّك اللَّهُ، واعلمْ أنك لن تحبَّ اللَّه حتى
تحبَّ طاعتَهَ ".
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ حنيفٍ: قال رجلٌ لرابعةَ: إني أحبُّك في الله، قالتْ:(1/502)
"فلا تَعْصِي الذي أحببْتَنِي له ".
وسئلَ ذو النونِ: متى أحبُّ ربي؟
قال: "إذا كان ما يبغِضُهُ عندك أمَرَّ من الصَّبر".
وقال بشر بن السري: " ليس من أعلامِ الحبِّ أن تحبَّ ما يبغِضُ".
وقال أبو يعقوب النهرجوري: "كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ جلَّ جلالُهُ ولم
يوافقِ اللَّهَ في أمره، فدعواهُ باطلةٌ، وكلُّ محبٍّ ليسَ يخافُ اللَّهَ فهو
مغرورٌ".
وقال يحيى بن معاذٍ: "ليس بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يحفظْ
حدودَه".
وقال رويمٌ: "المحبةُ الموافقةُ في جميع الأحوالِ " وأنشد:
ولو قُلتَ لي مِتْ مِتُّ سمعًا وطاعةً. . . وقلتُ لداعِي الحقِّ أهلاً ومرحبًا
وقد تقدَّم أنَّ العبدَ لا يجدُ حلاوةَ الإيمانِ حتَّى يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا للَّه.
وحتى يكره أن يرجعَ إلى الكفرِ، كما يكرَهُ أن يُلقى في النَّارِ، ولهذا المعنى
كان الحبُّ في اللَّهِ والبغضُ في اللَّهِ من أصولِ الإيمانِ.
وخرَّج الترمذي من حديثِ معاذِ بنِ أنسٍ الجهنيِّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"منْ أعْطى للَّه ومنَعَ للَّهِ، وأحبَّ للَّهِ، وأبْغَضَ للَّهِ، فقدْ استكْمَلَ إيمانَهُ "، وخرَّجه الإمامُ أحمد وزادَ فيه: "وأنكَحَ للَّهِ ".
وفي لفظٍ له أيضًا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن(1/503)
أفضلِ الإيمانِ قال: "أنْ تحبَّ للَّهِ وتبغِضَ للَّه وتعمَلَ لِسانَك في ذِكرِ اللَّه " وخرَّج أبو داود من حديثِ أبي أمامةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ أحبَّ للَّه وأبغضَ للهِ، وأعْطَى للَّه، ومنَعَ للَّهِ، فقدْ استكْمَلَ الإيمانَ ". ومن حديثِ أبي ذَرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قال: "أفضَلُ الإيمانِ الحُبُّ في الله، والبُغْضُ في اللَّهِ ".
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أوثقَ عُرى الإيمانِ أنْ تُحِبَّ في اللهِ وتبغضَ في اللَهِ "، ومن حديثِ عمرِو بنِ الجموح عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يجِدُ العبْدُ حقَّ صرِيح الإيمانِ حتَّى يُحبَّ للَّهِ ويبْغِضَ للَّه، فإذا أحدث للهِ، وأبْغَضَ للَّهِ فقدْ استحقَّ الولايَةَ منَ اللَّه وإن أوْليائِي منْ عبادي وأحبَّائِي منْ خلقِي يُذْكَرُون بذِكرِي وأُذكرُ بذكرِهِم".
وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرة.
وروى ليثٌ عن مجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ قال:
"منْ أحبَّ في اللَّهِ وأبغَضَ في اللَّهِ ووالَى في اللَّهِ وعادَى في اللَّه.
فإنَّما تنال ولايةُ اللَّهِ بذلك، ولن يجدَ عبد طعْمَ الإيمانِ وإنْ كثُرَتْ صلاتُهُ
وصومُهُ حتى يكون كذلك، وقد صارَتْ عامَّةُ مُؤاخاةِ النَّاسِ على أمْرِ الدنيا
وذلك لا يُجْدِي على أهلِهِ شيئًا".
خرَّجه ابنُ جريرٍ الطبريُّ.
وخرَّج أيضًا بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ، قال:
"من أحب للهِ وأبغضَ للَّه وأعْطى للَّه ومنعَ للَّهِ؛ فقدْ توسَّطَ الإيمان ".
وخرَّج الحاكم من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قال: "الشرْكُ أخْفى من دبيبِ النَّملِ على الصَّفَا في الليْلَةِ الظَّلمَاءِ، وأدْناهُ أن(1/504)
تحِبَّ على شيء من الجُورِ وتبغِضَ على شيء من العدْلِ، وهلِ الدِّينُ إلا الحبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللَّهِ " قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتمْ تحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) ، وقال: صحيحُ الإسنادِ وفيما قاله نظر.
ففي هذا الحديثِ أنَّ محبةَ ما يبغضهُ اللَّه وبغضَ ما يحبُّه اللَّه من الشرْكِ
الخفيِّ، وروينا من طريقِ الأصمعيِّ عن سفيانَ عن ليثٍ عن مجاهدٍ أنه قال
في قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكونَ بِي شَيْئًا) قال:
"لا يحبُّون غيْرِي " وحينئذٍ فلا يكملُ التوحيدُ الواجبُ إلا بمحبةِ ما يحبُّه اللَّه وبغضِ ما يبغضه اللَّهُ، وكذلك لا يتمُّ الإيمانُ الواجبُ إلا بذلك.
ومن هنا يُعلمُ أنَّ الإخلال ببعضِ الواجباتِ وارتكابِ بعضِ المحرَّماتِ
ينقصُ به الإيمانُ الواجبُ بحسبِ ذلك، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزنِي الزَّانِي حين يزنِي وهو مؤْمِنٌ " الحديث.
وروى الإمامُ أحمدُ مِنْ طريقِ الربيع بنِ أنسٍ عن أبي العاليةَ عن أبيِّ بنِ كعبٍ، قال: "منْ أصبَحَ وأكْبرُ همَه غيرُ اللَّه فليسَ منَ اللَّهِ "
وقد رُوي هذا مرفوعًا من حديثِ أنسٍ بأسانيدَ ضعيفةٍ.
فهذه الدرجةُ من محبةِ اللَّهِ فرضٌ واجبٌ على كلِّ مسلم وهي درجةُ
المقتصدينَ أصحابِ اليمينِ.
الدرجة الثانية: درجةُ السابقينَ المقربين، وهي أن ترتقي المحبةُ إلى ما يحبُّه
اللَّهُ من نوافلِ الطاعاتِ، وكراهةُ ما يكرهُه من دقائقِ المكروهاتِ، وإلى(1/505)
الرِّضا بما يقدِّره ويقضِيه مما يؤلمُ النفوسَ من المصائبِ، وهذا فضلٌ مستحبٌّ
مندوبٌ إليه.
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: منْ عَادَى لي وليًّا فقدْ آذنْتُهُ بالحربِ، ما تقرَّبَ إليَّ عبْدِي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افْترضتُ عليه، ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّهُ، فإذا أحببْتُه كنْتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها، ولئن
سألنِي لأعْطينَّهُ، ولئن استعاذنِي لأعيذته، وما تردَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعلُهُ تردّدِي عن قبْضِ نفْسِ عبدِي المؤمنِ يكْرَهُ الموْتَ وأنا اكرَهُ مُساءَتَهُ ".
وقد روي هذا المعنى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، وأبي أمامةَ
وعائشةَ - رضي الله عنها -، بأسانيدَ فيها نظرٌ.
وذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن سُهيلٍ أخي حزمٍ قال: بلَغَنِي عن عامرِ بنِ
عبدِ قيسٍ أنه كانَ يقول: "أحببتُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حبًا سهَّلَ علي كلَّ مصيبة
ورضَّاني بكلٍ قضية، فما أُبالي مع حُبِّي إيَّاهُ ما أصبحتُ عليه وما أمسيتُ ".
وقال إبراهيمُ بنُ الجنيدِ: حدثنا محمدُ بنُ الحسنِ حدثني عبيدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ
التميمي أن رجلاً قال لعابدٍ: أوصِنِي، أوعظْنِي، فقال:
"أىُّ الأعمالِ أغلبُ على قلبِكَ؟
فقال الرجلُ: واللَّهِ ما أجدُ شيئًا أنفع للمحبِّ عند حبيبِهِ من
المبالغةِ في محبَّتِهِ، وهلْ تَدْرِي ما ذلك؟ أن لا يعلمَ شيئًا فيه رضاهُ إلا أتاهُ.
ولا يعلمُ شيئًا فيه سخطُهُ إلا اجتَنَبَهُ، فعند ذلك ينزل المحبونَ من اللَّهِ منازلَ
المحبةِ، قال: فصرخَ العابدُ والسائلُ وسقطا".(1/506)
وقد تبيَّنَ بما ذكرْنا أنَّ محبةَ اللَّهِ إذأ صدقتْ أوجبتْ محبةَ طاعتِهِ وامتثالَها.
وبغضَهُ معصيتَهُ واجتنابَها، وقد يقعُ المحمث أحيانًا في تفريطٍ في بعضِ
المأموراتِ وارتكابٍ لبعضِ المحظوراتِ، ثمَّ يرجعُ على نفسِهِ بالملامةِ، وينزعُ
عن ذلكَ ويتداركُه بالتوبةِ.
وفي "صحيح البخاريّ " أنَّ رجلاً كان يُؤتى به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قد شربَ الخمرَ، فقال رجل: اللَّهُتمَ العَنْهُ، ما أكثرَ ما يؤتَى به، فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تَلعَنْهُ؛ فإنَّه يحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ ".
وقد رُوي عن الشعبيِّ في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَوَّابِينَ)
قال: "التَّائِبُ من الذنبِ كمنْ لا ذنْبَ له، وإذا أحبَّ اللَّهُ عبدًا لم
يضرَّه ذنْبُهُ ".
وعن عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ قال: إنَّ اللَّه تعالى ليحبُّ
العبدَ حتى يبلغَ من حبِّهِ إذا أحبَّهُ أن يقولَ له: "اذْهَبْ فاعْمَل ما شئْتَ فقدْ
غفرْتُ لك ".
والمرادُ من هذا أنَّ اللَّهَ تعالى إذا أحبَّ عبدًا وقدَّر عليه بعضَ الذنوبِ فإنَّه
يُقدِّر له الخلاصَ منها بما يمحوها من توبةٍ أو عملٍ صالح أو مصائبَ مكفرةٍ.
كما في الحديثِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أذنَبَ عبدٌ ذنبًا فقال: أيْ ربِّي عمِلتُ ذنبًا فاغْفِرْ لي " فذكر الحديث إلى أن قال: "فليَعْمَلْ ما شاءَ". والمرادُ ما دامَ على هذا، كلما عمِلَ ذنبًا اعترفَ به وندمَ عليه واستغفرَ منه، فأمَّا مع الإصرارِ عليه فلا، وكذلك المحبةُ الصادقةُ الصحيحةُ تمنعُ من الإصرارِ على الذنوبِ،(1/507)
وعدمِ الاستحياءِ من علاَّمِ الغيوبِ.
وما أحسنَ قولَ بعضِهِم:
تعصي الإلهَ وأنتَ تزعُمُ حُبَّه. . . هذا لَعمري في القياسِ شنيعُ
لو كان حُبُّكَ صادقًا لأطعتَهُ. . . إنَّ المحبَّ لمن يُحِبُّ مطيعُ
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: دخولِ المشْرِكِ المسْجِدَ":
حدثنا كَتيبةُ: ثنا الليثُ، عن سعيدِ بنِ أبي سعيدٍ، أنَّه سمعَ أبا هريرةَ يقولُ: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بخيْلٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فجاءتْ برجُل من بني حنيفةَ، يُقالُ له؛ ثُمامَة بنُ أُثالٍ، فربطوه بسارية من سوارِي المسجدِ.
قد سبقَ هذا الحديثُ بأتمَّ من هذا السياقِ في "بابِ: الأسير يُربطُ في
المسجدِ"، وفيه: أنَّ ثمامةَ حين رُبط كان مشركًا، وأنه إنما أسلمَ بعد
إطلاقهِ.
وفي هذا دليل على جوازِ إدخالِ المشركِ إلى المسجدِ، لكن بإذنِ المسلمينَ.
وقد أنزلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وفدَ ثقيفٍ في المسجدِ، ليكونَ أرقَّ لقلوبِهم.
خرَّجه أبو داود من روايةِ الحسنِ، عن عثمانَ بنِ أبي العاصِ.(1/508)
وروى وَكِيعٌ، عن سفيانَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قالَ: إنَّ وفدًا قدِمُوا
على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منْ ثقيفٍ، فدخلُوا عليه المسجدَ، فقيلَ له: إنَّهم مُشْركون؟
قالَ: "الأرضُ لا ينجسها شيءٌ".
وخرَّجه أبو داودَ في "المراسيلِ " من روايةِ أشْعَث، عن الحسن، أنَّ وفْدَ
ثقيفٍ قدِمُوا على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فضرَبَ لهم قُبَّةً في مُؤخَّرِ المسجدِ، لينظرُوا إلى صلاةِ المسلمينَ، إلى ركُوعِهِم، وسجودِهِم، فقيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أتنزِلُهُمُ المسجدَ وهم مُشرِكُون؟
قالَ: "إنَّ الأرضَ لا تنْجُسُ، إنَّما ينجُسُ ابنُ آدمَ ".
وكذلك سائر وفودِ العربِ ونصارى نجرانِ، كلُّهم كانُوا يدخلونَ المسجدَ
إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويجلسونَ فيه عندَه.
ولما قدِمَ مشركُو قريشٍ في فداءِ أُسارى بدرٍ كانوا يبيتون في المسجدِ
وقد روى ذلك الشافعيُّ بإسنادٍ له.
وقد خرَّج البخاريُّ حديثَ جبيرِ بنِ مُطْعِمٍ - وكان ممن قدِمَ في فداءِ
الأسارى - أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في المغربِ بـ: "الطُّورِ"؛ قالَ: وكان ذلك أولَ ما وقرَ الإيمانُ في قلبِي.
وخرَّج البخاريُّ فيما سبقَ في "كتابِ: العلم " حديثَ دخول ضِمامِ بنِ
ثعلبةَ المسجدَ، وعقلِهِ بعيرَهُ فيه، وسؤالِهِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلامِ، ثم أسلْمَ عقبَ ذلكَ.(1/509)
وروى أبو داود في "المراسيلِ " بإسنادِهِ عن الزهريِّ، قالَ: أخبرني سعيدُ
ابنُ المسيَّبِ، أنَّ أبا سفيانَ كان يدْخُلُ المسجدَ بالمدينةِ وهو كافر، غيرَ أنَّ ذلك لا يصلُحُ في المسجدِ الحرامِ، لما قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) .
وقد اختلفَ أهلُ العلم في ذلكَ:
فرَخَّصَ طائفةٌ منهم في دخولِ الكافرِ المسجد، وهو قولُ أبي حنيفةَ
والشافعيِّ، وحُكيَ روايةً عن أحمدَ، رجَّحها طائفة من أصحابِنا.
قال أصحابُ الشافعيِّ: وليسَ له أن يدخلَ المسجدَ إلا بإذنِ المسلمِ ووافقَهُم
طائفة من أصحابِنا على ذلكَ.
وقال بعضُهم: لا يجوزُ للمسلم أن يأذنَ فيه إلا لمصلحةٍ من سماع قرآنٍ.
أو رجاء إسلامٍ، أو إصلاح شيءٍ ونحوِ ذلك، فأمَّا لمجردِ الأكلِ واللُّبْثِ
والاستراحةِ فلا.
ومن أصحابِنا: من أطلقَ الجوازَ، ولم يقيدْهُ بإذنِ المسلم.
وهذا كلُّه في مساجدِ الحلِّ، فأمَّا المسجدُ الحرامُ فلا يجوزُ للمسلمينَ الإذنَ
في دخولِهِ للكافرِ، بل لا يمكَّنُ الكافرُ من دخولِ الحرمِ بالكليَّة عند الشافعيِّ
وأحمدَ وأصحابِهِما.
واستدلُّوا بقولِ اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ منادِيًا يُنادِي: "لا يحُجُ بعْدَ العام مُشْرِك".(1/510)
وأجازَه أبو حنيفةَ وأصحابُهُ.
فأمَّا مسجدُ المدينةِ، فالمشهورُ عندنا وعند الشافعية أن حُكْمَهُ حكم مساجد
الحِلِّ.
ولأصحابِنا وَجْه: أنه مُلْحَقٌ بالمسجدِ الحرامِ؛ لأنَّ المدينةَ حَرَم، وحُكي عن
ابنِ حامدٍ، وقاله القاضي أبو يعْلى في بعضِ كتبِهِ.
وهذا بعيدٌ، فإنَّ الأحاديث الدالةُ على الجوازِ إنما وردت في مسجدِ المدينةِ
بخصوصِهِ، فكيفَ يمنع منه ويخصُّ الجوازُ بغيره؟
وقالتْ طائفةٌ: لا يجوزُ تمكينُ الكافرِ من دخولِ المساجدِ بحالٍ، وهذا هو
المرويُّ عن الصحابةِ، منهم: عمرُ، وعليٌّ، وأبو موسى الأشعريُّ، وعن عمرَ ابنِ عبدِ العزيزِ، وهو قولُ مالكٍ، والمنصوصُ عن أحمدَ، قال: لا يدخلونَ المسجدَ ولا ينبغي لهم أن يدخلُوهُم.
واستدلُّوا بقولِ اللَّهِ تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) .
وظاهرُهُ: يدلُّ على أنَّ الكفارَ لا يُمكنونَ من دخولِ المساجدِ، فإنْ دخلوا
أُخيفُوا وعُوقِبوا، فيكونونَ في حالِ دخولِهِم خائفينَ من عقوبةِ المسلمينَ لَهُم.
وقد رُوي عن عليٍّ، أنَه كان على المنبرِ فبَصُرَ بمجوسي، فنزل وضربَه
وأخرَّجَه.
خرَّجه الأثْرَمُ.
وعلى هذا القولِ، فأحاديثُ الرخصةِ قد تُحمَلُ على أنَّ ذلك قبلَ
النهي عنه، أو أنَّ ذلك كانَ جائزًا حيث كان يحتاجُ إلى تألفِ قلوبِهِم،(1/511)
وقد زالَ ذلكَ.
وفرَّقتْ طائفةٌ بين أهلِ الذِّمةِ وأهلِ الحربِ، فقالُوا: يجوزُ إدخالُ أهلِ
الذِّمَّةِ دونَ أهلِ الحربِ، ورُوي عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وقتادةَ.
وروى عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ جُريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرَ
بنَ عبدِ اللَّه يقولُ في قولِه تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْربوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، قال: إلا أن يكون عبْدًا أو أحدًا من أهلِ
الذَّمَّة.
وقَد رُويَ مرفوعًا من روايةِ شريكٍ: ثنا أشعثُ بن سوَّار، عن الحسن، عن
جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لا يدخلْ مسجدَنا هذا مشركٌ بعدَّ عَامِنَا هذا، غَّيَر أهلِ الكتابِ وخدمِهِم ".
خرَّجه الإمامُ أحمد.
وفي روايةٍ له: "غيرَ أهلِ العهدِ وخدمِهِم ".
وأشعثُ بنُ سوَّار، ضعيفُ الحديثِ.
وقد خصَّ بعضُ أصحابِنا حكايةَ الخلافِ المحكي عن أحمدَ فى المسألة
بأهلِ الذِّمَّةِ.
* * *(1/512)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
وفي الحديثِ المشهورِ عن ثوبانَ أنَّه قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية ُ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"تبًّا للذهبِ والفضةِ".
قالُوا: يا رسول اللَّهِ، فما نتخذُ؟
قال: "ليتخذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانِا ذاكرًا.
وزوجة صالحةً تُعين أحدَكُم على إيمانِهِ ".
قالَ بعضُهم: إئما سُمِّيَ الذهبُ ذهبًا، لأنه يذهبُ، وسمِّيت الفضةُ فضةً
لأنها تنفضُّ، يعني تنفضُّ بسرعةٍ، فلا بقاءَ لهُمَا، فمن كنزَهُما فقد أرأدَ بقاءَ
ما لا بقاءَ له، فإن نفعَهُما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوهِ البِر وسبلِ الخيرِ.
وقال الحسنُ: بئسَ الرفيقُ الدرهمُ والدينارُ؛ لا ينفعانِكَ حتَّى يفارقانِكَ.
فما داما مكنوزينِ فما يضرانِ ولا ينفعانِ، وإنَّما نفعُهُما بإنفاقِهِما في
الطاعاتِ، قال اللَّهُ تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، والآيةُ ذمٌّ ووعيدٌ لمنْ يمنعُ حقوقَ مالِهِ
الواجبةِ من الزكاةِ وصلةِ الرَّحم وقِرى الضيفِ والإنفاقِ في النوائبِ.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:(1/513)
"ما من صَاحِبِ ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدِّى مِنْها حقَّها إلا إذا كان يومُ القيامة صُفِّحت له صفائحُ من نارٍ فأحمي عليها في نارِ جهنَّم، فيكوى بها جنبُه وجبينُهُ وظهرُه، كلما برَدَتْ أعيدت له، في يومٍ كان مقدارُهُ خمسين ألف سنةٍ، حتى يقضى بين العبادِ، فيرى سبيلَهُ إمَّا إلى الجنةِ وإمَّا إلى النارِ".
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من آتاهُ اللهُ مالاً فلم يُؤدِّ زكاتَهُ مُثلَ له يومَ القيامةِ شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطوَّقه يومَ القيامة ثم يأخذُ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالُكَ، أنا كنزك " ثم تلا: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يكون كنزُ أحدكم يومَ القيامة شجاعًا أقرع يفرُّ منه يومَ القيامةِ، ويطلبُهُ، ويقول: أنا كنزُكَ، فلا يزالُ يطلبُة حتى يبسطَ يدَهُ فيُلقمها فاه ".
وفي "صحيح مسلم " عن جابرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من صاحبِ كنز لا يفعلُ فيه حقَّهُ إلا جاءَ كنزهُ يومَ القيامةِ شجاعًا أقرعَ يتبعُهُ فاتحاً فاهُ، فإذا أتاهُ فرَّ منهَ، فيناديِه: خُذْ كنزَكَ الذي خبَّأتَهُ فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لا بدَّ له منه سلكَ يدَهُ في فيه فيقضمها قضمَ الفحْلِ ".
والشجاعُ: الحيَّةُ الذكرُ، والأقرعُ: الذي قد تمعَّطَ شعر
فروةِ رأسِهِ لكثرةِ سمِّهِ.
فلهذا وردَ الشرعُ باكتنازِ ما يبقى نفعُهُ بعد الموتِ من الإيمانِ والأعمالِ(1/514)
الصالحةِ والكلماتِ الطيبةِ، فإنَّ نفعَ ذلك يبقَى وبه يحصلُ الغنى الأكبرُ، قال
ابنُ مسعودٍ: نعمَ كنزُ الصعلوكِ سورةُ آل عمرانَ يقومُ بها من آخرِ الليلِ.
وآخرُ سورةِ البقرةِ من كنزٍ تحتَ العرشِ أعطيتْه هذه الأمَّةُ مع سورة الفاتحةِ.
ولا حول ولا قوَّة إلا باللَّه كنزٌ من كنوزِ الجنةِ.
وفي بعضِ الآثارِ الإسرائيليةِ: كنزُ المؤمنِ ربُه، يعني أنه لا يكنزُ سوى
طاعتِهِ وخشيتِهِ ومحبتِهِ والتقربِ إليهِ، فمن كانَ كنزُهُ ربَّه وجدَهُ وقتَ حاجتِهِ
إليه، كما في وصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لابنِ عباسٍ:
"احفظ اللَّهَ يحفَظك، احفظِ اللهَ تجدْهُ أمامَك، تعرَّف إلى اللهِ في الرَّخاء يعرفكَ في الشِّدةِ".
أنت كنزي، أنت ذخري، أنت عزِّي، كيف أخشى الفقرَ إذا كنتَ أمني
عند فقرِي، من كانَ اللَّهُ كنزَه فقد ظفرَ بالغنِى الأكبرِ.
قال بعضُ العارفينَ:
من استغْنَى باللَّهِ أمِنَ من العدمِ. . . ومن لَزِمَ البابَ أُثْبِتَ في الخَدَمِ
ومن أكثرَ ذكر الموتِ أكثرَ من الندمِ. . . تنقَضِي الدُّنيا والفتى فيها معنَّا
ليسَ في الدنيا نعيمٌ ولا عيشٌ مهنَّا. . . يا غنيًّا بالدنانيرِ فحبُّ اللَّهِ أغنى
* * *
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)
قال عليٌّ بنُ أبي طلحة عن ابنِ عباسٍ في هذهِ الآيةِ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(1/515)
في كلِّهنَّ، ثم اختصَّ مِنْ ذلك أربعةَ أشهُر، فجعلهنَّ
حرمًا، وعظَّمَ حُرماتهن، وجعل الذنبَ فيهنَّ أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ
أعظم.
وقال قتادةُ في هذه الآية: اعلمُوا أن الظلمَ في الأشهرِ الحُرُم أعظمُ خطيئةً
ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظلمُ في كلّ حال غيرَ طائل، ولكنَّ اللَّهَ
تعالى يُعظِّم من أمرِهِ، ما يشاءُ ربُّنا تعالى.
وقد رُوي في حديثينِ مرفوعينِ أن السيئات تُضاعفُ في رمضانَ، ولكن
إسنادهُما لا يصحُّ.
* * *
خرَّجا في "الصحيحينِ " من حديث أبي بكرةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ في حجَّةِ الوداع، فقالَ في خطبته:
"إن الزمانَ قد اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّه السماواتِ والأرضِ، السنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعة حرمٌ: ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعْدةِ
وذو الحجَّةِ، والمحرَّمُ، ورجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشعبانَ "
وذكر الحديثَ.
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
فأخبر سبحانه أنَّه مُنذُ خلقَ السماواتِ والأرضَ وخلقَ الليلَ والنَّهارَ
يدُورانِ في الفلكَ وخلقَ ما في السماءِ من الشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ، وجعلَ(1/516)
الشَّمسَ والقمر يسبحان في الفلك، فينشأ منهما ظلمةُ اللَّيلِ وبياضُ النهارِ.
فمن حينئذٍ جعلَ السَّنة اثنى عشر شهراً بحسبِ الهلالِ.
فالسنةُ في الشرع مُقدَّرةٌ بسيرِ القمرِ وطلوعِهِ، لا بسيرِ الشمسِ وانتقالها.
كما يفعلُه أهلُ الكتابِ.
وجعلَ اللَّهُ تعالى من هذهِ الأشهرِ أربعةَ أشهرٍ حُرُمًا، وقد فسَّرَها النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وذكرَ أنَّها ثلاثة متوالياتٌ، ذو القعدةِ، وذو الحجَّةِ، والمُحرَّمُ، وواحد فرد، وهو شهرُ رجبٍ.
وهذا قد يستدلُّ به من يقولُ: إنها من سنتين، وقد رُوي من حديثِ ابنِ
عمرَ مرفوعًا: "أولُهُن رجبٌ "، وفي إسنادِهِ موسى بن عُبيدةَ، وفيه ضعفٌ
شديد من قِبلِ حفْظِهِ، وقد حكيَ عن أهلِ المدينةِ أنهم جعلوها من سنتين.
وأن أوَّلها ذو القعدةِ، ثم ذو الحجَّةِ، ثم المحرَّمُ، ثم رجب، فيكونُ رجب
آخرَها.
وعن بعضِ المدنيينَ أنَّ أوَّلها رجب، ثم ذو القعدةِ، ثم ذو الحجَّةِ ثم
المُحرَّمُ.
وعن بعضِ أهلِ الكوفةِ أنها من سنةٍ واحدة، أولها المحرَّمُ، ثم
رجبٌ، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحِجَّةِ.
واختُلِفَ في أيِّ هذه الأشهر الحرُم أفضلُ، فقيل: رجب، قاله بعض الشافعيةِ، وضعَّفَه النوويُّ وغيره.
وقيل: المُحَرَّمُ، قاله الحسنُ، ورجَّحَه النوويُّ.
وقيل: ذو الحِجَّة، رُوي عن سعيدِ بنِ جبيرٍ وغيره، وهو أظهرُ، واللَّهُ أعلمُ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الزَّمان استدَارَ كهيئِتِه يوم خلقَ اللَّه السمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عشرَ شهرًا"
مُرادُهُ بذلك إبطالُ ما كانتِ الجاهليةُ تفعلُه من النَّسيء، كما قال(1/517)
تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) .
وقد اختُلِفَ في تفسيرِ النَّسيء، فقالت طائفة: كانوا يُبدلُون بعضَ
الأشهرِ الحُرُم بغيرِها من الأشهرِ، فيحرِّمُونها بدلها، ويحلُّون ما أرادوا تحليلَه
من الأشهرِ الحُرُم إذا احْتاجُوا إلى ذلك، ولكن لا يزيدونَ في عددِ الأشهر
الهلالية شيئًا.
ثم من أهلِ هذه المقالةِ من قال: كانوا يُحلُّون المُحرَّمَ فيستحلون
القتالَ فيه؛ لطول مدَّة التَّحريم عليهم بتوالي ثلاثةِ أشهرٍ مُحرَّمةٍ، ثم يحرِّمونَ
صفَرًا مكانَهُ، فكأنَهم يقترضونَه ثم يوفونَه، ومنهم من قال: كانوا يحلُّون
المُحرَّمَ مع صَفَرٍ من عامٍ ويُسمُّونَهما صفَرينِ، ثم يحرِّمُونهما مم عام قابل
ويسمُّونهما محرَّمين قاله ابن زيدِ بنِ أسلمَ.
وقيل: بل كانوا رُبَّما احْتاجُوا إلى صفَرَ أيضًا فأحلُّوه وجعَلُوا مكانَه ربيعًا.
ثم يدورُ كذلك التَّحريمُ والتَّحليلُ والتأخيرُ، إلى أن جاء الإسلامُ ووافَقَ حجَّةَ
الوداع، صارَ رجوعُ التَّحريمِ إلى مُحرَّم الحقيقيّ، وهذا هو الذي رجَّحه
أبو عُبيد، وعلى هذا فالتَّغييرُ إنَّما وقع في عيْنِ الأشهُر الحُرُمِ خاصةً.
وقالت طائفةٌ أخرى: بلْ كانوا يزيدونَ في عددِ شهورِ السنة، وظاهرُ الآية يُشعر بذلك، حيث قال اللَّه تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) ، فذكرَ هذا توطئةً لهَدْمِ النَّسيءِ وإبطالهِ.
ثم مِنْ هؤلاءِ من قال: كانوا يجعلُون السنة ثلاثةَ عشرَ شهرًا، قاله مجاهدٌ
وأبو مالكٍ، قال أبو مالكٍ: كانوا يجعلون السنةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا، ويجعلونَ(1/518)
المُحرَّمَ صَفَرًا.
وقال مجاهدٌ: كانوا يُسقطون المُحرَّمَ، ثم يقولون: صَفَرينِ.
لصفرَ وربيع الأوَّلِ وربيع الآخر، ثم يقولونَ: شهرا ربيع، ثم يقولون:
لرمضان: شعبانُ، ولشوال: رمضانُ، ولذي القعْدةِ: شوالٌ، ولذيَ الحجَّةِ:
ذو القعْدة، على وجهِ ما ابتدأوا وللمحرَّمِ: ذو الحجَّةِ، فيعدونَ ما ناسؤوا
على مستقبلهِ، على وجه ما ابتدأوا.
وعنه، قال: كانتِ الجاهليةُ يحجُّون في كلِّ شهرٍ من شهورِ السنةِ عامينِ.
فوافَقَ حِجُّ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحِجَّةِ، فقال: "هذا يومٌ اسْتدارَ الزَّمانُ كهيئِتِه يومَ خلقَ اللَّهُ السماواتِ والأرص ".
ومن هؤلاء من قالَ: كانتِ الجاهليةُ يجعلونَ الشهورَ اثنى عشر شهرًا
وخمسةَ أيامٍ، قالهُ إياسُ بنُ معاويةَ، وهذا العددُ قريبٌ من عددِ السنةِ
الرومية" ولهذا جاء في مراسيلِ عكرمة بنِ خالدِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطبتِهِ يومَ النحر: "والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وخنَسَ إبهامَه في الثالثةِ، وهكذا وهكذا، وهكذا"
يعني: ثلاثينَ، فأشارَ إلى أن الشَّهرَ هلاليٌّ.
ثم تارةً ينقُصُ وتارةً يتمُّ، ولعلَّ أهلَ النَّسِيء كانُوا يُتِمُّونَ الشهورَ كلَّها.
ويزيدونَ عليْهَا، واللَّه أعلم.
وقد قيل: إنَّ ربيعةَ ومضَرَ كانوا يُحرِّمون أربعة أشهرٍ من السنةِ مع
اختلافِهِم في تعيينِ رجبٍ منها، كما سنذكرُهُ إن شاء اللَّهُ تعالى.
وكانت بنُو عوْفِ بنِ لُؤيٍّ يحرِّمون من السنةِ ثمانيةَ أشهرٍ، وهذا مبالغة في الزيادة على ما حرَّمه اللَّهُ.
واختلفُوا في أيِّ عامٍ عاد الحجُّ إلى ذي الحجةِ على وجهِهِ، واستدارَ الزَّمانُ(1/519)
فيه كهيئتِهِ، فقالت طائفة: إنَّما عادَ على وجهه في حجَّةِ الوداع، وأما حجةُ
أبي بكر الصديقِ - رضي الله عنه -، فكانت قد وقعت في ذي القعدةِ.
هذا قولُ مجاهدٍ وعكرمةَ بن خالد وغيرهِما.
وقيل: إنَّه اجْتَمَعَ في ذلك العامِ حجُّ الأممِ كلِّها
في وقتٍ واحدٍ، فلذلك سُمِّيَ يومَ الحجِّ الأكبرِ.
وقالتْ طائفةٌ: بل وقعَتْ حجَّةُ الصِّدِّيقِ في ذي الحجةِ، قالهُ الإمامُ أحمدُ.
وأنكرَ قولَ مجاهدٍ، واستدلَّ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ عليًّا فنادى يوم النَّحْرِ: "لا يحجّ بعد العامِ مشرِك"
وفي روايةٍ: "واليومُ يومُ الحَجِّ الأكبرِ" وقد قالَ اللَّهُ تعالى:
(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ، فسمَّاهُ يومَ الحجِّ الأكبرِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ النِّداءَ وقَعَ في ذي الحجَةِ.
وخرَّج الطبراني في "أوسطِه " من حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيه.
عن جدِّه قال: كان العربُ يُحِلُّون عامًا شهرًا، وعامًا شهرين، ولا يُصيبون
الحجَّ إلا في كلِّ ستةٍ وعشرين سنة مرةً واحدةً، وهو النَّسيءُ الذي ذكرَهُ اللَّهُ
في كتابه، فلما كان عام حَجَّ أبو بكر الصديقُ بالناس، وافَقَ في ذلك العامِ
الحجَّ، فسمَّاه اللَّهُ يوم الحج الأكبر.
ثم حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في العامِ المُقْبلِ، فاستقبَلَ النَّاسُ الأهلَّةَ، فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ الزمانَ قد اسْتدارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ الله السماوات والأرضَ "
وقيل: بل اسْتدارَةُ الزَّمانِ كهيئتِهِ كانَ من عام الفتح.
وخرَّج البزارُ في "مسندهِ " من حديث سُمرةَ بن جُنْدَب أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/520)
قال: لهم يومَ الفتح: "إنَّ هذا العامَ الحجُّ الأكبرُ، قد اجتمعَ حجُّ المسلمينَ وحجُّ المشركينَ في ثلاثةِ أيامٍ متتابعاب، واجتمَعَ حجُّ اليهودِ والنَّصارى في ستَّةِ أيام متتابعاتٍ.
ولم يجتمع منذُ خلقَ اللَّه السماواتِ والأرضَ، ولا يجتمعُ بعدَ العامِ حتَّى تقومَ
السَّاعة ".
وفَي إسنادِهِ يوسف السَّمْتِي، وهو ضعيف جدًّا، واختلفُوا لم سُميتْ هذه
الأشهر الأربعةُ حُرُمًا؟.
فقيل: لعظم حُرمتِها وحُرمة الذَّنْبِ فيها.
قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباس: اختصَّ اللَّهُ أربعةَ أشهر جعلهُنَّ
حُرمًا، وعظَّمَ حُرماتهنَّ، وجعل الذَّنْبَ فيهن أعظمَ، وجعلَ العملَ الصالحَ
والأجر أعظم.
قال كعبٌ: اختارَ اللَّهُ الزمان، فأحبُّهُ إلى اللَّه الأشهر الحُرُمُ.
وقد رُوي مرفوعًا، ولا يصحُّ رفعُهُ.
وقد قيلَ في قولِهِ تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفسَكمْ) : إنَّ المرادَ
في الأشهرِ الحُرمِ، وقيل: بل في جميع شُهورِ السنةِ.
وقيل: إنَّما سُمِّيتْ حُرُمًا لتحريمِ القتالِ فيها.
وكان ذلك معروفًا في الجاهليةِ.
وقيلَ: إنَّه كان في عهدِ إبراهيمَ - عليه السلامُ -، وقيلَ: إنَّ سبب تحريمِ هذه الأشهرِ الأربعةِ بينَ العربِ لأجلِ التمكُّن منَ الحجِّ والعُمْرةِ، فحُرِّمَ شهرُ ذي الحجَّةِ، لوقوع الحجِّ فيه، وحُرِّم معه شهرُ ذي القعدة، للسَّيْرِ فيه إلى الحجِّ. وشهر المحرم، للرجوع فيه من الحجِّ، حتى يأمَنَ الحاجُّ على نفسِهِ من حين يخرجُ من بيتِهِ إلى أن يرجعَ إليه.
وحُرِّمَ شهرُ رجب، للاعتمارِ فيه في وسطِ السًّنةِ، فيعتمِرُ
فيه مَنْ كان قريبًا من مكّةَ.
وقد شرع اللهُ في أولِ الإسلامِ تحريمَ القتالِ في الشهرِ الحرام، قالَ تعالَى:(1/521)
(لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) .
وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .
وخرَّجَ ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن جُنْدُبِ بنِ عبدِ اللَّهِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رهطَا وبعثَ عليهم عبدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ، فلقوا ابنَ الحضْرمِيِّ فقتلوه، ولم يدْرُوا أنَّ ذلك من رجبٍ أو من جُمادى، فقال المشركونَ للمسلمينَ.
قتلتُم في الشهرِ الحرامِ، فأنزلَ اللَّهُ عزَ وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبِيرٌ) الآية.
وروى السُّدِّيُّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح، عن ابنِ عباسٍ، وعن
مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ في هذه الآيةِ، فذكروا هذه القصةَ مبسوطةً، وقالُوا
فيها: فقال المشركونَ: يزعمُ محمدٌ يتبعُ طاعةَ اللَّهِ وهو أوَّلُ مَن استحلَّ
الشهرَ الحرامَ، فقال المسلمونَ: إنَّما قتلناه في جُمَادى.
وقيلَ: في أولِ رجبٍ وآخِرِ ليلةٍ من جُمَادى، وغَمَدَ المسلمونَ سيوفَهم
حين دخل شهرُ رجبٍ، وأنزلَ اللَّهُ تعالى تعييرًا لأهلِ مكَّةَ:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)
لا يحلُّ، وما صنعتم أنتم يا معشرَ المشركينَ أكبرُ من القتْلِ في الشَّهرِ الحرامِ، حين كفرتم باللَّه، وصددْتُم عن محمَّدٍ وأصحابِهِ، وإخراج أهلِ المسجدِ الحرامِ حينَ أخْرَجُوا منه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أكبرُ منَ القتلِ عندَ اللهِ.
وقد رُوي عن ابنِ عباسٍ هذا المعنى من روايةِ العوفيِّ عنه، ومن روايةِ
أبي سعد البقالِ، عن عكرمةَ، عنه.(1/522)
ومن روايةِ الكلبيِّ، عن أبي صالح، عنه.
وذكر ابنُ إسحاقَ أنَّ ذلك كان في آخر يوم من رجبٍ، وأنَّهم خافوا إنْ
أخَّرُوا القتالَ أن يسبقَهم المشركونَ فيدخلوا الحرَمَ فيأمَنُوا.
وأنَّهم لمَّا قدِمُوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم:
"ما أمرتُكُم بالقتالِ في الشهرِ الحرامِ، ولم يأخذْ من غنيمتهم شيئًا"
وقالتْ قريشٌ: قد استحلَّ محمدٌ وأصحابُهُ الشهرَ
الحرامَ، فقال مَنْ بمكَّةَ من المسلمينَ: إنَما قتلُوهم في شعبانَ.
فلمَّا أكثرَ الناسُ في ذلك نزلَ قولُهُ تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) الآية.
ورُوي نحوُ هذا السياقِ عن عروةَ، والزُّهري وغيرِهما.
وقيلَ: إنَّها كانت أولَ غنيمةٍ غممَها المسلمونَ، وقال عبدُ اللَّهِ بن جحشٍ في ذلك، وقيل: إنَّها لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه -.
تعُدُّونَ قتلاً في الحرامِ عظيمةً. . . وأعْظمُ منه لو يَرى الرشُدَ راشِدُ
صدودُكُمُ عمَّا يقولُ محمدٌ. . . وكُفْرٌ به واللَّه راءٍ وشاهدُ
وإخْراجُكُم من مسجدِ اللَّهِ أهلَهُ. . . لِئلاَّ يُرَى للَّهِ في البيْتِ ساجِدُ
في أبياتٍ أخرَ.
وقد اختلفَ العلماء في حكم القتالِ في الأشهرِ الحُرُمِ، هل تحريمُهُ باقٍ أمْ
نُسِخَ؟
فالجمهورُ على أنَّه نُسِخَ تحريمُهُ، ونصَّ على نسخِهِ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ
من الأئمةِ.
وذهب طائفةٌ من السَّلَفِ، منهم عطاءٌ، إلى بقاءِ تحريمِهِ، ورجَّحه
بعضُ المتأخرين واستدلُّوا بآية المائدةِ.
والمائدةُ من آخرِ ما نزلَ من القرآنِ،(1/523)
وقد رُوِي: "أحِلُّوا حلاَلَها وحرِّمُوا حرامَهَا ".
وقيل: ليس فيها منسوخ. وفي "المسندِ" أنَّ عائشةَ - رضي الله عنها -، قالتْ: "هي آخرُ سورةٍ نزلتْ، فما وجدتُم فيها من حلالٍ فاسْتحِلُّوه، وما وجدتم فيها من حرامٍ فحرمُوه "
وروى الإمامُ أحمدُ في "مسندهِ ": حدثنا إسحاقُ بن عيسى.
حدثنا ليثُ بنُ سعدٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، قال: لم يكن رسولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - يَغْزُو في الشَّهرِ الحرامِ إلا أنْ يُغْزَى ويَغزو فإذا حضرَهُ أقامَ حتَّى ينسلخَ.
وذكر بعضُهم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حاصرَ الطائفَ في شوَّالٍ، فلمَّا دخلَ ذو القعدةِ لم يُقاتِلْ، بل صابرَهُم، ثم رجعَ.
وكذلك في عمرةِ الحديبية لم يُقاتِلْ، حتّى بلغه أنَّ عثمانَ قُتِلَ، فبايَعَ على القتالِ، ثم لمَّا بلغَه أنَّ ذلك لا حقيقةَ له كفَّ.
واستدلَّ الجمهورُ بأن الصحابةَ اشتغلُوا بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتح البلادِ، ومواصلةِ القتالِ والجهادِ، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم أنَّه توقَّف عن
القتالِ، وهو طالبٌ له في شيءٍ من الأشهرِ الحُرُم، وهذا يدُلُّ على اجتماعهم
على نسخ ذلك، واللَّهُ أعلمُ.
ومن عجائب الأشهرِ الحُرُمِ ما رُوي عن عبدِ اللَّهِ بن عمرِو بن العاصِ: أنَّه
ذكر عجائبَ الدنيا، فعدَّ منها بأرضِ عادٍ عمودَ نُحاسٍ، عليه شجرةٌ من
نحاسٍ، فإذا كان في الأشهرِ الحُرُم قطرَ منها الماءُ، فملؤوا منه حياضَهم.
وسَقَوْا مواشيهم وزروعَهم، فإذا ذهب الأشهرُ الحرمُ انقطَعَ الماءُ.
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ورجبُ مُضَر" سُمِّي رجبٌ رجبًا، لأنه كان يُرجَّبُ، أي يُعظَّمُ، كذا قال الأصمعي، والمفضَّلُ، والفرَّاءُ، وقيلَ: لأنَّ الملائكةَ تترجَّب(1/524)
للتسبيح والتَّحميدِ فيه، وفي ذلك حديثٌ مرفوعٌ إلا أنه موضوع.
وأما إضافتُه إلى "مُضَر"، فقيل: لأنَّ مُضَرَ كانت تزيدُ في تعظيمِهِ
واحترامِهِ، فنُسبَ إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعةُ تُحرِّمُ رمضانَ، وتُحرِّمُ مُضَرُ رجبًا، فلذلك سمَّاه رجبَ مُضَرَ، وحقَّق ذلك بقوله: "الذي بين جُمادى وشعبان ".
وذكر بعضُهم أنَّ لشهر رجبٍ أربعةَ عشرَ اسمًا: شهرُ اللَّهِ، ورجبٌ.
ورجبُ مُضَر، ومُنْصِلُ الأسِنَّةِ، والأصمُّ، والأصبُّ، ومُنَفّسٌ، ومُطَهِّرٌ.
ومُعَلَّى، ومقيمٌ، وهرم، ومُقشقشٌ، ومُبرّئٌ، وفرْدٌ، وذكر غيرُه أنَّ له سبعة عشر اسمًا، فزادَ "رجم " بالميم، ومُنْصِل الألَّة، وهي الحربة، ومنزعُ
الأسنَّة.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) ، قال: إنَّما لمْ يقُل: ما كتِبَ علَيْنا"
لأنَّه أمرٌ يتعلقُ بالمؤمنِ، ولا يصيبُ المؤمنُ شيءٌ إلا وهو له، إن كانَ خيرًا
فهو له في العاجلِ، وإن كانَ شرًا فهو ثواب في الآجل.
* * *(1/525)
قوله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
قال اللَّهُ تعالى: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) .
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشتكتِ النارُ إلى ربِّها، فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ سمومُها، وأَشَدُّ ما تجدونَ من البردِ زمهريرُهَا ".
وفي "الصحيحينِ " أيضًا عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "نارُكم هذه التي يوقدُ بنوآدمَ جزء واحدٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ "، قالوا: والله إن كانتْ لكافيةً، قال: "إنها فُضِّلتْ عليها، بتسعة وستينَ جزءًا، كلِّهنَّ مثلُ حرِّهَا"
وخرَّجه الإمامُ أحمدُ وزادَ فيه: "ضربت بالبحرِ مرتينِ، ولولا ذاك ما جعل اللَّهُ فيها منفعة لأحدٍ"، وقد سبقَ من حديثِ أنسٍ نحوُهُ.
وعن عطيةَ العوفيِّ عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "نارُكم هذه جزء من سبعينَ جزءا من نارِ جهنَّم لكلِّ جزء منها مثل حرِّها". خرَّجه الترمذيُّ.
وقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا قتيبةُ، حدثنا عبدُ العزيزِ - هو الدراورديُّ - عن
سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ هذه النارَ جزء من مائةِ جزءٍ من جهنَّمَ ".
وقال ابنُ مسعود: "إنَّ نارَكم هذه ضُرِبَ بها البحرُ ففترتْ، ولولا ذلكَ ما(1/526)
انتفعتم بها، وهي جزء من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ "
وخرَّجه البزَّارُ مرفوعًا والموقوفُ أصحُّ.
وخرَّج الطبرانيُّ من طريقِ تمامِ بنِ نجيحِ عن الحسنِ، عن أنسٍ، عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أن غربًا من جهنَّم، جعلَ في وسطِ الأرض لآذى نتنُ ريحِهِ وشدةُ حرِّه ما بينَ المشرقِ والمغرب، ولو أنَّ شرارَةً من شرارِ جهنَّم بالمشرقِ لوجدَ حرَّها مَن بالمغربِ "
وتمامُ بنُ نجيع تكُلًّمَ فيه.
وخرَّج أيضًا من طريقِ عديِّ بن عدي الكندي عن عمرَ أن جبريلَ قال
للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثكَ بالحقِّ لو أنَّ قدرَ ثقبِ إبرة فُتحَ من جهنَّمَ لمات من في الأرضِ كلُّهم جميعًا من حرِّه.
وقد سبقَ الكلامُ على إسنادِهِ.
ورُوي من وجهٍ ضعيفٍ عن الحسنِ مرسلاً نحوُهُ أيضًا.
وخرَّج أبو يعلى الموصلي من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لوكان في هذا المسجدِ مائةُ ألف أو يزيدونَ، وفيهم رجل من أهلِ النارِ فتنفسَ فأصابَهُم نفسُهُ لأحرقَ من في المسجدِ أو يزيدونَ ".
لكن قالَ الإمامُ أحمدُ: هو حديث منكر.
وقال كعبٌ لعمرَ بنِ الخطابِ: لو فُتحَ من جهنَّم قدرُ منخرِ ثورٍ بالمشرقِ
ورجلٌ بِالمغربِ لغلى دماغُهُ حتى يسيلَ من حرِّهِ.
وقال عبدُ الملكِ بن عميرٍ: لو أنَّ أهل النارِ كانُوا في نارِ الدنيا لقَالُوا فيها.
وقال عبدُ اللَّهِ بن أحمدَ: أُخبرتُ عن سيَّارٍ عن ابنِ المعزى - وكان
من خيارِ الناسِ - قال: بلغني أنَّ رجلاً لو خرجَ منها إلى نارِ الدنيا لنام(1/527)
فيها ألفي سنة.
وقال معاويةُ بنُ صالحٍ عن عبدِ الملكِ بن أبي بشيرِ - يرفعُ الحديثَ: "ما من
يومٍ إلا والنارُ تقولُ: اشتدَّ حرِّي، وبعدَ قعري، وعظُم جمرِي، عَجِّلْ إلهي إليَّ بأهلي ".
وقال ابنُ عيينةَ عن بشيرِ بنِ منصور، قلتُ لعطاء السلميِّ: لو أنَّ إنسانًا
أوقدتْ له نار فقيلَ لهُ: من دخلَ هذه النارَ نجا من النارِ، فقال: عطاءٌ: لو
قيلَ لي ذلك لخشيتُ أن تخرجَ نفسِي فرحًا قبل أن أقعَ فيها.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
وقد ذكر اللَّهُ في كتابِهِ عن الأنبياءِ - عليهمُ السَّلامُ - أنهم نصحُوا لأممِهِم
كما أخبرَ اللَّه بذلكَ عن نوح، وعن صالح، وقال: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) .
يعني: أنَّ منْ تخلَّفَ عن الجهاد لِعذرٍ، فلا حرجَ عليه بشرطِ أن يكونَ
ناصِحًا للَّهِ ورسولِهِ في تخلُّفِهِ، فإنًّ المنافقينَ كانُوا يُظهرُون الأعذارَ كاذبين.
ويتخلَّفونَ عن الجهادِ من غيرِ نصح للَّه ورسولهِ) .
* * *(1/528)
قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
ومنْ أعظم خصالِ النفاقِ العمليِّ: أن يعملَ الإنسانُ عملاً، ويُظهِرُ أنّه
قصدَ به الخيرَ، وإنَّما عملهُ ليتوصَّل به إلى غرضِ له سيِّئ فيتمَّ له ذلك.
ويتوصَّلُ بهذه الخديعة إلى غرضِهِ، ويفرحُ بمكى وخِداعِهِ وحَمدِ النَّاسِ له
على ما أظهرَهُ، وتوصًّل به إلى غرضِهِ السيِّئ الذي أبطنه، وهذا قد حكاهُ
اللَّهُ في القرآنِ عن المنافقينَ واليهودِ، فحكى عن المنافقينَ أنَّهُم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) .
وأنزلَ في اليهودِ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) .
وهذه الآية نزلتْ في اليهودِ، سألهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ فكتمُوه، وأخبرُوه بغيره، فخرجُوا وقد أرَوْه أنهم قد أخبرُوه بما سألَهُم عنه، واستحمدوا بذلكَ، وفرحُوا بما أُوتوا من كتمانِهِم وما سُئِلُوا عنه. قال ذلك ابنُ عباسِ، وحديثُه مخرَّج في "الصحيحينِ ". وفيهما - أيضًا -: عن أبي سعيدٍ أنها نزلت في رجالٍ من المنافقينَ كانُوا إذا خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزوِ تخلَّفوا عنه وفرِحُوا بمقعدِهِم خِلافَهُ، فإذا قدِمَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من الغزوِ اعتذرُوا إليه، وحلفُوا، وأحبُّوا أن يُحمدُوا بما لم يفعلُوا.
* * *(1/529)
سُورَةُ يُونُسَ
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)
وقال اللَّهُ تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) .
فأخبر سبحانه وتعالى أنَّه علق معرفةَ السنينَ والحسابِ على تقديرِ القمرِ
منازلَ.
وقيلَ: بل على جعلِ الشمسِ ضياءً والقمرِ نورًا، لأنَّ حسابَ السنةِ
والشهرِ يُعرَفُ بالقمر، واليومُ والأسبوعُ يُعرفُ بالشمس، وبهما يتمُّ الحسابُ.
وقوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) لمَّا كان الشهرُ الهلاليُّ لا يحتاجُ إلى عَدٍّ لتوفِيَتِهِ بما بين الهلالينِ، لم يقُلْ: لتعلمُوا عددَ الشهورِ.
فإنَّ الشهر لا يحتاجُ إلى عَدِّه إلا إذا غُمَّ آخرُهُ، فيُكَمَّلُ عددُه بالاتفاقِ، إلا في شهرِ شعبانَ إذا غُمَّ آخِرُهُ بالنسبة إلى صومِ رمضانَ خاصَّة، فإنَّ فيه اختلافًا مشهورًا، وأما السَّنةُ فلا بُدَّ من عددِها، إذْ ليس لها حدٌّ ظاهرٌ في السَّماء فيُحتاجُ إلى عددِها بالشهورِ، ولا سيَّما مع تطاولِ السنينِ وتعدُّدِها.(1/530)
وجعل اللَّه السنة اثني عشر شهرًا، كما قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ
اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتَابِ اللَّهِ) ، وذلكَ بعددِ البُروج التي تكمُلُ
بدورِ الشمسِ فيها السنةُ الشمسيَّةُ، فإذا دارَ القمر فيها كلِّها كمُلَتْ دورتُهُ السنويةُ، وإنما جعلَ اللَّهُ الاعتبارَ بدورِ القمرِ، لأنَّ ظهورَهُ في السماءِ لا
بحتاجُ إلى حسابٍ ولا كتاب، بل هو أمرٌ ظاهرٌ يُشاهدُ بالبصرِ، بخلافِ سيرِ
الشمس؛ فإنه تحتاجُ معرفته إلى حساب وكتابٍ، فلم يُحوِجْنا إلى ذلكَ، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتبُ وَّلَا نحسُبُ، الشهرُ هكذا وهكذا وهكذا"
وأشارَ بأصابعِهِ العشْرِ، وخنَسَ إبهامَهُ في الثالثةِ.
"صُومُوا لرؤيتِهِ وأفطِرُوا لرؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم فأكمِلُوا العدَّة"
وإنما علَّق اللَهُ تعالى على الشمس أحكامَ اليومِ من الصَّلاةِ والصِّيام، حيثُ كان ذلك أيضًا مشاهدًا بالبصرِ لا يحتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ، فالصلاةُ تتعلَّقُ بطلوع الفجر، وطلوع الشمسِ، وزوالها وغروبِها، ومصيرِ ظلِّ الشيء مثله. وغروبِ الشفقِ، والصيامُ يتوقَّتُ بمدة النهارِ من طلوع الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ.
وقوله تعالى: (وَالْحِسَابَ) ، يعني بالحسابِ: حسابَ ما يحتاج إليه النَّاسُ
من مصالح دينهم ودنياهم، كصيامِهِم، وفطرِهِم، وحجِّهم، وزكاتِهِم.
ونذورِهِم، وكفَّاراتِهِم، وعِددِ نسائِهم، ومُدَد إيلائِهم، ومُدَدِ إجاراتِهِم.
وحُلول آجال دُيونهم، وغير ذلك ممَّا يتوقَّتُ بالشهورِ والسنينَ.
وقد قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ، فأخبر أنَّ الأهلَّةَ مواقيتُ للناسِ عمومًا، وخصَّ الحجَّ من بينِ ما(1/531)
يُوقَّتُ به، للاهتمامِ به، وجعلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى في كلِّ يومٍ وليلةٍ لعباده
المؤمنينَ وظائفَ مُوظَّفةً عليهم من وظائفِ طاعتِهِ، فمنها ما هو مفترضٌ
كالصلواتِ الخمسِ. ومنها ما يُنْدَبون إليهِ من غير افتراضٍ، كنوافلِ الصلاةِ
والذكر وغير ذلك.
وجعلَ في شهورِ الأهلَّةِ وظائفَ مُوَظَّفةً أيضًا على عبادِهِ كالصّيامِ.
والزَّكاةِ، والحجِّ، ومنه فرْضٌ مفروضٌ عليهم، كصيام رمضان، وحجَّةِ
الإسلامِ، ومنه ما هوَ مندوبٌ، كصيامِ شعبانَ، وشوالٍ، والأشهرِ الحُرُمِ.
وجعلَ اللَهُ سبحانه لبعضِ الشهورِ فضلاً على بعض، كما قال تعالى:
(مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
وقال اللَّهُ تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلومَاتٌ) .
وقال اللَهُ تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) .
كما جعلَ بعضَ الأيام والليالي أفضلَ من بعض، وجعلَ ليلةَ القدْرِ خيرًا
من ألفِ شهرٍ، وأقسَمَ بالعشْرِ، وهو عشْرُ ذي الحجَّةِ على الصحيح، كما
سنذكرُهُ في موضعهِ إن شاء اللَّهُ تعالى.
وما من هذه المواسم الفاضلةُ موسمٌ إلا وللَّهِ تعالى فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتِهِ، يتقرَّبُ بها إليه، وللَّهِ فيه لطيفةٌ من لطائفِ نفحاتِهِ، يُصيبُ بها من يعودُ بفضلِهِ ورحمتِهِ عليه، فالسعيدُ من اغتنمَ مواسمَ الشهورِ والأيامِ والسَّاعاتِ، وتقرَّبَ فيها إلى مولاهُ بما فيها من وظائفِ الطَّاعاتِ، فعسى أن تصيبَهُ نفْحةٌ من تلكَ النَّفحاتِ، فيسعدُ بها سعادةً يأمَنُ بعدَها من النَّارِ وما فيه من اللَّفَحَاتِ.
وقد خرَّج ابنُ أبي الدنيا والطَّبرانيُّ وغيرُهما، من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -(1/532)
مرفوعًا: "اطلبُوا الخيرَ دَهْرَكُم كُلَّهُ، وتعرَّضُوا لنَفَحاتِ رحمةِ ربّكم، فإنَّ للَّه نفحاتٍ من رحمته يصيبُ به من يشاءُ من عبادِهِ، وسلُوا اللَّهَ أنْ يستُرَ عوراتِكُم ويُؤمِّنَ روعاتِكُم ".
وفي روايةٍ للطبرانيِّ من حديثِ محمدِ بنِ مسلمةَ مرفوعًا:
"إنَّ للَّهِ في أيام الدَّهر نفحات فتعرَّضُوا لها، فلعلَّ أحدَكُم أن تصيبَه نفحة فلا يَشْقى بعدها أبدًا"
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن عقبةَ بنِ عامرٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ليس من عملِ يومِ إلا يُختمُ عليه "
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن مجاهدٍ.
قال: ما من يومٍ إلا يقولُ: ابنَ آدم، قد دخلْتُ عليك اليومَ ولن أرجِعَ إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل فيَّ؛ فإذا انقضى طواهُ، ثم يُختم عليه فلا يفك حتى يكون اللَّه هو الذي يفُضُّ ذلك الخاتمَ يومَ القيامة، ويقول اليومُ حينِ ينقضي: الحمدُ للَّهِ الذي أراحني من الدنيا وأهلِها، ولا ليلةً تدخلُ على
الناسِ إلا قالتْ كذلكَ.
وبإسنادِهِ عن مالكِ بنِ دينارٍ، قالَ: كان عيسى - عليه السلامُ -، يقولُ: إنَّ هذا الليلَ والنَّهارَ خِزانتان، فانظرُوا ما تضعونَ فيهما، وكان يقولُ: اعملُوا اللَّيلَ لما خُلِقَ له، واعْملُوا النهَّارَ لما خُلِقَ له.
وعن الحسنِ، قال: ليس يومٌ يأتي من أيامِ الدنيا إلا يتكلَّم، يقولُ: يا أيها الناسُ، إنِّي يومٌ جديدٌ، وإني على ما يعمل فيَّ شهيدٌ، وإني لو قد غربَتِ الشمسُ، لم أرجع إليكم إلى يوم القيامةِ. وعنه أنه كانَ يقولُ: يا ابنَ آدم، اليومُ ضيفُك، والضيفُ مرتحلٌ، يحمدُك أو يذمُّكَ، وكذلك ليلتُك. وبإسنادِهِ عن بكرٍ المزنيِّ، أنه قالَ: ما من(1/533)
يومٍ أخرَّجَه اللَّهُ إلى أهلِ الدنيا إلا يُنادِي: ابنَ آدمَ، اغتنمني، لعلَّه لا يومَ
لك بعدِي، ولا ليلةَ إلا تنادي: ابنَ آدمَ، اغتنمنِي، لعلَّه لا ليلةَ لك بعدِي، وعن عُمر بنِ ذَرٍّ أنه كانَ يقول: اعملوا لأنفسكم رحمكمُ الله في هذا الليلِ
وسوادِهِ، فإنَّ المغبُونَ منْ غُبِنَ خيرَ اللَّيلِ والنَّهارِ، والمحرومَ منْ حُرمَ خيرَهما.
إنَّما جُعِلا سبيلاً للمؤمنينَ إلى طاعةِ ربِّهم، ووبالاً على الآخرين للغَفْلة عن
أنفسِهِم، فأحيُوا للَّهِ أنفسكُم بذكر، فإنَّما تحيا القلوبُ بذكرِ اللَّه عزَّ وجلَّ.
عن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "مثلُ الذي يذكرُ ربَّهُ والذي لا يذكرُ ربَّه، مثلُ الحيِّ والميِّتِ ".
كم من قائم للَّه في هذا الليل قد اغْتبَطَ بقيامِهِ في ظُلمة حُفرتِهِ، وكم من
نائم في هذا الليلِ قد ندِم عَلى طُول نومِهِ، عندما يرى من كرامةِ اللَّه عزَّ
وجلَّ للعابدينَ غدًا. فاغتنمُوا ممرَّ السَّاعاتِ والليالي والأيامِ، رحمكم اللَّهُ.
وعن داودَ الطائيِّ أنَّه قال: إنَّما اللَّيلُ والنَّهارُ مراحلُ، ينزلُها الناسُ مرْحلةً
مرْحلةً، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعتَ أن تُقدِّمَ في
كلِّ مرْحلةٍ زادًا لما بين يديْها فافْعَلْ، فإنَّ انقطاعَ السفرِ عن قريبٍ ما هو.
والأمرُ أعجلُ من ذلكَ.
فتزوَّدْ لسفرِكَ واقضِ ما أنتَ قاضٍ من أمركَ فكأنَّك بالأمرِ قد بغَتَكَ.
قال ابنُ أبي الدنيا: وأنشدنا محمودُ بن الحسين:
مضى أمسُك الماضِي شهيدًا مُعدَّلاً. . . وأعقبَهُ يومٌ عليك جديدُ
فيومُك إن أغنيتَهُ عادَ نفعُهُ. . . عليكَ وماضي الأمسِ ليس يعودُ(1/534)
فإنْ كُنت بالأمسِ اقْترفْتَ إساءةً. . . فثن بإحْسان وأنت حميدُ
فلا تُرْج فعلَ الخيرِ يومًا إلى غد. . . لعل غدًا يأتي وأنتَ فقيدُ
وفي "تفسيرِ عبدِ بنِ حُميدٍ" وغيرِه من التفاسيرِ المسندةِ عن الحسنِ في قولِ
اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) .
قال: منْ عجزَ بالليل كان له في أولِ النهارِ مُسْتَعْتبٌ.
ومنْ عجزَ عن النَهارِ، كان له في الليل مستعتبٌ.
وعن قتادةَ قال: إنَّ المؤمن قد ينسى بالليل ويذكُرُ بالنهارِ، وينسى النهار ويذكرُ بالليلِ.
قال: وجاء رجلٌ إلى سلْمان الفارسي، قال: إني لا أستطيع قيامَ الليل.
قال له: فلا تعجِزْ بالنَهارِ.
قال قتادةُ: فأدُّوا إلى اللَّه من أعمالِكُم خيرًا في هذا الليلِ والنَّهارِ.
فإنَّهما مطيَّتانِ تُقْحمانِ الناسَ إلى آجالِهِم، يقرِّبان كلَّ بعيد، ويُبْليان كُلَّ
جديدٍ، ويجيئانِ بكلِّ موعودٍ، إلى يومِ القيامةِ. َ
* * *
وأمَّا الصبرُ، فإنه ضياءٌ، والضياءُ: هو النورُ الذي يحصلُ فيه نوعُ حرارةٍ
وإشراقٍ كضياءِ الشمسِ بخلافِ القمرِ، فإنَه نور محضٌ، فيه إشراقٌ بغيرِ
إحراقٍ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) .
ومن هنا وصفَ اللَهُ شريعة موسى بأنها ضياءٌ، كما قال:
(وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَقِينَ) ، وإن كان قد ذكرَ أن في التوراةِ نورًا، كما قال: (إِنَا أَنزَلْنَا التَوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) .
لكن الغالبَ على شريعتِهِم الضياءُ لما فيه منَ الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ.(1/535)
ووصفَ شريعةَ محمَدٍ - صلى الله عليه وسلم - بأنها نور لما فيها من الحنيفيَّةِ السمحةِ، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكم مِّنَ اللهِ نور وَكتَابٌ مُبِينٌ) .
وقال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) .
ولما كان الصبرُ شاقًا على النفوسِ، يحتاجُ إلى مجاهدةِ النفسِ، وحبسِها.
وكفِّها عمَّا تهواهُ، كان ضِياءً، فإنَّ معنى الصَّبرِ في اللغةِ: الحبسُ، ومنه: قتْلُ الصبرِ؛ وهو أن يُحبَسَ الرَّجلُ حتى يقتل.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
وانقسم بنو آدمَ في الدنيا إلى قسمينِ:
أحدهما: من أنكرَ أن يكونَ للعبادِ بعدَ الدَّنيا دار للثوابِ والعقابِ، وهؤلاءِ
هم الذين قال اللَّهُ فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) .(1/536)
وهؤلاءِ همُّهمُ التمتُع بالدنيا، واغتنامُ لذاتها قبلَ الموتِ، كما قال
اللَّهُ تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَروا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَاْكلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثوًى لَّهمْ) .
ومن هؤلاءِ منْ كانَ يأمرُ بالزُّهد في الدنيا، لأنَّه يرى أنَّ
الاستكثارَ منها يُوجِبُ الهمَّ والغمَّ، ويقولُ: كلَّما كثُرَ التعلُّقُ بها تألَّمتِ
النَّفسُ بمفارقتِها عندَ الموتِ، فكان هذا غايةَ زُهدهم في الدنيا.
والقسم الثاني: من يُقِرُّ بدارٍ بعد الموتِ للثوابِ والعقابِ، وهم المنتسبونَ إلى
شرائع المرسلينَ، وهم منقسمونَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: ظالمٌ لنفسِهِ، ومقتصدٌ.
وسابق بالخيراتِ بإذنِ اللهِ.
فالظالم لنفسهِ: هم الأكثرونَ منهُم، وأكثرُهم وقفَ مع زهرةِ الدنيا
وزينتِها، فأخذَها من غيرِ وجهِها، واستعمَلَها في غيرِ وجهِهَا، وصارتِ الدنيا أكبرَ همِّه، لها يغضبُ، وبها يرضَى، ولها يُوالي، وعليها يُعادِي، وهؤلاءِ هم أهلُ اللَّهوِ واللَّعبِ والزِّينةِ والتَّفاخرِ والتَّكاثرِ، وكلُّهم لم يعرفِ المقصودَ من الدنيا ولا أنها منزلُ سفرٍ يتزوَّدُ منها لما بعدَها منْ دارِ الإقامةِ، وإن كانَ أحدُهم يؤمن بذلك إيمانًا مجمَلاً فهُوَ لا يعرفُه مفصَّلاً، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرفة باللَّهِ في الدَّنيا ممَّا هو أنموذجُ ما ادَّخرَ لهم في الآخرة.
والمقتصدُ منهم: أخذَ الدنيا منْ وجوهِهَا المباحةِ، وأدَّى واجباتِهَا، وأمسَكَ
لنفسِهِ الزَّائدَ على الواجبِ يتوسَّعُ به في التمتع بشهواتِ الدنيا، وهؤلاءِ قد
اختُلفَ في دخولِهِم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكرُهُ، ولا عقابَ
عليهم في ذلكَ، إلا أنه ينقصُ من درجاتِهِم من الآخرةِ بقدرِ توسُّعهم في
الدنيا.(1/537)
قال ابنُ عمرَ: لا يصيبُ عبدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقصَ من درجاتِهِ عندَ
اللهِ، وإن كان عليه كريمًا.
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيدٍ.
وروي مرفوعًا من حديثِ عائشةَ بإسنادٍ فيه نظر.
وروى الإمامُ أحمدُ في كتابِ "الزهدِ" بإسنادِهِ: أنَّ رجلاً دخل عَلى معاويةَ
فكساهُ، فخرجَ فمر على أبي مسعود الأنصاريَ ورجلٍ آخرَ من الصَّحابةِ.
فقالَ أحدُهُما له: خذها منْ حسناتِك، وقال الآخرُ: من طيِّباتِك.
وبإسنادِهِ عن عمرَ قال: لولا أن تنقصَ حسناتِي لخالطتكم في لِين
عَيْشِكُم، ولكنِّي سمعتُ اللَّهَ عيَرَ قومًا فقال: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُم
الدُّنْيَا) .
وقال الفُضيلُ بنُ عياضٍ: إن شئتَ استقلَّ من الدُّنيا، وإن شئتَ استكثرْ
منها، فإنَّما تأخُذُ من كِيسكَ.
ويشهد لهذا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حرَّم عَلى عبادِهِ أشياءَ من فضولِ شهواتِ
الدنيا وزينتِهَا وبهجتِهَا، حيثُ لم يكونُوا محتاجينَ إليه، وادَّخره لهم عندَهُ في
الآخرةِ، وقد وقعتِ الإشارةُ إلى هذا بقولِهِ عزَّ وجلًّ: (وَلَوْلا أَن يَكونَ النَّاس
أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ) إلى قولِهِْ
(وإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) .
وصحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "منْ لَبِسَ الحريرَ في الدُّنيا لم يلبسْه في الآخرةِ".
ومن شرِبَ الخمرَ في الدنيا لم يشربْها في الآخرةِ"،(1/538)
وقال: " لا تلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضَّةِ، ولا تأكلُوا في صحافِها، فإنَّها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرةِ".
وقال وهبٌ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قال لموسى - عليه السلامُ -: إنِّي لأذودُ
أوليائِي عن نعيم الدُّنيا ورخائِها كما يذودُ الرَّاعِي الشفيقُ إبِلَه عن مباركِ
العُرَّةِ، وما ذلكَ لهوانِهِم عليَّ، ولكن ليستكملُوا نصيبَهُم من كرامتِي سالمًا
موفرًا لم تكْلَمْهُ الدنيا.
ويشهد لهذا ما خرَّجه الترمذيُّ عن قتادةَ بنِ النُّعمانِ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن اللَّهَ إذا أحبَّ عبدًا حماهُ الدَّنيا، كما يَظَلُّ أحدُكُم يحمي سقيمَه الماءَ".
وخرَّجه الحاكمُ، ولفظُهُ: "إنَّ الله ليحمي عبدَهُ الدُّنيا وهو يحبُّه، كما تحمُونَ
مريضَكم الطعامَ والشرابَ، تخافونَ عليه ".
وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الدنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الكافرِ".
وأمَّا السَّابقُ بالخيراتِ بإذنِ اللَّهِ: فهم الذين فهِمُوا المرادَ من الدنيا، وعمِلُوا
بمقتضى ذلكَ، فعلِمُوا أنَّ اللَّهَ إنَّما أسكَنَ عبادَهُ في هذه الدَّارِ، ليبلُوهم أيُّهم
أحسنُ عملاً، كما قال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ،(1/539)
وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) .
قال بعضُ السلفِ: أيهم أزهدُ في الدنيا، وأرغبُ في الآخرةِ، وجعل ما
في الدنيا من البهجةِ والنُضرةِ محنةً لينظر من يقفُ منهم معه، ويرْكَنُ إليه.
ومن ليسَ كذلك، كما قال تعالى: (إِئا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، ثمَّ بيّن انقطاعَهُ ونفادَهُ، فقال: (وَإِنَّا لَجَاعِلونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا) ، فلمَّا فهِمُوا أنَّ هذا هو المقصودُ من الدنيا، جعلُوا
همَّهم التزودَ منها للآخرةِ التي هي دارُ القرارِ، واكتفُوا منَ الدنيا بما يكتفِي به
المسافرُ في سفر، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثلُ الدُّنيا كرَاكبٍ قالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وترَكها".
ووصَّى - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الصحابةِ أن يكونَ بلاغُ أحدِهم من الدنيا كزادِ الراكبِ، منهم: سلمانُ، وأبو عُبيدةَ بنُ الجراح، وأبو ذرٍّ، وعائشةُ، ووصَّى ابنَ عمرَ أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وأن يعُدَ نفسَهُ من أهلِ القبورِ.
* * *
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا:
"وأسألُك لذة النظرِ إلى وجهِكَ والشوقَ إلى لقاتِكَ من غيرِ
ضراءَ مضرة ولا فتنة مضلة".(1/540)
فهذا يشتملُ على أعْلَى نعيم المؤمنِ في الدنيا والآخرةِ، وأطيبِ عيشٍ لهم
في الدارين.
فأمَّا لذَّةُ النظرِ إلى وجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: فإنَّه أعْلَى نعيم أهلِ الجنةِ، وأعظمُ
لذَّة لهم، كما في "صحيح مسلم " عن صُهيبٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادى المُنادي: يا أهلَ الجنةِ إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يُريد أن يُنجزَهُ، فيقولونَ: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهَنا ألمْ يثقلْ موازيننَا ألم يُدخِلنا الجنةَ ألم يُجِرْنَا من النارِ؟
قال: فيكشفُ الحجابَ فينظرونَ إليه، فوالله ما أعطاهُم شيئا هو أحبُّ إليهِم من النظرِ إليه، وهو الزيادةُ"، ثم تلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .
وفي رواية لابن ماجة وغيرِه، في هذا الحديث: "فوالله ما أعطاهُم شيئًا هو
أحبُّ إليهِم ولا أقر لأعينِهِم من النظرِ إليهِ ".
وخرَّج عثمانُ الدارمي، من حديثِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا:
"إنَّ أهلَ الجنةِ إذا بلغَ بهم النَّعيمُ كلَّ مبلغٍ فظنوا أنَّه لا نعيمَ أفضلَ منه، تجلَّى الربُّ تباركَ وتعالى عليهم، فينظرونَ إلى وجهِ الرحمن، فنسُوا كلَّ نعيم عاينُوه حين نظرُوا إلى وجهِ الرحمن ".
وخرَّجه الدارقطنيُّ بنقصان منه وزيادة، وفيه: "فيقولُ:
"يا أهل الجنةِ هلِّلوني وكبِّرونِي وسبِّحُوني، كما كنتُم تُهلِّلُوني وتكبرونِي وتسبِّحُوني في دارِ الدنيا، فيتجاوبونَ بتهليلِ الرحمنِ، فيقولُ اللَهُ تبارك وتعالى لداودَ عليه السلامُ: يا داودُ مجّدْني فيقومُ داودُ فيمجدُ ربَّه عزَّ وجلَّ ".(1/541)
وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن جابرٍ، مرفوعًا: "بينا أهلُ الجنةِ في نعيمِهِم إذْ سطَعَ
لهم نور فإذا الربُّ جلَّ جلالُه قدْ أشرفَ عليهم، فقالَ: السلامُ عليكُم يا أهلَ الجنةِ، وهو قولُهُ تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) .
فلا يلتفتونَ إلى شيءٍ مما هُم فيه من النعيم ما دامُوا ينظرونَ إليه ".
وخرَّج البيهقيُّ من حديثِ جابرٍ، مرفوعًا:
"إنَ أهلَ الجنةِ يزورونَ - ربَّهم تعالى على نجائبَ من ياقوت أحمرَ أزمَّتها منْ زُمُردٍ أخضرَ، فيأمرُ اللَّهُ بكُثبانٍ من مسكٍ أذفرَ أبيضَ فتُثيرُ عليها ريحًا يقال لها: المثيرةُ، حتى تنتهِي بهِم إلى جنةِ عدنٍ وهي قصبة الجنةِ، فتقولُ الملائكةُ: ربَّنا جاء القومُ، فيقولُ: مرحبًا بالصادقينَ مرحبًا بالطائعينَ، قال:
فيكشفُ لهم الحجابُ، فنيظرونَ إليه ويتمتَّعونَ بنورِهِ حتَى لا يُبصرُ بعضُهم بعضًا ثم يقولُ: ارجعُوا إلى القُصورِ بالتحفِ، فيرجعونَ وقد أبصرَ بعضُهم بعضًا، فذلكَ قولُهُ تعالى: (نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رحِيمٍ) ".
وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ حذيفةَ مرفُوعًا في حديثِ يومِ المزيدِ:
"أنَّ اللهَ يكشفُ تلكَ الحُجُبَ ويتجلَّى لهُم، فيغشَاهُم من نورِه ما لولا أنَ اللَّه تَعالى قضى أنْ لا يحترقوا لاحترقُوا، ومِمَّا غشيَهُم من نور، فيرجعونَ إلى منازِلِهم وقد خفوا على أزواجِهِم ما غشيَهُم من نورِهِ، فإذا صارُوا إلى منازِلهِم تراد النورُ وأمكن وتراد وأمكن، حتى يرجعوا إلى صُورِهِم التي كانُوا عليْهَا".
ويُروى من حديثِ أنسٍ، مرفوعًا:
"إنَّ اللَّهَ يقولُ لأهلِ الجنةِ إذا استزارهم وتجلَّى لهُم: سلامٌ عليكُم يا عبادِي، انظرُوا إليَّ فقدْ رضيتُ عنكُم، فيقولونَ: سبحانَك(1/542)
سبحانَك، فتتصدعُ له مدائنُ الجنةِ وقصورُها ويتجاوبُ فصولُ شجرِها، وأنهارِها وجميع ما فيها: سبحانك سبحانك، فاحتقرُوا الجنَّةَ وجميعَ ما فيها، حين نظرُوا إلى وجهِ اللَّهِ تعالى".
ويُروى من حديثِ عليٍّ، مرفوعًا: "إنَّ اللَّهَ يتجلَّى لأهلِ الجنةِ عن وجهِهِ.
فكأنَّهُم لم يروا نعمةً قبلَ ذلك، وهو قولُه: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ".
ويُروى من حديثِ أبي جعفرٍ مُرسلاً: "إنَّ أهلَ الجنةِ إذا زارُوا ربَّهم تعالى
وكشفَ لهم عن وجهِهِ، قالُوا: ربَّنا أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ وبكَ حقُّ الجلالِ والإكرام، فيقولُ تعالى: مرحبًا بعبادِي الذين حفظوا وصيَّثتي ورَاعُوا عهدِي وخافُوني بالغيبِ، وكانُوا منِّي على كلِّ حال مُشفقينَ.
فقالُوا: وعزَّتِكَ، وعظمتِكَ وجلالِكَ ما قدرْنَاكَ حقَّ قدرِكَ، وما أدَّيْنا إليكَ كلَّ حقِّكَ، فأذنْ لنا بالسجودِ لك، فيقول لهُم عزَّ وجلَّ: إنِّي قد وضعتُ عنكُم مؤنةَ العبادةِ، وأرحتُ لكُم أبدانَكُم، فطالمَا أنصبتُم لي
الأبدانَ، وأعنيتم الوجوهَ، فالآنَ أفضيتُم إلى رَوحِي ورحمتِي وكرامتِي، فسلُونِي ما شئتُم وتمنَّوا عليَّ أُعطِكُم أمانيكُم، فإني لم أجزْكُمُ اليومَ بقدرِ أعمالِكُم، ولكن بقدرِ رحمتِي وكرامتِي، فما يزالونَ في الأمانيِّ والعطايا والمواهبِ، حتى إنَّ المقصّرَ منهم في أُمْنِيَّتِهِ ليتمنَّى مثلَ جميع الدنيا منذ خَلقَهَا اللَّهُ إلى أنْ أفناها، فيقولُ لهم الربُّ تباركَ وتعالى:
لقد قصَّرتم في أمانيِّكُم ورضيتُم بدونِ ما يحقُّ لكُم، فقد أوجبتُ لكم ما سألتُم وتمنيتُم، وألحقتُ بكم ذريتَكُم وزِدتُكُم ما قصرَتْ عنه أمانيُّكُم ".
قال عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلى: إذا تجلَّى لهم ربُّهم لا يكونُ ما أعطوا عند
ذلك بشيءٍ.(1/543)
قال الحسنُ: إذا تجلَّى لأهلِ الجنةِ نسوا كلَّ نعيم الجنَّةِ.
وكان يقولُ: لو علمَ العابدونَ أنَّهم لا يرونَ ربَّهم في الآخرةِ لماتَوا.
وقال: إنَّ أحباءَ اللَّهِ هم الذينَ ورِثُوا طيبَ الحياةِ وذاقُوا نعيمَها بما وصلُوا
إليه من مُناجاةِ حبيبِهِم، وبما وجدُوا من حلاوةِ حبّه في قلوبِهِم، لا سيما إذا
خطر على بالِهِم ذكرُ مشافهتِهِ، وكشفُ ستورِ الحُجُبِ عنه في المقامِ الأمينِ
والسرورِ، وأراهُم جلالَهُ وأسمعَهُم لذَّةَ كلامِهِ ورد جواب ما ناجوه به أيامَ
حياتِهِم:
أملِي أن أراك يومًا من الدهرِ. . . فأشكُو لكَ الهوى والغلِيلا
وأناجيكَ من قربٍ وأُبْدِي. . . هذا الجَوى وهذا النُّحُولا
قال وهبٌ: لو خُيِّرتُ بين الرؤيةِ والجنةِ لاخترتُ الرؤيةَ.
رؤي بِشرٌ في المنامِ، فسُئلَ عن حالِهِ وحالِ إخوانِهِ، فقالَ: تركتُ فلانًا
وفلانًا ما بين يدي اللَّه يأكلانِ ويشربانِ ويتنعَّمانِ، قيل له: فأنتَ.
قال: علِمَ قلَّةَ رغبتِي في الطعامِ وأباحَنِي النظرَ إليه.
يا حبيبَ القلوبِ ما لي سواكَ ارحم اليومَ مذنبًا قد أتاكَا
أنتَ سُؤْلِي ومنيتِي وسُرورِي. . . طالَ شوقِي متى يكونُ لقاكَا
ليس سُؤْلِي من الجنانِ نعيمٌ. . . غيرَ أني أريدُهَا لأراكَا
قال ذو النونِ: ما طابتِ الدنيا إلا بذكره، ولا طابتِ الآخرةُ إلا بعفوه.
ولا طابتِ الجنةُ إلا برؤيتِهِ، ولو أنَّ اللَّه احتجبَ عن أهلِ الجنةِ لاستغاث أهلُ
الجنةِ من الجنةِ كما يستغيثُ أهلُ النارِ من النارِ.(1/544)
كان بعضُ الصالحينَ، يقولُ: ليت ربِّي جعلَ ثوابي من عمَلِي نظرةً إليه ثم
يقولُ: كُنْ تُرابًا.
كان عليٌّ بنُ الموفقِ، يقولُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنتَ تعلمُ أنِّي أعبدُكَ خوفًا من نارِكَ
فعذِّبْني بها، وإنْ كنتَ تعلمُ أنَي أعبدُكَ حبًّا لجنَّتِكَ فاحرمْنِيها، وإنْ كنتَ
تعلمُ أنَّما عبدتُك حبًّا مِنِّي لكَ وشوقًا إلى وجهِكِ الكريمِ فأبحنيهِ واصنعْ بي
ما شئتَ.
سمعَ بعضُهم قائلاً يقولُ:
كبُرت همة عبدٍ طمعتْ في أنْ تراكَا. . . أو ما حسبتَ أنْ ترى من رأكَا
ثم شهق شهقةً فماتَ.
لما غلبَ الشوقُ على قلوبِ المُحبِّينَ استروحُوا إلى مثل هذه الكلماتِ، وما
تُخفِي صدُورُهم أكبرُ.
تجاسرتُ فكاشفْتُكَ لمَّا غلبَ الصبرُ. . . فإنْ عنفني الناسُ ففي وجهِكَ لي عذرُ
أبصارُ المُحبين قد غضَّت من الدنيا والآخرةِ، فلم تفتح إلا عند مشاهدةِ
محبوبِهِم يومَ المزيدِ.
أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي. . . بحبِّك أنْ يحل به سواكَا
فلو أنِّي استطعتُ غضضتُ طَرْفِي. . . فلم أنظرْ به حتَّى أراكَا
أحبُّكَ لاببعضِي بلْ بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّكَ لي حِرَاكَا
وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعِي معي اشترَاكَا
إذا اشتبكتْ دموعِي في خدودِي. . . تبيَّن من بكَى ممَّن تباكَا
فأمَّا من بكَى فيذوبَ وجْدًا. . . وينطقُ بالهوى من قد تشَاكَا(1/545)
كان سُمنونُ المُحبُّ يُنشدُ:
وكان فؤادِي خاليًا قبل حُبكُمُ. . . وكان بذكرِ الخلقِ يلهُو ويمرحُ
فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابَهُ. . . فلستُ أراهُ عن فِنائِكَ يبرحُ
رُميت ببعدٍ عنكَ إنْ كنتُ كاذبًا. . . وإن كنتُ في الدنيا بغيرِك أفرحُ
وإنْ كان شيءٌ بالبلادِ بأسرِهَا. . . إذا غبتَ عن عينِي لعيني يملحُ
فإنْ شئَتَ واصِلْني وإنْ شئت لا تصِل. . . فلستُ أرى قلبِي لغيرِكَ يصلُح
* * *(1/546)
سُورَةُ هُودٍ
قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
وخرَّج البخاريُّ في "تفسيره" عن ابنِ عباس: في قولِهِ تعالى.
(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) : إنها نزلت فَي قومٍ كانُوا يجامعونَ
نساءَهم، ويتخلون، فيستحيونَ من اللَّهِ، فنزلتِ الآيةُ.
وكان الصِّدِّيقُ يقولُ: استحيُوا من اللَّهِ، فإني أذهبُ إلى الغائط فأظلُّ
متقنعًا بثوبي حياءً من ربي عزَّ وجلَّ.
وكان أبو موسى إذا اغتسلَ في بيتٍ مظلم، لا يقيمُ صُلْبَه، حياءً من اللَّهِ
عزَّ وجل.
قال بعضُ السلفِ: خَفِ اللهَ على قدرِ قدرتِهِ عليكَ، واسْتَح منه على قدر
قُربه منك.
وقد يتولدُ الحياءُ من اللَّهِ من مطالعةِ النِّعَم، فيستحيي العبدُ من اللَّهِ أنْ
يستعينَ بنعمتِهِ على معاصِيه، فهذا كلُّه من أعْلى خصالِ الإيمانِ.
* * *(1/547)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرةَ لمَّا سأله: ممَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟
فقال لهُ: "من الماءِ"، يدُل على أن الماءَ أصلُ جميع المخلوقاتِ ومادّتها.
وجميعُ المخلوقاتِ خُلِقَتْ منه.
وفي "المسندِ" من وجهٍ آخرَ عن أبي هريرةَ رضي اللَّهُ عنه، قالَ: قلْتُ:
يا رسول اللهِ، إذا رأيتُك طابَتْ نفسِي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيءٍ.
فقال: "كُل شيء خُلِقَ من ماء".
وقد حكى ابنُ جريرٍ وغيرُه، عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -، وطائفةٍ من السَّلفِ: أنَّ أوَلَ المخلوقاتِ الماءُ.
وروى الجُوزَجانيُّ بإسنادِهِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو أنَه سئلَ عن بدءِ الخلْقِ.
فقال: من ترابٍ، وماءٍ، وطينٍ، ومن نارٍ، وظلمةٍ.
فقيل له: فما بدءُ الخلْقِ الذي ذكرْتَ؟
قال: مِن ماءٍ يَنْبُوع.
وقد أخبرَ اللَّهُ تعالى في كتابِهِ أنَّ الماءَ كان موجودًا قبلَ خلْقِ السماواتِ
والأرضِ، فقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) .
وفي "صحيح البخاريِّ " عن عِمْرانَ بنِ حُصين، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"كانَ اللهُ ولم يكنْ شيء قبلَهُ - وفي رواية - "معه "، (وكان عرشُهُ على الماءِ، وكتبَ في الذكرِ كلَّ شيء ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ".(1/548)
وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَّ اللَّه قدَّرَ مقاديرَ الخلاِئقِ قبْلَ أن يخلقَ السماوات والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنة، وكان عرشُهُ على الماءِ". َ
وروى ابنُ جريرٍ، وغيرُه عن ابنِ عباسٍ: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ كان عرشُهُ على
الماءِ ولم يخلقْ شيئًا غيرَ ما خلقَ قبلَ الماءِ، فلمَّا أرادَ أنْ يخلُقَ الخلْقَ أخرجَ
من الماءِ دُخانًا فارتفعَ فوقَ الماءِ، فسمَا عليه فسُمِّيَ سماءً، ثمَّ أيبسَ الماءَ
فجعلَهُ أرضًا واحدةً، ثم فتقَها فجعلهَا سبْعَ أرضينَ، ثم اسْتَوى إلى السَّماءِ
وهي دُخانٌ، وكان ذلك الدُّخانُ من نفَسِ الماءِ حين تنفَّسَ، ثم جعلَها سماءً
واحدةً، ثم فتقها فجعلَها سبع سماواتٍ.
وعن وهْبٍ: إنَّ العرشَ كان قبل أن تُخلقَ السماواتُ والأرضُ على الماءِ.
فلمَّا أراد اللَّهُ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ قبضَ من صفاءِ الماء قبضةً، ثم
فتح القبضةَ فارتفعَتْ دُخانًا، ثم قضاهُنَّ سبْعَ سمواتٍ في يومينِ، ثم أخذَ
طينةً من الماءِ فوضعها في مكانِ البيت، ثم دحا الأرص منها.
وقال بعضُهم: خلقَ اللَّهُ الأرضَ أولاً، ثم خلقَ السماءَ، ثم دحا الأرضَ
بعدَ أن خلقَ السماءَ. وقيل: خلقَ اللَّهُ تعالى زمردةً خضراءَ كغلظِ السماواتِ والأرضِ، ثم نظرَ إليها نظرَ العظمةِ، فانْماعَتْ، يعني ذابتْ فصارتْ ماءً، فمن ثمَّ يُرى الماءُ دائمًا يتحرَّك من تلكَ الهيبةِ.
ثم إنَّ اللَّهَ تعالى رفعَ من البحرِ بخارًا، وهو الدُّخانِ الذي ذكره في قولِهِ:
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) ، فخلقَ السماءَ من الدُّخان،(1/549)
وخلقَ الأرضَ من الماءِ، والجبالَ من موج الماء، وقال وهْب: أوَّلُ ما خلقَ
اللهُ تعالى مكانًا مظلِمًا، ثم خلقَ جوهرةً فأضاَءتْ ذلكَ المكانَ، ثم نظر إلى
الجوهرةِ نظرةَ الهيبةِ فصارتْ ماءً، فارتفعَ بخارُها وزَبَدُها، فخلقَ من البخارِ
السماواتِ، ومن الزبدِ الأرضينَ.
وروى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"إن اللَّهَ عزَّ وجلَّ خلقَ خلقَهُ من ظُلمَة، ثم ألقى عليهِم من نور، فمن أصابَهُ يومئذ من ذلكَ النُّورِ اهْتَدَى، ومن أخطأهُ ضلَّ ".
وقال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - لكعبِ الأحبارِ: ما أوَّلُ شيءٍ ابتدأَ تعالى من خلقِهِ؟
قال كعبٌ: كتبَ اللَّهُ كتابًا لم يكتبْه قلمٌ ولا دواة، أي مداد، كتابَهُ
الزَّبرجدُ واللؤلؤ والياقوتُ: إنني أنا اللَّهُ لا إله إلا أن وحدِي لا شريكَ لِي.
وأنَّ محمدًا عبدِي ورسولِي، سبقَتْ رحمتِي غضبِي، قال كعبٌ: فإذا كانَ
يومُ القيامةِ أخرج ذلك الكتابَ، فيخرجُ من النارِ مثلي عددِ أهلِ الجنةِ
فيدخلهُمُ الجنةَ.
وقال سلمانُ وعبدُ اللَّهِ بن عمرٍو: إنَّ للَّه تعالى مائةَ رحمةٍ كما بين السماءِ
والأرضِ، فأنزلَ منها رحمةً واحدةً إلى أهلِ الدنيا، فبها يتراحمُ الجن
والإنسُ، وطيرُ السماء، وحيتانُ الماءِ، وما بين الهواء، ودوابُّ الأرضِ.
وهوامُّها، وادَّخر عنده تسعًا وتسعينَ رحمةً، فإذا كان يومُ القيامةِ أنزلَ تلكَ
الرحمةَ إلى ما عنده فيرحمُ عبادَهُ، والآثارُ في هذا البابِ كثيرةٌ، وهذا كلُّه
يُبيِّنُ أنَّ السماواتِ والأرضَ خُلِقت من الماءِ، والخلافُ في أنَّ الماءَ هل هو أوَّلُ(1/550)
المخلوقاتِ أم لا مشهورٌ، وحديثُ أبي هريرةَ يدُلُّ على أنَّ الماءَ مادَّةُ جميع
المخلوقاتِ، وقد دلَّ القرآنُ على أنَّ الماءَ مادةُ جميع الحيواناتِ، قالَ اللَّهُ
تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) .
وقال تعالى: (واللَّه خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ من مَاءٍ) .
وقولُ مَنْ قالَ: إنَّ المرادَ بالماءِ النُّطْفةُ التي يخلَقُ منها
الحيواناتُ بعيدٌ لوجهينِ:
أحدهما: أنَّ النُّطفَةَ لا تُسمّى ماءً مطلقًا بل مقيَّدًا، لقوله تعالى:
(خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) .
وقوله تعالى (أَلَمْ نَخلقكُم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ) .
والثاني: أن من الحيواناتِ ما يتولَّدُ من غيرِ نُطْفَةٍ، كدودِ الخلِّ، والفاكهةِ
ونحوِ ذلك، فليس كل حيوانٍ مخلوقًا من نُطفةٍ، والقرآنُ دلَّ على خَلْقِ
جميع ما يدِبُ وما فيه حياةٌ من ماءٍ، فعُلِمَ بذلك أن أصلَ جميعِها الماءُ
المطلقُ.
ولا ينافي هذا قولَهُ تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ)
وقولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"خُلِقَتِ الملائكةُ من نُور".
فإنَّ حديثَ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، دل على أنَّ أصلَ النُّور والنَّارِ الماءُ، كما أن أصلَ التّرابِ الذي خُلِقَ منهُ آدمُ الماءُ، فإنَّ آدمَ خُلِقَ من طينٍ، والطينُ ترابٌ مختلطٌ بماءٍ، والترابُ خُلِقَ من الماءِ كما تقدَّمَ عن ابنِ عباسٍ، وغير، وزعمَ فقاتِلٌ: أنَّ الماءَ خُلِقَ من النُّور، وهو مردودٌ بحديثِ أبي هريرة هذا وغيرهِ، ولا يُستنكَرُ خَلْقُ النَّارِ من الماءِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل جمعَ بقدرته بين الماءِ والنَّارِ في الشَّجرِ(1/551)
الأخضَرِ، وجعلَ ذلك من أدلةِ القُدرةِ على البَعْثِ، وذكر الطبائعيونَ: أنَّ الماءَ بانحدارِه يصيرُ بُخارًا، والبخارُ ينقلبُ هواءً، والهواءُ ينقلبُ نارًا، والله
أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
قالَ تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) ، والمرادُ: وقتُ
مجيءِ العذابِ، وقد يكونُ ليلاً ويكونُ نهارًا، وقد يستمرُ وقد لا يستمرُ.
ويقال: يومُ الجَمَلِ، ويوم صِفِّين، وكل منهما كان عدةَ أيامٍ.
* * *
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
وخرَّج مسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"إنَّ أوَّلَ الناسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه رجل استُشْهِدَ، فأتِي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فعرفَهَا، قال: فما عمِلتَ فيها؟
قال: قاتلتُ فيكَ حتَى استُشْهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنَكَ قاتلتَ، لأنْ
يُقالَ: جرِيء، فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهِهِ، حتى أُلقِيَ في النَّارِ، ورجل تعلَّمَ العلمَ وعلَمَهُ، وقرأ القُرآنَ، فأتِي به، فعرَّفَهُ نِعمَهُ فعرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟
قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنَك تعلَّمتَ العلمَ،(1/552)
ليُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليُقالَ: قارئ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهِهِ حتى أُلقيَ في النارِ، ورجلٌ وسَّع اللَّهُ عليه، وأعطاهُ من أصنافِ المالِ كلِّه، فأُتِي به، فعرَّفهَ نِعَمَهُ، فعرَفَها، قالَ: فما عمِلتَ فيها؟
قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنفقَ فيها إلا أنفقتُ فِيهَا لك، قالَ: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلتَ، ليُقالَ: هو جَواد، فقدْ قيل، ثمَّ أُمِرَ به.
فسُحبِ على وجهِهِ حتَّى أُلقيَ في النَّارِ".
وفي الحديثِ: أنَّ معاويةَ لما بَلَغَهُ هذا الحديثُ، بكَى حتى غُشي عليه.
فلمَّا أفاقَ، قال: صدقَ اللَهُ ورسولُهُ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) .
وقد وردَ الوعيدُ على تعلُّم العلم لغيرِ وجهِ اللَّهِ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ
وأبو داودَ وابنُ ماجةَ، من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"منْ تعلَّمَ عِلمًا ممَّا يُبتَغَى به وجْهُ اللَّهِ، لا يتعلَّمُه إلا ليُصيبَ به عرَضًا من الدنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ"
يعني: ريحَها َ.
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ كعبِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"منْ طلَبَ العلمَ ليُمارِي به السُّفهاءَ، أو يُجارِي به العُلمَاءَ، أو يَصرِفَ به وجُوهَ الناسِ إليه، أدخلَهُ اللَّهُ النارَ".
وخرَّجه ابنُ ماجهَ بمعناهُ من حديثِ ابنِ عمرَ، وحذيفةَ، وجابرٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(1/553)
ولفظُ حديثِ جابرٍ: "لا تعلَّموا العِلمَ لتُباهُوا به العُلَماءَ، ولا لتُمارُوا به
السُّفهاءَ، ولا تخيَّروا به المجالسَ، فمنْ فعلَ ذلك، فالنَّارَ النَّارَ".
وقال ابنُ مسعودٍ: لا تعلَّموا العلمَ لثلاثٍ: لتمارُوا به السفهاءَ، أو
لتُجادِلوا به الفُقهاءَ، أو لتصرفُوا له وجُوهَ الناس إليكم، وابتعوا بقولِكُم
وفعلِكم ما عندَ اللهِ، فإنَّه يبقى ويذهبُ ما سواهُ.
وقد وردَ الوعيدُ على العملِ لغيرِ اللَهِ عمومًا، كما خرَّج الإمام أحمدُ من
حديثِ أُبيّ بنِ كعبٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"بَشِّرْ هذه الأمَّةَ بالسَّناءِ والرِّفْعَةِ والدِّينِ والتمكين في الأرض، فمن عمِلَ منهم عملَ الآخرةِ للدّنيا، لم يكنْ له في الآخرةِ من نصيب ".
* * *
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
قال اللَّهُ تعالى: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ) .
وقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) .
قال الربيعُ بنُ أنسٍ: الزفيرُ في الحلقِ، والشهيقُ في الصدرِ، وقال معمر
عن قتادةَ: صوتُ الكافرِ في النارِ مثل صوتِ الحمارِ، أوَلهُ زفير وآخرُهُ
شهيقٌ، وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) .(1/554)
وفي حديثِ حارثةَ: "وكأنِّي أنظر إلى أهلِ النَّارِ، يتعاوونَ فيها".
وروى معاويةُ بنُ صالح عن سليم بنِ عامرِ عن أبي أمامةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رأيتُ رُؤْيا" فذكرَ حديثًا طويلاً وفيه قال:
"ثم انطلقْنَا فإذا نحن نَرى دُخانًا ونسمعُ عواء، قلتُ: ما هذا؟
قال: هذه جهنَّمُ " خرَّجه الطبرانيُّ وغيرُه.
وروى الأعمشُ عن يزيدَ الرقاشي، عن أنسٍس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يُلقى البُكاءُ على أهلِ النارِ فيبكونَ حتى تنقطعَ الدموعُ، ثم يبكونَ الدمَ حتى يصيرَ في وجوهِهِم كهيئةِ الأخدودِ، ولو أرسلت فيه السفنُ لجرتْ " خرَّجه ابنُ ماجةَ.
ورُويَ عن الأعْمش عن عمرِو بنِ مرَّةَ ويزيدَ الرقاشيِّ، عن أنسٍ موقوفًا من قولِهِ.
ورواه سعيدُ بنُ سلمةَ عن يزيدَ الرقاشيِّ، قالَ: بلغَنا هذا الكلامُ ولم يسندْهُ
ولم يرفعْهُ.
وروى سلامُ بنُ مسكينٍ عن قتادةَ عن أبي بردةَ بنِ أبي مُوسى عن أبيه.
قالَ: إنَّ أهلَ النَّارِ ليبكونَ الدموعَ في النَارِ حتَّى لو أجريتْ السفنُ في
دموعِهِم لجرتْ، ثم إنهم ليبكون بالدمِ بعد الدموع ولمثلِ ما هُم فيه فليُبْكَ.
وقال صالحُ المرِّيُّ: بلغنِي أْنهم يصرخونَ في النَّارِ حتى تنقطعَ أصواتُهم
فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنينِْ من المدنفِ.
وقال ابنُ أبي إسحاقَ عن محمد بنِ كعب: زفرُوا في جهنَّم فزفرتِ النارُ.
وشهقوا فشهقتِ النارُ بما استحلوا من محارِمِ اللهِ.
قال: والزفير من النفسِ والشهيقُ من البكاءِ.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ تعالى:(1/555)
(لَهم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال: صوت شديد وصوت ضعيفٌ.
وروى مالكٌ عن زيدِ بنِ أسلمَ في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (سَوَاءٌ عَلَينَا أَجَزِعْنَا أَمْ
صَبَرْنَا ما لَنَا مِن مَحِيصٍ) : قال زيد: صبرُوا مائة عامٍ ثم بكَوا مائة
عام ثم قالُوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ) .
وروى الوليدُ بنُ مسلم عن أبي سلمةَ الدوسي - واسمه ثابتُ بنُ شريح -
عن سالم بنِ عبدِ اللَّهِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعُو: "اللَّهُمَّ ارزْقني عينينِ هطالتينِ يشفيانِ القلبَ بذروفِ الدموع من خشيتِكَ قبلَ أن يكونَ الدمعُ دمًا والأضراسُ جمرا".
سالم بن عبدِ اللهِ هو المحاربي وحديثه مرسل، وظن بعضهم أنه
سالمُ بنُ عبد اللَّه بنِ عمرَ، وزادَ بعضُهم في الإسناد: عن أبيه، ولا يصحُّ
ذلكَ كلُّه.
وروى الوليدُ بنُ مسلم أيضًا عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ، عن
إسماعيلَ بنِ عبيدِ اللَّهِ، قال: إن داودَ - عليه السلامُ -، قالَ: ربِّ ارزقني
عينين هطالتينِ يبكيانِ بذروفِ الدموع ويشفياني من خشيتِكَ قبلَ أن يعودَ
الدمعُ دمًا والأضراسُ جمرًا، قال: وكان داودُ - عليه السلامُ - يعاتَبُ في
كثرةِ البكاءِ، فيقولُ: دعُوني أبْكِي قبلَ يوم البكاءِ، قبل تحريقِ العظامِ واشتعالِ اللِّحى، وقبل أن يأمر بي ملائكةً غلاظا شدادًا لا يعصونَ اللَّهَ ما أمرَهُم ويفعلونَ ما يؤمرونَ.
وروى يونسُ بنُ ميسرةَ عن أبي إدريس الخولانيِّ، قالَ: إنَّ داودَ - عليه
السلامُ -،(1/556)
قال: أبكي نفسي قبل يوم البكاءِ، أبكي نفسِي قبلَ أن لا ينفعَ
البكاءُ، ثم دعا بجمرٍ فوضًع عليه حتى إذا حرَّهُ رفعها، وقال: أوه
لعذابِ اللَّهِ، أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه.
وروى ثابتُ البناني عنْ صفوانَ بنِ محرزٍ قالَ: كان لداودَ - عليه السلامُ -
يومٌ يتأؤَهُ فيه يقول: أوَّه أوَّه من عذابِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - قبل أن لا ينفعَ أوَّه، قال: فذكرَها صفوانُ ذاتِ يومٍْ في جلسٍ فبكى حتى غلبَهُ البكاءُ، فقامَ.
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ رياح الأنصاريُّ، سمعتُ كعبًا، يقولُ: (إِنَّ إِبْرَاهيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ، قال: كان إذا ذكر النارَ قال: أوَّاه من النارِ أوَّاه من
النارِ.
وعن أبي الجوزاءِ وعبيدِ بن عميرٍ نحوُ ذلك.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له عن رياح القيسى: أنه مرَّ بصبيٍّ يبكي
فوقفَ عليه يسأله: ما يبكيك يا بني، وجعلَ الصبيُّ لا يحسنُ يجيبُهُ ولا يردّ
عليه شيئًا، فبكى رياحٌ ثم قال ليس لأهلِ النارِ راحةً ولا معول إلا البكاءُ.
وجعل يبكي.
وبإسنادٍ له آخرَ: أنَّ رياحاً القيسي زارَ قومًا، فبكى صبيٌّ لهم من الليل.
فبكى رياحٌ لبكائِهِ حتى أصبح، فسئلَ بعد ذلك عن بكائه، فقال: ذَكر ببكاءِ الصبي بكاءَ أهلِ النارِ في النارِ ليس لهم نصيرٌ، ثم بكى.
* * *(1/557)
قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
فإقامةُ الصلواتِ المفروضاتِ على وجهِها يوجبُ مباعدة الذنوبِ.
ويوجبَ - أيضًا - إنقاءَها وتطهيرَها، فإنَّ مثل الصلواتِ الخمسِ كمثل نهرٍ
جارٍ، يغتسلُ فيه كلَّ يومَ خمسَ مراتٍ، وقد تقدَّم الحديث في ذلكَ.
ويوجبُ - أيضًا - تبريدَ الحريقِ الَّذى تكسبه الذنوبُ وإطفاءَه.
وخرَّجَ الطبرانيُّ من حديثِ ابنِ مسعود - مرفوعًا:
"تحترقون تحترقون حتى إذا صليتُمُ الفجرَ غسلتْهَا، ثم تحترقونَ تحترقون حتى إذا صَلَّيْتُم الظهرَ غسلتَها، ثم تحترقون تحترقونَ حتى إذا صليتُم العصرَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتُم المغربَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتُمُ العشاءَ غسلتْها".
وقد رُوي موقوفًا، وهو أشبُه.
وخرَّج - أيضاً - من حديثِ أنسٍ - مرفوعًا:
"إن للَّهِ ملكًا ينادي عندَ كلِّ صلاةٍ: يا بني آدمَ، قومُوا إلى نيرانِكُم التي أوقدتمُوها على أنفسِكُم فأطفئُوها".
وخرَّجَ الإسماعيليُّ من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ - مرفوعًا: "يُحْرَقونَ، فإذا
صلَّوا الصبحَ غَسلتِ الصلاةُ ما كان قبلها" حتى ذكرَ الصلواتِ الخمسِ.
ولما كانتِ الصلاةُ صلةً بين العبدِ وربِّه، وكان المصلِّي يناجِي ربَّه، وربُّه
يقرِّبه منه، لم يصلحْ للدخولِ في الصلاةِ إلا منْ كان طاهرًا في ظاهر
وباطنِهِ، ولذلك شرعَ للمصلِّي أن يتطهر بالماءِ، فيكفرُ ذنوبَه بالوضوءِ، ثم(1/558)
يمشي إلى المساجدِ فيكفر ذنوبَه بالمشي، فإنْ بقي من ذنوبِهِ شيءٌ كفرتْه
الصلاة.
قال سلمانُ الفارسيُّ: الوضوءُ يكفِّر الجراحاتِ الصغارِ، والمشيُ إلى
المسجدِ يكفِّر أكثرَ من ذلك، والصلاةُ تكفّر أكثرَ من ذلكَ.
خرَّجه محمدُ بنُ نصرُ المروزيُّ وغيرُهُ.
فإذا قامَ المصلى بينَ يدي ربِّه في الصلاةِ وشرعَ في مناجاتِهِ له، شُرِعَ أولَ
ما يناجي ربَّه أن يسأل ربَّه أن يباعدَ بينه وبين ما يوجِبُ له البعدَ من ربِّه.
وهو الذنوبُ، وأن يطهرهَ منها، ليصلحَ حينئذٍ للتقريبِ والمناجاةِ، فيستكملُ فوائدَ الصلاةِ وثمراتِها من المعرفةِ والأنسِ والمحبة والخشيةِ، فتصيرُ صلاتُهُ ناهيةً له عن الفحشاء والمنكر، وهي الصلاةُ النافعة.
* * *
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"وأتْبع السيًئةَ الحسنةَ تمْحُها"
لما كانَ العبدُ مأمورا بالتقوى في السرِّ والعلانيةِ مع أنَّه لا بدَّ أن يقعَ منه أحيانًا تفريطٌ في التقوى، إما بتركِ بعضِ المأموراتِ، أو بارتكابِ بعضِ المحظوراتِ، فأمرَهُ أن يفعلَ ما يمحُو به هذه السيئةَ وهو أن يتبعَهَا بالحسنةِ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) .
وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ مسعودٍ: أنَّ رجلاً أصابَ من امرأةٍ قُبلةً، ثم
أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلكَ لهُ، فسكتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى نزلتْ هذه الآية ُ، فدعاهُ(1/559)
فقرأها عليهِ، فقالَ رجلٌ: هذا له خاصةً؟
قال: "بل للناسِ عامَّة".
وقد وصفَ اللَّهُ المتقينَ في كتابِهِ بمثلِ ما وصَّى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوصيةِ في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) .
فوصفَ المتقينَ بمعاملةِ الخلقِ بالإحسانِ إليهم بالإنفاق، وكظم الغيظِ.
والعفوِ عنهم، فجمعَ بين وصفِهِم ببذلِ النَّدى واحتمالِ الأذى، وهذا هو غايةُ حسنِ الخلقِ الذي وصَّى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ، ثم وصفَهُم بأنهم: (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم) ، ولم يصرُّوا
عليها. فدلَّ على أن المتقينَ قد يقَعُ منهم أحيانًا كبائرُ وهي الفواحشُ وصغائرُ
وهي ظلمُ النفس، لكنَّهم لا يصرون عليها، بل يذكرونَ اللَّهَ عقِبَ وقوعِهَا، ويستغفرونه ويتوبونَ إليه منها، والتوبةُ: هي تركُ الإصرارِ.
ومعنى قولِهِ: (ذَكَرُوا اللَّهَ) ، أي: ذكرُوا عظمتَهُ وشدَّةَ بطشِهِ
وانتقامِهِ، وما توعَّد به على المعصيةِ من العقابِ، فيوجبُ ذلك لهم الرجوعَ
في الحالِ والاستغفارَ وتركَ الإصرارِ، وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
(إِنَّ الذِينَ اتَقَوْا إِذَا مَسَهُمْ طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ تَذَكَرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) .(1/560)
وفي "الصحيحينِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أذْنبَ عبدٌ ذنبًا، فقالَ: ربَ إنّى عملتُ ذنباً فاغفِرْ لي، فقالَ اللَّهُ: علِمَ عبدِي أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ، ويأخذُ بالذنب، قد غفرتُ
لعبدِي، ثم أذنبَ ذنبا آخرَ - إلى أن قال في الرابعةِ -: فليعملْ ما شاء".
يعني: ما دامَ على هذه الحال كلَّما أذنبَ ذنبًا استغفر منه.
وفي الترمذيِّ من حديث أبي بكرٍ الصدِّيقِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما أصرَ من استغْفَرَ ولو عادَ في اليوم سبعِينَ مرة".
وخرَّج الحاكمُ من حديثِ عُقبةَ بن عامرٍ أنَّ رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أحدُنا يذنبُ، قال: "يُكتبُ عليه "، قال: ثم يستغفرُ منه، قال: "يغفرُ له، ويُتابُ عليه "، قال: فيعودُ فيذنبُ، قال: "يكتبُ عليه " قال: ثم يستغفرُ منه ويتوبُ، قال: "يغفرُ له، ويتاب عليه، ولا يمَلُّ اللَّهُ حنَّى تملُّوا".
وخرَّج الطبرانيُّ بإسنادٍ ضعيف عن عائشةَ - رضي الله عنها -، قالتْ: جاء حبيبُ بنُ الحارثِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّهِ، إنِّي رجل مِقْرافٌ للذنوبِ، قال: "فتبْ إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ "، قال: أتوبُ، ثم أعود، قال: "فكلما أذنبتَ، فتُبْ "، قال: يا رسول اللَّه إذًا تكثرُ ذنوبي، قال: "فعفو اللَّه أكثرُ من ذنوبكَ يا حبيبَ بنَ الحارثِ ".
وخرَّجه بِمعناه من حديثِ أنسٍ مرفوعًا بإسنادٍ ضعيفٍ.(1/561)
وبإسنادِهِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: من ذكرَ خطيئةً عمِلَها، فوَجِلَ قلبُه
منها، واستغفرَ اللَّهَ، لم يحبِسْها شيءٌ حتى يمحَاها.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ عن عليٍّ، قالَ: خيارُكم كل مُفتَنٍ توَّابٍ.
قيلَ: فإن عادَ؟
قال: يستغفرُ اللَّهَ ويتوبُ، قيل: فإن عادَ؟
قال: يستغفرُ اللهَ ويتوبُ، قيل: حتى متى؟
قال: حتى يكونَ الشيطانُ هو المحسورُ.
وخرَّج ابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا:
"التائبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنبَ لهُ ".
وقيلَ للحسنِ: ألا يستحيي أحدُنا من ربِّهِ يستغفرُ من ذنوبِهِ ثم يعودُ، ثم
يستغفرُ، ثم يعودُ؟
فقال: ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكُم بهذهِ، فلا تملُّوا من الاستغفارِ.
وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاقِ المؤمنينَ، يعني: أنَّ المؤمن
كلَّما أذنبَ تابَ، وقد رُويَ "المؤمنُ مُفَتَّنٌ توَّاب".
وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف، مرفوعًا:
"المؤمنُ واه راقعٌ، فسعيدٌ من هلكَ على رقعِهِ ".
وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في خطبتِهِ: من أحسنَ منكُم، فليَحْمَد اللَّهَ.
ومن أساء، فليستغفرِ اللهَ، فإنَّه لا بد لأقوامٍ من أن يعملُوا أعمالاً وظَّفها اللَّهُ
في رقابِهم، وكتبَها عليهم، وفي رواية أخرى عنه أنَه قال: أيها الناس من ألمَّ
بذنبٍ، فليستغفرِ اللَهَ وليتبْ، فإن عَّاَدَ، فليستغفرِ اللَّهَ وليتبْ، فإن عاد،(1/562)
فليستغفرِ اللَّه وَليتبْ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجالِ.
وإن الهلاكَ كُلَّ الهلاكِ في الإصرارِ عليها.
ومعنى هذا: أن العبدَ لا بُدَّ أن يفعلَ ما قُدِّرَ عليه من الذنوبِ كما قال
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّهُ من الزِّنى، فهُوَ مُدْركٌ ذلك لا محالة" ولكنَّ اللَّهَ جعلَ للعبدِ مخرجًا مما وقعَ فيه من الذنوبِ، بالتوبةِ والاستعفارِ، فإنْ فعلَ، فقدْ تخلَّصَ من شرِّ الذنوبِ، وإن أصرَّ على الذنوبِ، هلكَ.
وفي "المسندِ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ارحَمُوا تُرْحموا واغفِروا يُغْفَرْ لكم، ويل لأقْماع القولِ، ويل للمُصرِّين الذي يُصرون على ما فعلوا وهُم يعلمون ".
وفُسِّر أقماعُ القولِ: بمن كانتْ أذناهُ كالقُمع لما يسمعُ من الحكمةِ والموعظةِ
الحسنةِ، فإذا دخلَ شيء من ذلكَ في أذنه خرج من الأخرى ولم ينتفع بشيء
مما سمعَ.
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:
"أتْبِع السيّئةَ الحسنةَ تمحُها"
قد يُرادُ بالحسنة التوبةُ من تلكَ السيئةِ.
وقد وردَ ذلك صريحًا في حديثٍ مرسلٍ، خرَّجه ابنُ أبي الدنيا من "مراسيلِ
محمدِ بنِ جُبير" أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما بعثَ معاذًا إلى اليمن قالَ: "يامعاذُ، اتَقِ اللهَ ما استطعتَ، واعملْ بقوَّتِكَ للَّهِ عزَ وجلَّ ما أطقْتَ، واذكرِ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عندَ كل شجرةٍ وحجرٍ، وإنْ أحدثت ذنبًا، فأحدِثْ عندهُ توبةً، إنْ سرًّا فسر وإن علانيةً فعلانية"
وخرَّجه أبو نُعيمٍ بمعناهُ من وجه آخرَ ضعيفٍ عن معاذ.(1/563)
وقال قتادةُ: قال سلمانُ: إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ، فأحسِن حسنةً في
سريرةٍ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانيةٍ، فأحسنْ حسنةً في علانية، لكي تكون
هذه بهذهِ، وهذا يحتملُ أنه أراد بالحسنة التوبةَ أو أعمَّ منها.
وقد أخبر اللَّهُ تعالى في كتابِهِ أن من تابِ من ذنبهِ، فإنه يغفر له ذنبُه أو
يتابُ عليه في مواضعَ كثيرةٍ، كقولِهِ تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، وقولِهِ: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) .
وقولِهِ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) .
وقولِهِ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) .
وقولِهِ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) ، وقولِهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) .
قال عبدُ الرزاقِ: أخبرنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قال:
بلغني أن إبليسَ حينَ نزلتْ هذه الآيةُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الآية، بكَى.
ويُروى عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: هذه الآيةُ خيرٌ لأهلِ الذنوبِ من الدنيا وما
فيها.
وقال ابنُ سيرينَ: أعطانا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - هذه الآية مكانَ ما جعلَ
لبني إسرائيل في كفاراتِ ذنوبِهِم.(1/564)
وقال أبو جعفر الرازيُّ، عن الربيع بنِ أنسِ، عن أبي العاليةِ قال: قال
رجل: يا رسولَ اللَّهِ، لو كانتْ كفاراتُنا ككفاراتِ بني إسرائيلَ، فقال النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لا نبغيها - ثلاثاً - ما أعطاكُمُ اللَهُ خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل، كانتْ بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهُم الخطيئةَ، وجدها مكتوبةَ على بابِهِ وكفارتَها، فإنْ كفرها كانتْ له خزيًا في الدنيا، وإن لم يكفرْها كانت له خزيًا في الآخرةِ، فما أعطاكُمُ اللَّهُ
خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل قال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفورًا رَّحِيمًا) .
وقال ابنُ عباس في قولِهِ تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ)
قال: هو سعةُ الإسلامِ، وما جعلَ اللَّهُ لأمَّةِ محمدٍ من التوبةِ
والكفَّارةِ.
وظاهرُ هذه النصوصِ يدلُّ على أن من تابَ إلى اللَّه توبةً نصوحًا.
واجتمعتْ شروطُ التوبةِ في حقِّه، فإنه يُقطعُ بقبولِ اللهِ توبته، كما يُقطع
بقبولِ إسلام الكافرِ إذا أسلمَ إسلامًا صحيحا، وهذا قولُ الجمهورِ، وكلامُ
ابنِ عبدِ البِرِّ يدلُّ على أنّه إجماع.
ومن الناسِ من قال: لا يقطعُ بقبولِ التوبةِ، بل يُرجَى، وصاحبُها تحتَ
المشيئةِ، وإن تابَ، واستدلوا بقولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ، فجعلَ الذنوبَ كلَّها تحتَ مشيئته، وربما استدلَّ بمثلِ
قولِهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، وبقولِهِ: (فَاَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أن يَكونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) .(1/565)
وقوله: (وَتُوبوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
وقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
والظاهرُ: أن هذا في حقِّ التائبِ، لأنَّ الاعترافَ يقتضي الندمَ، وفي
حديث عائشةَ عن النبيئَ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ العبدَ إذا اعترفَ بذنبِهِ، ثم تابَ، تاب اللَّه عليه "
والصحيحُ قول الأكثرينَ.
وهذه الآياتُ لا تدلُّ على عدمِ القطع، فإنَّ الكريمَ إذا أطمعَ، لم يقطعْ
من رجائِهِ المُطمَع، ومنْ هنا قال ابنُ عباسٍ: إنَّ "عسى" من اللَّهِ واجبة، نقله
عنه عليٌّ بنُ أبي طلحة.
وقد وردَ جزاءُ الإيمانِ والعملِ الصالح بلفظِ: "عسى" أيضًا، ولم يدل
ذلك على أنه غير مقطوع به، كما في قولِهِ: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) .
وأما قولُهُ: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) ، فإنَّ التائبَ ممن شاء
أن يغفرَ له، كما أخبرَ بذلك في مواضعَ كثيرة من كتابِهِ.
وقد يُراد بالحسنةِ في قولِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أتبع السيئة الحسنة" ما هو أعمُّ من التوبة، كما في قولهِ تعالى:
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) .(1/566)
وقد رُوي من حديث معاذ أنَّ الرجلَ الذي نزلتْ بسببه هذه الآية ُ أَمَرَهُ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ ويُصلِّيَ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابنُ ماجةَ من
حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقومُ فيتطهَّرُ ثم يُصلِّي ثم يستغفرُ اللَّهَ إلا غفرَ اللَّهُ له " ثم قرأ هذه الآيةَ:
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكروا اللَّهَ فَاسْتَغْفَروا لِذنُوبِهِمْ) .
وفي "الصحيحينِ " عن عثمانَ أنه توضأ، ثم قال: رأيتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ نحوَ وضوئِي، هذا ثم قال: "من توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتينِ لا يُحدِّثُ فيهما نفسَهُ، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه ".
وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "منْ توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، ثم قامَ فصلًّى ركعتينِ أو أربعًا، يُحسنُ فيهِمَا الركوعَ والخشوعَ، ثم استغفرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ غُفِرَ له ".
وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ قال: كُنتُ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل، فقالَ: يا رسولَ اللَهِ إني أصبتُ حدًّا، فأقمْهُ عليَّ، قال: ولم يسألْه عنه، فحضرتِ الصلاةُ فصلَّى مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا قضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قامَ إليه
الرجلُ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أصبتُ حدًّا، فأقم عليَّ كتابَ اللَّهِ.
قالَ: "أليس قد صلَّيتَ معنا؟ " قالْ نعم، قالَ: "فإنَّ اللَّه قد غفر لك ذنبَك
- أو قال -: حدَك ".(1/567)
وخرَّجه مسلمٌ بمعناه من حديثِ أبي أمامةَ.
وخرَّجه ابنُ جرير الطبريُ من وجهٍ آخر عن أبي أُمامة، وفي حديثِهِ قال:
"فإنَّك منْ خطيئتك كما ولدتك أمُّك، فلا تعُدْ".
وأنزل اللَّهُ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْل) .
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغْتسلُ فيه كلَّ يوم خمسَ مرَّاتٍ هل يبقى من درنه شيء " قالُوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ يمحُو اللَّه بهن الخطايا".
وفي "صحيح مسلم" عن عثمانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، خرجتْ خطاياه من جسدهِ حتى تخرجَ من تحت أظفاره ".
وفيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ألا أدلكم على ما يمحُو اللَّهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدَّرجاتِ؟ " قالُوا: بلى يا رسول اللَّهِ، قال: "إسباغُ الوضوءِ على المكاره، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصَّلاة، فذلكُم الرباطُ، فذلكُم الرباط ".
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ، ومنْ قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذنبِهِ، ومن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ ".(1/568)
وفيهما عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"منْ حجَّ هذا البيتَ، فلم يرْفُثْ، ولم يَفسُقْ، خرج من ذنوبِهِ كيوم ولدتْه أمُّه ".
وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بنِ العاصِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الإسلامَ يهدِمُ ما كانَ قبله، وإن الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبلها، وإنَّ الحجَّ يهدِمُ ما كان قبلهَ ".
وفيه من حديثِ أبي قتادةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في صومِ عاشوراء: "أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرالسنةَ التي قبلَهُ ".
وقال في صومِ يوم عرفةَ: "أحتسبُ على اللَّهِ أن يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"مثلُ الذي يعملُ السيئات، ثم يعملُ الحسناتِ، كمثلِ رجلٍ كانتْ عليه درعٌ ضيقة قد خنَقَتْه، ثم عمِلَ حسنةً فانفكتْ حلقة ثم عمِلَ حسنة أخرى، فانفكتْ أخرى حتى يخرجَ إلى الأرضِ ".
ومما يكفر الخطايا ذكرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقد ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن قول: "لا إله إلا اللَّهُ " أمِنَ الحسناتِ هي؟
قال: "هي أحسنُ الحسنات ".
وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال. سبحانَ الله وبحمده في يومِهِ مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانتْ مثل زبدِ البحرِ".(1/569)
وفيهما عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"منْ قال: لا إله إلا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، يحيي ويميتُ، وهو على كل شيءٍ قدير في يومٍ مائةَ مرَةٍ، كانتْ له
عِدْلَ عشرِ رقابٍ، وكتبتْ له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيتْ عنه مائة سيئةٍ، وكانتْ له حِرزا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أفضلَ من ذلك ".
وفي "المسندِ" وكتابِ ابن ماجةَ عن أمِّ هانئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال. "لا إله إلا اللَّهُ لا تتركُ ذنبًا ولا يسبقها عملٌ ".
وخرَّج الترمذيُّ عن أنس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنه مرَّ بشجرة يابسةِ الورقِ، فضربَها بعصَاهُ، فتناثرَ الورقُ، فقال: "إنَّ الحمد للَّه وسبحان الله، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، لتساقط من ذنوبِ العبدِ كما يتساقطُ ورقُ هذه الشجرةِ".
وخرَّجه الإمامُ أحمدُ بإسناد صحيح عن أنسٍ أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ سبحان اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، تنفُضُ الخطايا كما تنفُضُ الشجرةُ ورقها ".
والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ جدًّا يطول الكتابُ بذكرِهَا.
وسئل الحسنُ عن رجلٍ لا يتحاشَى من معصية إلا أن لسانَهُ لا يفتر من
ذكرِ اللَّهِ، فقال: إنَّ ذلك لعَوْنٌ حسنٌ.
وسئل الإمامُ أحمدُ عن رجل. اكتسبَ مالاً من شبهة: صلاتُه وتسبيحُه(1/570)
يحُطُّ عنه شيئًا من ذلك؟
فقال: إنْ صلَّى وسبَّح يريدُ به ذلك، فأرجو، قال اللَّه تعالى:
(خَلَطوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
وقال مالكُ بنُ دينارٍ: البكاءُ على الخطيئةِ يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريحُ
الورقَ اليابسَ.
وقال عطاء: من جلس مجلسًا من مجالسِ الذكرِ كفَّر به عشرة مجالسَ
من مجالسِ الباطلِ.
وقال شويسٌ العدويُّ - وكان من قدماءِ التابعينَ -: إنْ صاحبَ اليمينِ
أمير - أو قالَ: أمين - على صاحبِ الشمالِ، فإذا عَمِلَ ابنُ آدمَ سيئةً، فأرادَ صاحبُ الشمالِ أن يكتبها، قالَ له صاحبُ اليمينِ: لا تعْجَلْ لعلَّه يعملُ حسنةً، فإن عمِلَ حسنةً، ألقى واحدةً بواحدة، وكتبَ له تسعَ حسناتٍ، فيقولُ الشَّيطانُ: يا وَيلَه، من يدركُ تضعيفَ ابنِ آدمَ.
وخرَّج الطبرانيُّ - بإسنادٍ فيه نظر - عن أبي مالكٍ الأشعريِّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا نامَ ابنُ آدمَ، قال الملكُ للشيطانِ: أعطني صحيفتَك، فيعطيه إيَّاها، فما وجد في صحيفته من حسنةٍ، محى بها عشرَ سيئات من صحيفةِ الشيطانِ، وكتبهنَّ حسنات.
فإذا أراد أن ينامَ أحدُكم، فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكْبيرة، ويحمدُ اللَّهَ أربعًا وثلاثينَ تحميدةً، ويسبح اللَّهُ ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة".
وهذا غريب ومنكر.
وروى وكيع: حدَّثنا الأعمشُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ.
قالَ: قالَ عبدُ اللَّهِ، يعني ابنَ مسعودٍ: وددتُ أني صُولحت على أن أعملَ كُلَّ(1/571)
يومٍ تسعَ خطيئاتٍ وحسنةً.
وهذا إشارةٌ منه إلى أن الحسنة يُمحى بها التسعُ خطيئاتِ، ويفضُلُ له
ضعفٌ واحدٌ من ثوابِ الحسنة، فيكتفي به، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
إن في سماع أخبارِ الأخيارِ مقويًّا للعزائم ومُعينًا على اتِّباع تلك الآثارِ.
وقال بعضُ العارفينَ: الحكاياتُ جندٌ من جنودِ اللَّه، تقوى بها قلوبُ المريد.
ثم تلا قول اللَّهِ عزَّ وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
* * *(1/572)
سُورَةُ يُوسُفَ
قوله تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ "
دعاءِ يوسفَ عليه السلامُ حينَ قالَ: (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .
واللَّهُ عزَّ وجلَّ وليُّ أوليائه في الدنيا والآخرةِ، يتولَّى حفظَهم وكلاءتهم وهدايتهم وحراستَهم في دِينِهم ودنياهُم ما دامُوا أحياءً، فإذا حضرَهُمُ الموتُ توفَّاهم على الإسلامِ وألحقهم بعدَ الموتِ بالصالحين.
وهذا أجلُّ النعم وأتمُّها على الإطلاقِ، وقد قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتِهِ:
"مع الذين أنعم اللَّهُ عليهم من النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ ".
وقولُ يوسفَ - عليه السلامُ -: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .
قيل: إنَّه دعا لنفسِهِ بالموتِ، وهو قولُ جماعة من السلفِ، منهم
الإمامُ أحمدُ، فيُستدلُّ به على جوازِ الدعاءِ بالموتِ من غيرِ ضرٍّ نزلَ به.
وقيل: إنَّه إنَّما دعا لنفسِهِ بالموتِ على الإسلامِ عند نزولِ الموتِ، وليسَ فيه
دعاء بتعجيلِ الموتِ كما أخبرَ عن المؤمنينَ أنهم قالُوا في دُعائِهِم:
(رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) .(1/573)
ويؤيِّدُ التفسيرَ الأولَ: أنَّه عقَّبه بالدعاءِ بالشوقِ إلى لقاءِ اللَّهِ، وهو يتضمَّن
الدعاءَ بالموتِ.
واستدل مَنْ جوَّز الدعاءَ بالموتِ وتمنِّيه: بقولِهِ تعالى:
(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) .
ثم ذمَّهم على عدمِ تمنّيه بسببِ سيئاتِهِم، وعلى حرصِهِم على طولِ الحياةِ في
الدُّنيا، وكذلك قولُهُ تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) .
وفي "المسندِ"، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يتمنينَ أحدٌ الموتَ إلا من وَثِقَ بعملِهِ ".
فمن كان له عمل صالح فإنَّه يتمنَّى القدومَ عليه، وكذلك من غلبَ عليه
الشوقُ إلى لقاءِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وأمَّا من تمنَّى الموتَ خوفَ فتنتِهِ في الدِّينِ، فإنَّه يجوزُ بغيرِ خلاف، وقد
بسطْنَا الكلامَ على هذهِ المسائلِ في غيرِ هذا الموضع.
* * *(1/574)
سُورَةُ الرَّعْدِ
قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)
قولُ اللَّه تعالى: (لَهُ معَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) الآية.
قال ابنُ عباسِ - رضي الله عنهما -: همُ الملائكةُ يحفظونه بأمرِ اللَّهِ فإذا جاء القدرُ خلَّوا عنه.
وقال عليّ رضي اللَّهُ عنه: إنَّ معَ كل رجلِ ملكينِ يحفظانِه مما لم يقدَّرْ.
فإذا جاءَ القدرُ خليَّا بينه وبينه، وإن الأجلَ جُنَّة حصينة.
وقال مجاهدٌ: ما من عبدٍ إلا له ملكٌ يحفظُه في نومِهِ ويقظتِهِ من الجن
والإنسِ والهوامِّ، فما منْ شيء يأتيه إلا قالَ: وراءَك، إلا شيئًا قد أذِنَ اللَّهُ
فيه فيصيبُه.
ومن حفظِ اللَّهِ للعبدِ: أن يحفظَهُ في صحةِ بدنِهِ وقوتِهِ وعقلِهِ ومالِهِ.
قال بعضُ السلفِ: العالمُ لا يحزن.
وقال بعضهمُ: من حفظَ القرآن متِّعَ بعقلِهِ.
وتأوَّلَ ذلك بعضُهم على قولِهِ تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) .
وكان أبو الطيبِ الطبريُّ قد جاوزَ المائةَ سنة وهو ممتعٌ بعقلِهِ وقوتِهِ، فوثبَ
يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرضِ وثبةً شديدةً، فعوتبَ على ذلكَ، فقال:(1/575)
هذه جوارحٌ حفظنَاها في الصغرِ، فحفظَها اللَّهُ علينا في الكِبَرِ.
وعكسُ هذا أن الجنيدَ رأى شيخًا يسألُ الناسَ فقالَ: إنَّ هذا ضيع اللَّهَ في
صغرِهِ، فضيعه اللَّهُ في كبره.
وقد يحفظُ اللَّهُ العبدَ بصلاحِهِ في ولدِهِ وولدِ ولدهِ، كما قيلَ في قولهِ
تعالى: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) : إنَّهما حفظا بصلاح أبيهما.
وقال محمدُ بنُ المنكدرِ: إنَّ اللَّهَ ليحفظ بالرجلِ الصالح ولدَه وولدَ ولدِهِ
وقريتَهُ التي هو فيها، والدويراتِ التي حولها فما يزالونَ في حفظِ اللَّهِ
وستره.
وقال ابنُ المسيبِ لابنِهِ: يا بني، إني لأزيدُ في صلاتِي من أجلِكَ، رجاءَ
أن أحفظَ فيكَ، وتلا هذه الآية: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) .
وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمهُ اللَّهُ: ما منْ مؤمن يموتُ إلا حفظَهُ اللَّهُ
تعالى في عقبِهِ وعقبِ عقبِهِ.
وقال يحيى بن إسماعيلَ بنِ سلمةَ بنِ كُهيْلٍ: كان لي أختٌ أسنُّ منِّي.
فاختلطتْ وذهب عقلُها وتوحشتْ، وكانت في غرفة في أقصى سطوحِنا
فمكثتْ بذلك بضْعَ عشرة سنةً، فبينما أنا نائمٌ ذاتَ ليلةٍ إذا بابٌ يدقُّ نصفَ الليلِ، فقلتُ: من هذا؛ قالتْ: كجه، فقلتُ: أختِي؛ قالتْ أختُكَ، ففتحتُ البابَ فدخلتْ ولا عهدَ لها بالبيتِ أكثرَ من عشر سنين.
فقالتْ: أتيتُ الليلةَ في منامِي فقيلَ لي: إنّ اللَّهَ حفظَ أباك إسماعيلَ لسلمةَ جدِّك، وحفظكِ لأبيكَ إسماعيلَ، فإن شئتِ دعوتُ اللَّهَ فذهبَ ما بِك، وإن شئت صبرتِ ولك الجنةُ، فإن أبا بكرٍ وعمرَ قد شفعا لكِ إلى اللَّهِ عزًّ وجلَّ بحبًّ(1/576)
أبيك وجدِّكِ إياهُما، فقلتُ: فإذا كان لابدَّ من اختيارِ أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنةُ، وإن اللَّهَ عزَّ وجلَّ لواسع بخلقِه لا يتعاظَمُهُ شيء، إن شاءَ أن يجمعَهُما لي فعلَ. قالتْ: فقيل: فإنَّ اللهَ قد جمعَهُمَا لكِ ورضِيَ عن أبيكِ
وجدّكِ بحبهما أبا بكرٍ وعمرَ - رضي الله عنهما -، قومِي فأنزلِي، فأذهبَ اللَّهُ تعالى ما كانَ بها.
ومتى كان العبدُ مشتغلاً بطاعةِ اللَّهِ فإنَّ اللَّهَ تعالى يحفظُه في تلكَ الحالِ
كما في "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن حميدِ بنِ هلالٍ عن رجلٍ قالَ: أتيتُ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يريني بيتًا، فقالَ: "إنَّ امرأةً كانتْ فيه فخرجتْ في سريةٍ من المسلمينَ وتركتْ ثنتي عشرةَ عنزًا وصيصيتها كانت تسبحُ بها، قال: ففقدَتْ عَنْزًا من غنمها وصيصيتها، فقالتْ: يا ربِّ إنَّك قد ضمنتَ لمن خرجَ في سبيلكَ أن تحفظ عليه.
وإني قد فقدتُ عنزًا من غنمي وصيصيتي، وإني أنشدكُ عنزي وصِيصيتي " قال: فجعلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ شدةَ مناشدتِهَا ربَّها تباركَ وتعالى.
قالَ رسولُ - صلى الله عليه وسلم -:
"فأصبحتْ عنزُها ومثلُها وصيصيتُها ومثلُها. وهاتيكَ، فأتها" قال: فقلتُ: بل أصدِّقك ".
وكان شيبان الراعِي يرعى غنمًا، فإذا جاءتِ الجمعةُ خطَّ عليها خطًا
وذهبَ إلى الجمعةِ ثم يرجعُ وهي كما تركها.
وكان بعضُ السلفِ بيدهِ الميزانُ يزنُ بها دراهِم فسمعَ الأذانَ فنهضَ ونفضَهَا
على الأرضِ وذهبَ إلى الصلاةِ، فلما عادَ جمعها فلم يذهبْ منها شيء.
ومن أنواع حفظِ اللَّهِ لمن حفظَهُ في دنياهُ: أن يحفظَهُ من شرِّ كل من يريدُه(1/577)
بأذًى من الجنِّ والإنسِ، كما قالَ تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخرَجًا) .
قالتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: يكفيه غمَّ الدنيا وهمَّها.
وقال الربيعُ بنُ خثيم: يجعلُ له مخرجًا من كل ما ضاقَ على الناسِ.
وكتبتْ عائشةُ - رضي الله عنها - إلى معاويةَ: إن اتقيتَ اللَّه كفاكَ الناسَ، وإن اتقيتَ الناسَ لم يغنوا عنكَ من اللهِ شيئًا.
وكتبَ بعضُ الخلفاءِ إلى الحكمِ بنِ عمرٍو الغفاريِّ كتابًا يأمره فيه بأمرٍ
يخالفُ كتابَ اللَّهِ، فكتبَ إليه الحكمُ: إني نظرتُ في كتابِ اللَّهِ فوجدتُهُ قبلَ
كتابِ أميرِ المؤمنينَ، وإن السماواتِ والأرضَ لو كانتا رتقًا على امرئٍ فاتَّقى
اللَّهَ عزَّ وجلَّ، جعلَ لهُ منهما مخْرجًا. والسلامُ.
وأنشدَ بعضُهُم:
بتقوى الإلهِ نجا من نجَا. . . وفازَ وصارَ إلى ما رجَا
ومن يتقِّ اللَّهِ يجعلْ له. . . كما قالَ من أمره مخرجَا
كتبَ بعضُ السلفِ إلى أخيه: أما بعدُ، فإنه من اتَّقى اللَّهَ حفظَ نفسَهُ.
ومن ضيعَ تقواه فقدْ ضيَّع نفسَهُ، واللَّهُ الغنيُّ عنه.
ومن عجيبِ حفظِ اللَّهِ تعالى لمن حفظَهُ: أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةَ بالطبع
حافظةً له من الأذى وساعيةً في مصالحِهِ، كما جرى لسفينةَ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ كسرَ به المركبُ وخرجَ إلى جزيرةِ فرأى السبعَ، فقالَ: يا أبا الحارثِ أنا سفينةُ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَ يمشي حوله ويدله على الطريقِ حتى أوقفَهُ عليها، ثم جعلَ يُهَمْهِم كأنَّه يودِّعُه وانصرفَ عنه.(1/578)
وكان أبو إبراهيمَ السايحُ قد مرضَ في بريَّةٍ بقربِ دير، فقالَ: لو كنتُ
عندَ بابِ الديرِ لنزلَ الرهبانُ فعالَجُوني، فجاء السبعُ فاحتمله على ظهرهِ حتى
وضعَهُ على بابِ الديرِ فرآه الرهبانُ فأسلمُوا وكانُوا أربعمائة.
وكان إبراهيمُ بنُ أدهمَ، نائمًا في بستانٍ وعنده حيَّة في فمِهَا طاقةُ نرجسٍ.
فما زالتْ تذبُّ عنه حتى استيقظَ.
فمن حفظَ اللَّهَ حفظَهُ من الحيواناتِ المؤذيةِ بالطبع، وجعلَ تلكَ الحيواناتِ
حافظة له.
ومن ضيعَ اللهَ ضيَّعَهُ اللَّهُ بين خلْقِهِ، حتى يدخلَ عليه الضررُ ممنْ كانَ
يرجو أن ينفعَهُ، ويصيرَ أخصُّ أهلِه به وأرفقهُم به يؤذِيهِ.
كما قال بعضُهم: إني لأعصِي اللَّهَ فأعرفُ ذلك في خلقِ خادِمي
وحِمارِي، يعني: أن خادمه يسوءُ خلقُهُ عليه ولا يطيعُه، وحماره يستعصي
عليه فلا يواتيه لركوبِهِ. فالخيرُ كلُّه مجموعٌ في طاعةِ اللَّهِ والإقبالِ عليه.
والشر كلُّهُ مجموع في معصيةِ اللَّهِ والإعراضِ عنه.
قال بعضُ العارفينَ: من فارق سُدَّةَ سيدِهِ لم يجْد لقدميه قرارًا أبدًا.
واللهِ ما جئتُكم زائرًا. . . إلا وجدتُ الأرضَ تطوى لي
ولا ثنيتُ العزمَ عن بابِكُمُ. . . إلا تعثرتُ بأذيالِي
* * *(1/579)
قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
ولما كانتْ هذه الشريعةُ خاتمةَ الشرائع وعليها تقومُ الساعةُ، ولم يكنْ بعدَها
شريعةٌ ولا رسالةٌ أخرى، تبيِّنُ ما تبدَّلَ منها وتجدِّدُ ما درسَ من آثارِهَا، كما
كانتِ الشرائعُ المتقدمةُ تجدِّدُ بعضُها آثارَ بعضٍ، وتبينُ بعضُها ما تبدَّلُ من
بعضٍ، تكفلَ اللَّهُ بحفظ هذه الشريعةِ ولم يجمعْ أهلَها على ضلالةٍ، وجعلَ
منهم طائفةً قائمةً بالحقًّ لا تزالُ ظاهرةً على من خالفَها حتى تقومَ الساعةُ.
وأقامَ لها من يحملُها ويذبُّ عنها بالسيفِ واللسانِ والحجةِ والبيانِ، فلهذا أقامَ
اللَّهُ تعالى لهذه الأمَّةِ من خلفاءِ الرسلِ وحملةِ الحجةِ في كلِّ زمانٍ من يعتني
بحفظِ ألفاظِ الشريعةِ وضبطِهَا وصيانتِهَا عن الزيادةِ والنقصانِ ومن يعتني
بحفظ معانيها، ومدلولاتِ ألفاظِهَا وصيانتِهَا عن التحريفِ والبهتانِ.
والأولونَ أهلُ الروايةِ، وهؤلاءِ أهلُ الدرايةِ والرعايةِ، وقد ضربِ النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - مثل الطائفتينِ. كما ثبتَ في "الصحيحينِ " عن أبي موسى، قالَ: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ مثلَ ما بعثني اللَّهُ به من الهدى والعلم، كمثلِ غيث أصابَ
الأرضَ فكانتْ منها طائفة قبِلَتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أجادبُ أمسكتِ الماءَ فنفعَ اللَّهُ بها ناسًا فشربُوا ورعَوْا وسقَوْا وزرعُوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأ، فذلك مثل من فقهَ في دِين اللَّهِ ونفعَهُ اللَّه بما بعثَني به ونفعَ به فعَلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفعْ بذلكَ رأسًا، ولم يقبلْ هدى اللَّهِ الذي أُرسلتُ به ".(1/580)
فمثَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العلمَ والإيمانَ الذي جاء به بالغيثِ الذي يصيبُ الأرضَ، وهذا المثلُ كقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) .
فمثَّلَ تعالى ما أنزلَهُ من العلم والإيمانِ إلى القلوبِ بالماءِ الذيَ أنزلَهُ من
السماءِ إلى الأرضِ، وهو سبحانه وتعالى يمثلُ العلمَ والإيمانَ تارةً بالماءِ كما
في هذه الآيةِ، وكما في المثل الثاني المذكورِ في أولِ سورةِ البقرةِ، وتارةً يمثله
بالنورِ كما في المثلِ المذكورِ في سورةِ النورِ، والمثلُ الأولُ المذكورَ في سورةِ
البقرةِ وكذلك في هذه الآيةِ التي في سورةِ الرعدِ، وذكر مثلاً ثانيًا يتعلقُ
بالنارِ وهو قولُهُ: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) فإن الماءَ والنورَ مادةُ حياةِ الأبدانِ، ولا يعيشُ حيوانٌ إلا حيثُ هما
موجودانِ، كما أنَّ العلمَ والإيمانَ مادةُ حياةِ القلوبِ وهما للقلوبِ كالماءِ
والنورِ، فإذا فقدهُما القلبُ فقد ماتَ.
وقولُهُ تعالى: (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) ، شبَّه القلوبَ الحاملةَ للعلم
والإيمانِ بالأوديةِ الحاملةِ للسيلِ، فقلبٌ كبير يسعُ علمًا عظيمًا، كوادٍ كبيرٍ
يسع ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٍ يسعُ علمًا قليلاً، كوادٍ صغيرٍ يسعُ ماءً قليلاً.
فحملتِ القلوبِ من هذا العلم بقدرِهَا، كما سالتِ الأوديةُ من الماءِ بقدرِهَا.
فهذا تقسيم للقلوبِ بحسبِ ما يحملُهُ من العلم والإيمانِ إلى متسعِ
وضيق.
والًذي ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي موسى تقسيمٌ لها بحسبِ ما يرِدُ(1/581)
عليها من العلم والإيمانِ إلى قابل لإنباتٍ الكلأ والعشبِ، وغيرِ قابلٍ لذلكَ
وجعلها ثلاثةَ أقسامٍ:
القسم الأول: قسم قَبِلَ الماءَ، فأنبتَ الكلأ والعشبَ الكثيرَ، وهؤلاءِ همُ
الذين لهم قوةُ الحفظِ، والفهم والفقهِ في الدّينِ، والبصرِ بالتأويلِ، واستنباطِ
أنواع المعارفِ والعلومِ من النصوص.
وهؤلاءِ مثل: الخلفاءِ الأربعةِ، وأبيِّ بنِ كعبٍ، وأبي الدرداءِ، وابنِ
مسعودٍ، ومعاذِ ابنِ جبلٍ، وابنِ عباس. ثم كـ الحسنِ، وسعيدِ بنِ المسيبِ.
وعطاءٍ، ومجاهدٍ. ثم كـ مالكٍ، والليثِ، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، وابنِ
المباركِ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي عبيدٍ، وأبي ثورٍ، ومحمدِ بنِ
نصرٍ المروزيِّ. وأمثالِهِم من أهلِ العلم باللَّهِ وأحكامِهِ، وأوامرِهِ، ونواهيهِ.
وكذلك مثل: أوسٍ، ومالكِ بنِ دينارٍ، وإبراهيم بنِ أدهمَ، والفضيلِ ابنِ
عياضٍ، وأبي سليمانَ، وذي النُّونِ، ومعروف، والجنيدِ بنِ محمدٍ، وسهلِ
ابنِ عبدِ اللهِ والحرِّ بن أسدٍ. وأمثالهم من أهل العلم باللَّه وأسمائهِ وصفاتِهِ
وأيامِهِ وأفعالِهِ.
القسم الثاني: وقسم حفظَ الماءَ، وأمسكَهُ حتى وردَ الناسُ فأخذُوه فانتفعُوا به وهؤلاءِ هم الذين لهم قوةُ الحفظِ، والضبطِ، والإتقانِ، دون الاستنباطِ.
والاستخراج، وهؤلاءِ كسعيدِ بنِ أبي عروبةَ، والأعمشِ، ومحمدِ بنِ جعفرٍ
غندر، وعبدِ الرزاقِ، وعمرو الناقدِ، ومحمدِ بنِ بشارٍ بندارٍ، ونحوِهم.
القسم الثالث، وقسمٌ ثالث وهم شرُّ الخلقِ، ليس لهم قوةُ الحفظِ، ولا قوةُ
الفهمِ، لا درايةٌ، ولا روايةٌ، وهؤلاءِ الذين لم يتقبلُوا هُدى اللَّهِ ولم يرفعُوا(1/582)
به رأسًا.
والمقصودُ هاهنا أن اللَّهَ تعالى حفظَ هذه الشريعةَ بما جعلَ لها من الحملةِ.
أهلِ الدرايةِ، وأهلِ الروايةِ، فكان الطالبُ للعلم والإيمانِ يتلقَّى ذلكَ ممن
يدركُهُ من شيوخ العلمِ والإيمانِ، فيتعلَّمُ الضابطُ القرآنَ والحديثَ، ممن يعلِّمُ
ذلكَ، ويتعلَّمُ الفقهَ في الدِّينِ من شرائع الإسلامِ الظاهرةِ، وحقائقِ الإيمانِ
الباطنةِ، ممن يعلِّمُ ذلكَ.
وكان الأغلبُ على القرونِ الثلاثةِ المفضلةِ جمعُ ذلكَ كلَّه، فإنَّ الصحابةَ
تلقَّوا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ ذلكَ، وتلقاهُ عنهم التابعونَ، وتلقَّى عن التابعينَ تابعوهُم، فكانَ الدِّينُ حينئذٍ مجتمعًا، ولم يكنْ قد ظهرَ الفرق بين مسمَّى الفقهاءِ، وأهلِ الحديثِ ولا بين علماءِ الأصولِ والفروع، ولا بينَ الصوفيِّ والفقيرِ والزاهدِ، وإنما انتشرتْ هذه الفروقُ بعد القرون الثلاثةِ.
وإنَّما كانَ السلفُ يسمُّون أهلَ العلم والدِّينِ: القُرَّاءَ، ويقولونَ: يقرأُ
الرجلُ إذا تنسَّك، وكانَ العالمُ منهُم يتكلمُ في جنسِ المسائلِ المأخوذةِ من
الكتابِ والسنةِ، سواء كانتْ من المسائِلِ الخبريَّةِ العلميةِ، كمسائلِ التوحيد، والأسماءِ والصفاتِ، والقدرِ، والعرشِ، والكرسيِّ، والملائكةِ، والجنًّ.
وقصص الأنبياءِ، ومسائلِ الأسماءِ، والأحكامِ، والوعدِ والوعيدِ، وأحوالِ
البرزخ، وصفةِ البعثِ والمعادِ، والجنَّةِ، والنَّارِ، ونحوِ ذلكَ.
أو من أعمالِ الجوارح، كالطهارةِ، والصلاةِ، والصيامِ، والزكاةِ، والحجِّ.
والجهادِ، وأحكامِ المعاوضاتِ، والمناكحاتِ، والحدودِ، والأقضيةِ، والشهادةِ، ونحوِ ذلك.(1/583)
أو من المسائلِ العلميةِ، سواء كانتْ من أعمالِ القلوبِ، كالمحبةِ.
والخوفِ، وا لرجاءِ، والتوكلِّ، والزهدِ، والتوبةِ، والشكرِ، والصبرِ، ونحوِ ذلك، وإنْ كان يكون لبعضِهِم في نوع من هذه الأنواع من مزيدِ العلم، والمعرفةِ، والحالِ ما ليسَ له في غيرِه مثلُه.
كما كانَ يُقالُ في أئمةِ التابعينَ الأربعةِ: سعيدُ بنُ المسيبِ: إمامُ أهل
المدينةِ. وعطاءُ بنُ أبي رباح: إمامُ أهلِ مكةَ. وإبراهيمُ النخعيُّ: إمامُ أهلِ
الكوفةِ. والحسنُ البصريُّ: إمامُ أهلِ البصرةِ.
كان يقالُ أعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ: سعيدُ بنُ المسيبِ، وأعلمُهُم بالمناسك:
عطاء، وأعلمُهم بالصلاةِ: إبراهيمُ، وأجمعُهُم: الحسنُ.
وكان أهلُ الدرايةِ والفهم من العلماءِ إذا اجتمعَ عندَ الواحدِ منهم من
ألفاظِ الكتابِ والسنةِ، ومعانيها، وكلامِ الصحابةِ والتابعينَ مابَسَّره اللَّهُ له.
جعلَ ذلك أصُولاً، وقواعدَ يبني عليها، ويستنبطُ منها، فإنَّ اللَّهَ تعالى أنزلَ
الكتابَ بالحقِّ والميزانِ، والكتابُ فيه كلمات كبيرة، هي قواعدُ كليُّة وقضايا عامَّة، تشملُ أنواعًا عديدةً، وجزئياتٍ كثيرةٍ، ولا يهتدي كلُّ أحد إلى دخولِها تحتَ تلكَ الكلماتِ، بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه اللَّهُ من يشاءُ في كتابِهِ.
وأمَّا الميزانُ فهوَ الاعتبارُ الصحيحُ، وهو من العدلِ والقسطِ، الذي أمر اللَّهُ
بالقيامِ بهِ كالجمع بين المتماثلينِ لاشتراكهمَا في الأوصافِ، الموجبةِ للجمع
والتفريقِ بين المختلفينِ لاختلافِهِمَا في الأوصافِ الموجبةِ للفرقِ، وكثيرًا ما
يخفى وجهُ الاجتماع والافتراقِ ويدقُ فهْمُهُ.(1/584)
وأمَّا أهلُ الروايةِ إذا اجتمعَ عندَهُم من ألفاظِ الرسولِ، وكلامِ الصحابةِ
والتابعينَ، وغيرِهم في التفسيرِ، والفقهِ، وأنواع العلومِ، لم يتصرفُوا في ذلكَ
بل نقلُوه كما سمعُوه، وأدوه كما حفظُوه وربما كانَ لكثيرِ منهُم من التصرفِ
والتميزِ في صحةِ الحديثِ وضعفهِ من جهةِ إسنادِهِ، وروايتِهِ ما ليسَ
لغيرِهِم.
* * *
قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
وفُسِّر "أمُّ الكتابِ " باللَّوح المحفوظِ، وبالذكَر، في قولِهِ تعالى:
(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) .
وعن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، أنه سألَ كعبًا، عن "أمّ الكتابِ " فقال: علِمَ اللَّه ما هو خالق، وما خلْقُه عامِلون، فقال لعلمِهِ: كُنْ كتابًا، فكان كتابًا.
ولا ريبَ أنَّ علمَ اللَّهِ تعالى قديمٌ أزليٌّ لم يزلْ عالمًا بما يُحدِثُهُ من
مخلوقاتٍ، ثم إنَّه تعالى كتبَ ذلك في كتابٍ عندهَ قبل خلْقِ السماواتِ
والأرضِ، كما قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) .
وفي "صحيح البخاريِّ " عن عمْرانَ بنِ حُصينٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"كانَ اللَهُ ولا شيءَ قبله، وكان عرشُهُ على الماءِ، وكتبَ في الذكرِ كل شيءٍ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ".(1/585)
وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قالَ: "إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السماوات والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكان عرشُهُ على الماءِ".
* * *(1/586)
سُورَةُ إبْرَاهِيمَ
قال الله تعالى: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
وقال إبراهيمُ في قولهِ: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) ، حتى من
تحتِ كل شعرةٍ في جسدِهِ. وقال الضحاكُ: حتى من إبهامِ رجليِهِ.
والمعنى: أنه يأتيهِ مثلُ شدةِ الموتِ وألمِهِ من كلِّ جزءٍ من أجزاءِ بدنِه حتى شعره وظفرهِ، وهو مع هذا لا تخرجُ نفسُهُ فيستريح.
قالَ ابنُ جريجٍ: تعلقُ نفسُهُ عند حنجرتِهِ فلا تخرج من فيه فيستريح، ولا
ترجعُ إلى مكانِها من جوفِهِ، وتأوَّلَ جماعةٌ من المفسرينَ على ذلك قولَهُ
تعالى: (ثُمَّ لا يَمُوت فِيهَا وَلا يَحْيَى) .
قالَ الأوزاعيُّ عن بلالِ بنِ سعدٍ: تنادي النارُ يومَ القيامةِ: يا نارُ أحرِقي.
يا نارُ اشتفي، يا نارُ انضجي، كُلِي ولا تَقْتُلي.
* * *(1/587)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
وقد ضربَ الله ورسولُهُ مثلَ الإيمانِ والإسلامِ بالنخلةِ:
قالَ اللَّهُ تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) .
فالكلمةُ الطيبةُ، هي: كلمةُ التوحيدِ، وهي أساسُ الإسلامِ.
وهي جاريةٌ على لسانِ المؤمنِ.
وثبوتُ أصلِها، هو: ثبوتُ التصديقِ بها في قلبِ المؤمنِ.
وارتفاعُ فرعِهَا في السماءِ، هو: عُلوُّ هذه الكلمةِ وبُسُوقُها.
وأنها تخرقُ الحجبَ، ولا تتناهَى دون العرشِ.
وإتيانُها أُكُلها كلَّ حينٍ، هو: مما يرفعُ بسببها للمؤمنِ كلَّ حينٍ من القولِ
الطيبِ والعملِ الصالح، فهو ثمرتُها.
وجعَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المؤمنِ - أو المسلم - كمثلِ النخلةِ.
وقال طاوسٌ: مثلُ الإيمانِ كشجرةٍ، أصلها الشهادةُ، وساقُها كذا وكذا.
وورقُها كذا وكذا، وثمرُها الورعُ، ولا خيرَ في شجر لا ثمرَ لهَا.
ولا خيرَ في إنسانٍ لا ورعَ فيه.(1/588)
ومعلومٌ أنَّ ما دخلَ في مسمَّي الشجرةِ والنخلةِ من فروعِهَا وأغصانِهَا.
وورقِها وثمرِهَا، إذا ذهبَ شيءٌ منه لم يذهبْ عن الشجرةِ اسمُها، ولكن
يقالُ: هي شجرةٌ ناقصةٌ، وغيرُها أكملُ منها، فإن قُطعَ أصلُها وسقطتْ لم
تبقَ شجرةً، وإنما تصيرُ حطبًا.
فكذلك الإيمانُ والإسلامُ، إذا زالَ منه بعضُ ما يدخلُ في مسماة - مع بقاءِ
أركانِ بنيانِهِ - لا يزولُ به اسمُ الإسلامِ والإيمانِ بالكليةِ، وإن كان قد سُلِبَ
الاسمُ عنه، لنقصِه، بخلافِ ما انهدمتْ أركانُهُ وبنيانُهُ، فإنَّه يزول مسماهُ
بالكليةِ، واللَّهُ أعلم.
* * *
ضربَ العلماءُ مثلَ الإيمانِ بمثلِ شجرةٍ لها أصلٌ وفروعٌ وشُعَبٌ، فاسمُ
الشجرةِ يشملُ ذلكَ كلَّه، ولو زالَ شيءٌ من شُعَبها وفروعِها، لم يزُلْ عنها
اسمُ الشجرةِ، وإنَّما يُقال: هي شجرةٌ ناقصةٌ أو غيرُها أتمُّ منها.
وقد ضربَ اللَّهُ مثلَ إلإيمانِ بذلكَ في قولِهِ تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَ) .
والمرادُ بالكلمةِ كلمةُ التَّوحيدِ، وبأصلها: التَّوحيدُ، الثَّابتُ في القلوبِ.
وأُكُلُها: هو الأعمالُ الصالحةُ الناشئةُ منه.
وضربَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المؤمنِ والمسلم بالنَّخلةِ
ولو زالَ شيءٌ من فروع النخلةِ أو من ثمرِهَا، لم يزلْ بذلكَ عنها اسمُ النخلةِ بالكليةِ، وإن كانت ناقصةَ الفروع أو الثَّمرِ.
* * *(1/589)
قال الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
خرَّجَا في "الصحيحينِ " من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
" (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ، نزلتْ في عذابِ القبرِ".
زاد مسلمٌ: "يقالُ له: من ربّك؛ فيقولُ: ربِّي اللَّهُ، ونَبيِّي محمدٌ، فذلكَ قولُهُ سبحانه وتعالى: " (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ".
وفي روايةٍ للبخاريِّ، قالَ: "إذا أُقْعِد العبدُ المؤمنُ في قبرِهِ أُتيَ.
ثم شهدَ أن لا إله إلا اللَّهُ وأن محمدًا رسولُ اللَّهِ، فذلك قولُهُ: " (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ".
وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقالُ للكافرِ: من ربُّك؛ فيقولُ: لا أدْرِي، فهوَ تلكَ الساعةِ أصمُّ أعْمى أبكمُ، فيُضْرَب بِمرزبةٍ لو ضُرِبَ بها جبلٌ صارَ ترابًا، فيسمعُها كل شيء إلا الثقلين " قال: وقرأ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) " الآية.
وخرَّج أبو داود، من حديثِ المنهالِ بنِ عمرٍو، عن زاذان، عن البراءِ
ابنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنه ليَسمعُ خفقَ نعالِهِم إذا ولَّوا مدبرينَ حينَ يقالُ
له: من ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ ".
وفي روايةٍ له: "قال: ويأتِيه ملكانِ فيجلسانِهِ فيقولانِ له: من ربُّك؟
فيقولُ: ربي اللَّهُ، فيقولانِ: ما دينُك؛ فيقولُ: ديني الإسلامُ، فيقولانِ له: ما هذا الرجلُ الذي(1/590)
بُعث فيكُم؟ فيقولُ: هو رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولانِ له: وما يُدريكَ؟
فيقولُ: قرأتُ كتابَ اللَّهِ فآمنتُ به وصدَّقتُ ".
وفي روايةٍ له: "فذلك قولُهُ عزَّ وجلَّ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَابِتِ) " الآية، قال: "فينادي منادٍ من السماءِ: أن صدقَ عبدي فأفرشُوه من الجنةِ، وافتحُوا له بابًا إلى الجنةِ وألبسُوه من الجنةِ، قال: فيأتِيه من رَوْحِهَا وطيبِها، قال: ويفسحُ له في قبر مدَّ بصرِهِ "
قال: وذكر الكافرَ، قال: "وتعادُ روحُه إلى جسدِهِ ويأتِيه ملكانِ فيجلسانِهِ فيقولانِ له: من ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيقولانِ له: ما دينُك؟
فيقولُ: هاه هاه لا أدْرِي، فينادِي منادٍ من السماءِ: أن كذبَ عبدي فأفرشُوه من النارِ، وألبسُوه من النارِ، وافتحُوا له بابًا إلى النارِ".
قال: "فيأتِيه من حرِّها وسمومِها"
قال: "ويضيَّقُ عليه قبرُهُ حتَّى تختلفَ أضلاعُه ".
وفي روايةٍ له: "ثم يقيّضُ له أعمى أبكمُ معه مرزبةٌ من حديدٍ لو ضُرِبَ بها
جبلٌ لصارَ ترابًا" قال: "فيضربُهُ ضربة يسمعُها ما بين المشرقِ والمغربِ إلا الثقلينِ، فيصيرُ ترابًا"
قال: "ثم تُعادُ فيه الرّوح ".
وخرَّجه النسائيّ وابنُ ماجةَ مختصرًا، وخرَّجه الإمامُ أحمدُ بسياق مطوَّلٍ
والحاكم، وقال: على شرط الشيخين.
وفي روايةٍ للإمامِ أحمدَ: "ثم يقيّضُ له أعمى أبكمُ أصمُ في يدهِ مرزبة لو ضُرِبَ
بها جبلٌ كان ترابًا فيضربُه ضربةً فيصير ترابًا، ثم يعيدُه اللَّهُ عزَّ وجل كما كان، فيضربُه ضربةً أخرى فيصيحُ صيحةً يسمعها كل شيءٍ إلا الثقلينِ ".(1/591)
قالَ البراءُ بنُ عازب: "ثم يُفتح له بابٌ إلى النارِ ويمهد له من فرشِ النارِ".
كذا خرَّجه من روايةِ يونسَ بنِ خبابٍ عن المنهالِ بنِ عمرٍو.
وخرَّجه ابنُ منده من هذا الوجهِ أيضًا وزادَ في حديثِه:
"لو اجتمعَ عليه الثقلانِ على أن يقلبوها لم يستطِيعوا، فيضربُه بها ضربةً يصيرُ ترابًا، وتعادُ فيه الروحُ فيضربُهُ بين عينيهِ ضربةً فيسمعُها من على الأرضِ ليس الثقلينِ - فينادِي منادٍ: أن افرشُوا له لوحينِ من نارٍ، وافتحُوا له بابًا إلى النارِ".
وخرَّجه أيضًا من طريقِ عيسى بنِ المسيبِ، عن عدي بنِ ثابت، عن البراءِ
ابنِ عازبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه في حقِّ المؤمنِ: "فيأتيه منكر ونكير يثيرانِ الأرضَ بأنيابِهِمَا ويفحصانِ الأرضَ بأشعارِهِمَا فيجلسانِهِ ".
وذكر في الكافرِ مثلَ ذلك: وزاد فيه: "أصواتُهُما كالرَّعدِ القاصفِ، وأبصارُهُما كالبرقِ الخاطفِ "، وقال: "فيضربَانِهِ بمرزبة من حديد، لو اجتمعَ عليه من بين الخافقينِ لم تُقلَّ ".
وخرَّجَا في "الصحيحينِ " من حديثِ قتادةَ، عنِ أنسٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن العبدَ إذا وُضِعَ في قبرِهِ وتولَّى أصحابُهُ، إنه ليَسمعُ قرع نعالِهِم إذا
انصرفُوا أتاهُ الملكان فيقعدانِهِ فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فأما المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنه عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، فيقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النارِ، قد
أبدلكَ اللَهُ به مقعدًا من الجنةِ"، قالَ: "فيراهُما جميعًا".
قالَ قتادةُ: وذُكر لنا أنه يُفسَّحُ له في قبره مدَّ بصره، ثم رجعَ إلى حديثِ
أنسٍ - قالَ: "وأما المنافقُ والكافرُ فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟(1/592)
فيقولُ: لا أدري؛ كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيقالُ: لا دريتَ، ولا تليتَ، ويُضربُ بمطارقَ من حديدٍ ضربة فيصيحُ صيحة يسمعُها من يليه غيرَ الثقلين".
وخرَّجه أبو داود بزياداتٍ أُخر منها: "إنَّ المؤمنَ يُقال له: ما كنتَ تعبدُ؟ فإن اللَّه هدَاه، قال: كنتُ أعبدُ اللَّهَ، فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ. هو عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، قال: فما يُسأل عن شيء غيرِها"، وزاد فيه أيضًا: "فيقولُ دعُوني حتى أذهبَ فأبشِّر أهلِي، فيقالُ له: اسكُن "، وذكر في الكافرِ: "أنه يسألُ عمَّا كانَ يعبدُ ثم عن هذا الرجلِ ".
وخرَّجا في "الصحيحينِ " من حديثِ أسماءَ بنت أبي بكرٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبتهِ يومَ كسفتِ الشمسُ: "ولقد أوحي إليًّ أنكم تفتنونَ في قبورِكم مثل أو قريبًا من فتنةِ المسيح الدجالِ يُؤتى أحدُكم، فيقالُ له: ما علمُكَ بهذا الرجلِ؟ فأمَّا المؤمنُ أو الموقنُ فيقولُ: محمد رسولُ اللهِ جاءنا بالبيَّناتِ والهُدَى، فأجبْنا وآمنَّا واتَّبعنا.
فيقالُ له: نَمْ صالحًا، فقدْ علمنا إنْ كنتَ لموقِنَا، وأمَّا المنافقُ أو المرتابُ فيقولُ: لا أدْرِي سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ ".
وخرَّجَه الإمامُ أحمد، ولفظُهُ: "قد رأيتُكُم تفتنونَ في قبورِكُم ويُسألُ
الرجلُ: ما كنتَ تقولُ؟ وما كنتَ تعبدُ؟ فإن قال: لا أدْرِي، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ ويصنعون شيئا فصنعتُه.
قيل له: أجلْ على شَكٍّ عِشتَ، وعليه مِتَّ، هذا مقعدُكَ
من النارِ، وإنْ قال: أشهدُ أنَّ لا إله إلا اللَهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ.
قيل لهْ على اليقينِ عشتَ وعليه مِتَّ، هذا مقعدُك من الجنَّةِ".(1/593)
وخرَّج الترمذيُّ وابنُ حبانَ في "صحيحهِ " من حديثِ أبي هريرةَ عنِ
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قُبِرَ الميتُ " - أو قال: أحدُكم - أتاه ملكانِ أسودانِ أزرقانِ، يُقالُ لأحدِهِما: المُنكرُ، والآخرُ: النَّكيرُ، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟
فيقولُ ما كان يقولُ: هو عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، أشهدُ أن لا إله إلا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
فيقولانِ: قد كُنَّا نعلمُ أنك تقولُ هذا، ثم يُفسحُ له في قبر سبعونَ ذراعًا في سبعينَ ذِراعًا، ثم ينوَّرُ له فيه، ثم يقالُ له: نمْ، فيقولُ: أرجعُ إلى أهلي فأخبرُهم، فيقولانِ: نمْ كنومةِ العروسِ الذي لا يوقظُه إلا أحبُّ أهلِهِ إليه، حتى يبعَثَهُ اللَّهُ من مضجِعِه ذلك.
وإنْ كان منافقًا، قال: سمعتُ الناسَ يقولونَ قولاً فقلتُ مثلَهُ، لا أدري، فيقو لانِ: قد كُنَّا نعلمُ أنَّك تقولُ ذلك، فيقالُ للأرضِ: التئِمي عليهِ، فتلتئمُ عليه حتى تختلفَ أضلاعُه، فلا يزالُ فيها معذبا حتى يبعثَهُ اللَّهُ من مضجِعِه ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي هريرةَ أيضًا عنِ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"يُجْلَسُ الرجلُ الصالحُ في قبرِهِ غيرُ فزعٍ ولا مشغوفٍ، ثم يُقال له: فيم
كنتَ؟ فيقولُ: كنتُ في الإسلامِ، فيقالُ له: ما هذا الرجلُ؟ فيقولُ: محمَّدٌ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جاءَنا بالبيِّناتِ من عندِ اللَّهِ فصدَّقناه، فيقالُ له: هل رأيتَ اللَّهَ؟ فيقولُ: ما ينبغِي لأحدٍ أن يرى اللَّهَ، فيفرجُ له فرجَةٌ قِبَلَ النارِ، فينظرُ إليها يحطمُ بعضُها بعضًا، فيقالُ له:
انظرْ إلى ما وقاكَ اللَّهُ، ثم يفرجُ له فرجةٌ قِبَلَ الجنةِ فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيقالُ له: هذا مقعدُك، ويقالُ له: على اليقينِ كنتَ، وعلى اليقينِ مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى، ويُجَلسُ الرجلُ السّوءُ في قبر فزعًا مشغوفًا فيُقال له: فيمَ كنتَ؟ فيقولُ: لا أدري، فيقالُ له: ما هذا الرجلُ؟
فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولونَ قولاً فقلتُهُ، فيفرجُ له(1/594)
فُرْجةً قِبَل الجنةِ فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيُقال له: انظرْ إلى ما صرفَ اللَّهُ عنكَ، ثم يفرجُ له فرجةً قِبَلَ النارِ فينظرُ إليها يحطِمُ بعضُها بعضًا، فيقالُ له: هذا مقعدُك، على الشكِّ كنتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى".
وخرَّج الطبرانيُ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قال: شهْدنا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جنازةً، ولمَّا فرغَ من دفنها وانصرفَ الناسُ، قال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّه الآنَ يسمعُ خفقَ نعالِهِم، أتاه منكر ونكير أعينُهُما مثلَ قدورِ النحاسِ، وأنيابُهُما مثلُ صياصي البقرِ، وأصواتُهُمَا مثلُ الرعدِ، فيجلسانِهِ فيسألانِهِ: ما كان يعبدُ؟ ومن كان نبيُّه؟ فإنْ كان ممن يعبدُ اللَّهَ، قال: كنتُ أعبدُ اللَّهَ، والنبيُّ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - جاءَنا بالبيِّناتِ والهُدَى فآمنَّا
واتَّبعْنا، فذلك قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)
الآية.
فيقالُ له: على اليقينِ حييتَ وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ ثم يُفتحُ له بابٌ إلى الجنةِ، ويوسعُ له في حفرتِهِ، وإن كان من أهلِ الشكِّ قال: لا أدْري، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ، فيقالُ له: على الشكِّ حييتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ، ثم يفتحُ له باب إلى النَّارِ ويسلَّطُ عليه عقاربُ وتنانين لو نفخَ أحدُهُم في الدنيا ما أنبتتْ شيئًا، تنهشُهُ، وتؤمرُ الأرضُ فتُضَمُّ حتى تختلفَ أضلاعُهُ ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ جابرٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ هذه الأمة تبتلى في قبورِها، فإذا دخلَ المؤمنُ قبرَهُ وتولَّى عنه أصحابُهُ جاءَهُ ملَك شديدُ الانتهارِ فيقولُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟
فيقولُ المؤمنُ: إنَّه عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ.
فيقولُ له الملَكُ: انظرْ إلى مقعدك الذي كان لك في النارِ، قد أنجاكَ اللَّهُ منه، وأبدَلَكَ بمقعدِكَ الذي ترى من النارِ الذي ترى من الجنةِ، فيراهُمَا كليهِمَا فيقولُ المؤمنُ: دعوني أبشرُ أهلِي؟
"المسند" (346/3) .(1/595)
فيقال له: اسكنْ. وأما المنافقُ فيقعدُ إذا تولَّى عنه أصحابُهُ وأهلُهُ، فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ قالَ: لا أدْري، أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيقالُ: لا دريتَ، هذا مقعدُك الذي كان لك في الجنةِ، أبدَلَكَ الله به مقعدَك من النارِ".
قال جابرٌ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"يُبعثُ كل عبد على ما ماتَ عليه، المؤمنُ على إيمانِهِ، والمنافقُ على نفاقِهِ ".
وأخرج ابنُ ماجةَ من حديثِ جابرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إذا دخلَ الميتُ القبرَ مثلتْ الشمسُ عندَ غروبِها فيجلسُ يمسحُ عينيه: ويقولُ: دعونِي أصلِّي ".
وخرَّجَ الإمامُ أحمد أيضًا من حديثِ عائشةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأما فتنةُ القبرِ، فبي تُفْتنوْنَ وعنّي تُسْألونَ، فإذا كان الرجلَ الصالحَ أجْلِسَ في قبرِهِ غيرَ فزعٍ ولا مشغوف، ثم يقالُ له: فيم كنتَ؟
فيقول: في الإسلامِ.
فيقالُ: ما هذا الرجلُ الذي كان فيكم؟
فيقولُ: محمارسولُ اللهِ، جاءَنا بالبيِّناتِ والهُدَى من عندِ اللَّهِ فصدَّقنَاه.
فيفرجُ له فرجةٌ قِبلَ النارِ، فينظرُ إليه يحطمُ بعضُها بعضا.
فيقالُ له: انظر إلى ما وقاكَ اللَّهُ منه ثم يفرجُ له فرجة قِبلَ الجنةِ، فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيقالُ: هذا مقعدُك منها.
ويقالُ له: على اليقينِ كنتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاء اللَّه تعالى، وإن كان الرجلَ السوءَ أجْلِسَ في قبرِهِ فزعًا مشغوفًا، فيقالُ له: فيم كنتَ؟ فيقولُ: لا أدرِي، فيقال له: ما هذا الرجلُ الذي كان فيكم؟
فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولونَ قولاً فقلتُ كما قالُوا.
فيفرجُ له فرجةٌ إلى الجنةِ فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيقالُ له: انظرْ إلى ما صرفَ اللَّهُ عنك، ثم يفرجُ له فرجةٌ قِبلَ النارِ فينظرُ إليها يحطمُ بعضُها بعضا، ويقالُ له: هذا(1/596)
مقعدُك منها، على الشكِّ كنتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاء الله تعالى ثم يعذَّب ".
وخرَّج الإمامُ أحمد أيضًا من حديث أبي سعيد الخدريِّ، قالَ: شهدَنا
مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جنازةً.
فقال رسولُ الَلَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"يا أيها الناسُ إنَّ هذه الأمَّة تبتلَى في قبورِها، فإذا الإنسانُ دفنَ فتفرق عنه أصحابُهُ جاءَهُ ملك في يدِه مطراق فأقعدَهُ، قال: ما تقولُ في هذا الرجلِ؟
فإن كانَ مؤمنًا، قالَ: أشهدُ أن لا إلهً إلا اللَّهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
فيقولُ له: صدقتَ، ثم يفْتحُ له بابًا إلي النارِ، فيقولُ: هذا كان
منزلُك لو كفرتَ بربِّك، فأمَّا إذا آمنتَ بربِّك فهذا منزلُك، فيُفتحُ له باب إلى الجنةِ، فيريدُ أن ينهضَ إليه، فيقولُ له: اسكنْ، ويُفسح له في قبرِهِ، وإنْ كان كافرًا أو منافقًا فيقولُ له:
ما تقولُ في هذا الرجلِ؟
فيقولُ: لا أدْري، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا، فيقولُ. لا دريتَ
ولا تليتَ ولا اهتديتَ، ثم يفتحُ له باب إلى الجنةِ، فيقولُ له: هذا منزلُك لو آمنتَ بربِّك، فأمَّا إذا كفرتَ به فإن اللَّهَ عزَّ وجل أبدَلَكَ به هذا، ويفتحُ له باب إلى النارِ، ثم يقمعه قمعةً بالمطراقِ، يسمعُها خلقُ اللَّه عزَّ وجلَّ كلُّهم غيرَ الثقلينِ ".
فقالَ بعضُ القومِ: يا رسولَ اللَّه، ما أحدٌ يقومُ عليه ملك في يده مِطراقٌ إلا هيلَ عند ذلك.
فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
" (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ".
وخرَّج أبو بكرٍ في كتابِ "السنةِ" من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "كيف أنتَ يا عمرُ إذا كنتَ من الأرضِ في أربعةِ أذرعٍ في ذراعينِ، فرأيتَ منكرًا ونكيرًا؟
" قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وما منكرٌ ونكيرٌ؟
قال: "فتَانا القبرِ يبحثانِ الأرضَ بأنيابِهما، ويطآنِ في أشعارِهِما، أصواتُهما كالرعدِ القاصفِ، وأبصارُهما كالبرقِ الخاطفِ، ومعهُما مرزبةٌ لو اجتمعَ عليها أهلُ مِنى لم يطيقُوا رفعَها وهي أيسرُ عليهما من عصَاي هذه "
قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وأنا على حالِي هذه؟(1/597)
قال: "نعم " فقلتُ: إذًا أكفيكَهما.
وفي روايةٍ أيضًا: "فامْتحناكَ فإن التويتَ ضرباكَ ضربةً صرتَ رمادًا".
وفي إسنادِهِ ضعفٌ.
وخرَّجه الإسماعيليُّ من وجهٍ آخرَ فيه ضعفٌ أيضًا عن عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه وزاد فيه:
"ياتيانِ الرجلَ في صورةٍ قبيحةٍ، يطآنِ على شعورِهما، ويحفرانِ
الأرضَ بأنيابِهما"
وزاد فيه: "يقولانِ له: من ربُّك؟ فإن كان مسلمًا يقولُ. ربِّي اللَّهُ.
وإن كان فاجرًا فيقولُ: لا أدْري، فيضربانِهِ ضربةً لو كانَ جبلاً صارَ تُرابًا، فيصيحُ صيحةَّ مَا يبقَى شيءٌ إلا سمِعَها إلا الثقلينِ الجنَّ والإنسَ، فذلكَ قولُه سبحانه وتعالى: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ".
وقد رُوي حديثُ عمرَ هذا من وجوهٍ أُخرَ مرسلةٍ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ
عمرِو بنِ العاصِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
ذكرَ فتَّانَيْ القبرِ، فقالَ عمرُ: أتُرَدُ إلينا عقولُنا يا رسولَ اللَّهِ؟
فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، كهيئتِكُم اليومَ ".
فقالَ عمرُ: بفِيْهِ الحجر.
وخرَّج أبو داود عن عثمانَ بنِ عفانَ - رضي الله عنه -، قالَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغَ من دفنِ الميتِ وقفَ عليه، وقالَ: "استغفِرُوا لأخيكم، واسألُوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسألُ ".
وفي حديثِ يونسَ بن خبابٍ، عن المنهالِ بنِ عمرٍو، عن زاذانَ، عن(1/598)
البراءِ بنِ عازبِ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر سؤالَ المؤمن في قبره، وأنَّ المَلَكَ ينتهرُهُ، قال: "وهي آخرُ فتنة تعرضُ على المؤمنِ فذلكَ، قولُهُ تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَابِتِ) .
أخرَّجَه الإمامُ أحمدُ.
وكذا رواه جريرٌ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، وفي حديثِه:
"إن المؤمنَ يقولُ ذلكَ ثلاثَ مرات، ثم ينتهرانِهِ انتهارة شديدة، وهي آخرُ فتنة تعرضُ على المؤمنِ ".
ورواه أبو عوانة، عن الأعمشِ، وفي حديثِهِ:
"ويأتيه ملكانِ شديدا الانتهارِ"
وذلك في حقِّ الكافرِ والمؤمنِ.
وقد روي عن مجاهدِ: أنَّ الموتى كانُوا يفتنون في قبورِهِم سبعًا، فكانُوا
يستحبُّون أنْ يُطعمَ عنهم تلك الأيامُ.
وعن عبيدِ بنِ عمير، قال: المؤمنُ يُفتن سبعًا، والمنافقُ أربعينَ صباحًا.
وقال الإمامُ أحمدُ: أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن المسعودي، عن العلاءِ بن
الشخيرِ، حدثنا بعضُ حفدةِ أبي موسى الأشعريِّ، أن أبا موسى الأشعريَّ
أوصاهُم، قال: إذا حفرتُم فأعمِقُوا قعرَهُ، أما أني واللَّهِ لأقول لكُم ذلك
وأني لأعلم إن كنتُ من أهلِ طاعةِ اللَهِ ليفسحنَّ لي في قبرِي ولينورُ لي فيه.
ثم ليفتحنَّ لي بابُ مساكني في الجنةِ، فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم
من مساكنِي منها، وليأتينَي من روحِها وريحتِها وريحانِها، ولئنْ كنتُ من
أهلِ المنزلةِ الأُخرى ليضيقُ عليَّ قبرِي، وليهدمنَّ من عليَّ الأرضَ، فليفتحن
اللَّهُ إليَّ بابَ مساكنِي من النارِ، فما أنا بمساكنِي من دارِي هذه بأعلمَ من
مساكنِي منها، ثم ليأتينَي من شرِّها، وشرورِها، ودخانِها.(1/599)
وروى المسعوديُّ، عن عبدِ اللَّهِ بن المخارقِ، عن أبيه قالَ: قال عبدُ اللَّهِ -
يعني ابنَ مسعودٍ -: إنَّ المسلمَ إذا ماتَ أُجلسَ في قبر.
فيقال له: من ربُّك؟ ما دينُك؟ من نبيُّك؟
قال: فيثبِّته اللَّهُ تعالى، فيقول: ربي اللَّهُ، وديني الإسلامُ، ونَبيِّي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فيوسَّعُ له في قبر ويفرجُ له فيه.
ثم قرأ عبدُ الله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآية.
وقال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا أحمدُ بنُ بحيرٍ، حدثنا بعضُ أصحابِنا، قال:
مات أخٌ لي فرأيتُه في النَّومِ، فقلتُ له: ما حالُك حينَ وضعْتَ في قبرِكَ؟
قال: أتانِي آتٍ بشهابٍ من نارٍ فلولا أنَّ داع دعا لي لرأيتُ أنه سيضْرِبُني بهِ.
* * *
قال الله عز وجل: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
قال عليٌّ بن أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ، في قولِهِ: (قَطِرَانٍ) قال: هو
النحاسُ المذابُ.
وروى حصينُ عن عكرمةَ، في قولِهِ: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)
قال: من صفرٍ يُحمى عليها.
قال معمرٌ عن قتادةَ في قولِهِ: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) قال: من النحاسِ.
قال معمرٌ، وقال الحسنُ: قطرانُ الإبلِ.(1/600)
وفي "صحيح مسلم" عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ "
وخرَّجه ابنُ ماجةَ ولفظُهُ:
"النائحةُ إذا ماتتْ ولم تتبْ قطعَ اللَّهُ لها ثيابًا من قطرانٍ ودرعًا له النارِ".
وخرَّج ابنُ ماجةَ أيضًا من حديثِ ابنِ عباسٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "النائحةُ إذا لم تتبْ قبلَ أن تموتَ فإنها تبعثُ يومَ القيامةِ وعليها سرابيلُ من قطرانٍ يغلي عليها بدروعٍ من لهبِ النارِ".
* * *(1/601)
سُورَةُ الحِجْرِ
قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
بلغِني إنكارُ بعضِ الناسِ على إنكارِي على بعضِ من ينتسبُ إلى مذهبِ
الإمامِ أحمدَ وغيرِه من مذاهبِ الأئمةِ المشهورينَ في هذا الزمانِ، الخروج عن
مذاهبِهِم، في مسائلَ، وزعمَ أنَّ ذلكَ لا ينكر على مَنْ فعلَهُ، وأنَّ من فعلَهُ
قد يكون مُجتهدًا مُتبعًا للحقِّ الذي ظهر له، أو مقلدًا لمجتهدٍ آخر، فلا يُنكر
عليه.
فأقولُ وباللَّهِ التوفيقِ، وهو المستعانُ وعليه التكلانُ، ولا حول ولا قوةَ إلا
باللَّهِ:
لا ريبَ أنَّ اللَّه تعالى حفظ لهذهِ الأُمَّةِ دينَها حفظًا لم يحفظْ مثلَه دِينًا غيرَ
دينِ هذهِ الأمةِ، وذلك أنَّ هذه الأمةَ ليسَ بعدَها نبيٌّ يجدِّدُ ما دثرَ من دينِه
كمِا كانَ دينُ مَنْ قبلَنا من الأنبياءِ، كلَّما دثرَ دينُ نبيٍّ جدَّده نبيٌ آخر يأتِي
بعده.
فتكفَّلَ اللَّهُ سبحانه بحفظِ هذا الدينِ، وأقامَ له في كل عصرٍ حملةً ينفونَ
عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحال المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ.
وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ؛ فتكفَّل
اللهُ سبحانه بحفظِ كتابِهِ، فلم يتمكَّنْ أحدٌ من الزيادةِ في ألفاظِهِ ولا مِنْ(1/602)
النقصِ منها.
وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقرئُ أُمَّته القرآنَ في زمانِهِ على أحرفٍ مُتعددةٍ، تيسيرًا على الأمَّةِ لحفظِهِ، وتعلُّمِهِ، حيث كان فيهم العجوزُ والشيخُ الكبير، والغلامُ والجاريةُ، والرجلُ الذي لم يقرأ كتابًا قط.
فطلب لهم الرخصةَ في حفظِهِم له أنْ يُقرئَهُم على سبعةِ أحرفٍ، كما وردَ
ذلك في حديثِ أُبيّ بنِ كعبٍ وغيره.
ثم لما انتشرتْ كلمةُ الإسلامِ في الأقطارِ، وتفرق المسلمونَ في البُلدانِ
المتباعدةِ صارَ كلُّ فريقٍ منهُم يقرأ القرآن على الحرفِ الذي وصلَ إليه.
فاختلفُوا حينئذٍ في حروفِ القرآنِ، فكانُوا إذا اجتمعُوا في الموسمِ أو غيرِه
اختلَفُوا في القرآنِ اختلافًا كثيرًا.
فأجمعَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عهدِ عُثمانَ على جمع الأمَّة على حرفٍ واحدٍ، خشيةَ أنْ تختلفَ هذه الأُمَّةُ في كتابِها كما اختلفتْ الأمم قبلَهُم في كُتُبِهِم، ورأوا أنَّ المصلحةَ تقتضي ذلك.
وحرقوا ما عدا هذا الحرفَ الواحدَ من المصاحفِ وكان هذا من محاسنِ
أميرِ المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - التي حمده عليها عليٌّ وحذيفةُ وأعيانُ الصحابةِ.
وإذا كان عمرُ قد أنكرَ على هشامِ بنِ حكيم بنِ حزامٍ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في آيةٍ أشدَّ الإنكارِ وأُبيُّ بنُ كعبٍ حصلَ له بسببِ اختلافِ القرآنِ ما أخبرَ به عن نفسِهِ من الشكِّ، وبعضُ مَنْ كان يكتبُ الوحي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(1/603)
ممن لم يرسخ الإيمانُ في قلبِهِ ارتدَّ بسببِ ذلك حتى ماتَ مُرتدا.
هذا كلُّه في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكيفَ الظنُّ بالأُمَّةِ بعده أنْ لو بقيَ الاختلافُ في ألفاظِ القرآنِ بينَهُم.
فلهذا تركَ جمهورُ علماءِ الأمةِ القراءةَ بما عدا هذا الحرفِ الذي جمعَ عثمانُ
عليه المسلمينَ، ونهَوا عن ذلك. ورخَّص فيه نفرٌ منهُم، وحُكيَ روايةً عن
أحمدَ ومالكٍ مع اختلافٍ عنهُما على ذلكَ به في الصلاةِ وغيرِها أم خارج
الصلاةِ فقط.
وبكلِّ حالٍ: فلا تختلفُ الأمَّةُ أنَّه لو قرأَ أحد بقراءةِ ابنِ مسعودٍ، ونحوِها
مما يخالفُ هذا المصحفُ المجتمعُ عليه، وادَّعى أنَّ ذلكَ الحرفَ الذي قرأ به
هوَ حرفُ زيدِ بنِ ثابتٍ الذي جمعَ عليه عثمانُ الأُمَّةَ، أو أنَّه أولى بالقراءةِ
من حرفِ زيدٍ: لكانَ ظالمًا مُتعديًا مُستحقا للعقوبةِ.
وهذا لا يختلفُ فيه اثنانِ من المسلمينَ.
إنَّما محلُّ الخلافِ: إذا قرأ بحرفِ ابنِ مسعودٍ ونحوِه مع اعترافِهِ أنَّه حرفُ
ابنِ مسعودٍ المخالفُ لمصحفِ عثمانَ - رضي الله عنه -.
وأما سنَّةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فإنّها كانتْ في الأمَّةِ تُحفظ في الصدورِ كما يُحفظ القرآنُ، وكان مِن العلماءِ من يكتُبها كالمصحفِ، ومنهُم من ينهى عن كتابتِها.
ولا ريبَ أنَّ الناسَ يتفاوتونَ في الحفظِ والضبطِ تفاوتًا كثيرًا.
ثمَّ حدثَ بعد عصرِ الصحابةِ قوم من أهلِ البدع والضلالِ، أدخلوا في
الدِّينِ ما ليسَ منه وتعمَّدوا الكذبَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.(1/604)
فأقامَ اللهُ تعالى لحفظِ السُّنَّةِ أقوامًا ميَّزوا ما دخلَ فيها من الكذبِ والوهم
والغلطِ، وضبطُوا ذلكَ غايةَ الضبطِ وحفظوه أشدَّ الحفظِ.
ثم صنَّف العلماءُ التصانيفَ في ذلكَ، وانتشرت الكتبُ المؤلفةُ في الحديثِ
وعلومِهِ، وصارَ اعتمادُ الناسِ في الحديثِ الصحيح على كتابَي الإمامينِ أبي
عبدِ اللَّهِ البخاريِّ، وأبي الحسينِ مُسلم بنِ الحجَّاج القُشيريِّ - رضي اللَّهُ
عنهما.
واعتمادُهم بعدَ كتابيهما على بقيّة الكُتب الستةِ خصوصًا "سُنن أبي داود".
و"جامعُ أبي عيسى" و"كتابُ النسائيًّ " ثم كْتابُ ابنِ ماجةَ.
وقد صنّفَ في الصحيح مصنفاتٌ أُخر بعد صحيحي الشيخينِ، لكن لا
تبلغ كتابَي الشيخينِ.
ولهذا أنكرَ العلماءُ على من استدرك عليهما الكتابَ الذي سمَّاه:
" المُسْتدرك ".
وبالغَ بعضُ الحفَّاظِ فزعمَ أنَّه ليسَ فيه حديثٌ واحدٌ على شرطِهِما.
وخالفَهُ غيرُه، وقال: يصفو منه حديثٌ كثير صحيحٌ.
والتحقيقُ: أنَّه يصفو منه صحيحٌ كثيرٌ على غيرِ شرطِهِما، بل على شرطِ أبي عيسى ونحوِه، وأما على شرطِهِما فلا.
فقلَّ حديثٌ تركَاه إلا وله علةٌ خفيَّة، لكن لعزَّة من يعرفُ العللَ
كمعرفتِهِما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحدُ منهم إلا في الأعصارِ المُتباعدةِ.
صارَ الأمرُ في ذلك إلى الاعتمادِ على كتابيهما، والوثوقُ بهما والرجوعُ
إليهما، ثم بعدَهُما إلى بقيّةِ الكتبِ المُشارِ إليها.(1/605)
ولم يُقبلْ من أحدٍ بعد ذلك الصحيحُ والضعيفُ إلى عمَّن اشتُهرَ حذقه
ومعرفتُه بهذا الفنِّ واطلاعُه عليه، وهم قليلٌ.
وأمَّا سائرُ الناسِ، فإنَهم يعوِّلون على هذهِ الكُتبِ المشارِ إليها، ويكتفونَ
بالعزوِ إليها.
* * *
قال الله عز وجل: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنَّ لجهنَّم سبعةَ أبواب، بابٍ منها لمنْ سل سَيفَهُ على أُمَّتِي ".
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ عتبةَ بنِ عبدٍ السُّلميِّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"إن للجنةِ ثمانيةُ أبواب ولجهنَّم سبعةُ أبوابٍ وبعضُها أفضلُ من بعضٍ ".
وفي حديثِ أبي رزينِ العقيليّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَعَمرُ إلهِكَ؛ إنَّ للنارِ سبعةُ أبوابٍ، ما منهنَّ بابانِ إلا ويسيرُ الراكبُ بينهما سبعينَ عامًا".
خرَّجه عبدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ أحمدَ، وابنُ أبي عاصم، والطبرانيُّ.
والحاكم، وغيرُهم.
وخرَّج البيهقيُّ من حديثِ أبي سعيد وأبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في(1/606)
حديثِ المرورِ على الصراطِ، وقالَ فيه: "فناجٍ مسَّلمٍ، ومخدوشِ مرسلٍ، ومطروحٍ فيها، (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ".
وروى أبو إسحاقَ عن هبيرةَ ابنِ مريمَ عن عليٍّ قال: أبوابُ جهنمَ سبعة
بعضُها فوقَ بعضٍ، وقالَ بإصبعِهِ: وعقدَ خمسينَ وأضجَعَ يدَه، ثم يمتلى
الأولُ والثاني والثالثُ حتى عقدَهَا كلَّها، خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ، وغيرُه.
ورواه بعضُهم عن أبي إسحاقَ عن عاصم بنِ ضمرةَ عن عليٍّ بمعناد.
وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ حطانَ الرّقاشيِّ، قالَ: سمعتُ عليًّا يقولُ:
هلْ تدرونَ كيفَ أبوابُ جهنمَ؟ قلنا: هي مثلُ أبوابِنا هذهِ، قال: لا، هي
هكذا، بعضُها فوقَ بعضٍ.
وفي روايةٍ له أيضًا: بعضُها أسفلَ من بعضٍ.
وخرَّجه البيهقيُّ ولفظُه: أبوابُ جهمَ هكذا، ووضعَ يدَه اليُمنى على ظهرِ
يدِهِ اليسرى.
وعن ابن جريجِ في قولِهِ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) ، قال: أوَّلها جهنمُ.
ثمَّ لظى، ثمَّ الحطمةُ، ثم السعيرُ، ثم سقرُ، ثم الجحيمُ، وفيها أبو جهل، ثم
الهاويةُ، خرَّجه ابن أبي الدنيا وغيره.
وقال جويبر عن الضحاكِ: سمَّى اللَّهُ أبوابَ جهنمَ لكلِّ بابٍ منهم جزء
مقسوم، باب لليهودِ وباب للنصارى وبابٌ للمجوسِ وباب للصابئينَ وباب
للمنافقينَ وباب للذين أشركُوا وهم كفارُ العربِ، وباب لأهل التوحيد، وأهلُ التوحيدِ يُرجَى لَهُم ولا يُرجى للآخرين.
خرَّجه الخلالُ.(1/607)
وقال آدمُ بنُ أبي إياس: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ عن عطاءِ بنِ السائبِ عن
أبي ميسرة في قولهِ: (ادْخلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) ، قال: لجهنمَ سبعةُ أبوابٍ
بعضُها أسفلَ من بعضٍ.
وقال عطاءُ الخراسانيُّ: إنَّ لجهنمَ سبعةَ أبوابٍ أشدُّها غمًّا وكربًا وحرًّا
وأنتنها ريحًا، للزناةِ الذين ركبوه بعد العلم.
خرَّجه أبو نُعيمٍ.
وعن كعبٍ قالَ: لجهنمَ سبعةُ أبوابٍ بابٌ منها للحروريةِ.
وهذا كلُّه من حديثِ ابنِ عمرَ المتقدمِ يدلُّ على أنَّ كلَّ بابٍ من الأبوابِ
السبعةِ لعملٍ من الأعمالِ السيئةِ، كما أنَّ أبوابَ الجنةِ الثمانيةِ كل بابٍ منها
لعملٍ من الأعمالِ الصالحةِ.
وعن وهبِ بنِ منبه: بينَ كلِّ بابينِ مسيرةَ سبعينَ سنةً، كلُّ بابٍ أشدُّ حرًّا
منْ الذي فوقَهُ.
وخرَّج الثعلبيُّ في "تفسيرِهِ " بإسنادٍ مجهولٍ إلى منصور بنِ عبدِ الحميدِ بنِ
أبي رباح، عن أنسٍ، عن بلالٍ أنَّ أعرابيّة صلَّتْ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقرأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذهِ الآيةَ:
(لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقْسومٌ) ، فخرَّتْ مغشيًا عليها.
فلما أفاقتْ قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ كلُّ عضوٍ من أعضَائِي يعذَّبُ على كلِّ بابٍ
منها، فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقْسُومٌ) ، يعذب على كلِّ بابٍ على قدرِ أعمالِهِم "
فقالتْ: مالِي إلا سبعةُ أعبدٍ أُشهِدُكَ أنَّ كل عبدٍ منهم لكلِ بابٍ من أبوابِ جهنَّم، حُرٌّ لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فجاء جبريلُ
فقالَ: بشِّرْها أنَّ اللَّه قد حرَّمَها على أبوابِ جهنَّم، وهذا حديثٌ لا يصح
مرفوعًا، ومنصورُ بنُ عبدِ الحميدِ، قالَ فيه ابنُ حبانَ: لا تحِلُّ الروايةُ عنه.(1/608)
والصحيحُ ما رَوى مَخْلدُ بنُ الحسنِ عنِ هشامِ بنِ حسانَ، قالَ: خرجْنا
حُجَّاجًا فنزلنا منزلاً في بعضِ الطريقِ، فقرأ رجلٌ كانَ معنا هذه الآيةَ:
(لَهَا سَبعَةُ أَبوَابٍ) ، فسمعتْهُ امرأةٌ، فقالتْ: أعدْ رحمكَ اللَّهُ؛ فأعادَها.
فقالتْ: خلَّفْتُ في البيتِ سبعةَ أعبدٍ أشهدكُم أنًّهم أحرارٌ لكلِّ بابٍ واحدٌ
منهم، خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
وخرَّج البيهقيّ من حديثِ الخليلِ بنِ مرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا ينامُ حتى يقرأ: (تبارك) ، و (حم السجدة) وقال: "الحواميمُ سبعٌ وأبوابُ جهنمَ سبعٌ:
جهنمُ والحطمةُ ولظَى والسعيرُ وسقرُ والهاويةُ والجحيمُ ".
وقالَ: "تجيءُ كلُّ حم منها يومَ القيامةِ" أحسبُهُ قال: "تقفُ على باب من هذهِ الأبوابِ، فتقولُ: اللَّهُمَ لا تدخلْ هذا البابَ كل من يؤمن بي ويقرؤني"، وقالَ: هذا منقطعٌ، والخليلُ بنُ مرَّةَ فيه نظرٌ.
وروى ابنُ أبي الدنيا من طريقِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي روادٍ، قالَ: كان
بالباديةِ رجل قد اتخذَ مسجدًا، فجعلَ في قبلتِهِ سبعةَ أحجارٍ، فكانَ إذا قَضى
صلاتَهُ، قال: يا أحجارُ، أشهدُكُم أن لا إله إلا اللَّهُ، قال: فمرضَ الرجلُ
فعرجَ بروحِه، قال: فرأيتُ في منامِي أنَّه أُمِرَ بي إلى النَّارِ، فرأيتُ حَجَرًا من
تلكَ الأحجارِ أعرفه بعينه قد عظم، فسد عنِّي بابًا من أبواب جهنم، قال:
حتى سدَّ عنِّي بقيةُ الأحجارِ أبوابَ جهنمَ السبعة.
* * *
قوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
وحكى البخاريُّ، عن عدة من أهلِ العلم، أنهم قالُوا - في قولِهِ تعالى:(1/609)
(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
عن قولِ: لا إله إلا اللَّهُ.
ففسَّروا العملَ بقولِ كلمةِ التوحيدِ.
وممْن رُوي عنه هذا التفسيرُ: ابنُ عمرَ ومجاهدٌ.
ورواه ليثُ بنُ أبي سليم، عن بشيرِ بنِ نهيكٍ، عن أنسٍ - موقوفًا -
ورُوي عنه - مرفوعًا - أيضًا.
خرَّجه الترمذيُّ وغرَّبهُ.
وقال الدارقطنيُّ: "ليثٌ " غيرُ قويًّ، ورفعُه غيرُ صحيح.
وقد خالفَ في ذلك طوائفُ من العلماءِ، من أصحابِنا وغيرِهم، كأبي
عبدِ اللَّه بن بطةَ، وحملُوا العملَ في هذه الآياتِ على أعمالِ الجوارح.
واستدلُّوا بذلكَ على دخولِ الأعمالِ في الإيمانِ.
* * *
قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
عملُ المؤمنِ لا ينقضِي حتى يأتيَه أجلُهُ.
قال الحسنُ: إنَّ اللَّهَ لم يجعلْ لعملِ المؤمنِ أجلاً دونَ الموتِ، ثم قرأ:
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) .
هذه المشهورُ والأعوامُ والليالي والأيامُ كلُّها مقاديرُ للآجالِ، ومواقيتُ
للأعمالِ، ثم تنقضِي سريعًا، وتمضِي جميعًا، والذي أوجدَها وابتدَعها
وخصَّها بالفضائلِ وأودَعَها باقٍ لا يزولُ، ودائمٌ لا يحولُ، هو في جميع(1/610)
الأوقاتِ إلهٌ واحدٌ، ولأعمالِ عبادِهِ رقيبٌ مشاهدٌ، فسبحانَ مَنْ قلَّبَ
عبادَهُ في اختلافِ الأوقاتِ بينَ وظائف الخدمِ، ليسبغَ عليهم فيها فواضلَ
النِّعم، ويعامِلَهُم بنهايةِ الجودِ والكرمِ، لمَّا انقضتِ الأشهرُ الثلاثةُ الكرامُ التي
أولها الشهرُ الحرامُ، وآخرُها شهرُ الصِّيام، أقبلْت بعدها الأشهرُ الثلاثةُ، أشهر الحجِّ إلى البيت الحرامِ، فكما أنَّ مَنْ صامَ رمضانَ وقامَهُ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ، فمنْ حجًّ البيتَ ولم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجع من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمه، فما يمضِي من عمرِ المؤمنِ ساعةٌ من الساعاتِ إلا وللَّه فيها عليه وظيفةٌ
من وظائفِ الطاعات، فالمؤمنُ يتقلَّبُ بين هذه الوظائفِ، ويتقرَّبُ بها إلى
مولاه وهو راجِ خائفٌ.
* * *(1/611)
سُورَةُ النَّحْلِ
قوله تعالى: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
وأمَّا قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) .
وقولُ عمرَ: تعلَّموا من النجومِ ما تعرفونَ به القبلةَ والطريقَ.
ورُوي عنه، أنَّه قال: تعلَّموا من النجومِ ما تهتدونَ به في بَرِّكم وبَحْرِكُم.
ثم أمسكُوا.
فمرادُه - واللَّهُ أعلمُ -: أنَّه يُتَعلَّم من النجومِ الشرقيةِ والغربيةِ والمتوسطةِ
ما يُهْتدى به إلى جهةِ القبلةِ بعد غروبِ الشمسِ، وفي حالةِ غيبوبةِ القمرِ.
فيُسْتدلُّ بذلكَ على الشرقِ والغربِ، كما يُسْتدل بالشمسِ والقمرِ عليهما.
ولم يُرِدْ - واللَّهُ أعلمُ - تَعَلُّمَ ما زادَ على ذلكَ.
ولهذا أمرَ بالإمساكِ " لمَا يُؤدي التوغلُ في ذلكَ إلى ما وقعَ فيه المتأخرونَ من إساءةِ الظنِّ بالسلفِ الصالح.
وقد اخْتُلِفَ في تعلُّم منازلِ القمرِ وأسماءِ النجوم المهتدَى بها، فرخَّص فيه
النخعيُّ ومجاهدٌ وأحمدُ، وكرِهَ قتادةُ وابنُ عيينةَ تعلمَ منازلِ القمرِ.
وقال طاوس: رُبَّ ناظرٍ في النجومِ، ومتعلِّم حروفَ "أبي جاد" ليس له
عند اللَّهَ خَلاَقٌ.
ورُوي ذلك عنه، عن ابنِ عباسٍ.
* * *(1/612)
قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)
وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) .
فاللُّهُ تعالى هو المُبتدئ بالخيرِ، فمنه بدأَ ونشأ.
والخيرُ به. يعني: أن دوامَهُ واستمرارَهُ وثبوتَهُ باللَّهِ، ولو شاءَ اللَّهُ لنزَعَهُ وسلبهُ صاحبَهُ، وقد قالَ تعالى لنبيِّه: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) .
يعني: أنَّ دوامَ هذه النعمةِ عليكَ من اللَّهِ كما أن ابتداءَها منه.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
روى الأعمشُ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مرةَ، عن مسروقِ، عنِ ابنِ مسعودٍ، في
قولهِ تعالى: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) ، قال: عقارب لها أنيابٌ
كالنخلِ الطوالِ، وخرَّجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطِ الشيخينِ.
وفي روايةٍ عنه، قالَ: زيدُوا عقاربَ من نارٍ كالبغالِ الدهم أنيابُها كالنخلِ.
خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياسِ في "تفسيره" عن المسعوديِّ عن الأعمشِ عن أبي
وائلٍ عن ابنِ مسعودٍ، وقولِ من قالَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مرةَ عن مسروقٍ أصحُّ.
وخرَّجَ ابنُ أبي حاتم من روايةِ سفيانَ عن رجلٍ عن مرةَ عن عبدِ اللَّهِ في
قولِهِ: (عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) ، قالَ: حياتٌ وأفاعِي. وروى السُّدِّيُّ(1/613)
عن مرةَ عن عبدِ اللَّهِ في هذه الآيةِ، قالَ: أفاعِي في النارِ.
وروى ابنُ وهبٍ عن يحيى بنِ عبدِ اللَّهِ عن أبي عبدِ الرحمنِ الحبلى، عن
عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ: إنَّ لجهنَّمَ لسواحلُ فيها حياتٌ وعقاربُ أعناقُها
كأعناقِ البختِ.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا وغيرُهُ من طريقِ مجاهدٍ عن يزيدَ بنِ شجرةَ، قالَ:
إنَّ لجهنَّمَ جبابًا في سواحلَ كسواحلِ البحرِ، فيه هوامٌّ وحيَّاتٌ كالبخاتِيِّ
وعقاربُ كالبغالِ الذلِّ، فإذا سألَ أهلُ النارِ التخفيف قيلَ لهُم: اخرجُوا إلى
السواحلِ فتأخذُهُم تلك الهوامُّ بشفاهِم وجنوبِهِم وما شاءَ اللَهُ من ذلكَ
فتكشُطُها، فيرجعونَ فيبادرونَ إلى معظم النيرانِ، ويسلطُ عليهم الجربُ حتى
إنَّ أحدَهُم ليحكُّ جلدَهُ حتى يبدُوا العظمُ، فيقالُ: يا فلانُ هل يؤذيكَ هذا؟
فيقولُ: نعم، فيقالُ له: ذلك ما كنتَ تؤذي المؤمنينَ.
وروى عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى عن عثمانَ بنِ الأسودِ عن مجاهدٍ، قال: في
جهنَّمَ عقاربُ كأمثالِ الدلم لها أنيابٌ كالرماح إذا ضربتْ إحداهُنَّ الكافرَ على رأسِهِ ضربةً تساقطَ لحمُهُ على قدميهِ.
وروى حمادُ بنُ سلمةَ عن الجريري عن أبي عثمانَ، قال: على الصراطِ
حيات يلسعْنَ أهلَ النارِ فيقولونَ: حسّ حسّ، فذلكَ قولُهُ تعالى
(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسها) .
وكان إبراهيمُ العجليُّ - رحمَهُ اللَّه - يقعُ البعوضُ على كتفيهِ وظهره
فيتأذَّى به، فيقولُ لنفسِهِ:(1/614)
وأنت تأذَّى من حسيسِ بعوضةِ. . . فللنارِ أشقَى ساكنينَ وأوجعُ
* * *
قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
إنَّ اللَّه تعالى أنزلَ على نبيه الكتابَ، وبينَ فيه للأُمَّةِ ما يحتاجُ إليه من
حلالِ وحرامِ، كما قالَ تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لكُلِّ شَيْء) .
قالَ مجاهد وغيرُه: لكل شيءِ أمِرُوا به ونُهوا عنه.
وقال تعالى في آخرِ سورةِ النساءِ التي بيَّن فيها كثيرًا من أحكامِ الأموالِ والأبضاع: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) .
وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) .
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) ، ووكَل بيانَ ما أُشكلَ من التنزيلِ إلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، كما قالَ تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وما قُبِضَ - صلى الله عليه وسلم - حتى أكملَ له ولأُمَّتِهِ الدينَ، ولهذا أنزلَ عليه بعرفةَ قبْلَ موتِهِ بمدةِ يسيرةِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) .
وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"تركتُكُم على بيضاءَ نقيةِ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِكٌ ".
وقال أبو ذَرٍّ: تُوفيَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وما طائرٌ يحرك جناحَيهِ في السَّماءِ إلا وقد ذكَّرنا منه عِلْمًا.(1/615)
ولما شكَّ الناسُ في موتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال عمُّه العباسُ - رضي الله عنه -: واللَّهِ ما ماتَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك السبيلَ نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ.
ونكحَ وطلًّقَ، وحاربَ وسَالَمَ، وما كانَ راعِي غنم يتبعُ بها رءوس الجبالِ
يخْبِطُ عليها العِضاهَ بمخْبطِهِ، ويَمْدُرُ حوضَها بيده بأنصبَ ولا أدأبَ من
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان فيكُم.
وفي الجملةِ فما تركَ اللَّهُ ورسولُهُ حلالاً إلا مُبيَّنًا ولا حرامًا إلا مُبيَّنًا، لكن
بعضَه كان أظهرُ بيانًا من بعضٍ، فما ظهرَ بيانُه واشتهرَ، وعُلِمَ من الذَينِ
بالضرورةِ من ذلكَ لم يبقَ فيه شكٌّ، ولا يُعذرُ أحدٌ بجهلهِ في بلدٍ يظهرُ فيها
الإسلامُ، وما كان بيانُه دونَ ذلك، فمنه ما اشتهرَ بين حملةِ الشريعةِ خاصةً.
فأجمعَ العلماءُ على حِلِّه أو حرمتِهِ، وقد يخفَى على بعضِ من ليس منهُم.
ومنه ما لم يشتهرْ بين حملةِ الشريعةِ أيضًا، فاختلفُوا في تحليلِهِ وتحريمه.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
وروى هشامُ بنُ عمَّار في كتاب "المبعثِ " بإسنادِهِ عن أبي سلاَّم الحبشيّ.
قال: حُدِّثْتُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ: "فُضِّلتُ على مَنْ قَبْلي بستٍّ ولا فخرَ"،(1/616)
فذكرَ منها، قال: "وأُعطيتُ جوامِعَ الكَلِم، وكانَ أهلُ الكتابِ يجعلونها جزءًا باللَّيلِ إلى الصباح، فجمعَهَا لي ربِّي في آيةِ واحدة: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَهًوَ الْعَزِير الحَكِيمُ) ".
فجوامِعُ الكلِم التي خُصَّ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نوعانِ:
أحدُهُما: ما هو في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) .
قال الحسنُ: لم تتركْ هذه الآيةُ خيرًا إلا أمرت به، ولا شرًّا إلا نهتْ عنه.
والثاني: ما هو في كلامِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو منتشرٌ موجودٌ في السُّنن المأثورةِ عنه - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
فقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَهَ كتبَ الإحسانَ على كُلِّ شيءِ"، وفي روايةٍ لأبي إسحاقَ الفزاريِّ في كتابِ: "السيرِ" عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء" أو قال: "على كُل خلقٍ".
هكذا خرَّجَها مرسلةً، وبالشكِّ في "كلِّ شيءٍ" أو "كلِّ خلقٍ".
وظاهرُهُ يقتضي أنه كتبَ على كلِّ مخلوقٍ الإحسانَ، فيكونُ كلُّ شيءِ أو كلُّ مخلوقٍ هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسانُ.
وقيلَ: إنَّ المعنى: إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ إلى كلِّ شيءِ، أو في كلِّ شيء،(1/617)
أو كتبَ الإحسانَ في الولايةِ على كُلِّ شيءٍ، فيكونُ المكتوبُ عليه غيرَ
مذكورٍ، وإنما المذكورُ المحسنُ إليه.
ولفظُ: "الكتابةِ" يقتضِي الوجوبَ عندَ أكثر الفقهاءِ والأصوليين خلافًا
لبعضِهِم، وإنَّما يعرفُ استعمال لفظةِ الكتابةِ في القرآنِ فيما هو واجبٌ حتمٌ، إمَّا شرعًا، كقولِهِ تعالى: (إِن الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابا مَّوْقُوتًا) ، وقولِهِ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) ، (كُتِبَ عَلَيكُمْ الْقِتَالُ) ، أو فيما هو واقعٌ قدرًا لا محالةَ، كقولِهِ: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) .
وقولِهِ: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) .
وقولِهِ: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهم الإِيمَانَ) .
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قيامِ شهرِ رمضانَ:
"إني خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عليكُمْ "
وقال: "أمرتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ أن يُكتبَ عليَّ ".
وقال: "كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّه من الزِّنى، وهو مدركٌ ذلكَ لا محالةَ".
وحينئذٍ فهذا الحديثُ نصّ في وجوبِ الإحسانِ، وقد أمرَ اللَّه تعالى به.
فقالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ، وقال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) .
وهذا الأمرُ بالإحسانِ تارةً يكونُ للوجوبِ، كالإحسانِ إلى الوالدينِ
والأرحامِ بمقدارِ ما يحصلُ به البرُّ والصِّلةُ، والإحسانُ إلى الضيف بقدرِ ما
يحصلُ به قِراهُ على ما سبقَ ذكرُهُ.(1/618)
وتارةً يكونُ للندبِ كصدقةِ التطوع ونحوِها.
وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوبِ الإحسانِ في كلِّ شيءٍ من الأعمالِ، لكن
إحسانُ كُلِّ شيءٍ بحسبِهِ، فالإحسانُ في الإتيانِ بالواجباتِ الظاهرةِ والباطنة:
الإتيانُ بها على وجهِ كمالِ واجباتِها، فهذا القدر من الإحسانِ فيها واجبٌ.
وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحبَّاتِهَا فليسَ بواجبٍ.
والإحسانُ في تركِ المحرَّماتِ: الانتهاءُ عنهَا، وتركُ ظاهرِهَا وباطِنِهَا، كما
قالَ تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) ، فهذا القدرُ من الإحسانِ
فيها واجبٌ.
وأمَّا الإحسانُ في الصبرِ على المقدوراتِ، فأن يأتيَ بالصبرِ عليها على
وجهِهِ من غيرِ سخَطٍ ولا جزعَ.
والإحسانُ الواجبُ في معاملةِ الخلقِ ومعاشرتِهِم: القيامُ بما أوجبَ اللَّهُ من
حقوقِ ذلك كلِّه، والإحسانُ الواجبُ في ولايةِ الخلقِ وسياستِهِم: القيامُ
بواجباتِ الولايةِ كُلِّها، والقدرُ الزائدُ على الواجبِ في ذلك كلُّه إحسانٌ ليسَ بواجبٍ.
والإحسانُ في قتلِ ما يجوزُ قتلُهُ من النّاسِ والدوابِّ: إزهاقُ نفسِهِ على
أسرع الوجوهِ وأسهلِها وأوحاها من غيرِ زيادةٍ في التعذيبِ، فإنه إيلامٌ لا
حاجةَ إليه.
وهذا النوعُ هو الذي ذكرهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ، ولعلَّه ذكرهُ على سبيلِ المثالِ، أو لحاجتِهِ إلى بيانِهِ في تلكَ الحالِ، فقالَ. "إدْا قتلتُم فأحسِنُوا القِتْلةَ، وإذا ذبحتُم فأحسِنُوا الذِّبحة"
والقِتلةُ والذِّبحة بالكسرِ، أي: الهيئةُ.
والمعنى: أحسنُوا هيئةَ الذبح، وهيئةَ القتلِ.
وهذا يدلُّ على وجوبِ الإسراع(1/619)
في إزهاقِ النفوسِ التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوهِ.
وقد حكى ابنُ حزمٍ الإجماعَ على وجوبِ الإحسانِ في الذبيحةِ، وأسهلُ وجوهِ قتلِ آدمي ضربُهُ بالسيفِ على العنقِ، قالَ اللَّهُ تعالى في حقِّ الكفارِ: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) .
وقال: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) ، وقد قيلَ: إنَّه عينَ الموضعَ الذي يكون الضربُ فيه أسهلَ على المقتولِ وهو فوقَ العظامِ دونَ الدماغ، ووصَّى دريدُ ابن الصِّمة قاتلَهُ أن يَقتُلَهُ كذلكَ.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ سريةً تغزو في سبيلِ اللِّهِ قالَ لهُم: " لا تُمثِّلُوا ولا تقتلُوا وليدًا ".
وخرَّج أبو داودَ، وابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعَفُّ الناسِ قِتلة أهلُ الإيمانِ ".
وخرَّج أحمدُ وأبو داود من حديثِ عمرانَ بنِ حصينٍ سمُرةَ بنِ جُندبٍ
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المُثْلةِ.
وخرَّجه البخاريُّ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ يزيدَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المُثْلة.
وخَرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ يعلى بنِ مُرَّةَ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال اللَّهُ تعالى: لا تمثِّلوا بعبادِي ".(1/620)
وخرَّج - أيضًا - من حديثِ رجلٍ من الصحابة عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مثل بذي رُوحٍ، ثم لم يَتُبْ مَثَّلَ اللَهُ به يومَ القيامةِ".
* * *
قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
وقال بعضُهم في قولِهِ تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ، قال: الرِّضا
والقناعة "
* * *
قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
ومما يُستحبُّ الإتيانُ به قبلَ القراءةِ في الصلاةِ: التعوذُ، عند جمهورِ
العلماء.
واستَدلُّوا بقولِهِ تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
والمعنى: إذا أردتَ القراءةَ، هكذا فسَّرَ الآيةَ الجمهورُ.
وحُكي عن بعضِ المتقدمينَ، منهم: أبو هريرة وابنُ سيرينَ وعطاء: التعوذُ بعدَ القراءةِ.
والمرويُّ عن ابنِ سيرينَ: قبل قراءة أمِّ القرآنِ وبعدَها، فلعله كان يستعيذ
لقراءةِ السورةِ، كما يقرأ البسملةَ لها - أيضًا.(1/621)
وقد جاءتِ الأحاديثُ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذُ قبل القراءة في الصلاةِ:
فروى عمرُو بنُ مُرَّةَ، عن عاصمٍ العنزيِّ، عن ابنِ جبيرِ بنِ مطعمٍ، عن
أبيه، أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي صلاةً، قال: "اللَّهُ أكبرُ كبيرًا، اللَّهُ أكبر كبيرًا، اللَّهُ أكبرُ كبيرًا، والحمدُ للَّهِ كثيرًا، سبحانَ اللَّهِ بكرةً وأصيلاً" ثلاثًا. "أعوذُ باللَّهِ من الشيطانِ الرجيم، من نفْخه ونفْثِهِ وهمْزِهِ " قال: نفثُه: الشعرُ، ونفخه: الكِبْر، وهمزُهُ: الموتة.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحه "
والحاكمُ وصححه.
وابنُ جبيرٍ هو: نافعٌ، وقع مسمّى في روايةٍ كذلك. وعاصمٌ العنزيُّ، قال
أحمد: لا يُعْرف، وقال غيرُهُ: روى عنه غيرُ واحدٍ.
ذكره ابنُ حبانَ في "ثقاته".
وروى عطاءُ بنُ السائبِ، عن أبي عبدِ الرحمنِ السلميِّ، عن ابنِ مسعودٍ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا دخل في الصلاةِ، يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من الشيطان وهمزِهِ ونفْخِهِ ونفْثِهِ ".
حْرَّجه ابنُ ماجةَ والحاكم وهذا لفظُهُ.
وقال: صحيحُ الإسنادِ، فقد استشهدَ البخاريُّ بعطاءِ بنِ السائبِ.
وروى عليٌّ بنُ عليٍّ الرفاعيُّ، عن أبي المتوكِّلِ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ.
قال: كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصلاةِ بالليلِ كبَّر، ثم يقولُ:(1/622)
"أعوذُ باللَّهِ السميع من الشيطانِ الرجيم، من همزِهِ ونفخِهِ ونفْثِهِ ".
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ.
وقال: كان يحيى بنُ سعيدٍ يتكلمُ في عليِّ بنِ عليِّ، وقال أحمدُ: لا
يصحُّ هذا الحديثُ.
كذا قالَ، وإنَّما تكلمَ فيه يحيى بنُ سعيد من جهةِ أنه رماه بالقدرِ، وقد
وثقه وكيع ويحيى بن مَعين وأبو زرعة.
وقال أحمدُ: لا بأس له، إلا أنه رفع أحاديثَ.
وقال أبو حاتمٍ: ليس به بأسٌ، ولا يُحتجُّ بحديثِهِ.
وإنَّما تكلمَ أحمدُ في هذا الحديثِ؛ لأنه رُوي عن عليِّ بن عليٍّ، عن
الحسنِ - مرسلاً -، وبذلك أعلَّه أبو داودَ، وخرَّج في "مراسيلِهِ " من طريقِ
عمرانَ بنِ مسلمٍ، عنِ الحسنِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قامَ منَ الليلِ يريدُ أن يتهجد، يقولُ - قبل أن يكبِّر: "لا إله إلا اللَهُ، لا إله إلا اللَهُ، واللَّهُ أكبرُ كبيرًا، اللَّهُ أكبر كبيرًا، أعوذ باللهِ من الشيطانِ الرجيم، من همزِهِ ونفخِهِ ونفْثِهِ " ثم يقول: "اللَّهُ أكبرُ".
وفي البابِ أحاديثُ أخرُ مرفوعةٌ، فيها ضعفٌ.
واعتمادُ الإمامِ أحمدَ على المرويِّ عن الصحابةِ في ذلك؛ فإنه روى التعوذَ
قبل القراءة في الصلاةِ عن عمرَ بنِ الخطابِ وابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ وأبي
هريرةَ، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ كما تقدم.(1/623)
والجمهورُ على أنَّه غيرُ واجبٍ، وحُكيَ وجوبُهُ عن عطاءٍ والثوريِّ وبعضِ
الظاهريةِ، وهو قولُ ابنِ بطةَ من أصحابِنا.
والجمهورُ على أنه يسره في الصلاةِ الجهريةِ، وهو قولُ ابنِ عمرَ وابنِ
مسعودٍ والأكثرينَ.
ورُوي عن أبي هريرةَ الجهرُ به.
وللشافعيِّ قولانِ. وعن ابنِ أبي ليلى: الإسرارُ والجهرُ سواء.
واختلفُوا: هل يختصُّ التعوذُ بالركعةِ الأولَى، أمْ يستحبُّ في كل ركعةٍ؟
على قولينِ:
أحدُهما: يستحبُّ في كلِّ ركعةٍ، وهو قولُ ابنِ سيرينَ، والحسنِ والشافعيِّ
وأحمدَ - في رواية.
والثاني: أنه يختصُّ بالركعةِ الأولى، وهو قولُ عطاءٍ والحسنِ والنخعيِّ
والثوريِّ وأبي حنيفةَ وأحمدَ - في رواية عنه.
وقال هشامُ بنُ حسانٍ: كان الحسنُ يتعوذُ في كل ركعةٍ، وكان ابنُ سيرينَ
يتعوذُ في كل ركعتينِ.
وذهبَ مالكٌ وأصحابُهُ إلى أنَّه لا يتُعوَّذُ في الصلاةِ المكتوبة، بل يفتتحُ بعدَ
التكبيرِ بقراءةِ الفاتحة من غيرِ استعاذةٍ ولا بسملة، واستدلُّوَا بظاهرِ حديثِ
أنسٍ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتحُ الصلاةَ
بـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وهو الحديثُ الذي خرَّجه البخاريُّ في أوَّل هذا البابِ.
ويجاب عنه، بأنه إنَما أراد أنَّه يفتتح قراءةَ الصلاة بالتكبيرِ والقراءةِ
بـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وافتتاح القراءة بـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)
إمَّا أن يرادُ به(1/624)
افتتاحها بقراءةِ الفاتحةِ كما يقولُ الشافعيُّ، أو افتتاح قراءةِ الصلاةِ الجهريةِ
بكلمةِ (الْحَمْدُ) من غير بسملةٍ كما يقولُهُ الآخرون.
ودل عليه: حديثُ أنسٍ الذي خرَّجه مسلمٌ صريحًا.
وعلى التقديرينِ، فلا ينفي ذلكَ أنْ يكون قبل القراءةِ ذكرًا، أو دعاءً، أو
استفتاحًا، أو تعوذًا، أو بسملةً، فإنه لا يخرج بذلك عن أن يكون افتتح
القراءةَ بالفاتحةِ، أو افتتح الجهرَ بالقراءةِ بكلمة (الْحَمْدُ) .
ولا يمكنُ حملُ الحديثِ على أنَّه كانَ أولَ ما يفتتحُ به الصلاةَ قرأءةُ كلمةِ
(الْحَمْدُ) ، فإنه لو كانَ كذلك لكانَ لا يفتتحُ الصلاةَ بالتكبيرِ، وهذا باطلٌ
غيرُ مرادٍ قطعًا. واللَّهُ أعلم.
* * *(1/625)
سُورَةُ الإسْرَاء
قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
فرَّقَ بعضُهم بين الإسراء والمعراج، فجعَلَ المعراجَ إلى السماواتِ كما
ذكرَه اللَّهُ في سورةِ النَّجمِ، وجعلَ الإسراءَ إلى بيتِ المقدسِ خاصةً، كما
ذكرَهُ اللَّهُ في سورةِ (سُبْحَانَ) وزعم أنهما كانَا في ليلتينِ مختلفتينِ، وأنَّ
الصلواتِ فُرضتْ ليلةَ المعراج لا ليلةَ الإسراءِ.
وهذا هو الذي ذكرَهُ محمدُ بنُ سعدٍ في "طبقاتهِ" عن الواقديَ بأسانيدَ
له متعددةٍ، وذكرَ أنَّ المعراجَ إلى السماءِ كانَ ليلةَ السبتِ لسبعَ عشرةَ خلَتْ
من شهرِ رمضانَ قبلَ الهجرةِ بثمانيةِ عشرَ شهرًا من المسجدِ الحرامِ، وتلكَ
الليلةَ فُرضتِ الصلواتُ الخمسُ، ونزلَ جبريلُ فصلَّى برسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصلواتِ في مواقيتِهَا، وأن الإسراءَ إلى بيت المقدس كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من شهر ربيع الأولِ قبل الهجرةِ بسنةٍ، من شعب أبي طالب.
وما بوَّبَ عليه البخاريُّ: أن الصلوات فرضتْ في الإسراءِ يدل على أنَّ
الإسراءَ عنده والمعراج واحد. واللَّهُ أعلم.
* * *(1/626)
قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
القصدُ في الفقرِ والغِنَى عزيزٌ، وهو حالُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ مقتصدًا في حالِ فقر وغناهُ، والقصدُ هو التوسطُ، فإنْ كان فقيرًا لم يُقتر خوفًا من نفادِ الرزقِ، ولم يسرفْ فيحملُ ما لا طاقةَ لهُ به، كما أدَّبَ اللَّهُ تعالى نبيَّه بذلكَ في قولهِ تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) .
وإنْ كان غنيًّا لم يحملْهُ على السرفِ والطغيانِ، بلْ يكون مقتصدًا أيضًا.
قال اللَهُ تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ دلِكَ قَوَامًا) .
وإنْ كان المؤمنُ في حالِ غناهُ يزيدُ على نفقتِهِ في حالِ فقره، كما قالَ
بعضُ السلفِ: إنَّ المؤمنَ يأخذُ عن اللَّهِ أدبًا حسنًا إذا وسع اللَّهُ عليه وسعَ
على نفسِهِ وإذا ضيَّقَ عليه ضيَّقَ على نفسِهِ، ثم تلا قولَهُ تعالى:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) ، لكن يكون في حالِ غناهُ مقتصدًا غيرَ مسرفٍ، كما يفعلُهُ أكثرُ أهلِ الغِنى الذين يخرجُهم الغنى إلى الطغيانِ، كما قالَ تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) .
كان عليٌّ - رضي الله عنه - يعاتَبُ على اقتصادِهِ في لباسِهِ في خلافتِهِ فيقول: هو أبعدُ عن الكِبْرِ وأجدرُ أن يقتديَ بي المسلمُ.
وعوتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في خلافتِهِ على تضييقِهِ على نفسِهٍ فقالَ: إنَّ(1/627)
أفضلَ القصدِ عند الجدة، وأفضلَ العفوِ عندَ المقدرة.
يعني أفضلَ ما اقتصدَ الإنسانُ في عيشِهِ وهو واجدٌ قادر، وهذه حالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائهِ الراشدينَ، لم تغيرْهُم سعةُ الدنيا والملكُ ولم يتنعمُوا في الدنيا.
وقد رُويَ عن سليمانَ عليه السلامُ، أنَّه كان ياكلُ خبزَ الشعيرِ ويلبسُ
الصوفَ.
وسئلَ الحسنُ - رضي الله عنه -، عن رجل آتاهُ اللَهُ مالاً، فهو يحجُّ منه ويتصدق، ألَهُ أن يتنعمَ فيه منه؟
قال: لا، لو كانتْ له الدنيا ما كان له إلا الكفافُ.
ويقدِّمُ فضلَ ذلك ليومِ فقرِه وفاقتِهِ، إنَّما كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ومنْ أخذَ عنهم من التابعينَ، ما آتاهم اللَّهُ من رزدقٍ أخذُوا منه الكفافَ، وقدموا فضلَ ذلك ليومِ فقرِهم وفاقتِهِم.
وقال ابنُ عمرَ لبعضِ ولده: لا تكن من الذين يجعلون ما أنعم الَلَّه عليهم في بطونِهِم وعلى ظهورهِم.
إشارةً إلى أنَّ المالَ لا ينفقُ كلُّه في شهواتِ النفوسِ، وإنْ كانتْ مباحةً.
بل يجعلُ صاحبُهُ منه نصيبًا لدارِه الباقيةَ، فإنه لا يبقَى له منه غيرُ ذلكَ.
وفي الجملةِ فالاقتصادُ في كلِّ الأمورِ حسن حتى في العبادةِ، ولهذا نهي
عن التشديدِ في العبادةِ على النفسِ، وأمر بالاقتصادِ فيها، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم هديًا قاصدًا، فإنَّ اللَهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا".
وفي "مسندِ البزَّارِ" عن حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحسنَ القصدَ في الغِنى، وما أحسنَ القصدَ في الفقرِ، وما أحسنَ القصدَ في العبادةِ".
* * *(1/628)
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
قال إسحاقُ بنُ راهويه: لا يجوزُ التفكُّرُ في الخالقِ، ويجوزُ للعبادِ أن
يتفكَروا في المخلوقينَ بما سمعُوا فِيهم، ولا يزيدونَ على ذلكَ، لأنَّهم إن
فعلُوا، تاهُوا، قالَ: وقد قالَ اللَّهُ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .
فلا يجوزُ أن يقالَ: كيفَ تُسبِّحُ القِصَاعُ، والأخْوِنَةُ، والخبزُ
المخبوزُ، والثِّيابُ المنسوجةُ؟ وكلُّ هذا قد صحَّ العلمُ فيه أنَّهم يسبحونَ.
فذلكَ إلى اللَّهِ أن يجعلَ تسبيحَهم كيفَ شاء وكما يشاءُ، وليسَ للناسِ أن
يخوضُوا في ذلكَ إلا بما علمُوا، ولا يتكلَّموا في هذا وشِبْههِ إلا بما أخبرَ
اللَّهُ، ولا يزيدُوا على ذلكَ، فاتَّقوا اللَّهَ، ولا تخوضُوا في هذه الأشياءِ
المتشابهةِ، فإنَّه يُرْديكُم الخوْضُ فيه عن سننِ الحق.
نقلَ ذلك كُلَّه حَرْبٌ عن إسحاقَ رحمهما اللَّهُ.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) .
قال أهل التفسير: يقولون: ساترًا، والصواب: حمله على
ظاهره، وأن يكون الحجاب مستورًا عن العيون فلا يرى، وذلك أبلغ.
* * *(1/629)
قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
خرَّج الترمذيُّ من حديثِ السديِّ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قولِهِ تعالى:
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ، قال:
"يدعى أحدُهُم فيعطى كتابَهُ بيمينه، ويمدُّ له في جسمِهِ ستونَ ذراعًا.
ويبيضُّ وجهُهُ، ويجعلُ على رأسِهِ تاجٌ من نورٍ يتلألأَ، فينطلقُ إلى أصحابِهِ فيرونَهُ من بعيدٍ، فيقولونَْ اللَّهُمَّ آتنا بهذا وباركْ لنا في هذا، حتى يأتيهُم فيقولُ لهم: أبشروا، لكلِّ رجل منكم مثل هذا.
قال: وأمَّا الكافرُ فيسودُّ وجهُهُ يُمَدُّ له في جسمِهِ ستونَ ذِراغا في صورةِ آدمَ، ويلبسُ تاجًا من نارٍ فيراهُ أصحابُهُ، فيقولونَ: نعوذُ باللَّهِ من شرِّ هذا، اللَهُمَّ لا تأتنا بهذا، فيأتيهم فيقولونَ:
اللَّهُمَ أخره عنا، فيقولُ: أبعدكم اللَّهُ، فإنَّ لكلِّ رجلٍ منكُم مثلَ هذا"
وقال: حسنٌ غريبٌ.
وروى عطاءُ بنُ يسارٍ عن كعبٍ قالَ: يُؤتى بالرئيسِ في الشرِّ فيقالُ له:
أجبْ ربَّكَ، فيُنطلقُ به إلى ربِّه، فيحتجبُ عنه ويؤمرُ به إلى النارِ، فيرى
منزلَهُ ومنزلَ أصحابِهِ، فيقالُ: هذه منزلةُ فلانٍ، هذه منزلةُ فلانٍ، فيرى ما
أعدَّ اللَّهُ لهم فيها من الهوانِ، ويرى منزلتَه أشرَّ من منازِلِهم، قال: فيسودُّ
وجهُهُ وتزرقُّ عيناهُ ويوضعُ على رأسهِ قلنسوةٌ من نارٍ، فيخرجُ فلا يراهُ أهلُ
ملإٍ إلا تعوَّذُوا باللَّهِ منه، فيأتي أصحابَهُ الذين كانُوا يجتمعونَ به على الشرِّ
ويعينونَهُ عليه، فما يزالُ يخبرُهُم بما أعدَّ اللَّهُ لهم في النارِ حتى يعلو(1/630)
وجوهَهُم من السوادِ مثل ما علا وجهَهُ، فيعرفُهُم الناسُ بسوادِ وجوهِهِم.
فيقولونَ: هؤلاءِ أهلُ النارِ.
خرَّجه أبو نُعيمٍ وغيرُه.
وهذا إنَّما هو قبل دخولِهِم إلى النارِ، فإذا دخلوا النارَ عظُمَ خلقهُم على
ما تقدَّمَ في الأحاديثِ السابقةِ.
وأما سنهم فعلى سنِّ أهلِ الجنةِ لا يزادونَ عليه، وروى دراجٌ عن أبي
الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من ماتَ وهوَ من أهلِ الجنةِ من صغيرٍ وكبيرٍ يردونَ بني ثلاثينَ في الجنةِ لا يزيدونَ عليها أبدًا، وكذلك أهلُ النارِ"
خرَّجه الترمذيُّ، وفي روايةِ غيرِ الترمذيِّ: "بني ثلاثٍ وثلاثينَ ".
وخرَّج الطبرانيُّ من طريقِ سليم بنِ عامرٍ عن القدَامِ بنِ معدِيَ كَرِبَ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحدٍ يموتُ سقْطًا أو هرِمًا، وإنَّما الناسُ بينَ ذلك إلا بُعثَ ابنُ ثلاثينَ سنةً، فإن كانَ من أهلِ الجنةِ كانَ على مسحةِ آدمَ وصورةِ يوسفَ وقلبِ أيوبَ، ومن كانَ من أهلِ النارِ عظمُوا وفخمُوا كالجبالِ ".
ورواه غير الطبرانيِّ.
وقالَ: "أبناءُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنةً".
* * *
قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
دلَّ القرآنُ في غيرِ موضع على مواقيتِ الصلواتِ الخمسِ، وجاءتِ السنةُ
مفسرةً لذلكَ ومبيِّنة له:(1/631)
فمن ذلك: قولُ اللَّهِ تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) .
وقد ذكرَ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ كـ مالكٍ والشافعيِّ: أنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على
الصلواتِ الخمسِ، ورُوي معناه عن طائفةٍ من السلفِ:
فقال ابنُ عمرَ: دُلوكُ الشمسِ: مَيْلُها - يُشيرُ إلى صلاةِ الظهرِ حينئذٍ.
وعن ابنِ عباسٍ، قال: دُلوكُ الشمس: إذا جاءَ الليلُ.
وغسق الليلِ: اجتماعُ الليلِ وظلمتِهِ.
وقال قتادةُ: دُلوكُ الشمسِ: إذا زالتِ الشمسُ عن بطنِ السماءِ لصلاةِ
الظهرِ، وغسقُ الليلِ: بدءُ الليلِ صلاةُ المغربِ.
وقد قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تعالى ذكرَ ثلاثةَ أوقاتٍ، لأن أصلَ الأوقاتِ ثلاثةً.
ولهذا تكونُ في حالةِ جوازِ الجمع بين الصلاتينِ ثلاثةً فقط، فدلوك الشمسِ:
وقتٌ لصلاةِ الظهر والعصر في الجملةِ، وغسقُ الليلِ: وقتٌ لصلاة المغربِ
والعشاءِ في الجملةِ، ثم ذكرَ وقتَ الفجرِ بقولِهِ: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .
وقد ثبتَ في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يجتمعُ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ في صلاةِ الفجرِ"
ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرءوا إن شئتُم: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .
وكذلكَ قولُهُ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) .
فقولُهُ: (طَرَفَي النَّهَارِ) ، يدخلُ فيه صلاةُ الفجرِ وصلاةُ العصر.(1/632)
وقد قيلَ: إنَّه يدخلُ فيه صلاةُ الظهرِ والعصرِ، لأنَّهما فى الطَرَفِ الأخيرِ.
وزُلَفُ الليلِ يدخلُ فيه المغربُ والعشاءُ.
وكذا قالَ قتادةُ: إنَّ زُلَفَ الليلِ يدخلُ فيه المغربُ والعشاءُ، وإنَّ طرفي
النهارِ يدخلُ فيه الفجرُ والعصر.
ورُويَ عن الحسنِ، أنه قال في قولِهِ: (طَرَفَىِ النَّهَارِ) ، قال:
صلاةُ الفجرِ، والطرفُ الآخرِ الظهرُ والعصرُ
(وَزُلَفًا مّنَ اللَّيْلِ) المغربُ والعشاء.
وكذلك قولُهُ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) .
وفي الحديثِ الصحيح عن جريرٍ البجليّ حديثُ الرؤية:
"فإنْ استطعتُم أن لا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمسِ وقبلِ غروبِها فافعلُوا"، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) .
وقد أدرجَ أكثرُ الرواةِ القراءةَ في الحديثِ، وبيَّن بعضُهم: أنَ جريرًا هو
الذي قرأ ذلك، فبَيَّن أن صلاةَ الصبح وصلاةَ العصرِ يدخلُ في التسبيح قبل
طلوع الشمسِ وقبلَ غروبِها، وأمَّا التسبيحُ من آناءِ الليلِ فيدخلُ فيه صلاةُ
المغربِ وصلاةُ العشاءِ. وقولُهُ: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) يدخلُ فيه صلاةُ
الفجر وصلاةُ العصرِ، وربما دخلتْ فيه صلاةُ الظهرِ، لأنها في أول طرفِ
النهارِ الآخرِ.
وقال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) .(1/633)
وقد قال ابنُ عباسٍ وأبو صالح: إنَّ التسبيحَ قبل طلوع الشمسِ وقبل
الغروبِ: الصبحُ وصلاةُ العصرِ.
وقولُهُ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحهُ) ، قال مجاهد: الليلَ كلَّه.
وهذا يدخلُ فيه صلاةُ الغربِ والعشاءِ، ويدخلُ فيه التهجدُ التنفلُ به -
أيضًا.
وقال خُصَيْف: المرادُ بتسبيحِهِ من الليلِ: صلاةُ الفجرِ المكتوبةُ، وفيه بُعْد.
وأمَّا (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) ، فقالَ أكثرُ الصحابةِ، منهم: عُمر، وعليٌّ.
والحسنُ بنُ عليٍّ، وأبو هريرةَ، وأبو أُمامةَ وغيرُهُم: إنَّهما ركعتانِ بعد
المغربِ، وهو رواية عن ابنِ عباسٍ، ورويَ عنه مرفوعًا.
خرَّجهُ الترمذيُّ بإسنادٍ فيه ضعفٌ.
فاشتلمتِ الآية ُ على الصلواتِ الخمسِ مع ذكرِ بعضِ التطوع.
وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) .
فقولُهُ: (حِينَ تَقُومُ) ، قد فُسِّر بإرادةِ القيامِ إلى الصلاةِ، وهو قولُ
زيدِ بنِ أسْلَم والضحاكِ، وفُسِّر بالقيامِ من النومِ، وهو قولُ أبي الجود.
وفُسِّر بالقيامِ من المجالسِ.(1/634)
وقولُهُ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) ، قال مجاهد: من الليلِ كلِّه، يدخلُ
في ذلكَ صلاةُ المغربِ والعشاءِ وصلاةُ الليلِ المتطوع بها.
وفسَّره خُصيف بصلاةِ الفجرِ، وفيه نظر.
(وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) : ركعتا الفجرِ كذا قالَهُ عليٌّ وابن عباسٍ في
روايةٍ، ورويَ عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا.
خرَّجه الترمذيُّ وفيه ضعف.
وقال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) .
قال الإمامُ أحمدُ: نا ابنُ مهدي: نا سفيان، عن عاصم، عن أبي رَزِين.
قال: جاءَ نافعُ بنُ الأزرقِ إلى ابنِ عباسٍ، فقال: الصلواتُ الخمسُ في
القرآنِ؟
فقال: نعم، فقرأ: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) ، قال: صلاةُ
المغربِ (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ، صلاةُ الفجرِ (وَعَشِيًّا) ، صلاةُ
العصرِ (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ، صلاةُ الظهرِ، وقرأ: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ
ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) .
ورواه آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" عن حمَّادِ بنِ سلمةَ، عن عاصم.
قال: جاءَ نافعٌ - ولم يذكرْ أبا رَزِين.
وروى آدمُ - أيضًا -: نا شريك، عن ليثِ بنِ أبي سليم، عن الحَكَم بنِ
عُتَيْبةَ، عن أبي البَخْتري، عن ابنِ عباسٍ، قال: جمعتْ هذه الآية ُالصلواتِ
كلَّها - فذكره بمعناه، ولم يذكرْ فيه: صلاةَ العشاءِ.(1/635)
رُوي عن الحسنِ وقتادةَ في قولِهِ تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) .
قال: صلاةُ المغربِ والعشاءِ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : صلاةُ الغداةِ.
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا) ، قال: العصرُ.
(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ، قال: الظهرُ.
خرَّجه البيهقيُّ وغيرُهُ.
* * *
[قالَ البخاريُّ] : حدثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يوسفَ: أبنا مالكٌ، عن أبي
الزِّنادِ، عن الأعْرج، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يتعاقبون فيكُم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنهارِ، ويجْتمعُون في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، ثمَّ يعْرُج الذين كانُوا فيكُمْ، فيسألهم - وهو أعلمُ بهم -: كيف تركتُم عبادِي؛ فيقولونَ: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهُم وهم يُصلُّون ".
قولُهُ: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ" جمع فيه الفعلَ مع إسناده إلى ظاهرٍ، وهو
مخرجٌ على اللُّغةِ المعروفةِ بلغةِ "أكلونِي البراغيثُ "، وقد عرَّفها بعضُ
متأخري النحاةِ بهذا الحديثِ، فقالَ: "هي لغةُ: يتعاقبونَ فيكُم ملائكة".
والتعاقبُ: التناوبُ والتداولُ، والمعنى: أنَّ كل ملائكةٍ تأتِي تعقبُ
الأخرى.
وقد دلَّ الحديثُ على أن ملائكةَ الليلِ غيرُ ملائكةِ النَّهارِ.
وقد خرَّجا في "الصحيحينِ " من حديثِ الزُّهْرِي، عن سعيدٍ(1/636)
وأبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرةَ، عنِ النبى - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "تجتمع ملانكةُ الليلِ، وملانكةُ النهارِ في صلاةِ الفجرِ".
ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرءُوا إن شئتُم: (إِن قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .
ففي هذه الروايةِ: ذكرُ اجتماعِهِم في صلاةِ الفجرِ، واستشهدَ أبو هريرةَ
بقولِ اللهِ عزَّ وجل: (إِن قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .
وقد رُوي في حديثٍ من روايةِ ابي الدرداءِ - مرفوعًا -: "أنه يشهدُهُ اللهُ
وملائكتُهُ ".
وفي روايةٍ: "ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ،.
خرَّجهُ الطبراني وابنُ منده وغيرُهُما.
فقد يكون تخصيصُ صلاةِ الفجرِ لهذا، وصلاةُ العصرِ يجتمعُ - أيضًا -
فيها ملائكةُ الليلِ والنَّهارِ، كما دل عليهِ حديثُ الأعْرج، عن أبي هريرةَ.
وقد رُويَ نحوُه من حديثِ حُميدٍ الطويلِ، عن بكرٍ المزنى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
وهؤلاءِ الملائكةُ، يحتملُ أنَهم المعقباتُ، وهم الحَفَظَةُ، ويحتملُ أنَّهم كتبةُ
الأعمال.
وروى أبو عُبيدةَ، عن أبيه عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، في قولِهِ: (إِنً قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا) ، قال: يعني صلاةَ الصبح، يتداركُ فيه الحرسانِ
ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النَّهارِ.(1/637)
وقال إبراهيمُ، عن الأسودِ بنِ يزيدَ: يلتقِي الحارسانِ من ملائكةِ اللَّيلِ
وملائكةِ النَّهارِ عندَ صلاةِ الصبح، فيسلِّم بعضُهم على بعضٍ، ويحيى
بعضُهُم بعضًا، فتصعدُ ملائكةُ الليلِ وتبسطُ ملائكةُ النهارِ.
قال ابنُ المباركِ: وُكِّل بابنِ آدمَ خمسةُ أملاكٍ: ملكا الليلِ، وملكا النهارِ.
يجيئانِ ويذهبانِ، والخامسُ لا يفارقُهُ ليلاً ولا نهارًا.
وممن قالَ: إن ملائكةَ الليلِ وملائكةَ النهارِ تجتمعُ في صلاةِ الفجرِ.
وفسر بذلك قولَ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مشْهُودًا) مجاهدٌ ومسروقٌ وغيرُهُما.
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: والأظهرُ أن ذلكَ في الجماعاتِ، قالَ: وقد يحتملُ
الجماعاتِ وغيرَها.
قلتُ: يشهدُ للأولِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا أمَّن الإمامُ فأمِّنوا، فمَنْ وافقَ تأمينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبهِ ".
ونَهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أكلَ الثومَ أن يشهدَ المسجد، وتعليلُه: أنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدمَ.
وقد بوَّبَ البخاريُّ على اختصاصِهِ بالجماعاتِ في "أبوابِ صلاةِ الجماعةِ".
كما سيأتي في موضعِهِ - إن شاءَ الله تعالى.
ويشهدُ للثاني: أنَّ المصلِّي ينهى عن أن يبصقَ في صلاتِهِ عن يمينِهِ؛ لأنَّ(1/638)
عن يمينِهِ ملكًا، ولا يفرقُ في هذا بين مصلي جماعةٍ وفُرَادى.
* * *
قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "والقرَآن حجةٌ لك أو عليكَ ".
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
قال بعضُ السلفِ: ما جالسَ أحدٌ القرآنَ، فقامَ عنه سالمًا؛ بل إمَّا أن يربحَ أو أن يخسرَ، ثمَّ تلا هذه الآية.
* * *
قال الله عز وجل: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
قال ابنُ عباسٍ: كلما طفئتْ أوقدتْ، وقال ابنُ عباسٍ: خبتْ سكنتْ.
وقالَ ابنُ قتيبةَ: خبتِ النارُ إذا سكنَ لهبُها، فاللهبُ يسكنُ والجمرُ يعملُ.
وقال غيره من المفسرينَ: تأكلُهُم.
فإذا صارُوا فحمًا ولم تجدِ النارُ شيئًا تأكلُهُ أعيد خلقُهم خلقًا جديدًا فتعودُ
لأكِلهِم.(1/639)
وقولهُ: (زِدْنَاهُم سَعِيرًا) أي: نارًا، تتسعرُ وتتلهبُ.
وقد رُويَ عن عمرِو بنِ عبسةَ أن في جهنَّمَ بئرٌ يقال له: الفلقُ، منه تسعرُ
جهنَّمُ إذا سعرتْ، وسنذكرُهُ فيما بعدُ إن شاءَ الله تعالى.
والمعنى أنَّه يكشفُ ذلك البئرُ فيخرج منه نارٌ تلهب جهنَّم وتوقدُها.
وقالَ اللَّه تعالى: (فَأَنذَرْتُكمْ نَارًا تَلَظَّى) ، قال مجاهدٌ وعْيرُهُ: توهجُ.
قرأ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ليلةً في صلاتِهِ سورةَ: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)
فلما بلغَ قولَهُ: (فَأَنذَرْتُكمْ نَارًا تَلَظَّى) ، بكى فلم يستطعْ أنْ يجاوزَهَا
مرتينِ أو ثلاثًا، ثم قرأ سورةً أخرى غيرَها.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وفي "الصحيحينِ " عن عائشةَ في قولِهِ تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أنها نزلت في الدعاءِ.
وكذا رُوي عن ابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ، وعن سعيدِ بنِ جبيرٍ وعطاءٍ
وعكرمةَ وعروةَ ومجاهدٍ وإبراهيمَ وغيرِهم.
وقال الإمامُ أحمدُ: ينبغي أن يسرَّ دعاءَه؛ لهذه الآيةِ.
قال: وكان يكرَه أن يرفعُوا أصواتَهم بالدعاءِ.
وقالَ الحسنُ: رفعُ الصوتِ بالدعاءِ بدعةٌ.(1/640)
وقال سعيدُ بنُ المسيبِ: أحدثَ الناسُ الصوتَ عندَ الدعاءِ.
وكرِهَه مجاهدٌ وغيرُهُ.
وروى وكيعٌ، عن الربيع، عن الحسنِ - والربيع، عن يزيدَ بنِ أبانٍ، عن
أنسٍ -: أنهما كرِها أن يُسمعَ الرجلُ جليسَهُ شيئًا من دعائِهِ.
* * *(1/641)
سُورَةُ الكَهْفِ
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: هل تُنْبَشُ قُبُورُ مُشركي الجاهليّة، ويُتخذُ
مكانُها مساجدَ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لعن الله اليهودَ، اتَخذوا قبورَ أنبيائِهِم مساجدَ"
وما يكرَهُ من الصلاةِ في القبُورِ":
ورأى عمرُ أنسَ بنَ مالكٍ يُصلِّي عندَ قبرٍ، فقال: القبرَ القبرَ، ولم يأمرْهُ بالإعادةِ.
مقصودُ البخاريّ بهذا البابِ: كراهةُ الصلاةِ بين القبورِ وإليها، واستدلَّ
لذلكَ بأن اتَّخاذَ القبورِ مساجدَ ليسَ هو من شريعةِ الإسلامِ، بل من عملِ
اليهودِ، وقد لعنَهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلكَ.
وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ ما دلَّ عليه هذا الحديثُ، وهو قولُ اللَّهِ عزَ وجلَّ
في قصةِ أصحابِ الكهفِ: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهم مَسْجِدًا) ، فجعل اتخاذَ القبورِ على المساجدِ من فعلِ أهلِ الغلبةِ على
الأمورِ، وذلك يشعرُ بأنَّ مستندَهُ القهرُ والغلبةُ واتباعُ الهوى، وأنَّه ليس من
فعلِ أهلِ العلم والفضلِ المتبعينَ لما أنزلَ اللهُ على رسلِهِ من الهُدَى.(1/642)
وإذا كرهتِ الصلاةُ إلى القبورِ وبينَها، فإن كانتِ القبورُ محترمةً اجْتُنِبَتِ
الصلاةُ فيها، وإن كانتْ غيرَ محترمةٍ كقبورِ مشركي الجاهليةِ ونحوِهِم ممَّن لا
عهدَ له ولا ذمَّة مع المسلمينَ، فإنه يجوزُ نبشُها ونقلُ ما يوجدُ فيها من
عظامِهِم، والصلاةُ في موضعِها، فإنها لم تبقَ مقبرةٌ ولا بقيَ فيها قبورٌ، وقد
نصَّ الإمامُ أحمدُ على ذلكَ في روايةِ المروزيِّ.
وأمَّا ما ذكرَهُ عن عُمرَ - رضي الله عنه -، فمن روايةِ سفيانَ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، قالَ: رآني عمرُ وأنا أصلِّي إلى قبرٍ، فجعلُ يشيرُ إليَّ: القبرَ القبرَ.
ورواه إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، حدَّثه أنه قامَ يصلِّي إلى
قبرٍ لا يشعرُ به، فناداه عمرُ: القبرَ القبرَ، قالَ: ففطننتُ أنَّه يقولُ: القمرُ.
فرفعتُ رأسي، فقال رجلٌ: إنَّه يقول: القبرُ، فتنحيتُ.
وروي عن أنسٍ، عن عمرَ من وجوهٍ أُخر.
وروى همامٌ: ثنا قتادةُ، أنَّ أنسًا مرَّ على مقبرةٍ وهم يبنون مسجدًا، فقالَ
أنسٌ: كان يكرهُ أن يبنى مسجدٌ في وسطِ القبورِ.
وقال أشعثُ: عن ابنِ سيرينَ: كانُوا يكرهونَ الصلاةَ بين ظهرانيِّ القبورِ.
خرَّج ذلكَ كلَّه أبو بكرٍ الأثرمُ.
وقال: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ - يعني: أحمدَ - يُسألُ عن الصلاةِ في المقبرةِ؟
فكرَهَ الصلاةَ في المقبرةِ. فقيلَ له: المسجدُ يكونُ بين القبورِ، أيصلَّى فيه؟
فكره ذلك، قيل له: إنه مسجدٌ وبينه وبينَ القبورِ حاجزٌ؛ فكره أن يصلَّى فيه الفرضُ، ورخصَ أن يصلَّى فيه على الجنائزِ، وذكر حديثَ أبي مَرْثَدٍ الغَنويِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"لا تصلُّوا إلى القبورِ".
وقال: إسنادٌ جيد.(1/643)
وحديثُ أبي مَرْثد هذا:
خرَّجه مسلمٌ، ولفظُهُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"لا تجلسُوا على القبورِ، ولا تصلُّوا إليها".
ورُويَ عن عمرِو بنِ يحيى المازنيِّ، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"جعلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا، إلا المقبرةُ والحمامُ ".
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ والترمذيُّ، وابنُ حبانَ والحاكمُ
وصححَه.
وقد اختلفَ في إرسالهِ ووصلِهِ بذكرِ "أبي سعيدٍ" فيه، ورجَّح كثيرٌ من
الحفاظِ إرسالَهُ: عن عمرِو بنِ يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذيّ
والدارقطنيُّ.
وفي البابِ أحاديثُ أُخرُ، قد استوفيناها في "كتابِ شرح الترمذيَ ".
وأمَّا ما ذكره البخاريُّ: أن عمرَ لم يأمر أنسًا بالإعادةِ.
فقد اختلفَ في الصلاةِ في المقبرةِ: هل تجبُ إعادتُها، أم لا؟
وأكثرُ العلماءِ على أنَّه لا تجبُ الإعادةُ بذلكَ، وهو قولُ مالكٍ.
والشافعيِّ، وأحمدَ في روايةٍ عنه.
والمشهورُ عن أحمدَ الذي عليه عامةُ أصحابِهِ: أنَّ عليه الإعادةَ " لارتكابِ
النهي في الصلاةِ فيها.
وهو قولُ أهلِ الظاهرِ - أو بعضِهِم - وجعلُوا النهيَ هاهنا لمعنى يختصُّ(1/644)
بالصلاةِ من جهة مكانِها، فهو كالنهيِّ عن الصلاةِ المختصِّ بها لزمانِها
كالصلاةِ في أوقاتِ النهي، وكالصيامِ المنهي عنه لأجلِ زمنِهِ المختصِّ به كصيامِ العيدين.
حتى إن من أصحابِنا من قال: متى قُلنا: النهيُّ عن الصلاةِ في المقبرةِ
والأعطانِ ونحوِها للتحريمِ، فلا ينبغي أن يكونَ في بطلان الصلاةِ فيها
خلافٌ عن أحمدَ، وإنَّما الخلافُ عنه في عدمِ البطلانِ مبني على القول بأنه
مكروهٌ كراهةُ تنزيهٍ.
وأكثرُ العلماءِ على أن الكراهةَ في ذلكَ كراهةُ تنزيهٍ، ومنهُم من رخَّص
فيه.
قال ابنُ المنذرِ: اختلفُوا في الصلاةِ في المقبرةِ، فرُوِّينا عن عليٍّ وابنِ عباسٍ
وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهُوا الصلاةَ فيها، واختلفَ عن
مالكٍ فيه، فحكى ابنُ القاسم عنه أنه قال: لا بأسَ به، وحكَى أبو مصعبٍ
عنه أنه قال: لا أحبُّ ذلكَ.
قال ابنُ المنذرِ: ونحنُ نكرهُ من ذلكَ ما كرههُ أهلُ العلم استدلالاً بالثابتِ
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه قال:
"اجعلُوا في بيوتِكُم من صلاتِكُم، ولاتتخذُوها قبورًا".
ففي هذا دليلٌ على أنَّ المقبرةَ ليستَ بموضع للصلاةِ.
قلتُ: قد استدل البخاريُّ بذلكَ - أيضًا - وعقدَ له بابًا مفردًا، وسيأتي في
موضعِهِ - إن شاء اللَّه تعالى.
قالَ ابنُ المنذرِ: وقد قال نافعٌ مولى ابنِ عمرَ: صلينا على عائشةَ وأمِّ سلمةَ(1/645)
وسطَ البقيع، والإمامُ يومئذٍ أبو هريرةَ، وحضرَ ذلك ابنُ عمرَ.
قلتُ: صلاةُ الجنازةِ مستثناةٌ من النهيِّ عندَ الإمامِ أحمدَ وغيره، وقد سبقَ
قولُ أحمدَ في ذلكَ.
وقالَ - أيضًا -: لا يصلَّى في مسجدٍ بين المقابرِ إلا الجنائزُ؛ لأنَّ الجنائزَ هذه سنتُها.
يشيرُ إلى فعلِ الصحابةِ - رضي الله عنهم -.
قال ابنُ المنذرِ: ورُوِّينا أنَّ وَاثِلةَ بن الأسْقَع كان يصلِّي في المقبرةِ، غيرَ أنه
لايستترُ بقبرٍ.
قلتُ: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديثَ النهىِّ عن الصلاةِ إلى القبورِ.
فكانَ يخصُّ النهي بحالةِ استقبالِ القبرَّ خَاصةً.
قال ابنُ المنذرِ: وصلَّى الحسنُ البصريُّ في المقابر.
قلتُ: لعلَّه صلَّى على جنازةٍ، فإنه روى عنه أنه أمرَ بهدمِ المساجدِ المبنيةِ
في المقابرِ.
قال: وكره عمرُ بنُ الخطابِ وأنسُ بنُ مالك الصلاةَ إلى المقابرِ.
انتهى ما ذكره.
واختلفَ القائلونَ بالكراهةِ في علَّةِ النهي:
فقال الشافعيُّ: علةُ ذلكَ النجاسةُ، فإن ترابَ المقابرِ يختلطُ بصديدِ الموتى
ولحومِهِم، فإن كانتْ طاهرةً صحت الصلاةُ فيها مع الكراهة.
وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثةِ أقسام: ما تكرَّر نبشُها، فلا تصحُّ الصلاةُ
فيها، لاختلاطِ ترابها بالصَّديدِ. وجديدَّةَ لم تُنْبش، فتصحُّ الصلاةُ فيها مع(1/646)
الكراهة؛ لأنها مدفن للنجاسة.
وما شُكَّ في نبشِها، ففي صحة الصلاةِ فيها قولانِ.
واختلفَ أصحابُنا في علةِ النهي عن الصلاةِ، فمنهم من قالَ: هو مظنةُ
النجاسةِ، ومنهُم من قالَ: هو تعبُّد لا يُعْقلُ.
وقالُوا مع هذا: لا فرقَ بين أن تكونَ قديمةً أو حديثةً، نُبِشَتْ أو لم تُنْبشُ.
إذا تناولها اسمُ مقبرة.
قالُوا: فإن كان في بقعةٍ قبرٌ أو قبرانِ فلا بأسَ بالصلاةِ فيه، ما لم يُصلِّ
إلى القبرِ.
وأنكرَ آخرونَ التعليلَ بالنجاسةِ، بناءً على طهارةِ ترابِ المقابرِ بالاستحالةِ.
وعللوا: بأنَّ الصلاةَ في المقبرةِ وإلى القبور، إنَّما نَهَى عنه سدًّا لذريعةِ
الشِّرْكِ، فإن أصلَ الشركِ وعبادة الأوثانِ كانتْ من تعظيمِ القبورِ.
وقد ذكرَ البخاريُّ في "صحيحِهِ " في "تفسيرِ سورةِ نوح " عن ابنِ عباسٍ، معنى ذلك.
وفي "صحيح مسلمٍ" عن جندب، سمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أن يموتَ بخمسٍ يقولُ:
"إنَّ من كانَ قبلَكُم كانُوا يتخذونَ قبورَ أنبيائِهِم وصالحيهم
مساجدَ، ألا فلا تتخِذُوا القبورَ مساجدَ، فإنِّي أنهاكم عن ذلك ".
وهذا يعمُّ كلَّ القبورِ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ "
من حديثِ ابنِ مسعودٍ،(1/647)
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"إنَّ من شرارِ الناسِ من تدركُهُم الساعةُ وهم أحياء، ومن يتخذُ
القبورَ مساجدَ".
وخرَّج الإمام أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ من حديثِ أبي صالحِ، عن ابنِ
عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لعنَ اللَّهُ زائراتِ القبورِ، والمتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُج.
وقال الترمذيُّ: حسنٌ - وفي بعضِ النُّسخ: صحيحٌ.
وخرَّجهُ ابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " والحاكمُ وصحَّحَه.
واختلفَ في أبي صالح هذا، منْ هو؟
فقيلَ: إنه السمانُ - قاله الطبرانيُّ، وفيه بعدٌ، وقيلَ: إنه ميزانٌ البصريُّ.
وهو ثقةٌ؛ قاله ابنُ حبانَ. وقيلَ: إنه باذَان مولى أمِّ هانئ؛ قاله الإمامُ أحمدُ
والجمهورُ.
وقد اختلفَ في أمره.
فوثقه العجليُّ. وقالَ ابنُ معينٍ: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتمٍ: يُكْتَبُ
حديثُهُ ولا يحتجُّ به.
وقال النسائي: ليس بثقةٍ.
وضعفه الإمامُ أحمدُ وقالَ: لم يصحَّ عندي حديثُهُ هذا.
وقال مسلمٌ في "كتابِ التفصيلِ ": هذا الحديثُ ليسَ بثابتٍ، وأبو صالحٍ
باذام قد اتقى الناسُ حديثَهُ، ولا يثبتُ له سماعٌ من ابنِ عباسٍ.(1/648)
وروي عن زيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّه نهى أن يُبْنَى عند قبرِ أبيه مسجدٌ.
خرَّجه حربٌ الكرْمانيُّ.
وقال أبو بكرٍ الأثرمُ في كتابِ "الناسخ والمنسوخ ": إنما كرهتِ الصلاةُ في
المقبرةِ للتشبهِ بأهلِ الكتابِ؛ لأنهم يتخذونَ قبورَ أنبيائِهِم وصالحِيهم مساجدَ.
ووجدنا في كتابٍ مصنفٍ على مذهبِ سفيان الثوريِّ: وإذا صلَّى الرجلُ
وبين يديه ميتٌ تنحَّى عنه.
إنما كره الصلاةَ إلى القبورِ من أجلِ الميتِ، فإنْ صلَّى إليها فلا بأسَ.
وفيه - أيضًا -: قال سفيانُ: ويكرهُ أن يصلِّي الرجلُ إلى القبورِ أو ما بينَ
القبورِ. ثم قالَ: ومن صلَّى إلى القبورِ فلا إعادةَ عليهِ.
وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاةُ على الجنازةِ في المقبرةِ.
وهذا قولُ الشافعيِّ وإسحاقَ ورواية عن أحمدَ؛ لعمومِ النهيِّ عن الصلاةِ
في المقبرةِ.
واستدلَّ من رخَّصَ في صلاةِ الجنازةِ في المقبرةِ: بأنَّ الصلاةَ على القبرِ
جائزةٌ بالسنة الصحيحةِ، فعلم أنَّ الصلاةَ على الميتِ في القبورِ غير منهيٍّ
عنها.
[قالَ البخاريُّ] : ثنا محمد بنُ المثنى: ثنا يحيى، عن هشام: أخبرني
أبي، عن عائشة، أن أمَّ حبيبةَ وأم سلمةَ ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها
تصاويرُ، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
"إن أولئك إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فمات بنو على قبْر مسجدًا، وصوَّرُوا فيه تلك الصور، وأولئكِ شرارُ الخلقِ عندَ اللهِ يوم القيامةِ".(1/649)
هذا الحديثُ يدلُّ على تحريمِ بناءِ المساجدِ على قبورِ الصالحينَ، وتصويرِ
صورِهم فيها كما يفعلُهُ النصارَى، ولا ريبَ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محرم على
انفراده: فتصويرُ صورِ الآدميينَ محرم، وبناءُ القبورِ على المساجدِ بانفرادِهِ
محرم، كما دلتْ عليه نصوصٌ أُخرُ يأتِي ذكرُ بعضِها.
وقد خرَّج البخاريُّ في "تفسيرِ سورةِ نوح " من "كتابِهِ " هذا من حديثِ
ابنِ جريرٍ، فقالَ: عطاء، عن ابنِ عباسٍ: صارتِ الأوثانُ التي كانت في قومِ
نوحٍ في العربِ تُعْبد، أما "ودّ": كانت لكلبٍ بدومَةِ الجندَلِ، وأمَّا، "سُواع": كانت لهذيلٍ، وأما "يَغُوثُ ": فكانت لمرادٍ، ثم لبني غُطيف بالجرفِ عند سبإٍ، وأمَّا "يعُوقُ ": فكانتْ لهمدانَ، وأمَّا "نسْر": فكانت لحِمْيَر لاآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحينَ من قومِ نوحٍ، فلما هلكُوا أوحى الشيطانُ إلى قومِهِم أن انصبُوا إلى مجالسِهِم التي كانُوا يجلسَون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائِهِم، ففعلُوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلكَ أولئك ونُسخَ العلمُ عُبِدتْ.
وقد ذكرَ الإسماعيليُّ: أن عطاءً هذا هو الخراسانيُّ، الخراسانيُ لم يسمعْ
من ابنِ عباسٍ. واللَّه أعلمُ.
فإن اجتمعَ بناءُ المسجدِ على القبورِ ونحوِها من آثارِ الصالحينَ مع تصويرِ
صورِهِم، فلا شكَّ في تحريمِهِ، سواءٌ كانتْ صورًا مجسدةً كالأصنامِ أو على
حائطٍ ونحوِه، كما يفعلُه النصارى في كنائسهم، والتصاويرُ التي في الكنيسةِ
التي ذكرتها أمُّ حبيبة وأمُّ سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانتْ على الحيطانِ(1/650)
ونحوِها، ولم يكنْ لها ظل، وكانتْ أمُّ سلمةَ وأمُّ حبيبة قد هاجرتا إلى
الحبشةِ.
فتصويرُ الصورِ على مثل صورِ الأنبياءِ والصالحينَ، للتبركِ بها والاستشفاع
بها محرَّمٌ في دينِ الإسلامِ، وهو من جنسِ عبادةِ الأوثانِ، وهو الذي أخبر
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن أهلَه شرارُ الخلقِ عندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ.
وتصوير الصورِ للتآنسِ برؤيتها أو للتنزهِ بذلك والتَّلهي محرَّم، وهو منَ
الكبائرِ وفاعلُه من أشدِّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ، فإنه ظالمٌ ممثِّلٌ بأفعالِ اللَّهِ
التي لا يقدرُ على فعِلهَا غيرُه، واللَّهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ) ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.
* * *
قوله عز وجل: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وسببُ نزولِهَا: أنّ قومًا سألُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قصةٍ، قال: غدًا أخبرُكم، ولمْ يقلُ إنْ شاء اللَّهُ. فاحتبس الوحيُ عنه مدةً، ثم نزلتْ هذه الآيةُ.
وفي الحديثِ الصحيح: أنَّ سليمانَ - عليه السلامُ - قال: "لأطوفنَّ الليلةَ
على مائةِ امرأةٍ" الحديث.(1/651)
وفي الحديث: أنَّ بني إسرائيلَ، لو لمْ يقولُوا: "إنْ شاء اللَّه " ما اهتدُوا
أبدًا يعني إلى البقرةِ التي أُمروا بذبحِهَا.
وفي الحديثِ الذي في "المسندِ" و "السنن": أنَّ يأجوجَ ومأجوجَ يحفرونَ
كلَّ يومٍ السدَّ حتى يكادُوا يروا منه شُعاعَ الشمسِ، ثم ينصرفونَ ويقولونَ غدًا نفتحُهُ فإذا رجعُوا من الغدِ وجدُوه كما كان أولاً حتى يأذنَ اللَّهُ في فتحِهِ، فيقولونَ: غدًا نفتحُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ، فيرجعونَ فيجدونَهُ كما تركوه فيفتحونه.
قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: قال بعضُهم: ما سألَ السائلونَ مسألةً هي أنجحُ من
أن يقولَ العبدُ: ما شاء اللَّهُ قال: يعني بذلك: التفويضَ إلى اللَّهِ.
وكان مالكُ بنُ أنسٍ كثيرًا يقولُ: ما شاءَ اللَّهُ ما شاءَ اللَّهُ.
فعاتبه رجلٌ على ذلكَ. فرأى في منامِهِ قائلاً يقولُ: أنت المُعاتبُ لمالكٍ على قولِهِ ما شاء اللَّه، لو شاءَ مالكٌ أنْ يثقبَ الخردلَ بقولِه ما شاءَ اللَّهُ فعلَ.
قال حمادُ بنُ زيدٍ: جعلَ رجلٌ لرجلٍ جُعلاً على أنْ يعبرَ نهرًا، فعبرَ حتى
إذا قربَ من الشطِّ، قال: عبرتُ واللَّهِ، فقالَ له الرجلُ: قلْ إن شاء اللَّهُ.
فقال: شاءَ اللَّهُ أو لم يشأ، قال: فأخذَتْهُ الأرضُ.
فلا ينبغي لأحدٍ أن يُخبر بفعلٍ يفعله في المستقبلِ إلا أنْ يُلحقَهُ بمشيئةِ اللَّهِ.
فإنَّه ما شاءَ اللَّهُ كان وما لم يشأ لم يكنْ.
والعبدُ لا يشاءُ إلا أنْ يشاءَ اللهُ له.
فإذا نسِيَ هذه المشيئةَ ثم تذكَّرها فقالَهَا عند ذكرها ولو بعدَ مدةٍ، فقد
امتثلَ ما أُمِرَ به، وزالَ عنه الإثمُ، وإنْ كان لا يرفعُ ذلك عنه الكفارةَ،(1/652)
ولا الحِنثَ في يمينِهِ، ولهذا في كلامِ أبي الدرداءِ: اللَّهُمَ اغفرْ لي وتجاوزْ عنِّي.
فلم يسألْ إلا رفعَ الإثم دونَ رفع الكفارةِ.
رُوي عن سعيدِ بنِ جبيرِ، في قولِهِ تعالي: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) .
قال: يقولُ: إذا حلفتَ فنسيتَ الاستثناءَ فاستثنِ إذا ذكرتَ.
ولو بعدَ خمسةِ أشهرٍ أو ستةَ أشهرٍ؛ فإنَّه يجزئك ما لم تحنثْ.
خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياسِ في "تفسيرِهِ ".
وعلى هذا حَملَ قولَ ابنِ عباسٍ وأصحابهِ طائفةٌ من العلماءِ، منهُم:
أبو مسعودٍ الأصبهانيُّ الحافظُ وابنُ جريرِ الطبريُّ.
وكذا يُقال في هذا الحديثِ من تقدُّم الاستثناء؛ فإنَّ تقديمَه أبعدُ من تأخير
عن اليمينِ، فإنَّ اليمينَ لم تُوجد بالكليَّة وفي تأخيره وجدتْ.
وقد قالَ مالكٌ في الاستثناءِ في اليمينِ: إنْ ذكرَ المشيئةَ يريدُ بها الاسثتناءَ
نفعَهُ ذلك في منع الحنثِ، وإنْ كان إنَما أراد امتثالَ قولِهِ تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، ثم حنثَ، فإنَي
أرى الكفارةَ نقلَهُ ابنُ المنذرِ وغيرُه وكذلك حكاهُ أبو عُبيد عن بعضِ العلماءِ.
وترددَ بعضُ العلماء في وجوبِ الكفارةِ في هذا القسم؛ لترددِّ نظر بين
اللفظِ والمعْنَى. فلفظُهُ معلَّق بالمشيئةِ، ومعناهُ الجزمُ بالفعلِ غير معلقٍ، وإنَّما
ذكرَ الاستثناء تحقيقًا وتأكيدًا للفعلِ.
وفي الجملةِ: فينبغي حملُ حديثِ زيدِ بنِ ثابتِ هذا على هذا المعنى.
وأنْ تُقدَّم المشيئةُ على كل قولٍ يقولُه وحلفٍ يحلفُهُ ونذرٍ ينذرُهُ، ليخرجَ بذلكَ(1/653)
من عُهدةِ استقلالِ العبدِ بفعلهِ، وليحققَ العبدُ أنَّه لا يكونُ مما يعزم عليه العبدُ
ويقولُه من حل ونذرٍ وغيرِهِما إلا ما شاءَ اللَّهُ وأرادَهُ، ولهذا قالَ بعدَهُ: "ما
شئتَ كان وما لم تشأ لم يكنْ، ولا حول ولا قوَّةَ إلا بكَ، إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير".
فتبرَّأ من حولِهِ وقوتِهِ ومشيئتِه بدون مشيئةِ اللَّهِ وحولِهِ وقوتِهِ، وأقرَّ لربِّه
بقدرتِهِ على كلِّ شيءٍ وأنَّ العبدَ عاجز عن كلِّ شيءٍ إلا ما أقدرَهَ عليه ربّه.
ففي هذا الكلامِ: إفرادُ الربِّ تعالى بالحولِ والقوةِ والقُدرةِ والمشيئةِ، وأنَّ
العبدَ غيرُ قادرٍ من ذلكَ كلِّه إلا على ما يقدره مولاهُ، وهذا نهايةُ توحيدِ
الربوبيةِ.
وللشافعيِّ من أبياتٍ شعر:
ما شئتَ كانَ وإنْ لم أشأْ. . . وما شئتُ إنْ لم تشأ لم يكنْ
وقد حملَ طائفة منهُم الإمامُ أحمدُ كلامَ ابنِ عباسٍ في تأويلِ الآيةِ على
وجهٍ آخرَ، وهو: أنَّ الرجلَ إذا قال: لا أفعلُ كذا وكذا، ثم أرادَ فعلَهُ فإنَّه
يستثنِي، ويقولُ: إن شاءَ اللَّهُ، ثم يفعلُهُ ويتخلَّصُ بذلكَ من الكذبِ إذا لم
يكنْ حلف على يمين.
وكان يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ، إذا قالَ: لا أفعلُ كذا. لا يفعلُه أبدًا، فإذا
قيلَ له: لم تحلفْ؛ يقولُ: هذا أشدُّ - يعني الكذبَ - لو كنتُ حلفتُ كان
أهونُ، كُنتُ أكفِّرُ يميني وأفعلُهُ.
وسُئل الإمامُ أحمدُ عمَّن يقولُ: لا آكلُ ثم يأكلُ، قال: هو كذبٌ، لا
ينبغي أنْ يفعلَ ذلك.(1/654)
ونقل الوليدُ بنُ مسلم - في "كتابِ الأيمان والنذورِ" عن الأوزاعيِّ، في
رجلٍ كُلِّم في شيء فيقولُ: نعمْ، إن شاءَ اللَّهُ، ومن نيتِهِ أن لا يافعلَ.
قالَ: هذا الكذبُ والخُلف.
قالَ: إنَّما يجوزُ المُستثنى في اليمينِ، قيلَ لهُ: فإنَّه قالَ:
نعم إنْ شاءَ اللَّهُ ومن نيتِهِ أنْ يفعلَ، ثم بدا لهُ أن لا يفعلَ.
قالَ: له ثُنياه.
وهذا يدلُّ على أنَّ الاستثناءَ بالمشيئةِ في غيرِ اليمينِ إنَّما ينفعُ لمن لم يكن
مصممًا على مخالفةِ ما قالَهُ من أولِ كلامِهِ.
* * *
قال الله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قالَ الزجاجُ: السرادقُ: كلُّ ما أحاطَ بشيءٍ نحو الشقة في المضربِ
والحائطِ المشتملِ على الشيءِ.
وقال ابنُ قتيبةَ: السرادقاتُ: الحرةُ التي تكونُ حولَ الفسطاطِ، قيلَ: هو الدهليزُ، معربٌ، وأصلُهُ بالفارسيةِ: سرادارُ.
وقالَ ابنُ عباسٍ: هو سرادقُ من نارٍ.
وروى ابنُ لهيعةَ عن دراج عن أبي الهيثمَ عن أبي سعيد الخدرىِّ عن النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قالَ: "سرادقُ أهلِ النارِ أربعةُ جدرٍ، كثفُ كلِّ جدارٍ مسيرةً أربعين سنةً"
خرَّجه الترمذيُّ.
وإحاطةُ السرادقِ بهم قريبٌ من المعنى المذكورِ في غلقِ الأبوابِ، وهو شبهُ(1/655)
قولِ من قالَ: إنه حائط لا بابَ لهُ.
ولما كانَ إحاطةُ السرادِق بهم موجب لهمّهِم وغمِّهِم وكربِهِم وعطشِهِم
لشدةِ وهج النارِ عليهم، قال اللَّه تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) .
وقال تعالى: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) .
قال أبو معشرٍ: كنا في جنازة مع أبي جعفرٍ القاري فبكى أبو جعفرٍ، ثم
قالَ: حدَّثني زيدُ بنُ أسلمَ، أنَّ أَّهَلَ النارِ لا يتنفسونَ، فذلك الذي أبكاني.
خرَّجه الجوزجانيُ.
وخرَّج ابنُ أبي حاتمن طريقِ إبراهيمَ بنِ الحكم بنِ أبانَ عن أبيهِ عن
عكرمةَ، قال: على كلِّ بابٍ من أبوابِ النارِ سبعونَ ألفَ سرادقٍ من نارٍ، في كلِّ سرادقٍ منها سبعونَ ألفَ قبة من نارٍ، في كلِّ قبةٍ منها سبعونَ ألفَ تنورٍ من نارٍ، في كلِّ تنورٍ منها سبَّعَون ألفَ كوةٍ من نارٍ، في كلِّ كوةٍ منها
من نار. على كلِّ صخرة سبعونَ ألفَ صخرةٍ منها سبعون ألفَ حجرٍ من
نارٍ، على كلِّ حجرٍ منها سبعونَ ألفَ عقربٍ من نارٍ، لكلِّ عقربٍ منها
سبعونَ ألفَ ذنبٍ من نارٍ، لكلِّ ذنبٍ منها سبعونَ ألفَ فقارةٍ من نارٍ، في كل
فقارة منها سبعونَ ألفَ قلةٍ من سمٍّ وسبعونَ ألفَ موقد من نارٍ يوقدونَ تلك
النارَ، وَذكر تمامَ الحديثِ، وسيأتِي فيما بعد إن شاء اللَّهُّ تَعالى؛ وفيه: "إنهم
يهوونَ من بابٍ إلى بابٍ خمسمائةَ سنةٍ" وهو غريب ومنكرٌ، وإبراهيمُ بنُ
الحكمِ بنِ أبانَ ضعيف تركه الأئمةُ.(1/656)
وأبوابُ جهنَّم قبلَ دخولِ أهلِها إليها يومَ القيامةِ مغلقةٌ كما دلَّ عليه ظاهرُ
قولِهِ تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)
وفي حديثِ أبي هارونَ العبدي وهو ضعيف جدًّا عن أبي سعيدٍ الخدريِّ
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراءِ، قال:
"ثم عُرضتْ عليَّ النارُ، فإذا فيها غضبُ اللَّهِ وزجره ونقمتِه، لو طرحَ فيها الحجارةُ والحديدُ لأكلتْها، ثم أغلقتْ دونِي ".
وقد رُويَ أن أبوابَها تفتحُ كل يوم نصفُ النهارِ، وسنذكرُهُ فيما بعدُ - إن
شاء اللَّه تعالى.
وروى الإمامُ أحمدُ عن إسحاقَ الأزرقيِّ عن شريكٍ عن الركينِ عن أبيه.
قالَ: رأى خبابُ بنُ الأرتِّ رجلاً يصلِّي نصفَ النهارِ فنهاه، وقالَ: إنها
ساعةٌ تفتحُ فيها أبوابُ جهنَّمَ فلا تصلّ فيها.
وقد وردَ ما يستدلُّ به على أنها مفتحةٌ، ففي "الصحيحينِ " عن أبي
هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إذا جاءَ رمضانُ فتحتْ أبوابُ الجنةِ وغلِّقَت أبوابُ
النارِ وصفدتِ الشياطينُ ومردةُ الجنِّ ".
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضانَ صفدتِ الشياطينُ ومردةُ الجنِّ وأغلقتْ أبوابُ النارِ، فلم يفتحْ منها بابٌ وفتحتْ أبوابُ الجنةِ فلم يغلقْ منها بابٌ".
ولكنْ قد قيلَ: إن إغلاقَ أبوابِ النارِ إنَّما هو عن الصائمينَ خاصةً،(1/657)
وكذلك فتحُ أبوابِ الجنةِ هو لهم خاصةً.
وفي حديثِ القاسم العرنيِّ عن الضحاكِ عن ابنِ عباسٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فضلِ رمضانَ، قالَ فيه: "فيفتحُ فيها" أي في أولِ ليلةٍ منه: "أبوابُ الجنةِ للصائمينَ من أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ اللَّهُ: يا رضوانُ، افتحْ أبوابَ الجنانِ، ويا مالكُ، أغلِقْ أبوابَ الجحيم عن الصائمينَ من أمَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا منقطعٌ.
فإن الضحاكَ لم يسمعْ من ابنِ عباسٍ.
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقولُ: في قولِهِ تعالى:
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ) ، قال: ما قالَ: ما شاءَ اللَّه
كانَ ولا يكونُ، بلْ أطلقَ اللفظَ، ليعمَّ الماضي والمستقبلَ والراهنَ.
وسمعته يقول: وتدبرتُ قولَه تعالى: (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ، فرأيتُ
لها ثلاثةَ أوجهٍ.
أحدُها: أن قائلَها يتبرأُ من حولِهِ وقوتِهِ، ويسلِّمُ الأمرَ إلى مالِكِهٍ.
والثاني: أنه يعلمُ أنْ لا قوةَ للمخلوقينَ إلا باللَّه، فلا يخافُ منهم؛ إذ
قُواهُم لا تكونُ إلا باللَّهِ، وذلك يوجبُ الخوفَ من اللًّهِ وحدَهُ.
والثالثُ: أنَّه ردَّ على الفلاسفةِ والطبائعيين الذين يدَّعونَ القُوى في الأشياءِ(1/658)
بطبيعتها، فإنَّ هذه الكلمةَ بيَّنتْ أنَّ القَويَّ لا يكُونُ إلا باللَّه.
* * *
قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "أتبع السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها"
ظاهرُه أنَّ الستيئاتِ تُمحَى بالحسناتِ.
وقد تقدَّم ذكرُ الآثارِ التي فيها أنَّ السيئةَ تمحى من صُحفِ الملائكة بالحسنةِ إذا عُملتْ بعدَهَا، قال عطيّةُ العوفيُّ: بلغنِي أنَّه من بكى على خطيئتهِ مُحيتْ
عنه، وكُتِبتْ له حسنة، وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، قالَ: من ذكرَ خطيئةً
عمِلهَا، فوَجِلَ قلبُهُ منها، فاستغفرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لم يَحبسْها شيءٌ حتى
يمحوها عنه الرَّحمنُ. وقال بِشْرُ بنُ الحارثِ: بلغني عن الفضيلِ بنِ عياضٍ.
قالَ: بكاءُ النَّهارِ يمحُو ذنوبَ العلانيةِ: وبكاءُ الليلِ يمحُو ذنوبَ السِّرِّ، وقد
ذكرَنا قولَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا أدلكم على ما يمحُو اللَّه به الخطايا ويرفعُ به الدرجاتِ " الحديث.
وقال طائفة: لا تُمحَى الذنوبُ من صحائفِ الأعمالِ بتوبةٍ ولا غيرِها، بل
لابُدَّ من أن يُوقفَ عليها صاحبُها ويقرأُها يومَ القيامةِ، واستدلُّوا بقولِهِ تعالى:
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) .
وفي الاستدلالِ بهذهِ الآيةِ نظرٌ، لأنَّه إنَّما ذكرَ فيها حالَ المجرمينَ، وهم أهلُ الجرائم، والذنوبِ العظيمةِ، فلا يدخلُ فيهم المؤمنونَ التائبونَ من ذنوبِهِم، أو المغمورةِ ذنوبُهم بحسناتِهِم.
وأظهرُ من هذا، الاستدلالُ بقولِهِ تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .(1/659)
وقد ذكر بعضُ المفسرينَ أنَّ هذا القولَ هو الصحيحُ عند المحققينَ.
وقد رُوي هذا القولُ عن الحسنِ البصريِّ، وبلالِ بنِ سعدٍ الدمشقيِّ.
قال: الحسنُ في العبدِ يذنبُ، ثم يتوبُ، ويستغفرُ: يُغفر له، ولكن لا يُمحاه من كتابِهِ دونَ أن يقِفَه عليه، ثم يسأله عنه، ثم بكى الحسنُ بكاءً شديدًا، وقال: لو لم نبكِ إلا للحياءِ من ذلك المقامِ، لكان ينبغي لنا أن نبكي.
وقال بلالُ بنُ سعدٍ: إن اللَّهَ يغفرَ الذنوبَ، ولكن لا يمحُوها من الصحيفةِ
حتى يُوقفه عليها يومَ القيامةِ وإن تابَ.
وقال أبو هريرة: يُدني اللَهُ العبدَ يومَ القيامةِ، فيضعُ عليه كنَفَهُ، فيستُرُهُ من
الخلائقِ كُلِّها، ويدفعُ إليه كتابَهُ في ذلكَ السترِ، فيقولُ: اقرأ يا ابنَ آدمَ
كتابَك، فيقرأُ، فيمرُّ بالحسنةِ، فيبيضُّ لها وجهُه، ويُسرُّ بها قلبُه، فيقولُ اللَّهُ: أتعرفُ يا عبدِي؟ فيقولُ: نعم، فيقولُ: إنِّي قبلتُها منكَ، فيسجدُ، فيقولُ: ارفعْ رأسكَ وعُدْ في كتابِك، فيمرُّ بالسيِّئةِ، فيسودُّ لها وجههُ، ويُوْجَلُ منها قلبُه، وترتعدُ منها فرائصُهُ، ويأخذُه من الحياءِ من ربِّه ما لا يعلمُه غيرُهُ، فيقول: أتعرفُ يا عبدِي؟ فيقول: نعم يا ربِّ، فيقولُ: إنِّي قد غفرتُها لكَ، فيسجدُ، فلا يرى منه الخلائقُ إلا السُّجودَ حتى ينادِي بعضُهم بعضًا: طُوبى لهذا العبدِ الذي لم يَعصِ اللَّه قطُّ، ولا يدرونَ ما قد لقِيَ فيما بينه وبينَ ربِّه ممَّا قد وقفَهُ عليه.
وقال أبو عثمانَ النَّهْديُّ عن سلمانَ: يُعطَى الرجلُ صحيفتَهُ يومَ القيامةِ.
فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاتُهُ، فإذا كادَ يسوءُ ظنُّه، نظرَ في أسفلِهَا، فإذا(1/660)
حسناتُهُ، ثم نظرَ إلى أعلاها فإذا هي قد بُدلتْ حسناتٍ.
ورُوي عن أبي عثمانَ، عن ابنِ مسعود، وعن أبي عثمانَ من قولِهِ وهو أصحُّ.
وروى ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن بعضِ أصحابِ معاذِ بنِ جبلٍ، قالَ:
يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ على أربعةِ أصنافٍ: المتقينَ، ثم الشاكرينَ، ثم
الخائفينَ، ثم أصحابُ اليمينِ.
قيلَ: لِمَ سُمُوا أصحابَ اليمينِ؟
قال: لأنَّهم عملُوا الحسناتِ والسيئاتِ، فأعطُوا كتبهم بإيمانهم، فقرءُوا سيئاتِهُم حرفًا حرفًا، قالُوا: يا ربَّنا هذه سيئاتُنا فأين حسناتُنا؟
فعندَ ذلك محا اللَّهُ السيئاتِ، وجعلَها حسناتٍ، فعند ذلك قالُوا:
(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كتَابِيَهْ) ، فهم أكثرُ أهلِ الجنةِ.
وأهلُ هذا القول قد يحملونَ أحاديثَ محوِ السيئات بالحسنات على محوِ
عقوبتها دون محوِ كتابتِها من الصحفِ، واللَّه أعلم. َ
* * *
قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) ، قال: "التاء" من
حروف الشدَّة، تقول في الشيءِ القريبِ الأمر: ما اسطعتُه، وفي الشَّديدِ: ما استطعته، فالمعنى: ما أطاقوا ظهوره لضعفهم، وما قدروا على نقبه
وشدَّتِهِ.
* * *(1/661)
سُورَة مَرْيَمَ
قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
ولا يزالُ أهلُ جهنَّم في رجاء الفرج إلى أنْ يُذبحَ الموتُ، فحينئذ يقعُ منهم
الإياسُ وتعظمُ عليهم الحسرة والحزنُ.
وفي "الصحيحينِ " عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يجاء بالموتِ يومَ القيامةِ كأنه كبشٌ أملحُ، فيوقفُ بين الجنةِ والنارِ، فيقالُ: يا أهلَ الجنة هل تعرفونَ هذا؟
فيشرئبونَ، وينظرونَ، ويقولونَ: نعم، هذا الموتُ، ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا فيشرئبونَ وينظرونَ، فيقولون: نعم، هذا الموتُ، قال: فيؤمرُ به فيذبحُ، ثم يقالُ: يا أهل الجنةِ خلود فلا موت ويا أهل النارِ خلود فلا موت".
ثم قرأ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) .
وخرَّجه الترمذيُّ بمعناه، وزادَ: "فلولا أنَّ اللَّهَ قضى لأهل الجنة بالحياةِ والبقاءِ لماتُوا فرحًا، ولولا أن اللَّه قضى لأهلِ النارِ بالحياةِ والبقاءِ لماتُوا
ترَحًا".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ معناه من حديثِ أبي هريرةَ(1/662)
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه:
"إنَّ أهلَ الجنةِ يطلعون خائفينَ وجلينَ أن يخرجُوا من
مكانِهِم الذي هُم فيه، وإنَّ أهلَ النارِ يطلعُون مستبشرينَ فرحينَ أن يخرجُوا من مكانِهِم الذي هم فيه "
وفي روايةِ الترمذيِّ: "مستبشرينَ يرجونَ الشفاعةَ".
وخرَّجاه في "الصحيحينِ " من حديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه.
وفي حديثِه "فيزدادُ أهل الجنةِ فرحًا إلى فرحِهِم، ويزدادُ أهلُ النارِ حزنًا إلى حزنهِم "
وخرَّجه الترمذيُّ من حديثِ أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مختصرًا، وفيه:
"فلو أنَّ أحدًا مات فرحًا لماتَ أهلُ الجنةِ، ولو أنَّ أحدًا ماتَ حزنًا لماتَ أهلُ النارِ".
وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ من قولِهِ نحوَ هذا المعنى غير
مرفوع وزادَ: "أنه ينادَى أهلُ الجنةِ وأهلُ النارِ: هو الخلودُ أبدَ الآبدينَ ".
قال: فيفرحُ أهلُ الجنةِ فرحةً لو كان أحد ميتًا من فرحه لماتُوا، ويشهقُ أهلُ
النارِ شهقةً لو كان أحدٌ ميتًا من شهقِهِ لماتُوا، فذلك قولُه:
(وأَنذِرْهُمْ يوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) .
وقولُه تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) .
ورَوى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن هشامِ بنِ حسانَ، قالَ: مرَ عمرُ بنُ
الخطابِ بكثيبٍ من رملٍ فبكى، فقيلَ له: ما يبكيكَ يا أمير المؤمنينَ؟
قال: ذكرتُ أهلَ النارِ فلو كانُوا مخلدينَ في النارِ بعددِ هذا الرملِ كانَ لهم أمد يمدون إليه أعناقَهُم ولكنَّه الخلودُ أبدًا.
وقد رُوي عن ابنِ مسعودٍ هذا المعنى أيضًا مرفوعًا، وموقوفًا، وسنذكره فيما بعدُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى.(1/663)
وأمَّا عصاةُ الموحدينَ: فإنه ربما ينفعهم الدعاءُ في النارِ، خرَّج الإمامُ أحمدُ
من حديثِ أبي ظلالٍ عن أنسِ بنِ مالكٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ عبدًا في جهنَّم لينادِي ألفَ سنةٍ: يا حنانُ يا منانُ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لجبريلَ عليه السلامُ: اذهب فأتني بعبدِي هذا، فيذهبُ جبريلُ فيجدُ أهلَ النارِ منكبينَ يبكونَ، فيرجعُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقولُ: ائتني به فإنَّه في مكانِ كذا وكذا، فيجيءُ به ويوقفُهُ على ربِّه، فيقولُ له:
يا عبدي كيفَ وجدتَ مكانَكَ؟
فيقولُ: يا ربِّ شرُّ مكانٍ وشرُّ مقيلٍ، فيقولُ: ردُّوا عبدي.
فيقولُ: يا ربِّ ما كنتُ أرجُو إذ أخرجْتَني منها أن تردَّني، فيقولُ: دعُوا عبدِي ".
أبو ظلالٍ اسمُهُ هلالٌ؛ ضعفوه.
خرَّج الترمذيُّ من طريق رشدين بنِ سعدٍ، حدثني ابنُ أنعمَ - هو
الإفريقيُّ -، عن أبي عثمانَ أنه حدثه عن أبى هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَّ رجلينِ ممن دخلَ النارَ اشتدَ صياحُهما، فقالَ الربّ عزَّ وجلَّ: أخرجُوهما، فلما خرَجا، قال لهما: لأيِّ شيءٍ اشتدَّ صياحُكما، قالا: فعلنا ذلك لترحَمنا، قال: رحمتي لكُما أن تنطلقَا فتلقيا أنفسَكُما حيث كنتُما من النارِ، قال: فينطلقانِ فيلقي أحدُهُما نفسَه، فيقولُ له الربّ عزَّ وجلَّ: ما منعك أن تلقيَ نفسَكَ كما ألقى صاحبُك؟
قال: إني لأرجُو أن لا تعيدَني فيها بعدَما أخرجتني، فيقولُ له الربُّ عزَّ وجلَّ: لك رجاؤك، فيدخلا جميعًا الجنةَ برحمة اللَّه عزَّ وجلَّ ".
قال الترمذيُّ: إسنادُ هذا الحديثُ ضعيفٌ.
وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يخرجُ من النارِ أربعةٌ فيعرضونَ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فيلتفتُ أحدُهُم فيقولُ: أي ربِّ إذْ أخرجتني منها فلا تعدني فيها، قال: فينجيه منْهَا".(1/664)
وخرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " وعندَهُ: "فيلتفتُ فيقولُ: يا ربَ ما كانَ هذا رجائي فيكَ، فيقولُ: ما كان رجاؤك؟
قال: كانَ رجائِي إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها.
فيرحمَهُ اللَّهُ فيدخلهُ الجنةَ".
وخرَّجَ الإمامُ أحمد من روايةِ عليِّ بنِ زيدِ بنِ جدعانَ عن ابنِ المسيبِ
عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن آخرَ رجلينِ يخرجانِ من النارِ فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لأحدِهِما: يا ابنَ آدمَ ماذا أعددتَ لهذا اليومِ؛ هل عملتَ خيرًا قط؟
هل رجوتني؟ فيقولُ: لا، أي ربِّ، فيؤمرُ به إلى النارِ.
فهو أشدُّ أهلِ النار حسرةً، ويقولُ للآخرِ: ماذا أعددتَ لهذا اليوم؟
هل عملتَ خيرًا قط أو رجوتني؟
فيقولُ: لا، أي ربَ، إلا أني كنتُ أرجوك، قال: فيرفعُ له شجرةً"، وذكر الحديثَ في دخولِهِ الجنةِ وما يُعطَى فيها.
وخرَّج هناد بنُ السري من طريقِ أبي هارونَ العبدي وفيه ضعفٌ شديد عن
أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أن رجالاً يدخلُهُم اللَّهُ النارَ فيحرقُهُم بها حتى يكونُوا فحمًا أسودَ، وهم أعلَى أهلِ النارِ، فيجأرونَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ يدعونَهُ، فيقولونَ:
ربنا أخرجْنَا منها، فاجعلنا في أصلِ هذا الجدارِ، فإذا جعلَهُم في أصلِ الجدارِ رأوا أنه لا يُغني عنهم شيئًا، قالُوا: ربَّنا اجعلنا من وراءِ هذا السورِ، لا نسألُك شيئًا بعدَه، فيرفع لهم شجرةً حتى تذهب عنهم سخنةُ النارِ - أو: شحنة النارِ" وذكر الحديث.
* * *(1/665)
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قال اللَّهُ تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
روى إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ قالَ: بكَى عبدُ اللَّهِ بنُ
رواحةَ فبكتِ امرأتُهُ، فقالَ لها: ما يبكيكِ؟
قالت: رأيتُك تبكي فبكيتُ.
قال: إني ذكرتُ هذه الآيةَ: (وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) وقد علمتُ أنِّي
داخلُها، فلا أدري أناج منها أنا أم لا؟
وروى ابنُ المباركِ عن عبادِ المقبريِّ، عن بكرٍ المزنيِّ، قالَ: لما نزلتْ هذه
الآيةُ (وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ذهبَ ابنُ رواحةَ إلى بيتِهِ فبكَى.
وجاءتِ المرأةُ فبكتْ، وجاءتِ الخادمُ فبكتْ، ثم جاءَ أهلُ البيتِ فجعلُوا
يبكونَ كلُّهم، فلما انقطعتْ عبرتُهُ قالَ: يا أهلاه ما يبكيكُم؟
قالُوا: لا ندري، ولكنَّا رأيناكَ تبكي فبكينَا.
قالَ: آية نزلتْ على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ينبئُني فيها ربِّي أني وارد النارَ ولم ينبئني أني صادِر عنها.
وقال موسى بنُ عقبةَ في "مغازيه ": زعمُوا أنَّ ابنَ رواحةَ بكى حينَ أرادَ
الخروجَ إلى موتِهِ، فبكَى أهلُه حينَ رأوه يبكي، فقالَ: واللَّهِ ما بكيتُ جزعًا
من الموتِ ولا صبابةً لكُم، ولكنّي بكيتُ جزعًا من قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) فأيقنتُ أني واردُها، فلا أدري أنجُو منها أم لا؟
وقال حفصُ بنُ حميدٍ عن شمرِ بنِ عطيةَ: كان عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآيةَ يبْكِي، ويقولُ: ربِّ أنا ممن تُنجي أم من تذرُ فيها جثيًّا.(1/666)
ورَوى أبو إسحاقَ عن أبي ميسرةَ: أنه كان إذا أوى إلى فراشِهِ، قالَ: يا
ليتَ أمي لم تلدْني، فقالتْ له امرأتُهُ: يا أبا ميسرةَ إنَّ اللَّهَ قد أحسنَ إليكَ
هداكَ للإسلامِ، قالَ: أجل، إنَّ اللَّهَ يبيِّنُ لنا أنَّا واردُو النار ولم يبيِّنْ أنَا
صادرونَ منها.
وروينا من طريقِ سفيانَ بنِ حسينٍ عن الحسنِ، قال: كان أصحابُ
رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوْا يقولُ الرجلُ منهم لصاحبِهِ: هل أتاكَ أنَّكَ واردٌ النارَ؟
فيقولُ: نعم، فيقولُ: هل أتاكَ أنَّك خارجٌ منها؟
فيقولُ: لا، فيقولُ: ففيم الضحكُ إذًا؟!
وقالَ ابنُ عيينةَ عن رجلٍ عن الحسنِ، قالَ رجلٌ لأخِيه: يا أخي هل أتاكَ
أنَّكَ واردٌ النارَ؟
قال: نعم، قال: هل أتاكَ أنَّك خارج منها؟
قالَ: لا، قالَ: ففيم الضحكُ إذًا؟
قالَ: فما رُئي ضاحكًا حتى ماتَ.
وقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا هاشمُ بنُ القاسم، حدثنا المباركُ بنُ فضالةَ، عن
الحسنِ في قولِهِ عزَ وجل: (وَإِن مِّنكُم إِلَّا وَارِدُهَا)
قال: قالَ رجل لأخِيه: فقدْ جاءكَ عن اللَّه أنَّك واردٌ جهنم؟
قال: نعم، قالَ: فأيقنتَ بالورودِ؟
قال: نعم، قال: فأيقنتَ وصدَّقتَ بذلكَ؟
قال: نعم، وكيفَ لا أصدِّقُ وقد قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كانَ عَلَى رَبِّكَ حَتما مَّقْضِيًّا)
قال: فأيقنتَ أنك صادرٌ عنها؟
قالَ: واللَّهِ ما أدري أأصدُر عنها أم لا؟
قالَ: ففيم التثاقُل؛، وفيم الضحكُ؟ ، وفيمَ اللعبُ؟
قال أحمدُ: وحدثنا خلفُ بنُ الوليدِ، حدثنا المباركُ، قال: سمعتُ الحسنَ
يقولُ: لا - واللَّهِ - إنْ أصبحَ فيها مؤمن إلا حزينًا، وكيف لا يحزن المؤمنُ،(1/667)
وقد جاءَهُ عن اللَّهِ أنه واردٌ جهنمَ ولم يأتِهِ أنه صادرٌ عنها.
قال أحمدُ: وأنبأنا حسينُ بنُ محمدٍ، حدثنا ابنُ عياشٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ
دينارٍ أنَّ لقمانَ، قال لابنِهِ: يا بنيَّ كيف يأمنُ النارَ من هُو واردُها؟
وقد اختلفَ الصحابةُ ومن بعدهم في تفسيرِ الورودِ، فقالت طائفةٌ:
الورودُ هو المرورُ على الصراطِ، وهذا قولُ ابنِ مسعود، وجابر، والحسنِ.
وقتادةَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ، والكلبيِّ، وغيرِهم.
وروى إسرائيلُ عن السديِّ: قالَ: سألتُ مرةَ الهمداني عن قزلِ اللَّهِ عزَّ
وجلَّ: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) ، فحدَّثني عن ابنِ مسعودٍ أنه حدثهم.
قال: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"يرِدُ الناسُ النارَ ثم يصدرونَ عنها بأعمالهم، فأولُهم
كلمحِ البرق، ثم كالريح، ثم كحضرِ الفرسِ، ثم كالراكبِ في رحلِهِ ثم كَسَيرِ الرجلِ ثم كمشيه "
خرَّجه الترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ، وخرَّج الإمامُ أحمدُ أوَّلَهُ.
وخرَّجه الحاكمُ وقال: صحيحٌ، ورواه شعبةُ عن السديِّ عن مرَّةَ عن عبدِ اللَّهِ موقوفًا ولم يرفعْهُ شعبةُ، مع أنه قرأ بأنَّ السديَّ حدثه به مرفوعًا، قال
الدارقطنيُّ: يحتملُ أن يكونَ مرفوعًا.
قلتُ: ورواه أسباطٌ عن السديِّ عن مرَّةَ الهمدانيِّ عن عبدِ اللَهِ موقوفًا
أيضًا، فقالَ: "يردُ الناسُ الصراطَ جميعًا، وورودُهُم: قيامُهُم حولَ النارِ، ثم
يصدرونَ عن الصراطِ بأعمالهم، فمنهُم من يمرُّ كالبرقِ " فذكرَ الحديثَ بطولِهِ.
وفي آخر: "حتى إن آخرَهُم مرًّا: رجلٌ نورُهُ على إبهامي قدميه، يتكفأ به الصراطُ دحضٌ مزلةٌ، عليه حسكٌ كحسكِ القتادِ، حافتاه ملائكةٌ معهم كلاليبُ من نارٍ يختطفونَ بها الناسَ " وذكر بقية الحديثِ.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.(1/668)
ورواه الحكمُ بنُ ظهيرِ عن السدي عن مرة عن عبدِ اللهِ فرفعَ آخر
الحديثِ، ولفظُ حديثِهِ: قالَ عبدُ اللَهِ: الورودُ ليسَ بالدخولِ فيها ولكنه
حضورُها والوقوفُ عليها، مثلُ الدابةِ تردُ الماءَ ولا تدخلُهُ، ثم قالَ عبدُ اللَّهِ: قال رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"يضعُ اللَهُ الصراطَ على جهنَّمَ فيجوزُ العبادُ عليه "
وذكرَ الحديثَ بطولهِ، وفي آخرِهِ: "ولو قيلَ لأهلِ النار: إنَّكم ماكثونَ في النارِ عددَ كلِّ حصاةِ في الدنيا سنةً لرجُوا، وقالُوا: إنَّا لابدَّ مخرجونَ، ولو قيلَ لأهلِ الجنةِ: إنَّكم ماكثونَ في الجنةِ عددَ كُلِّ حصاةِ في الدنيا سنةَ حزنُوا، وقالُوا: إنَّا لابدَّ مخرجونَ، ولكن اللهَ جعلَ لهما الأبدَ ولم يجعلْ لهما الأمدَ"، و "الحكمُ بنُ ظهيرِ" ضعيفٌ.
ولعل هذا الكلام فَي آخرِ الحديث موقوف على ابن مسعودِ، فإنه رُوي عنه
موقوفًا من وجهِ آخرَ بإسنادِ جيدِ، قال أبو الحسنِ بنُ البراءِ العبدي في كتابِ
"الروضةِ" له: حدثنا أحمدُ بنُ خالدِ - هو: الخلالُ -، حدثنا عثمان بنُ عمرَ، حدثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ عن عمرِو بنِ ميمون، عن عبدِ اللَّهِ قالَ: لو أن أهلَ جهنمَ وعدُوا يومًا من أبدِ أو عددِ أيام الدنيا لفرِحُوا بذلكَ اليومِ، لأنَّ كلَّ ما هُو آتِ قريب.
وقد رُويَ أولُ الحديثِ من طريقِ أبي إسحاقَ موقوفا أيضًا، لكنْ بمخالفةٍ
في الإسنادِ، فروى عمرُو بنُ طلحةَ القتادُ عن إسرائيلَ عن أبي إسحاقَ عن
أبي الأحوصِ عن عبدِ اللهِ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) قال: الصراطُ على
جهنَم مثلُ حدِّ السيفِ، فتمرُّ الطائفةُ الأولى كالبرقِ، والثانية كالريح.
والثالثةُ كأجودِ الخيلِ، والرابعةُ كأجودِ الإبلِ والبهائِم، ثم يمرُّونَ والملائكةُ
يقولونَ: رب سلِّم سلِّم.
خرَّجه الحاكمُ وقالَ: صحيحٌ على شرط الشيخينِ.
وكذا خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياس في "تفسيره" عن إسرائيلَ.(1/669)
وخرَّج مسلمٌ في "صحيحهِ " من حديثِ روح بنِ عبادةَ، أنبأنا ابنُ
جريجٌ، أخبرني أبو الزبير أنه سمعَ جابرَ بنِ عبدِ اللَّهِ يُسألُ عن الورودِ.
فقالَ: نحنُ يومَ القيامةِ على كذا وكذا، انظرْ أي ذلك فوقَ الناسِ، قالَ:
فتُدْعى الأممُ بأوثانِها وما كانتْ تعبدُ: الأولُ فالأولُ، ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك، فيقولُ: من تنتظرونَ؟
فنقولُ: ننتظرُ ربنا، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولونَ: حتى
ننظرَ إليكَ، فيتجلَّى لهُم ويضحكُ، فينطلقُ بهم فيتبعونَه، ويُعطى كلُّ إنسانٍ
منهم مؤمن أو منافق نورَهُ، ثم يتبعونَهُ وعلى جسرِ جهنَّم كلاليب وحسك
تأخذُ من شاء اللَّهُ، ثم يطفأ نورُ المنافقينَ ثم ينجُو المؤمنون، فينجُو أول زمرة
وجوهُهم كالقمرِ".
وذكر بقية الحديثِ، كذا أخرَّجَه مسلم عن عبدِ اللَّهِ بنِ سعيدٍ - وهو الأشجُّ - وإسحاقَ بنِ منصورٍ، وكلاهما عن روحٍ به.
وخرَّجه الإمامُ أحمد عن روحٍ به وزادَ فيه بعدَ قولِهِ:
"فيتجلَّى لهم يضحك " قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "فينطلقُ بهم فيتبعونَهُ "وساق الحديثَ فجعله من هذا الموضع مرفوعًا، وما قبلَهُ موقوفًا.
وقد روى محمدُ بنُ شرحبيلَ الصنعانيُ عن ابنِ جريجِ هذا الحديثَ، فرفعَ
أوله أيضًا وهو ذكرُ التجلِّي والضحكِ، ورواه عبدُ الرزاقِ عن رباح بنِ زيدٍ
عن ابنِ جريجٍ عن زيادِ بنِ سعدٍ عن أبي الزبير، عن جابر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر التجلِّي، وروى عنه الحديثَ كلَّه أيضًا بهذا الإسنادِ، هذا يدلُّ على أنَّ أولَ الحديثِ لم يكنْ عند ابنِ جريجٍ عن أبي الزبيرٍ مرفوعًا، وإنْ كانَ عنده كلُّه مرفوعًا عن زيادِ بنِ سعدٍ عن أبي الزبير، وكذلكَ رواه أبو قرةَ عن مالكٍ(1/670)
عن زيادِ بنِ سعد عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إذا كانَ يومُ القيامةِ جُمعتِ الأممُ "
فذكره كلَّه مرفوعًا، وكذلك رواه ابنُ لهيعة عن أبي الزبيرِ، قال: سمعتُ جابرًا يُسألُ عن الورودِ، فقالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "نحنُ يومَ القيامة على كومٍ " وذكرَ الحديثَ كلَّه مرفوعًا، وفي حديثِه زيادةٌ بعدَ قولِهِ: "ويعطَى كلُّ إنسانٍ منهم - منافق أو مؤمنٌ - نورًا أو يغشَاه ظلمة".
وقولُهُ في هذه الروايةِْ "ونحن يومَ القيامةِ على كومٍ" هذه الروايةُ الصحيحةُ.
وأمَّا ما وردَ في روايةِ روحٍ عن ابنِ جريجٍ عن كذا وكذا، فإن أصلَهُ
تصحيفٌ من الراوي للفظةِ "كومٍ "، فكتبَ عليه كذا وكذا لإشكالِ فهمه عليهِ، ثم كتبَ: انظر، أي: ذلكَ يأمرُ الناظرُ فيه بالتروي والفكرِ في صحة لفظِهِ، فأدخلَ ذلكَ كلَّه في الروايةِ قديمًا.
ولم يقعْ ذلكَ في نسخ "صحيح مسلم "
كما يظنُّه بعضُهم، فإن الحديثَ في "مسندِ الإمامِ أحمدَ"، و"كتابِ السنةِ"
لابنه عبدِ اللَّهِ كذلكَ، وخرَّجه الطبرانيُّ في "كتابِ السنةِ" من طريقِ أبي
عاصمٍ عن ابنِ جريجٍ، أخبرَنِي أبو الزبير أنه سمعَ جابرًا يُسألُ عن الورودِ
فقالَ: "نحنُ يومَ القيامة على كومٍ فوقَ الناسِ، فتدعى الأمم بأوثانِها"
وذكرَ الحديثَ إلى قولِهِ: "فيتجلَّى لهم يضحك "
قالَ: فسمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"حتى يبدوُ كذا وكذا، فينطلقُ بهم فيتبعونَهُ "
وذكرَ الحديثَ بتمامِهِ.
وفي سياقِهِ أيضًا: "وتغشى المنافقينَ ظلمة".
فظهرَ بهذه الروايةِ أن الشكَّ والتصحيف إنما جاء من جهةِ روحٍ بنِ عبادةِ، ولعله وقع في كتابِهِ كذلكَ فحدَّث به كما في كتابِهِ، واللَّهُ أعلمُ، لكنْ قد رواهُ محمدُ بنُ يحيى المازنيُ عن ابنِ جريج، كما رواهُ عنه روحٍ.
خرَّجه من طريقِهِ الخلالُ.(1/671)
ومما يستدلُّ به على أنَّ الورودَ ليسَ هو الدخولُ:
ما خرَّجه مسلمٌ من حديثِ أبي الزبير عن جابرٍ، قال: أخبرتْنِي أمُّ بشرٍ أنها سمعتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عند حفصةَ:
"لا يدخلُ النارَ - إن شاءَ اللَهُ - من أصحابِ الشجرةِ أحدٌ من
الذينَ بايعوا تحتَها"
قالتْ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، فانتهرها، فقالتْ حفصةُ:
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"قد قال اللَهُ عزَّ وجلة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
ورواه الأعمشُ عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن أمّ بشرٍ بنحوه، وفي
بعضِ رواياتِ الأعمشِ فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يرِدُونَها، ثم يصدرونَ عنها بالأعمالِ ".
وقالتْ طائفةٌ: الورودُ هو الدخولُ، وهذا هو المعروفُ عن ابنِ عباسٍ.
ورويَ عنه من غيرِ وجهٍ، وكان يستدلُّ لذلك بقولِ اللَّه تعالى في فرعون:
(يَقْدُم قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النارَ) .
وبقولِهِ: (وَنَسوق المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) .
وكذلك قوله تعالى: (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) .
وقد سبق عن عبد اللَهِ بنِ رواحةَ نحو هذا إلا أنَّ الرواية عنه منقطعةٌ.
وروى مسلمٌ الأعورُ عن مجاهدٍ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)
قال: داخلُها.
وسئل كعبٌ عن الورودِ المذكورِ في الآيةِ، فقالَ: تمسكُ النارُ عن الناسِ(1/672)
كأنها متن إهالةٍ، حتى تسوى عليها أقدام الخلق كلِّهم برِّهم وفاجرِهم، ثم
يقول لها الربُّ عزَّ وجلَّ: خذي أصحابَك ودعي أصحابِي، فتخسفُ بكلِّ
ولي لها، وينجي اللَّهُ المؤمنينَ نديةً ثيابُهم.
قال كعبٌ: ألم ترَ إلى القدرِ الكثيرةِ الودك إذا بردتْ استوت بيضاء
كالشحم، فإذا أوقدتِ النارُ تحتها انخسف الودكُ في القدرِ من هاهنا وهاهنا.
وفي روايةٍ عنه قال: فهي أعرفُ بهم من الوالدِ بولدهِ.
وقال ثورُ بنُ يزيدَ عن خالدِ بنِ معدانَ: إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، قالُوا:
ألم يعدْنَا ربُّنا أنا نرد النار؟
قال: بلى، ولكن مررتُم عليها وهي خامدةٌ.
وفي روايةٍ عنه، قالَ: إذا جازَ المؤمنونَ الصراطَ نادَى بعضُهم بعضًا: ألم يعدْنا ربُّنا أنا نمرُّ على جسرِ جهنَّم؟
فيقولونَ: بلى، ولكنْ مررتُم عليها وهي خامدةٌ.
وقال مسكينٌ: سمعتُ أشعثَ الحداني يقول: بلغني أن أهلَ الإيمانِ إذا
مرُوا بصراطِ جهنمَ، قال: تقول لهم جهنمُ: جوزُوا عنِّي قد بردتُم وهجِي.
ذرُوني وأهلي.
ولكن هذا والذي قبلَهُ قد يدلانِ على أنَّ الورود هو المرورُ
على الصراطِ كالقولِ الأولِ.
وروى كثيرُ بنُ زيادٍ البرساني عن أبي سُميةَ، قال: اختلفنا في الورودِ.
فقالَ بعضُنا: لا يدخلُها مؤمنٌ، وقال بعضُهم: يدخلُونها جميعًا ثم ينجي
اللَّهُ الذين اتَّقوا، فلقيتُ جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ، فقلتُ: إنا اختلفْنَا في الورودِ.
فقال: يردونها جميعًا، وقال سليمُ بنُ مرةَ: يدخلونَها، وقال: سمعتُ
رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
"لا يبقَى برّ ولا فاجرٌ إلا دخلَها، فتكونُ على المؤمنينَ بردًا
وسلامًا كما كانتْ على إبراهيم، حتَّى إنَّ للنارِ ضجيجًا من بردِهِم(1/673)
(ثُمَّ ننَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ".
حْرَّجه الإمامُ أحمد.
و"أبو سميةَ" لا ندري من هُوَ.
وفي "الصحيحينِ عن أبي هريرةَ ضى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يموتُ لأحدٍ من المسلمينَ ثلاثة من الولدِ
فتمسهُ النارُ إلا تحلَّةَ القسم ".
وقد فسر عبد الرزاقِ وغيرُه تحلّةَ القسم بالورودِ لقولِهِ: (وَإِن منكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا)
وظاهرُ هذا يقتضي أن الورودَ هو مسُّ النارِ.
وفي روايةٍ: "فيلجُ النارَ إلا تحلَّةَ القسم "
فجعله مستثنى مِنْ وُلُوجِهَا.
وروى عبدُ الملكِ بنُ عميرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ بشيرٍ الأنصاريِّ، قال:
قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من ماتَ له ثلاثةُ أولادٍ لم يبلُغُوا الحنثَ لم يردِ النارَ إلا عابرَ سبيلٍ ".
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ ابن لهيعةَ، ورشدينَ بنِ سعدٍ، كلاهُما
عن زاذانَ بنِ نائلٍ، عن سهلِ بنِ معاذ بنِ أنسٍ، عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"من حرسَ من وراءِ المسلمينَ في سبيلِ اللَّهَ متطوِّعًا لا يأخذُهُ سلطان لم يرد إلا
تحلَّةَ القسم، فإنَّ اللَّه تعالى يقولُ: (وَإِن فمنكمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) ".
إسنادُهُ ضعيفٌ.
وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ الواقديِّ، حدثنا شعيبُ بنُ طلحةَ بنِ
عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن
أبي بكرٍ الصديقٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَّما حرُّ جهنمَ على أمَّتي كحرِ الحمام".
الواقديُّ متروكٌ.(1/674)
وروى منصورُ بنُ عمارٍ، عن بشيرِ بنِ طلحةَ، عن خالدِ بنِ دُرَيكٍ، عن
يعْلَى بنِ مُنْيةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"تقولُ جهنمُ للمؤمن: جز يا مؤمنُ؛ فقد أطفأ نورُك لهبي "
غريبٌ وفيه نكارةٌ.
وقد فسر بعضُهم الورودَ بالحُمَّى في الدنيا، روى مجاهد وعثمان بنُ
الأسودِ وفيه حديثٌ مرفوع:
"الحُمَّى حظ المؤمن من النار" وإسنادُهُ ضعيفٌ.
وقالت طائفةٌ: الورودُ: ليس عامًّا وإنَّما هو خاصّ بالمحضرين حول جهنَّمَ
المذكورين في قولِهِ تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) إلى قولهِ: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) .
كأنَّه يقالُ لهؤلاءِ الموصوفينَ: (وإن منكم إلا واردُها) .
رُوِي هذا التأويلُ عن زيدِ بنِ أسلمَ، وهو بعيدٌ جدًّا.
وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ العبدَ إذا وقفَ بينَ يدي ربِّه للحسابِ فإنه تستقبلُه النارُ تلقاءَ وجهِه.
وأخبرَ أنَّ الصدقةَ تقي صاحبَها من النارِ.
ففي "الصحيحينِ عن عدي بن حازمٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "ما منكُم من أحدٍ إلا سيكلمُهُ ربُّه ليسَ بينه وبينه تُرْجمانُ، فينظرُ أيمنَ منْهُ فلا يَرى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأمَ منهُ فلا يَرى إلا ما قدَّم، وينظرُ بين يديهِ فلا يَرى إلا النارَ تلقاءَ وجهِهِ، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ".
وفي "صحيح مسلم " عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من استطاعَ منكم أن يستترَ من النارِ ولو بشقِّ تمرة فليفعلْ ".(1/675)
وفي "صحيح البخاريِّ " عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ليقفنَّ أحدُكم بين يدي اللَّه عزَّ وجلَّ ليسَ بينه وبينه حجابٌ ولا ترجمانُ يترجمُ له، ثم ليقولنَّ لهُ: ألم أوتكَ مالاً؛ فليقولنَّ بلى، ثم يقولُ: ألم أرسلْ إليك رسولاً؛ فليقولنَّ: بلى، فينظرُ عن يمينه فلا يرى إلا النارَ، ثم ينظرُ عن شمالِهِ فلا يَرى إلا النارَ، فليتقين أحدُكُم النارَ ولو بشقِّ تمرة، فإن لم يجدْ فبكلمةٍ طيبة".
وفي حديث عبدِ الرحمنِ بن سمرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج يومًا فقال:
"رأيت الليلةَ عجبًا" فذكرَ حديثًا طويلاً، وفيه: "رأيتُ رجلاً من أُمَّتي يتقي وهجَ النارَ وشررَهَا بيديه من وجهِه، فجاءتْهُ صدقتُهُ فصارتْ سترًا على رأسه وظلاًّ على وجهِهِ ".
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
ومن اشتغلَ بتربيةِ منزلتِهِ عند اللَّه تعالى بما ذكرنا من العلم الباطن وصلَ
إلى اللَهِ فاشتغلَ به عمَّا سواه، وكان له في ذلك شُغُلٌ عن طلبِ المنزلةِ عندَ
الخلقِ، ومع هذا فإنَّ اللَّه يُعطيه المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ والشرفَ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يقفُ معه؛ بل يهرَبُ منه أشدَّ الهربِ ويفِرُّ أشدَّ الفِرارِ خشية أن يقطعع الخلقُ عن الحقِّ - جلَّ جلالُهُ.
قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .(1/676)
أي: في قلوب عِبادِهِ.
وفي حديثٍ: "إنَّ اللَّه إذا أحب عبدًا نادَى: يا جِبْريلُ: إني أحبُّ فُلانًا فيُحبُّه جبريلُ، ثم يحبه أهل السماءِ، ثم يوضَعُ له القبُولُ في الأرض ".
والحديثُ معروفٌ، وهو مُخرَّجٌ في "الصحيح ".
وبكلِّ حالٍ، فطلبُ شرفِ الآخرةِ يحصلُ معه شرفُ الدنيا وإن لم يرده
صاحبه ولم يطلبْهُ، وطلبُ شرفِ الدنيا لا يجامع شرف الآخرةِ ولا يجتمعُ
معه، والسعيدُ من آثَرَ الباقي على الفاني، كما في حديثِ أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ:
"من أحبَّ دنياه أضر بآخِرَتِهِ، ومن أحبَّ آخرتَهُ أضرَّ بدنياه.
فآثِرُوا ما يبْقَى على ما يفْنَى".
خرَّجه الإمامُ أحمد وغيرُه.
وما أحسنَ ما قال الشيخ أبو الفتح البُسْتِيُّ:
أمْرَانِ مُفْتَرقَانِ لسْتَ ترَاهُما. . . يتشوَّقانِ لخُلْطَةٍ وتلاقِي
طلبُ المعَادِ مع الرِّيَاسةِ والعُلَى. . . فدعِ الذي يفْنَى لما هو باقِي
* * *(1/677)
سُورَةُ طَهَ
قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)
[قال البخاريّ - رحمه اللَّه -] :
ثنا أبو نُعيمٍ وموسى بنُ إسماعيلَ، قالا: ثنا همَّامٌ، عن قتادةَ، عن أنسِ
ابنِ مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من نسِي صلاةً فليُصلِّ إذا ذكَرَ، لا كفَّارة لها إلا
ذلك، (وَأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ".
قال موسى: قال همَّامٌ: سمعتُه يقولُ بعْدُ: " (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ".
وقال حبَّانُ: ثنا همَّامٌ: ثنا قتادةُ: ثنا أنسٌ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
هذا الحديثُ قد رواه جماعةٌ عن همَّامٍ، وجماعةٌ عن قتادة.
وقد خرَّجه مسلمٌ من طريقِ همَّامٍ وأبي عوانة وسعيدٍ والمثنى، كلِّهم عن
قتادةَ، عن أنسٍ، وليسَ في روايةِ أحد منهم: التصريحُ بقولِ قتادةَ: "ثنا
أنس "، كما ذكر البخاريُّ أنَّ حبَّانًا رواه عَّنَ همَّامٍ.
وإنَّما احتاج إلى ذلك، لما عُرِفَ من تدليس قتادة.
ولفظُ روايةِ سعيدٍ، عن قتادةَ التي خرَّجها مسلمٌ: "من نسي صلاةً أو نامَ عنها فكفَّارتُها أن يُصلِّيها إذا ذكَرَها".(1/678)
ولفظُ حديثِ المثنى، عن قتادةَ، عنده:
"إذا رقدَ أحدُكُم عن الصلاةِ أو نامَ عنها، فكفَّارتُها: أن يُصلِّيها إذا ذكَرَها".
وقد دلَّ الحديثُ على وجوبِ القضاءِ على النائم إذا استيقظَ، والناسي إذا
ذكر، وقد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ.
وذكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ: أنَّ محمدَ بنَ رُسْتُم روى عن محمدِ بنِ الحسن: أنَّ
النائمَ إذا فاتَه في نوْمِهِ أكثرُ من خمْسِ صلواتٍ لا قضاء عليه، إلحاقًا للنومِ
الطويلِ إذا زادَ على يومٍ وليلةٍ بالإغماء، والمُغْمَى عليه لا قضاء عليه عندَه.
ويكونُ الأمرُ عندَهُ بالقضاءِ في النومِ المعتادِ، وهو ما تفوتُ فيه صلاة أو
صلاتانِ أو دون خمسٍ أو أكثر.
وأخذَ الجمهورُ بعمومِ الحديث.
وقولُهُ: "فليصلِّ إذا ذَكَرَ":
استدلَّ به من يقولُ بوجوبِ قضاءِ الصلواتِ على
الفورِ، وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ.
وأحمدُ يوجبه بكلِّ حالٍ، قلَّتِ الصلواتُ أو كثُرَتْ.
واستدلوا - أيضًا - بقولِهِ: " لا كفَّارةَ لها إذا ذلك ".
وذهبَ الشافعيُّ إلى أنَّ القضاءَ على التراخي، كقضاءِ صيام رمضانَ.
وليس الصومُ كالصلاةِ عندَهم، فإنَّ الصيامَ لا يجوزُ تأخيرُهُ حتَّى يدخل نظيرُه
من العامِ القابل والصلاةُ عندَهُم بخلافِ ذلك.
واستدلُّوا - أيضًا -: بتأخيرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ حتَّى خرج من الوادي.
وفيه نظرٌ؛ فإنَّ ذاك تأخيرٌ يسيرٌ لمصلحةٍ تتعلَّقُ بالصلاةِ، وهو التباعُدُ عن
موضع يُكْرَه الصلاةُ فيه.(1/679)
وقد رُوي عن سمُرة بن جُنْدُب، فيمَنْ عليه صلوات فائتة: أنَه يُصلِّي مع
كلِّ صلاةٍ صلاةً.
وقد رُوي عنه - مرفوعًا.
خرَّجه البزارُ بإسنادٍ ضعيفٍ.
ولأصحابِ الشافعيِّ فيما إذا كان الفواتُ بغيرِ عُذْرٍ في وُجوبِ القضاءِ
على الفورِ وجهانِ.
وحمَل الخطابيُ قولَه: "لا كفَّارةَ لها إلا ذلك " على وجهْينِ:
أحدُهُما: أنَّ المعنى أنَّه لا يجوزُ له تركُها إلى بدلٍ، ولا يُكفِّرها غيرُ
قضائِها.
والثاني: أنَّ المعنى أنَّه لا يلْزَمُهُ في نسيانها كفَّارةٌ ولا غرامة. قال إنَّما عليه
أن يُصلِّي ما فاتَهُ.
وقد رُوي عن أبي هريرة - مرفوعًا:
"من نسي صلاةً فوقتُها إذا ذكرَهَا".
خرَّجه الطبرانيُّ والدارقطني والبيهقيُّ من روايةِ حفْصِ بنِ أبي العطَّافِ.
واختلف عليه في إسنادِهِ إلى أبي هريرةَ.
وحفْصٌ هذا، قال البخاريُ وأبو حاتمٍ: منكرُ الحديث.
وقال يحيى بن يَحْيى: كذَّاب.
فلا يُلتفتُ إلى ما تفرَّد به.
وأمَّا تلاوتُهُ قولُهُ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) .(1/680)
وقد رواه قتادةُ - مرّةً -، فقال: "للذكرى"، ومرَّةً، قال: "لِذِكرِي"
، كما هو القراءة المتواترةُ.
وكان الزهريُّ - أيضًا - يقرؤها: "للذكرى".
وهذه القراءةُ أظهرُ في الدِّلال" على الفورِ؛ لأنَّ المعنى: أدِّ الصلاةَ حينَ
الذِّكْرَى، والمعنى: أنَّه يصلِّي الصلاةَ إذا ذكرها.
وبذلك فسَّرها أبو العالية والشعبيُّ والنخعيُّ.
وقال مجاهد: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ (ذِ@رِي @ أطه: 4 ا.،: أي تدْكُرُلْي. قال: فإذا
صلَّى عبدٌ ذكَرَ رتَه.
ومعنى قوله: أنَّ قولَهُ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي) : أي: لأجلِ ذكْرِي
بها.
والصلاةُ إنَّما فُرِضتْ ليُذكر اللَّه بها، كما في حديثِ عائشةَ المرفوع:
"إنَّما جُعل الطوافُ بالبيتِ وبيْنَ الصَّفا والمرْوة ورمي الجمارِ لإقامةِ ذكرِ الله".
خرَّجه الترمذيُّ وأبو داود.
فأوجب اللَّهُ على خلْقِهِ كلَّ يومٍ وليلةٍ أنْ يذكُرُوه خمس مرارٍ بالصلاةِ
المكتوبةِ، فمن تركَ شيئًا من ذكر اللَّه الواجبِ عليه سهْوًا فلْيعد إليه إذا ذكرَهَ، كما قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسيتَ) ، فقد أمرَهُ إذا نسيَ ربَّه
أنْ يذكُره بعد ذلك، فمنْ نسي الصلاة فقد نسي ذكْرَ ربِّه، فإذا ذكر أنَّه نسي فلْيَعُد إلى ذِكْرِ ربِّه بعد نسيانِهِ.(1/681)
قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) .
قال: المعنى: أنِّي قد أظهرتُها حينَ أعلمت بكونها، لكنْ قاربتُ أنْ أخفيها بتكذيب المشركِ بها، وغفلة المؤمنِ عنها، فالمشركُ لا يُصدِّقُ كونَها، والمؤمنُ يهملُ الاستعدادَ لها.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
وذكر صاحب سيرة الوزير قال: سمعته يقول في قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ) .
قال: في حمل العصا عظة؛ لأنها من شيء قد كان ناميًا فقطع، فكلما رآها حاملها تذكَّر الموتَ.
قال: ومن هذا قيل لابن سيرين - رحمه اللَّه -: رجل رأى في المنام أنه
يضرب بطبل؟
فقال: هذه موعظة، لأن الطبل من خشب قد كان ناميًا فقطع.
ومن أغشية كانت جلود حيوان قد ذبح. وهذا أثر الموعظة.
* * *
قوله تعالى: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول: قرأ عندي قارئ،(1/682)
قال: (هُمْ أولاءِ عَلَى أَثَرِي) ، فأفكرتُ في معنى اشتِقاقِها، فنظرتُ فإذا
وضعها للتنبيه، واللَّه لا يجوزُ أن يخاطبَ بهذا، ولَم أر أحدًا خاطبَ اللَّه عز
وجل بحرف التنبيه إلا الكفار، كما قال اللَّه عز وجل (قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ
شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ) ، (رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلّونَا) .
وما رأيت أحدًا من الأنبياءِ خاطب، ربَّه بحرف التنبيه، والله أعلم.
فأما قوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنونَ) ، فإنه قد تقدَّم
الخطاب بقوله: يا ربِّ، فبقيت "ها" للتمكين، ولما خاطب اللَّه عز وجل
المنافقين، قال: (هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلتُم عَنْهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، وكرَّم
المؤمنين بإسقاط "ها" فقال: (هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُونَهُمْ) .
كان التنبيه للمؤمنين أخفَّ.
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)
روى حمَّادُ بنُ سلمةَ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ علقمةَ، عن أبي سلمةَ عن
أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والَّذي نفسِي بيده؛ إنه ليَسْمَعُ خفقَ نعالِكُم حين تولُّون عنه، فإنْ كانَ مؤمنًا، كانتِ الصلاةُ عندَ رأسِهِ، والزكاةُ عن يمينِهِ، والصومُ عن
شمالِهِ، وفعلُ الخيراتِ والمعروفِ والإحسانِ إلى الناسِ من قِبَلِ رِجْليْهِ، فيؤتى من قِبل رأسه، فتقولُ الصلاةُ: ليْس من قِبَلي مدخل ثم يؤتى عن يمينهِ فتقول الزكاة: ليس من قِبَلي مدخل، ثم يُؤتى عن شمالِهِ، فتقولُ الصومُ: ليس مِنْ قبلي مدْخل، تم يُؤتى قِبل رِجْليهِ، فيقولُ فعلُ الخيراتِ والمعروف والإحسانِ إلى الناسِ: ليس من قِبَلي مدخل.(1/683)
فيقالُ له: اجلسْ، فيجلسُ، وقد مثلَت الشمسُ للغروبِ، فيقولُ له: ما تقولُ في هذا الرجلِ الذي كان بعثَ فيكم؟ " - يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - - "فيقولُ: أشهد أنّه رسولُ اللَّهِ، جاءنا
بالبيِّناتِ من عندِ ربِّنا فصدَّقْناه، واتَبعناه، فيقالُ له: صدقتَ، وعلى هذا حييتَ، وعلى هذا مِتَّ، وعليه تُبعثُ إن شاء اللَّهُ، فيفسحُ له في قبرِهِ مدَّ بصرِهِ، فذلكَ قولُهُ سبحانه:
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) .
يقالُ: افتحُوا له بابًا إلى النارِ، فيُفتحُ له بابٌ إلى النارِ، فيقالُ: هذا منزلُكَ لو عصيتَ اللَّهَ، فيزدادُ غبطةً وسرورًا.
ويُقال: افتحُوا له بابًا إلى الجنةِ، فيفْتح له، فيقالُ: هذا منزلُكَ وما أعدَّ اللَّه لك، فيزدادُ غبطة وسرورًا، ويعادُ الجسدُ إلى ما بدئ منه، وتجعلُ روحُه نسَمَ طيرٍ معلقٍ في شجرِ الجنة.
وأمَّا الكافرُ فيُؤتى في قبر من قِبلِ رأسِهِ، فلا يُوجدُ شيءٌ، فيُؤتى من قِبلِ رجليهِ فلا يُوجد شيء، فيجلسُ خائفًا مرعوبًا، فيقالُ له: ما تقولُ في هذا الرجلِ الذي كان فيكم؟ وما تشهدُ به؟
فلا يهتدِي لاسمِهِ، فيقالُ: محمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئا، فقلتُ كما قالُوا، فيقالُ له: صدقتَ، على هذا حييتَ، وعليه متَّ، وعليه تبعثُ إن شاء اللَّهُ تعالى، فيُضيَّق عليه قبرُهُ حتى تختلفَ أضلاعُه، فذلك قولُهُ تعالى:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) فيقال: افتحُوا له بابًا إلى
الجنةِ، فيفتحُ له بابٌ إلى الجنةِ، فيُقال: هذا منزلُكَ وما أعدَّ اللَّه لكَ لو كنتَ أطعتَهُ، فيزدادُ حسرةً وثُبورًا، ثم يقالُ: افتحُوا له بابًا إلى النارِ، فيفتحُ له بابٌ إليها، فيُقالُ له: هذا منزلُكَ، وما أعدَّ الله لك، فيزدادُ حسرةً وثُبورًا ".
قال أبو عمر الضريرُ: قلتُ لحمَّادِ بنِ سلمةَ: كان هذا من أهلِ القبلة؟
قال: نعم، قال أبو عمر: كأنَّه كان يشهدُ بهذه الشهادة على غيْرِ يقينٍ يرجعُ(1/684)
إلى قلبه، كأن يسمعَ الناسَ يقولونَ شيئًا، فيقولُه.
خرَّجه الطبرانيُّ.
وخرَّجه الخلالُ في كتابِ "السنة"، وزادَ فيه بعد قولِهِ: "وقد مثلتِ الشمسُ
له قد دنتْ للغروبِ، فيقال له: هذا الرجلُ الذي كانَ فيكُم ما تقولُ فيه؟ فيقولُ: دعونِي حتَّى أصلِّي، فيقولونَ: إنك ستفعلُ، أخبِرْنا عمَّا نسألك عنه "، وذكر الحديثَ.
وخرَّجَه ابنُ حبان في "صحيحِهِ "، من طريقِ معتمر، عن محمَّدِ بنِ
عمرو - به.
ورواه جماعةٌ عن محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرةَ -
موقوفًا.
وقد رُوي من حديثِ أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، نحوه ايضًا مع
الاختلافِ في رفعِهِ ووقفِهِ.
وخرَّجه ابنُ منده، من طريقِ محمدِ بنِ جُحادةَ، عن طلحةَ بن مُصَرِّف.
عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ قال: "إذا وضُعَ المؤمنُ في قبره، أتاه شيطانٌ
من قِبَلِ رأسِهِ، فيحولُ بيْنَه وبينه سجودُهُ، ثم يأتِيَه من قِبَلِ يديه، فيحول بينه وبينه صدقتُه، ثم يأتيه من قِبَلِ بطنهِ، فيحولُ بينه وبينه صومُه، تم يأتِيه من قِبلِ رِجْليه، فيحولُ بينه وبينه قيامُه عليها في الصلاةِ، ثم يُفتحُ له بابٌ من أبوابِ الجنةِ فيقول: ربي بلِّغْنِي منزلَتِي، فيقولُ: إن لكَ إخوةٌ وأخواتٌ لم
يلحَقُوا، فنَمْ قريرَ العيْنِ لا تفزعْ بعدَها".
وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ محمدِ بن الصلْتِ، عن ابنِ عيينةَ، عن طلحةَ(1/685)
ابنِ مُصرِّفٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ - يرفعُهُ قال: "يؤتَى الرجلُ من
قِبلِ رأسِهِ في قبر، فإذا أُتِيَ دفعه تلاوةُ القرآنِ، فإذا أُتيَ من قِبلِ يديه دفعتْهُ الصدقةُ، فإذا أُتي من قِبلِ رجليه دفعَه مشيُه إلى المساجد"، فذكره نحوه، كذا في هذه الرواية السابقة، إنَّ الذي يأتيه في قبر شيطانٌ.
وفي حديثِ الأعمشِ، عن المنهالِ، عن زاذان، قال: قلتُ للبراءِ: أمَلَكٌ
هو أم شيطان؟
قال: فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: نحن كنَّا أشدَّ هيبةً
لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن نسأله أملكٌ هو أم شيطانٌ؟
إنما نحدِّثكم ما سمعنَا.
وخرَّج الإمامُ أحمد، من حديثِ محمدِ بنِ المنكدرِ، قال: كانتْ
أسماءُ تحدِّثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا أدْخِلَ الإنسانُ في قبرِهِ فإن كانَ مؤمنًا أحفَّ به عملُهُ: الصلاةُ والصيامُ؟
قال: فيأتِيه الملكُ من نحوِ الصلاةِ فيردَّه ومن نحوِ الصيامِ
فيردُّه، فيناديه اجلسْ، فيجلسُ، فيقولُ: ما تقولُ في هذا الرجل؟ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
"قال: منْ؟
قال: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -.
قال: أشهدُ أنه رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول له: وما
يدريك، أدركتَهُ؟
قال: يقول: إنَّه رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: يقولُ: على ذلك عشتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ.
قال: إنْ كان فاجرًا أو كافِرًا قال: جاءهُ الملَكُ ليسَ بينه وبينه شيء
يردُّه، فأجلسه قال: يقول: اجلسْ، ما تقولُ في هذا الرجلِ؟
قال: أي رجل؟
قال: محمد.
قال: يقولُ: واللَّهِ ما أدري، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُه، قال: فيقولُ له الملَكُ: على ذلكَ عشتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ.
قال: يسلَّط عليه دابَّة في قبرِهِ، معها سوط ثمرتُهُ جمرة مثل غربِ البعيرِ، تضربُهُ ما شاء اللَّه، صمَّاء لا تسمعُ صوتَهُ فترحمُه ".(1/686)
قلتُ: قولُه: "ويسلَّطُ عليه دابَّةٌ.. " إلى آخره.
وقد رُوي من وجهٍ آخرَ عن ابن المنكدرِ، أنه بلغه ذلكَ، فلعلَّه مُدْرَجٌ في الحديثِ.
وفي حديثِ زاذانَ، عن البراءِ بن عازبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق ذكرُ بعضِهُ، قال في المؤمن: "ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجهِ، حسنُ الثيابِ، طيبُ الريحِ، فيقولُ: أبْشِرْ بالذي يسرُكَ، هذا يومُك الذي كنتَ تُوعدُ. فيقولُ له: من أنت؟
فوجْهُكَ الوجهُ الذي يجيءُ بالخيرِ، فيقولُ: أنا عملُكَ الصالحُ، فيقولُ: ربِّ أقم الساعةَ حتَّى أرجعَ إلى أهلِي ومالِي ".
وقال في حقِّ الكافرِ: "ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثيابِ، منتنُ الريحِ، فيقولُ: أبْشِر بالذي يسوءُك، هذا يومُك الدْي كنتَ توعدُ، فيقولُ: ومن أنتَ؟ فوجهُك الوجهُ الذي يجيءُ بالشر، فيقولُ: أنا عملُكَ الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تقم الساعةَ"
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه.
وروى ابنُ أبي الدنيا، بإسنادِهِ عن أبي بكر بن عياشٍ، عن المقْبُريِّ، عن
أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالتْ: إذا خرج سريرُ المؤمنِ، نادى: أنشدكُم اللَّهَ لما أسرعتُم بي، فإذا أُدخلَ قبره حفَّه عملُه، فتجيءُ الصلاةُ فتكونَ عن يمينِه، ويجيءُ الصومُ فيكون عن يساره، ويجيء عملُهُ بالمعروفِ فيكونُ عند رجليْه، فتقولُ الصلاةُ: ليس لكم قبلي مدخلٌ، كان يُصلِّي، فيأتونَ من قبل يساره، فيقولُ الصومُ: إنه كان يصومُ ويعطشُ، فلا يجدونَ موضِعًا، فيأتونَهُ من رجلَيْه، فتخاصِمُ عنه أعمالُهُ فلا يجدونَ مسْلكًا.
وبإسناده عن ثابت البُنانيِّ قالَ: إذا وُضِعَ الميتُ في قبرهِ احتوشَتْهُ أعمالُهُ(1/687)
الصالحةُ، وجاء ملكُ العذابِ، فيقولُ له بعضُ أعمالِهِ: إليك عنه، فلو لم
يكنْ إلا أنا لما وصلتَ إليه.
وعنه أيضًا، قال: إذا وُضِعَ العبدُ الصالحُ في قبره، أُتِي بفراشٍ من
الجنةِ، وقيلَ له: نَمْ هنيئًا لك قُرَّة العينِ، فرضي اللَّه عنك، قالَ: ويُفْسَحُ له في قبره مدَّ بصرِهِ، ويفتحُ له بابٌ إلى الجنةِ، فينظرُ إلى حسنِها، ويجدُ
ريحَها، وتحتوشُه أعمالُهُ الصالحةُ: الصيامُ، والصلاةُ، والبرُّ، فتقول له: نحنُ
أنصبْناكَ وأظمأناك وأسهرْناك فنحنُ لك اليومُ بحيث تحبُّ، نحنُ نؤنسُكَ حتى
تصيرَ إلى منزلِكَ من الجنةِ.
وبإسنادهِ عن كعبٍ، قالَ: إذا وُضِعَ العبدُ العمالحُ في قبر، احتوشتْه
أعمالُهُ الصالحةُ: الصلاةُ والصيامُ والحجُّ والجهادُ والصدقةُ.
قال: وتجيءُ ملائكةُ العذابِ من قبل رجليهِ، فتقولُ الصلاةُ: إليكُم عنه فلا سبيلَ لكُم، فقدْ أطال القيامَ للَّه عزَّ وجلَّ عليهما، قال: فيأتُونَهُ من قبلِ رأسِهِ، فيقولُ الصيامُ: لا سبيلَ لكم عليه، فقد أطال ظمأه للَّه تعالى في الدنيا؟
قال: فيأتونَهُ من قِبلِ جسدِهِ، فيقولُ الحجُّ والجهادُ: إليكم عنه، فقد أنصبَ نفسَهُ، وأتعبَ بدنَه، وحجَّ وجاهدَ للهِ - عزَ وجلَّ - لا سبيلَ لكُم عليه، قال: فيأتُونه من قِبلِ يدَيْه، فتقولُ الصدقةُ: كُفّوا عن صاحِبي، فكمْ من صدقَةٍ خرَجَتْ من هاتَيْنِ اليدينِ حتَى وقعتْ في يدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ابتغاءَ وجهِهِ، فلا سبيلَ لكم عليه " قال: فيُقالُ له: هنيئًا طبتَ حيًّا وطبت ميتًا.
قال: ويأتيه ملائكةُ الرحمةِ، فتفرشُه فِراشًا من الجنةِ، ودِثارًا من الجنةِ، ويفسحُ له في قبره مدَّ البصرِ، ويؤتَى بقنديلٍ من الجنةِ، فيستضِيءُ بنورِهِ إلى يومِ يبعثُهُ اللَّهُ من قبره.(1/688)
وبإسنادِهِ عن يزيدَ الرَّقاشيِّ، قال: بلغني أنَّ الميتَ إذا وُضِعَ في قبره
احتشوته أعمالُهُ، ثم أنطقَها اللَّهُ تعالى، فقالتْ: أيها العبدُ المفردُ في حفرتِهِ.
انقطعَ عنك الأخلاءُ والأهلونَ، فلا أنيسَ لك اليومَ غيرَنا، قالَ: ثمَّ يبْكي
ويقولُ: طوبى لمن كان أنيسُه صالِحًا، والويلُ لمن كان أنيسُه وبالاً.
وبإسنادِهِ عن يزيدَ الرقاشيِّ - أيضًا - أنه كانَ يقولُ في كلامِهِ: أيها المنفردُ
في حفرتِه، المُخَلَّى في القبرِ بوحدتِهِ، المستأنسُ في بطنِ الأرضِ بأعمالِهِ.
ليتَ شِعْرِي بأيِّ أعمالِك استبشرتَ، وبأيِّ إخوانِك اغتبطتَ، قالَ: ثمَّ يَبْكي حتى يبلَ عمامَتَهُ، ويقول: استبشر واللَّهِ بأعمالِهِ الصالحةِ، واغتبطَ واللَّه بإخوانِهِ المتعاونينَ على طاعةِ اللَّهِ.
وبإسنادِهِ عن الوليد بنِ عمرِو بنِ ساجٍ، قال: بلغني أن أولَ شيءٍ يجدُه
الميتُ حولَهُ عندَ رجلَيْه، فيقولُ: ما أنتَ؟ فيقولُ: أنا عملُكَ.
وقد ورد في شفاعةِ القرآن لقارئِه ودفعِهِ عندَ عذابِ القبرِ خصوصًا: سورةُ
تبارك.
وخرَّج النسائيُّ في "عمل اليومِ والليلةِ" بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ في.
قالَ: من قرأ: "تباركَ الذي بيده الملكُ " كلَّ ليلةٍ منعهُ اللَّهُ بها من عذابِ
القبرِ، وكنَّا في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نسمِّيها المانِعةَ.
وخرَّجه خلفُ بنُ هشامٍ في كتابِ "فضائل القرآنِ " عن ابنِ مسعودٍ، ولفظُهُ
أنه ذكرَ "تباركَ "، فقال: هي المانعةُ، تمنعُ من عذابِ القبرِ، توفِّيَ رجلٌ فأُتِي(1/689)
من قبل رجليه، فتقولُ رجلاه: لا سبيلَ لكُم على ما قِبَلي، إنه كان يقرأ
عليَّ سورةَ تبارك، ويُؤتَى من قِبلِ بطنِهِ، فيقولُ بطنُه: لا سبيلَ لكُم على ما
قِبلي، إنَّه كانَ أوعَى فيه سورةَ الملكِ، ويُؤتى من قِبلِ رأسِهِ فيقولُ رأسُهُ: لا
سبيلَ لكم على ما قِبلي إنه كان يقرأ سورةَ الملكِ.
وأخرجَ أبو عبيدٍ في كتابِ "فضائلِ القرآنِ " بإسنادِهِ عن ابنِ مسعود
- رضي الله عنه -، قال: إنَّ الميّتَ إذا ماتَ أوقدتْ له نيران حولَهُ، فتأكلُ كلُّ نارٍ ما يليها إنْ لم يكنْ له عملٌ يحولُ بينه وبينَها، وإنَّ رَجُلاً ماتَ ولم يكن يقرأ من القرآنِ إلا سورةً، ثلاثينَ آيةٍ، فأتته من قِبَلِ رأسِه، فقالتْ: إنه كانَ يقرأ بي، فأتتْه من قِبلِ رجليهِ، فقالتْ: إنه يقومُ بي، فأتتْه من قبل جوفِهِ، فقالتْ: إنه كان وعائِي، قالَ: فأنجتْهُ.
قال زِرٌّ: فنظرتُ أنا ومسروقٌ في المصحفِ فلم نجِد سورةً ثلاثينَ آيةً إلا
تباركَ.
وروى عبدُ بنُ حميدٍ في "مسندهِ " عن إبراهيمَ بنِ الحكمِ بنِ أبان، عن
أبيه، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: اقرأْ (تباركَ الَّذي بيده الملكُ) .
احفظْها، وعلمْها أهلَك، وولدَك، وصبيانَ بيتِك، وجيرانَك، فإنها المُنجِّية
والمجادلةُ، تجادلُ أو تخاصمُ عن صاحبِهَا عند الله لقارِئِهَا، وتطلبُ أن ينجيه
من عذابِ النارِ إذا كانت، في جوفِهِ، وينجِّي اللَّهُ بها صاحبَها من عذابِ
النارِ.
وروى سوارُ بنُ مصعب - وهو ضعيفٌ جدا -، عن أبي إسحاقَ، عن(1/690)
البراءِ، يرفعُه: "من قرأَ: الم السجدةَ، وتباركَ، قبلَ النوم، نجَا من عذابِ القبرِ، ووُقِيَ فتَّانا القبرِ".
وسنذكرُ حديثَ عبادةَ في نزولِ القرآنِ مع الميتِ في قبره فيما بعدُ - إن شاء
اللَّه تعالى.
وروى هشامُ بنُ عمَّار، حدَّثنا عبدُ اللَّه بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ.
عن أبيه، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، قال: إذا وُضِعَ الميتُ في لحدِهِ، فأولُ شيءٍ
يأتيِه عملُهُ، فيضربُ فخذَه الشمالَ، فيقول: أنا عملُكَ، فيقولُ: أين أهلِي، وولدِي، وعشيرتِي، وما خوَّلني اللَّهُ تعالى؟ فيقولُ: تركتَ أهلَك، وولدَك، وعشيرتَك، وما خوَّلك اللَّه وراءَ ظهرِك، فلم يدخلْ قبرَك معكَ غيرِي، فيقولُ: يا ليْتني آثرتُك على أهلِي، وولدِي وعشيرتي، وما خوَّلني الله تعالى إذ لم يدخل معِي غيرُك.
قال أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا يحيى بنُ سليم، عن ابنِ أبي نجيحٍ.
عن مجاهدٍ، في قولِه تعالى: (فَلأَنفسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ، قال: في القبرِ.
قال أحمد: فحدثتُ به يحيى بن معينٍ، فقال: طوبى لمن كان له عمل
صالحٌ، يكون وطْأهُ في القبرِ.
ويشهدُ لهذا كلِّه ما في "الصحيحينِ " عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"يتْبَعُ الميّتَ ثلاثة فيرجعُ اثنانِ ويبقَى واحدٌ يتبعه: أهلُه ومالُهُ وعملُهُ، فيرجِعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ ".(1/691)
وخرَّجه البزَّارُ والطبرانيُّ والحاكم بسياقٍ مطوَّلٍ، من حديثِ أنسٍ -
أيضًا - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ما من عبد إلا له ثلاثةُ أخِلاء، وأما خليلٌ فيقول له: ما
أنفقتَ فلكَ، وما أمسكت فليس لك، فذلك مالُهُ، وأما خليلٌ فيقول: أنا معك، فإذا أتيتَ بابَ الملكِ رجعتُ وتركتُكَ، فذلكَ أهلُهُ وحشَمُه، وأمَّا خليلٌ فيقولُْ أنا معكَ حيثُ دخلتَ، وحيثُ خرجتَ، فذلكَ عملُهُ، فيقولُ: إن كنتَ لأهونُ الثلاثةِ عليَّ ".
وخرَّج البزَّارُ والحاكمُ أيضًا من حديثِ النعمانِ بن بشيرٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه وقد اختلفَ في رفعِهِ ووقفِهِ.
وقد رُوي هذا من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسياقٍ مبسوطِ، وأنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ كرزٍ قالَ في هذا المعنى شعرًا، وأنشده للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولكنْ إسنادُهُ
ضعيفٌ جدا.
وخرَّج البزَّارُ هذا المعنى - أيضًا - من حديثِ أبي هريرةَ، وسمُرَةَ بن
جندبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّجه الطبرانيُّ من حديثِ سمُرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيضًا.
وروَى إبراهيمُ بنُ بشارٍ، عن إبراهيمَ بنِ أدْهَمَ، أنه كان ينشدُ شِعرًا:
ما أحدٌ اكرَمُ من مُفْرَدٍ. . . في قبرِهِ أعمالُهُ تؤْنِسُه
مُنَعَّمُ الجسْم وفي رَوْضَةٍ. . . زينها اللهُ فهِيَ مجْلِسُه(1/692)
وأمَّا العارفون باللَّهِ، المحبُّونَ له، المنقطعونَ إليه في الدنيا، والمستأنسونَ به
دونَ خلقِهِ: فإنَّ اللَّهَ بكرمِهِ وفضلِهِ لا يخذُلُهم في قبورِهِم، بل يتولاَّهم.
ويؤنسُ وحشتَهُم فـ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) .
وقد جاء في بعضِ ألفاظِ حديثِ يومِ المزيدِ: أنهم يقولونَ لربِّهم في ذلك
اليومِ: أنت الذي أنستَ منا الوحشةَ في القبورِ.
وكتبَ محمدُ بنُ يوسفَ الأصبهانيُّ العابدُ إلى أخيه: إنّي محذِّرُكَ
متحوَّلَك من دارِ مُهلتِكَ إلى دارِ إقامتِك وجزاءَ أعمالِك، فتصيرُ في قرارِ
باطنِ الأرضِ بعدَ ظاهرِها، فيأتيكَ منكرٌ ونكير، فيقعدانِكَ وينتهرانِكَ، فإن
يكنِ اللَّهُ معك فلا بأسَ عليكَ، ولا وحشةَ ولا فاقةَ، وإن يكنْ غيرُ ذلكَ
فأعاذني اللَّهُ وإيَّاك من سوءِ مصرع، وضيقِ مضجع.
ورُئِيَ ابنُ أبي عاصمٍ المنامِ فسُئِل عن حالِه فقالَ: يؤنسني ربِّي عزَّ
وجلَ.
وأمَّا من كانَ في الدنيا مشغولٌ عن اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - وكان يخافُ غيرَهُ.
فإنه يُعذبُ في قبرِهِ بذلكَ.
قالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا إبراهيمُ بنُ الفضلِ، عن أبي المليح
الرقي، قالَ: إذا دخلَ ابنُ آدمَ قبرَهُ لم يبقَ شيء كان يخافُه في الدنيا من دون
اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - إلا تمثَّل له يفزِّعه في قبرِهِ، لأنه في الدنيا كان يخافُه دون
اللَّهِ تعالى.
وروى عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، عن ابنِ عمر - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"ليسَ على أهلِ لا إله إلا اللَهُ وحشةً في قبورِهِم، ولا يومَ نشورِهِم،(1/693)
وكأنِّي بأهلِ لا إله إلا اللَهُ ينفضونَ الترابَ عن رءوسهِم، يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) ".
* * *
قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
قولُهُ: "وكان رزقُهُ كفَافًا فصبرَ على ذلك " هذا خيرُ الرزقِ كما سبقَ في
حديثِ "خيرُ الرزقِ ما يكفِي ".
وفي "الصحيح أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهمَّ اجعلْ رزقَ آلِ محمدٍ قُوتًا".
وقد فسَّر طائفةٌ من المفسرينَ قولَهُ تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) .
بهذا، وقالُوا: المرادُ: رزقُ يومِ بيومٍ.
في "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قد أفلحَ من هُديَ إلى الإسلامِ، وكان عيشُه كفافًا وقنَّعهُ اللَهُ به ".
وخرَّج الترمذيُّ والنسائيُّ من حديث فضالةَ بنِ عبيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"طُوبى لمنْ هُديَ للإسلامِ وكانَ عيشُهُ كفافًا وقنِعَ ".(1/694)
وفي "المسندِ" و"سننِ ابنِ ماجةَ " عن أنسٍ مرفوعًا: "ما منْ غني ولا فقيرٍ إلا
ودَّ يومَ القيامةِ أنَّه أُوتِيَ قُوتًا".
وفي الترمذي عن أبي أُمامةَ - مرفوعًا:
"عرض علي ربي أن يجعلَ لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلتُ: لا يا ربِّ، ولكن أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليكَ ودعوتُكَ، وإذا شبعْتُ حمدتُكَ وشكرتُكَ ".
وفي "سنن ابن ماجةَ " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ إلى رجلٍ يستمنحُهُ ناقةً فردَّهُ ثم بعث إلى آخرَ فبعثَ إليه بناقةٍ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ أكثرْ مالَ فلانٍ -
للمانع الأولِ - واجعلْ رزقَ فلانٍ يومًا بيومٍ - للذي بعثَ بالناقةِ".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديثِ أبي هريرةَ - مرفوعًا: "اللَّهُمَّ منْ أحبَّني
فارزقْهُ العفافَ والكفافَ، ومن أبغَضَنِي فأكثر مالَهُ وولدَهُ ".
وفي الترمذيِّ وابنِ ماجةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من أصبح منكُم آمنًا في سِرْبهِ معافًى في بدنِهِ عندَهُ قُوتُ يومِهِ؛ فكأنَّما حِيزتْ له الدنيا".
وخرَّجه الطبرانيُّ وزادَ في أوَّلِهِ: "ابنَ آدمَ، جمعتُ عندَك ما يكفيكَ وأنتَ
تطلبُ ما يطغيكَ، لا بقليلٍ تقنعُ ولا منْ كثيرٍ تشبعُ " وزادَ في آخر: "فعلَى الدُّنيا العفاءُ".
وقال عمرُ: كونُوا أوعيةَ الكتابِ، ينابيعَ للعلم، وسلُوا اللَّهَ ش زقَ يومٍ(1/695)
بيومٍ، وعدُّوا أنفسكُم في الموتى، ولا يضرُّكم أن لا يكثرَ لكُم.
والكفافُ من الرزقِ؛ هو ما ليسَ فيه فضلٌ - بأن يكتَفي به صاحبُهُ من غيرِ
فضْل.
وجاء من حديثِ ابنِ عباسٍ - مرفوعًا:
"إنَّما يكْفِي أحدُكُم ما قنعتْ به نفسُهُ "
خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
والمرادُ أن من اكتفى من الدنيا باليسيرِ وقنعتْ به نفسُهُ فقدْ كفاهُ ذلكَ
واستغْنَى له وإنْ كان يسيرًا.
قال أبو حازمٍ: إنْ كان يغنيكَ ما يكفيكَ فإن أدْنَى ما في الدنيا يكفيكَ -
وإنْ كان لا يغنيكَ ما يكفيكَ فليسَ في الدنيا شيءٌ يكفيكَ.
قال بكرٌ المزنيُّ: يكفيكَ من الدُّنيا ما قنعْتَ به ولو كفُّ تمرٍ وشربةُ ماءٍ.
وقال الإمامُ أحمدُ: قليلُ الدنيا يكفِي وكثيرُ ما يكفِي يُغنِي، إنَّ من اكتفى
من الدنيا كفاهُ منها القليلُ، ومن لم يكتفِ لم يكفِهِ الكثيرُ، كما قالَ
بعضُهُم، شعر:
حقيقٌ بالتواضع منْ يموتُ. . . ويكفِي المرءَ من دنْيَاه قوتٌ
وقال آخرُ:
يكفِي الفتى خلق وقوتُ. . . ما أكثرَ القوتَ لمن يموتُ
وقد مدحَ في هذا الحديثِ من صبرَ على كفافِ عيشِهِ وقنعَ بهِ، فأما
الراضِي بذلكَ: فهو أعْلَى منزلةً من الصابرِ القانِع.
وقد قيلَ: إنَّ الفقيرَ الراضي أفضلُ من الفقيرِ الصابرِ والغنيَّ الشاكرِ
بالاتفاقِ.(1/696)
وفي الحديثِ أنه - عليه السلامُ - كان يقولُ في دعائِهِ: "رضِّنِي بما قسمتَ
وفي حديب آخرَ.
"إذا أرادَ بعبدِهِ خيرًا رضَّاهُ بما قسَمَ له، وبارَكَ لهُ فيه ".
* * *(1/697)
سُورَةُ الأنْبِيَاءِ
[قالَ البخاريُّ] :
قوله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)
حدثنا مُسدَّدٌ، ثنا يحيى، عن الأعمشِ، حدَّثني شقيقٌ، حدَّثني حذيفةُ.
قال: كنَّا جُلُوسًا عند عُمرَ، فقال: أيكُم يحفظُ قولَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الفتْنَةِ؟
قلتُ: أنا كما قاله. قال: إنَّك عليهِ - أو عليها - لجريءٌ.
قلتُ: "فتنةُ الرَّجل في أهلِه ومالِه وولده وجارِه، تُكفِّرُها الصلاةُ والصومُ والصدقةُ والأمرُ والنهْيُ.
قال: ليس هذا أُرِيدُ، ولكن الفتْنةَ التي تمُوجُ كما يمُوجُ البحرُ، قال: ليس
عليك منها بأسٌ يا أمير المؤمنين، إنَّ بينك وبينها بابا مُغْلقًا، قال: يُكْسَرُ أمْ
يُفْتحُ؟
قال: يُكْسرُ. قال: إذن لا يُغْلقُ أبدًا.
قُلنا: أكان عُمرُ يعلَمُ البابَ؟
قال: نعمْ، كما أنَّ دونَ غدٍ الليلةَ، إنِّي حدَّثتُهُ حديثًا ليس بالأغاليطِ، فَهِبْنَا أن نسْأل حذيفةَ، فأمرْنا مسروقًا فسألَهُ، فقال: البابُ عمرُ.
أصلُ الفتنةِ: الابتلاءُ والامتحانُ والاختبارُ، ويكون تارةً بما يسوء، وتارةً بما
يَسرُّ، كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) .
وقال: (وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .(1/698)
وغلبَ في العُرفِ استعمالُ الفتنةِ في الوقوع فيما يسوءُ.
والفتنةُ نوعانِ: أحدُهما: خاصة، تختص بالرجلِ في نفسِهِ، والثاني: عامَّة.
تعمُ الناسَ.
فالفتنة الخاصة: ابتلاءُ الرجلِ في خاصةِ نفسِهِ بأهلِه ومالهِ وولدِهِ وجاره.
وقد قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، فإنَّ ذلك غالبًا
يُلهي عن طلبِ الآخرةِ، والاستعدادِ لها، ويشغل عن ذلك.
ولمَّا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ على المنبرِ، ورأى الحسنَ والحسينَ يمشيانِ ويعثُرانِ وهما صغيرانِ، نزلَ فحملَهُمَا، ثمَّ قال: "صدق اللَّه ورسولُهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكمْ فِتْنَةٌ) ، إني رأيتُ هذين الغُلامين يمشيان ويعْثران فلم أصبر". ً
وقد ذمَّ اللَّهُ تعالى منْ ألهاهُ مالُهُ وولدُهُ عن ذكر، فقال: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) .
فظهرَ بهذا: أنَّ الإنسانَ يُبتلَى بمالِهِ وولدِهِ وأهلِهِ وبجاور المجاورِ له، ويُفتتن
بذلك، فتارةً يُلهيه الاشتغالُ به عمَّا ينفعه في آخرتِهِ، وتارةً تحملُهُ محبتُه على
أنْ يفعلَ لأجله بعضَ ما لا يحبُه اللَّه، وتارةً يقصِّر في حقِّه الواجبِ عليه.
وتارةً يظلمه ويأتي إليه ما يكرهُه اللَهُ من قولٍ أو فعلِ، فيسألُ عنه ويطالب
فإذا حصل للإنسانِ شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلَّى أو صامَ أو
تصدَّقَ أو أمرَ بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ كان ذلك كفَّارة له، وإذا كان الإنسانُ(1/699)
تسوؤه سيئتُه، ويعمل لأجلها عملاً صالحًا، كان ذلك دليلاً على إيمانِهِ.
وفي "مسندِ بَقِيِّ بنِ مَخْلدٍ" عن رجلٍ سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمانُ يا رسولَ اللَّه؟
قال: "أن تؤمنَ باللهِ ورسولِهِ "، فأعادَهَا ثلاثًا، فقالَ له في الثالثةِ:
"أتحبُّ أن أخبرَك ما صريحُ الإيمانِ؟ "
فقالَ: ذلك الذي أردتُ، فقالَ:
"إن صريحَ الإيمانِ إذا أسأت أو ظلمتَ أحدًا، عبْدَك أو أَمَتَكَ، أو واحدًا من الناسِ، صُمْتَ أو تصدَّقتَ وإذا أحسنتَ استبشرتَ ".
وأمَّا الفتن العامةُ: فهي التي تموجُ موجَ البحر، وتضطربُ، ويتبع بعضُها
بعضًا كأمواج البحرِ، فكانَ أوَّلُها فتنةَ قتلِ عثمانَ - رضي الله عنه - وما نشأ منها من افتراقِ قلوبِ المسلمينَ، وتشعبِّ أهوائِهم وتكفيرِ بعضِهم بعضًا، وسفكِ بعضِهم دماءَ بعضٍ، وكانَ البابَ المغلقَ الذي بين الناسِ وبين الفتن عُمَرُ - رضي الله عنه - وكان قتلُ عُمَرَ كسْرًا لذلكَ البابِ، فلذلكَ لم يُغْلَق ذلكَ البابُ بعدَه أبدًا.
وكان حذيفةُ أكثرَ الناسِ سؤالا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفتنِ، وأكثرَ الناسِ علمًا بها، فكانَ عندَهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمٌ بالفتنِ العامةِ والخاصةِ، وهو حدَّث عُمَرَ تفاصيلَ الفتن العامَّة، وبالبابِ الذي بينَ الناسِ وبينَها، وأنه هو عمرُ، ولهذا قالَ: إنِّي حدثتُهُ حديثًا ليس بالأغاليطِ، والأغاليطُ: جمع أغْلُوطة، وهي التي يُغَالطُ بها.
واحدها: "أُغْلُوطةٌ" و"مَغْلَطَةٌ"، والمعنى: أنه حدَّثه حديثًا حقًّا.
ليس فيه مرْية، ولا إيْهَام.
وهذا مما يُستدل به على أنَّ روايةَ مثلِ حذيفةَ يحصلُ بها لِمَنْ سمعَها العلمُ
اليقينيُّ الذي لا شكَّ فيه، فإنَّ حذيفةَ ذكرَ أن عُمرَ علِمَ ذلك وتيقنه كما تيقنَ(1/700)
أنَّ دونَ غدٍ الليلةَ لما حذَثه به من الحديثِ الذي لا يحتملُ غيرَ الحقِّ والصدقِ.
وقد كانتِ الصحابةُ تعرفُ في زمانِ عُمَرَ أنَّ بقاءَ عُمَرَ أمانٌ للناسِ من
الفتن.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" أنَّ خالدَ بنَ الوليدِ لمَّا عزَلَه عُمَرُ، قالَ لهُ
رجل: اصبرْ أيها الأميرُ، فإنَّ الفتن قد ظهرتْ، فقال خالدٌ: وابن الخطَّابِ
حيٌّ، إنَّما يكون بعدَهُ".
وقد رُويَ من حديث عثمانَ بن مَظْعونٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمَّى عمر: غلق الفتنة وقال: "لا يزال بينكم وبينَ الفتنةِ باب شديدُ الغلقِ ما عاشَ هذا بين أظهركم ".
خرَّجه البزار.
ورُوي نحوه من حديثِ أبي ذرٍّ.
ورَوَى كعبٌ، أنه قال لعمرَ: أجدُكَ مصْراعَ الفتنة، فإذا فُتحَ لم يغلق
أبدًا.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
فأمَّا خشية اللَّهِ مي الغيب والشهادةِ فالمعنيُّ بهما: أن العبدَ يخْشَى اللَّه سرًّا
وعلانيةً وظاهرًا وباطنًا، فإنًّ أكثر الناسِ يرى أنه يخشَى اللَّهَ في العلانيةِ وفي(1/701)
الشهادةِ، ولكن الشأنَ في خشية اللَّه في الغيبِ إذا غابَ عن أعينِ الناسِ.
وقد مدحَ اللَّه من يخافهُ بالغيبِ قالَ تعالى: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) ، وقال: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) .
وقال تعالى: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) .
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كبِيرٌ) .
وقد فُسِّر الغيبُ في هذه الآياتِ بالدنيا لأن أهلها في غيبٍ عمَّا وعِدُوا به
في الآخرة، وأما في هذا الحديثِ فلا يتأتَّى ذلكَ، كما ترى لمقابلتِهِ بالشهادةِ، كان بعضُ السلفِ يقول لإخوانِهِ: زهَّدنا اللَّه وإياكُم في الحرامِ زهادةَ من قدرَ عليهِ في الخلوةِ فعلِمَ أنَّ اللَّه يراهُ فتركَهُ.
ومن هذا قول بعضِهِم: ليسَ الخائفُ من بكى وعصر عينيه، إنَّما الخائفُ
من تركَ ما اشتَهى من الحرامِ إذا قدرَ عليه، ومن هنا عَظُمَ ثواب من أطاعَ
اللَّهَ، سرًّا بينه وبينه، ومن تركَ المحرماتِ التي يقدرُ عليها سرًّا.
فأمَّا الأولُ فمثلُ قولِهِ تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) إلى قولهِ:
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) .
قال بعض السلفِ: أخفوا للَّهِ العملَ فأخفى لهم الأجر.
وفي حديثِ السبعةِ الذين يظلهم اللَّه في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه، "رجل
ذكر اللَّهَ خاليًا ففاضتْ عيناه، ورجل تصدَّقَ بصدقة، حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تنفق يمينُه ".
وفي الحديثِ: "إذا صلَّى العبدُ في العلانيةِ فأحسنَ وصلَّى في السرِّ فأحسنَ،(1/702)
قال اللهُ: هذا عبدِي حقا".
وفي حديثٍ آخرَ: "من أحسن صلاتَهُ حيثُ يراهُ الناسُ وأساءها حيث لا يراه أحدٌ فتلك استهانةٌ يستهينُ العبدُ بها ربَّه ".
وأما الثاني: فمثلُ قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - في السبعةِ الذينَ يظلُّهم اللَّهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه "ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ حسنٍ وجمال فقال: إنِّي أخافُ اللَهَ ربَّ العالمين ".
ومثلُ الحديثِ الذي جاء فيمن أدَّى دَينًا خفيًا أنه يخيَّرُ في أي الحورِ
العينِ شاء، والموجب لخشيةِ اللَّه في السر والعلانيةِ أمورٌ.
منها: قوةُ الإيمانِ بوعدِهِ ووعيدِهِ على المعاصِي.
ومنها: النظرُ في شدَّةِ بطشِهِ وانتقامِهِ وقوتِهِ وقهره، وذلك يوجبُ للعبدِ
تركَ التعرضِ لمخالفتِهِ، كما قال الحسنُ: ابنَ آدمَ، هل لكَ طاقةً بمحاربةِ اللَّه، فإنَّ من عصَاهُ فقدْ حاربَهُ.
وقال بعضُهم: عجِبْتُ من ضعيفٍ يعصِي قويًّا.
ومنها: قوةُ المراقبةِ له، والعلمُ بأنَّه شاهدٌ ورقيبٌ على قلوبِ عبادِهِ
وأعمالِهِم وأنَّه مع عباده حيثُ كانُوا، كما دل القرآنُ على ذلكَ في مواضعَ
كقولِهِ تعالى: (إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا) .
وقولُهُ تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الآية.
وقولُهُ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ) .
وقولُهُ تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) الآية.
وكما في الحديثِ الذي خرَّجهُ الطبرانيُّ:(1/703)
"أفضلُ الإيمانِ: أن يعلمَ العبدُ أنَّ الله معه حيثُ كان "
فيوجبُ ذلكَ الحياءَ منه في السرِّ والعلانيةِ.
قال بعضُهُم: خفِ اللَّهَ على قدرِ قدرتِهِ عليكَ.
واستحِ منه على قدرِ قربِهِ منكَ.
وقال بعضُهم لمن استوصَاهُ: اتَّقِ اللَّهَ أن يكونَ أهونَ الناظرينَ إليكَ.
وفي هذا المعنى يقولُ بعضُهم:
يا مدمنَ الذنبِ أما تستَحِي. . . واللَّهُ في الخلوةِ ثانيكَا
غرَّك من ربِّكَ إمهالُهُ. . . وسترُهُ طولَ مساويكَا
وفي حديثِ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثلانةٌ يحبُّهم اللَّهُ: رجل أتى قومًا فسألهم باللَّهِ ولم يسألهُم لقرابةٍ كانتْ بينه وبينَهُم، فتخلفَ رجلٌ فأعطاهُ سرًّا، لا يعلمُ بعطيتِهِ إلا اللَّهُ والذي أعطاهُ، وقومٌ سارُوا ليلَهُم حتى إذا كانَ النومُ أحبَّ إليهم مما يعدلُ
به، فوضَعُوا رءوسهم فقامَ رجلٌ يتملقُنِي ويتْلُو كتابي، ورجلٌ كانَ في سرية فخلفُوا العدوَ، فهُزِمُوا، فأقبلَ بصدْرِهِ حتى يقتلَ أو يفتحَ له ".
فهؤلاء الثلاثةِ قد اجتمعَ لهم معاملةُ اللَّهِ سرًّا بينَهُم وبينَهُ، حيثُ غَفَل
الناسُ عنهُم، فهُوَ تعالى يحبُّ من يعامُلُهُ سرًّا بينه وبينَهُ، حيث لا يعامله
حينئذٍ أحد، ولهذا فُضِّلَ قيامُ وسطِ الليلِ على ما سواه من أوقاتِ الليلِ.
والمحبونَ يحبونَ ذلك أيضًا علمًا منهم باطلاعه عليهم ومشاهدته لهم، فهم
يكتفون بذلك لأنهم عرفوه فاكتفوا به من بين خلقه، وعاملُوه فيما بينَهُ وبينَهُم(1/704)
معاملةَ الشاهدِ غيرَ الغائبِ، وهذا مقامُ الإحسانِ.
قال بعض العارفين: من عرفَ اللَّهَ اكتفى به من خلقِهِ.
وكان بعضُ المخلصينَ يقولُ: لا أعتدُّ بما ظهرَ من عملِي.
اطلعَ على بعضِ أحوالِ بعضِهم، فدَعَى لنفسِهِ بالموتِ وقال: إنما كانتْ
تطيبُ الحياةُ إذا كانتِ المعاملةُ بيني وبين اللَّه سرًّا.
وقيلَ لبعضهم: ألا تستوحشُ وحدَكَ؟
قالَ: وكيفَ أستوحشُ وهو يقولُ: أنا جليسُ من ذكرَني.
آنستني خلواتِي بكَ عن كلِّ أنيسي. . . وتفردتُ فعاينتُكَ في الغيبِ جليسِي
* * *
قوله تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
كَمْ بَيْنَ الذين: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، وبينَ الذينَ: (يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) .
قال: عليٌّ - رضي الله عنه -: تتلقَّاهُم الملائكةُ على أبوابِ الجنة:
(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) .
ويلْقَى كُلُّ غِلمان صاحبَهم يُطيُفون به فِعْلَ الوِلْدان بالحميم جاء من الغيبةِ، ويقولون: أبشِرْ فقدْ أعدَّ اللَّهُ لك من الكرامةِ كذا وكذا، وينطلقُ غُلامٌ من غِلْمانِهِ إلى أزواجه من الحور العين، فيقولُ: هذا فلان - باسمه في الدنيا -، فيقلْنَ: أنتَ رأيتَه؟ فيقولُ: نعم، فيستخفُّهُنَّ الفرحُ حتى يخرُجْنَ إلى أُسْكُفَّةِ البابِ.
* * *(1/705)
قوله تعالى: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) المعنى: أنه إذا اشتدت الأصوات
وتغالبت فإنها حالة لا يسمع فيها الإنسان.
واللَّه عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه، ولا يشغله سَمع عن سَمْع.
* * *
قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) : المراد منه: كن أنت أيها القائل على الحق.
ليمكنك أن تقول: احكم بالحق، لأن المبطل لا يمكنه أن يقول: احكم
بالحق.
* * *(1/706)
سُورَةُ الحَجِّ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)
وقولُه: "ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك "
يعني: أربعين يومًا، والعلقةُ: قطعة من "ثم يكون مضعةً مثلَ ذلك " يعني: أربعين يومًا، والمضغةُ: قطعة من لحم.
"ثمَّ يُرسلُ اللَهُ إليه الملك، فينفخ فيه الرُّوحَ، ويؤمرُ بأربع كلماتٍ: بكتبِ رزقِهِ وعملِهِ وأجلِهِ وشقى أو سعيدٌ".
فهذا الحديثُ يدلُّ على أنه يتقلبُ في مائةٍ وعشرينَ يومًا، في ثلاثةِ
أطوارٍ، في كلِّ أربعينَ منها يكونُ في طَوْرٍ، فيكونُ في الأربعينَ الأولى
نطفةً، ثم في الأربعينَ الثانية علقةً، ثم في الأربعينَ الثالثةِ مضغةً، ثم بعدَ
المائةِ وعشرينَ يومًا ينفخُ المَلَكُ فيه الرُّوحَ ويكتبُ لهُ هذه الأربعَ الكلماتِ.
وقد ذكرَ اللَهُ في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّبَ الجنينِ في هذه الأطوارِ.
كقولِهِ تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .(1/707)
وذكرَ هذه الأطوارَ الثلاثةَ: النُّطفةَ والعلقةَ والمضعةَ في مواضعَ متعددةٍ من
القرآنِ، وفي موضع آخرَ ذكرَ زيادةً عليها، فقالَ في سورةِ المؤمنين
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) .
فهذه سبعُ تاراتٍ ذكرَها اللَّهُ في هذه الآيةِ لخلقِ ابنِ آدمَ قبلَ نفخ
الروح فيه.
وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: خُلِقَ ابنُ آدمَ منْ سبعٍ، ثم يتلُو هذه الآيةَ.
وسئلَ عن العزلِ، فقرأ هذه الآيةَ ثمَّ قالَ: فهل يخلق أحدٌ حتى
تجري فيه هذه الصفةُ؟
وفي روايةٍ عنه قال: فهلْ تموتُ نفسٌ حتى تمرَّ على هذا الخلقِ؟.
ورُوي عن رفاعةَ بنِ رافع قالَ: جلسَ إلى عمرَ عليّ والزبيرُ وسعدٌ في نفرٍ
منْ أصحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فتذاكرُوا العزل، فقالُوا: لا بأس به، فقالَ رجلٌ: إنَّهم يزعمونَ أنَّها الموءودةُ الصُّغرى.
فقالَ عليٌّ: لا تكون موءودةً حتى تمرَ على التَّاراتِ السَّبع: تكونُ سلالةً من طين، ثمَّ تكونُ نطفةً، ثم تكونُ علقةً، ثم تكونُ مضغةً، ثم تكونُ عظامًا، ثم تكونُ لحمًا، ثم تكونُ خلقًا آخرَ، فقال عمرُ: صدقتَ، أطال اللَّهُ بقاءَك.
رواه الدارقطنيُّ في "المؤتلف والمختلف ".
* * *(1/708)
[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخَلَّقةٍ":
حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن عبيد الله بنِ أبي بكرٍ، عن أنس بنِ مالكٌ.
عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إنَّ اللهَ عزَّ وجل وكَلَ بالرَّحم ملَكًا، يقولُ: يا ربِّ نُطفة يا ربِّ
علَقة، يا ربِّ مُضْغة، فإذا أراد أن يقْضِي اللَّهُ خلقَهُ قال: أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيا؟ فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ فيُكْتَبُ في بطنِ أمِّه ".
اختلف السَّلفُ في تأويلِ قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) .
فقال مجاهد: هي المضغةُ التي تسقطُها المرأةُ، منها ما هو مُخَلَّقٌ فيه
تصوير وتخطيطٌ، ومنها ما ليسَ بمخلَّقٍ ولا تصوير فيه، أرَى اللَهُ تعالى ذلك
عبادَه ليُبَين لهم أصْلَ ما خُلِقُوا منه، والذي يُقِرّه في الأرحامِ هو الذي يتمُّ
خلْقُهُ ولُولَدُ.
وقالتْ طائفةٌ: المخلقةُ: هي التي يتمُّ خلْقُها، وغيرُ مخلقة: هي التي
تَسقُطُ قبلَ أن تكونَ مضغةً.
روى الشَّعْبيُّ، عن علْقَمَةَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: النطفةُ إذا استقرتْ في
الرَّحم حَمَلَها ملَكٌ بكفِّه، وقال: أي ربِّ، مخلقة أم غيرُ مُخلقةٍ؟
فإنْ قيلَ: غير مخلقةٍ: لم تكنْ نسمة، وقذفَتْها الأرحامُ.
وإن قيلَ: مخلقةٌ، قالَ: أي ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيدٌ؟
ما الأجلُ؟ ما الأثرُ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ؟
قال: فيقالُ للنطفةِ: من ربّكِ؟
فتقولُ: اللَّهُ، فيقالُ: من رازقُكِ؟ فتقولُ: اللَّهَ.
فيقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: اذهبْ إلى الكتابِ، فإنَّكَ ستجدُ فيه قصةَ هذه(1/709)
النطفةِ، قالَ: فتُخلقُ، فتعيشُ في أجلِها، وتأكلُ رزقَها، وتطأُ في أثَرِها.
حتى إذا جاء أجلُها ماتتْ، فدُفنتْ في ذلكَ، ثم تلا الشعبيُّ: (يَا أَيُّهَا الناسُ
إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) إلى قولهِ: (مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، فإذا
بلغتْ مضغةً نُكِسَتْ في الخَلْقِ الرابع، فكانتْ نسمةً، فإنْ كانتْ غيرَ مخلقةٍ
قذفَتْها الأرحامُ دمًا، وإن كانتْ مخلقةً نكِسَتْ نسمةً.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه، وآخرُهُ هو من قولِ الشعبيِّ.
وقد يستأنسُ بهذا من يقولُ: إنَّ الحاملَ لا تحيضُ ولا ترى دمَ الحيضِ في
حالِ حَمْلِها، وأنَها لا ترَى إلا دمَ النِّفاسِ خاصةً، وفي ذلكَ نظرٌ.
وقد قيلَ: إن هذا هو مرادُ البخاريِّ بتبويبِهِ هذا.
وقد رُويَ عن الحسنِ في قولِ اللَّهِ عزَّ وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسانَ مِن نُّطْفَةٍ
أَمْشَاجِ) ، أنَّ النطفةَ مُشجتْ - أي: خُلِطَتْ بدمِ الحيضِ -، فإذا
حَمَلتِ المرأةُ ارتفعَ حيضُها.
وحديثُ أنسٍ الذي خرَّجه البخاريُّ يدلُّ على أنَّه لا يُخلقُ إلا بعدَ أن
يكونَ مضغةً، وليسَ فيه ذِكْرُ مدةِ ذلكَ.
وذكرُ المدةِ في حديث ابنِ مسعودٍ -
وقد خرَّجه البخاريُّ في مواضعَ أُخَرَ - قالَ: حدثنا رسولُ اللًّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادقُ المصدوقُ -:
"إنَّ خلقَ أحدِكُم يُجْمَع في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُبعثُ إليه الملكُ، فيُؤمَرُ بأربع
كلماتٍ: بكتْبِ رزِقه، وأجَلِهِ، وعمَلِهِ، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفخُ فيه الرُّوح " -
وذكر الحديثَ.
وقد رُويَ هذا المعنى عن ابن مسعودٍ موقوفًا عليه، وعن ابنِ عباسٍ،(1/710)
وغيرِهما من الصحابةِ.
وقد أخذَ كثيرٌ من العلماءِ بظاهرِ حديثِ ابنِ مسعودٍ، وقالُوا. أقلُّ ما يتبيَنُ
فيه خلْقُ الولدِ أحدٌ وثمانونَ يومًا؛ لأنه لا يكونُ مضغةً إلا فى الأربعينَ
الثالثةِ، ولا يتخلَّقُ قبلَ أن يكونَ مضغةً.
قال الإمامُ أحمدُ: ثنا هُشَيْمٌ: أنْبَأ داودُ، عن الشعبي، قال: إذا نُكِسَ
السَّقْطُ الخلْقَ الرابعَ وكان مخلقًا عُتقَت به الأَمَةُ، وانقضتْ به العدَّة.
قال أحمدُ: إذا تبيَّنَ الخلْقُ فهو نفاسٌ، وتُعْتَقُ به إذا تبيَّن.
قال: ولا يُصَلَّى على السَّقْطِ إلا بعد أربعة أشهرٍ.
قيلَ له: فإنْ كان أقلَّ من أربعةٍ؟
قالَ: لا، هو في الأربعةِ يتبيَّنُ خلقُه.
وقال: العلقةُ: هي دمٌ لا يتبين فيها الخلقُ.
وقال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيّ - بناءً على أن الخلقَ لا يكونُ إلا في
المضغةِ -: أقلّ ما يُتبيَّنُ فيه خلْقُ الولدِ أحدٌ وثمانون يومًا، في أولِ الأربعين
الثالثةِ التي يكونُ فيها مضغةٌ، فإن أُسقطتْ مضغةً مخلقةً انقضتْ بها العدةُ
وعُتِقَتْ بها أمُّ الولدِ، ولو كان التخليقُ خفِيًّا لا يَشهدُ به إلا من يعرفُهُ من
النساء فكذلكَ.
فإنْ كانتْ مضغةً لا تَخْليقَ فيها: ففي انقضاءِ العدةِ وعتقِ الأمَةِ به روايتانِ
عن أحمدَ.
وهل يعتبرُ للمضغةِ المخلقةِ أن يكونَ وضعُها بعدَ تمامِ أربعةِ أشهر؟
فيه قولانِ، أشهرُهُما: لا يُعتبرُ ذلكَ، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ، وهو المشهورُ عن أحمدَ، حتى قالَ: إذا تبيَّنَ خلقُهُ: ليسَ فيه اختلافٌ، أنها تُعْتقَ بذلكَ.(1/711)
ورويَ عنه ما يدل على اعتبارِ مُضِيِّ الأربعةِ أشهُرِ، وعنه روايةٌ أُخْرى في
العلقةِ إذا تبيَّنَ أنها ولدٌ: أنَّ الأمَةَ تُعْتَقُ بها، ومن أصحابنا من طرد ذلك في
انقضاءِ العدَّةِ بها - أيضًا - وهذه الروايةُ قول النَّخعِي، وحكيَ قولاً للشافعي.
وهذا يدلُّ على أنَّه يمكنُ التخليقُ في العلقةِ، وقد رُويَ ما يدلُّ عليه.
والأطباءُ تعترفُ بذلكَ.
فأمَّا الصلاةُ على السقْطِ: فالمشهورُ عن أحمدَ أنه لا يُصلَّى عليهِ حتى يُنفخَ
فيه الروحُ، ليكون ميْتًا بمفارقةِ الروح لهُ، وذلك بعد مُضِيِّ أربعةِ أشهرٍ، وهو قولُ ابنِ المسيبِ، وأحدُ أقوالِ الشافعيِّ، وإسحاقَ.
وإذا ألْقَتْ ما يتبيَّن فيه خلْقُ الإنسانِ فهيَ نُفساءُ، ويلزمُها الغُسْلُ، فإنْ لم
يتبيَّنْ فيه خلقُ الإنسانِ وكانَ مضغةً فلا نفاسَ لها، ولا غُسلَ عليها في
المشهورِ عن أحمدَ، وعنه رواية: أنها نفساءُ -. نقلها عنه الحسنُ بنُ ثوابٍ.
ولم يشترطْ شيئًا، لأن المضغة مظنَةُ تبيُّنِ التَخَلُّقِ والتصويرِ غالبًا.
وإنْ ألقَتْ علقةً: فلا نفاسَ لها فيه، ولأصحابِنا وجهٌ ضعيفٌ: أنها نفساءُ.
بناءً على القولِ بانقضاءِ العدَّةِ به.
ومذهبُ الشافعيةِ والحنفيّةِ: أنَّ الاعتبارَ في النفاسِ بما تنقضِي به العدَّةُ.
وتصيرُ به الأمَةُ أمَّ ولدٍ، فحيثُ وُجد ذلكَ فالنفاسُ موجودٌ، وإلا فلا.
والاعتبارُ عندهُم في ذلكَ كلِّه بما يتَبيَّنُ فيه خلقُ الإنسانِ.
وقال إسحاقُ: إذا استتمَّ الخلقُ فهو نفاسٌ -: نقلَهُ عنه حرْبٍ.
* * *(1/712)
قوله تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
قال تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) ، وكان إبراهيمُ
التيميُّ إذا تلا هذه الآيةَ يقولُ: سبحانَ من خلَقَ من النارِ ثيابًا.
وروينا من طريقِ يحيى بن معينٍ، حدثنا أبو عبيدةَ الحدادُ، حدثنا عبدُ اللَّهِ
ابنُ بحيرٍ، عن عباسٍ الجريريَ - أحسبُهُ عن ابنِ عباس - قالَ: يُقطعُ للكافرِ
ثيابٌ من نارٍ، حتى ذكرَ القباءَ والقميصَ والكمةَ.
وخرَّج أبو داود وغيرُه من حديثِ المستوردِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل برجل مسلمٍ أكلة في الدنيا أطعمَهُ اللَّهُ مثلها في جهنَّمَ، ومن كسَى أو اكتسَى برجل مسلمٍ ثوبًا كساهُ اللَّهُ مثلَهُ في جهنَّم ".
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن هُبيبُ بن مُغْفِل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"من وطِئَ إزارَهُ خيلاءَ وطئَهُ في النارِ"
وهو يبينُ معنى ما في "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "ما تحت الكعبين من الإزار ففي النارِ".
أن المراد: ما تحتَ الكعبِ من البدنِ والثوبِ معًا، وأنه يسحبُ ثوبه
في النارِ كما يسحبُهُ في الدنيا خيلاءَ.
وسيأتي حديثُ: "أهونُ أهلِ النارِ عذابًا: مَن في قدميهِ نعلانِ من نار يغلي فيهما دماغُهُ "
فيما بعدُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى.(1/713)
وفي كتابِ أبي داودَ والنسائيِّ والترمذيِّ عن بريدةَ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على رجلٍ خاتمًا من حديدٍ فقالَ:
"ما لي أرَى عليكَ حليةَ أهلِ النارِ".
وروى حمادُ بنُ سلمةَ عن عليِّ بنِ زيدٍ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"أنَّ أولَ من يُكسى حلةً من النارِ. إبليسُ، يضعُها على حاجِبِه ويسحبُها من خلفِهُ ذريتُه وهو يقولُ: يا ثبورهُ، وهم ينادونَ: يا ثبورَهُم، حتى يقفُوا على النارِ، فيقولُ: يا ثبورهُ ويقولونَ: يا ثبورَهُم، فيقالَ:
(لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) ".
خرَّجه الإمامُ أحمد.
وفي حديثِ عديٍّ الكنديِّ عن عمرَ: "أنَّ جبريلَ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحقِّ، لو أنَّ ثوبًا من ثيابِ النارِ عُلِّق بين السماء والأرضِ لماتَ من في الأرضِ جميعًا من حرِّهِ ".
وخرَّجه الطبرانيُّ، وسبقَ ذكرُ إسنادِهِ.
وفي "موعظةِ الأوزاعيِّ " للمنصورِ قالَ: بلغني أنَّ جبريل قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر بنحوه.
* * *
ومن أنواع عذابِهم: الصَّهْرُ، قال اللَّهُ تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) .
قال مجاهد: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) : يذابُ به إذابةً.
وقال عطاءُ الخراسانيُّ: يذابُ به ما في بطونِهِم كما يذابُ الشحمُ.(1/714)
وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"إن الحميمَ ليصبُّ على رءوسهم، فينفذ الحميمُ حتى يخلصَ إلى جوفِهِ، فيسلتُ ما في جوفِهِ حتى يمرقَ من قدميهِ وهو الصهرُ، ثم يعودُ كما كانَ " وقال: حسنٌ غريبٌ صحيح.
وقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) .
قال كثيرٌ من السلفِ: نزلتْ هذه الآية ُ في أبي جهلٍ.
قال الأوزاعيُّ: يؤخذ أبو جهل يوم القيامة فيخرق في رأسه خرق، ثم
يؤتى بسجل من الحميمِ فيصب في ذلك الخرق، ثم يقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) .
قال مجاهدٌ في قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) .
قال: النحاس: الصُّفْر، يذاب فيصب على رءوسهم يعذبون به.
وقال عطاء الخراسانيُّ في قوله تعالى: (وَنُحَاسٌ) قال: الصُّفْر، يذاب فيصب
على رءوسهم فيعذبون به.
* * *
قال اللَّهُ تعالى: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) .
قال جويبر عن الضحاك: (مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) : أي: مطارقُ.(1/715)
وروى ابنُ لهيعةَ عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"لو أنَّ مقمعًا من حديدٍ وُضِعَ في الأرضِ فاجتمعَ له الثقلانِ لما أقلوه من الأرضِ "
خرَّجه الإمامُ أحمدُ، وخرَّج أيضًا بهذا الإسنادِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"لو ضُرب بمقامع من حديدٍ لتفتت ثمَّ عاد".
قال الإمامُ أحمدُ في كتابِ "الزهدِ": حدثنا سيارٌ، حدثنا جعفر، سمعت
مالكَ بنَ دينار، قال: إذا أحسَّ أهلُ النارِ في النارِ بضربِ المقامع انغمسُوا في
حياضِ الحمَّيَم فيذهبونَ سفالاً، كما يغرقُ الرجلُ في الماءِ في الدنيا.
ويذهبُ سفالاً سفالاً.
قال سعيدٌ عن قتادةَ: قالَ عمرُ بنُ الخطابِ: ذكِّروهم النارَ؛ لعلَّهم
يفرقُونَ، فإن حرَّها شديدٌ، وقعرُها بعيدٌ، وشرابُها الصديدُ، ومقامعُها
الحديدُ.
وذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن صالح المريِّ أنه قرأ على بعضِ العبادِ:
(إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) .
قالَ: فشهقَ الرجلُ شهقةً، فإذا هو قدْ يبسَ مغشيًا عليهِ، قالَ: فخرجْنَا
من عندِهِ وتركْنَاهُ.
وقرأ رجلٌ على يزيدَ الضبيِّ: (وَترَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) ، فجعلَ يزيدُ يبكي حتى غشيَ عليه.
خرَّجهُ عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ.
وقد سبقَ عن مالكِ بنِ دينارٍ: أنه قامَ ليلةً في وسطِ الدارِ إلى الصباح،(1/716)
فقالَ: ما زالَ أهلُ النارِ يعرضُونَ عليَّ في سلاسلهم وأغلالِهِم حتى
الصباحِ.
* * *
قوله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)
وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)
والمعنى: أنه تعالى يحبُّ من عبادِهِ أنْ يتَّقُوه ويُطيعُوه، كما أنَّه يكره منهم
أن يعْصُوه، ولهذا يفرحُ بتوبةِ التائبينَ إليه أشدَّ من فرح منْ ضلَّتْ راحلتُهُ
التي عليْهَا طعامُهُ وشرابُهُ بفَلاةٍ من الأرضِ، وطلبَهَا حتَّى أعيا وأيسَ منهَا.
واستسلَمَ للموتِ، وأيسَ من الحياةِ، ثم غلبتْهُ عينُه فنامَ فاستيقظَ وهي قائمةٌ
عندَهُ، وهذا أعْلَى ما يتصورُهُ المخلوقُ من الفرح، هذا كلُّه مع غناهُ عن
طاعاتِ عبادِهِ وتوباتِهِم إليه، وإنَّه إنَّما يعودُ نفعُها إليهِم دونَهُ، ولكن هذا من كمالِ جودِهِ وإحسانِهِ إلى عبادِهِ، ومحبتِهِ لنفعِهِم ودفع الضَّرَرِ عنهُم، فهو
يُحِبُّ من عبادِهِ أن يعرفُوه ويحبُّوه ويخافُوه ويتَّقوه ويطيعُوه ويتقرَّبوا إليه.
ويُحِبُّ أن يعلمُوا أنَّه لا يغفرُ الذنوبَ غيرُه، وأنَّه قادرٌ على مغفرةِ ذنوبِ
عبادِهِ، كما في روايةِ عبد الرحمنِ بنِ غنْم عن أبي ذرٍّ لهذا الحديثِ:
"من علمَ منكم أنِّي ذو قُدرةٍ على المغفرةِ، ثم استغفرني، غفرتُ له ولا أبالي ".
وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عبدًا أذنبَ ذنبًا، فقالَ: يا ربِّ، إنَي عملتُ(1/717)
ذنبًا، فاغفر لي، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: علمَ عبدِي أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنب ويأخذُ بالذنبِ، قد غفرتُ لعبدِي ".
وفي حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه لما ركبَ دابَّته حمِدَ اللَّهَ ثلاثًا، وكبَّر ثلاثاً، وقالَ: "سبحانَك إنّي ظلمتُ نفسِي، فاغفرْ لِي، فإنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ " ثم ضحكَ، وقال: "إنَّ ربَّك ليعجَبُ من عبدٍ إذا قالَ: ربِّ اغفرْ لي ذنوبي، يعلمُ أنه لا يغفرُ الذُّنوبَ غيرِي ".
خرَّجه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وصححه.
وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"واللهِ؛ للَّهُ أرحمُ بعباده من الوالدةِ بولدِها ".
كان بعضُ أصحابِ ذي النونِ يطوفُ وينادي: آه، أين قلبِي؟ ، مَنْ وجَدَ
قلبي؟ فدخلَ يومًا بعضَ السككِ، فوجدَ صبيًّا يبكي وأمُّه تضربُه، ثم
أخرجتُه من الدارِ، وأغلقتِ البابَ دونه، فجعل الصبيُّ يتلفَّتُ يمينًا وشمالاً
لا يدري أين يذهبُ ولا أين يقصِدُ، فرجعَ إلى بابِ الدارِ، فجعَلَ يبْكي ويقول:
يا أمَّاه منْ يفْتَحُ لي البابَ إذا أغلقتِ عنِّي بابَك؛ ومن يُدنيني من نفسِهِ إذا
طردتيني؟ ومن ذا الذي يُدنيني بعد أن غضبتِ عليَّ؛ فرحمتْهُ أمُّه، فقامتْ
فنظرتْ من خَلَلِ البابِ، فوجدتْ ولدَهَا تجري الدموعُ على خدَّيهِ متمعِّكًا في
الترابِ، ففتحتِ البابَ، وأخدْتْهُ حتى وصْعتْهُ في حَجْرِها، وجعلتْ تُقبِّله،(1/718)
وتقولُ: يا قُرَّةَ عيني، ويا عزيزَ نفسِي، أنت الذي حملتني على نفسِكَ.
وأنت الذي تعرَّضتَ لما حلَّ بك، لو كنتَ أطعتنِي لم تلقَ منِّي مكروهًا.
فتواجدَ الفتى، ثم قام: فصاحَ، وقال: قد وجدتُ قلبِي، قد وجدتُ قلبِي.
وتفكَّروا في قولهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلاَّ اللَّهُ) .
فإنَّ فيه إشارةً إلى أن المذنبينَ ليسَ لهُم من يلجئونَ إليه ويُعوِّلونَ عليه في مغفرةِ ذنوبِهِم غيرُهُ.
وكذلك قولُهُ في حقِّ الثلاثةِ الذين خُلِّفوا: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) .
فرتَّبَ توبتَه عليهم على ظنِّهم أن لا ملجأ من اللَّهِ إلا إليه، فإنَّ العبدَ إذا خافَ من مخلوقٍ، هربَ منه، وفرَّ إلى غيرِهِ.
وأمَّا من خافَ من اللَّهِ، فما لهُ منْ ملجأ يلجأُ إليه، ولا مهرَبٍ يهربُ إليه إلا
هو، فيهربُ منه إليهِ، كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائِهِ: "لا ملجأ، ولا منْجَا منكَ إلا إليكَ "، وكان يقولُ: "أعوذُ برضاك من سَخَطك، وبعفوك من عقوبتكَ، وبك منك ".
قال الفضيلُ بنُ عياضٍ - رحمه اللَّهُ -: ما مِنْ ليلةٍ اختلطَ ظلامُها، وأرْخى
الليلُ سِرْبالَ ستْرها، إلا نادَى الجليلُ - جلَّ جلالُهُ -: منْ أعظمُ منِّي جودًا، والخلائقُ لي عاصونَ، وأنا لهُم مراقبٌ؟ ، أكلؤهُم في مضاجِعِهم، كأنهم لم
يعصوني، وأتولَّي حفظَهم، كأنَّهم لم يُذنبوا فيما بيني وبينَهُم، أجود بالفضلِ
على العاصِي، وأتفضَّلُ على المسيء، من ذا الذي دعاني فلم أُلبِّهْ؟ أم منْ ذا(1/719)
الذي سألني فلم أعطِه؟ ، أم من ذا الذي أناخَ ببابي فنحَّيتُه؟
أنا الفضل، ومنِّي الفضلُ، أنا الجوادُ، ومنِّي الجودُ، أنا الكريمُ، ومنِّي الكرمُ، ومِن كرَمِي أن أغفرَ للعاصينَ بعدَ المعاصِي، ومن كرَمِي أن أُعطيَ العبدَ ما سألني، وأُعطيه ما لم يسألْني، ومن كرمِي أن أُعطيَ التَّائبَ كأنَّه لم يعصِني، فأين عنِّي يهربُ الخلائقُ؟ وأين عن بابي يتنحَّى العاصونَ؟.
خرَّجه أبو نُعيمٍ.
ولبعضِهِم في المعنى:
أسأتُ ولم أُحْسِن وجئتُكَ تائبًا. . . وأنَّى لِعَبْدٍ عن مواليه مهْرَبُ
يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فإنْ خابَ ظَنُّه. . . فما أحدٌ منه على الأرضِ أخيبُ
* * *(1/720)
الجزء الثاني(2/4)
سُورَةُ المؤمِنُونَ
قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
قد مدح اللَّه الخاشعينَ في صلاتِهِم، فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) .
وقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) .
رُوي عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، قال: هو الخشوعُ في القلبِ، وأن تلينَ
كنفكَ للمسلم، وأن لا تلتفتَ في صلاتِك.
وعنه قال: الخشوعُ خُشُوعُ القلبِ، وأن لا تلتفتَ يمينًا ولا شمالا.
وعن ابنِ عباسٍ قال: (خاشعون) : خائفونَ ساكنون.
وعنِ الحسنِ قال: كان الخشوعُ في قلوبِهِم، فغضُّوا له البصرَ، وخفضُوا
له الجناح.
وعن مجاهدٍ قال: هو الخشوعُ في القلبِ، والسكونُ في الصلاةِ.
وعنه قال: هو خفضُ الجناح وغضُّ البصرِ، وكان المسلمون إذا قامَ أحدُهُم
في الصلاةِ خافَ ربَّه أن يلتفتَ عن يمينِهِ أو شمالِهِ.(2/5)
وعنه قالَ: العلماءُ إذا قامَ أحدُهم في الصلاةِ هابَ الرحمنَ عزَّ وجلَّ أن
يشذ نظرُهُ، أو يلتفتَ، أو يقلِّب الحصى، أو يعبثَ بشيء، أو يحدثَ نفسَهُ
بشيءٍ من الدنيا، إلا ناسيًا، ما دامَ في صلاتِهِ.
وعن الزهريِّ قال: هو سكونُ العبدِ في صلاتِهِ.
وعن سعيدِ بن جبير، قال: يعني: متواضعينَ، لا يعرفُ مَن عن يمينِهِ.
ولا مَن عنْ شمالِهِ ولا يلتفتُ من الخشوعُ للَّه عزَّ وجل.
ورُوي عن حذيفةَ أنه رأى رجلاً يعبثُ في صلاتِهِ، فقالَ: لو خشعُ قلبُ
هذا لخشعتْ جوارحُهُ.
ورُوي عن ابنِ المسيبِ.
ورُوي مرسلا.
فأصلُ الخشوع: هو خشوعُ القلبِ، وهو انكسارُهُ للَّه، وخضوعة وسكونُهُ
عن التفاتِهِ إلى غيرِ مَنْ هو بينَ يديهِ، فإذا خشعَ القلبُ خشعتِ الجوارحُ كلُّها
تبعًا لخشوعِهِ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في ركوعِهِ: "خشع لك سمعي، وبصري، ومخّي، وعظامي، وما استقل به قدَمِي ".
ومن جملةِ خشوع الجوارح: خشوعُ البصرِ أن يلتفتَ عن يمينِهِ أو
يسارِهِ.(2/6)
وقال ابنُ سيرين: كان رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يلتفتُ في الصلاةِ عن يمينِهِ وعن يساره، فأنزلَ اللَّه تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) ، فخشعَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكنْ يلتفتْ يمنةً ولا يسرةً.
وخرَّجهُ الطبرانيُّ من روايةِ ابنِ سيرينَ، عن أبي هريرة.
والمرسلُ أصحُّ.
* * *
إنَّ اللَّه سبحانه وتعالى مدحَ في كتابِهِ المخبتينَ لَهُ، والمُنْكَسِرِينَ لَعظَمتِهِ.
والخاضعينَ.
فقالَ تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) .
وقالَ تعالى: (وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ) إلى قوله: (أَعَدَّ اللَهُ لَهُم مَغْفرَةً وَأَجرًا
عَظِيمًا) .
ووصفَ المؤمنينَ بالخشوع لهُ في أشرفِ عباداتهِم التَّي هُم علَيْهَا يحافظونَ.
فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) .
ووصفَ الذين أُوتوا العلمَ بالخشوع، حيثُ يكونُ كلامُه لهم مسموعًا.
فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) .(2/7)
وأصلُ الخشوع هو: لينُ القلبِ ورِقَتُه وسكونُه وخشوعُه وانكسارُه
وحرقتُه، فإذا خشعَ القلبُ تبعهُ خشوعُ جميع الجوارح والأعضاءِ لأنَّها تابعة
له، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا إنَّ في الجسد مُضْغَة، إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا
فسدتْ فسدَ الجسدُ كلّه، ألا وهي القلبُ ".
فإذا خشعَ القلبُ، خشعَ السمعُ والبصرُ والرأسُ والوجهُ وسائرُ الأعضاءِ
وما ينشأُ مِنْها حتى الكلامِ.
ولهذا كانُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في ركوعِه في الصلاة:
"خشعَ لك سمعِي وبصرِي ومُخي وعظامِي ".
وفي روايةٍ: "وما استقل به قدَمي ".
ورأى بعضُ السَّلَفِ رجلاً يعبثُ بيده في صلاتِه فقالَ: لو خشعَ قلبُ هذا
لخشعتْ جوارِحُه.
ورُويَ ذلك عن حُذيفة - رضي الله عنه - وسعيدِ بنِ المسيِّبِ.
ويُروى مرفوعًا
بإسنادٍ لا يصح.
قال المسعوديُّ عن أبي سناد عمَّن حدَّثه عن علي بنِ أبي طالمب - رضي الله عنه - في قولِهِ تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) .
قال: هوَ الخشوعُ في القلبِ وأن تُلينَ كنفكَ للمرءِ المسلم وأن لا تلتفتَ في صلاتكِ.(2/8)
وقال عطاءُ بنُ السائبِ عن رجلٍ عن عليٍّ - رضي الله عنه -:
"الخشوع: خشوعُ القلبِ، وأن لا يلتفتَ يمينًا وشمالاً".
وقال: عن علي بنِ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - في قوله تعالى::
(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشعُونَ) .
قال: خائفونَ ساكِنون.
وقال ابنُ شَوْذب عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى -:
"كان الخشوعُ في قلوبِهِم فغضوا له البصرَ وخفضوا له الجَناحَ ".
وقال منصور عن مجاهدٍ: هو الخشوعُ في القلبِ، والسكونُ في
الصلاة.
وقال ليث عن مجاهدٍ: من ذلك: خفضُ الجناح، وغضُّ البصرِ، وكانَ
المسلمونَ إذا قامَ أحدُهم إلى الصلاةِ خافَ ربه أن يلتفتَ عن يمينهِ أو
شماله.
وقال عطاءٌ الخراسانيُّ: الخشوعُ: خشوعُ القلبِ والطَّرْفِ.
وقال الزهريُّ: هو سكونُ العبدِ في صلاتهِ.
وعن قتادةَ قال: الخشوعُ في القلبِ هو الخوفُ وغضُّ البصرِ في الصلاةِ.
وقال ابنُ أبي نَجيح عن مجاهدٍ - رحمه اللَّه تعالى - في قولهِ تعالى:
(وَكانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) قال: متواضِعينَ.(2/9)
وقد وصَف اللَّهُ تعالى في كتابِهِ الأرضَ بالخشوع فقالَ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ، فاهتزازُهَا
وربوُّها - وهو ارتفاعُها - مُزيلٌ لخشوعِهَا، فدَلَّ على أنَّ الخشوعَ الذي كانتْ عليه هو سكونُها وانخفاضُها.
وكذلك القلبُ إذا خَشَعَ فإنَّه يَسْكُنُ خواطرُهُ وإرادتُه الرديئةُ التي تنشأُ عن
اتِّباع الهَوى، وينكسرُ ويخضعُ للَّه عز وجل، فيزول بذلك ما كانَ فيه من
البَأْوِ والترفع والتعاظُم والتكبُّرِ، ومتى سكَنَ ذلكَ في القلبِ خشعتِ
الأعضاءُ والجوارحُ والحركاتُ كلُّها حتى الصَّوتُ.
وقد وصفَ اللَّهُ تعالَى الأصواتَ بالخشوع في قوله: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا) ، فخشوعُ الأصواتِ هو سكونُها
وانخفاضُها بعد ارتفاعِهَا.
وكذلكَ وصفَ وجوهَ الكُفارِ وأبصارَهم في يومِ القيامةِ بالخشوع، فدل
ذلك على دخولِ الخشوع في هذه الأعضاءِ كلِّها.
ومتى تكلَّف الإنسانُ تعَاطي الخشوع في جوارحِهِ وأطرافِه مع فراغ قلبهِ من
الخشوع وخُلوه منه كانَ ذلك خشوعَ نفاقٍ، وهو الذي كانَ السلف يستعيذونَ منه، كما قالَ بعضُهم: استعيذوا باللَّهِ من خشوع النفاقِ.
قالوا: وما خشوعُ النفاقِ؟
قال: أن يُرى الجسَدُ خاشعًا والقلبُ ليس بخاشع.
ونظر عمُر - رضي الله عنه - إلى شابٍّ قد نكسَ رأسَه، فقالَ له: يا هذا، ارفعْ(2/10)
رأسكَ، فإنَّ الخشوعَ لا يزيدُ على ما في القلبِ.
فمن أظهَر للناسِ خشوعًا فوقَ ما في قلبِهِ فإنَّما هو نفاقٌ على نفاقٍ.
وأصلُ الخشوع الحاصلُ في القلبِ، إنَّما هوَ من معرفةِ اللَّه، ومعرفةِ
عظمتِهِ وجلاِلهِ وكمالِهِ، فمن كانَ باللَّه أعرفَ كانَ له أخشعَ.
وتتفاوتُ القلوبُ في الخشوع بحَسبِ تفاوُتِ معرفَتِهَا لمن خشعت.
وبحسبِ تفاوتِ مشاهدةِ القلوبِ للصفاتِ المقتضيةِ للخشوع، فمِنْ خاشع
لقوةِ مُطالعتهِ قُربَ اللَّهِ من عبدِهِ واطَلاعِهِ على سِرِّه وضميرِه المقتضي
للاستحياءِ من اللَّهِ تعالى ومراقبتهِ في الحركاتِ والسكناتِ، ومن خاشع
لمطالعتِه لجلالِ اللَّه وعظمتهِ وكبريائهِ المقتضي لهيبتهِ، ومن خاشعِ لمطالعتهِ
لكمالهِ وجمالهِ المقتضِي للاستغراقِ في محبتهِ والشوقِ إلى لقائهِ ورويتهِ، ومن
خاشع لمُطالعتهِ شدَّةَ بطشِه وانتقامِه وعقابِه المقتضِي للخوفِ منهُ.
وهو سبحانه وتعالى جابِرُ القلوبِ المنكسرةِ لأجلِه فهو سبحانه وتعالى
يتقرّبُ من القلوبِ الخاشعةِ له كما يتقربُ ممن يناجيهِ في الصلاةِ، وممَّن يعفِّرُ
له وَجْهَهُ في الترابِ بالسجودِ.
وكما يتقربُ من وفدِهِ وزوارِ بيتهِ الواقفينَ بين يديه المتضرعينَ إليه في
الوقوفِ بعرفةَ ويدنُو ويباهِي بهم الملائكةَ.
وكما يتقربُ من عبادِهِ الدائبينَ له، السائليَن له، المستغفريَن من ذنوبهِم
بالأسحارِ، ويجيبُ دعاءَهم ويعطِيهم سؤالَهم.
ولا جبَر لانكسارِ العبدِ أعظمُ من القربِ والإجابةِ.(2/11)
روى الإمامُ أحمدُ - رحمه اللَّه تعالى - في كتابِ "الزهد" بإسنادِهِ عن
عمرانَ القصير قال: "قال موسى بنُ عمرانَ - عليه السلام -:
أي ربِّ أين أبغيكَ؟
قال: ابغِني عندَ المنكسرةِ قلوبُهم، إنَّي أدنو منهُم كل يومٍ باعًا، ولولا
ذلكَ لانهدمُوا".
وروى إبراهيمُ بن الجُنَيد - رحمه اللَّه تعالى - في كتابِ "المحبةِ": عن
جعفر بنِ سليمانَ قال: سمعتُ مالكَ بنَ دينار يقول: "قال موسى - عليه
السلام -: إلهي أين أبغيكَ؟ فأوحَى اللَّهُ عز وجلَّ إليه: أن يا موسى ابغني
عند المنكسرةِ قلوبُهم، فإني أدنُو منهم في كلِّ يومٍ وليلةٍ باعًا ولولا ذلك
لانهدمُوا، قال جعفر: فقلتُ لمالكِ بن دينار: كيف المنكسرةُ قلوبُهم؟
فقال: سألتُ الذي قرأ في الكتب فقال: سألتُ الذي سألَ عبد الله بن سلام
فقال: سألت عبدَ اللَّهِ بنَ سلامِ عن المنكسرةِ قلوبُهم ما يعني؟
قال: المنكسرةُ قلوبُهم بحبِّ اللهِ عز وجل عن حبِّ غيرهِ ".
وقد جاءَ في السنةِ الصحيحةِ ما يشهدُ لقربِ اللَّهِ من القلبِ المنكسرِ ببلائِهِ
الصابِرِ على قضائِهِ أو الراضِي بذلكَ، كما في "صحيح مسلم " عن أبي
هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يقولُ اللَّه عز وجل يومَ القيامةِ: يا ابنَ آدمَ مرضتُ فلم
تَعُدْني، قال: يا رب كيف أعودُك وأنتَ رب العالمينَ؟
قال: أمَا علمتَ أن عبدي فُلانًا مرضَ فلم تَعُدْه، أما عِلمْت أنَّكَ لو عُدتَهُ لوجَدْتني عندَهُ ".
وروى - أبو نُعيمٍ من طريقِ ضمرةَ عن ابن شَوْذب قال: "أوحى اللَّهُ تعالى(2/12)
إلى موسَى - عليه السلامُ -: أتدرِي لأيِّ شيءٍ اصطفيتُكَ على الناسِ
برسالاتِي وبكلامِي؟
قال: لا يا ربِّ! قال: لأنه لم يتواضع لي أحد تواضُعَكَ ".
وهذا الخشوعُ هو العلمُ النافعُ، وهو أولُ ما يُرفعُ من العلم.
خرَّج النَّسائيُّ من حديثِ جُبَيرِ بن نفيرٍ - رضي الله عنه - عن عَوْفِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - عن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نظرَ إلى السماءِ يومًا وقال: "هذا أوانُ يرفعُ العلمُ " فقال رجل
من الأنصارِ - يُقالُ له: زيادُ بن لَبيد -: يا رسولَ اللَّه: ويُرْفَعُ العلم وقد أُثبتَ وَوَعَتْهُ القُلوبُ؟
فقال له رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"إنْ كنتُ لأحسبكَ من أفقهِ أهلِ المدينةِ"
وذكرَ ضلالةَ اليهودِ والنصارَى على ما في أيديهم من كتابِ اللَّهِ عزَ وجلَّ.
قال: فلقيتُ شدَّاد بنَ أوسٍ فحدثتُه بحديثِ عوفِ بن مالكٍ، فقال: صدقَ
عوف، ألا أخبرُكَ بأولِ ذلك يُرفع؟
قلتُ: بلى، قالَ: الخشوعُ، حتَّى لا ترى خاشعًا.
وخَرَّجه الترمذيُّ من حديثِ جبيرِ بن نفيرٍ عن أبي الدرداءَ عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - بنحوِه، وفي آخره: قال جبير: فلقيتُ عبادةَ بنَ الصامتِ، فقلتُ: ألا تسمعُ ما يقولُ أخوك أبو الدرداء - فأخبرتُه بالذي قال؟
قال: صدقَ أبو الدرداء، لو شئتَ لحدثتك بأول علم يُرفع من الناسِ: الخشوعُ، يوشكُ أن تدخلَ مسجدَ الجامع فلا تَرى فيه رجُلاً خاشِعًا.(2/13)
وقد قيل: إن روايةَ النسائيَ أرجحُ.
وقد روى سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى - عن
شدَّادِ بنِ أوسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أولُ ما يرفعُ من الناسِ الخشوعُ " فذكره.
ورواه أبو بكرِ بنِ أبي مريمَ عن ضمرةَ بنِ حبيبٍ مُرسلاً.
ورُوي نحوه عن حذيفةَ من قولهِ.
فالعلمُ النافعُ هو ما باشرَ القلوبَ فأوجبَ لها السكينةَ والخشية والإخباتَ
للَّه والتواضعَ والانكسارَ له، وإذا لم يباشر القلبَ ذلك من العلم؛ وإنما كانَ
على اللسانِ فهو حُجَّةُ اللَّهِ على ابنِ آدمَ يقومُ على صاحبهِ وغيرهِ، كما قال
ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إنَّ أقوامًا يقرأونَ القرآنَ لا يُجاوزُ تراقيهِم، ولكن إذا وقعَ في القلبِ فَرَسَخ فيه نَفَع " خرَّجه مسلم.
وقالَ الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى -: العلمُ عِلمانِ: علمٌ باللسان وعلم
بالقلبِ، فعلمُ القلبِ: هو العلمُ النافعُ، وعلمُ اللسانِ: هو حجة اللًّهِ على
ابنِ آدمَ.
ورُويَ عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى - مرسلاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورويَ عنه عن جابرٍ - رضي الله عنه - مرفوعًا، وعنه عن أنسٍ - رضي الله عنه - مرفوعًا، ولا يصحُّ وصلُه.
فأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن العلمَ عندَ أهلِ الكتابَينِ من قَبلنا موجودٌ بأيديهم ولا ينتفعونَ بشيءٍ منُه لمَّا فقدُوا المقصودَ منهُ، وهو وصولُه إلى قلوبهِم، حتى يجدُوا حلاوةَ الإيمانِ به ومنفعتَه بحصول الخشيةِ والإنابةِ لقلوبهِم، وإنما هُوَ علَى ألسنتهِم تقومُ به الحُجَّةُ عليهِم.(2/14)
ولهَذا المعنى وَصَفَ اللَّهُ تعالَى في كتابِهِ العلماءَ بالخشيةِ كَمَا قالَ اللَّه
تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .
ووصفَ العُلماءَ من أهلِ الكتابِ قبلَنا بالخشوع؛ كَما قالَ اللَّهُ تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) .
فقولُهُ تباركَ وتعالَى في وصفِ هؤلاءِ الذينَ أوتُوا العلم:
(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) .
مدحٌ لمن أوجبَ له سماعُ كتابِ اللَّهِ
الخُشُوعَ في قلبهِ، وقالَ تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
ولينُ القلوبِ هو زوالُ قسوتِهَا بحدوثِ الخُشوع فيها والرقةِ.
وقد وبَّخ اللَّهُ من لا يخشعُ قلبُه لسماع كلامِه وتدبُّرِه، قالَ سبحانه:
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) .
قالَ ابنُ مسْعودٍ - رضي الله عنه -: "ما كانَ بين إسلامِنا وبينَ أنْ عوتبْنا بهذهِ الآيةِ إلا أربعَ سنينَ ".
خرَّجه مسلم، وخرَّجه غيُره وزادَ فيه:
"فجعلَ المسلمونَ يعاتبُ بعضُهم بعضًا".(2/15)
وخرَّجَ ابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ الربيرِ - رضي الله عنه - قال:
" لم يكنْ بينَ إسلامِهم وبينَ أن نزلَتْ هذه الآيُةُ يعاتبهُمُ اللَّهُ بها، إلا أربعَ سنينَ ".
وقد سمعَ كثيرٌ من الصالحينَ هذه الآيةَ تُتلى، فأثَّرتْ فيهم آثارًا متعددةً
فمنهُم من ماتَ عند ذلكَ لانصداع قلبهِ بها، ومنهُم من تابَ عند ذلكَ وخرجَ عما كانَ فيه.
وقد ذكرنا أخبارَهم في كتابِ "الاستغناءِ بالقرآنِ ".
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) .
قال أبو عمرانَ الجونيّ: واللَّه؛ لقدْ صرفَ إلينا ربُّنا في هذا القرآن ما لو
صرفَهُ إلى الجبال لحتَّها وجَبَاها َ.
وكان مالكُ بنُ دينار - رحمه اللَّهُ - يقرأُ هذه الآيةَ ثمَّ يقول: أقسمُ لكم.
لا يؤمنُ عبدٌ بهذا القرآنِ إلا صُدعِّ قلبُه.
ورُويَ عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى - قال: يا ابنَ آدمَ، إذا وسوسَ لك
الشيطانُ بخطيئةٍ أو حدَّثت بها نفسَكَ، فاذكرْ عندَ ذلكَ ما حَملَكَ اللَّهُ من
كتابِهِ مما لو حملتْهُ الجبال الرواسي لخشعتْ وتصدَّعتْ أمَا سمعتَه يقولُ:
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) .(2/16)
فإنما ضرب لكَ الأمثالَ لتتفكرَ فيها وتعتبرَ بِها وتزدجرَ عن معاصِي اللهِ عز
وجل، وأنتَ يا ابنَ آدمَ أحقُّ أن تخشعَ لذكرِ اللَّهِ وما حَمَّلكَ من كتابِهِ وآتاكَ من حكمِهِ، لأنَّ عليكَ الحسابَ ولكَ الجنةُ أو النارُ.
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستعيذُ باللَّهِ من قلبٍ لا يخشعُ، كما في "صحيح مسلم " عن زيدِ بنِ أرقمَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ:
"اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن نفسٍ لا تشبعُ، ومن دعوة لا يُستجابُ لَها".
وقد رُويَ نحوُه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ
ويُروى عن كعبٍ الأحبار قالَ: مكتوبٌ في الإنجيلٍ:
"يا عيسى، قلبٌ لا يخشعُ عملُه لا ينفعُ، وصوتُه لا يُسمعُ، ودعاؤُه لا يُرفعُ ".
قال أسدُ بنُ موسى في كتابِ "الورع ": حدثنا مُباركُ بنُ فَضالةَ قالَ: كان
الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى - يقولُ: إن المؤمنينَ لَمَّا جاءتْهُم هذه الدعوةُ من
اللَّه صدَّقوا بها وأفْضَى يقينُها إلى قلوبِهِم خشعتْ لذلكَ قلوبُهم وأبدانُهم
وأبصارُهم، كنتَ واللَّهِ إذا رأيتَهم رأيتَ قومًا كأنَّهم رَأيُ عينٍ، فواللهِ؛ ما
كانُوا بأهلِ جدلٍ ولا باطلٍ، ولا اطمأنُّوا إلا إلى كتابِ اللَّه، ولا أظهُروا ما
ليسَ في قلوبِهم، ولكنْ جاءَهُم عن اللَّهِ أمرٌ فصدَّقوا به، فَنَعَتهُم اللَّهُ تعالى
في القرآنِ أحسنَ نعتٍ فقال:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) .
قال الحسنُ: الهونُ في كلامِ العربِ، اللينُ والسكينةُ والوقارُ.
قال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) .
قال: حلماءُ لا يجهلونُ، وإذا جُهلَ عليهِم حَلموا، يُصاحبونَ عبادَ الله(2/17)
نهارهم بما تسمعونَ، ثم ذكرَ ليلَهم خيرَ ليلٍ فقالَ:
(وَالَّذِينَ يبيتونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) .
ينتصبون للَّهِ على أقدامِهم، ويفترشونَ وجوهَهُم لربِّهم سُجَّدًا، تجري
دموعُهم على خُدودِهم فرقًا من ربِّهم لأمرٍ ما، أسْهَرُوا له ليلَهم، ولأمرٍ ما.
خَشَعُوا له نهارَهُم، ثم قالَ: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جهَنَّمَ إِنَّ
عَذَابَهَا كانَ غَرَامًا) .
قال: وكلُّ شيءٍ يُصيبُ ابنَ آدمَ ثمَّ يزولُ عنه فليس بغرامٍ، إنما الغرامُ:
اللازمُ له ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، قالَ: صدقَ القومُ، واللَّهِ الذي لا إله إلا هوَ، فعمِلُوا ولم يتمنَوا، فإياكم - رحمكم اللَّهُ - وهذه الأماني، فإن اللَّهَ لم يُعطِ عبدًا بالأمنيةِ خيرًا قطُّ في الدنيا والآخرةِ، وكانَ يقولُ: يالَهَا موعظة لو وافقت من القُلوبِ حياةً.
وقد شرعَ اللَّهُ لعبادِهِ من أنواع العباداتِ ما يظهُر فيه خشوع الأبدانِ
الناشيءُ عن خشوع القلبِ وذلّه وانكسارِه، ومن أعظمِ ما يظهرُ فيه خشوعُ
الأبدانِ للَّهِ تعالى مِنَ العباداتِ: الصلاةُ، وقد مدحَ اللَّهُ تعالى الخاشعينَ فيها
بقولهِ عزَّ وجلَّ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) .
وقد سبقَ بعضُ ما قاله السلفُ في تفسيرِ الخشوع في الصلاةِ.
وقال ابنُ لَهيعةَ عن عطاءِ بنِ دينارٍ رحمه اللَّه تعالى عن سعيدِ بن جُبيرٍ -
رحمه اللَّه تعالى -: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)
يعني: متواضِعينَ لا يعرفُ مَنْ عنْ يمينِهِ ولا مَنْ عن شمالهِ، ولا يلتفتُ في الخشوع للَّه عزَّ وجلَّ.(2/18)
وقال ابنُ المباركِ عن أبي جعفرٍ عن ليثٍ عن مجاهدٍ: (وَقوموا للَّهِ قَانِتِينَ) .
قال: القنوتُ: الركونُ والخشوعُ وغضُّ البصرِ وخفض الجناح من رهبةِ اللَّه
عز وجل.
قال: وكانَ العلماءُ إذا قامَ أحدهُم في الصلاةِ هابَ الرحمنَ عزَ وجلَّ أن
يشذ نظرُه أو يلتفتَ أو يُقلِّبَ الحصى أو يعبثَ بشيءٍ أو يُحدِّثَ - يعني:
نفسهُ - بشيءٍ من الدنيا، إلا ناسِيًا، ما دامَ في صلاتهِ.
وقال منصورٌ عن مجاهدٍ رحمه اللَّهُ تعالى في قولهِ تعالى: (سيمَاهُمْ فِي
وجُوهِهِم) .
قال: الخشوعُ في الصلاةِ.
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ والنسائي والترمذيُّ من حديثِ الفضلِ بن عباسٍ
- رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الصلاةُ مثنى مثنى، تشهَّدُ في كلِّ ركعتينِ، وتخشَّعُ وتضَّرعُ، وتمسْكَنُ، وتُقنعُ يديك " يقول: "تَرْفعهُما إلى ربِّك عزَّ وجل وتقولُ:
يا رب يا رب يا رب ثلاثًا فمنْ لم يفعلْ ذلكَ فهي خِدَاجٌ ".
وفي "صحيح مسلم " عن عثمانَ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما من امرئ مسلمٍ تحضرُه صلاةٌ مكتوبةٌ فيحسنُ وُضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلا كانَت كفارةً لما(2/19)
قبلَها من الذنوبِ، ما لم تُؤْتَ كبيرة وذلكَ الدهرَ كلَّه ".
فممَّا يظهرُ فيه الخشوعُ والذلُّ والانكسارُ من أفعالِ الصلاةِ:
وضعُ اليدين إحداهُما على الأخرى في حالِ القيامِ.
وقد رُوي عن الإمام أحمدَ - رحمه اللَّه - أنه سُئلَ عن المرادِ بذلكَ، فقالَ: هو ذلٌّ بين يَدي عزيزٍ.
قال عليٌّ بنُ محمد المصريُّ الواعظُ - رحمه اللَّه تعالى -: ما سمعتُ في
العلم بأحسنَ من هذا.
ورُوي عن بِشر الحافي - رحمه اللَّه تعالى - أنه قال: "أشتهي منذ أربعينَ
سنةً أن أضعَ يدًا على يدٍ في الصلاةِ ما يمنعُني من ذلكَ إلا أن أكونَ قد
أظهرتُ من الخشوع ما ليس في القلبِ مثلُه "
وروى محمد بنُ نصرٍ المروزيُّ - رحمه اللَّه تعالى - بإسنادِهِ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال:
يُحشرُ الناسُ يومَ القيامةِ على قدرِ صنيعهم في الصلاةِ، وفسرهُ بعضُ رواتِهِ فقبضَ شمالَه بيمينهِ وانحنَى هكذا.
وبإسنادِه عن أبي صالحٍ السمَّانِ - رحمه اللَّه تعالى - قال: يُبعثُ الناسُ
يومَ القيامةِ هكذا، ووضَع إحْدى يديه على الأخرَى.
وملاحظةُ هذا المعنى في الصلاةِ يُوجبُ للمصلِّي أن يتذكَّرَ وقوفه بين يدي
اللَّه عزَّ وجلَّ للحسابِ.(2/20)
كان ذو النونِ - رحمه اللَّهُ تعالى - يقولُ في وصفِ العُبَّادِ: لو رأيتَ
أحدَهُم وقد قامَ إلى صلاتهِ فلمَّا وقفَ في محرابِهِ واستفتحَ كلامَ سيِّده، خطرَ
على قلبهِ أنَّ ذلكَ المقامَ هو المقامُ الذي يقومُ الناسُ فيه لربِّ العالمين، فانخلعَ
قلبه وذهلَ لبُّه.
خرَّجه أبو نُعيمٍ - رحمه اللَّه تعالى.
ومن ذلكَ: إقبالُه على اللَّهِ عز وجل، وعدمُ التفاتهِ إلى غيرهِ، وهو
نوعانِ:
أحدهما: عدمُ التفاتِ قلبهِ إلى غيرِ منْ هو مناج لهُ، وتفريغُ القلبِ للربِّ
عزَ وجل.
وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بن عبسةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر فضلَ الوضوءِ وثوابَه، ثم قالَ:
"فإنْ هو قامَ فصلَّى فحمدَ اللَّهَ وأثنى عليهِ ومجدَه
بالذي هو أهلُه، وفرَّغَ قلبَه للهِ، إلا انصرفَ من خطيئتِهِ كيوم ولدتْه أمُّه ".
والثاني: عدمُ الالتفاتِ بالبصرِ يمينًا وشمالاً، وقَصرُ النظرِ على موضع
السجودِ، وهو من لوازمِ الخشوع للقلبِ وعدمِ التفاتهِ، ولهذا رأى بعضُ
السَّلفِ مصليًا يعبثُ في صلاتهِ فقالَ: لو خشعَ قلبُ هذا لخشعت جوارحُه.
وقد سبقَ ذكرُه.
وخرَّج الطبراني من حديثِ ابنِ سيرينَ عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، يلتفتُ في الصلاةِ عن يمينهِ وعن يسارِه، ثمَّ أنزلَ اللَّهُ تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) .
فخشعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يلتفت يمنةً ولا يسرةً".(2/21)
ورواه غيرُه عن ابِن سيرينَ - رحمه اللَّه تعالى - مرسلاً، وهو أصحّ.
وخرَّجَ ابنُ ماجةَ من حديثِ أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالتْ: كان الناسُ في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ أحدُهم يصلِّي لم يعدُ بصرُه موضعَ قدميه، فتوفِّي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ الناسُ إذا قامَ أحدُهم إلى الصلاةِ لم يعدُ بصرهُ موضعَ
جبهتِهِ، فتوفي أبو بكرٍ، فكانَ عمرُ - رضي الله عنه -، فكانَ الناسُ إذا قام أحدهم يصلِّي لم يَعْدُ بَصَر أحدِهِم موضع القبْلةِ، وكان عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه -، فكانتِ الفتنةُ، فتلفتَ الناسُ يمينًا وشمالاً".
وفي "صحيح البخاري " عن عائشةَ - رضي الله عنها -: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الالتفاتِ في الصلاةِ فقال:
"هو اختلاسٌ يختلسُه الشيطانُ من صلاةِ العبدِ".
وخرَّج الإمام أحمد - رحمه اللَّه تعالى - وأبو داودَ والنسائيُّ من حديث
أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يزالُ اللَّهُ مقبلاً على العبدِ في صلاتهِ، ما لم يلتفتْ، فإذا التفتَ انصرفَ عنهُ ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ الحارثِ الأشعري عن النبي
- صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ اللَّهَ أمرَ يحيى بنَ زكريا بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بهنَّ، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بهنَّ " فذكر منها: "وآمرُكم بالصلاةِ، فإنَّ اللَّه ينصبُ وجههُ لوجه عبدِهِ ما لم يلتفتْ، فإذا صليتُم فلا تلتفتُوا".(2/22)
وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدةٌ.
وقال عطاءٌ: سمعتُ أبا هُريرة يقول: "إذا صلَّى أحدكُم فلا يلتفتُ؛ فإنه
يناجِي ربَّه، إنَّ ربَّه أمامه، وإنه يناجيهِ فلا يلتفتُ ".
قال عطاءٌ - رحمه اللَّه تعالى -: وبلغنَا أن الربَّ عز وجل يقول: "يا ابنَ
اَدمَ، إلى مَنْ تلتفت؟ أنا خير لكَ ممَّن تلتفتَ إليه ".
وخرَّجه "البزَّار وغيرُه مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ.
وقال أبو عمرانَ الجونيُّ - رحمه اللَّه تعالى -:
أوحى اللَّهُ عز وجلَّ إلى موسى - عليه السلامُ - يا موسى، إذا قمتَ بين يديَّ فقمْ مقامَ العبدِ الحقيرِ الذليلِ، وذُمَّ نفسَكَ، فهي أَوْلَى بالذمِّ، وناجِني بقلب وجلٍ ولسانٍ صادقٍ.
ومن ذلك: الركوعُ، وهو ذل بظاهرِ الجسدِ.
ولهذا كانتِ العربُ تأنَفُ منهُ ولا تفعلهُ حتى بايعَ بعضُهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يخرَّ إلا قائمًا يعني: أن يسجدَ من غيرِ ركوع.
كذا فسره الإمامُ أحمدُ - رحمه اللَّه تعالى - والمحققونَ من العلماءِ.
وقال اللَّه تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكعُوا لا يَرْكعُونَ) .
وتمامُ الخضوع في الركوع: أن يخضعَ القلبُ للَّهِ ويذلَ له، فيتمُّ بذلكَ خضوعُ العبدِ بباطنهِ وظاهرِه للَّه عزَّ وجلَّ.(2/23)
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في ركوعِهِ:
"خشع لك سمْعي وبصري ومُخِّي وعظامي وما استقلَّ به قدمِي ".
إشارةً إلى: أن خشوعَهُ في ركوعِهِ قد حصلَ بجميع جوارحِهِ ومن أعظمها
القلبُ الذي هو مَلِكُ الأعضاءِ والجوارح فإذا خشعَ خشعتِ الجوارحُ
والأعضاءُ كلُّها تبعًا لخشوعِهِ.
ومن ذلك: السجودُ وهو أعظمُ ما يظهَرُ فيه ذلُّ العبدِ لربِّه عزَّ وجلَّ حيثُ
جعلَ العبدُ أشرفَ ما له من الأعضاء وأعزَّها عليه وأعلاها حقيقة؛ أوضعَ ما
يُمكنه، فيضعُه في الترابِ مُتَعَفِّرًا، ويتبعُ ذلك انكسارُ القلب وتواضعُهُ
وخشوعُه للَّه عز وجل.
ولهذا كان جزاءُ المؤمنِ إذا فعلَ ذلك أن يُقَربه اللَّهُ عز وجل إليه فإن:
"أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربّه وهو ساجدٌ"
كما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال اللَّه تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) .
"والسُّجودُ أيضًا مما كانَ يأنَفُ منه المشركونَ المستكبرونَ
عَنْ عبادةِ اللَّهِ عز وجل.
وكان بعضُهم يقولُ: أكرهُ أنْ أسجدَ فتعلُوني إسْتي، وكان بعضُهم يأخذُ
كفًّا من حصى فيرفعُه إلى جبهتِهِ، ويكتفي بذلك عن السجود.
وإبليسُ إنما طَردَهُ اللَّه لمَّا استكبرَ عن السجودِ لمن أمَرهُ اللَّهُ بالسجودِ له.
ولهذا يبكي إذا سجدَ المؤمنُ ويقولُ: "أمِرَ ابنُ آدم بالسجود ففعل فله الجنة، وأمرتُ بالسُجود فِعصيتُ فليَ النارُ".(2/24)
ومن تمامِ خشوع العبدِ للَّهِ عزَّ وجل وتواضعِه له في ركوعِهِ وسجودِهِ: أنه
إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجودِ وصفَ ربه حينئذٍ بصفاتِ العز والكبرياءِ
والعظمةِ والعلوِّ، فكأنه يقولُ: الذل والتواضعُ وصفي، والعلو والعظمةُ
والكبرياءُ وصفُكَ، فلهذا شرع للعبدِ في ركوعِهِ أن يقولَ: " سبحان ربي
العظيم "، وفي سجودِهِ: " سبحان ربي الأعلي ".
وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يقولُ في سجودِهِ:
"سُبحان ذي الملكوتِ والجبروتِ والكبرياءِ والعظمةِ".
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ ليلة في سجودِهِ:
"أقولُ كما قالَ أخي داودُ - عليه السلامُ -: أعَفِّر وجهِي في الترابِ لسيِّدي، وحُقَ لسيدي أن تُعَفَّر الوجوهُ لوجهِهِ ".
قال الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى -: "إذا قُمتَ إلى الصلاةِ فقُم قانِتًا كما
أمركَ الله، وإياكَ والسهرَ والالتفاتَ، أن ينظرَ اللَّهُ إليكَ وتنظرَ إلى غيرهِ.
وتسأل اللهَ الجنةَ وتعوذَ به مِنَ النارِ وقلبُك ساه لا تدْري ما تقولُ بلسانِكَ ".
خرَّجه محمدُ بنُ نصرٍ المَرْوزيُ - رحمه الله تعالى.
وروى بإسنادِه عن عثمانَ بنِ أبي دَهْرَشٍ قالَ: بَلَغَني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(2/25)
صلَّى صلاةً جَهَر فيها بالقراءةِ فلما فرغ قال: "هل أسْقَطتُ من هذه السورة
شيئا؟ ". قالوا: لا ندري، فقال أبيُّ بن كعبٍ: نعم آيةَ كذا وكذا، فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"ما بالُ أقوامٍ، يُتلَى عليهم كتابُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فلا يدرونَ ما يُتلى منه ممَّا
تُرِكَ، هكذا خرجتْ عظمةُ اللَّهِ من قلوبِ بني إسرائيلَ، شهدِتْ أبدانُهم وغابتْ قُلوبُهُم، ولا يقبلُ اللَهُ من عبدٍ عملاً حتى يشهدَ بقلبِهِ مع بدَنِهِ ".
والآثارُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا.
ومر عصامُ بن يوسفَ - رحمه الله تعالى - بحاتمٍ الأصمِّ وهو يتكلمُ في
مجلسِهِ، فقالَ: يا حاتمُ، تحسنُ تصلِّي؟
قال: نعم! قال: كيفَ تصلي؟ قال
حاتم: أقوم بالأمرِ، وأمشي بالخشيةِ، وأدخل بالنِّيَّةِ، وأُكبِّر بالعظمةِ، وأقرأُ
بالترتيلِ والتفكرِ، وأركعُ بالخشوع، وأسجدُ بالتواضع، وأجلسُ للتشهدِ
بالتمامِ وأسلِّمُ بالسبيلِ والسُّنةِ، أسلمها بالإخلاصِ إلى اللَّه عز وجل، وأرجعُ على نفسِي بالخوفِ، أخاف أن لا يُقبلَ منِّي، وأحفظُهُ بالجهدِ إلى الموت، قال: تكلَّم " فأنت تحسنُ تصلِّي.
ومن أنواع العباداتِ التَّي يظهرُ فيها الذلُّ والخضوعُ للَّهِ عز وجل: الدعاءُ.
قالَ اللَّهُ عز وجلَّ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) .
وقالَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) .
فمما يظهر فيه الذلُّ من الدعاء رفعُ اليدينِ.(2/26)
وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه رفعَ يديهِ في الدعاءِ في مواطنَ كثيرةٍ وأعظمُهَا:
في الاستسقاءِ؛ فإنه كانَ يرفعُ فيه يديهِ حتَّى يُرى بياضُ إبطيهِ، وكذلك
كان يجتهدُ في الرفع عشيةَ عرفةَ بعرفةَ.
وخرَّج الطبرانيّ رحمه اللَّه تعالى - من حديثِ ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - قالَ: "رأيتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يدعُو بعرفةَ ويداهُ إلى صدره كاستطعامِ المسكين ".
وقد كان بعضُ الخائفينَ يجلسُ بالليلِ ساكنًا مُطْرقًا برأسِهِ، ويمدُّ يديه كحالِ
السائلِ، وهذا من أبلغ صفاتِ الذلِّ وإظهارِ المسكنةِ والافتقارِ.
ومن ذلك أيضًا افتقارُ القلبِ في الدعاءِ وانكساره للَّه عز وجل واستشعارهِ
شدةُ الفاقَةِ إليه والحاجةِ.
وعلى قَدرِ هذه الحرقةِ والفَاقةِ تكونُ إجابة الدعاءِ.
وفي "المسندِ" والترمذي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن اللَّه لا يستجيبُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ".
ومن ذلكَ: إظهارُ الذلِّ باللسانِ في نفسِ السؤالِ والدعاءِ والإلحاح فيه.
قال الأوزاعيُّ - رحمه اللَّه تعالى -: كان يُقال:
"أفضلُ الدعاءِ الإلحاحُ على اللَّه والتضرعُ إليه ".
وفي الطبراني عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا يوْمَ عرفةَ فقالَ:
"اللهمَّ إنَك ترى مكانِي وتسمعُ كلامِي ولا يخْفَى عليكَ شيءٌ من أمَرِي،(2/27)
أنا البائسُ الفقيرُ المستغيثُ المستجيرُ الوجِلُ المُشْفقُ المُقِر المعترفُ بذنبهِ، أسألكَ مسألةَ المسكينِ وأبتهلُ إليكَ ابتهالَ المُذنبِ الذليل، وأدعوكَ دعاءَ الخائفِ الضرير، ومن خضعَتْ لك رقبتُه، وذلَّ لك جسدُه، ورغِمَ لك أنفُه، وفاضتْ لك عيناه.
اللَّهمَّ لا تجعلني بدعائِكَ شقيًّا، وكنْ بي بارًّا رؤوفًا رحيمًا، يا خيرَ المسئولينَ، ويا خيرَ المُعطينَ ".
وكان بعضُهم يقول في دعائِهِ: بعزِّك وذلِّي وغِناكَ وفَقْري.
وقال طاوس - رحمه اللَّه تعالى -: دخلَ عليٌّ بنُ الحسينِ - رحمه اللَّه
تعالى - ذاتَ ليلة الحجرَ يصلِّي، فسمعتُه يقول في سجودهِ: عُبيدُكَ بفنائكَ.
مُسيكينُكَ بفنائِك، فقيرُكَ بفنائِك، سائلُك بفنائِك، قال طاوس: فحفظتُهنَّ، فما دعوتُ بهنَّ في كَرْبٍ إلا فُرِّجَ عنَي.
خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا.
وروى ابنُ باكَوَيْه الصوفيُّ - رحمه الله تعالى - بإسنادٍ له: أنَّ بعضَ العُبَّادِ
حجَّ ثمانينَ حَجَّةً على قدَميهِ، فبينما هو في الطوافِ وهو يقول: يا حبيبي.
وإذا بهاتفٍ يهتفُ به: ليس ترضى أن تكون مسكِينًا حتَّى تكونَ حبيبًا.
قال: فغُشي عليَّ، ثم كنتُ بعد ذلك أقول: مسكينُكَ مسكينُكَ، وأنا تائبٌ عن قول: حبيبي.
* * *
قوله تعالى: (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)
كان السلفُ الصَّالح يجتهدون في إتمام العمَل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمُّون
بعد ذلكَ بقبولهِ، ويخافونَ من رَدِّه، وهؤلاء الذينَ
(يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) .
رُويَ عن عليٍّ نهى قال: كونُوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا(2/28)
منكمُ بالعمل، ألم تسمعُوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّه من المُتَقِينَ) .
وعن فضالةَ بنِ عبيدٍ قالَ: لأن أكونَ أعلمُ أنَّ اللَّهَ قد تقبلَ منَي
مثقالَ حبة من خردلٍ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأنَّ اللَّهَ يقول:
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّه من المُتَقِينَ) .
وقال ابنُ دينار: الخوفُ على العملِ أن لا يتقبَّلَ أشدّ من العمل.
وقال عطاءٌ السُّليميُّ: الحذرُ: الاتقاءُ على العملِ أن لا يكونَ للهِ.
وقالَ عبدُ العزيزِ بنُ أبي روَّاد: أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالح، فإذا
فعلوه وقع عليهم الهمّ، أيقبلُ منهُم أم لا؟
قال بعضُ السَّلفِ: كانوا يدعُون اللَّهَ ستَّةَ أشهرٍ أن يبلِّغهم شهر رمضانَ.
ثم يدعونَ اللَّهَ ستَّةَ أشهرٍ أن يتقبَّلَهُ منهُم.
خرجَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رحمهُ اللَّهُ - في يومِ عيدِ فطرٍ، فقالَ في
خطبته: أيُّها الناسُ؛ إنَّكم صُمتم للَّهِ ثلاثين يومًا، وقُمتُم ثلاثين ليلةً.
وخرجتُم اليومَ تطلبون من اللَّه أن يتقبَّل منكم.
كانَ بعضُ السَّلف يظهرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطر، فيقالُ له: إنَه يومُ فرحٍ
وسرورٍ، فيقولُ: صدقتُم، ولكنِّي عبدٌ أمرنِي مولاي أن أعملَ له عملاً، فلا أدري أيقبلُه منِّي أم لا؟
رأى وُهيبُ بنُ الورد قومًا يضحكونَ في يومِ عيدٍ، فقالَ: إن كانَ هؤلاءِ
تُقبِّلَ منهم صيامُهم فما هذا فعلُ الشاكرينَ، وإن كانُوا لم يُتقبَّلْ منهم صيامهُم فما هذا فعلُ الخائفينَ.
وعن الحسنِ قالَ: إنَّ اللَّه جعلَ شهرَ رمضانَ مضمارًا لخلقه يَسْتَبِقُون فيه
بطاعتهِ إلى مرضَاتهِ، فسبق قومٌ ففازُوا، وتخلَّف آخرونَ فخابُوا.
فالعجَب من(2/29)
اللاعِبِ الضَّاحِكِ في اليومِ الذي يفوزُ فيه المحسنونَ ويخسرُ فيه المبطِلُونَ.
لعلك غَضْبانُ وقلبي غافِلٌ. . . سلامٌ على الدَّارَينِ إن كنتَ راضيًا
رُويَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه كانَ ينادي في آخرِ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ: يا ليتَ شِعْرِي! مَن هذا المقبولُ فنهنِّيه؟ ومَن هذا المحرومُ فنُعَزِّيه؟
وعن ابنِ مسعودٍ أنَّه كانَ يقولُ: مَن هذا المقبُولُ منَّا فنُهنِّيه؟ ومَن هذا
المحرومُ منَّا فنعزِّيه؟
أيُّها المقبولُ هنيئًا لكَ، أيها المردودُ جبرَ اللَّه مُصيبتك.
ليتَ شِعْرِي مَنْ فيه يُقْبَلُ مِنَا. . . فيُهَنَّأ يا خيبةَ المَرْدُودِ
مَنْ تولَّى عنة بغيْرِ قَبولٍ. . . أرْغَمَ اللَّه أنفَهُ بِخِزيٍ شَديدِ
* * *
قوله تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
في معنى الخراج قال بعضهم: هو المال الذي يجبى ويؤتى به لأوقات
محدودة، ذكره ابن عطية قال: وقال الأصمعي: الخراج الجُعْل مرة واحدة.
والخراج: ما ردد لأوقاتٍ ما.
قال ابن عطية: هذا فرقٌ استعماليّ وإلا فَهُمَا في اللغة بمعنىً.
وقد ورد في كتاب الله (أَمْ تَسْاَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) .
هذه قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم، وقرأ حمزة والكسائي
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)
وقرأ ابن عامر (خرجا) في الموضعين
وقال تعالى في قصة ذي القرنين (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) .
وقرئ (خراجا) أيضًا.(2/30)
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خَرْجًا) يعني: أجرًا.
وقال أبو. عبيد: الخراج في كلام العرب إنما هو الغلة، ألا تراهم يُسَمُّونَ غَلةَ الأرضِ والدارَ والملوكَ خراجًا؛ ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه قضي بالخراج بالضمان "، وحديث:
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حجمه أبو طيبة كلَّم أهله فوضعوا عنه من خراجه "
فسمى الغلة: خراجًا.
وقال الأزهري: الخراج: اسم لما يخرج من الفرائض
في الأموال، ويقع على القرية وعلى مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى
الغلة، والخراج المصدر. انتهى.
والجزية تسمى خراجًا.
وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر كتابًا مع دِحْيَةَ يُخَيرَهُ
بين إحدى ثلاث، منها: "أن يقرَّ له بخراج يجري عليه "
والحديث في مسند الإمام أحمد وغيره.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
قال اللَّه تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .
قال مجاهدٌ: البرزخُ: الحاجزُ بين الموتِ والرجوع إلى الدنيا.
وعنه قالَ: هو ما بينَ الموتِ إلى البعثِ.
قال الحسنُ: هي هذه القبورُ التي بينَكُم وبين الآخرةِ.
وعنه قالَ: هي هذِهِ القبورُ التي تركضونَ عليها، لا يسمعونَ الصوتَ.
وقال عطاءٌ الخراسانيّ: البرزخُ: مدةُ ما بينَ الدُّنيا والآخرةِ.(2/31)
وصلَّى أبو أمامةَ الباهليُّ على جنازةٍ فلمَّا وُضِعتْ في لحدِها، قال
أبو أمامةَ: هذا برزخٌ إلى يومِ يبعثونَ.
وقيل للشعبيِّ: ماتَ فلان، قال: ليسَ هو في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، هو
في البرزخ.
وسمعَ رجلاً يقولُ: ماتَ فلان أصبحَ من أهلِ الآخرةِ.
قالَ: لا تقلْ: من أهلِ الآخرةِ، ولكنْ قل: من أهلِ القبورِ.
* * *
قوله تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
قالَ اللَّهُ تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) .
روى دراجُ عن أبي الهيثمِ، عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قالَ: (وَهُمْ فِيهَا كَالِحُون) ، قالَ: "تَشْويهِ النارُ، فتقلصُ شفتُهُ
العليا حتَّى تبلغَ وسطَ رأسه وتسترخي شفتُه السفلَى حتى تضربَ سرّتهُ ". خرَّجَه الإمام أحمدُ والترمذيُّ والحاكم وقالا: صحيح.
وعن ابنِ مسعودٍ أنه قالَ في قولِه: (وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)
قالَ: ككلُوح الرأسِ النضيج، وعنه: ككلُوح الرأسِ المشيطِ بالنارِ - قد بدتْ أسنانهم وتقلصتْ شفاهُهُم.
وعنه قالَ: ألم ترَ إلى الرأسِ المشيطِ بالنارِ وقد
تقلصتْ شفتاهُ وبدتْ أسنانُه.
وخرَّجَ الخلالُ في كتابِ "السنةِ" من حديثِ الحكم بنِ الأعرج عن(2/32)
أبي هريرةَ قال: يعظمُ الرجلُ في النارِ حتى يكونَ مسيرةَ سبع ليال، ضرسُهُ
مثلُ أحدٍ، شفاهُهُم على صدورِهِم، مقبوحينَ يتهافتونَ في النارِ.
قال أبو بكرِ بنِ عياس عن محمدِ بنِ سويد، كانَ لطاوس طريقانِ إذا رجعَ
من المسجدِ أحدُهُما فيها روَّاس، وكان يرجعُ إذا صلَّى المغربَ، فإذا أخذَ
الطريقَ الذي فيه الروَّاس لم يستطعْ أن يتعشى، فقيلَ لهُ: فقالَ: إذا رأيتُ
الرؤوسَ كالحةً لم أستطعْ آكلُ.
قال أبو بكر: فذكرتُهُ لسريع المكيِّ، فقالَ: قد رأيتُهُ يقفُ عليهَا.
وقالَ أبو غندرٍ الدمشقيُّ: كان أويس إذا نظرَ إلى الرؤوسِ المشويةِ يذكرُ
هذه الآية: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) ، فيقعُ مغشيًا
عليه حتى يظنَّ الناظرون إليه أنه مجنونٌ.
خرَّجهُما ابنُ أبي الدنيا وغيرُه.
وقال الأصمعيُّ: حدثنا الصقرُ بنُ حبيب قالَ: مرَّ ابنُ سيرين بروَّاسٍ قد
أخرجَ رأسًا فغشي عليهِ.
* * *(2/33)
سُورَةُ النُّورِ
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
من كانَ مستورًا لا يُعرفُ بشيءٍ مِنَ المعاصِي، فإذَا وقعتْ منه هفوةٌ، أو
زلَّةٌ، فإنَّه لا يجوزُ كشفُها ولا هتكُها، ولا التَّحدُثُ بها، لأنَّ ذلك غِيبةٌ
محرَمةٌ، وهذا هو الذي وردتْ فيه هذه النُصوصُ، وفي ذلكَ قد قالَ اللَّهُ
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) .
والمرادُ: إشاعةُ الفاحشةِ على المؤمنِ المستترِ فيمَا وقعَ منه، أو اتهِمَ به وهو
بريءٌ منهُ، كما في قصَّةِ الإفْكِ.
قالَ بعضُ الوزراءِ الصالحينَ لبعضِ من يأمرُ بالمعروفِ: اجتهدْ أن تستُرَ
العُصَاةَ، فإِنَ ظهورَ معاصِيهم عَيْبٌ في أهلِ الإسلامِ، وأوْلَى الأمورِ سترُ
العيوبِ.
ومثلُ هذا لو جاءَ تائبًا نادمًا، وأقرَّ بحَد لم يفسَّرْهُ، ولم يُستفسر، بل يُؤمَر
بأنْ يرجعَ ويستُرَ نفسَهُ، كمَا أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامديةَ، وكما لم يستفسرِ الذي قال له: "أصبْتُ حدًّا فأقمه عليَّ ".
ومثلُ هذا لو أُخذَ بجريمتِهِ، ولم يبلغ الإمامَ، فإنه يُشفع له حتَى لا يبلغَ
الإمام.
وفي مثلهِ جاءَ الحديثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"أَقِيلوا ذوي الهيئاتِ عَثَراتهم ".(2/34)
خرَّجه أبو داودَ والنسائيُّ
من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها.
* * *
قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناءِ المساجدِ في الدُّورِ:
أن تُنظَّفَ وتُطَيَّبَ، وسنذكرُهُ في موضع آخرَ - إن شاءَ اللَّهُ.
وقد فُسِّر قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) .
ببنيانهَا وتطهيرهَا وتنزيههَا عمَّا لا يليقُ بهَا.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعتُ الوزير يقول في قوله تعالى:
(قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) ، قال: وقع لي فيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها: أن المعنى: لا تقسموا واخرجوا من غير قسم، فيكون المحرك لكم
إلى الخروج الأمر لا القسم، فإن من خرج لأجل قسمه ليس كمن خرج لأمر ربه.
والثاني: أنَّ المعنى: نحن نعلم ما في قلوبكم، وهل أنتم على عزم الموافقة(2/35)
للرسول في الخروج؛ فالقسم هاهنا: إعلام منكم لنا بما في قلوبكم.
وهذا يدل منكم على أنكم ما علمتم أن اللَّه يطلع على ما في القلوب.
والثالث: أنكم ما أقسمتم إلا وأنتم تظنون أنا نتهمكم، ولولا أنكم في محل
تهمة ما ظننتم ذلك فيكم.
وبهذا المعنى وقع المتنبي فقال:
وفي يمينك ما أنتَ وَاعِدُهُ. . . ما دَلَّ أنكَ في الميعادِ متهمُ.
* * *(2/36)
سُورَةُ الفُرْقَانِ
قوله تعالى: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
قال ابن الجوزيِّ في "المقتبس ": سمعمتُ الوزير يقولُ في قولِهِ تعالى:
(أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) ، قال: العجبُ كلُّ العجبِ لجهلهِم
حين أرادُوا أن يُلقى إليه كنزٌ أَوْ يكونَ لَهُ جنةٌ.
ولو فهموا علموا أن كلَّ الكنوزَ له وجميعَ الدنيا مِلْكُهُ.
أو ليس قد قهرَ أرباب الكنوز، وحكم في جميع الملوك؛ وكان من تمام معجزته أن الأموال لم تفتح عليه في زمنه؛ لئلا يقول قائلٌ: قد جرت العادة بأن إقامة الدول، وقهرَ الأعداءِ بِكَثرةِ الأَمْوَالِ.
فتمت المعجزةُ بالغلبة والقهرِ مِنْ غَيْرِ مالٍ، ولا كَثْرةِ أَعوانٍ، ثم فتحت الدنيا
على أصحابِهِ، ففرقُوا ما جمعهُ الملوكُ بالشَّرَهِ، فأخرجوه فيما خلق له، لم
يمسكوه إمساك الكافرين، ليعلموا الناسَ بإخراج ذلك المالِ: أن لنا دارًا سوى هذه، ومقرًّا غير هذا.
وكان من تمام المعجزات للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
أنه لما جاءهم بالهدى فَلَمْ يقبلْ، سلَّ السيفَ على الجاحدِ، ليعلمهُ أن الذي ابتعثني قاهرٌ بالسيفِ بعد القهر بِالحجج.
ومما يقوي صدقَهُ أنَّ قيصرَ وكِبارَ الملوكِ لَم يوفقوا للإيمانِ به؛ لئلا(2/37)
يقولَ قائلٌ: إنما ظهرَ لأنَّ فلانًا الملكَ تعصبَ له فتقوَّى به، فبانَ أن أمرَهُ من
السماءِ لا بنصرةِ أهلِ الأرضِ.
* * *
قوله تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) ، وقالَ تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) . 12
وقال تعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) .
والشهيق الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة كصوتِ الحمارِ.
قالَ الربيعُ بنُ أنسٍ: الشهيقُ في الصدرِ.
وقالَ مجاهدٌ في قولهِ: (وَهِيَ تَفورُ) قال: تغلي بهم كما يغلي القدرُ.
وقالَ ابنُ عباسٍ: تميزُ: تفرقُ، وعنه قال: يكادُ يفارقُ بعضُها
بعضًا وتتفطرُ.
وعن الضحاكِ: تميزُ.
وقال ابنُ زيد: التميزُ: التفرقُ من شدةِ الغيظِ على
أهلِ معاصِي اللَهِ عزَّ وجلَّ، غضبًا له عزَّ وجل وانتقامًا له.
وخرج ابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ خالدِ بنِ دريك عن رجل من الصحابةِ
قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"من تقوَّلُ عَليَّ ما لم أقل فليتبوء بين عيني جهنمَ مقعدًا"
قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وهل لها عينانِ؟
قال: "نعم، أو لم تسمعْ قول اللَّهِ عزَّ وجلَّ:(2/38)
(إِذَا رَأَتْهم مِّن مَّكَان بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) ".
وروى أبو يحيى القتاتُ عن مجاهد عن ابنِ عباسٍ قالَ: إن العبدَ ليجرُّ إلى
النارِ، فتشهقُ إليه شهقةَ البغلةِ إلى الشعير، ثم تزفرُ زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا
خافَ.
خرَّجهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
وقال كعب: ما خلقَ اللَّهُ من شيءٍ، إلا وهوَ يسمعُ زفيرَ جهنم غدوةً
وعشيةً، إلا الثقلينِ اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ.
خرَّجَه الجوزجانيّ.
وفي "كتابِ الزهدِ" لهنادِ بنِ السريِّ عن مغيثِ بنِ سمي، قالَ:
إنَّ لجهنمَ كلَّ يومٍ زفرتين يسمعُهما كلُّ شيءٍ، إلا الثقلينِ اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ.
وعن الضحاك قالَ: إن لجهنَّمَ زفرة يومَ القيامة لا يبقى ملكٌ مقرَّبٌ ولا
نبيٌّ مرسلٌ إلا خرَّ ساجدًا يقولُ: رب نفسي نفسِي.
وعن عبيدِ بنِ عميرٍ قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً لا يبقى ملكٌ ولا نبيٌ إلا وقعَ
لركبتيه، ترعدُ فرائسُهُ يقولُ: ربِّ نفسي نفسي.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُه عن الضحاكِ قالَ: ينزلُ الملكُ الأعلَى في بهائه
وملكِهِ، مجنبته اليسرى جهنمُ، فيسمعونَ شهيقها وزفيرهَا فيندُّون.
وعن وهبِ بنِ مُنَبِّه قالَ: إذا سيرتِ الجبالُ فسمعتْ حسيسَ النارِ وتغيظَها
وزفيرَها وشهيقَها، صرختِ الجبالُ كما تصرخُ النساءُ، ثم يرجعُ أوائلُها على
أواخرِهَا، يدقُ بعضُها بعضًا.
خرَّجهُ الإمامُ أحمد.(2/39)
وفي "تفسيرِ آدمَ بنِ أبي إياس" عن محمدِ بنِ الفضلِ عن عليِّ بنِ زيدِ بن
جدعان، عن أبي الضُّحى، عن ابنِ عباسٍ قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً، لا يبْقَى
ملكٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ إلا جثا على ركبتيهِ حولَ جهنَّم، فتطيشُ عقولهُم فيقولُ
اللَّهُ عز وجلَّ: ماذا أجبتُمُ المرسلينَ؟
قالُوا: لا علمَ لنا، ثم تُردُّ عليهم عقولُهم فينطقونَ بحجتِهِم وينطقونَ بعذرِهِم.
محمدُ بنُ الفضلِ هو ابنُ عطيةَ متروكٌ.
قال آدمُ: وحدثنا أبو صفوانَ عن عاصم بنِ سليمانَ الكوزيِّ عن ابنِ جريج
عن عطاءٍ عن ابنِ عباسٍ (إِذَا رَأَتْهم مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)
المكان البعيدُ، مسيرة مائة عامٍ، وذلكَ أنه إذا أُتيَ بجهنمَ تقادُ
بسبعينَ ألف زمام يشدُّ بكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملكٍ، ولو تركتْ لأتتْ على
كُلِّ برٍ وفاجر، ثمَّ تَزفرُ زفرة لا يبقى قطرةٌ من دمع إلا بدرت.
ثم تزفرُ الثانيةُ فَتَتقَطِعُ القلوبُ من أماكنها تبلغُ اللهواتِ والحناجرَ
وهو قولُه: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ) .
وعاصم الكوزيُّ ضعيف جدًّا.
وقال الليثُ بنُ سعد عن عبيدِ اللَّهِ بن أبي جعفر: إنَّ جهنَّم لتزفرُ زفرةً
تنشقُّ منها قلوبُ الظلمةِ، ثم تزفرُ أخرى فيطيرونَ في الأرضِ حتى يقعُوا على
رؤوسِهِم.
خرَّجهُ عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ.
ورَوى أسدُ بنُ موسى عن إبراهيمَ بنِ محمد عن صفوانَ بنِ سليم عن
عطاءِ بنِ يسارِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بن العاصِ - مثلَه.
وخرجَ أبو نعيم وغير من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ حاطبٍ، قالَ: قالَ عمرُ - رضي الله عنه - لكعبِ: خَوِّفْنَا، قالَ: والذي نفسِي بيده؛ إن النارَ لتقربُ يومَ القيامة لها زفيرٌ وشهيقٌ، حتى إذا دنتْ وقربتْ زفرت زفرةً، ما خلقَ اللَّهُ من نبي ولا شهيدٍ إلا وجبَ لركبتيهِ ساقطا،(2/40)
حتى يقولَ كل نبي وكلُّ صدِّيق وكلُّ شهيدٍ:
اللهمَّ لا أكلفُكَ اليومَ إلا نفسِي، ولو كانَ لكَ يا ابنَ الخطابِ عملُ سبعينَ نبيًا لظننتَ أن لا تنجُو، قالَ عمرُ: واللَّه، إن الأمرَ لشديد.
ومن روايةِ شريح بنِ عبيدٍ قالَ: قالَ عمرُ لكعب: خَوِّفنا، قالَ: واللهِ
لتزفرنَّ جهنمُ زفرةً، لا يبقَى ملك مقرَّب ولا غيرُهُ إلا خرَّ جاثيًا على ركبتيهِ، يقولُ: ربِّ نفسِي نفسِي، وحتى نبينا محمدٍ وإبراهيمَ وإسحاقَ - عليهمُ
السلامُ -، قال: فأبكَى القومَ حتى نشجُوا.
وفي رواية مطرفِ بن الشخيرِ عن كعبٍ، قالَ: كنتُ عندَ عمرَ، فقالَ: يا
كعبُ خوِّفنا، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ جهنمَ لتزفرُ يومَ القيامة زفرةً لا
يبقَى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرَ ساجِدًا على ركبتيهِ، حتى إنً إبراهيمَ خليله - عليه السلامُ - ليخرُّ جاثيًا ويقولُ: نفسِي نفسِي، لا أسألكُ اليومَ إلا نفسِي، قالَ: فأطرقَ عمرُ مليًّا، قالَ: قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، أولستُم تجدونَ هذا في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجل؟!
قالَ عمرُ: كيفَ؛ قلتُ: يقولُ اللَه عزَّ وجل
في هذه الآيةِ: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) .
وكانَ سعيدُ الجرميُّ يقولُ في موعظتِهِ إذا وصفَ الخائفين: كأنَ زفيرَ النارِ
في آذانِهِم.
وعن الحسنِ أنه قالَ في وصفِهم: إذا مرُّوا بآية فيها ذكرُ الجنة بكوا شَوْقًا.
وإذا مرُّوا بآيةٍ فيهَا ذكرُ النارِ ضجوا صُراخًا، كأنَّ زفيرَ جهنًّم عندَ أصولِ
آذانِهِم.(2/41)
وروى ابنُ أبي الدنيا وغيرُه عن أبي وائلٍ قالَ: خرجْنا معَ ابنِ مسعودٍ
ومعنا الربيعُ بنُ خُثَيم، فأتينَا على تنورٍ على شاطئ الفراتِ، فلمَّا رآهُ عبدُ اللَّهِ والنارُ تلتهبُ في جوفهِ قرأَ هذه الآيةَ (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) إلى قوله: (ثُبُورًا) ، فصعقَ الربيعُ بنُ خثَيمٍ فاحتملناه
إلى أهلهِ، فرابطَهُ عبدُ اللَّهِ حتى صلَّى الناسُ الظهرَ فلم يُفقْ، ثم رابطَهُ إلى
العصرِ فلم يُفِقْ، ثم رابطَهُ إلى المغربِ فأفاقَ، فرجعَ عبدُ اللَّهِ إلى أهلهِ.
ومن روايةِ مسمع بنِ عاصم قالَ: بتُّ أنا وعبدُ العزيزِ بن سليمانَ وكلابُ
ابنُ جريٍّ وسلمانُ الأعرجُ على ساحلٍ من بعضِ السواحلِ، فبكَى كلاب
حتى خشيتُ أن يموتَ، ثم بكى عبدُ العزيزِ لبكائِهِ ثم بكَى سلمانُ لبكائهِمَا.
وبكيتُ - واللَّهِ - لبكائِهم لا أدْرِي ما أبكَاهُم، فلما كانَ بعدُ سألتُ عبدَ العزيزِ فقلتُ: يا أبا محمدٍ ما الذي أبكاك ليلتئذٍ؟
قالَ: إنَي - واللَّهِ - نظرتُ إلى أمواج البحرِ تموجُ وتجيلُ، فذكرتُ أطباقَ النيرانِ وزفراتِها، فذلكَ الذي أبكاني.
ثم سألتُ كلابًا أيضًا نحوًا مما سألتُ عبدَ العزيز، ِ فواللَّهِ؛ لكأنّما
سمعَ قصتَهُ، فقال لي مثلَ ذلكَ، ثم سألتُ سلمانَ الأعرجَ نحوًا مما سألتُهما.
فقالَ لي: ما كانَ في القومِ شرّ منّي، ما كانَ بُكائي إلا لبكائِهم رحمةً لهم مما
كانُوا يصنعونَ بأنفسِهِم - رحمهُمُ اللَّهُ تعالى.
* * *(2/42)
قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(فَقَذ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ) ، قال: المعنى: فقد كذبكم أصنامكم
بقولكم؛ لأنكم ادعيتم أنها الآلهة وقد أقررتم أنها لا تنفع، فإقراركم يكذب
دعواكم.
في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) ، قال هو يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين
شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالطبيب، والطبيب يكون عِنْدَ المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)
وخرَّج النسائيّ من حديثِ أبي سعيد، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا أسلمَ العبدُ(2/43)
فحَسُنَ إسلامُهُ، كتَبَ اللَّهُ له كُل حَسنة كانَ أزلفَها، ومحيت عنه كلُّ سيئة كان أزلفها، ثمَّ كانَ بعدَ ذلكَ القصاصُ، الحسنةُ بعشْر أمثالِها إلى سَبع مائةِ ضعف، والسيئةُ بمثلها إلا أن يتجاوزَ اللَّهُ ".
وفي روايةٍ أخرى: "وقيلَ لهُ: ائْتَنِفِ الْعَمَلَ ".
والمرادُ بالحسناتِ والسيئاتِ التي كانَ أزلَفَهَا: ما سبقَ منه قبلَ الإسلامِ.
وهذا يدلُّ على أنه يُثابُ بحسناتهِ في الكفرِ إذا أسلمَ وتُمحى عنه سيئاتُه إذا
أسلَمَ، لكن بشرطِ أن يحسُنَ إسلامُه، ويتقِي تلكَ السيئاتِ في حالِ إسلامِهِ.
وقد نصَّ على ذلكَ الإمامُ أحمدُ.
ويدلُّ على ذلكَ ما في "الصحيحينِ " عن ابنِ مسعودٍ قال: قلنا:
يا رسولَ اللَّهِ، أنؤاخذُ بما عملْنا في الجاهليةِ؟
قالَ: "أما مَنْ أحسنَ منكُم في الإسلامِ فلا يُؤاخذُ بِهَا، ومن أساءَ أُخِذَ بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلام".
وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بنِ العاصِ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما أسلمَ: أريدُ أن أشترطَ، قالَ: "تشترطُ ماذَا؟ "
قلتُ: أن يُغفرَ لِي.
قالَ: "أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يهدمُ ما كانَ قبلَهُ؟ ".
وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ ولفظُه:
"إن الإسلامَ يجبُّ ما كانَ قبلَهُ منَ الذنوبِ "
وهذا محمولٌ على الإسلامِ الكاملِ الحسنِ، جمعًا بينَهُ
وبين حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي قبلَهُ.
وفي "صحيح مسلم " أيضًا عن حكيم بنِ حزام قالَ: قلتُ:
يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ أمورًا كنتُ أصنعُها في الجاهليةِ من صدقةٍ
أو عتاقةٍ أو صلة رحم، أفيها أجرٌ؟(2/44)
فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
" أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ"
وفي روايةٍ لهُ: قالُ: فقلتُ: واللَّهِ؛ لا أدعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليةِ إلا صنعتُ في الإسلام مثلَهُ.
وهذا يدلُّ على أنَّ حسناتِ الكافرِ إذا أسلمَ يُثابُ عليهَا كما دلَّ عليه
حديثُ أبي سعيدٍ المتقدِّمُ.
وقد قيلَ: إن سيئاتهِ في الشركِ تبدَّلُ حسناتٍ، ويُثابُ عليها، أخذًا من
قولهِ تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
"وقد اختلفَ المفسرونَ في هذا التبديلِ على قولِين:
فمنهُم مَنْ قالَ: هو في الدنيا، بمعنى: أنَّ اللَّه يُبَدِّلُ من أسلمَ وتابَ إليه
بدلَ ما كان عليهِ من الكفرِ والمعاصِي: الإيمانَ والأعمالَ الصالحةَ.
وحكَى هذا القولَ إبراهيمُ الحربيُّ في "غريب الحديثِ "
عن أكثرِ المفسرينَ، وسمَّى منهم ابنَ عباسٍ، وعطاءً، وقتادةَ، والسُّديَّ، وعكرمةَ.
قلتُ: وهو المشهورُ عن الحسنِ.
قالَ: وقال الحسنُ وأبو مالكٌ وغيرُهما: هي في أهلِ الشركِ خاصةً، ليس
هي في أهلِ الإسلامِ.
قلتُ: إنما يصحُّ هذا القولُ على أنْ يكونَ التبديلُ في الآخرةِ كما سيأتِي.
وأما إن قيلَ: إنه في الدنيا، فالكافرُ إذا أسلمَ والمسلمُ إذا تاب في ذلكَ سواءٌ، بل المسلمُ إذا تابَ فهو أحسنُ حالاً من الكافر إذا أسلمَ.(2/45)
قالَ: وقال آخرونَ: التبديلُ في الآخرةِ: جعلت لهم مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً
منهم: عمرُو بنُ ميمون، ومكحولٌ، وابنُ المسيبِ، وعليٌّ بنُ الحسينِ، قالَ: وأنكرهُ أبو العاليةَ، ومجاهدٌ، وخالد سبلان، وفيه موضعُ إنكارٍ، ثم ذكرَ ما حاصلهُ: أنه يلزمُ من ذلكَ: أن يكونَ مَن كثرتْ سيئاتُهُ أحسن حالاً ممن قلَّتْ سيئاتُه، حيثُ يُعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً.
ثم قالَ: ولو قال قائل: إنما ذكرَ اللَّهُ أن يُبدلَ السيئاتِ حسناتٍ ولم يذكرِ العددَ كيفَ تبدَّل فيجوزُ أن معنى تبدَّلُ: أن من عملَ سيئةً واحدةً وتابَ منها تبدَّلُ مائةَ ألفِ حسنةٍ، ومن عملَ ألفَ سيئة أن تبدَّل ألفَ حسنةٍ، فيكونُ حينئذٍ مَنْ قلَّت سيئاتُهُ أحسنُ حالاً.
قلتُ: هذا القولُ - وهو التبديلُ في الآخرةِ - قد أنكرَهُ أبو العاليةَ، وتلا
قولَهُ تعالَى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) ، وردّه بعضُهم بقولِه تعالَى:
(وَمَن يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، وقولهِ تعالَى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) .
ولكن قد أُجيبَ عن هذا: بأنَّ التائبَ يُوقفُ على سيئاتهِ؛ ثمَّ تبدَّلُ
حسناتٍ، قالَ أبو عثمانَ النهديُ: إن المؤمنَ يُؤتَى كتابهُ في سَتْرٍ من اللَّه عزّ
وجلّ، فيقرأُ سيئاتهِ، فإذَا قرأَ تغيَّر لها لونُه حتَّى يمرَّ بحسناتِهِ، فيقرؤُها فيرجعُ
إليه لونُه، ثم ينظرُ فإذا سيئاتُه قد بُدلمتْ حسناتٍ، فعندَ ذلكَ يقولُ: (هَاؤُمُ
اقرَءُوا كتَابِيَهْ) .
ورواهُ بعضُهم عن أبي عثمانَ عن ابنِ مسعودٍ، وقالَ بعضُهم: عن أبي
عثمانَ عن سلمانَ.(2/46)
وفي "صحيح مسلم " من حديثِ أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إني لأعلمُ آخرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولاً الجنة، وآخرَ أهلِ النارِ خروجًا منها، رجلٌ يُؤتَى بهِ يومَ القيامةِ فيقالُ: اعرضُوا عليه صِغارَ ذنوبهِ وارفعُوا عنه كبارها، فيعرضُ اللَّهُ عليه صغارَ ذنوبهِ.
فيقالُ له: عملتَ يومَ كذا وكذا، كذا وكذا؛ وعملتَ يومَ طذا وطذا، كذا وكذا؛ فيقولُ: نعم، لا يستطيعُ أن يُنكرَ وهو مشفقٌ من كبارِ ذنوبِهِ أن تُعرضَ عليه، فيقالُ لهُ: فإنَّ لكَ مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقولُ: يا ربِّ قد عملتُ أشياءَ لا أراها ها هنا".
قال: فلقد رأيتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -
ضَحِكَ حتَّى بدتْ نواجذُه.
فإذا بُدلت السيئاتُ بالحسناتِ في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبهِ بالنارِ، ففي
حق من مُحِيَ سيئاتُه بالإسلامِ والتوبةِ النصوح أوْلَى، لأنَّ محوَها بذلكَ أحبُّ
إلى اللَّهِ من محوِها بالعقابِ.
وخَرَّج الحاكم من طريقِ الفضلِ بنِ مُوسى، عن أبي العنبسِ عن أبيهِ.
عن أبي هُريرةَ قالَ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"ليتمنَّينَ أقوامٌ أنَّهم أكثرُوا من السيِّئاتِ ".
قالوا: بِمَا يا رسولَ اللَّه؟
قال: "الذين بدَّلَ اللَهُ سيئاتهم حسناتٍ ".
وخرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ سليمانَ أبي داود الزهريِّ عن أبي العنبسِ
عن أبيه عن أبي هريرةَ - موقوفًا، وهو أشبهُ مِن المرفوع.
ويُروى مثلُ هذا عن الحسنِ البصريّ أيضًا، وهو يُخالف قولَه المشهور: إن
التبديلَ في الدنيا.
وأما ما ذكره الحربي في التبديلِ، وأنَّ من قلَّت سيئاتُهُ يُزاد في حسناتهِ،(2/47)
ومن كثرتْ سيئاتُه يُقَلَّلُ من حسناتهِ، فحديثُ أبي ذرٍّ صريحٌ في ردِّ هذا، وأنه يُعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً.
وأما قولُه: يلزمُ من ذلكَ أن يكونَ من كثرت سيئاتُه أحسنَ حالاً ممن قلَّت
سيئاتُهُ، فيقالُ: إنما التبديلُ في حقِّ مَنْ ندمَ على سيئاته، وجعلَهَا نصبَ
عينيهِ، فكلَّما ذكرَه ازدادَ خوفًا ووجلاً وحياءً من اللًّهِ، ومسارعةً إلى
الأعمالِ الصالحةِ المكفرةِ كَمَا قالَ تعالى: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا) ، وما ذكرناهُ كله داخلٌ في العمل الصالح، ومن كانتْ هذه حالُهُ.
فإنَّه يتجرعُّ من مرارةِ الندمِ والأسفِ على ذنوبِهِ أضعاف ما ذاق من حلاوتها
عند فعلها، ويصير كل ذنبٍ من ذنوبه سببًا لأعمالٍ صالحةٍ ماحيةٍ له، فلا
يُستنكرُ بعد هذا تبديلُ هذه الذنوبِ حسناتٍ.
وقد وردت أحاديثُ صحيحةٌ صريحةٌ في: أن الكافرَ إذا أسلم وحَسُنَ
إسلامُه تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرك حسناتٍ، فخرَّج الطبراني من حديثِ
عبدِ الرحمنِ بنِ جبيرِ بنِ نفيرٍ عن أبي فروةَ شطبٍ: أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: أرأيتَ رجلاً عَمِلَ الذنوبَ كُلَّها، ولم يتركْ حاجةً ولا داجةً، فهل له مِنْ توبة؟
فقالَ: " أسلمتَ؟ " قال: نَعم، قال: "فافعل الخيراتِ، واتركِ السيئاتِ.
فيجعلُها اللَهُ لك خيراتٍ كلَّها".
قالَ: وغَدَرَاتي وفَجَراتي؛ قالَ: "نعم ".
قال: فما زال يُكبِّرُ حتَّى توارَى.
وخرَّجه من وجهٍ آخرَ بإسنادٍ ضعيف عن سلمةَ بنِ نفيل، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ نحوَهُ من حديثِ مكحولٍ مرسلاً، وخرَّجَ البزار(2/48)
الحديثَ الأوَّل. وعندهُ: عن أبي طويلٍ شطبٍ الممدودِ: أنه أتى النبيَّ، فذكرَهُ وكذا خرَّجه أبو القاسم البغويُّ في "معجمِهِ "، وذكرَ: أن الصوابَ عن عبدِ الرحمنِ بن جُبيرِ بنِ نفيرٍ مرسلاً أنَّ رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، طويل شَطْب، والشطبُ في اللغةِ: الممدودُ، فصحفه بعضُ الرواةِ، وظنَّه اسمَ رجل.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)
قالَ اللَّهُ تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) .
[قالَ البخاريُّ] : ومعنى الدعاء في اللغة: الإيمانُ.
اعلم؛ أنَّ أصلَ الدعاءِ في اللغة: الطلبُ، فهو استدعاءٌ لما يطلبة الداعِي.
ويُؤْثِرُ حصولَه.
فتارةً يكونُ الدعاءُ بالسؤالِ من اللَّهِ عز وجل والابتهالِ إليه، كقول
الداعِي: اللهمَّ اغفرْ لي، اللَّهمَّ ارحمْنِي.
وتارةً يكونُ بالإِتيانِ بالأسبابِ التي تقتضي حصولَ المطالبِ، وهو الاشتغالُ
بطاعةِ اللَّهِ وذكرهِ، وما يجب من عبدهِ أن يفعَله، وهذا هو حقيقةُ الإيمانِ.
وفي "السنن الأربعةِ"، عن النعمانِ بنِ بشيرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:
"إنَّ الدُّعاءَ هو العبادة، ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) ".(2/49)
فما استجلبَ العبدُ من اللَّهِ ما يحبُ، واستدفعَ منه ما يكره، بأعظمَ من
اشتغالِهِ بطاعةِ اللَّهِ وعبادتهِ وذكرِه، وهو حقيقةُ الإيمانِ، فإن اللَّهَ يدفع عنِ
الذين آمنوا.
وفي "الترمذيِّ "، عن أبي سعيدٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يقُولُ الربُّ عزَّ وجلَّ: مَن شغلَهُ القرآنُ وذكرِي عن مسألتِي أعطيتهُ أفضلَ ما أُعطِي السائِلِينَ ".
وقال بعضُ التابعينَ: لو أطعتمُ اللَّهَ ما عصاكُم.
يعني: ما منعكُم شيئًا تطلبونَهُ منه.
وكان سفيانُ يقولُ: الدعاءُ تركُ الذنوبِ.
يعني: الاشتغالَ بالطَّاعَةِ عن المعصية.
وأما قولُه تعالى: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكمْ) ، فيه للمفسرينَ قولان:
أحدهما: أن المرادَ: لولا دعاؤُكم إيَّاه.
فيكونُ الدعاءُ بمعنى الطاعةِ، كما ذكرنَا.
والثاني: لولا دعاؤُه إياكُم إلى طاعتِهِ، كمَا في قولهِ تعالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، أي: لأدعوهُم إلى عِبادَتي.
وإنما اختلف الفسرون في ذلكَ لأنَّ المصدرَ يضافُ إلى الفاعلِ تارةً، وإلى
المفعولِ أُخرى.(2/50)
سُورَةُ الشُّعَراء
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
وقد استدلَّ إبراهيمُ الخليلُ - عليه السلامُ - بتفرُّدِ اللَّهِ بهذه الأمورِ على أنَّه
لا إلهَ غيرُهُ، وأنَّ كُلَّ ما أشركَ معهُ باطل، فقالَ لقومِه:
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) .
فإنَّ من تفرَّد بخلقِ العبد وبهدايَته وبرزقِهِ وإحيائِهِ وإماتتِهِ في الدُّنيا، وبمغفرةِ ذنوبِهِ في الآخرةِ مستحقَّ أن يتفرًّ دَ بالإلهيةِ والعبادةِ
والسؤالِ والتضرعُّ إليه والاستكانةِ لهُ.
قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) .
* * *(2/51)
قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
القلبُ واللسانُ همَا عبارةٌ عن الإنسانِ؛ كما يُقالُ: الإنسانُ بأصغريهِ.
قلبهِ، ولسانهِ.
وخرَّجَ ابنُ سعدٍ من روايةِ عروةَ بنِ الزبرِ مرسلاً أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أَشجَّ عبدَ القيسِ، وكانَ رجُلاً دميمًا، فقالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يُستقى في مُسُوكِ الرجال، إنما يُحتاجُ من الرجلِ إلى أصغريه؛ لسانه، وقلبه.
وقال المتنبي:
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ. . . ولم يبقَ إلا صورةَ اللحم والدمِ
فمن استقامَ قلبُه ولسانُه استقامَ شأنُهُ كلُّه، فالقلبُ السليمُ هوَ الذي ليسَ
فيه محبةُ شيءٍ مما يكرهُهُ اللَّهُ، فدخلَ في ذلكَ: سلامتُهُ من الشركِ الجليِّ.
والخفي، ومن الأهواءِ والبدع، ومن الفسوقِ والمعاصِي؛ كبائرِهَا وصغائرِهَا
الظاهرةِ والباطنةِ: كالرياءِ والعجبِ والغلِّ والغشِّ والحقدِ والحسدِ وغيرِ ذلكَ
وهذا القلبُ السليمُ هو الذي لا ينفعُ يومَ القيامةِ سواهُ؛ قالَ تعالى:
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) .
إذا سلمَ القلبُ لم يسكنْ فيه إلا الربُّ.
في بعضِ الآثارِ، يقولُ اللُّه: "وما وسعنِي سمائِي ولا أَرضِي، ولكن وسعنِي قلبُ عبدِي المؤمنِ ".
* * *(2/52)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صَلَحت، صلحَ الجسدُ كلّه، وإذا
فسدتْ فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ ".
فيه إشارةٌ إلى: أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارِحِه، واجتنابِه للمحرَّماتِ واتِّقائِهِ للشُّبهاتِ بحسبِ صلاح حركةِ قلبهِ.
فإنْ كانَ قلبُه سليمًا، ليسَ فيه إلا محبةُ اللَّهِ ومحبةُ ما يُحبُّه اللَّهِ، وخشيةُ
اللَّهِ وخشيةُ الوقوع فيما يكرهُهُ، صلحَتْ حركاتُ الجوارح كلها، ونشأ عن ذلكَ اجتنابُ المحرَّماتِ كلِّها، وتوقِّي الشبهاتِ حذرًا مِنَ الوقوع في
المحرَّماتِ.
وإن كانَ القلبُ فاسِدًا، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلبُ ما يحبُه، ولو
كرهَهُ اللَّهُ، فسدتْ حركاتُ الجوارح كلِّها، وانبعثتْ إلى كل المعاصِي
والمشتبهاتِ بحسبِ اتِّباع هوى القلبِ.
ولهذا يقالُ: القلبُ ملكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا
جنودٌ طائعونَ لهُ، منبعثونَ في طاعتِهِ، وتنفيذِ أوامر، لا يخالفونَهُ في شيءٍ
من ذلكَ، فإنْ كانَ الملكُ صالحًا كانتْ هذه الجنودُ صالحةً، وإن كان فاسدًا
كانت جنوده بهذه المثابةِ فاسدةً، ولا ينفع عندَ اللَّهِ إلا القلبُ السليمُ، كما
قالَ تعالَى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) .
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائِهِ:
"أسألكَ قلبًا سليمًا".
فالقلبُ السليمُ: هو السالمُ من الآفاتِ والمكروهاتِ كلِّها، وهوَ القلبُ(2/53)
الذي ليسَ فيه سوى محبةِ اللَّهِ وما يحبُّهُ اللَّهُ وخشية اللَّهِ، وخشية ما يُباعدُ
منه.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ".
والمرادُ باستقامةِ إيمانِه: استقامةُ أعمالِ جوارِحِه، فإنَّ أعمالَ الجوارح لا
تستقيمُ إلا باستقامةِ القلبِ، ومعنى استقامةِ القلبِ: أن يكونَ ممتلئًا مِنْ محبَّةِ
اللَّهِ، ومحبَّةِ طاعتهِ، وكراهةِ معصيتهِ.
قال الحسنُ لرجلٍ: داوِ قلبكَ " فإنَّ حاجةَ اللَّهِ إلى العبادِ صلاحُ قلوبِهم.
يعني: أنَّ مرادَهُ منهُم ومطلوبَهُ صلاحُ قلوبِهِم، فلا صلاحَ للقلوبِ حتَّى
تستقرَّ فيها معرفةُ اللَّهِ وعظمتُه ومحبّتهُ وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤه والتوكلُ
عليه، وتمتلئ مِنْ ذلك، وهذا هو حقيقةُ التوحيدِ، وهو معنى
"لا إله إلا اللَّهُ "، فلا صلاحَ للقلوبِ حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألهُه وتعرفُه وتحبه وتخشاه هو اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ولو كانَ في السماواتِ والأرضِ إلهٌ يُؤَله سِوى اللَّهِ، لفسدتْ بذلكَ السماواتُ والأرضُ، كما قالَ تعالَى: (لوْ كَان فيهِمَا آلِهَةٌ إِلأَ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
فعلم بذلكَ أنَّه لا صلاحَ للعالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ معًا حتى تكون حركاتُ
أهلِهَا كلها للَّهِ، وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلبِ وإرادته، فإن كانتْ
حركتُه وإرادتُه للَّهِ وحدَه، فقدْ صَلحَ وصلحتْ حركاتُ الجسدِ كلها، وإنْ
كانتْ حركةُ القلبِ وإرادتُهُ لغيرِ اللَّهِ تعالَى، فسدَ، وفسدتْ حركاتُ الجسدِ(2/54)
بحسبِ فسادِ حركةِ القلبِ.
وروى الليثُ عن مجاهدٍ في قولهِ تعالَى: (وَلا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا) .
قال: لا تحبُّوا غيرِي.
وفي "صحيح الحاكم " عن عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشِّركُ أخفَى من دبيبِ الذرِّ على الصفا في الليلةِ الظَّلماءِ، وأدناهُ: أن تُحِبَّ على شيءٍ من الجورِ، وأن
تُبغضَ على شيء من العدلِ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغضُ؟
قال اللَهُ عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ".
فهذا يدل على أنَّ محبةَ ما يكرهُهُ اللَّهُ، وبغضَ ما يُحبه اللَّهُ متابعة
للهوى، والموالاةُ على ذلك والمعاداةُ عليه من الشركِ الخفيِّ، ويدل على ذلكَ قولُه تعالَى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، فجعلَ
علامةَ الصدقِ في محبته اتباعَ رسولِهِ، فدل على أن المحبةَ لا تتمُّ بدونِ
الطاعةِ والموافقةِ.
قال الحسنُ: قال أصحابُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول اللَّهِ، إنَّا نُحِبُّ ربنا حبًّا شديدًا.
فأحبَّ اللَّهُ أن يجعل لحبِّه علمًا، فأنزل اللَّهُ هذه الآيةَ:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .
ومن هنا قال الحسنُ: اعْلم أنكَ لن تُحبَّ اللَّهَ حتى تُحبَّ طاعتَه.
وسُئلَ ذو النونِ: متى أُحِبُ ربِّي؟
قال: إذا كانَ ما يُبغضُهُ عندكَ أمرَّ من الصبرِ.
وقال بشرُ بن السَّري: ليسَ من أعلامِ الحبِّ أن تحبَّ ما يُبغضُه حبيبُك.(2/55)
وقال أبو يعقوبَ النهرجوريُّ: كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
ولم يُوافقِ اللَّهَ في أمر، فدعواهُ باطلٌ.
وقالَ رُويمٌ: المحبةُ: - الموافقةُ في كل الأحوالِ.
وقالَ يحيى بنُ معاذٍ: ليسَ بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يحفظْ حدودَهُ.
وعن بعضِ السلفِ قالَ: قرأتُ في بعضِ الكتبِ السالفةِ من أحبَّ
اللَّهَ لم يكنْ عندهُ شيءٌ آثرَ من مرضاتِهِ، ومن أحبَّ الدنيا لم يكنْ عندَهُ شيءٌ
آثرَ من هوى نفسهِ.
وفي "السننِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:
"مَنْ أعطَى للهِ، ومنعَ للهِ، وأحبَّ للَّهِ، وأبغضَ للهِ، فقد استكملَ الإيمانَ " ومعنى هذا أن حركاتِ القلبِ والجوارح إذا كانتْ كلُّها للَّهِ فقدْ كمُلَ إيمانُ العبدِ بذلكَ ظاهرًا وباطِنًا، ويلزمُ من صلاح حركاتِ القلبِ صلاحُ حركاتِ الجوارح، فإذا كانَ القلبُ صالحًا ليسَ فيه إلا إرادةُ اللَّهِ وإرادةُ ما يريدُه لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فِيما يُريدُه اللَّهُ، فسارعتْ إلى
ما فيه رضاهُ وكَفَّتْ عما يكرَهُهُ، وعمَّا يُخشى أن يكونَ مما يكرههُ وإن لم
يتيقنْ ذلكَ.
قال الحسنُ: ما نظرتُ ببصرِي، ولا نطقتُ بلسانِي، ولا بطشتُ بيدي.
ولا نهضتُ على قدمِي، حتى أنظرَ على طاعةٍ أو على معصيةٍ؛ فإن كانتْ
طاعةٌ تقدمتُ، وإن كانتْ معصيةٌ تأخَّرتُ.
وقال محمدُ بنُ الفضلِ البَلخيُّ: ما خطوتُ منذ أربعينَ سنةً خطوةً لغيرِ
اللهِ عزَّ وجل.
وقيلَ لداودَ الطائىِّ: لو تنحيتَ من الظل إلى الشمسِ؟
فقالَ: هذه خُطًا لا أدرِي كيفَ تكتبُ.(2/56)
فهؤلاءِ القومُ لما صلحتْ قلوبُهم، فلم يبقَ فيها إرادةٌ لِغير اللَّهِ، صلحتْ
جوارحُهم، فلم تتحرَكْ إلا للهِ عزَ وجلَّ، وبما فيهِ رضاهُ، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
وقولُه: "إني لأرى منْ خلفي كما أرى منْ بين يدي ".
هو فضيلة للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خصَّهُ اللَّهُ بها.
فكانَ ينظرُ ببصيرتِهِ كما ينظرُ ببصر، فيرى من خلفَه كمَا
يرَى من بينَ يديهِ.
وقد فسَّرهُ الإمامُ أحمدُ بذلكَ في روايةِ ابنِ هانئ، وتأولَ عليه قولَهُ
تعالَى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) .
كما روى ابنُ أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله:
(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) .
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يرى أصحابَهُ في
صلاتهِ من خلفِهِ، كما يَرى من بين يديهِ.
وتأويلُ الآيةِ على هذا القولِ: أن اللَّه تعالى يَرَى نبيَّه
- صلى الله عليه وسلم - حين يقومُ إلى صلاتهِ.
ويَرَى تقلبَ نظره إلى الساجدينَ معه في صلاتهِ.
وقال الأثرمُ: قلتُ لأحمدَ: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"إني لأراكم من وراء ظهرِي "؟
قال: كانَ يرى من خلفَهُ كما يَرى من بينَ يديهِ.
قلتُ: إن إنسانًا قالَ لي: هو(2/57)
في ذلكَ مثل غيره، وإنما كانَ يراهُم كما ينظرُ الإمامُ عن يمينهِ وشمالهِ؛ فأنكرَ
ذلكَ إنكارًا شديدًا.
* * *(2/58)
سُورَةُ النَّمْلِ
قوله تعالى: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قال ابن الجوزي في "المقتبس " سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) .
قال: هذا من تمام برّ الوالدين.
كأنَّ هَذا الوَلَدَ خَافَ أَنْ يكون وَالِدَاهُ قَصَّرا فِي شُكْرِ الرَّبِّ
عز وجل، فسأل اللَّه أن يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ على ما أنعم به عليه وعليهما؛ ليَقُوم
بما وَجَبَ عَلَيْهِما من الشُّكر إن كانا قَصَّرا.
***
قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِّنْهَا)
وقال ابنُ عيينةَ: "لا إله إلا اللَّهُ لأهلِ الجنةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدُّنيا".
وكذلكَ ترنُّمهم بالقرآنِ وسماعهُم لهُ، وأعلاه: سماعُه من اللَّهِ جلَّ جلالُه
وتقدستْ أسماؤُه، فأينَ هذا من تلاوةِ أهلِ الدنيا وذكرِهم؛ وأمَّا سائرُ
العباداتِ: فما كانَ منها فيه مشقةٌ على الأبدانِ فإنَّ أهلَ الجنةِ قد أُسقطَ ذلك عنْهم؛ وكذلكَ ما فيه نوعُ ذلٍّ وخضوع كالسجودِ ونحوهِ.(2/59)
وأما ما في العباداتِ من النعيم الحاصلِ بها لأهلِ المعرفةِ في الدُّنيا، فإنَّه
يحصلُ في الجنةِ أضعافًا مع راحةِ البدنِ من مشقةِ التكليفِ التي في الدُّنيا
فتجتمعُ لهم راحةُ القلبِ والبدنِ على أكملِ الوجوهِ.
وهذا مثلُ الصلاةِ، فإن العارفينَ في الدُّنيا إنما يتنعمونَ بما فِيهَا منَ الناجاةِ
وآثارِ القربِ، وما يرِدُ عليهم من الوارداتِ في تلاوةِ الكتابِ ونحوِ ذلكَ من
نعيم القلوبِ، وربما يستغرقونَ به عن الشعورِ بتعبِ الأبدانِ فهذا القدرُ الذي
حصلَ لهم به التنعمُ في الدنيا يتزايدُ في الجنةِ بلا ريبٍ، لاسيَّما في أوقاتِ
الصلواتِ، فإنَّ أكملَهُم من ينظرُ إلى وجهِ اللَّهِ عز وجل كلَّ يومٍ مرتينِ، بكرةً وعشيةً، في وقتِ صلاةِ الصبح وصلاةِ العصرِ، لمِا جاءَ في حديثِ ابنِ عمَر مرفوعا وموقوفًا، وإلى ذلك أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمحافظة على هاتينِ الصلاتينِ عقيبَ ذكرِهِ رؤيةَ الربِّ سبحانَهُ في حديثِ جريرٍ البجلي.
فالنعيمُ الحاصلُ لأهلِ الجنَّةِ بالرؤيةِ والمخاطبةِ في هذينِ الوقتينِ أكملُ مما
كانَ حاصلاً في الدنيا، وكذلكَ صلاةُ الجمعةِ: فإنهم يجتمعونَ في وقتِها في
يومِ المزيدِ ويتجلَّى لهم سبحانَهُ ويحاضرُهم محاضرةً، وكذلكَ في العيدينِ.
فهذا؛ أكملُ مما كانَ يحصلُ لهم في الدنيا في صلاتِهِم من آثارِ القربِ
وحلاوةِ مع راحةِ البدنِ ونعيمهِ أيضًا.
فتبينَ بهذا أن نعيمَ الجنةِ أكملُ من نعيم(2/60)