مدين. ورُوي أنه خرج بلا زاد ولا درهم، ولا ظهر، ولا حِذاء- أي: نعل-، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فما بلغ مدين حتى وقع خُفُّ قَدَمِهِ، وخضرة البقل ترى على بطنه «1» .
وَلَمَّا وَرَدَ وصل ماءَ مَدْيَنَ بئراً لهم، وَجَدَ عَلَيْهِ على جانب البئر أُمَّةً جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين يَسْقُونَ مواشيهم، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ: تطردان غَنَمَهُمَا عن الماء، حتى تَصْدُرَ مواشي الناس ثم تسقيان لأن على الماء من هو أقوى منهما، فلا يتمكنان من السقي. أو: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود: الطرد والدفع.
قالَ لهما موسى: ما خَطْبُكُما: ما شأنكما لا تسقيان؟ والأصل: ما مخطوبكما، أي: مطلوبكما، فسمي المطلوب خَطْباً، قالَتا لا نَسْقِي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ، أي: يصرفوا مواشيهم، يقال: أصدر عن الماء وصدر، والمضارع: يَصْدُر ويَصْدِر، والرعاء: جمع راع، كقائم وقيام، والمعنى: لا نستطيع مزاحمة الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ السن، لا يمكنه سقي الأغنام، وهو شعيب بن نويْب بن مدين بن إبراهيم- عليهما السلام- وقيل: هو «يثرون» بن أخي شعيب «2» ، وكان شعيب قد مات بعد ما كفَّ بَصَرُهُ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
فَسَقى لَهُما أي: فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة الملهوف، رُوي أنه نحى القوم عن رأس البئر، وسألهم دلواً، فأعطوه دلوهم، وقالوا: استق به، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها، وصبَها في الحوض، ودعا بالبركة. وقيل: كانت آبارهم مغطاة بحجارة كبار، فعمد إلى بئر، وكان حجرها لا يرفعه إلا جماعة، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله: أنه سألهما عن سبب الذود، فقالتا: السبب فى ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، ونستحي من الاختلاط بهم، فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا. وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية لأن الأمر في نفسه مباح مع حصول الأمن، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت: وقد كنت أعترض على أهل الجبل رَعْيَ النِّساءِ المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب، لكن السلامة في زماننا هذا حبس النساء في الديار لكثرة أهل الفساد.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 383- 384) .
(2) ذكره فى تفسيره (6/ 200) عن وهب بن منبه.(4/242)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
ثُمَّ لما سقى لهما تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة. عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: أحييت ليلتين على جمل لي، حتى صبّحْت مدين، فسالت عن الشجرة التي أوى إليها موسى، فإذا هي شجرة خضراء، فأخذ جملي يأكل منها ثم لفظها. هـ «1» . وفي الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال في الدنيا، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
ثم بث شكواه لمولاه فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير فَقِيرٌ محتاج. قال ابن عباس: لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى في بطنه، من الهزال. قيل: لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام، وقد لصق بظهره بَطْنُهُ، وما سأل الله تعالى الأكلة. وفي هذا تنبيه على هوان الدنيا على الله تعالى. وقال ابن عطاء:
نظر من العبودية إلى الربوبية، وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار. هـ.
الإشارة: ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب، ومنتهى الرغائب- وهي الحضرة القدسية- قال: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، أي: وسط الطريق التي توصل إليها، وهو شيخ التربية. ولَمَّا ورد مناهله، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة، ويطلبون مثل ما يطلب، فإن كان قوياً في حاله وصل من كان ضعيفاً وسقى له، ثم نزل إلى ظل المعرفة، في نسيم برد الرضا والتسليم، قائلاً، بلسان التضرع، سائلاً من الله المزيد: ربِّ إني لما أنزلت إلي من خير الدارين، وغنى الأبد، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال في لطائف المنن: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة- يعني: نعمة الظل الحسي- وجعله أصلاً في استعمال الطيبات، وتناولها بقصد الشكر، ومثله في التنوير. وفي سنن أبي داود عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا» «2» ، قال ابن قتيبة: هي عَيْنٌ، بينها وبين المدينة يومان. هـ. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبى الحسن رضي الله عنه: (يا أبا الحسن، بَرِّد الماءَ فإن النفس إذا شربت الماد البارد حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن حمدت الله بكزازة) .
ثم ذكر اتصاله بشعيب، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 28]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
__________
(1) أخرجه ابن جرير (20/ 58) وذكره ابن كثير (3/ 384) .
(2) أخرجه أبو داود فى (الأشربة، باب فى إيكاء الآنية، ح 3735، 4/ 119) والحاكم (4/ 138) وبنحوه، أحمد فى المسند (6/ 100) .
والسقيا: منزل بين مكة والمدينة، على يومين من المدينة. انظر: النهاية فى غريب الحديث (سقا، 2/ 382) .(4/243)
قلت: (تمشي) : حال من (إحداهما) ، و (على استحياء) : حال من ضمير (تمشي) ، أي: تمشي مستحيية.
و (القصص) : مصدر، سُمِّيَ به المقصوص.
يقول الحق جلّ جلاله: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما وهي التي تزوجها، وذلك أنه لما سقى لهما رجعا إلى أبيهما بغنمهما بِطاناً حُفَّلاً، فقال لهما: ما أعجلكما؟ فقالتا له: وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: أدعيه، فجاءته تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قد سترت وجهها بكفها، واستترت بكُمِّ درعها. وهذا دليل على كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها، ولم تعلم أيجيبه أم لا؟ فقالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا، «ما» مصدرية، أي: أجر سُقْيَاك لنا، فتبعها موسى، فألزقت الريح ثوبها بجسدها، فوصفته، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي الطريق، فإننا بَني «1» يعقوب، لا ننظر إلى أعجاز النساء.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، أي: قصته وأحواله مع فرعون، وكيف أراد قَتْلَهُ، قالَ له:
لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فرعون وقومه إذ لا سلطان له على أرضنا- مدين-، أو: قَبِلَ الله دعاءك في قولك: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وفيه دليل على العمل بخبر الواحد، ولو أنثى، والمشي مع أجنبية على ذلك الاحتياط والتورع. قاله النسفي. وفيه نظر لعصمة الأنبياء- عليهم السلام-، وأما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل: لا بأس به عند الحاجة، كما كان لموسى عليه السلام، على أنه رُوي أنه لمّا قالت له: لِيَجْزِيَكَ كره ذلك. وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة.
ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع، فقال شعيب: ألست جائعاً؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سَقَيْتُ لهما، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا، ولا نأخذ على المعروف شيئاً، فقال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، فأكل «2» .
__________
(1) فى الأصول [بنو] .
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 238) لابن عساكر، عن أبى حازم.(4/244)
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، أي: اتخذه أجيراً لرعي الغنم. رُوي أن كبراهما كانت تسمى:
«صفراء» ، والصغرى: «صفيراء» ، وقيل: «صابورة» و «ليا» . وصفراء هي التي ذهبت به، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره، وهي التي تزوجها. قاله وهب بن منبه وغيره، فانظره مع ما في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: «تزوج صغراهما، وقضى أوفاهما» «1» . ويمكن الجمع بأن يكون زوّجه إحداهما ثم نقله إلى الأخرى.
ثم قالت التي طلبت استئجاره: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، فقال: ما أَعْلَمَكِ بقوته وأمانته؟
فذكرت نزع الدلو، أو رفع الحجر عن البئر، وأمْرها بالمشي خلفه. وفي رواية عند الثعلبي: أما قوته: فإنه عمد إلى صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلاً، فرفعها عن فم البئر. ثم ذكرتْ أمر الطريق. وقولها: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ.. إلخ: كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة، في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقيل: القوي في دينه، الأمين في جوارحه. وقد استغنت بهذا الكلام، الجاري مجرى المثل، عن أن تقول: استأجره لقوته وأمانته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا «2» ، وأبو بكر في استخلافه عمر.
قالَ شعيب لموسى- عليهما السلام-: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ: أُزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ، وقوله: هاتَيْنِ يدل على أن له غيرهما. وهذه مواعدة منه، لا عقد، وإلا لقال: أنكحتك. عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي أي: تكون أجيراً لي، من أجرته: إذا كنت له أجيراً ثَمانِيَ حِجَجٍ سنين، والحجة: السنة. والتزوج على رعي الغنم جائز في شرعنا، على خلاف في مذهبنا. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أي: عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ أي:
فذلك تفضلٌ منك، ليس بواجب عليك، أو: فإتمامه من عندك، ولا أحتمه عليك. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتم الأجلين. من المشقة، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة، والوفاء بالعهد، أو مطلقاً. وعلق بالمشيئة، مراعاة لحسن الأدب مع الربوبية.
قالَ موسى عليه السلام: ذلِكَ العهد وعقد الأجرة بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي: ذلك الذي قُلْتَهُ، وشارطتني عليه، قائم بيننا جميعاً، لا يخرج واحد منا عنه. ثم قال: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي: أيُّ الأجلين قضيت من
__________
(1) أي: تزوج صغرى البنتين، وقضى أوفى الأجلين، وهو عشر سنوات. وأما الحديث فقد أخرجه الخطيب فى تاريخ بغداد (2/ 128) .
عن أبى ذر. والجزء الثاني من الحديث أخرجه البخاري بلفظ: «قضى أكثرهما وأطيبهما» وانظر تخريجه فى الصفحة بعد التالية. [.....]
(2) كما فى الآية 21 من سورة يوسف.(4/245)
الأجلين: العشر أو الثماني، فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي: لا يتعدى عليّ في طلب الزيادة عليه، قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في إتمامهما، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذلك طلب الزيادة على الأقل. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي: رقيب وشهيد.
واختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين، أحدهما: أنه لا ينعقد إلا بشاهدين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: ينعقد بدون شهود لأنه عَقْدُ معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان، والإظهار بالدف والدخان ليتميز من السفاح، ويجب عند الدخول.
رُوي أن شعيباً كانت عنده عصِيّ الأنبياء- عليهم السلام-، فقال لموسى بالليل: ادخل ذلك البيت فخذ عصاً من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء- عليهم السلام- يتوارثونها، حتى وقعت إلى شعيب، فلما أخذها، قال له شعيب: ردها وخذ غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات. - وفي رواية السدي: أمر ابنته أن تأتيه بعصا فجاءته بها، فلما رآها الشيخ قال: آتيه بغيرها، فألقتها لتأخذ غيرها، فلا تصير في يدها إلا هي، مراراً، فرفعتها إليه، فعلم أن له شأناً. ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغتَ مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإن الكلأ، وإن كان بها أكثر، إلا أن فيها تنيناً، أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها، فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام، فإذا التنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامي، فلما أبصرها دامية، والتنينَ مقتولاً ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب بالغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، وأخبره موسى، فرح، وعلم أن لموسى شأناً، وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي، هذا العام، كُلَّ أَدْرَعَ وَدَرْعَاءَ- أي: كل جدي أبلق، وأنثى بلقاء- فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام: أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقى منه الغنم، فضرب، ثم سقى الأغنام، فوضعت كلها بلقاء، فسلمها شعيب إليه.
وذكر الإمام اللجائي في كتابه (قطب العارفين) : أن موسى عليه السلام انتهى، ذات يوم، بأغنامه إلى واد كثير الذئاب، وكان قد بلغ به التعب، فبقي متحيراً، إن اشتغل بحفْظ الغنم عجز عن ذلك لغلبة النوم عليه والتعب، وإن هو طلب الراحة، وثبَت الذئابُ على الغنم، فرمى السماء بطرفه، وقال: إلهي إنه أحاط علمك، ونفذت إرادتك، وسبق تقديرك، ثم وضع رأسه ونام. فلما استيقظ وجد ذئباً واضعاً عصاه على عاتقه، وهو يرعى الغنم، فتعجب موسى من ذلك، فأوحى الله إليه: يا موسى كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد. قال: فهذه إشارة تدل على أنّ:
مَنْ هَرَبَ مِنَ الله إلى الله كفاه الله، عزّ وجل، مَنْ دُونَهُ. هـ. والله تعالى أعلم.(4/246)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
الإشارة: فجاءته- أي: القلب- إحدى الخصلتين الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين: إن ربي يدعوك إلى حضرته ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي: وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال: لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما: يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال: إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب، على ان تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي: لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال: وما أريد أن أشق عليك. هـ.
ثم ذكر رجوع موسى إلى مصر، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ، قال صلى الله عليه وسلم: «قضى أبعدهما وأطيبهما» «1» ، وفي رواية: «أبرهما وأوفاهما» ، وَسارَ بِأَهْلِهِ أي: امرأته، نحو مصر، قال مجاهد: ثم استأذن موسى أن يزور
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد ح 2684) ، عن ابن عباس، موقوفا. وأخرجه البزّار (كشف الأستار 3/ 63) ، والحاكم فى (التفسير 2/ 407) ، والطبري (20/ 68) ، عن عكرمةُ، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر: الفتح السماوي (2/ 893- 894) .(4/247)
أهله بمصر، فأذن له، فسار بأهله فى البَرِّيَّةِ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن، في ليلة مظلمة شديدة البرد، وكان أخذ على غير طريق، يخاف ملوك الشام- قلت: ولعلهم كانوا من تحت يد فرعون- فأخذ امْرَأَتَهُ الطَّلقُ، فقدح زنده، فلم يور، فآنس من جانب الطور ناراً. هـ.
وقال ابن عطاء: لما تم أجل المحنة، [ودنت] «1» أيام الزلفة، وظهرت أنوار النبوة، سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه. هـ. آنَسَ أي: أبصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي: من الجهة التي تِلْوَ الطورِ ناراً، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لأنه كان ضل عنها، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي: قطعة وشُعلة منها، والجُذوة- مثلثة الجيم: العُود الذي احترق بعضه، وجمعه: «جِذّى» . لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها. والاصطلاء على النار سُنَّة المتواضعين. وفي بعض الأخبار: «اصطلوا» فإن الجبابرة لا يصطلون» .
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ بالنسبة إلى موسى، أي: عن يمين موسى، فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ بتكليم الله تعالى فيها، مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من «شاطئ» بَدَلَ اشتمالٍ، أي: من ناحية الشجرة، وهى العنَّاب، او العوسج «2» ، أو: سمرة «3» . وقال وهب: عُليقاً «4» . أَنْ يا مُوسى. أي: يا موسى، أو: إنه يا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، قال البيضاوي: هذا، وإن خالف ما في «طه» و «النمل» لفظاً، فهو طبْقُهُ في المقصود. هـ.
قال جعفر الصادق: أبصر ناراً، دلته على الأنوار لأنه رأى النور على هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس، وأحاطت به جلابيب الأنس، فخاطبه الله بألطف خطاب، واستدعى منه أحسن جواب، فصار بذلك مُكَلَّماً شريفاً، أُعْطِيَ ما سأل، وأمن ممن خاف. هـ.
قال القشيري: فكان موسى عند الشجرة، والنداء من الله لا منها، وقد حصل الإجماع أن موسى، تلك الليلة، سمع كلام الله، ولو كان النداء من الشجرة لكانت المتكلمة هي، فلأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء منها، وإلا فنحن نجوز أن يخلق الله نداء في الشجرة. هـ. قلت: وسيأتي في الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص، وما قاله- هو مذهب أهل الظاهر.
__________
(1) فى الأصول [ودنا] .
(2) شجر من فصيلة الباذنجيات، شائك الأغصان واحدته: عوسجة. انظر اللسان (4/ 2937. مادة عسج) .
(3) السمرة: شجرة من العضاه، وهى من جيد الخشب، والجمع سمر وسمرات. انظر اللسان (3/ 2092. مادة سمر) .
(4) العليق. شجر من شجر الشوك لا يعظم. وإذا نشب فيه شىء لم يكن يتخلص منه من كثرة شوكه. ولذلك سمى عليقا. انظر اللسان (4/ 3074. مادة علق) .(4/248)
ثم قال تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ، أي: نودي: أن ألقِ عصاكَ، فألقاها، فقلبها الله ثعباناً، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ حية رقيقة. فإن قيل: كيف قال في موضع: (كأنها جان) ، وفي أخرى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «1» ؟ قلت: هي في أول أمرها جان، وفي آخر أمرها ثعبان لأنها كانت تصير حية على قدر العصا، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان، أو: يُريد في سرعة الجان وخفته، وفي قوة الثعبان. فلما رآها كذلك وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع عقبه. فقيل له: يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، أي:
أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
واسْلُكْ: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ جيب قميصك تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها شعاع كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ برص. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، أي: الخوف، فيه لغات: «الرُّهبُ» ، بفتحتين، وبالفتح والسكون، وبالضم معه، وبضمتين. والمعنى: واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية، وعن ابن عباس رضي الله عنه: (كل خائف، إذا وضع يده على صدره، ذهب خوفه) «2» . وقيل:
المراد بضم يده إلى جناحه تجلده، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما.
فَذانِكَ أي: اليد والعصا، ومن شدد فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف، بُرْهانانِ أي: حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهاناً لإنارتها، من قولهم: بَره الشيء: إذا ابيض، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ: أي: بيضاء.
مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي: أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ: خارجين عن الحق، كافرين بالله ورسوله.
الإشارة: قد تقدم في سورة «طه» «3» بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله: فإن كان بإذن شيخه فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. قوله تعالى: وَسارَ بِأَهْلِهِ قال الورتجبي: افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ.
وقوله تعالى: آنَسْتُ ناراً قال الورتجبي: الحكمة في ذلك: أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار لاستئناسه بلباس [الاستئناس] «4» ، ولا تخلو النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حيث إرادته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
__________
(1) من الآية 143 من سورة الأعراف.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 207) .
(3) راجع المجلد الثالث، ص: 382- 383.
(4) فى الورتجبي: «الالتباس» .(4/249)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
وقوله تعالى: مِنَ الشَّجَرَةِ أي: نودي منها حقيقة إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف: الصوفي لتجرده، يشهد التالي كشجرة موسى، حيث أسمعه الله خطابه منها، بأني أنا اللهُ لا إِله إلاّ أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله، بلا واسطة، قد سقطت الوسائط في حقهم، حين غرقوا في بحر شهود الذات، فافهم. وقال في القوت: كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام، كلمة الله عز وجل منها، كما قال بعضهم: إن قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ «1» ، أي: بالجبل، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى، كشفه الله عنه، فتجلى به، كما قال: مِنَ الشَّجَرَةِ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر اعتذار موسى، وطلبه الإعانة بأخيه، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 35]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ موسى- لما كُلف بالرسالة إلى فرعون: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بها، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي: عوناً. يقال: ردأته:
أعنته. وقرأ نافع: بالتخفيف، يُصَدِّقُنِي: جواب الأمر، ومن رفعه جعله صفة لردء، أي: ردءاً مصدقاً لي.
ومعنى تصديقه: إعانته بزيادة البيان، في مظان الجدال، إن احتاج إليه ليثبت دعواه، لا أن يقول له: صدقت، ففضل اللسان إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان، وأما قوله: صدقت فسَحْبَانُ وبَاقِلٌ فيه مستويان. إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ في دعوى الرسالة.
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي: سنقويك به إذ اليد تشد بشدة العضد لأنه قوام اليد، فشد العضد كناية عن التقوية لأن العضد، إذا اشتد، قَوِيَ على محاولة الأمور، أي: سنعينك بأخيك، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً غلبة وتسلطاً وهيبة في قلوب الأعداء، فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما، بِآياتِنا بسبب آياتنا، القاهرة لهم عن التسلط
__________
(1) من الآية 107 من سورة الأعراف، ومن الآية 32 من سورة الشعراء.(4/250)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
عليكم، فالباء تتعلق بيصلون، أو: بنجعل لكما سلطاناً، أي: تسلطاً بآياتنا، أو: بمحذوف، أي: اذهبا بآياتنا، أو: هو بيان لغالبون، أي: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ، أي: المنصورون.
الإشارة: إذا اجتمع في زمانٍ نبيان، أو: وليان، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة، أو في السكر والصحو، فكان مُوسَى في غاية القوة، وأخوه في غاية الليونة، وكان موسى عليه السلام في أول الرسالة غالباً عليه الجذب، وأخوه غالباً عليه الصحو، فلذلك استعان به. قال الورتجبي: افهم أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق [وأسراره، بعبارة لا تكون بشيعة] «1» في موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «أن أفصح العرب» «2» ، و «بُعثتُ بجوامع الكلم» «3» . وهذه قدرة قادرية اتصف بها العارف المتمكن، الذي بلغ مشاهدة الخاص، ومخاطبة الخاص، وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان لأن كلامه، لو خرج على وزان حاله، يكون على نعوت الشطح، عظيماً في آذان الخلق، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة، التي كان مخصوصاً بها عن أخيه. هـ.
ثم ذكر عناد فرعون وتجبره، قال:
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 39]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا معجزاتنا التسع بَيِّناتٍ واضحات قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت، ثم تفتريه على الله، أو: سحر موصوف بالافتراء، كسائر أنواع
__________
(1) عبارة الورتجبي [وأسراره بعباده لا يكون شفيعة] .
(2) قال فى اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له. انظر: كشف الخفاء (1/ 232، ح 609) .
(3) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب قول النبي/ صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ح 2977) . [.....](4/251)
السحر، وليس بمعجزة من عند الله، وَما سَمِعْنا بِهذا، يعني: السحر، أو: ادعاء النبوة، فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، الجار: حال منصوبة بهذا، أي: ما سمعنا بهذا كائناً في آبائنا، أي: ما حُدِّثْنَا بكونه فيهم، ولا موجوداً في آبائهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، فيعلم أني محق، وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير:
«قال» بغير واو جواباً لمقالتهم. وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي: العاقبة المحمودة، فإن المراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأن الدنيا خلقت مَعْبراً ومجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها، بالذات، هو المجازاة على الأعمال فيها من الثواب الدائم، أو العقاب الأليم، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا، وحسن العاقبة في العقبى.
قال النسفي: قل ربي أعلم منكم بحال من أَهَّلَهُ الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً، وبعثه بالهدى، ووعده حُسْنَ العُقْبَى، يعني نفسه، ولو كان كما تزعمون، ساحراً، مفترياً، لما أَهَّلَهُ لذلك لأنه غني حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا ينبّئ الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ «1» . والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها: أن تختم للعبد بالرحمة والرضوان، ويلقى الملائكة بالبشرى والغفران. هـ.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، قصد بنفي علمه بإله غيره نَفِيَ وُجُودِهِ، أي:
مالكم إله غيري. قاله تجبراً ومكابرة، وإلا فهو مقر بالربوبية لقوله تعالى حاكياً عن موسى عليه السّلام: لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «2» ، ورُوي أنه كان إذا جن الليل، لبس المسوح وتمرغ في الرماد.
وقال: يا رب إني كذاب فلا تفضحني «3» .
ثم أَمَرَ ببنيان الصرح زيادة في الطغيان، بقوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي: اطبخ لي الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين: آجرّ لأنه أول من عمله، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي: قصراً عالياً، لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي: أصعد. فالطلوع والاطلاع: الصعود، إِلى إِلهِ مُوسى، حسب
__________
(1) من الآية 22 من سورة الرعد.
(2) من الآية 102 من سورة الإسراء.
(3) هذا رواية باطلة، فأولا: لا سند لها، فهى لا تصح، وثانيا: لأنها تناقض سلوك فرعون إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ومِنَ الْمُفْسِدِينَ وطبع الله على قلبه وانظر إلى السطر التالي من كلام الشيخ ابن عجيبة رحمه الله.(4/252)
الجاهل أنه في مكان مخصوص، كما كان هو في مكان، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي: موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في دعواه أن له إلهاً، وأنه أرسله إلينا رسولاً.
وهذا تناقض من المخذول، فإنه قال أولاً: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلهاً، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصا موسى فلبّس وقال: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى. رُوِي أنه لما أُمر وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامانُ العمال، خمسين ألف بنّاء، سوى الأتباع والأُجراء- فبنوا، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط، منذ خلق الله السموات والأرض. أراد الله أن يفتنهم فيه، فصعده فرعون وقومه، ورموا بُنُشّابة نحو السماء، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم، فقال: قد قتلنا إله السماء، فضرب جبريل الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون، فقتلت ألفَ ألفِ رجل، وقطعة على البحر، وقطعة في الغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك «1» . هـ.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ تعاظم فِي الْأَرْضِ أرض موسى بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق، بل بالباطل، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى، وهو المتكبر المتعالي، المبالغ في كبرياء الشأن، كما في الحديث القدسي:
«الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته» «2» ، أو: ألقيته في النار، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: بالبناء للفاعل. والباقي: للمفعول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها، من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء أنف، وقال: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل: للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى.
وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت قال تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى) ، ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر:
__________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 208- 209) . وقال القرطبي (6/ 5149) : والله أعلم بصحة ذلك.
(2) أخرجه أبو داود فى (اللباس، باب ما جاء فى الكبر، 4/ 350، ح 4090) وابن ماجه فى (الزهد، باب البراءة من الكبر، 2/ 1397، ح 4174) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، بلفظ: «ألقيته فى النار» وأخرجه مسلم- من حديث أبي سعيد الخدري، وأبى هريرة فى (البر والصلة، باب تحريم الكبر، 4/ 2023، ح 2620) بلفظ: «العز إزاره، والكبرياء رداؤه- فمن ينازعنى عذبته» .(4/253)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
تذلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عزة ... فكم عزة قد نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً، وَلَمْ تَكُنْ ... ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب، وهو التذلل والخضوع، كما قال القائل:
أدَبُ الْعَبْدِ تَذَلُّلٌ ... وَالْعَبْدُ لاَ يَدَعُ الأدَبْ
فَإذَا تَكَامَلَ ذُلّهُ ... نَالَ المودّة، واقترب.
ثم ذكر وبال مَن تكبر على الله، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 40 الى 42]
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
يقول الحق جلّ جلاله: فَأَخَذْناهُ فأخذنا فرعون وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم فِي الْيَمِّ في بحر القلزم، كما بيَّناه غير مرة. وفي الكلام فخامة تدل على عظمة شأن الأخذ، شبههم استحقاراً لحالهم، واستقلالاً لعددهم، وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ بكفه، فطرحهن في البحر. فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وحذّر قومك أن يُصيبهم مثل ما أصابهم، فإنهم ظالمون، حيث كفروا وأشركوا، وتَحَقَّقُ أنك منصور عليهم، كما نُصِرَ موسى على فرعون.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قادة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، أي: إلى عمل أهل النار من الكفر، والمعاصي، قال ابن عطاء: نزع عن أسرارهم التوفيق، وأنوار التحقيق، فهم في ظلمات أنفسهم، لا يدلون على سبيل الرشاد. وفيه دلالة على خلق أفعال العباد. هـ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم، كما يتناصرون اليوم، في دفع الظلم عنهم، وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة. وقيل: هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بَعْدَهُمْ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المعذبين، أو المهلَكِين المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. ويَوْمَ: ظرف للمقبوحين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عَاقِبَةُ منْ تكبر في دار العبودية: الذل والهوان، وعاقبة من تواضع، وذَل فيها: العز والأمان، وعاقبة من كان إماماً في المساوئ والعيوب: البُعد والحجاب، ومن كان إماماً في محاسن الخلال وكشف الغيوب:(4/254)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
العزُّ والاقتراب. قال القشيري على قوله: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً إلخ: كانوا في الدنيا مُبْعَدِين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طَرْدٍ، ومن هجرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراق. هـ.
ولما أغرقَ أهل الظلم والعناد، أنزل الهداية على أهل العناية والوداد، كما قال تعالى:
[سورة القصص (28) : آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط- عليهم السلام-، حال كون الكتاب بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنواراً لقلوبهم، يتبصرون الحقائق، ويُميزون بين الحق والباطل. فالبصيرة: عين القلب، الذي يبصر بها الحق، ويهتدى بها إلى الرشد والسعادة. كما أن البصر عين الرأس التي يُبصر بها الحسيات، أي: آتيناه التوراة، أنواراً للقلوب التي كانت عمياً لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل، وَهُدىً وإرشاداً إلى الشرائع لأنهم كانوا يخبطون في الضلال.
وَرَحْمَةً لمن اتبعها لأنهم، إذا عملوا بها، وصلوا إلى نيل الرحمة، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، أي: ليكونوا على حال يُرجَى منهم التذكر والاتعاظ. وبالله التوفيق.
الإشارة: إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب والأراذل. وأطيب عيش الأحباب إذا غابت عنهم الرقباء وأهل العتاب، فلما أهلك الله فرعونَ وجنوده، وأورث بني إسرائيل ديارهم، ومحى عن جميعها آثارهم، طاب عيشهم، وظهرت سعادتهم، وتمكنوا من إقامة الدين. وكذلك أهل التوجه إلى يوم الدين.
ثم ذكر دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، بعد ذكر قصة موسى لاشتراكهما فى شدة المعالجة، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كُنْتَ يا محمد بِجانِبِ المكان الْغَرْبِيِّ من الطور، وهو الذي كلم الله فيه موسى، وهو الجانب الأيمن. قال السهيلي: إذا استقبلت القبلة، وأنت بالشام، كان الجبل يميناً منك،(4/255)
غريبا، غير أنه قال في قصة موسى: جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ «1» ، وصفه بالصفة المشتقة من اليُمن والبركة، لتكليمه إياه فيه، وحين نفى عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك الجانب، قال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ، والغربي هو الأيمن. والعدول عنه، في حالة النفي للاحتراس من توهم نفى اليمن عنه صلى الله عليه وسلم، وكيف، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل بصفة اليُمن وآدم بين الماء والطين! فحسنُ اللفظِ أصل في البلاغة، ومجانبة الاشتراك الموهم: من فصيحِ بديعِ الفصاحة. هـ.
أي: وما كنت حاضراً بذلك الموضع، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، أي: كلمناه، وقربناه نجياً، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، أي: من جملة الشاهدين فتخبر بذلك، ولكن أعلمناك من طريق الوحي، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور، والمراد: الدلالة على أن إخباره بذلك من قِبَلِ الإخبار بالمغيبات التي لا تُعرف إلا بالوحي، ولذلك استدرك عنه بقوله:
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا بعد موسى قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، أي: طالت أعمارهم، وفترت النبوة، وانقطعت الأخبار، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فأرسلناك مُجَدِّداً لتلك الأخبار، مبيناً ما وقع فيها من التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها، فكأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فأخبرت به، بعد اندراسه.
وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيماً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، وهم شعيب والمؤمنون به، تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرؤها عليهم، تعلماً منهم، أو: رسولاً إليهم تتلوها عليهم بوحينا، كما تلوتها على هؤلاء، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك، فأخبرناك بها، وعلَّمناك إياها، فأخبرت هؤلاء بها، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى، أن خذ الكتاب بقوة، أو ناجيناه في أيام الميقات، وَلكِنْ علمناك وأرسلناك رَحْمَةً أي: للرحمة مِنْ رَبِّكَ، لِتُنْذِرَ قَوْماً جاهلية ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ في زمان الفترة التي بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو: بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعل من أُرْسِلْتَ إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال، فينزعُ ويرجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: المراد من هذه الآيات: تحقيق نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته الخاصة، وهي سُلَّم، ومعراج إلى معرفة الله تعالى لأنه الواسطة العظمى، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى، فمنه صلى الله عليه وسلم استمدت العلوم كلها علم
__________
(1) من الآية 52 من سورة مريم، والآية 80 من سورة طه.(4/256)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
الربوبية، من طريق البرهان، وعلمها من طريق العيان، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان، ومعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم ضرورية لا تحتاج إلى برهان، ويرحم الله القائل:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آيات مُبيِّنَة «1» ... لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ.
وقد تقدم في الأعراف «2» التنويه به، وذكر شرفه، وشرف أمته، قبل ظهوره، وإليه الإشارة هنا بقوله:
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، أي: إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، رُوي عن أبي هريرة أنه نُودي يومئذٍ من السماء: يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي، فحينئذٍ قال موسى- عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. هـ «3» .
وقال القشيري: أي: لم تكن حاضراً تتعلم ذلك مشاهدةً، فليس إلا تعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك.
ويقال: إذ نادينا موسى، وخاطبناه، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك، فكوْني لكم: خيرٌ لكم من كونِكم لكم، فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال، كما أنشدوا:
كُنْ لِي كَمَا كُنْتَ ... لي في حين لمْ أَكُنِ. هـ.
ويقال: لما خاطب موسى وكلمه، سأله موسى، إنه رأى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا، من هم؟ فقال: هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافاً كثيرة، فاشتاق إلى لقائهم، فقال له: ليس اليوم وقت حضورهم، فإن شئت أسمعناك كلامهم، فأراد ذلك، فنادى: يا أُمة محمد فأجاب الكل من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم، ثم لم يتركهم كذلك، بل زادهم من الفضائل لأن الغني إذا دعا فقيراً فأجابه لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. هـ.
وقال الطبري: معنى قوله: إِذْ نادَيْنا أي: بقوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ... الآية. هـ. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكمة إرساله. فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 50]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
__________
(1) فى الأصول [لو لم تكن له آية مبينة] .
(2) عند تفسير الآيتين: 156- 157.
(3) أخرجه ابن جرير فى التفسير (20/ 81) .(4/257)
قلت: (لولا) الأولى: امتناعية، وجوابها محذوف، اي: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك، محتجين علينا: (هلا أرسلت إلينا رسولاً..) إلخ لَمَا أرسلناك.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ، أي: عقوبة في الدنيا والآخرة، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والظلم، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدي، نسب الأعمال إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب تغليباً للأكثر على الأقل، فَيَقُولُوا عند نزول العذاب: رَبَّنا لَوْلا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يُنذرنا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فلولا احتجاجهم بذلك علينا لَمَا أرسلناك، فسبب الإرسال هو قولهم: هلا أرسلت.. إلخ.
ولما كانت العقوبة سبباً للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فدخلت «لولا» الامتناعية عليها، فرجع المعنى إلى قولك: ولولا قولهم هذا، إذا أصابتهم مصيبة، لما أرسلناك.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا القرآن المعجز، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، قالُوا أي: كفار مكة اقتراحاً وتعنتاً: لَوْلا: هلا أُوتِيَ من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ أُعطي مُوسى من اليد والعصا، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي: أبناء جنسهم، ومَنْ مَذهبهم على مذهبهم، وعنادهم مثل عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السّلام، قد كفروا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من قبل القرآن، قالُوا في موسى وهارون: سِحْرانِ «1» تَظاهَرا: تعاونا، أو: في موسى ومحمد- عليهما السلام- بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون: «سِحْران» بتقدير مضاف، أي: ذوَا سحر، أو: جعلوهما سحريْن مبالغة في وصفهما بالسحر. وَقالُوا أي: كفرة موسى وكفرة محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا بِكُلٍّ بكل واحد منهما كافِرُونَ.
وقيل: أن أهل مكة، لمّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فقد كفروا بموسى وبالتوراة، وقالوا في محمد صلى الله عليه وسلم وموسى: ساحران تظاهرا، أو في التوراة والقرآن: سحران تظاهرا، أو: ذلك حين بَعَثُوا الرهط إلى رؤساء اليهود
__________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: «سحران» بكسر السين وسكون الحاء، بلا ألف، وقرأ الباقون: «ساحران» بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء ... انظر: الإتحاف (2/ 344) .(4/258)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
يسألونهم عن محمد، فأخبروهم أنه في كتابهم، فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: «1» سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ.
قُلْ لهم: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى، ومما أنزل عليَّ، أَتَّبِعْهُ: جواب: فأتوا، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنهما ساحران، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي: لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه بغير هدى، أي: بغير اتباع شريعة من عند الله. وبِغَيْرِ هُدىً: حال، أي: مخذولاً، مُخَلاً بينه وبين هواه، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والتقليد. وبالله التوفيق.
الإشارة: لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا: لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم: قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي: بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
ثم ذكر حكمة تفريق القرآن، ردا على من قال: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من إنزاله جملة، فقال:
[سورة القصص (28) : آية 51]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
قلت: يقال: وصلت الشيء: جعلته موصولاً بعضه ببعض، ويقال: وصلت إليه الكتاب: أبلغته.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ أي: لقريش ولغيرهم، الْقَوْلَ القرآن، أي: تابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء إلى الإسلام. قاله ابن عطية. وقال ابن عرفة اللُّغَوِي: أي:
أنزلناه شيئاً بعد شيء، ليصل بعضه ببعض، ليكونوا له أوعى. هـ. وتنزيله كذلك ليكون أبلغ في التذكير ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، يعني: أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً وعداً، ووعيداً، وقصصاً، وعِبَراً، ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل: معنى وصلنا: أبلغنا. وهو أقرب لتبادر الفهم، وفي البخاري: أي: «بيّنا وأتممنا» «2» . وهو عن ابن عباس.
وقال مجاهد: فصّلنا. وقال ابن زيد: وَصَلْنَا خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا.
__________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 212) .
(2) ذكره البخاري فى (التفسير- سورة القصص، 8/ 365 فتح) .(4/259)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
الإشارة: تفريق المواعظ في الأيام، شيئاً فشيئاً، أبلغ وأنفع من سردها كلها في يوم واحد. وفي الحديث:
«كان صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بالموعِظَةِ، مَخَافَة السآمة علينا» «1» ، والتخول: التعاهد شيئاً فشيئاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من آمن به وعرف قدره، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
قلت: (الذين) : مبتدأ، (وهم به) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي: القرآن يُؤْمِنُونَ، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، أو: النجاشي وقومه، أو: نصارى نجران، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهم عشرون رجلاً، فآمنوا به. قال ابن عطية: ذكر هؤلاء مُبَاهياً بهم قريشاً. هـ. أي: فهم الذين يُقدرون قدر هذا الكتاب المنزل لِمَا معهم من العلم الذي ميزوا به الحق، ولذلك قال: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا لِمَا عرفوا في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن، أو: من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام، مومنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقوله: إِنَّهُ: تعليل للإيمان به لأن كَوْنَهُ حقاً من عند الله حقيق بأن يُؤْمَنَ به. وقوله: إِنَّا: بيان لقوله: آمَنَّا لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد أو بعيده، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيمان بالتوراة، والإيمان بالقرآن، أو: بصبرهم على الإيمان بالقرآن، قبل نزوله وبعده، أو: بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفي الحديث: «ثلاثةٌ
__________
(1) أخرجه البخاري فى (العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة.. ح 68) ، ومسلم فى (صفات المنافقين، باب الاقتصاد فى الموعظة، 4/ 2172، ح 2821) من حديث سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(4/260)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأعتقها وتزوجها» «1» .
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة، يدفعون الأذى بالسِلم، والمعصية بالطاعة. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون، أو يزكون، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ الباطل، أو الشتم من المشركين، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا للاغين: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمان منا عليكم، لا نقابل لغوكم بمثله، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، أو: لا نبتغي دين الجاهلين، أو محاورة الجاهلين وجدالهم، أو: لا نريد أن نكون جهالاً.
وفي السَير: أن أصحاب النجاشي لَمَّا كلمهم جعفر رضي الله عنه في مجمع النجاشي، بَكَوْا، ووقر الإسلام في قلوبهم، فقدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقرأ عليهم القرآن، فأسلموا، وقالوا: آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا.. الآية. فلما خرجوا من عنده صلى الله عليه وسلم استقبلتهم قريش فسبوهم، وقالوا: ما رأينا قوماً أحمق منكم، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل، فقالوا لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. إلخ «2» .
الإشارة: مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهوال النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو- وهو كل ما يشغل عن شهود الله- ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
ولما حرص صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه، نزل:
[سورة القصص (28) : آية 56]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
__________
(1) أخرجه البخاري فى (العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله ح 97) ، ومسلم فى (الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، 1/ 134، ح 241) من حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه. [.....]
(2) عزاه ابن كثير فى تفسيره (3/ 394) لمحمد بن إسحاق فى السيرة.(4/261)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّكَ يا محمد لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، أي: لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم، يعني: أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق، ولو كان أكمل الخلق. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يخلق الهداية في قلب من يشاء، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج: اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم، وتَدعُها لنفسك!» فقال: ما تريد يا ابن أخي؟
فقال: «أُريدُ منك أن تقُول: لا إله إلا الله، أشْهَدُ لَكَ بِهَا عند اللَّهِ» . فقال: يا ابن أخي أنا قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. هـ. وفي رواية قال: (لولا أن تُعيرني نساء قريش، ويقلن: إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك) «1» . وفي لفظ آخر عند البخاري: قال له: «يا عم، قُل: لا إله إلا الله، أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عند الله» . فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب، فنزلت الآية «2» .
وفيها دليل على المعتزلة لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة: الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته، كتب شيخ أشياخنا، سيدي «أحمد بن عبد الله» ، إلى شيخه، سيدي «أحمد بن سعيد الهبري» يشكو له ابنه حيث لم ير منه ما تَقَرُّ بِهِ عينه، فكتب إليه: أخبرني: ما الذي بَنَيْتَ فيه؟ دع الدار لبانيها، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. هـ. وفي اللباب- بعد كلام-: قد رضي الله على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «3» الآية.
__________
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، 1/ 55، ح 42) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة القصص، ح 4772) ، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (1، 54، ح 39) ، من حديث سعيد ابن المسيب رضي الله عنه.
(3) الآية 125 من سورة الأنعام.(4/262)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وهذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، والحكم عام في كل أحد، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل، حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة، ولم يَحْتَجْ لوسيلة، وليس له في ذلك نظر، بل سابقة السعادة أيدته، والخصوصية قرَّبته، ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آرز، أو بيد محمد صلى الله عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب، جذبت العنايةُ سلمان من فارس، وصاحت على بلال من الحبشة، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع، وضر ونفع. هـ.
ولما دعى صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، تعللوا بعلل واهية، كما قال تعالى:
[سورة القصص (28) : آية 57]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
قلت: (رزقاً) : حال من (الثمرات) لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى لأن معناه: نرزق، أو:
مفعول له.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى وندخل مَعَكَ في هذا الدين نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي: تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا. نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردَّ الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم؟ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟
يُجْبى «1» إِلَيْهِ، أي: تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ: الكثرة كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «2» ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، ونعمة من عندنا، وإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد؟
__________
(1) قرأ نافع وأبو جعفر: «تجبى» بالتاء من فوق، وقرأ الباقون: «يجبى» . بالياء من تحت. انظر الإتحاف (2/ 345) .
(2) من الآية 23 من سورة النمل.(4/263)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: جهلة، لا ينفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته، إن أسلموا. وقيل: يتعلق بقوله: مِنْ لَدُنَّا، أي: قليل منهم يتدبرون، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول: إن دخلنا في طريق القوم رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم: أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم خوفهم بقوله:
[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)
قلت: «كم» : منصوب بأهلكنا. والبطر: الطغيان عند النعمة. قال في القاموس: البَطَر- محركة: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل: كفرح. هـ. و (معيشتها) : نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي: في معيشتها. وجملة (لم تسكن) :
حال، والعامل فيها: الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ، أي: كثيرا أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها بَطِرَتْ في مَعِيشَتَها، أي: طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري: لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية، أو: فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى، أي: لم يسكنها إلا المسافر، أو مار(4/264)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
بالطريق يوماً أو ساعة، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من سكانها، أي: لا يملك التصرف فيها غيرنا.
وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل: إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله فيه بالهلاك، وأما متبع الهدى فهو آمن والعاقبة له.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى بذنب حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها، أي: القرية التي هي أصلها ومعظمها لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو: ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة لأن الأرض دُحِيت من تحتها. رَسُولًا يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا القرآن، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ، أي: وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا، ولذلك حقّر الله تعالى شأنها، حيث قال:
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 62]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
قلت: «ما» : شرطية، وجملة: (فمتاع..) إلخ: جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زهرة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي:
ايُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياماً قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، وَما عِنْدَ اللَّهِ من النعيم الدائم في الدار الباقية ثواباً لأعمالكم خَيْرٌ من ذلك لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة.(4/265)
وَأَبْقى لأنه دائم لا يفنى، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي خير من الفاني، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتربى، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية) . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ لما سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ» «1» . رواه الترمذي.
ثم قرر ذلك بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً، وهو الجنة إذ لا شيء أحسن منها، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم، ولأنها دائمة، ولذا سميت الحسنى، فَهُوَ أي: الوعد الحسن لاقِيهِ ومدركه، لا محالة، لامتناع الخلف في وعده تعالى، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب، مستعْقب بالفناء والانقطاع، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعقاب، أو: من الذين أُحضروا النار.
والآية نزلت في المؤمن والكافر، أو: في رسول صلى الله عليه وسلم وأبي جهل «2» - لعنه الله-، ومعنى الفاء الأولى: أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ أي: أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة؟ والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و «ثم» : لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ: «ثم هْو» بالسكون، شبه المنفصل بالمتصل، كما قيل في عضد- بسكون الضاد-.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ يوم ينادي الله الكفارَ، نداء توبيخ، فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ في زعمهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركائي، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ، وفي حديث آخر: «ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به» «3» . بالمعنى. فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء فى هوان الدنيا على الله، 4/ 485 ح 2320) ، وابن ماجه فى (الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1376، ح 4110) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2) أخرجه الطبري (20/ 97) عن مجاهد.
(3) أخرجه مسلم بنحوه فى (الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، 4/ 2193، ح 2858) من حديث المستورد أخى بن فهر رضي الله عنه.(4/266)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
والأحزان والمتاعب. وقد كتب عليّ بن أبي طالب إلى سلمان- رضي الله عنهما-: «إنما مثل الدنيا كمثل الحية، لَيِّن مسها، قاتل سمها، فأعرض عنها، وعما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسرّ ما تكون منها، احذر ما تكونُ منها، فإن صاحبها، كلما اطمأن فيها إلى سرور، أشخص منها إلى مكروه» .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها- أي: لأنهما لا يدومان- ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى- أي: الهلاك- وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين. هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا إلتاط منها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعُنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفك عذابها، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره» .
ثم ذكر مآل من اغتر فيها، قال:
[سورة القصص (28) : الآيات 63 الى 67]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)(4/267)
قلت: «هؤلاء» : مبتدأ. و «الذين» : صفته، والعائد: محذوف، و «أغويناهم» : خبر. والكاف في «كما» : صفة لمصدر محذوف، أي: أغويناهم غياً مثل ما غوينا، و «لو أنهم» : جوابه محذوف، أي: لما رأوا العذاب.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بالعذاب، وثبت مقتضاه، وهو قوله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «1» ، وهم الشياطين، أو: أئمة الكفر: ورؤساء الكفرة: رَبَّنا هؤُلاءِ الكفرة الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ أي: دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم، قد غَووا غياً كَما مثل ما غَوَيْنا يقولون: إنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب، وهذا كقوله: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ... إلى قوله: وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ... «2» .
ثم قالوا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم فيما اختاروه من الكفر، ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ، بل كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شهواتهم. فَتَحَصَّلَ من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غَرُّوا الضعفاء، وتبرءوا من أن يكونوا آلهتهم، فلا تناقض. انظر ابن جزي. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين للجملة الأولى.
وَقِيلَ للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي: الأصنام «3» لتُخلصكم من العذاب، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، فلم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة. وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لَمَّا رأوا ذلك العذاب، وقيل: «لو» للتمني، أي: تمنوا أنهم كانوا يهتدون.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ الذي أُرسلوا إليكم؟ أي: بماذا أجبتموهم؟ وهو أعلم بهم. حكي، أولاً، ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما تقوله الشياطين، أو: أئمة الكفر عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين، أو الرؤساء، استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم.، ثم ما يُبَكَّتُونَ به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. قال تعالى:
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار. وقيل: خفي عليهم الجواب، فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب.
__________
(1) الآية 119 من سورة هود.
(2) من الآية 22 من سورة إبراهيم.
(3) وكذلك كل ما أشرك مع الله.(4/268)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قال البيضاوي: وأصله: فعموا عن الانباء، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء: ما أجابوا به الرسل، أو: ما يعمها وغيرَها، فإذا كانت الرسل يتلعثمون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من البُهم؟. هـ.
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة، أو: عن العذر والحجة، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بربه وبمن جاء من عنده، وَعَمِلَ صالِحاً أي: جمع بين الإيمان والعمل، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم.
و «عسى» ، من الكِرام، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام، وترغيب للكافرين في الإيمان. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال الذين حق عليهم القول بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم: ربنا هؤلاء الذين أغوينا زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم: ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنباء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن الله تعالى بعض صفاته الحسنى، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يقول الحق جلّ جلاله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ، لا موجب عليه، ولا مانع له، وفيه دلالة على خلق الأفعال. وَيَخْتارُ ما يشاء، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي: وظاهره: نفي الاختيار عنهم رأساً،(4/269)
والأمر كذلك عند التحقيق فإنّ اختيار العبد مخلوق لله، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها، وقيل: المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه، فلذلك خلا عن العاطف، يعني قوله: ما كانَ.. إلخ، ويؤيده: ما رُوِيَ أنه نزل في قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» هـ. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي: ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما، وله الخيرة عليهم. والخيرة: من التخير، تستعمل مصدراً بمعنى التخير، وبمعنى المتخيّر، ومنه: محمد خيرة الله من خلقه، ولم يدخل العاطف في ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ لأنه مقرر لِمَا قبله، وقيل: «ما» :
موصولة، مفعول بيختار، والراجع إليه: محذوف، أي: ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. هـ. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال، ويجاب: بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
سُبْحانَ اللَّهِ، أي: تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، أي: تعاظم عن إشراكهم، أو: عن مشاركة ما يُشركون به.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ: تُضمر صُدُورُهُمْ من عداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام- وحسده، وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة. وَهُوَ اللَّهُ المستأثر بالألوهية المختص بها، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، تقرير له، كقولك: الكعبة قبلة، لا قبلةَ إلا هي. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أي:
في الدنيا، وَالْآخِرَةِ لأنه المُولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «3» ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» ، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
الإشارة: في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم: «أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك» .
وقال سهل رضي الله عنه: ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم: هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحبه تصميم بأن كان عَزْمه محلولا،
__________
(1) الآية 31 من سورة الزخرف، وانظر تفسير البغوي (6/ 218)
(2) من الآية 34 من سورة فاطر. [.....]
(3) من الآية 74 من سورة الزمر.
(4) الآية 75 من سورة الزمر.(4/270)
أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به. قال القشيري- بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى: لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيار العبد عليه غيرُ مُبَارَكٍ له لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم:
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم «1» ... لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار «2» والاختيار؟! وما للملموك والمِلْك؟! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك؟! قال تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ. هـ. وقال آخر في هذا المعنى:
العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ ... والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ
والخيرُ أجمعُ: فيما اختار خالقنا ... وفي اختيارِ سواه: اللومُ والشُّومُ.
فإذا علمت، أيها العبدُ، أن الحق تعالى هو الذي يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل: العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى «3» . قال اللجائي فى
__________
(1) فى القشيري: ومعان إذا ادعاها سواه ...
(2) أي: الذي اختاره الله..
(3) قلت: هذه منزلة، وهناك منزلة أعلى وأحلى، نفهمها إذا قررنا أصلا، وهو: أن حكم الله واختياره، ثلاثة أنواع:
الأول: حكم الله الديني، الشرعي، واختياره، ومراده الديني.. وهذا موقفنا منه الخضوع والتسليم، والرضا والقبول، والعمل.
الثاني: حكم الله الكونى، القدري، الذي لا اختيار لنا فيه، كمصيبة الموت، وجائحة فى مال، وإذاية ظالم لا نقدر عليه، وما أشبه ذلك، وهذا موقفنا منه التسليم، والصبر، وفوقه: الرضا بهذا القضاء، الذي لا اختيار لنا فيه.
الثالث: حكم الله الكونى القدري، واختياره الكونى القدري- الذي لنا فيه قدرة واختيار، كمرض يمكن دفعه بالدواء، وفقر يمكن دفعه بالتكسب وطلب الغنى، وهزيمة يمكن دفعها بالجهاد والكفاح.. إلخ، وهذا موقفنا منه: هو المنازعة، والمبالغة، والمدافعة، وانتبه معى لقول سيدنا عبد القادر الجيلاني- الشيخ القدوة، العارف، قال ما ملخصه: (الناس إذا ذكر القدر أمسكوا، إلا أنا، فقد انفتحت لى فيه روزنة [طاقة- نافذة] فنازعت أقدار الحق، بالحق، للحق) . فهذا فى النوع الثالث من حكم الله واختياره، ننازعه، بالحق، للحق، والشيخ القدوة، لم يبتدع ذلك، وحاشاه، رحمه الله وقدس روحه- بل هو انتزعه من حديث نبوى شريف، أخرجه أحمد فى المسند (2/ 421) والترمذي فى (الظب، باب 21، 4/ 349، ح 2065) وابن ماجه فى (الطب، باب 1، 2/ 1137، ح 3437) من حديث أبى خزامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت [يعنى: أخبرنا عن]- رقىّ نسترقيها، وأدوية نتداوى بها: أترد من قدر الله؟ قال: «هي من قدر الله» الله أكبر: فقدر المرض، ننازعه بقدر العلاج والدواء، وقدر الفقر المالى ننازعه بقدر الكسب وإصلاح المال، وقدر الهزيمة ننازعه بقدر الجهاد والاستعداد، وقدر التخلف الحضارى ننازعه بقدر الفعالية الحضارية، وقدر انتشار الوباء كالطاعون، والكوليرا- ننازعه بقدر الاحتماء، والتطعيم العام.. إلخ، كما فعل سيدنا عمر: مع طاعون الشام، فلم يدخل الشام- عند ما سمع بانتشار الطاعون فيها، وكان ذاهبا إليها، فقيل له: أتفر من قدر الله؟! قال: (نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فالمؤمن العارف يصول بالحق للحق.(4/271)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
كتاب قطب العارفين: الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعا، وهى أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ.. الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.
ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قلت: (سرمداً) : مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي: التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه: فعْمَل.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائماً بإسكان الشمس تحت الأرض، أو: بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، وحقه: هل إله غير الله، وعبّر ب «مَن» على زعمهم أن غيره آلهة، أي: هل يقدر أحد على هذا؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء، أو: بتحريكها فوق الأفق فقط، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال؟ ولم يقل: بنهار(4/272)
تتصرفون فيه، كما قال: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، بل ذكر الضياء، وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، وليس هو التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس هو بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء.
أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون معناه: لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: ولكي تعرفوا نعمة الله فى ذلك فتشركوه عليها.
ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وكرر التوبيخ على الشرك ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي: أعاد هذا لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «1» ، ويحتمل: ولا يكلمهم بعد قوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «2» أو: ولا يكلمهم كلام رضا. هـ «3» .
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه لأن الأنبياء شهداء على أممهم، فَقُلْنا للأمم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، فَعَلِمُوا حينئذٍ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهر البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم: «بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه» . وقال فارس رضي الله عنه: القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط يقعان في الوجود، وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
__________
(1) من الآية 174 من سورة البقرة.
(2) من الآية 108 من سورة المؤمنون.
(3) بتصرف.(4/273)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
ولما قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ذكر من متّعه بها وغرته، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قلت: «قارون» : غير مصروف للعجمة والتعريف، ولو كان «فاعولاً» من قرنت الشيء، لا نصرف لخروجه عن العجمة. إِذْ قالَ: ظرف لبَغَى، أي: طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو: يتعلق بمقدر، أي: أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه: لا تفرح. و «ما» : موصولة، و «إنَّ مفاتحه» : صلته، ولذلك كسرت.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى «المنور» لحُسن صورته «1» ، وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري. فَبَغى عَلَيْهِمْ، من البغي، أي: الظلم: قيل: ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو: من البغي، أي: الكبر، أي: تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما الذي إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي: إن مقاليده لَتَنُوأُ أي: تثقل بِالْعُصْبَةِ، الباء للتعدية، يقال: ناء به الحمل: أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود، أي: مغاليقها.
وقيل: معنى تنوء: تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل: وسميت أمواله كنوزاً لأنه كان لا يؤدى زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ لا تبطر بكثرة المال فرَح إعجاب لأنه يقود إلى الطغيان. أو: لا تفرح بالدنيا إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ: البطرين المفتخرين بالمال، أو: الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي: الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 398- 399) .(4/274)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
والرضا بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة، يوجب التوخي «1» لا محالة، كما قيل:
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرورٍ ... تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم، وتصرفه في أنواع الخير، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل: معناه:
واطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات، أي: لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة، وَأَحْسِنْ إلى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم به عليك، أو: أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها، بل الفرح بكل ما يَفنِي: كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء: الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل، يسري في العروق، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة، وهذا هو موت القلب، والعياذ بالله، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها، وعودوا الصبر عن شهواتها، حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب، وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عُذّب، فخلَصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. هـ.
وقال يُمْن بن رزق: اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب: أنْسُ القلب بالوحدة. هـ. قلت: وهذا مذهب العباد والزهّاد، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر جواب قارون، فقال:
[سورة القصص (28) : آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
__________
(1) فى البيضاوي: [الترح] وهو أنسب بالسياق،. ولعل ما فى أعلى تصحيفا عن: التوقي، أي: الحذر والتحوط.(4/275)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ أي: المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي: على استحقاق مني، لِمَا فيّ من العلم الذي فَضلت به الناس، وهو علم التوراة، وكان أعلم الناس به بعد، موسى وهارون، وكان من العباد، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعاً في صومعة للعبادة، فصحبة إبليسُ على العبادة، واستمر معه على ذلك، وهو لا يشعر، إلى أن ألقى إليه: إن ما هما عليه، من الانقطاع عن التكسب، وكون أمرهما على أيدي الناس، ليس بشيء، فرده إلى الكسب بتدريج، إلى أن استحكم فيه حب الدنيا والجمع والمنع، ثم تركه. هـ. وقيل: المراد به علم الكيمياء، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو: العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة، أو: العلم بكنوز يوسف «1» .
قال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، أي: أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو: نفيٌ لعلمه بذلك لأنه لَمَّا قال: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قيل له:
أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين.
وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، لعلمه تعالى بعملهم، بل يُدخلهم النار بغتة. أو: يعترفون بها بغير سؤال، أو: يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو: لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بما قبله، والضمير في (ذنوبهم) عائد على من أهلك من القرون، أي: أُهلكوا، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، بل كل أحد إنما يُعاتب على ما يخصه. هـ. وإذا قلنا هو في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون، ويومُ القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه، أو لحوله وقوته، أو لكسبه ومجاهدته، بل يشهدها منَّةً من الله عليه، وسابق عناية منه إليه، قال سهل رضي الله عنه: ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل رؤية منة الله عليه، في جميع الأفعال والأقوال. والشقي مَنّ زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحواله، ولأفتح له سبيل رؤية منة الله عليه، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون، لَمّا ادعى لنفسه فضلاً. هـ.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 399- 400) وتفسير البغوي (6/ 222) .(4/276)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
ثم قال تعالى:
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
قلت: (في زينته) : حال، (ويْكَأنه) : مذهب الخليل وسيبويه: أن «وي» : حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة: «ويك» هي «ويلك» حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة: «ويكأن» بجملتها: كلمة. قاله الثعلبي، وقال البيضاوي: ويكأن، عند البصريين، مركب من: «وي» للتعجب، و «كأن» ، للتشبيه. هـ. وقال سيبويه: «وي» : كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
يقول الحق جلّ جلاله: فَخَرَجَ قارونُ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قال جابر: كانت زينته القرمز، وهو صبغ أحمر معروف. قيل: إنه خرج في الحمرة والصفرة، وقيل: خرج يوم السبت على بغلة شهباء، عليها الأرْجُوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والديباج.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، قيل: كانوا مسلمين، وإنما تمنوا، على سبيل الرغبة في اليسار، كعادة البشر، وقيل: كانوا كفاراً، ويرده قوله: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا.. إلخ. يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال والجاه، قالوه غِبْطَةً. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له، دونه. وهو كقوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «1» ، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضر الغبطة؟ فقال: «لا..» الحديث «2» . إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا، والحظ: الجَدُّ، وهو البخت والدولة.
__________
(1) من الآية 32 من سورة النساء.
(2) لفظ الحديث: سأل صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ قال: «لا، إلا كما يضر العضاة الخبط، قال ابن حجر فى الكافي: ذكره ثابت السرقسطي فى الغريب، هكذا بغير إسناد. انظر الكافي الشاف على هامش الكشاف (3/ 432) .(4/277)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا، أو: أوتوا العلم بالله، فيؤخذ منه: أن متمني الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس إذ لا يتمناها إلا المحب لها، وهي رأس الفتنة. فأيّ علم يبقى مع فتنة الدنيا؟! قالوا في وعظهم لغابطي قارون: وَيْلَكُمْ هلاكاً لكم، فأصل ويلك: الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع على ترك ما لا يرضى. وقال في التبيان في إعراب القرآن: هو مفعول بفعل محذوف، أي: ألزمتكم الله ويلكم، ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة، خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً مما أوتي قارون، بل من الدنيا وما فيها، وَلا يُلَقَّاها أي: لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، إِلَّا الصَّابِرُونَ. أو: لا يلقى هذه القوة والعزيمة في الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا.
وفي حديث الترمذي: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك اللباس- أي: الفاخر- تواضعاً لله تعالى، وهو يَقْدِرُ عليه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا» «1» . وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال بيتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ» «2» . أي: ليس معه إدام.
قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، كان قارون يؤذى موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه: على كل ألف دينار دينارٌ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ، فحاسبه فاستكثره، فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال له: قد أطعتم موسى في كل شيء، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت، قال: نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار، أو: طستاً من ذهب، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه، فقال قارون: وإن كنتَ أنتَ؟ قال: وإن كنتُ أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت: جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال: اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه: مُر الأرض بما شئت فيه، فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل: إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة، باب 39، 4/ 561 ح 2481) ، والحاكم فى المستدرك (1/ 61) وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث معاذ بن أنس. [.....]
(2) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 62) ، والترمذي وصححه فى (الزهد، باب 30، 4/ 494، ح 2341) من حديث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجلف الخبز» أي: ليس معه إدام. انظر: النهاية فى غريب الحديث (1/ 87) .(4/278)
مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعاً غير رَجُلَيْن. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارونُ وأصحابه يتضرعون إلى موسى، ويناشدونه بالله وبالرحم، وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم. فقال الله تعالى: يا موسى استغاث بك مراراً فلم ترحمه، فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته «1» .
رُوي أنه يخسف كل يوم قامة، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال بعض بني إسرائيل: إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً، أي: لا آمرها تطيع أحداً بعدك.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يمنعونه من عذاب الله، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من عذاب الله، أو: من المنتقمين من موسى.
وَأَصْبَحَ أي: وصار الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي: منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ: متعلق بتمنوا. ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت القريب، استعارة. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي: أعجب مما صنع بقارون، لأن الله يبسط الرزقَ لمن يشاء، وهو عنده ممقوت، وَيَقْدِرُ أي:
يُضيقه على من يشاء، وهو عنده محبوب. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بصرف ما كنا نتمناه بالأمس، لَخَسَفَ بِنا معه، كما فعل بالرجلين، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي: اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضي: كأن المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون، فقال له: عجباً منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: إنه لا يفلح الكافرون، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز: ويكأن الله معناه: ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري «2» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف سيدي عبد الرحمن بن يوسف اللجائي في كتابه: اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه.
__________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 224) وانظر تفسير ابن كثير (3/ 401) .
قلت: وهذه الرواية تجعل سبب الخسف بقارون هو غضب سيدنا موسى لنفسه، لكن القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة تبرهن على أن سبب الخسف به هو التكبر على الله تعالى، والتكبر على الناس.
(2) انظر فتح الباري (كتاب التفسير، سورة القصص، باب. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ 8/ 369) .(4/279)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عزّ وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لا حق بالذين تمنوا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين فإن القلب إذا لم يقنع- لو ملك الدنيا بحذافيرها- لم يشبع. وقال بعض الحكماء: القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا:
إن كنت تسّموا إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا ... فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا ... وَسَخَّرَ النَّاسَ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه ... وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ ... ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ والطّين
ثم ذكر عاقبة المتواضعين، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قلت: (تلك) : مبتدأ، و (نجعلها) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي: تلك الدار التي سمعت بذكرها، وبلغك خبرها.
ومعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي: تكبراً وقهراً كحال فرعون، وَلا فَساداً عملاً بالمعاصي، أو: ظلماً على الناس، كحال قارون، أو: قتل النفس، أو:
دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك(4/280)
بالفعل أم لا. وعن على رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها.
وعن الفضيل: أنه قرأها، ثم قال: ذهبت الأمانى هاهنا. وعن عمرُ بنُ عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه الله من العلو والفساد وغير ذلك.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتاً وقدراً ووصفا، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ما لا يرضاه الله تعالى، فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، أصله: فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة: جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة- وهي الوصول إلى الحضرة- للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم: «ادفن نفسك في أرض الخمول فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ» . قال في التنبيه: لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هو مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.
وكان شيخ شيخنا يقول: نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. هـ.
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه: ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت: ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقفرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال: ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه. هـ.
قلت: وهذا مقام من المقامات، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شيء إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، (مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ) . والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق. «1»
__________
(1) من مناجاة سيدى ابن عطاه الله السكندرى، انظر الحكم بتويب المتقى الهندي/ 42.(4/281)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
ثم ذكر عاقبة سيد المتقين، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قلت: (ولا يصدنك) : مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله، لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عظيم، وهو المعاد الجسماني لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو: لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد لغلبته- عليه الصلاة والسلام- ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية، ولكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة «1» ، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبى صلى الله عليه وسلم لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أي: يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى يوحي إِلَيْكَ الْكِتابُ أي: القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، لكن ألقاه إليك رحمة منه
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 402- 403) .(4/282)
إليك، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى، كأنه قال: وما أُلْقِيَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً من ربك، فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً معيناً لِلْكافِرِينَ على دينهم بمُداراتهم والتحمل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ أي: لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي: بعد وقت إنزالها، وإِذْ: مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ ويَومَئذٍ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، نهاه تنفيراً لغيره من الشرك.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي: وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ: استئناف، مقرر لِمَا قبله، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي: كل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية: إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. هـ. وقال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في خلقه، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها: إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا، لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية فيقولون:
رَبِّي أَعْلَمُ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي: لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي: إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي: معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه: إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى ... إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ، دون اللهِ، إنْ حَققتَهُ، ... عَدم عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ، والعَوالِمَ كُلَّها، ... لَوْلاَهْ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ(4/283)
مَن لاَ وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ ... فوجُودُهُ، لولاهُ، عَيْنُ
مُحَالِ فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا ... شَيْئاً سِوَى المتكبر الم
تعال ورَأوْا سواهُ عَلَى الحقيقةِ هَالِكاً ... فِي الحالِ والماضِي وَالاسْتِقْبَال.
وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.(4/284)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
سورة العنكبوت
مكية، إلا صدرها العشر الآيات، فإنها نزلت بالمدينة فى شأن من كان من المسلمين بمكة، وإلا قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إلى: الْمُنافِقِينَ «1» فإنها نزلت فى المتخلفين عن الهجرة. وهى كالتعليل لخاتمة ما قبلها من البشارة بالنصر لأنه لا يكون في الغالب إلا بعد الامتحان، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
قلت: الحسبان: قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما. والعلم: هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول: حَسِبْتُ زيداً، وظننت الفرس، بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله:
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي: أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا: آمنا.
يقول الحق جلّ جلاله: الم الألف: لوحدة أسرار الجبروت، واللام: لفيضان أنوار الملكوت، والميم: لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أي: أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا غير- مفتونين ومختَبَرِين، أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان عن خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود فى العذاب، وما
__________
(1) الآيات: 9- 11.(4/285)
ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فنزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختباراً لهم.
قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنواع المحن فمنهم من كان يُوضع المنشار على رأسه، فَيُفْرَقُ فرقتين، وما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد، ومنهم من كان يُطرح في النار، وما يصده ذلك عن دينه. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بذلك الامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في الإيمان بالثبات، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالرجوع عنه.
ومعنى علمه تعالى به، أي: علم ظهور وتمييز. والمعنى: ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب، في الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء: يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الدنيا، وجزع في أيام البلاء، فهو من الكاذبين. هـ.
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه: أن يمتحنهم في البدايات، فإذا تمكنوا من معرفة الله، وكمل تهذيبهم، أعزهم ونصرهم، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه على ذلك وهم عرائس الملكوت، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام، وفي الحديث: «أشدُّ الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ، فإن كان في دينه صُلْباً، اشتد بلاؤُهُ، وإن كان في دينِه رقَّةٌ، ابتلى على قَدرِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة» «1» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا: نبي أو صفي» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ، ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء» «2» . من الجامع. والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، 4/ 520، ح 398) ، وابن ماجه فى (الفتن، باب الصبر على البلاء، 2/ 1334، ح 4023) ، والإمام أحمد فى المسند (1/ 174) من حديث مصعب بن سعد، بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى الموضع السابق ذكره. (4/ 1335، ح 4024) وابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات/ 1) ، والحاكم (4/ 307) وصححه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «يحوّيها» فى النهاية: التحوية: أن يدير كساء حول سنام البعير، ثم يركبه، والاسم: الحويّة.
انظر النهاية (حوا 1/ 465) .(4/286)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
ثم ذكر المؤذين لهم، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 الى 7]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي: الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين، أَنْ يَسْبِقُونا أي: يفوتونا، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و «أم» : منقطعة، ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أَبْطَلُ من الحسبان الأول لأن ذلك يظن أنه لا يُمْتَحَنُ لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يُجَازَى بمساوئه، وشبهته أضعف، ولذلك عقّبه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ، أي: بئس ما يحكمون به حكمهم في صفات الله أنه مسبوق، وهو القادر على كل شيء، فالمخصوص محذوف.
ثم ذكر الحامل على الصبر عند الإمتحان، وهو رجاء لقاء الحبيب، فقال: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي:
يأمل ثوابه، أو يخاف حسابه، أو ينتظر رؤيته، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ المضروب للغاية لَآتٍ لا محالة. وفيه تبشير بأن اللقاء حاصل لأنه لأجل آت، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقوله عباده، الْعَلِيمُ بما يفعلونه، فلا يفوته شيء.
وَمَنْ جاهَدَ نفسه، بالصبر على مشاق الطاعات، ورفض الشهوات، وإذاية المخلوقات، وَحَبَسَ النفس على مراقبة الحق في الأنفاس واللحظات، فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأن منفعة ذلك لها، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وعن طاعتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهي رحمة لهم، ومراعاة لصلاحهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ مع غنانا عنهم، أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: أحسن جزاء أعمالهم بالفضل والكرم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أم حسب الذين يُنكرون على أوليائي، المنتسبين إليّ، أن يسبقونا؟ بل لا بد أن نعاقبهم في الدنيا والآخرة، إما في الظاهر بمصيبة تنزل بهم، أو في الباطن، وهو أقبح، كقساوة في قلوبهم، أو: كسل في بدنهم، أو:
شك في يقينهم، أو: بُعد من ربهم، فإن مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذَون في جانبه، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا، وهو الوصول إلى حضرته، والتنعم بقربه ومشاهدته، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم، وهو الغنى بالإطلاق.(4/287)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
ثم حذّر من طاعة من يرد عن التوحيد والإخلاص، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قلت: «وصى» : حُكمه حُكْمُ «أَمَرَ» ، يقال: وصيت زيداً بان يفعل خيراً، كما تقول: أمرته بأن يفعل خيراً، ومنه:
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «1» ، أي: أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أمرناه بإيتاء والديه حُسْناً أي: فعلاً ذا حُسْنٍ، أو: ما هو في ذاته حُسن لفرط حسنه، كقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «2» أو: وصينا الإنسان بتعاهد والديه، وقلنا له: أحسن بهما حسناً، أو: أوْلِهِمَا حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ أي: حملاك بالمجاهدة والجد لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: لا علم لك بالإلهية، والمراد نَفْيُ العلم نَفْيُ المعلوم، وكأنه قيل: لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً، وقيل: ما ليس لك به حجة لأنها طريق العلم، فهو قوله: لاَ بُرْهانَ لَهُ بِهِ «3» ، بل هو باطل عقلاً ونقلاً، فَلا تُطِعْهُما في ذلك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، من آمن منكم ومن أشرك، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأُجازيكم حق جزائكم. وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الدين. رُوِيَ أَنَّ سعد بن أبي وقاص لما أسلم، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي فى لقمان «4» .
وَالَّذِينَ آمَنُوا ثبتوا على الإيمان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي: في جملتهم، والصلاح مِن أبلغ صفة المؤمنين، وهو متمني الأنبياء، فقال سليمان عليه السلام: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «5» . وقال يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «6» أو: في مدخل الصالحين، وهو الجنة.
__________
(1) من الآية 132 من سورة البقرة.
(2) من الآية 83 من سورة البقرة.
(3) من الآية 117 من سورة المؤمنون.
(4) أي: قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الآية «15» ونزول الآية فى شأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة، باب فى فضل سعد بن أبي وقاص، 4/ 1877 ح 1748) وانظر أسباب النزول للواحدى (ص 350- 351) .
(5) من الآية 19 من سورة النمل.
(6) من الآية 101 من سورة يوسف. [.....](4/288)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
الإشارة: قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين في كل شيء، إلا في شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلي والخفي، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدَهما من صحبته، ليتطهر من شركه، فلا يطعهما، وسيأتي في لقمان دليل ذلك، إن شاء الله. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شأن من امتحن فافتضح، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ، فيدخل في جملة المسلمين، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي: مسّه أذىً من الكفرة بأن عذبوه على الإيمان، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، فَيُصْرَفْ عن الإيمان. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ فتح أو غنيمة، لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي: متابعين لكم في دينكم، ثابتين عليه بثباتكم، فأعطونا نصيباً من المغنم. والمراد بهم: المنافقون، أو: قوم ضعف إيمانهم فارتدوا. قال تعالى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي: هو أعلم بما في صدور العالمين. ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق، وما في صدور المؤمنين من الإخلاص.
الإشارة: منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان في الرخاء ويرجع عنه في الشدة، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب في السعة والجمال، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم، فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بالقطيعة والحجاب، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز، ليقولن: إنا كنا معكم. وقد رأينا كثيراً من هذا النوع، دخلوا في طريق القوم، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان رجعوا القهقرى، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان، وعند الحَمْلَةِ يتميز الجبان من الشجاع.
قال القشيري: المحن تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وتَدُلُّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا، أو نقص نصيبه فيها، أو بموت قريب أو فَقْد حبيب، فحقيرٌ قدره، وكثيرٌ في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله، فعظيم قدره، وقليل مثله، في العدد قليل، ولكن في القدر والخطر جليل. هـ. قلت: معنى كلامه: أن(4/289)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم، فإن جزعوا فقدرهم حقير، وإن صبروا فأجرهم كبير، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله، وإقبالهم عليه، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فَيُؤْذَوْنَ في جانب الله، فمنهم من يُسجن، ومنهم من يُضرب، ومنهم من يُجلى من بلده، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير. ثم قال:
والمؤمن مَنْ يكفُّ الأذى، والولي من يتحمل من الناس الأذى، من غير شكوى، ولا إظهار دعوى. هـ.
ولما وقعت الإذاية من الكفار للمسلمين طمعوا فيهم، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من صناديد قريش، لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا الذي نسلكه، وهو الدخول في ديننا، وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ إن كان ذلك خطيئة في زعمكم. أمروهم باتباع سبيلهم، وهي طريقتهم التي كانوا عليها، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، أي: إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم. وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نُبعث نحن ولا أنتم، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم.
قال تعالى: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما هم حاملين شيئاً من أوزارهم، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ادعوا لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يَعِدُون الشيء وفي قلوبهم نية الخُلْف. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي: أثقال أنفسهم بسبب كفرهم، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي: أثقالاً أُخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملَها، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم، كقولهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها.
الإشارة: كل من عاق الناس عن الدخول في طريق التصفية والتخليص: تَصْدُقُ عليه هذه الآية، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه. والله تعالى أعلم.
__________
(1) الآية 25 من سورة النحل.(4/290)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
ثم سلّى رسوله- عليه الصلاة والسلام- ومن أوذى معه، بما جرى للأنبياء قبله، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاما فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما يدعوهم إلى الله، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نُصر، فاصبر كما صبر، فإن العاقبة للمتقين.
رُوي أنه عاش ألفاً وخمسين سنة، وقيل: إنه ولد في حياة آدم، وآدم يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً. وقيل:
إلا أربعين. ذكره الفاسي في الحاشية. والمشهور: أن بينه وبين آدم نحو العشرة آباء. وروي أنه بُعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين «1» . وعن وَهْبٍ: أنه عاش في عمره ألفاً وأربعمائة، وقيل: وستمائة، فقال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كَدَارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل: تسعمائة وخمسين سنة لأنه، لو قيل ذلك، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل هنا، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظاً، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته، وما كابده من طول المصابرة تسليةً لنبينا- عليه الصلاة والسلام- فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وَجِيءَ، أولاً: بالسّنةِ ثم بالعام لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة.
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء، وهو ما طاف وأحاط، بكثرة وغلبة، من سيل، أو ظلام ليلٍ، أو نحوها، وَهُمْ ظالِمُونَ أنفسهم بالكفر والشرك، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، أولاد نوح: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم، ومَنْ آمَنَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَجَعَلْناها أي:
السفينة، أو الحادثة، أو القصة، آيَةً عبرة وعظة لِلْعالَمِينَ يتعظون بها.
الإشارة: كل ما سُلى به الأنبياء يُسَلّى بِهِ الأولياء، فكل من أُوذي في الله، او لحقته شدة من شدائد الزمان، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر، ويتسلى بهم، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: العارف هو الذي يغرق «2» إساءته في إحسان الله إليه، ويغرق «3» شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 407) .
(2، 3) فى نسخة (يعرف) والمثبت من النسخة الأم.(4/291)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
ثم ذكر قصة إبراهيم، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
قلت: (إبراهيم) : عطف على (نوح) ، أو متعلق باذكر، و (وإذ قال) : ظرف زمان لأرسلنا، أو: بدل اشتمال من (إبراهيم) إِنْ نُصِبَ باذكر لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِبْراهِيمَ أي: وأرسلنا إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي: أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره، وبلغ من السن والعلم مبلغاً صَلَحَ فيه لأن يعظ قَوْمَهُ، وَيَأَمُرَهُمْ بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة: بالرفع. أي: ومن المرسلين إبراهيم، قال في وعظه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من الكفر، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناماً وَتَخْلُقُونَ: تختلقون وتكذبون، أو تصنعون أصناماً بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسُّلَمِي: «وَتُخَلِّقُونَ» بالكسر والشد. من خَلَّقَ للمبالغة. إِفْكاً: وقرئ «أَفِكاً» بفتح الهمزة «1» ، وهو مصدر، نحو كذب ولعب. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً: لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كُلَّه فإنه هو الرزاق وحده، لا يرزق غَيْرُهُ. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ أي:
متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي: تكذبوني فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رُسُلَهم، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزول معه الشك. والمعنى: وأن تكذبوني فلا تضرونني بتكذيبكم فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم العذابُ. وأما الرسول فقد أدى ما
__________
(1) فى الأصول [بفتح الفاء] . وانظر: البحر المحيط (7/ 141) . فقد قال أبو حيان: «قرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان. (أفكا) بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب» .(4/292)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
عليه حين بلغَ البلاغَ المبين، الذي لم يبق معه شك، حيث اقترن بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مُكَذِّباً فيما بينكم، فلي في سائر الأنبياء أسوة، حيث كُذَّبُوا، وعلى الرسول أن يُبَلِّغَ، وما عليه أن يصدّق ولا يكذّب.
وهذه الآية من قوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ: يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمراد بالأمم قبله: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وأن تكون من كلام الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأن قريش، مُعْتَرِضَةً بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: الجمل الاعتراضية لا بُدَّ لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه، فلا تقول: مكة، وزيد قائم، خير بلاد الله؟ قلت: قد وقع الاتصال، وبيانه: أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباهُ إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلي به من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا يا معشر قريش محمداً، فقد كذب إبراهيمَ قومُه، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله: فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لا بد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الأيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك، وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح صحته وبرهانه. قاله النسفي.
قال ابن جزي: وَإِنْ تُكَذِّبُوا يحتمل ان يكون وعيداً للكفار وتهديداً لهم، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه، بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومُهم. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ: قال سهل رضي الله عنه: معناه: اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب، فإن طلبه بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء الله: اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري: وقدَّم ابتغاء الرزق لتوقف القيام بالعبادة عليه، ثم أمر بالشكر على الكفاية. هـ.
ثم أمرهم بالاعتبار، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)(4/293)
قلت: يقال: بدأ الله الخلق، وأبداه: بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة. وقوله: (يُعيده) : عطف على الجملة، لا على (يبدئ) لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال، وهم لا يقرونها لعدم النظر. وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات وإبداءه، وعلى هذا تكون (ثم يعيده) : عطفاً على (يبدئ) .
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: كفار قريش كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي: يظهره من العدم، أي: قد رأوا ذلك وعلموه، ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري: الذي داخلهم فيه الشكُّ هو بعث الخلَق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته، كذلك بُعث الخلق. هـ. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود في الثمار، من كونها تبدأ، فتجنى، ثم تفنى، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً آخر، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف «يعيد» على «يبدئ» . إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: قل يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره: وأوحينا إليه أن قل: سيروا في الأرض، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على كثرتهم، واختلافْ أحوالهم والسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وتفاوت هيئاتهم، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة، ويقوي إيمانكم بالبعث، وهو قوله: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي: البعث، وهذا دليل على أنهما نشأتان: نشأة الاختراع ونشأة الإعادة، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة، وإنما عدل عنه لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء، بإنه من الله، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قاله النسفي.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه شيء. يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بعدله، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ بفضله، أو: يُعذب من يشاء بالخذلان، ويرحم بالهداية للإيمان، أو: يُعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة، أو: يُعذب بالتدبير والاختيار، ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار، أو: يُعذب بالإعراض عنه، ويرحم(4/294)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
بالإقبال عليه، أو: بالاستتار والتجلي، أو: بالقبض والبسط، أو: بالمجاهدة والمشاهدة، إلى غير ذلك. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تُردون للحساب والعقاب.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه، فِي الْأَرْضِ الفسيحة، وَلا فِي السَّماءِ التي هي أفسح منها وأبسط، لو كنتم فيها. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم، وَلا نَصِيرٍ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائله على وحدانيته، أو كتبه، أو معجزاته، وَلِقائِهِ وكفروا بلقائه، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي جنتي، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: أوَ لَم ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم يبطنها، فيردها لأصلها من اللطافة، ثم ينشئها النشأة الثانية، تكون معانيها أظهر من حسها، وقدرتُها أظهر من حكمتها، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى، وإنما يُبطن ما ظهر، ويُظهر ما بطن، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال، وهو لُب العلم، وخالصة طريقة ذكر الله، والتفرغ عن كل ما يشغل عن الله، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب قوم إبراهيم، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
قلت: مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ: مَنْ نَصَبَها: فله وجهان أحدهما: على التعليل، أي: لتوادوا بينكم، والمفعول الثاني محذوف، أي: اتخذتم أوثاناً آلهة. والثاني: على المفعول الثاني لاتخذتم، كقوله: اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «1» . و (ما) :
كافة، أي: اتخذتم الأوثان سبب المودة، على حذف مضاف، أو: اتخذتموها مَوْدُودَةً بينكم. و (بينكم) : نصب على
__________
(1) من الآية 43 من سورة الفرقان.(4/295)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
الظرفية نعت لمودة، أي: حاصلة بينكم. ومن رفع: فله وجهان إما خبر أن، و (ما) موصولة، أو: عن مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، و (بينكم) : مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، قاله بعضهم لبعض، أو: قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا فى حكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ حين قذفوه فيها بأن جعلها برداً وسلاماً. وتقدم في الأنبياء تمام القصة.
إِنَّ فِي ذلِكَ فيما فعلوه به وفعلناه لَآياتٍ دالةً على عظم قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمل فيها. رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
وَقالَ إبراهيمُ لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناماً آلهة مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا، وتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها، كما تنفق الناس على مذهب أو طريق، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو: إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم، أو: إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي: تتبرأ الأصنام من عابديها كقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1» ، أو: ينكر بعضكم بعضا، ويقع بينكم التباغض كقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «2» . وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فتلعن الأتباعُ الرؤساء وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي: مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يحصنونكم منها.
الإشارة: الإنكار على أهل الخصوصية سُنَّة الله في خلقه، فلا يأنف منها إلا جاهل، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، وهم المتحابون في الله، المجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
__________
(1) من الآية 82 من سورة مريم.
(2) الآية 67 من سورة الزخرف.(4/296)
يقول الحق جلّ جلاله: فَآمَنَ لإبراهيم، أي: انقاد لَهُ لُوطٌ، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَقالَ إبراهيم: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من «كوثى» ، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين «1» ، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته.
وقيل: القائل: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي: إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله: عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. هـ. يعني: الهجرة إلى الحبشة. وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة ففي البخاري عن البراء: أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم «2» ،.
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائى، الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً، وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل لشهرته، أو: لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي: في ذرية إبراهيم، فإنه شجرة الأنبياء، وَالْكِتابَ يريد به الجنسَ ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أي: الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو: هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو: المال الحلال، واللفظ عام. وفيه دليل على أنَّ الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة: الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين: هجرة حسية، وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله، أو الإذاية والإنكار، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية: هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة.
__________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 238) .
(2) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، ح 3925) من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه.(4/297)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قال القشيري: لا تَصحُّ الهجرةُ إلى الله إلا بالتبرّى بالقلب عن غير الله، والهجرةُ بالنفس يسيرةٌ بالنسبة إلى الهجرة بالقلب، وهي هجرة الخواص، وهي الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمعِِ، والجمعُ بين التعريج في أوطان التفرقة والكونِ في مشاهدة الجمع متنافٍ. هـ. وقال في قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي:
للدنوِّ والقربة والتخصيص بالزلفة. هـ.
ثم ذكر قصة لوط، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي: الفعلة البالغة في القُبح، وهي اللواطة، ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ: جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة، كأنّ قائلاً قال: لِمَ كانت فاحشة؟ فقال: لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها، قالوا: لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ اي: تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، كما هو شأن قُطاع الطريق، وقيل: اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ في مجالسكم الغاصة بأهلها، ولا يقال(4/298)
للمجلس: ناد، إلا مادام فيه أهله، الْمُنْكَرَ فعلهم الفاحشة بالرجال، أو: المضارطة، أو: السباب والفحش في المزاح، أو: الحذف بالحصى، أو: مضغ العلك، أو الفرقعة.
وعن أم هانئ- رضى الله عنها- أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ؟ فقال: «كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق، ويسخرون منهم» »
. وقال معاوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل قصعة من الحصى، فإذا مر بهم عابر قذفوه، فأيهم أصابه كان أَوْلَى به» «2» .
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما تعدنا من نزول العذاب، أو في دعوى النبوة، المفهومة من التوبيخ، قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم. وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم بالولد، والنافلة إسحاق، ويعقوب، أي: مروا عليه، حين كانوا قاصدين قوم لوط، قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ سدوم، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها كانت على مسيرة يوم وليلةٍ من موضع إبراهيم، قاله النسفي. إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ، تعليل للإهلاك، أي: إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مُصِرُّونَ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها لُوطاً أي: أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم، أو: وفيهم نبي بين أظهرهم؟ قالُوا أي: الملائكة: نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم، فقال: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي: ساءه مجيئُهم وغمه، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و «أن» : صلة لتأكيد الفعلين، وترتيب أحدهما على الآخر، كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب.
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (6/ 341) ، والترمذي وحسّنه فى (التفسير، سورة العنكبوت، 5/ 319، ح 3190) ، وصححه الحاكم (2/ 409) ، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري (20/ 145) ، والبغوي فى التفسير (6/ 239) .
(2) انظر تفسير البغوي (6/ 240) .(4/299)
فقد الطاقة، كما قالوا: رحْب الذراع، إذا كان مُطيقاً للأمور، والأصلَ فيه: إن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
وَقالُوا، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف: لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكنهم منا، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي: وننجي أهلك، فالكاف في محل الجر، و «أهلك» : نصب بفعل محذوف، إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. في الكلام حذف يدل عليه ما في هود «1» ، أي: لا تخف ولا تحزن من أجلنا، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك، بل يهلكون جميعاً، وأما أنت فإنا منجوك.. إلخ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر: إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً عذاباً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها من القرية آيَةً بَيِّنَةً، هى حكايتها الشائعة، أو آثار منازلهم الخربة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، حيث بقيت أنهارهم مسودة، وقيل: الحجارة المسطورة، فإنها بقيت بعدهم آية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال القشيري: من جملة المنكر: تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك القبض على أيديهم، ومن ذلك: ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. هـ. وقال في قوله تعالى: إِنَّ فِيها لُوطاً، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط، تكلم في شأن لوط، إلى أن قالوا: لَنُنَجِّيَنَّهُ.. إلخ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط، ولو كان بريئاً، لم يكن ظلماً، لو كان ذلك قبيحاً لما كان إبراهيم- مع وفْر علمه- يُشكل عليه، حتى كان يجادل عنه، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي، من يعافي بلا حَجر هـ.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وما ذكره واضح من حيث العقيدة، وإن كانت الآية، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «2» . والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى:
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ «3» الآية. هـ. قلت: ظاهر قوله تعالى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ «4» أن مجادلته كانت عن قومه فقط لغلبة الشفقة عليه، كما هو شأنه، ولذلك
__________
(1) فى قوله تعالى: قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.. الآية 81.
(2) من الآية 33 من سورة الأنفال.
(3) الآية 17 من سورة المائدة. [.....]
(4) من الآية 74 من سورة هود.(4/300)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ... حتى قال له تعالى: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «1» لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب، فتأمله.
ثم ذكر قصة شعيب، فقال
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي: خافوه، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قاصدين الفساد، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، أو: الصيحة من جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ بلدهم وأرضهم، جاثِمِينَ باركين على الرُكب ميتين.
الإشارة: العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة، لا جدوى لها، كأنها عادة، وخوف العواقب، من غير استعداد لها، خذلان، والاجتهاد في العمل، مع ارتقاب العواقب الغيبية، فلاح، من شأن أهل البصائر، كما قال تعالى في حق من مدحهم من أكابر الرسل: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «2» .
ثم ذكر قوم هود وصالح وموسى- عليهم السلام- فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 40]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
__________
(1) الآيتان: 75- 76 من سورة هود.
(2) الآيتان: 45- 46 من سورة «ص» .(4/301)
يقول الحق جلّ جلاله: وَعاداً وَثَمُودَ أي: اذكر عاداً وثموداً، أو أهلكنا عاداً، وثموداً، يدل عليه فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنه في معنى الإهلاك، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ما وصفنا من إهلاكهم مِنْ مَساكِنِهِمْ الدارسة. أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الذي أُمروا بسلوكه، وهو الإيمان بالله ورسوله. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ متمكنين من النظر والاستبصار وتمييز الحق من الباطل، ولكنهم لم يفعلوا. أو عارفين الحق من الباطل بظهور دلائله، لكنهم عاندوا، حسداً. يقال: استبصر: إذا عرف الشيء على حقيقته. أو: متيقنين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسول، لكنهم لجّوا. أو: مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها.
وقال الفراء: عقلاء ذوو بصائر، يعني: علماء في أمور الدنيا، كقوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... «1»
الآية. وقال مجاهد: حسبوا أنهم على الحق، وهم على الباطل. هـ.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ، أي: أهلكناهم، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فائتين، بل أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. يقال: سبق طالبه: فاته، فَكُلًّا أَخَذْنا عاقبناه بِذَنْبِهِ، فيه رد على من يُجوز العقوبة بغير ذنب. قاله النسفي، وهو جائز عقلاً في حقه تعالى، لكنه لم يقع لإظهار عدله. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً
أي: ريحاً عاصفة فيها حصباء أو: مَلِكاً رماهم بها.
قال ابن جزي: فيحتمل عندي أنه أراد به المعنيين لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة، وعاداً هلكوا بالريح. وإن حملناه على المعنى الواحد نقض ذكر الآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين، ويقوي ذلك إن المقصود عموم أصناف الكفار. هـ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ كمدين وثمود، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح، وفرعون وقومه، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعاقبهم بغير ذنب إذ ليس ذلك من عادته- عز وجل-، وإن جاز في حقه، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان، وبالله التوفيق.
__________
(1) الآية 7 من سورة الروم.(4/302)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
الإشارة: الاستبصار في أمور الدنيا، والتحديق في تدبير شؤونها، حمق وبطالة «1» ، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه، والفحص عن ذلك، والتفكر في عواقب الأمور من شأن العقلاء الأكياس، قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإن من علامات العقل:
التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور» ، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:
«الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت، والأحمقُ من أتْبَعَ نَفْسَهُ هواها، وتمنَّى على اللهِ الأمانى» «2» ، وقيل للجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل؟ فقال: إذا كان للأمور متميزاً، ولها متصفحاً، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه. ثم قال: فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغُلُ به، والعملُ له، عن أمور الآخرة، التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها.. إلخ كلامه.
وقد ضرب الله مثلاً لمن ركن إلى غير الله، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
__________
(1) الاستبصار في أمور الدنيا فرض لازم للأمة.. ينبغى أن تتعاون الأمة لإقامته في كل أمر من أمور الدنيا، وشأن من شئونها، وعلى العاقل- ما لم يكن مغلوبا على عقله- أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلا على شأنه.
(2) أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (صفة القيامة والرقائق، باب 25 ح 2/ 1423 ح 4260) ، وابن ماجة فى (الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، 2/ 1423 ح 4260) من حديث شداد بن أوس.(4/303)
يقول الحق جلّ جلاله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أصناماً يعبدونها، أي: مَثَلُ من أشرك بالله الأوثان في الضعف، وسوء الاختيار، كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، أي: كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإنه لا يدفع الحر والبرد، ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان، لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، بل هى أو هى وأضعف، فإن لبيت العنكبوت حقيقةً وانتفاعاً عاماً، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي: أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بَيْتَ أوهن من بيته إذْ أضعف شيء يسقطها. عن عليّ رضي الله عنه: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه يُورث الفقر» .
والعنكبوت يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجمع على عناكيب وعناكب وعِكاب وعكَبَة وأعكُب.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن هذا مثلُهم، وأنَّ ما تمسّكوا به من الدين أرق من بيت العنكبوت. وقال الزجاج:
تقدير الآية: مثل الدين اتخذوا من دون الله أولياء، لو كانوا يعلمون، كمثل العنكبوت. وقيل: معنى الآية: مَثَلُ المشركِ يعبد الوثن، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجُرٍّ وجص، أو جص وصخور، فكما أن أوهن البيوت، إذا استقرأتَهَا بيتاً بيتاً، بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان، إذا تتبعتها ديناً ديناً، عبادةُ الأوثان.
وقال الضحاك: ضرب مثلاً لضعف آلهتهم ووهنها، فلو علموا أن عبادة الأوثان، في عدم الغنى، كما ذكرنا في المثل، لَمَا عبدوها، ولكنهم لا يعلمون، بل الله يعلم ضَعف ما تعبدون من دونه وعجزه، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ «1» مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، أي: يعلم حاله، وصفته، وحقيقته، وعدم صلاحيته لِمَا تؤملونه منه، فما:
موصولة، مفعول «يعلم» ، وهي تامة، أي: يتعلق علمه بجميع ما يعبدونه من دونه، أيّ شيء كان. أو ناقصة، والثاني محذوف، أي: يعلمه وهياً وباطلاً. وقيل: استفهامية معلقة، وأما كونها نافية فضعيف، و «من» ، الثانية للبيان، ومن قرأ بالخطاب فعلى حذف القول، أي: ويقال للكفرة: أن الله يعلم ما تعبدونه من دونه من جميع الأشياء، أو: أيّ شيء كان.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا شريك له، الْحَكِيمُ في ترك المعاجلة بالعقوبة، وفيه تجهيل لهم، حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيمُ الذي لا يفعل إلا لحكمة وتدبير.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الغربية، أي: هذا المثل ونظائره نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نبيّنها لم تقريباً لما بَعُدَ عن أفهامهم. كان سفهاء قريش وجهَلَتُهم يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من
__________
(1) قرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: يدعون بياء الغيب. وقرأ الباقون بالخطاب. انظر: الإتحاف 2/ 351.(4/304)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
ذلك، فلذلك قال تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ، أي: بالله وصفاته وأسمائه، وبمواقع كلامه وحِكَمه، أي:
لا يعقل صحتها وحُسنها، ولا يفهم حكمتها، إلا هم لأن الأمثال والتشْبيهات إنما هي طرق إلى المعاني المستورة، حتى يبرزها ويصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، وقال: «العالِم: مَنْ عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» «1» ، وَدَلَّتْ هذه الآية على فضل العلم وأهله.
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: محقاً، لم يخلقها عبثاً، كما لم يضرب الأمثال عبثاً، بل خلقها لحكمة، وهي أن تكون مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته، بدليل قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم هم المنتفعون بها. وقيل: بالحق: العدل، وقيل: بكلامه وقدرته، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء. وخص السموات والأرض لأنها المشهودات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو مال بالمحبة إلى شيء سواه، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت، فعن قريب يذهب ويفوت، يا من تعلق بمن يموت قد تَمَسَّكَتَ بأضعف من خيط العنكبوت.
تنبيه: الأشياء الحسية جعل الله فيها القوي والضعيف، والعزيز والذليل، والفقير والغني لِحكمة، وأما أسرار المعاني القائمة بها فكلها قوية عزيزة غنية، فالأشياء، بهذا الإعتبار- أعني: النظر لحسها ومعناها- كلها قوية في ضعفها، عزيزة في ذلها، غنية في فقرها. ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شىء أقوى شيء، وينصر بأذل شيء على أقوى شيء. رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ شكى العنكبوتُ إلى الله تعالى، وقال: ربِّ خلقتني ضعيفاً، ووصفتني بالإهانة والضعف، فأوحى الله تعالى إليه: انكسر قلبك من قولنا، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش، وأغنينا محمداً عن كل ركن كثيف، فقال: يا رب حسبي أن خلقت في ذلي عزتي، وفي إهانتي قوتي. هـ. ذكره في اللباب.
ثم أمره بالاشتغال بالتلاوة والصلاة تسلية وغيبة عمن آذاه، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
__________
(1) قال المناوى فى الفتح السماوي (2/ 896) : «رواه داود بن المحبر فى كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده، والثعلبي، والواحدي، والبغوي- فى التفسير (6/ 243) - من حديث جابر. وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات، وكتاب العقل، لداود، كله موضوع، وانظر أيضا: تنزيه الشريعة، لابن عراق (1/ 214) .(4/305)
يقول الحق جلّ جلاله: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ تَنَعُّماً بشهود أسرار معانيه، وبشهود المتكلم به، فتغيب عن كل ما سواه، واستكشافاً لحقائقه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وقد كان من السلف من يبقى في السورة يكررها أياماً، وفي الآية يرددها ليلة وأكثر، كلما رددها ظهر له معان أُخر.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي: دم على إقامتها، بإتقانها فعلاً وحضوراً وخشوعاً، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الفعلة القبيحة كالزنى، والشرب، ونحوهما، وَالْمُنْكَرِ، وهو ما يُنكره الشرع والعقل. ولا شك أن الصلاة، إذا صحبها الخشوع والهيبة في الباطن، والإتقان في الظاهر، نهت صاحبها عن المنكر، لا محالة، وإلا فلا.
رُوي أن فتًى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات، ولا يَدَعُ شيئاً من الفواحش إلا ركبه، فَوُصِفَ حَالُهُ له صلى الله عليه وسلم فقال: «إن صلاته تنهاه» ، فلم يلبث أن تاب. هـ «1» .
وأما من كان يصليها فلم تنهه فهو دليل عدم قبولها، ففي الحديث: «من لمْ تَنْهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً» «2» رواه الطبراني. وقال الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة، وهي وبال عليه. وقال ابن عوف: إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. هـ. فخص النهى بكونه مادام فيها، وعليه حَمَلَهُ المَحلِّي.
قال المحشي: يعني: أن مِنْ شأنها ذلك، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة، كما أن من شأن الإيمان التوكل، وإن قدر أن أحداً من المؤمنين لا يتوكل فلا يخرج ذلك عن الإيمان. وقيل: الصلاة الحقيقة: ما تكون لصاحبها ناهيةً عن ذلك، وإن لم ينته فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى: ورود الزواجر على قلبه، ولكنه أصر ولم يطع. [ويقال: بل الصلاة الحقيقة ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإن كان] «3» ، وإلا فصورة الصلاة، لا حقيقتها. انظر القشيري.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص 128) : «لم أجده» ، وأخرج الإمام أحمد فى المسند (2/ 447) ، والبزار (كشف الأستار 1/ 346) عن أبى هريرة: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلى بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: «إن صلاته ستنهاه» .
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (20/ 155) عن ابن عباس وابن مسعود موقوفا، وعزاه فى الدر المنثور (5/ 279) للطبرانى، وابنُ أبي حاتم، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر: الكافي الشاف (ص 127) .
(3) المثبت بين المعكوفتين من لطائف الإشارات للقشيرى (3/ 99) . وهو ضرورى.(4/306)
وقال ابن عطية: إذا وقعت على ما ينبغي من الخشوع، والإخبات لذكر عظمة الله، والوقوف بين يديه، انتهى عن الفحشاء والمنكر، وأما مَنْ كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان. هـ.
فائدة: ذكر في اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السلام، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط، فلما نزل، وجنَّه الليل خرّ مغشياً، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين، شكراً. وأول من صلى الظهر إبراهيم، لما فدى ولده، وقد كان نزل به أربعة أهوال، هم الذبح، وهم الولد، وهم والدته، وهم مرضاة الرب، فصلى أربع ركعات شكراً لله تعالى.
وأول من صلى العصر سليمان عليه السلام، لمَّا رد الله عليه ملكه. وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة. وأول من صلى العشاء يونس عليه السلام، ولعله هذا الوقت الذي نُبذ فيه بالعراء. وأول من توضأ آدم كفارة لأكله. هـ. مختصراً بزيادة بيان. وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية لتحوز فضائل تلك الشرائع لأنه صلى الله عليه وسلم جَامِعٌ لِمَا افْتَرَقَ في غيره.
ثم قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، أي: ولذكر الله، على الدوام، أكبر، فى النهى عن الفحشاء والمنكر، من الصلاة لأنها في بعض الأوقات. فالجزء الذي في الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة، وهو أعظم، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكرٍ لله، مراقبٍ له، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى لقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» . ومن ذَكَرَه حَفِظَهُ ورعاه. أو: لذكر الله أكبر أجراً، من الصلاة، ومن سائر الطاعات، كما في الحديث: «ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكمْ، وأزكْاهَا عند مليككم، وأرفَعِهَا في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عدوكم فتضربُوا أعناقهم ويضربوا اعناقكمْ؟ قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذِكْرُ الله» «2» . وسئل: أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال: «أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله» «3» .
قيل: المراد بذكر الله هو الصلاة نفسها، أي: وَللصلواتُ أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبّر عنها بذكر الله ليشعر بالتعليل، كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله. وعن ابن عباس: ولذكر الله لكم إياكم، برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم يفنى. أو: لذكر الله أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم. أو: ذكر الله أكبر
__________
(1) الآية 152 من سورة البقرة.
(2) أخرجه الترمذي فى (الدعوات، باب 6، 5/ 428، ح 3377) ، وابن ماجة فى (الأدب، باب فضل الذك، 2/ 1245، ح 3790) ، والبيهقي فى الشعب (519) ، والحاكم وصححه فى المستدرك (1/ 496) ، وصححه ووافقه الذهبي، من حديث أبى الدرداء.
(3) رواه ابن حبان فى صحيحه (815) ، والبراز (كشف الأستار ح 3059) ، من حديث معاذ بن جبل، وقال الهيثمي فى المجمع:
(10/ 74) : وإسناده حسن. [.....](4/307)
من أن تبقى معه معصية. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلِّقَيْنِ بالجوارح الظاهرة، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر المتعلقين بالعوالم الباطنة، وهي المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب، فإذا أكثر العبد من ذكر الله، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل، تنور قلبه، وتطهر سره ولُبه، فاتصف بأوصاف الكمال، وزالت عنه جميع العلل، ولذلك جعلته الصوفية معتمدا أعمالِهِمْ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير، بل قاموا فيه بالجد والتشمير، فيذكرون أولاً بلسانهم وقلوبهم، ثم بقلوبهم فقط، ثم بأرواحهم وأسرارهم، فيغيبون حينئذٍ في شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان، ويصير العبد محواً في وجود العيان، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة، وشهوداً ونظرة، وهو مقام العيان في منزل الإحسان، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة «1» ، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ هَمَّ يَلْعَنُني ... سرِّي وقَلْبِي وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ
حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي: ... إِيَّاكَ، وَيْحَك، والتَّذْكَارَ، إِيَّاكَ
أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ؟ ... وَوَاصَلَ الْكُلَّ، مِنْ مَعْنَاهُ، مَعْنَاكَ؟!
قال القشيري: ويقال: ذكر الله أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد، فضلاً أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان. هـ. وقال في القوت على هذه الآية: الذكر عند الذاكرين: المشاهدة، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة. هذا أحد الوجهين في الآية. ثم قال: ورُوي في معنى الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله- عزّ وجل-» قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2» ، أي: لتذكرني فيها. ثم قال: فإذا لم يكن في قلبك للمذكور، الذي هو المقصود والمُبْتغى، عظمة ولا هيبة، ولا إجلالُ مقامٍ، ولا حلاوة فهْم، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة قسماً من اقسام الدنيا، إذا كان المصلي على مقام من الهوى، فقال: «حُبب إلىّ من
__________
(1) لا يكون ذكر اللسان بطالة. والنبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله..» والله عز وجل يقول: «أنا مع عبدى المؤمن ما ذكرنى وتحركت بي شفتاه» فكيف يكون هذا بطالة!! مع تحقق السر بالذكر؟.
(2) من الآية 14 من سورة طه.(4/308)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
دنياكم..» «1» ذكر منها الصلاة، فهي دنيا لمن كان همه الدنيا، وهي آخرة لأبناء الآخرة، وهي صلة ومواصلة لأهل الله- عزّ وجل-، وإنما سميت الصلاة لأنها صلة بين الله وعبده، ولا تكون المواصلة إلا لتقي، ولا يكون التقي إلا خاشعاً، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر، كما قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. هـ.
ثم ذكر ما ينتج عن الصلاة الكاملة والذكر الدائم، وهو الخلق الجميل، فوصّى به، حيث قال:
[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالخصلة التي هي أحسن، أي: ألطف وأرفق، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، بأن تدعوه إلى الله تعالى برفق ولين، وتبين له الحجج والآيات، من غير مغالبة ولا قهر. وأصل المجادلة: فتلُ الخصم عن مذهبه بطريق الحجج، وأصله: شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه. والآية قيل: منسوخة بآية السيف «2» ، وقيل: نزلت في أهل الذمة.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعمِلوا معهم الغلظة. وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك، وقالوا: يد الله مغلولة. أو معناه: ولا تُجادلوا الذين دخلوا في الذمة، المؤدين للجزية، إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا: فنبذوا الذمة، ومنعوا الجزية، فمجادلتهم بالسيف. والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة في الدين، وعلى جواز تعلم علم الكلام،
__________
(1) أخرج أحمد فى المسند (3/ 128، 285) والنسائي فى سننه (كتاب عشرة النساء 7/ 161) والحاكم فى المستدرك (النكاح 2/ 160) وصححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وكذلك أخرج أبو يعلى فى مسنده (6/ 199- 200 ح 3482) كلهم من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبب إلىّ من الدنيا: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عينى فى الصلاة» قال الحافظ ابن حجر: وليس فى شىء من طرقه: لفظ «ثلاث» . انظر الفتح السماوي 1/ 378 وعليه فالرسول لم يجعل الصلاة من أقسام الدنيا بل هى قرة عينه صلى الله عليه وسلم وهذه درجة رفيعة فوق الشيئين اللذين حببا إليه من الدنيا، وهما الطيب والنساء، فهذا الشيئان ليس قرة عين له صلى الله عليه وسلم، لأنهما من الدنيا
(2) قلت: كل ما هو من مكارم الأخلاق، لا يجرى عليه النسخ، فتمسك بهذا الأصل، فحتى لو قاتلنا أهل الكتاب فى جهاد شرعى صحيح، بشروطه. فتحن مأمورون بالعمل بهذه الآية حين نجادلهم، إلا من ظلم.. فنعامله بما يستحق حتى يزول ظلمه، فإن جادلناهم فبالتى هى أحسن أيضا.(4/309)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
الذي به تتحقق المجادلة. قاله النسفي. وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ هذا من حسن المجادلة. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم، وإن كان حقاً لم تكذبوهم» «1» . وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مطيعون له خاصة، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارَهُم ورهبانَهم أرباباً من دون الله.
الإشارة: المناظرة بين العلماء، والمذاكرة بين الفقراء، ينبغي أن تكون برفق ولين عن قلب سليم، بقصد إظهار الحق وتبيين الصواب، أو تنبيه عن الغفلة، أو ترقية في المنزلة، من غير ملاححة، أو مخاصمة، ولا قصد مغالبة لأن العلم النافع، وذكر الله الحقيقي، يُهذب الطبع، ويحسن الأخلاق.
قال في الحاشية: ثم تذكّر حسن رده صلى الله عليه وسلم للقائلين له: السام عليكم، ورفقَه، وقوله لعائشة: «متى عَهدْتِنِي فاحشاً» ؟ يتبين لك مناسبة الوصية بحسن المجادلة في الآية مع ما قبلها، وأن ذلك حال المقيمين للصلاة، الذاكرين الله حقيقة، وأنهم على خُلق جميل وحلم وسمت، لا يستفزهم شيء من العوارض لِمَا رسخ في قلوبهم من نور القُرب الذي محى الطبع وفُحْشه. والله تعالى أعلم. هـ.
ثم ذكر برهان حقيّة القرآن الذي أنزل إلينا، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 49]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ مصدقاً لسائر الكتب السماوية وشاهداً عليها، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة والإنجيل، يُؤْمِنُونَ بِهِ
، وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه، وأصحاب النجاشي، أو: من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، وَمِنْ هؤُلاءِ من أهل مكة، مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أو: فالذين آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره، ومن هؤلاء
__________
(1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (4/ 136) ، وأبو داود فى (العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب 4/ 59- 60 ح 3644) ، وابن حبان في صحيحه (موارد ح 110 ص 58) ، والطبراني فى الكبير (22/ 349) ، والبيهقي فى الكبرى (2/ 10) ، عن أبى نملة الأنصاري. وأصل الحديث فى صحيح البخاري، فى (كتاب الاعتصام، باب قول النبي: لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء ح 7361) . من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(4/310)
الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذا قلنا: إِنّ السورة كلها مكية، يكون إخباراً بغيب تحقق وقوعه، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إِلَّا الْكافِرُونَ إلا المتوغلون في الكفر، المصممون عليه، ككعب بن الأشرف وأضرابه، أو كفار قريش، إذا قلنا: الآية مكية.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، بل كنت أمياً، لم تقرأ ولم تكتب، فظهور هذا الكتاب، الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة، على يد أُمي لم يُعْرَفْ بالقراءة والتعلم، خرق عادة، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين لأن الكتابة، غالباً، تكون به، أي: ما كنت قارئاً كتاباً من الكتب، ولا كَاتِباً إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: تعلمه، والتقطه من كتب الأقدمين، وكتبه بيده. أو: يقول أهل الكتاب: الذي نجده في كتابنا أُمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به. وسماهم مبطلين، لإنكارهم النبوة، أو: لارتيابهم فيها، مع تواتر حججها ودلائلها.
هذا، وكونه صلى الله عليه وسلم أُمياً كَمَالٌ في حقه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية، من غير مدارسة ولا مطالعة، وهو، مع ذلك، يُخبر بما مضى، وبما يأتي إلى قيام الساعة، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه، وهذا كله في جاهلية جهلاء، بَعُد فيها العهد بالأنبياء، وبدّل الناس، وغيَّروا في كتب الله تعالى بالزيادة والنقصان، ففضحهم صلى الله عليه وسلم وقرر الشرائع الماضية، فهذا كله كاف في صحة نبوته، فكانت أميته صلى الله عليه وسلم وَصْفَ كمال في حقه، ومعجزةً دالة على نبوته لأنه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أُمياً، ظهر عليه من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، ما يعجز عنه العقول، ولا تُحيط به النقول، مع إحكامه لسياسة الخلق، ومعالجتهم مع تنوعهم، وتدبير أمر الحروب، وإمامته في كل علم وحكمة.
وأيضاً: المقصود من القراءة والكتابة: ما ينتج عنهما من العلم لأنهما آلة، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما.
والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتب قط. وقال الباجي وغيره: إنه كتب، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي:
مامات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
قال تعالى: بَلْ هُوَ أي: القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اي: في صدور العلماء وحُفاظه، وهما من خصائص القرآن كون آياته بيناتِ الإعجاز، وكونه محفوظاً في الصدور، بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، ولم تكن تُقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس: بَلْ هُوَ أي: محمد، والعلم بأنه أُمي، آياتٌ بَيِّناتٌ في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، يجدونه في كتبهم. هـ «1» . و (بل) : للإضراب عن
__________
(1) ذكر الطبري القولين (21/ 5- 6) ورجح القول الثاني لأن قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ بين خبرين من إخبار الله عن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فهو بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبراً عن الكتاب.(4/311)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
محذوف، ينساق إليه الكلام، أي: ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه، بل هو آيات واضحات. و (في صدور) : متعلق ببينات، أو: خبر ثان لهو. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الواضحة إِلَّا الظَّالِمُونَ المتوغلون في الظلم. قال ابن عطية:
الظالمون والمبطلون هم كل مكذب للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن عُظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم. قاله مجاهد. هـ.
الإشارة: كم من وليٍّ يكون أُمياً، وتجد عنده من العلوم والحِكَم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء.
ما اتخذه الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه. ولقد سمعت من شيخنا البوزيدى رضي الله عنه علوماً وأسراراً، ما رأيتها في كتاب، وكان يتكلم في تفسير آيات من كتاب الله على طريق أهل الإشارة، قلّ أن تجدها عند غيره، وسمعته يقول: والله ما جلست بين يدى عالم قط، ولا قرأت شيئاً من العلم الظاهر. قال القشيري: قلوبُ الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق في قلوبهم، وكلُّ شيء يُطلب من موطنه ومحله، فالدر يُطلب من الصدف لأنه مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يُطْلَبُ من قلوب خواصه «1» لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ترفع نسخةُ توحيده. هـ.
ثم رد اقتراحهم للآيات، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
__________
(1) إنما يرجع إلى وصف الله فى قلوب خواصه، لأنهم عرفوا الله بالرجوع إلى وحيه، (الكتاب والسنة) فلا طريق لمعرفة الله، إلا ما أوحاه الله، ابتداء، وانتهاء.
ثم اعلم رحمك الله: أن معرفة القراءة والكتابة ليست شرطا فى الولاية، وحفظ كلام الله تعالى، ومعرفة أسرار التوحيد والإيمان،، والإسلام.. وهاك مثلا واحدا: وهو سيدنا «حماد بن مسلم الدباس» ، أستاذ الشيخ القدوة، عارف زمانه، الإمام عبد القادر الجيلاني، وهو حماد بن مسلم بن ددّوه، الشيخ القدم، علم السالكين، أبو عبد الله الدباس، الرحبي- نسبة إلى رحبة مالك بن طوق، «نشأ ببغداد، وكان من أولياء الله، أولى الكرامات، انتفع بصحبته خلق، وكان يتكلم على الأحوال، وكتبوا من كلامه نحوا من مئة جزء، وكان أميا، وكان يتكلم على آفات الأعمال، والإخلاص، والورع، قد جاهد نفسه بأنواع المجاهدات، وزوال أكثر المهن والصنائع، فى طلب الحلال، وكان مكاشفا. فعنه قال: إذا أحب الله عبدا أكثر همه فيما فرّط، وإذا أبغض عبدا أكثر همه فيما قسمه له. وقال: العلم محجة، فإذا طلبته لغير الله، صار حجة.. مات سنة 525 هـ. وكان الشيخ عبد القادر من تلامذته:
«انظر: شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء: (19/ 594- 596) تحقيق وتعليق: شعيب الأرنؤوط، ط 11، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417 هـ، 1996 م. وراجع أيضا فى هذه القضية: الفتوحات الإلهية للشيخ المفسر/ 201- 204.(4/312)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ «1» مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص: بالجمع «آيات» ، كثيرة، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، يُنزل منها ما شاء متى شاء، ولست أملك منها شيئاً، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس من شأني أن أقول: أنزل على آية كذا دون آية كذا، مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتي، والآيات كلها في حُكم آية واحدة فى ذلك.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، أي: أو لم يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنتين، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابته، لا تزول ولا تنقطع، كما انقطع غيره من الآيات، وفي ذلك يقول البوصيري:
دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ ... مِنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ
إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فى هذه الآية الموجودة في كل زمان إلى آخر الدهر، لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة، وَذِكْرى وتذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة: إن ناساً من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فألقاها، وقال: كفى بها حماقة، أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، فنزل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... إلخ «2» .
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي: شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن علىّ، وتكذيبكم، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فهو مطلع على أمري وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم، فلا يخفى عليه شيء. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وهو ما يُعبد من دون الله، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وبآياته منكم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر المؤدي إلى النيران، بالإيمان المؤدي إلى الخلود في الجنان. رُوي أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزل: قُلْ كَفى ... إلخ.
الإشارة: اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق إذ ليس بيد النبي أو الولي شيء من ذلك، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله، والدعاء إليه، والكرامة لا تدل على كمال صاحبها، «ربما رُزق الكرامة من لم تَكْمُلْ له
__________
(1) قرأ ابن كثير، وأبو بكر، وهمزة، والكسائي «آية» بالتوحيد على إرادة الجنس، وقرأ الباقون بالجمع. انظر الإتحاف (2/ 351) .
(2) أخرجه الدارمي فى (المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث 1/ 134، ح 478) ، وأبو داود فى المراسيل (باب ما جاء فى العلم) ، وابن جرير فى التفسير (21/ 7) من حديث يحيى بن جعدة، مرسلا.(4/313)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
الاستقامة» «1» ، ليس كل من ثبت تخصيصه كَمُلَ تخليصه «2» . وقد تظهر الكرامات في البدايات وتخفى في النهايات، والكرامة العظمى هي الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عياناً، ويذهب عنه الأوهام والشكوك، وأما غير هذا فقد يكون استدراجاً لمن يقف معه. والله تعالى أعلم.
ولما لم تظهر آية كما اقترحوا، استعجلوا العذاب، استهزاء، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، كقولهم: أمطر علينا حجارة من السمآء، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى المضروب لعذاب كل قوم، أو: القيامة، أو: يوم بدر، أو: وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى: ولولا أجل قد سمّاه الله وعيَّنه في اللوح المحفوظ، لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلاً. والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب في الأجل المسمى بَغْتَةً: فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي: لتحيط بهم، أو: هي كالمحيطة بهم، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة، وهو الكفر، أو الجنس، فيدخل المخاطبون دخولا أوليا. وتكرير استعجالهم لاختلاف ما يترتب على كل واحد، فرتب على الأول حكمة تأخيره، وعلى الثاني تهديدهم وزجرهم عنه.
ثم قال تعالى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، هذا وقت إحاطتها بهم، أي: تحيط من جميع جوانبهم، كقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ «3» . وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة: ما قيل في حق من استعجل العذاب من الأنبياء، يقال فى حق من استعجله من الأولياء، بحيث يؤذيهم ويقول: ليُظهروا ما عندهم، فهذا حمق كبير، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك، عاجلاً، أو آجلا، إما ظاهرا
__________
(1) حكمة عطائية. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 27، حكمة 178) .
(2) انظر الحكم (ص 26 حكمة 111) .
(3) من الآية 16 من سورة الزمر.(4/314)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
أو باطناً، وقد لا يشعر، وقد يسري ذلك إلى عَقبه فيصيبه ذلك الوبال، كما أصاب أباه، والعياذ بالله من التعرض لأوليائه.
ثم أمر بالهجرة من الأرض التي تكثر فيها الإذاية فى الدين، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 59]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
يقول الحق جلّ جلاله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً، والناس مختلفون، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم، كالمدن والقرى الكبار، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل، أينما وجدوها عمروها، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي الله عنه: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرَّ بدينه من أرض، إلى أرض، وإن كان شبرا، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما السلام» «1» .
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي: فخصوني بالعبادة. وإياي: مفعول لمحذوف، ومفعول «اعبدوني» : الياء المحذوفة، أي: فاعبدوا إياي، فاعبدوني. والفاء: جواب الشرط، محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فاخلصوا لي في غيرها.
ثم شجع المهاجرين بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، أي: واجدة مرارته وكربه لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارقة وطنها. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بالموت، فتجازَوْن على ما أسلفتم. ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لنُنزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، عالية، وقرأ حمزة والكسائي: لنثوينهم لنقيمنهم، من الثَّوَى، وهو الإقامة، وثوى: غَيْرُ متعد، فإذا تعدى بزيادة الهمزة، لم
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن. انظر الكافي الشاف (3/ 461) .(4/315)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
يجاوز مفعولاً واحداً. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إما إجراؤه مجرى «لننزلنهم» ، أو:
بحذف الجار، وإيصال الفعل، أو: شبه الظرف المؤقت، بالمبهم، أي: لنقيمنهم في غرف تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أجرهم هذا. وهم الَّذِينَ صَبَرُوا على مفارقة الأوطان وأذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، ومشاق الطاعات، وترك المحرمات، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، أي: لم يتوكلوا في جميع ذلك إِلا على الله، فكفاهم شأنهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل مَن لم يَتَأَتَّ له جَمْعُ قَلْبِهِ في بلده فليهاجر منها إلى غيره، وليسمع قول سيده: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
، فإن شق عليه مفارقة الأوطان، فليذكر مفارقته للدنيا في أقرب زمان. وكان الصدِّيق رضي الله عنه لَمَّا هاجر إلى المدينة، وأصابته الحمى، يتسلى بذكر الموت، وينشد:
كلّ امرئ مُصَبَّحٌ في أَهْلهِ ... والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وقد أكثر الناس في الوعظ بالموت وهجومه، نظماً ونثراً، فمن ذلك قول الشاعر:
المَوْتُ كَأسٌ، وكُلُّ النَاس شَارِبُه ... والقَبْرُ بَابٌ، وكُلُّ الناس دَاخِلُهُ
وقال آخر:
اعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاطِعَةٌ ... بِكُلِّ مُدِّرع فِيهَا وَمُتَّرِسِ
ركوبُك النعشُ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ إلى ... مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ نَعْلٍ ومَنِ فَرَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ، وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيَقَتَهَا ... إنَّ السَّفَينَةَ لاَ تَجْرِيَ علَى يَبَسِ
إلى غير ذلك مما يطول.
ولما أمر بالهجرة خافوا العيلة، فأنزل الله تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 60 الى 63]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)(4/316)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ أي: وكم من دابة من دواب الأرض، عاقلة وغير عاقلة، لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أي: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن: لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا: لا تدخره، إنما تصبح خِمَاصاً «1» ، فيرزقها الله. وقيل: لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة «2» . وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم: نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا، الْعَلِيمُ بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: المشركين وغيرهم مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على كبرهما وسعتهما، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يجريان في فلكهما، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لا يجدون جواباً إلا هذا، لإقرارهم بوجود الصانع، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يُصرفون عن توحيد الله؟
مع إقرارهم بهذا كله، إذ لو تعدد الإله لفسد نظام العالم.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هاجر أو أقام في بلده، وَيَقْدِرُ لَهُ ويضيق عليه، أقام أو هاجر، فالضمير في لَهُ لمن يشاء لأنه مبهم غير معين، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فمنهم من يصلحه الفقر، ومنهم من يُفسده، ففي الحديث القدسي: «إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» «3» . ذكره النسفي.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إظهار قدرته، حتى ظهرت لجميع الخلق، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو: على ما عصمك مما هم عليه، أو: على تصديقك وإظهار حجتك، أو: على إنزاله الماء لإحياء الأرض، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ لا عقول لهم، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات. والله تعالى أعلم.
__________
(1) «خماصا» جياعا، جمع خميص. [.....]
(2) قاله سفيان فيما ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 53) .
(3) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح 8098، 8100) من حديث عمر، وأنس- رضى الله عنهما.(4/317)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
الإشارة: الرزق مضمون بيد من أمره بين الكاف والنون، لا يزيد بحرص قوي، ولا ينقص بعجز ضعيف، بل قد ينعكس الأمر، كما قال الشاعر:
كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه ... [ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ] «1»
وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه ... كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ
وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد، ويقدره لأهل الولاية والقُرب، كما قال القائل:
اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ... مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ ... طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ
وقال عليه الصلاة والسلام- في بعض خطبه-: «أيها الناس، إن الرزق مقسوم، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له، فاتقوا الله، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ. وإن الأمر محدود، لن يجاوز أحد ما قُدر له، فبادروا قبل نفود الأجل، وإن الأعمال محصاة، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثروا من صالح الأعمال ... » الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ لرَزقتم كما تُرزق الطير تغدو خِمَاصاً وتروح بطانا» «2» .
ثم حقّر الدنيا وعظّم الآخرة، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي: وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة، ثم يتفرقون متعبَين بلا فائدة. وفيه ازدراء بالدنيا وتحقير لشأنها، وكيف لا يحقرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة؟ واللهو: ما يتلذذ به الإنسان، فيلهيه ساعة، ثم ينقضي. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ، أي: الحياة الحقيقية لأنها دائمة. والحيوان: مصدر، وقياسه: حيَيَان، فَقَلَبَ الياءَ
__________
(1) فى الأصول الخطية [ترى أمر الرزق عنه ينحرف] .
(2) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 30- 52) والترمذي فى (الزهد، باب ما جاء في التوكل على الله، 4/ 495، ح 2344) وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجه فى (الزهد، باب التوكل واليقين، 2/ 1394، ح 4164) والحاكم وصححه (4/ 318) من حديث سيدنا عمر رضي الله عنه.(4/318)
الثانية واواً. ولم يقل: لهي الحياة لِمَا في بناء فَعَلاَن من معنى الحركة والاضطراب. وفي المصباح: الحيوان:
مبالغة في الحياة، كما قيل: للموت الكثير: مَوَتَان. هـ. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ حقيقة الدارين لَمَا اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ، هو مرتب على محذوف، دلَّ عليه ما وصفهم به قَبْلُ، والتقدير: هم على ما هم عليه من الشرك والعناد، وإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي: كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهاً آخر، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، وأمنوا من الغرق، إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، أي: عادوا إلى حال الشرك، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة، وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما: إما لاَمُ كي، أي: يعودون إلى شركهم ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين، فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته، لا إلى التلذذ والتمتع. أو: لام الأمر، على وجه التهديد، كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» ، ويقويه: قراءةُ مَنْ سَكَّنَ الثانية «2» ، أي: ليكفروا وليتمتعوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تدبيرهم عند تدميرهم.
الإشارة: الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل ولا يحيط بها نقل، لأن في هذه الدار: عرفه من عرفه، وجَهِلَهُ من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر لأنه يسير بين جلاله وجماله، وهناك ليس إلا الجمال، والترقي بين الضدين أعظم، فإذا مات بقي يترقى في أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. والله أعلم.
فتحصل أن الدنيا في حق أهل الغفلة لعب ولهو لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه، ولذلك حذّر منها صلى الله عليه وسلم، فقد قال في بعض خطبه: «أيها الناس، لا تكونوا ممن خَدَعَتْهُ العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال إذ لن يبقى من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو درّ حالب، فعلام تعرجون؟ وما تنتظرون؟ فكأنكم، والله، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا، كأن لم يكن، وما تصيرون إليه من الآخرة، لم يزل، فخذوا في الأهْبة لأزُوف النقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، واعلموا أن كل امرئ على ما قَدَّمَ قادِمٌ، وعلى ما خَلَّفَ نادمٌ» . وفي حق أهل الجد جدٌ وحق لأنها مزرعة للآخرة، ومتجر من أسواق الله، فيها ربحهم وغنيمتهم. وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 29 من سورة الكهف.
(2) قرأ قالون وابن كثير وحمزة والكسائي (وليتمتعوا) بسكون اللام، على أنها للأمر، وقرأ الباقون بكسرها، إما للأمر، أو لام كى، والأصل فى كل الكسر. انظر الإتحاف (2/ 353) والبحر المحيط (7/ 155) .(4/319)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
ثم ذكّرهم بما أنعم عليهم، ليشكروا، فقال:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 68]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا بلدهم حَرَماً أي: ممنوعاً مصوناً من الهبب، آمِناً يأمن كل من دخله، أو آمناً أهله من القتل والسبي، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي:
يخطف بعضهم بعضاً، قتلاً وسبياً، إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أبعد هذه النعمة العظمى يُؤمنون بالأصنام ويعبدونها، أو: الشيطان، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيْرَهُ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ هو النعمة المهداة، أو: الإسلام. وتقديم المعمولين للاهتمام، أو للاختصاص.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن جعل له شريكاً، أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: الكتاب، لَمَّا جاءَهُ أي: لم يتلعثموا في تكذيبه لَمّا سمعوه، وفي «لَمَّا» المقتضية للاتصال، تسفيه لرأيهم، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقاماً لِلْكافِرِينَ، وهو تقرير لمثواهم في جهنم، لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي، صار إثباتاً، كقوله:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا «1» أي: أنتم خير من ركب المطايا، والتقدير: ألا يستوجبون الثوى فيها؟ وقد افتروا مثل هذه العظيمة، كذبوا على الله وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده، أو: ألم يصح عندهم أن في جهنم مَثْوىً للكافرين؟ حين اجترءوا مثل هذه الجرأة، بل لهم فيها مثوى وإقامة. وهذه الآية في مقابلة قوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» . لا سيما في قراءة الثاء. والله تعالى أعلم.
__________
(1) هذا شطر بيت.. وبقيته: وأندى العالمين بطون راح؟
(2) من الآية 58 من سورة العنكبوت.(4/320)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
الإشارة: الحرم الآمن، في هذه الدار، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجريد من أسبابها، فمن دخله أَمِنَ ظاهراً وباطناً، ومن هجرها، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها، وهو يتفرج عليهم، فالدنيا جيفة والناس كلابها، فإن خالطتهم ناهشوك، وإن تركت لهم جيفتهم سَلِمتَ منهم، فمن كذّب بهذا فقد كذَّب بالحق وآمن بالباطل، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل أهل الجد والاجتهاد ممن تبتل وانقطع إلى الله فقال:
[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا، أطلق المجاهدة ولم يُقيدها بمفعول ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين، أي: جاهدوا نفوسَهم في طلبنا، أو في حقنا، ومن أجلنا، ولوجهنا، خالصاً، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي: طُرُق السير إلينا، والوصول إلى حضرتنا، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا.
وعن الداراني: والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا. وقال الفضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم، أي: لله، لنهدينهم سبل العمل. وقال سهل: والذين جاهدوا فى إقامة السنّة، لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عطاء: جاهدوا في إرضائنا لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان. وقال ابن عباس: جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سُبل ثوابنا.
وقال الجنيد: جاهدوا في التوبة، لنهدينهم سُبل الإخلاص، أو: جاهدوا في خدمتنا لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والمعونة في الدنيا، وبالثواب والمغفرة في العُقبى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المجاهدة، على قدرها تكون المشاهدة، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له. وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم، وبها تحقق سير السائرين، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم من الجاه والغنى وغيره، والخصوص خالفوا نفوسهم، ورفضوا حظوظهم، وخرقوا عوائدهم، فَخُرِقَتْ لهم العوائد، وانكشفت عنهم الحجب، وشاهدوا المحبوب. فجاهدوا أولاً في ترك الدنيا، وتحملوا مرارة الفقر، حتى تحققوا بمقام التوكل، ثم جاهدوا في ترك الجاه والرئاسة، فتحققوا بالخمول، وهو أساس الإخلاص، ثم جاهدوا في مخالفة النفس، فَحَمَّلوها كل ما يثقل(4/321)
عليها، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها، وارتكبوا في ذلك أهوالاً وأحوالاً صِعَاباً، حتى ماتت نفوسهم مَوْتَاتٍ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم، وأشرفت على البحر الزاخر، بحر التوحيد الخاص، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان، ففني من لم يكن، وبقي من لم يزل، فدخلوا جنة المعارف، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف لأنها منطوية فيها. ولا بد من صُحبة شيخ كامل، قد سلك هذه المسالك، يلقيه زمام نفسه، حتى يوصله إلى ربه، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة.
وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تهوينٌ وتسهيلٌ على السائرين أَمْرَ نفوسِهِمْ ومجاهدَتَها، إذا علموا أن الله معهم، هان عليهم كل صعب، وقَرُبَ كل بعيد. وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(4/322)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
سورة الرّوم
مكية اتفاقا، وقيل: إلى قوله: فَسُبْحانَ اللَّهِ.. «1» إلخ. وهى تسع وخمسون، أو ستون، آية. ومناسبتها لما قبلها: أن نتيجة المعية التي ذكرها بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ هى النصر والعز الذي بشر به المؤمنين فى صدر السورة بقوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.. إلخ. قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
يقول الحق جلّ جلاله: بعد التسمية: الم أي: أيها المصطفى، أو: المرسل، غُلِبَتِ الرُّومُ أي:
غلبت فارسُ الرومَ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي: في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، أي: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام. أو: أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية: قرأ الجمهور: «غُلبت» بضم الغين. وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة، فسُر لذلك كفارُ قريش، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. هـ. وهذا معنى قوله: وَهُمْ أي: الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ، وقرئ: بسكون اللام كالحلَب والحلْب، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: وهم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس، وتكون الدولة لهم.
__________
(1) الآية 17 من السورة.(4/323)
وذلك فِي بِضْعِ سِنِينَ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي: قيل: احتربت الروم [وفارس] «1» ، بين أذرعاتِ وبُصرى، فغلبت فارسُ الروم، والمَلِكُ بفارس، يومئذٍ، كسرى «أبرويز» ، فبلغ الخبر مكة، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأنَّ فارسَ مجوسٌ لا كتاب لهم، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون [وشمتوا] «2» ، وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أُمِّيُّون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنَّ نحن عليكم، فنزلت الآية. فقال أبو بكر: والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف:
كذبت، فناحبه- أي: قامره- على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل» ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، أو: يوم بدر، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبىّ، فقال عليه الصلاة والسلام-: «تصدَّقْ به» «3» .
وهذه آية بينة على صحة نبوته، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار، [عن] «4» قتادة. ومذهب ابي حنيفة ومحمد- رضى الله عنهما-: أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا بهذه القصة. هـ. زاد البيضاوي: وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. هـ. وقرئ: «غلبت» بالفتح، و «سيغلبون» بالضم، ومعناه: أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء. أو: من قبل الغلبة وبعدها، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين- وقبله: هو وقت كونهم مغلوبين- ومن بعد كونهم مغلوبين- وهو وقت كونهم غالبين، يعني: أن كونهم مغلوبين أولاًُ، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله وقضائه. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «5» . وَيَوْمَئِذٍ أي: ويوم تغلب الرومُ فارسَ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم، يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول، وأثبته من تفسير النسفي.
(2) فى الأصول: [شتموا] .
(3) أخرجه بنحوه ابن جرير (21/ 17- 18) عن عكرمة، وجاءت القصة بسياقات وروايات متعددة. أخرجها أحمد (1/ 276- 304) ، والترمذي فى (تفسير سورة الروم، 5/ 321 ح 3193- 3194) ، وابن جرير (21/ 16- 18) ، والطبراني فى الكبير (12/ 29 ح 12377) والحاكم (2/ 410) ، وانظر الدر المنثور (5/ 289- 292) .
(4) فى الأصول [قال] ، والمثبت من تفسير النسفي.
(5) من الآية 140 من سورة آل عمران. [.....](4/324)
وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى، وَهُوَ الْعَزِيزُ: الغالب على أعدائه الرَّحِيمُ: العاطف على أوليائه.
وَعْدَ اللَّهِ أي: وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكد لِمَا قبله لأن قوله: سَيَغْلِبُونَ وعد، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلا بد من نصر الروم على فارس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو: لا يعلمون أنَّ الأمور كلها بيد الله لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها ومن التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها: ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء: إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. هـ. وباطنها: أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهِراً) : مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها وتوائبها. فهم، الثانية: مبتدأ، و (غافلون) : خبره، والجملة: خبر الأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم، غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس، في أدنى أرض العبودية، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة النفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع: من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء، وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ.
وقال الورتجبي: قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ.. الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حين تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري: قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا: استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كل امرئ عِلمُه كما في الأثر عن علىّ رضي الله عنه. قال:
وقيمة كل امرئ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ ... والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ(4/325)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة، هم بوجودها، في غفلة عن الله. هـ. قلت: وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتفكر، فقال:
[سورة الروم (30) : آية 8]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
قلت: «في أنفسهم» : يحتمل أن يكون ظرفاً، أي: أولم يحدثوا التفكر فيها، وأن تكون صلة للتفكر، نحو: تفكر في الأمر: أجال فيه فكره. والأول أظهر.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أولم يثبتوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة، فيتفكروا بها في مصنوعات الله، حتى يعلموا أنها ما خُلِقَتْ عبثاً، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقوله: اعتقده فى قلبك. أو: أوَ لَمْ يَتَفَكروا في أنفسهم، التي هي أقرب إليهم من غيرها، وهم أعلم بأحوالها، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى، ظاهراً وباطناً، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم، وأنه لا بُدَّ لها من الانتهاء إلى وقت تجازي فيه، على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا، عند ذلك، أن سائر الخلائق مثلها، وأنه لا بُدَّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت، فيعلموا أن ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي: ما خلقها باطلاً وعبثاً من غير حكمة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة البالغة، وتنتهي إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى، وهو قيامُ الساعة، ووقت الحساب، بالثواب والعقاب، فيخرب هذا العالم، ويقوم عالم آخر، لا انتهاء لوجوده.
قال في الحاشية الفاسية: وبالجملة: فخلقُ السموات والأرض للدلالة على التوحيد بوجودهما، وعلى الآخرة بفنائهما، وانقضاء أجلهما. ثم قال: والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضي جزاء أوليائه، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهداً ومنزلا منزلة الآخرة، والقالب منزلة الدنيا، وكما أن عمل القالب يعود نفعه، إذا فعل الطاعة، على القلب بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية، ويعود ضرره عليه، إذا فعل ضد ذلك، كما يعرفه أهل القلوب، وأنه مزرعة للقلب، ولا بقاء له، وإنما خلق لقضاء ذلك، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة، وإنما خلقت لذلك، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة، فاعتبر ذلك. هـ.(4/326)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث والجزاء لَكافِرُونَ: لجاحدون.
الإشارة: قد تقدّم الكلام على فضل التفكر في آل عمران «1» . وقوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ أي: ما خلق الكائنات إلا بالحق، من الحق إلى الحق، فهي من تجليات الحق، ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالحق عبارة عن عين الذات عند أهل الحق، فافهم.
ثم قال زيادة فى الأمر بالاعتبار، أو: تقول: لمَّا ذكر علمهم بظاهر الحياة الدنيا، ذكر أن من قبلهم كانوا أعلم بها، ولم ينفعهم مع التكذيب، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 9 الى 10]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
قلت: من رفع «عاقبة الذين أساءوا» فالسوأى: منصوب خبر كان، ومن نصب «عاقبة» فالسُّوأى: مرفوع اسمها، أو: مصدر لأساءوا. انظر البيضاوي. والسُّوأى: تأنيث أسوأ. و (أن كذبوا) : مفعول من أجله، أو: بدل، على أن معنى (أساءوا) : كفروا.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا اي: أَعَمُوا ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ، ثم قرره بقوله:
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: فينظروا إلى آثار الذين من قبلِهمْ كيف دمرهم الله، وأخلا بلادهم، وبقيت دراسة بعدهم، كعاد وثمود، وغيرهم من الأمم العاتية، والجبابرة الطاغية، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً حتى كان منهم من يفتل الحديد بيده، وَأَثارُوا الْأَرْضَ قلبوا وجهها بالحراثة، واستنباط المياه، واستخراج المعادن، وغير ذلك. وَعَمَرُوها اي: عمرَ المدمَّرون الأرض أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي: أهل مكة، فأكثر: صفة لمصدر محذوف. و (ما) : مصدرية، أي: عمارة هؤلاء، فإنهم أهل وادٍ غير ذي زرع، ولا تَبَسُّطَ لهم في غيرها. وفيه تهكم بهم من حيث أنهم عمروا الأرض، مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهم أضعف حالا فيها
__________
(1) راجع تفسير الآيات: 191- 194 من سورة آل عمران، ص 451- 452 من المجلد الأول.(4/327)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء ملجأون إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات، فلم يؤمنوا فأُهلِكوا، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بأن دمرهم بلا سبب، أو: من غير إعذار، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا بالكفر والمعاصي السُّواى أي: العقوبة السوأى، والأصل: ثم كان عاقبتهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، وهو إساءتهم. والمعنى:
أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كان عاقبتهم في الآخرة العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وهى النار التي أُعدت للكافرين. لأجل أَنْ كَذَّبُوا أو: بأن كذَّبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على صدق رسله، أو: على وحدانيته.
وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ حيث قابلوها بالتكذيب، أو: غفلوا عن التفكر فيها. أو: ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السّوآء أن طبع اللهُ على قلوبهم، حتى كذّبوا بالآيات، واستهزءوا بها. أو: ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى، وهو أن كذّبوا واستهزءوا، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة، فخبر كان، على هذا: محذوف للتهويل.
و (أن كذبوا) : بيان، أو: بدل من السوأى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السير إلى الله على أقسام: سَيْرُ النفوس: بإقامة عبادة الجوارح لطلب الأجور، وسَيْرُ القلوب:
بجَولاَنها في ميادين الأغيار، للتبصر والاعتبار طلباً للحضور، وسير الأرواح: بجولان الفكرة في ميادين الأنوار طلباً لرفع الستور ودوام الحضور، وسير الأسرار: الترقي في أسرار الجبروت، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام. قال القشيري: سَيْرُ النفوس في أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوب بجَوَلاَن الفكْر في جميع المخلوقات، وغايته: الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي تُوجبُ ثلج الصدور- ثم تلك العلوم على درجات- وسَيْرُ الأرواح في ميادين الغيب: بِنَعْتِ خَرْقِ سُرَادِقَات الملكوت. وقُصَاراه: الوصولُ إلى ساحل الشهود، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسَيْرُ الأسرار: بالترقي- أي: الغيبة- عن الحِدْثان بأَسْرها، والتحقق، أولاً، بالصفات، ثم بالخمود، بالكلية، عمَّا سوى الحق. هـ.
وقال في قوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى: من زَرَعَ الشوكَ لم يحصدُ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيش لم يقطف البهار، ومَنْ سَلَكَ سبيل الغيّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد. هـ.
ثم ذكر شأن البعث الذي هو عاقبة المسيء والمحسن: فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)(4/328)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم، ثُمَّ يُعِيدُهُ يحييهم بعد الموت، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح:
بالغيب، على الأصل. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ: ييأس ويتحير الْمُجْرِمُونَ المشركون يُقال: ناظرته فأبلس، أي: أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة، أو: يسكتون متحيرين، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ التي عبدوها من دون الله شُفَعاءُ يشفعون لهم ويجيرونهم من النار، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ جاحدين لها، متبرئين من عبادتها، حين أيسوا من نفعها. أو: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي: المسلمون والكافرون، بدليل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ، أي: بستان ذي أزهار وأنهار، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه، يُحْبَرُونَ: يُسرّون، يقال: حبره، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة، فقيل: يُكرمون، وقيل: يُحلّون. وقيل: هو السماع في الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء: كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان فقيل: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال:
«نعم، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنّة.» قال الراوي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله «1» .
والخمصانة: المرهفة الأعلى، الضخمة الأسفل. هـ. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ:
مقيمون، لا يغيبون عنه. عائذاً بالله من غضبه.
__________
(1) ذكره القرطبي فى التفسير (6/ 5243) ، وعزاه للثعلبى، من حديث أبى الدرداء، وأخرجه، بنحوه، البيهقي فى البعث والنشور (425) من حديث أبى هريرة موقوفا.(4/329)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو ركن إلى شيء سواه، فهو مجرم عند الخصوص، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم في حقه، يتبرأ منه يوم القيامة، ويُبلس من نفعه، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ: الآية.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريقٌ هم أهل الوصلة، وفريق هم أهل القطعة، فريق في المنة، وفريق في المحنة، فريق في السرور، وفريق في الثبور، فريقٌ في الثواب، وفريق في العقاب، فريق في الفراق، وفريق فى التلاق. قاله القشيري. وإذا كان الأمر هكذا، فَجِدَّ، أيها المؤمن، في طاعة مولاك، وأَكْثِرْ من ذكره، صباحاً ومساء، وليلاً ونهارا لتنال ذلك الوعد، وَتَنْجَو من الوعيد، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قلت: «فسبحان» : مصدر لمحذوف، أي: سبحوا سبحان. و (حين) : متعلق بذلك المحذوف، وجملة: (وله الحمد) : معترضة بين معطوفات الظروف. و (في السموات) : حال من الحمد، أي: وله، على عباده، الحمد كائناً في السموات.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: فَسُبْحانَ اللَّهِ أي: فسبّحوا الله ونزّهوه تنزيهاً يليق به في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتجدد فيها نعَمه، وهي حِينَ تُمْسُونَ تدخلون فى السماء، وَحِينَ تُصْبِحُونَ تدخلون في الصباح. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: وله، على المميّزين كلّهم، من أهل السموات والأرض، أن يحمدوه، وَعَشِيًّا أي: وسبحوه عشياً آخر النهار، وَحِينَ تُظْهِرُونَ تدخلون في وقت الظهيرة.
قال البيضاوي: وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي- الذي هو آخر النهار، من عشى العين إذا نقص نورها- والظهيرة- التي هي وسطه لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون عَشِيًّا معطوفا على حِينَ تُمْسُونَ، وقوله: وَلَهُ الْحَمْدُ.. إلخ- اعتراضاً. وعن ابن عباس: الآيةُ جامعة للصلوات الخمس، (تُمسون) : صلاتا المغرب والعشاء، (تصبحون) : صلاة الفجر، (وعشياً) : صلاة العصر، (وتُظهرون) : صلاة الظهر «1» . ولذلك زعم الحسن أنها مَدَنِيَّةٌ لأنه كان يقول:
__________
(1) أخرجه ابن جرير فى التفسير (21/ 29) ، والطبراني فى الكبير (10/ 304 ح 10596) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 401) ، وصححه، ووافقه الذهبي.(4/330)
كان الواجب عليه بمكة ركعتين، في أي وقت اتفقت، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. هـ.
ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، الطائر من البيضة، والإنسان من النطفة، أو: المؤمن من الكافر، والعالم من الجاهل. وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، البيضة من الطائر، والنطفة من الإنسان، أو: الكافر من المؤمن، والجاهل من العالم. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها بيبسها، وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ، والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة مَن هو قادر على إخراج الحي من الميت، وعكسه.
رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. إلى الثلاث آيات، وآخر سورة الصافات: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ.. إلخ.. دُبُرَ كُلّ صلاة، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء، وقطر الأمطار، وورق الأشجار، وتراب الأرض. فإذا مات أجرى له بكل لفظ عشر حسنات في قبره» «1» نقله الثعلبي والنسفي. وعنه- عليه الصلاة والسلام: «مَن قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. إلى قوله:
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يوْمِهِ، ومن قاله حين يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» «2» . رواه ابو داود.
وقال الضحاك: من قال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. إلخ كان له كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل. هـ.
زاد كعب: ولم يفته خَيْرٌ كان في يومه، ولا يدركه شر كان فيه. وإن قالها فى المساء فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه السلام يقرأها ست مرات في كل يوم وليلة. هـ.
الإشارة: أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح فلأنَّ المجوس كانوا يسجدون للشمس في هذين الوقتين تسليماً وتوديعاً، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه، وأما العشي فلأنه وقت غفلة الناس فى جمع حوائجهم، وأما وقت الظهيرة فلأن جهنم تشتعل فيه كما في الحديث، وأمر بحمده والثناء عليه في كل وقت لما غمره من النِعَم الظاهرة والباطنة.
قال القشيري: فمن كان صباحُه بالله بُوركَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليلته، وأنشدوا:
وإنَّ صَبَاحاً نلتقي في مسائه ... صَبَاحٌ على قلب الغريب حبيب «3»
__________
(1) انظر: تفسير النسفي (2/ 695) .
(2) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، 5/ 316، ح 5076) ، والطبراني فى الكبير (12/ 239 ح 12991) ، وابن السّنّي فى عمل اليوم والليلة (ح 55) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 428) : إسناده جيد.
(3) البيت: لإبراهيم بن المهدى، يذكر ابنه. انظر الكامل للمبرد (2/ 314) ، وفيه: صباح إلى قلبى، الغداة، حبيبُ.(4/331)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
شتَّان بين عبد: صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته، ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ: صباحه مُفتتح بمشاهدته، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت: الأول من عامة الأبرار، والثاني من خاصة العارفين الكبار، وبقي مقام الغافلين، وهو:
من كان صباحه مفتتح بهم نفسه، ومساؤه مختتم برؤية حسه، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس في الآية، كما تقدم- ثم قال: وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية في اليوم والليلة خمس مرات، فيقف على بساط المناجاة، ويستدرك مافاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. هـ.
وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يُخرج الذاكر من الغافل، والغافل من الذاكر، والعارف من الجاهل، والجاهل من العارف، ويُحيي أرض النفوس باليقظة والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، وكذلك تُخرجون من قبوركم على مامتم عليه، من معرفة أو جهل، من يقظة أو غفلة، يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل البعث والخروج، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على قدرته، الشاملة للبعث وغيره، أو: ومن علامات ربوبيته: أَنْ خَلَقَكُمْ أي: أباكم مِنْ تُرابٍ لأن أصل الإنشاء منه، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي: ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض، آدم وذريته. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لأن حواء خُلقت من ضلع آدم، والنساء بعدها خُلقن من أصلاب الرجال. أو: من شكل أنفسكم وجنسها، لا مِنْ جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين- إِذْ كَانَا من جنس واحد- من الألفة والمودة والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه: إذا مال إليه. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي: جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن: المودة كناية عن الجماع، والرحمة هي الولد. وقيل: المودة للشابة الجميلة، والرحمة للعجوز، وقيل: المودة والرحمة من الله، والفَرْك من الشيطان- أي: البغض من الجانبين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون ما في ذلك من الحِكم، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.(4/332)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
الإشارة: أصل نشأة البشرية من الطين، وأصل الروح من نور رب العالين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين، فكان همها الطين، وهوت إلى أسفل سافلين، فلا تجد فكرتها وحديثها، في الغالب، إلا في عالم الحس، ويكون عملها كله عَمَلَ الجوارح، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة وذلك بدخول مقام الفناء، حتى تستولي المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعملها كله قلبي وسري، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، يبقى مع الروح ببقائها، يجري عليها بعد موت البشرية، ويبعث معها، كما تقدم في الحديث: (يموت المرء ... ) إلخ.
قال القشيري: يقال: الأصل تُربة، ولكن العِبرَة بالتربية لا بالتربة. هـ. قلت: إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية، ثم قال: اصطفى الكعبة، فهي خير من الجنة، مع أن الجنة جواهر ويواقيت، والكعبة حجر ومدر، أي:
كذلك المؤمن الكامل، وإن كان أصله من الطين، فهو أفضل من كثير من العوالم اللطيفة. ثم قال في قوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.. الآية: رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، وربط الشكلَ بالشكل، وجعل سكونَ البعض إلى البعضِ، وذلك للأشباح والصُّورَ، والأرواح صحِبت الأشباح كرهاً لا طوعاً، وأما الأسرار فمُعْتَقَةٌ، لا تساكن الأطلال، ولا تتدنس بالأغيار. هـ.
قلت: وكأنه يُشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية، لا روحانية، ولا سرية إذ الروح والسر لا يتصور منهما ميل إلى غير أسرار الذات العلية إذ محبة الحق جذبتها عن الميل إلى شيء من السّوى.
واختلف الصوفية: هل تُخِلُّ هذه المودة التي بين الزوجين بمحبة الحق، أم لا؟ فقال سهل رضي الله عنه: لا تضر الروح لقوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي من دنياكم ثلاث..» «1» فذكر النساء، إذا كان على وجه الشفقة والرحمة، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة: أنه لا يتغير عند فَقْدها، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم. «2»
[سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
__________
(1) لفظ «ثلاث» لم يرد- مطلقا فى روايات الحديث الصحيحة. قال الحافظ ابن حجر: وليس فى شىء من طرقه «لفظ ثلاث» وراجع تخريج هذا الحديث الشريف عند إشارة الآية 45 من سورة العنكبوت.
(2) انظر: مجمع الأمثال للميدانى 1/ 129.(4/333)
قلت: (يُريكم البرق) : فيه وجهان، أحدهما: إضمار «أن» كما في حرف ابن مسعود، والثاني: تنزيل الفعل منزلة المصدر، كما قيل في قولهم، في المثل: «تَسْمعَ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه» . أي: إن تسمع، أو: سماعك.
و (خوفا وطعما) : مفعولان له على حذف مضاف، أي: إرادة خوف، وإرادة طمع، أو: على الحال، أي: خائفين وطامعين. و (إذا دعاكم) : شرطية، و (إذا) ، الثانية فجائية، نابت عن الفاء. و (من الأرض) : يتعلق بدعاكم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على باهر قدرته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال القشيري: السموات في علوِّها، والأرض في دنوِّها، هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها، هذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها، واختلاف لغات أهلها في الأرض، واختلاف تسبيح الملائكة- عليهم السلام- الذين هم سكان السماء. هـ. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ باختلاف اللغات، وبأجناس النطق وأشكاله، وَأَلْوانِكُمْ، كالسواد والبياض وغيرهما، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين إلا وبينهما نوع تخالف في اللسان واللون، وباختلاف ذلك وقع التعارفُ والتمايز، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت المصالح. وفي ذلك آية بينة، حيث وُلدوا من أب واحد، وهم على كثرتهم متفاوتون. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بفتح اللام وكسره «1» . ويشهد للكسر قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» .
قال القشيري: واختصاص كلِّ شيء من هذه ببعض جائزات حكمها شاهدٌ عَدْلٍ، ودليلٌ صِدْقٍ، يناجي أفكار المستيقظين، وتنادي على أنفسها: أنها، بأجمعها، بتقدير العزيز العليم. هـ.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، أي: منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار، أو: منامكم في الزمانين، وابتغاؤكم من فضله فيهما، وهو حسن لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر، بآذان واعية. قال القشيري:
غَلَبةُ النوم لصاحبه من غير اختيار، وانتباهُه بلا اكتساب، يدلُّ على موته ثم بَعْثِهِ، ثم في حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه يدل على حاله في قبره. الله أعلمُ كيف حاله، في أمره، فيما يلقاه من خيره وشره. هـ. «3»
__________
(1) قرأ حفص: بكسر اللام قبل الميم، جمع «عالم» ، ضد الجاهل، وقرأ الباقون: بفتح اللام جمع «عالم» . انظر الإتحاف (2/ 356) .
(2) من الآية 43 من سورة العنكبوت.
(3) بالمعنى.(4/334)
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، أي: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث، أو: خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطراً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: يتفكرون بعقولهم.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ بغير عمد وَالْأَرْضُ على ماء جماد بِأَمْرِهِ أي: بإقامته، أو: تدبيره وقدرته. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ للبعث دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من قبوركم. وسبك الآية: ومن آياته قيام السماوات والأرض، واستمساكها بغير عمد، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة، يا أهل القبور، خرجتم بسرعة.
وإنما عطف هذا بثم بياناً لعِظَم ما يكون من ذلك الأمر، وإظهار اقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كقوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» .
تنبيه: عبّر عن مودة الزوجين بيتفكرون لأن المودة قلبية، لا تُدْرَكُ إلا بتفكر القلب، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالِمين لأن أمر ذلك يدركه كل أحد، ممن له عقل أو علم، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون لأن من كان في الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ، وإنما يسمعها مَنْ كان متيقظاً، وعبّر عن إظهار البرق، وإنزال المطر، وإحياء الأرض، بيعقلون لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكة من عقل سليم، ويعلم أنه من الله بلا واسطة. والله تعالى علم.
الإشارة: ما نُصِبَتْ هذه الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق، ومظاهر من مظاهره، وأنوار من أنوار ملكوته، متدفقة من بحر جبروته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون بالله، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها، وباهر قدرته وحكمته، فيقوي إيمانهم ويشتد إيقانهم.
قال في الإحياء: وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنْه جلال الله مُحال، وكلما كثرت المعرفة بالله سبحانه، وبأفعال مملكته، وأسرار مملكته، وقويت، كثر النعيم في الآخرة وعَظُم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحَسُن. وقال أيضاً، في كتاب شرح عجائب القلب: ويكون سعة ملك العبد في الجنة بحسب سعة معرفته بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه، ومن صفاته وأفعاله. هـ.
ومن آياته خلق سماوت أرواحكم، وأرض نفوسكم، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية، والنفوس بآداب العبودية، واختلاف ألسنتكم فبعضها لا تتكلم إلا في الفَرْق، وبعضها إلا في الجمع. وألوانكم بعضها ظهر فيها
__________
(1) من الآية 68 من سورة الزمر.(4/335)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
سيما العارفين، وبهجة المحبين، وبعضها لم يظهر عليها شيء من ذلك. ومن آياته منامكم في ليل الغفلة والبطالة، وَقْتَ غفلَتِكُمْ، وابتغاؤكم من فضله بزيادة معرفته، وَقْتَ يقظتِكُمْ. ومن آياته يُريكم البرق، أي: يُلْمِعُ عليكم أسرَار المعاني، ثم تخفى عند الاستشراف على بحر الحقيقة، خوفاً من الاصطلام والرجوع، وطمعاً في الوصول والتمكين. ومن آياته أن تقوم الأشياء به وبأسرار ذاته، ثم إذا دعاكم دعوة من أرض القطيعة إذا أنتم تخرجون، فتعرجون بأرواحكم إلى سماء وصْلته وتمكن معرفته. والله تعالى أعلم.
ثم برهن على كمال ملكه وعظمته، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكاً ومُلكاً، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي:
مطيعون، كلُّ لما أراد، لا يستطيع التغيرَ عن ذلك. أو: مُقرّون بالعبودية، أو: قائمون بالشهادة على وحدانيته.
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: يُنشئهم ثم يعيدهم للبعث، وَهُوَ أي: البعث أَهْوَنُ أيسر عَلَيْهِ عندكم لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء، فلِمَ أنكرتم الإعادة، مع إقراركم بأن الإنشاء منه تعالى؟
وقال الزجاج وغيره: أهون بمعنى «هيّن» كقوله: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً «1» ، كما قالوا: أكبر، بمعنى كبير. والإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هُوّنت بالقياس إلى الإنشاء إذ هو أهون عند الخلق من الإنشاء لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نُطفاً، ثم عُلقاً، ثم مضغاً، إلى تكميل خلقهم. قاله النسفي.
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: الوصف الأعلى، الذي ليس لغيره، وقد عُرف به، ووُصف في السموات والأرض، على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاءٍ وإعادة، وغيرهما من المقدورات، وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: القاهر لكل مقدور، الْحَكِيمُ الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس: المثل الأعلى هو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» .
وعن مجاهد: هو قول: «لا إله إلا الله» . ومعناه: وله الوصف الأرفع، وهو اختصاصه بالألوهية في العالم العلوي والسفلي، ويعضده: ما بعده مِنْ ضرب المثل. والله تعالى أعلم.
__________
(1) مِنْ الآية 30 من سورة النساء.
(2) من الآية 11 من سورة الشورى. [.....](4/336)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
الإشارة: الاشياء كلها، من عرشها إلى فرشها، حيها وجامدها، قانتة وساجدة لله تعالى، من حيث حِسُّها الذي هو مَقَر العبودية، وغنية عن السجود من حيث معناها لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد، من حيثُ فرقه، عبد خاضع، ومن حيث جمعه: حُر مُطاع.
قال القشيري: قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي: في ظنِّكم وتقديركم. وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحق لا تجوز. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى والصفات العلى في الوجود بحق القِدَم، وفي وجوده- أي: للأشياء- بنعت الكرم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النظرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلق، وفي الحكْم بوجود التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية بحكم النفوذ، وفي الجبروت بعين العز والجلال، وفي الملكوت بنعت الجد والكمال. هـ. قلت: والحاصل ان المثل الأعلى يرجع إلى كمال ذاته، تعالى، وصفاته وأفعاله.
ثم ضرب مثلا لقبح الشرك، بعد بيان علو شأنه، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
يقول الحق جلّ جلاله: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا لقُبح الشرك وبشاعته، منتزعاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ التي هي أقرب شيء إليكم، وهو: هَلْ لَكُمْ، معَاشرِ الأحْرَارِ، مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اي: من عبيدكم مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فَمِنْ، الأولى: للابتداء، والثانية: للتبعيض، والثالثة: مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى: هل لكم، من بعض عبيدكم، شرك فيما رزقناكم، اي: هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم فيما رَزَقْنَاكُمْ؟ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم وهم، فيما رزقناكم من الأموال، سواء يتصرفون فيه كتصرفكم، ويحكمون فيه كحكمكم، مع أنهم بشرٌ مثلكم، حال كونكم تَخافُونَهُمْ أن يستبدوا بالتصرف فيه، كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض- فيما هو مشترك بينهم- أن يستبد فيه بالتصرف دونه. أو: تخافونهم أن يقاسموكم تلك الأموال، أو: يرثونها بعدكم، كما تخافون ذلك من بعضكم، فإذا لم تَرْضَوْا ذلك لأنفسكم، فكيف ترضونه لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء في استحقاق العبادة؟!(4/337)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
كَذلِكَ، أي: مثل هذا التفصيل البديع، نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون في ضرب الأمثال، ويعرفون حكمها وأسرارها، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم، فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي: تبعوا أهواءهم، جاهلين، ولو كان لهم عِلْمٌ لَرُجِيَ أن يزجرهم، فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ اي: لا هادي له قط، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من العذاب، أو: يَحْفُظونهم من الضلالة، أو: من الإقامة فيها.
الإشارة: ما قيل في الشرك الجلي يجري مثله في الشرك الخفي فأن الحق تعالى غيور، لا يُحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه، وأنْشَدُوا «1» :
لِي محْبوبٌ إنما هُوَ غَيُور يُطلُّ في القَلبِ كَطَيرٍ حَذُور ذَا رَأَى شَيئًا امتَنَع أَنْ يَزُورْ فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يُحب غيرك، ويخضع له، كذلك الحق تعالى لا يرضى منكُ أن تميل لغيره. قال القشيري: قوله: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ: أشدُّ الظلم متابعةُ الهوى لأنه قريب من الشِّرْكِ.
قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «2» ، ومن اتَّبع هواه خالف رضا مولاه، فهو، بوضع الشيء في غير موضعه، صار ظالماً، كما أن العاصي، بوضع المعصية في موضع الطاعة، صار ظالماً، كذلك بمتابعة هواه، بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه، صار في الظلم متماديا. هـ.
ثم أمر بالتوحيد الخالص، المقصود من ضرب المثل، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
__________
(1) وهو الششترى، كما ذكر الشيخ المفسر فى إيقاظ الهمم/ 437.
(2) من الآية 23 من سورة الجاثية.(4/338)
قلت: (حنيفاً) : حال من (الدين) ، أو: من الأمور، وهو ضمير (أقم) ، و (فطرة) : منصوب على الإغراء.
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو: لكل سامع: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي: قوّم وجهك له، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ عنه يميناً ولا شمالاً. وهو تمثيلٌ لإقباله على الدين بكُلِّيته، واستقامته عليه، واهتمامه بأسبابه فإنَّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه، وسدّد إليه نظره، حَنِيفاً أي: مائلاً عن كل ما سواه من الأديان، فِطْرَتَ اللَّهِ أي: الزموا فطرة الله. والفطرة: الخلقة: أَلاَ ترى إلى قوله: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ؟ فالأرواح، حين تركيبها في الأشباح، كانت قابلة للتوحيد، مُهَيَّأَةً له، بل عالمة به بدليل إقرارها به في عالم الذر، حتى لو تُركوا لَما اخْتَارُوا عليه ديناً آخر، ومَن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفي حديث قدسي: «كُلٌّ عِبَادي خَلَقْتُ حنيفاً، فاجتالتَهُمْ الشّيَاطِينُ عنْ دِينهمْ، وأمَرُوهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي غيري» «1» ، وفي الصحيح: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الفطرة، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أوْ يُمجِّسَانِهِ» «2» قال الزجّاج: معناه: أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به، على ما جاء في الحديث: «إن الله عز وجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم، فقالوا: بلى» «3» ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى رَبُّهَا وخالقها. هـ. قال ابن عطية: الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة: أنها الخِلقة والهيئة في نفس الطفل، التي هي مهيئة لمعرفة الله والإيمان به، الذي على الإعداد له فطرَ البشر، لكن تعرض لهم العوارض على حسب ما جرى به القدر، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر، كما في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «4» ، أي: خلقهم معَدين لذلك، فأمر من ساعده القدر، وصرف عن ذلك من لم يُوفق لما خلق له. هـ.
فقوله في الحديث: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد عَلَى الفِطْرَةِ» أي: على القابلية والصلاحية للتوحيد، ثم منهم من يتمحض لذلك، كما سبق في القدر، ومنهم من لم يوفق لذلك، بل يخذل ويُصرف عنه لما سبق عليه من الشقاء.
وقال في المشارق: أي: يخلق سالماً من الكفر، متهيئاً لقبول الصلاح والهدى، ثم أبواه يحملانه، بَعْدُ، على ما سَبق له في الكتاب. هـ. قال ابن عطية: وذِكْرُ الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. ثم قال: وقد فطر الله
__________
(1) أخرجه بنحوه، مطولا، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها، فى الدنيا، أهلِ الجنَةِ وأهل النَّارِ 4/ 2197، ح 2865) من حديث عياض المجاشعي. ولفظه: «إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. الحديث.
(2) أخرجه البخاري فى (القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين ح 6599) ، ومسلم فى (القدر، باب معنى كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الفطرة، 4/ 2047، ح 2658) بزيادة فى آخره، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 272) وقال فى مجمع الزوائد (7/ 25) : رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
(4) الآية 56 من سورة الذاريات.(4/339)
الخلق على الاعتراف بربوبيته، ومن لازم ذلك توحيده، وإن لم يُوَفِّقُوا لذلك كُلُّهم، بل وَحِّدَه بعضُهم، وأشرك بعضهم، مع اتفاق الكل على ربوبيته ضَرُورَة أن الكلَّ يشعر بقاهر له مدبر. قال في الحاشية: والحاصل: أنه تعالى فطر الكل في ابتداء النشأة، على الاعتراف بربوبيته، ولكن كتب منهم السعداء موحدين، وكتب الأشقياء مشركين، مع اعتراف الجميع بربوبيته، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية، فأشركوا، فناقضوا لازم قولهم. هـ.
وهذا معنى قوله تعالى: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، أي: خلقهم في أصل نشأتهم عليها، لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي: ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تُغير. وقال الزجاج: معناه: لا تبديل لدين الله، ويدل عليه قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقيقة ذلك. حال كونكم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي: راجعين إليه، فهو حال من ضمير: الزموا. وقوله: وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: عطف على الزموا. أو: على (فأقم) لأن الأمر له- عليه الصلاة والسلام- أمرٌ لأمته، فكأنه قال: فأقيموا وجوهكم، منيبين إليه، وَاتَّقُوهُ أي: خافوا عقوبته، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: أَتْقِنُوهَا وأدّوها في وقتها، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ممن يشرك به غيره في العبادة.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: بدل من «المشركين» بإعادة الجار، أي: لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أدياناً مختلفة باختلاف ما يعبدونه لاختلاف أهوائهم. وقرأ الأَخَوَان: (فارقوا) أي: تركوا دين الإسلام الذي أُمروا به، وَكانُوا شِيَعاً أي: فرقاً، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها، أي: تشيعه، وتقوي سواده، كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون، ظناً بأنه الحق، ثم يبدو لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لم يكونوا يحتسبون. والعياذ بالله.
الإشارة: الفطرة التي فَطَر الله الأرواحَ عليها هى معرفة العيان لأنها كلها كانت عارفة بالله لصفائها ولطافتها، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كَثَافَةُ الأبدان، والاشتغالُ بحظوظها وهواها، حتى نسيت تلك المعرفة. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه «1» :
وَلَمْ تَزَلْ كُلُّ نُفُوسٍ الأَحْيَا ... لأمَةً درَّاكة للأشيَا
وَإِنَّمَا تَعُوقُها الأبدَان ... وَالأَنْفُسُ النُّزَّعُ والشَّيطَان
فَكُلُّ مَنْ أذاقهم جهادَه ... أظهرَ لِلْقَاعِدِ خَرقَ العادة
__________
(1) انظر الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية ص 111.(4/340)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
قال بعضهم: إنما حجب الله عنها تلك العلوم غيرة أن تكشف سر الربوبية فيظهر لغير أهله، قال القشيري:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ أي: أَخِلْصْ قَصْدَك إلى الله، واحفَظْ عهدك معه، وأَفْرِدْ عملك، في سكناتِك وحركاتك وجميع تصرفاتِك، له. حَنِيفاً أي: مستقيماً في دينه، مائلاً عن غيره، مُعْرِضاً عن سواه. والزَمْ (فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها) ، ثم ذكر ما تقدم لنا. ثم قال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إلى الله بالكلية، من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفائه، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه، مُتَّقينٍ صغير الإثم وكبيره، وقليله وكثيره، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهراً، متحققين بمرعاة فضلها سِراً.
وقال في قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: أقاموا في دنياهم في دار الغفلة، وعناد الجهل والفترة، فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وثَمِلُوا بِسُكْرِ غَيِّهِمْ، وظنوا أنهم على شيء، فإذا انكشف ضبابُ وقتهم، وانقشع سحابُ هجرهم، انقلب فرحُهم تَرَحاً، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة، ولم يعرجوا إلا في أوطان الجهالة. هـ.
ثم ذكر حال أهل الغفلة، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 36]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
قلت: (إِذَا هُمْ) : جواب (إن) . و (إذا) الفجائية، تَخْلُفُ الفاء، لتآخيهما في التعقيب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ كمرض، وفقر، وشدة، أو غير ذلك، دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ راجعين إِلَيْهِ من دعاء غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصاً من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ شركاً جلياً أو خفياً، أي: فاجأ بعضهم الإشراك بربهم الذي عافاهم، لِيَكْفُرُوا إما: لام كي، أو: لام الأمر للوعيد والتهديد، أي: أشركوا كي يكفروا بِما آتَيْناهُمْ من النِعَم، التي من جملتها: نجاتهم وخلاصهم من كل شدة، فَتَمَتَّعُوا بكفركم قليلاً أمر تهديد، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم.(4/341)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجّة على عبادة أصنامهم، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ، وتكلمه مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه: الشهادة، كأنه قال: يشهد بصحة ما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ، فما:
مصدرية، أي: بصحة كونهم بالله يشركون، أو: موصولة، أي: بالأمر الذي بسببه يشركون.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي: نعمة من مطر، أو: سعة رزق، أو: صحة، فَرِحُوا بِها فرح بَطَرَ وافتخار وغفلة. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلاء من جدب، أو ضيق، أو مرض، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي، أي: بشؤمها، إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من رحمة الله، وفرجِهِ بعد عسره. يقال:
قَنِطَ يَقْنَطُ، كفرح يفرح، وكعلم.
الإشارة: الواجب على المؤمنين أن يتخلقوا بضد ما تخلق به الكافرون فإذا مسهم ضر أو شدة، توجهوا إلى الله، إما بالتضرع والابتهال عبودية، منتظرين ما يفعل الله، وإما بالصبر، والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار.
فإذا جاء الفرج والنعمة شكروا الله وحمدوه، ونسبوا الفرج إليه وحده، فإن كان وقع منهم سبب شرعي لم يلتفتوا إليه قط إذ لا تأثير له أصلاً، وإنما الفرج عنده لا به، فلا يقولوا: فلان ولا فلانة، وإنما الفاعل هُوَ الله الواحد القهار.
وهذا الشرك الخفي مما ابتلى به كثير من الناس، علماء وصالحين، وخصوصاً منهم من يتعاطى كتب الفلسفة، كالأطباء وغيرهم، إذا أصابهم شيء فزعوا، فإذا فَرَّجَ عنهم قالوا: فلان داوانا، وفلان فرَّج عنا، والدواء الفلاني هو شفاني، فتعالى الله عما يشركون. فليشدّ العبدُ يده على التوحيد، ولا يرى في الوجود إلا الفرد الصمد، الفعّال لما يريد.
ومن أوصاف أهل الغفلة: أنهم، إذا أصابتهم نعمة، فرحوا وافتخروا بها، وإذا أصابتهم شدة قنطوا وأيسوا من روح الله، والواجب: ألا يفرح بما هو عارض فانٍ، ولا ييأس من روح الله عند الشدة، بل ينتظر من الله الفرج، فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، إن مع العسر يسرا. قال تعالى: مَآ أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.. «1» الآية.
وبالله التوفيق.
ثم برهن على توالى النعم والمحن على العبد، مادام فى دار الدنيا، فقال:
__________
(1) الآيتان: 22- 23 من سورة الحديد.(4/342)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
[سورة الروم (30) : الآيات 37 الى 39]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: يضيق على من يشاء، فينبغي للعبد أن يكون راجياً ما عند الله، غير آيس من روح الله إذ دَوَامُ حَالٍ من قضايا المحال، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال قدرته وحكمته، ولا يقفون مع شيء دونه. قال النسفي: أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه القابض الباسط، فما لهم يقنطون من رحمته؟ وما لهم لا يرجعون إليه، تائبين من معاصيهم، التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد عليهم رحمته؟
ولما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يحب أن يفعل وما يجب أن يترك، يعني: عند البسط فقال: فَآتِ ذَا الْقُرْبى أعطِ قريبك حَقَّهُ من البر والصلة مما بسط عليك. وَأعط الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ حقهما من الصدقة الواجبة أو التطوعية، حسبما تقتضيه مكارم الأخلاق. والخطاب لمن بسط عليه، أو: للنبى- عليه الصلاة والسلام، وغيره تبع. ذلِكَ أي: إيتاء حقوقهم الواجبة، والتطوعية، خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي: ذاته المقدسة، أي: يقصدون، بمعروفهم، إياه، خالصاً. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل خير، قد حَصَّلوا، بما بسط لهم، النعيم المقيم.
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي: وما أعطيتم من مال لتأخذوا من أموال الناس أكثر منه، كَيْفِيَّةً أو كَمِّيَّةً، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ولا يبارك فيه، بل يُسحته ويمحقه، ولو بعد حين. وهذه صورة الربا المحرمة إجماعاً، وقيل: وما أعطيتم من هدية لتأخذوا أكثر منها، فلا يربو عند الله، لأنكم لم تقصدوا به وجه الله.
وهذه هدية الثواب، جائزة، إلا في حقه- عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «1» . وقرأ ابن كثير: «أتيتم» بالقصر، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. وقرأ نافع «3» : «لتُرْبُوا» بالخطاب، أي: لتصيروا [ذَوِي] «2» ربا، فتزيدوا فى أموالكم.
__________
(1) الآية 6 من سورة المدثر.
(2) فى الأصول [ذا] .
(3) وكذا قرأ أبو جعفر ويعقوب. وقرأ الباقون بياء الغيب وفتحها. انظر الإتحاف (2/ 357) .(4/343)
وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ صدقة، تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصاً، لا تطلبون به زيادة، ولا مكافأة، ولا سمعة، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي: ذوو الأَضْعَافِ من الحسنات، من سبعمائة فأكثر. ونظير المُضْعِفِ: المقوي، والموسر، لذي القوة واليسار. والالتفات إلى الخطاب في (أولئك ... ) إلخ في غاية الحسن لما فيه من التعظيم، كأنه خاطب الملائكة وخواص الخلق تعريفاً بحالهم، وتنويهاً بقدرهم، ولأنه يفيد التعميم، كأنه قيل: مَنْ فَعَلَ هذا فسبيله سبيل المخاطبين المقبول عليهم. ولا بد من ضمير يعود إلى «ما» الموصولة، أي:
المضعفون به. أو: فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون. وقال الزجاج: أي: فأهلها هم المضعفون، أي: يضاعف لهم الثواب، من عشر إلى سبعمائة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: البسط والقبض يتعاقبان على العبد تَعَاقُبَ الليل والنهار. فالواجب على العبد: الرجوعُ إلى الله في السراء والضراء، فالبسط يشهد فيه المنّة من الله، ومقتضى الحق منك الحمدُ والشكر. والقبض يشهده من الله امتحاناً وتصفية، ومقتضى الحق منك الصبرُ والرضا، وانتظار الفرج من الله فإن انتظار الفرج، مع الصبر، عبادة. قال القشيري: الإشارة إلى ألا يُعلِّق العبدُ قلبَه إلا بالله لأن ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله، وما يسرهم ليس وجودُه إلا من الله. فالبسطُ، الذي يسرهم ويؤنسهم منه، وجوده، والقبض، الذي يسوءهم ويوحشهم منه، حصولُه. فالواجب: لزوم [عهوده بالإسرار] «1» ، وقطعُ الأفكار عن الأغيار. هـ.
وقال في قوله: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ: القرابة على قسمين قرابةُ النسب وقرابةُ الدين، وهي أمسُّ، وبالمواساة أحقّ. وإذا كان الرجلُ مشتغلا بالعبادة، غيرُ متفرَغ لطلب المعيشة، فالذي له إيمان بحاله، وإشرافٌ على وقته، يجب عليه أن يقوم بشأنه، بقدر ما يمكنه، مما يكون له عونٌ على طاعته، مما يشوش قلبه، من حديث عياله، فإن كان اشتغال الرجل بشيء من مراعاة القلب فحقّه آكد، وتَفَقُّدَه أوْجَب، ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، والمريدُ هو الذي يُؤْثِرُ حقَّ الله على حظِّ نَفْسِه. فإيثارُ الإخوان، لمن يريد وجه الله، أتمُّ من مراعاة حال نفسه، فهمّه بالإحسان لذوي القربى والمساكين يتقدم على نظره لنفسه وعَيْلَتِهِ، وما يهمه من نصيبه. هـ.
وقال في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ: لا تستخدم الفقير بما تُريده به من رفق، بل أفضل الصدقة على ذي رَحمٍ كاشح، أي: قاطع حتى يكون إعطاؤُه لله مجرداً عن كل نصيبٍ لَكَ. فهؤلاء هم الذين يتضاعِفُ أجِرْهم بمجاهدتهم [لنفوسهم] «2» ، حيث يخالفونها، وفوزهم بالعِوَضِ من قِبَل الله. ثم الزكاة هي التطهير، فتطهيرُ المال
__________
(1) فى القشيري [عقوة الأسرار] .
(2) فى الأصول [لنفسهم] .(4/344)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
معلومٌ ببيان الشريعة، وزكاة البَدَنِ وزكاةُ القلبِ، وزكاةُ السِّر، كلُّ ذلك يجب القيام به. هـ. قلت: فزكاة البدن:
إتعابه في القيام بوظائف العبودية الظاهرة، وزكاة القلب: تطهيره من الرذائل وتحليته بالفضائل، وزكاة السر:
صيانته من الميل إلى شيء من السِّوى. والله تعالى أعلم.
ثم برهن على وحدانيته، فقال:
[سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قلت: (الله) : مبتدأ، و (الذي خلقكم) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أظهركم ثُمَّ رَزَقَكُمْ ما تقوم به أبدانكم، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند بعثكم ليجازيكم على فعلكم، أي: هو المختص بالخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء. هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أصنامكم مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: من الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، مِنْ شَيْءٍ أي: شيئاً من تلك الأفعال؟ فلم يجيبوا، عجزاً، فقال استبعاداً وتنزيهاً: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. و «من» الأولى، والثانية، والثالثة: زوائد لتأكيد عجز شركائهم، وتجهيل عَبَدَتِهِمْ.
الإشارة: ذكر الحق تعالى أربعة أشياء متناسقة أنه هو فاعلها، فأقر الناس بثلاثة، وشكُّوا في الرزق، وقالوا:
لا يكون إلا بالسبب، والسبب إنما هو ستر لسر الربوبية. فإذا تحقق وجوده في حق العامة ارتفع فى حق الخاصة، فيرزقهم بلا سبب، لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
«1» .
قال القشيري: حين قذفك في بَطْنِ أُمّك قد كنت غنياً عن الأكل والشراب بقدرته، أو مفتقراً إليه، فأجرى رزقه عليك مع الطمث، على ما قالوا، وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فيسر لك أسباب الشُرْب والأكل من لبن الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان، وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق اللسان من الأذكار، وغير ذلك مما جرى ذكره. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
__________
(1) الآيتان: 2- 3 من سورة الطلاق. [.....](4/345)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
بسقوط شهواتكم، ويُميتكم عن شواهدكم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بحياة قلوبكم، ثم بأن يحييكم بربكم. ويقال: من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق، ومنها ما هو شهود الرزاق. ويقال: لا مُكْنَةَ لك في تبديل خلقك، فكذلك لا قدرة لك على تغيير رزقك. فالمُوَسَّع عليه: رزقه بفضل ربه، لا [بمناقب] «1» نفسه. والمُقَتّر عليه رزقُه بحُكم ربه، لا بمعايب نفسه. هـ. وبعضه بالمعنى.
وقد يضيق رزقه على العباد لما يظهر فيهم من الفساد، كما قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
يقول الحق جلّ جلاله: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أما الفساد في البر فالقحط، وقلة الأمطار، وعدم الريع في الزراعات والربح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدوابّ، ومحق البركات من كل شيء.
وأما في البحر فبكثرة الغرق، وانقطاع صيده. بِما وذلك بسبب ما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ من الكفر والمعاصي، ولو استقاموا على الطاعة لدفع الله عنهم هذه الآفات. أظهر فيهم ذلك لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي: ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، عن «قُنْبل ويعقوب» :
بنون التكلم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه من المعاصي.
قُلْ لكفار قومك: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لتُعاينوا ما فعلنا بهم بسبب كفرهم ومعاصيهم لأنه كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فدمرناهم، وخربنا ديارهم، فانظروا: كيف كان عاقبتهم، لعلكم ترجعون عن غَيكم.
الإشارة: قال القشيري: الإشارة فى البر إلى النّفس، وفي البحر إلى القلب، وفسادُ البرّ بأَكْلِ الحرام وارتكاب المحظورات، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة، مثل سوء العزم، والحسد والحقد، وإرادة الفسوق، وغير ذلك. وعَقْدُ الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب، كما أنَّ العَزْمَ على الخيرات، قبل فِعْلها، من أعظم الخيرات. ومن جملة الفساد: التأويلاتُ بغير حقٍّ، والانحطاطُ إلى الرُّخَصِ من غير قيام بحقٍ، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء. هـ.
__________
(1) فى الأصول [بمثاقبة] والمثبت من القشيري(4/346)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
قال الورتجبي: إن الله غلب الإنسانية على الكون طاعةً ومعصية، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها، وإذا رزق المعصية فسد الحدثان بشؤم معصيته لأن طاعته ومعصيته من تواثير «1» لطفه وقهره، عَلاَ بنعت الاستيلاء على الوجود، فإذا فسادها يؤثر في بَرِّ النفوس وبحار القلوب، ففساد بَرَّ النفوس: فَتْرَتُهَا عن العبودية، وفساد بحر القلب: احتجابه عن مشاهدة أنوار الربوبية. هـ.
قلت: وقد يقال: ظهر الفساد في بر الشريعة بذهاب حَمَلَتِهَا، ومن يحفظها، ويذب عنها، وفي بحر الحقيقة بقلة صدق من يطلبها، وغربة أهلها، واختفائها حتى اندرست أعلامها، وخفي آثارُها، والبركة لا تنقطع. وذلك بسبب ما كسبت أيدي الناس من إيثار الدنيا على الله ليذيقهم وبال القطيعة لعلهم يرجعون إليه، إما بملاطفة الإحسان، أو بسلاسل الامتحان.
قال في لطائف المنن: سأل بعضُ العارفين عن أولياء العدد، هل ينقصون؟ فقال: لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قَطْرَهَا، ولا أنبتت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم، ولا بنقص إمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم، مع وجود بقائهم. فإذا كان أهل الزمان مُعْرضين عن الله، مؤثرين لما سوى الله لا تنجح فيهم الموعظة، ولا تميلُهم التذكرة، لم يكونوا أهلاً لظهور أولياء الله تعالى فيهم، ولذلك قالوا:
أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون. هـ.
قال القشيري: (قل سيروا) بالاعتبار، واطلبوا الحقَّ بنعت الافتكار، وانظروا: كيف كان حال من تقدمكم من الأشكال والأمثال؟ وقيسوا عليها حُكْمَكم في جميع الأحوال، (كان أكثرهم مشركين) : كان أكثرهم عدداً، ولكن أقل في التحقيق وزنا وقدرا. هـ.
ثم أمر بالتأهب ليوم المعاد، وبه يندفع عن الخلق الفساد، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
__________
(1) هكذا فى الأصول، وكذا فى الورتجبي. ولعلها: تآثير، جمع تأثير.(4/347)
يقول الحق جلّ جلاله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ أي: قوّمه وَوَجّهّه لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ في الاستقامة، الذي لا يتأتى فيه عوج ولا خلل. وفيه، من البديع، جناس الاشتقاق. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمتُه تبع، أو: لكل سامع.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو البعث، لا مَرَدَّ لَهُ أي: لا يقدر أحد على رده، ومِنَ اللَّهِ: متعلّق بيأتي، اي:
من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد، أو بمرد لأنه مصدر، أي: لا مرد له من جهة الله، بعد أن يجيء لتعلق الإرادة به حينئذٍ. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدّعون، فأدغم التاء في الصاد. وفي الصحاح: الصدع: الشق، يقال صدعته فانصدع، أي: انشق. وتصدّع القوم: تفرقوا. هـ. أي: يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أشار إلى غِنَاهُ عنهم، فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وبال كفره، لا يحمله عنه غيره. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي: يسوون لأنفسهم في قبورهم، أو: في الجنة ما يسوي لنفسه الذي يمهد فراشه ويُوطئه لئلا يصيبه في مَضْجَعِهِ ما ينغص عليه مَضْجَعَهُ. وتقديم الظرف في الموضعين للاختصاص، أي: فلا يجاوز عمل أحد لغيره.
ثم علل ما أُمر به من التأهب، فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أظهر في موضع الإضمار، أي: ليجزيهم ليدل على أنه لا ينال هذا الجزاءَ الجميلَ إلا المؤمن لصلاح عمله. أثابه ذلك مِنْ فَضْلِهِ أي: بِمَحْضِ تفضله إذ لا يجب عليه شيء، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ، بل يبغضهم ويمقتهم، وفيه إيماء إلى أنه يحب المؤمنين، وهو كذلك، ولا سيما المتوجهين.
الإشارة: أمر الحق تعالى بالتوجه إليه، والتمسك بالطريق التي تُوصل إليه، قبل قيام الساعة لأن هذه الدار هى مزرعة لتك الدار، فمن سار إليه هنا وعرفه عرفه في الآخرة، ومَن قعد هنا مع هواه، حتى مات جاهلاً به بُعِثَ كذلك، كما هو معلوم. ولا يمكن التوجه والظفر بالطريق الموصلة إليه تعالى إلا بشيخ كامل، سلك الطريق وعرفها. ومن رام الوصول بنفسه، أو بعلمه، أو بعقله انقطع لا محالة. قال القشيري: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ: أَخْلِص قصْدَك، وصِدْقَ عَزْمِكَ، بالموافقة للدين القيِّم، بالاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع.
ومَنْ لم يتأدب [بمَنْ] «1» هو إمامُ وقته، ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خُسْرانُه أتَمَّ من ربْحه، ونقصانُه أَعَمَّ من نفعه. هـ.
__________
(1) فى الأصول الخطية [ممن] .(4/348)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
ثم ذكر دلائل القدرة على البعث وغيره، فقال:
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
قلت: (وليذيقكم) : عطف على (مبشرات) على المعنى، كأنه قيل: لتبشركم وليذيقكم، أو: على محذوف، أي: ليغيثكم وليذيقكم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته: أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ، وهي الجَنُوبُ، والصَّبا، والشمال، والدَّبُورُ، فالثلاث: رياح الرحمة، والدبور: ريحُ العذاب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعلها رياحاً، ولا تجعلها ريحاً» «1» . وقال: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدبور» «2» ، وهي الريح العقيم. وقرأ ابن كثير والأَخَوان: بالإفراد، على إرادة الجنس.
ثم ذكر فوائد إرسالها بقوله: مُبَشِّراتٍ أي: أرسلها بالبشارة بالغيب وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ولإذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، وحصول الخصب الذي يتبعه، والرّوح الذي مع هبوب الريح، وزكاء الأرض، أي:
ربوها وزيادتها بالنبات، وغير ذلك من منافع الرياح والأمطار. قال الحسن: لو أمسك الله عن أهل الأرض الريح ساعة لَمَاتُوا غَمَّا.
وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر عند هبوبها بِأَمْرِهِ بتدبيره، أو بتكوينه، لقوله إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ... «3» الآية. قيل: إنما زاد بأمره لأنها قد تهب غير مُوَاتِيَةٍ، فتُغرق، وهي عند أمره أيضاً، فهي على حسب أمره، ولأن الإسناد وقع للفلك مجازاً، فأخبر أنه بأمره، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، يريد به تجارة البحر، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم فيزيدكم من فضله.
الإشارة: ومن آياتِ فَتْحِهِ على أوليائه: أن يرسل رياح الهداية أولاً، ثم رياح التأييد، ثم رياح الواردات، تحمل هدايا التَّعَرُّفَاتِ، مبشرات بالفتح الكبير، والتمكين في شهود العلي الكبير، وليذيقكم من رحمته، وهي حلاوة معرفته، ولتجريَ سفن الأفكار في ميادين بحار توحيده، ولتبتغوا من فضله هو الترقي في الكشوفات والعلوم والأسرار، أبداً سرمداً، ولعلكم تشكرون بالقيام برسوم الشريعة وآداب العبودية.
__________
(1) أخرجه الشافعي فى مسنده (ح 502) ، وأبو يعلى فى مسنده (4/ 341) ، والطبراني فى الكبير (11/ 213- 214 ح 11532) ، وابن عدى فى الكامل (2/ 763) من حديث ابن عباس. وانظر: مجمع الزوائد (10/ 135- 136) .
(2) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «نصرت بالصبا» ح 1035) ومسلم فى (الاستسقاء باب فى ريح الصبا والدبور، 2/ 617، ح 900) من حديث ابن عباس رضى الله عنه. والصبا: ريح، ومهبها المستوي أن تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. والدّبور: الريح التي تقابل الصبا، وقال النووي: هى الريح الغربية.
(3) الآية 82 من سورة يس.(4/349)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قال القشيري: يرسل رياحَ الرجاءِ على قلوب العُبَّاد، فتكنس قلوبهم من غبار الحسد وغُثَاء النفس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق، فتحملهم إلى بساط الجُهْدِ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياحَ البَسْطِ على أرواح الأولياء فتطهرها من وَحْشَةِ القبض، وتنشر فيه لذاذات الوصال، ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء، فتطهرها من آثار الأغيار، وتبشرها بدوام الوصال. فذلك ارتياحٌ به، ولكن بعد اجتناحٍ عنك. هـ. أي: بعد ذهابٍ عنك وزوال. والله تعالى أعلم.
ثم سلّى نبيه بمن قبله، فقال:
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قلت: (حقاً) : خبر «كان» ، و (نصر) : اسمها. أو: (حقاً) : خبر «كان» ، واسمها: ضمير الانتقام، فيوقف عليه، و (علينا نصر) : مبتدأ وخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالمعجزات البينات الواضحات، فكذبوهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالتدمير، كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أي:
وكان نصر المؤمنين، بإنجائهم من العذاب، حقاً واجباً علينا بإنجاز وعدنا إحساناً. أو: وكان الانتقام من المجرمين حقاً لا شك فيه، ثم علينا، من جهة الإحسان، نصر المؤمنين. قال البيضاوي: فيه إشعار بأن الانتقام لهم- أي: من عدوهم- إظهار لكرامتهم، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم. وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ مُسْلِمٍ يُردّ عن عِرْضِ أَخِيه، إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنْه نارَ جهنم» ، ثم تلا الآية «1» . أي: كانَ حَقًّا عَلَيْنا..
إلخ.
الإشارة: هكذا جرت سُنَّة الله تعالى، مع خواصه، أن ينتقم ممن آذاهم، ولو بعد حين. وقد يكون الانتقام باطناً بنقص الإيمان وقساوة القلب، وهو أقبح. قال القشيري: فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشَوَّشْنا عليهم ما أمَّلوا، ونقصنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وطئهم
__________
(1) أخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 276) وأخرجه بنحوه أحمد فى المسند (6/ 450) ، والترمذي فى (البر والصلة، باب ما جاء فى الذّب عن عرض المسلم، 4/ 288 ح 1931) ، وحسنه من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني فى الكبير (24/ 175- 176، ح 442) من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية. وانظر الفتح السماوي (2/ 905- 908) .(4/350)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
أَعْدَاؤُهُمْ بأعقابهم، فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى رَقَّيْنَاهُمْ فوق رقابهم، وخرَّبنا أوطانهم، وهدَّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانهم، وعَطَّلْنا عليهم ديارَهم، ومحونا، بقهْر التدمير، آثارَهم، فظَلتْ شموسُهم كاسفة، ومكيدةُ قهْرنا لهم، بأجمعهم، خاسفة. هـ.
ثم برهن على ذلك، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 50]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ الأربع. وقرأ المكي: بالإفراد. فَتُثِيرُ أي: تزعج سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ أي: يجعله منبسطاً، متصلاً بعضه ببعض في سَمت السماء، كقوله: وَفَرْعُها فِي السَّماءِ «1» ، أي: جهته. فيبسطها في الجو كَيْفَ يَشاءُ سائراً أو واقفاً، مطبقاً وغير مطبق، من ناحية الشمال، أو الجنوب، أو الدََّبُورِ، أو الصَّبَا، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قطعاً متفرقة. والحاصل: أنه تارة يبسطه متصلاً مطبقاً، وتارة يجعله قطعاً متفرقة، على مشيئته وحكمته. فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه.
فَإِذا أَصابَ بِهِ بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، يريد إِصابةَ بلادهم وأراضيهم، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالخصب، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ آيسين، وكرر «من قبله» للتوكيد، وفائدته: الإعلام بسرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار، أو: على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم يأسُهُم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي: المطر كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات وأنواع الثمار بَعْدَ مَوْتِها يبسها، إِنَّ ذلِكَ أي: القادر عليه لَمُحْيِ الْمَوْتى فكما أحيا الأرض بعد يبسها، يحيي الأجساد بعد رميمها، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهذا من جملة مقدوراته تعالى.
__________
(1) من الآية 24 من سورة إبراهيم.(4/351)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
الإشارة: الله الذي يُرسل رياح الواردات الإلهية، فتنزعج سحاب الآثار عن عين الذات العلية، فتبقى شمس العرفان، ليس دونها سحاب، فيبسطه في سماء القلوب كيف يشاء، فيقع الاحتجاب لبعضها، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور، ويجعله كسفاً لأهل الاستشراف، فتارة ينجلى عنهم سحب الآثار، فيشاهدون الأنوار، وتارة تغطيهم سُحب الآثار، فيشاهدون الأغيار، فترى مَطَرَ خَمْرَةِ الفناءِ تخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين، آيسين حين كانت نفوسهم غالبةً عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكاً ثم سقط على شيخ ذي خمرة أزلية، فسقاه حتى حَيِيَ بمعرفة الله.
قال القشيري: الله الذي يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه، مبشراتٍ بجوده ووَصْله، ثم يُمْطِر جود غيثه على أسرارهم، ويطوي بساطَ الحشمة عن مناجاة قربه، ويضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه، وينشر عليهم أزهار أُنْسِه، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه، ويسقيهم بيده شراب حُبِّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم، لا بهم، ولكنْ بِنَفْسه. والعبارات عن ذلك خُرْسٌ، والإشارات، دونه، طُمْسٌ.
وقال في قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ.. الآية: يحيي الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجيء أمطارها، ليُخرجَ زَرْعَها وثمارَها، ويحيى النفوس بعد تفريقها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، وتحيي القلوبُ، بعد غفلتها، بأنواع المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة، ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العصر من أهل الإرادات، ويحيي الأرواح بعد حجْبتَها بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسُها من بُرْجِ السعادة، ويتصل، بمشامِّ أسرار الكافة نسيمُ ما يُفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحبُ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب، ويُحْيي الأسرارَ بأنوار المواجهات. وما كان لها إلا وَقْفَةٌ في بعض الحالات، فتنتفي، بالكلية، آثارُ الغَيْرِيَّةِ، ولا يَبْقَى في الديار ديَّار، ولا من سكانها آثار، وسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق هنالك الولاية لله الحق.. انتهى المراد منه، مع زيادة بيان.
ثم ذكر الجوائح، وما ينشأ من أهل الغفلة عند ظهورها، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)(4/352)
قلت: اجتمع القسم والشرط، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط. والضمير في (رأوه) : يعود على النبات المفهوم مما تقدم من أحياء الأرض، أو: على السحاب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً عاصفة على ما نبت في الأرض من الزروع وسائر الأشجار، الذي هو أثر رحمة الله، فَرَأَوْهُ أي: ما نبت في الأرض، مُصْفَرًّا يابساً لَظَلُّوا أي:
ليظلون مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد اصفراره يَكْفُرُونَ، ويقولون: ما رأينا خيراً قط، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة، وأما أهل اليقظة فيشكرون في أوقات النعم، ويصبرون ويرضون في أوقات النقم، وينتظرون الفرح بعد الشدة، واليسر بعد العسر، غير [قَانِطِينَ] «1» ولا ضَجِرين. أو: ولئن أرسلنا ريحاً لتعذيبهم، فرأوا سحابة صفراء، لأنَّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه، لظلوا، أي: للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم لانهماكم.
قال البيضاوي: وهذه الآية ناعية على الكفار، لقلة تثبتهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله، ويلتجئوا إليه بالاستغفار، إذا احتبس القطر عنهم، ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة، إذا أصابهم برحمته، ولم يبطروا بالاستبشار، وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار، ولم يكفروا نعمه. هـ.
قال النسفي: ذمهم الله تعالى بأنهم، إذا حبس عنهم المطر، قنطوا من رحمته، وضربوا أذقانهم على صدورهم، مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، استبشروا، فإذا أرسل الله ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا، وكفروا بنعمه، وهم في جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله، فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، ففرحوا وبطروا، وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. هـ.
وهذه حال من مات قلبه، قال تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي: موتى القلوب، وهؤلاء في حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي: لا تقدر أن تُسْمِعَ من كان كالأصم دعاءك إلى الله، او: لا يقدرون أن يسمعوا منك، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلاً أو مدبراً، فما فائدة التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مُقبلاً يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولّى فلا يفهم، ولا يسمع، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.
__________
(1) فى الأصول المخطوطة [قانتين] والمناسب ما أثبته.(4/353)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ أي: عُمْي القلوب. وقرأ حمزة: «وما أنت تهدي العمي» ، عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي:
لا تقدر أن تهدي الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه، بالإشارة إليه، إِنْ ما تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لأوامر الله ونواهيه.
الإشارة: من أصول طريقة التصوف: الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فالرجوع في السراء: بالحمد والشكر، وفي الضراء: بالرضا والصبر. قال القشيري: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى.. إلخ: مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماء الحقائق، فَسَمْعُ الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحُجَّة، وكما لم يُسمع الصمّ الدعاء، فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْيَ عن ضلالتهم. هـ.
ولما ذكر شيئا من دلائل الأكوان، ذكر شيئا من دلائل الأنفس، فقال:
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قلت: «الله» : مبتدأ، والموصول: خبره.
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الذي يستحق ان يُعبد وحده هو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي:
ابتدأكم ضُعفاء، وجعل الضعف أساس أمركم، أو: خلقكم من أصل ضعيف، وهو النطفة كقوله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «1» ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، يعني: حال الشباب إلى بلوغ الأشد، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يعني: حال الشيخوخة والهرم.
وقد ورد في الشيب ما يسلي عن روعة هجومه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة» «2» ، ولما رأى إبراهيم عليه السلام الشيب فى لحيته قال: يا رب، ما هذا؟ قال: هذا وقار. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: «يا داود، إني لأنظر الشيخ الكبير، مساء وصباحاً، فأقول له: عبدي، كَبِرَ سِنُّكَ، ورق جلدك، ووهن عظمك، وحان قدومك عليّ، فاستحي مني، فإني أستحيي أن أُعذب شَيْبَةًً بالنار» . ومن المستلحات،
__________
(1) الآية 20 من سورة المرسلات.
(2) أخرجه الترمذي فى (فضائل الجهاد، باب ما جاء فى فضل من شاب شيبة فى سبيل الله، ح 1635) وأخرجه، مطولا، النسائي فى (الجهاد، باب من رمى بسهم فى سبيل اله عز وجل 6/ 26) من حديث عمرو بن عبسة.(4/354)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
مما يسلي عن رَوْعِ الشيب، ما أنشد القائل:
لاَ يَرُوعُكِ الشِّيبُ يَا بِنْتَ ... عَبْدِ الله، فالشَّيبُ حُلْة وَوَقاَرُ
إِنَّمَا تَحْسُنُ الرّياض إذا م ... اضحكت في خِلاَلِهَا الأَزْهَارُ
ثم قال تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ مِنْ ضعفٍ، وقوةٍ، وشباب، وشيبة، وَهُوَ الْعَلِيمُ بأحوالهم، الْقَدِيرُ على تدبيرهم فيصيرهم إلى ذلك. والترديد في الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير.
وفي «الضعف» : لغتان الفتح والضم «1» . وهو أقوى سنداً في القراءة، كما روي ابن عمر. قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضَعف» ، فأقرأني: «من ضُعْفٍ» «2» .
الإشارة: إذا كُثف الحجاب على الروح، وكثرت همومها، أسرع لها الضعف والهرم، وإذا رقّ حجابها، وقلّت همومها قويت ونشطت بعْد هرمها، ولا شك أن توالي الهموم والأحزان يهرم، وتوالي البسط والفرح ينشط، ويرد الشباب فى غير إِبَّانِهِ، والعارفون: فرحهم بالله دائم، وبسطهم لازم إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان، وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان كما قال في الحِكَم.
قال القشيري «3» : خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، أي: ضعف عن حال الخاصة، ثم جعل من بعد ضعف قوة بالوصول إلى شهود الوجود القديم، ثم من بعد قوة ضعفاً بالرجوع إلى المسكنة، أي: في حال البقاء، قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» «4» هـ «5» .
ثم ذكر أهوال البعث، فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
__________
(1) قرأ حفص: بالفتح، عن عاصم. وقرأ الباقون: بضمها، وهو الذي اختاره حفص، لحديث ابن عمر. وعن حفص أنه قال: (ما خالفت عاصما إلا فى هذا الحرف) . وقد صح عنه الفتح والضم. وقال فى النشر: وبالوجهين قرأت له، وبهما آخذ. انظر الإتحاف (2/ 359) .
(2) أخرجه أحمد (2/ 58- 59) ، وأبو داود فى كتاب (الحروف والقراءات، باب 1، 4/ 283، ح 3978) ، والترمذي فى (القراءات- سورة الروم، 5/ 174، ح 2936) وحسنّه من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(3) النقل بالمعنى. [.....]
(4) سبق تخريحه.
(5) المسكين هو المتواضع لله باطنا وظاهرا، والخاضع له، الساكن لأمره، المطمئن بربه، وهو المخبت الخاشع لله، وهذا حال قوة الإيمان، فاللهم اجعلنا مساكين لك، أعزة على عدوك.(4/355)
قلت: «لبثوا» : جواب القسم على المعنى، وإلا لقيل: ما لبثنا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أي: القيامة. وسميت بذلك لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا، ولأنها تقوم في ساعة واحدة، وصارت عَلَماً لها بالغلبة، كالنجم للثريا، فإذا قامت يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف الكافرون: ما لَبِثُوا في قبورهم، أو: في الدنيا، غَيْرَ ساعَةٍ، استقلُّوا مدّة لبثهم في القبور، أو: الدنيا، لشدة هول المطلع، أو: لطول مقامهم في أهوالها، أو: ينسون ما لبثوا، أو: يكذبون. كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق والتصديق، أو: عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه، ويقولون: ما هِيَ إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ، أي: حَصَّلوا العلم بالله والإيمان بالبَعْثِ، وهم الملائكة والأنبياء، والمؤمنون: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علم الله المثبت في اللوح، أو: في حكم الله وقضائه، أو: القرآن، وهو قوله تعالى: «ومن ورائهم برزخ..» إلخ، أي: لقد مكثتم مُدَّةَ البرزخ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، ردّوا عليهم ما قالوه، وحلَّفُوهم عليه، وأطلعوهم على حقيقة الأَمر، ثم وَبَّخُوهُمْ على إنكار البعث بقولهم: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تنكرونه، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنه حق لتفريطكم في طلب الحق، واتباعه. والفاء جواب شرط «1» مُقَدَّر، ينساق إليه الكلام، أي: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ «2» الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا، مَعْذِرَتُهُمْ: اعتذارهم، والمعذرة: تأنيثها مجازي، فيجوز التذكير والتأنيث، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يقال لهم: أَرْضُوا رَبَّكُمْ بالتوبة، ولا يُدْعَوْنَ إلى استرضائه، يقال:
استعتبني فلان فأعْتَبْتُهُ، أي: استرضاني فأرضيته.
الإشارة: كل من قصر في هذه الدار، وصرف أيام عمره في البطالة، يقصر عليه الزمان عند موته، ويرجع عنده كأنه يوم واحد، فحينئذٍ يستعتب فلا يُعتب، ويطلب الرجعى فلا يُجاب، فلا تسأل عن حسرته وخسارته، والعياذ بالله، وهذا كله مبين فى القرآن، كما قال تعالى:
__________
(1) الفاء، بذاتها، ليست جواب شرط مقدر، وإنما هى واقعة فى جواب شرط مقدر.
(2) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: «ينفع» بالياء. والباقون: بالتاء.. انظر: الإتحاف (2/ 306)(4/356)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: بيَّنا لهم فيه من كل مثل، ينبؤهم عن التوحيد والمعاد، وصدق الرسل، وغير ذلك، مما يحتاجون إلى بيانه، وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من الآيات الدالة على صدقك، أو: القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون. وإسناد الإبطال إلى الجميع، مع أن المجيء بالحق واحد مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين، أو: ولقد وصفنا كلّ صفة، كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كقصة المبعوثين يوم القيامة، وما يقولون، وما يُقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يُسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم، إذا جِئْتَهُمْ بآية من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزور باطل. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، أي: مثل ذلك الطبع- وهو الختم- يطبعُ الله على قلوب الجهلة الذين عِلَمَ اللهُ منهم اختيارَ الضلال، حتى سمّوا المحققين مبطلين، وهم أغرقُ خلق الله في تلك الصفة.
فَاصْبِرْ على أذاهم وعداوتهم، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، وإظهار دين الإسلام على كل دى، ن حَقٌّ لا بد من إنجازه والوفاء به، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ لا يحملَنَّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة في الرد عليهم، أو: لا يحملنَّك على الخفة والقلق فزعاً مما يقولون فإنهم ضُلاَّل، شاكّون، لا يستغرب منهم ذلك. وقرأ يعقوب: بسكون النون على أنه نون التوكيد الخفيفة.
الإشارة: قد بيَّن الله في القرآن ما يحتاج السائرون إليه، من علم الشريعة والطريقة والحقيقة، لمن خاض بحر معانيه وأسراره. ولئن جئتهم بآية، من غوامض أسراره ليقول أهل الجمود: هذا إلْحَاد وباطل. فاصبر إن وعد الله بالنصر لأوليائه حق، ولا يحملنك على العجلة من لا يقين عنده. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.(4/357)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة لقمان
مكية، وقيل: إلا قوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لأن الزكاة فرضت بالمدينة، وهو ضعيف لأن الحق تعالى يخبر بالشيء قبل وقوعه كما تحقق وقوعه. وآياها: أربع وثلاثون، أو ثلاث وثلاثون. ومناسبتها لما قبلها قوله: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ.. «1» مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إذ هو القرآن العظيم. وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ «2» وهنا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا «3» . قيل: وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بر والديه، فنزلت. قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قلت: هُدىً وَرَحْمَةً: حالان من الآيات، والعامل: معنى الإشارة. ورفعهما حمزة على الخبر لتلك بعد خبر، أو: خبر عن محذوف، أي: هو، أو: هي هُدى. والموصول: نعت للمحسنين تفسير لإحسانهم، و (هم) : مبتدأ، و (يوقنون) : خبر. وتكرير الضمير للتوكيد، ولِمَا حيل بينه وبين خبره.
يقول الحق جلّ جلاله: ألم أيها المصطفى المقرب، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هي آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي: ذي الحكمة البالغة، أو: الذي أُحكمت آياته وأُتقنت، أو: المحكم الذي لا ينسخه كتاب. أو:
المصون من التغيير والتبديل. حال كونه هُدىً وَرَحْمَةً هادياً لظواهرهم بتبين الشرائع، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان في قوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا «4» الآية. ولذلك خصه بقوله: لِلْمُحْسِنِينَ، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان لأنهم هم الذي
__________
(1) من الآية 58 من سورة الروم.
(2) من الآية 58 من سورة الروم.
(3) من الآية السابعة من سورة لقمان.
(4) من الآية 93 من سورة المائدة.(4/359)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
يغوصون على أسراره ومعانيه. وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يتقنونها، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ على الوجه المشروع، ويدفعونها لمن يستحقها، لا جزاءً ولا شكوراً، ولا لجلب نفع أو دفع شر، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، كأنها نُصْبَ أعينهم. وخص بالذكر هذه الثلاثة لفضلها فإن الصلاة عماد الدين، والزكاة قرينتها لأن الأولى عبادة بدنية، والثانية مالية، والآخرة هي دار الجزاء، فلولا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثاً، وتعالى الله عنه علواً كبيراً.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي: راكبون على مَتْنِ الهداية، متمكنون منها، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة: قال القشيري: الم، الألف إشارة إلى آلائه، واللام إلى لطفه، والميم إلى مجده وسنائه، فبآلائه دفع الجَحْدَ عن قلوب أوليائه، وبلطف عطائه أثبت المحبةَ في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه هو مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه. هـ.
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين، رحمة للواصلين إذ لا تكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب، يكلمك ويناجيك، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري: وشَرْطُ المحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، مطيعِهم وعاصيهم. ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بشرائطها في الظاهر- ثم ذكرها-، وفي الباطن يأتون بشروطها من طهارة السَّرَّ عن العلائق، وسَتْرِ عورة الباطن، بتنقيته من العيوب لأن ما كان فيه فالله يراه.
فإذا أردت ألا يرى اللهُ عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر: هو وقوف القلب على الحدِّ الذي أُذن فيه، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق، بل رَحِمَ الله مَن وقف عند حدِّه بالمعرفة بالوقت، فيعلم وقت التذلُّل والاستكانة، ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط، ويستقبل القبلة بَنْفسِه، ويعلق قلبه بالله، من غير تخصيص بقطْرِِ أو مكان أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وهم الذين اهتدوا في الدنيا، وسَلِموا ونَجوْا في العُقْبَى. هـ.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)(4/360)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي: ما يلهى به عما يقرب إلى الله كالأحاديث التي لا أصل لها، والخرافات التي لا حقيقة لها، والمضاحك، وفضول الكلام. قيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يخرج إلى فارس للتجارة، فيشتري أخبار الأعاجم، ثم يُحدث قريشاً بها، ويقول: إن محمداً يُحدثكم بأخبار عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُم، وأخبار الأكاسرة، فيستملحُون حديثه ولا يسمعون القرآن «1» . وقيل:
كان يشتري القيان، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ليصده عنه.
والإشتراء من الشراء، كما تقدم عن النضر، ومن البدل، كقوله: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ «2» . استبدلوه واختاروه، أي: يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى «من» لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فيبين بالحديث، والمراد بالحديث: الحديث المكروه، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكُلُ الحسنَاتِ، كما تأكلُ البهيمة الحشيش» «3» ، أو: للتبعيض، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد: يعني: شراء المغنيات والمغنين، أي: يشتري ذات لهو، أو: ذا لهو الحديث.
وقال أبو أمامة: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل تعليم المغنيات، ولا بيعهن، وأثْمانُهنَّ حرام» . وفي مثل هذا نزلت هذه الآية، ثم قال: «وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب، والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت» «4» .
قلت: هذا مقيد بِشِعْرِ الهوى لأهل الهوى، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق، فلا يتوجه الحديث لهم، وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى بعثني هدى ورحمة للعالمين، وأمرني ربي بمحو المعازف والمزامير والأوثان، والصلب وأمر الجاهلية، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر متعمداً إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك، ولا يتركها عبد من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة» . انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى: لِيُضِلَّ «5» عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: فعل ذلك لِيَضل هو عن طريق الله ودينه، أو ليُضل غيره عنه، أو عن القرآن، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: جهلاً منه بما عليه من الوزر. وَيَتَّخِذَها أي: السبيل هُزُواً وسخرية. فمن رفع: استأنف، ومن نصب، عطفها على (ليضل) «6» ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يمينهم ويخزيهم، و «مَنْ» ، لإبهامه، يقع على الواحد والجمع، والمراد: النضر ومن تبعه.
__________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (2 356) ، والبغوي فى التفسير (6/ 283) عن الكلبي ومقاتل.
(2) من الآية 177 من سورة آل عمران.
(3) قال العراقي فى المغني عن حمل الأسفار (1/ 18) : لم أقف له على أصل.
(4) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (5/ 252) ، والطبري فى التفسير (21/ 60) ، والطبراني فى الكبير (8/ 212، 251) ، والبيهقي فى السنن (6/ 15) ، والبغوي فى التفسير (6/ 284) ، والواحدي فى أسباب النزول (ص 357) وذكره ابن الجوزي فى العلل المتناهية (2/ 198) وأخرجه مختصرا الترمذي وضعفه فى (التفسير- سورة لقمان 5/ 322، ح 3195) .
(5) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ليضل) بفتح الياء. والباقون بالضم. انظر الإتحاف (2/ 361) .
(6) قرأ حفص وحمزة والكسائي: «ويتخذها» بالنّصب. وقرأ الباقون: «ويتخذها» بالرفع. انظر الإتحاف (2/ 362) . [.....](4/361)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنه لم يسمعها، ولا ذُكرت على سمعه. شبَّه حاله بحال من لم يسمعها قط، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ثَِقَلاً وصمماً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَخْبِرْه بأن العذاب يُوجعه لا محالة. وذكر البشارة على سبيل التهكم. وهذا في مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال في المحسنين: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، قال في هؤلاء: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال، في مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله، ويصد عن حضرة الله، كائناً ما كان، سواء كان غناء أو غيره، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله، ويحرك الروح إلى حضرة الله، كان حقاً، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلاً. والحاصل: أن السماع عند الصوفية رُكن من أركان الطريقة، بشروطه الثلاثة: الزمان والمكان والإخوان.
وقد ألف الغزالي تأليفاً في تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال في الإحياء، في جملة من احتج به المُحَرِّمُ للسماع:
احتج بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، وقد قال ابن مسعود والنخَعي والحسن: إنه الغناء.
وأجاب ما حاصله: أنه إنما يحرم إذا كان استبدالاً بالدين، وليس كل غناء بدلاً عن الدين، مُشْتَرَىً به، ومضلاً عن سبيل الله، ولو قرأ القرآن ليضلَّ عن سبيل الله كان حراماً. كما حكي عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهَمَّ عمرُ بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. هـ. وأما إن لم يكن شيء من ذلك، فلا يحرم.
وقال في القوت، في كتاب المحبة: ولم يزل الحجازيون، عندنا بمكة، يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات، التي أمر الله عز وجل عبادَه فيها بذكره، أيام التشريق، من وقت عطاء بن أبي رباح، إلى وقتنا هذا، ما أنكره عالم، وكان لعطاء جاريتان تُلَحِّنانِ، فكان إخوانه يستمعون إليهما، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي، له جوار يسمعن التلحين، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم، ويأمرهن بالإنشاد، وكان فاضلاً. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم، فقيل له: إنك تنكر السماع، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني. هـ.
وقال ابن ليون التجيبي في الإنالة: رُوي عن مصعب بن الزبير، قال: حضرت مجلس مالك، فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال: ما أدري، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك، ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا غبي(4/362)
جاهل، أو ناسك عراقي غليظ الطبع. قال التجيبي: وعن أنس كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزل عليه جبريل، فقال:
يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهو نصف يوم، ففرح فقال: أفيكم من ينشدنا؟
فقال بدوي: نعم، يا رسول الله، فقال: هات، هات، فأنشد البدوي يقول:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي ... فَلاَ طَبِيبٌ لَهُ وَلاَ رَاقِي
إلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ ... فعنده رقيتى وترياقى
فتواجد عليه السلام، وتواجد أصحابه معه، حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبَيْهِ، فلما خرجوا، أوى كل واحد إلى مكانه، فقال معاوية: ما أحسن لَعِبَكُمْ يا رسول الله! فقال: مَهْ، مَهْ، يا معاوية، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب، ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة. وذكره المقدسي هكذا، والسهروردي في عوارفه، وتكلم الناس في هذا الحديث «1» .
وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه، وسئل عن تخلفه، فقال: كان في جيراننا سماع. وقال الشبلي: السماع ظاهرة فتنة، وباطنه عبرة. فمن عرف الإشارة حلَّ له سماع العبرة، وإلا فقد استدعى الفتنة «2» .
هـ. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ.. إلخ، هذا مثال لمن لم يَقبل الوعظ لقسوة قلبه، وحُكم المشيئة يُبعده، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفورا، فسماعه كلا سماع، ومعالجته عنىً وضياع، كما قال القائل:
إذَا أَنَا عَاتبتُ المُلولَ فإِنَّمَا ... أخُط بأفلك على الماء أحرفا
ثم بيّن فلاح المحسنين، فقال:
__________
(1) هذا الكلام كذب صريح، وإفك قبيح. قال العلامة الآلوسى: لا أصل له بإجماع محدثى أهل السنة، وما أراه إلا من وضع الزنادقة. راجع تفسير الآلوسى (11/ 72) ففيه ما يكفى للرد على هذا الافتراء. وقال السيوطي فى الحاوي (1/ 336) ما معناه:
إن الحديث باطل، موضوع، باتفاق أهل الحديث.
(2) اختلفت الآراء حول السماع، فأباحه البعض، وكرهه البعض، وحرّمه البعض. راجع فى هذه المسألة: الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 220) اللمع للسّراج الطوسي (338- 374) - حقائق عن التصوف، للشيخ عبد القادر عيسى 197- 209.(4/363)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، قيل: معكوس، أي:
لهم نعيم الجنات، أو: لهم بساتين، أو: ديار النعيم. خالِدِينَ فِيها: حال من ضمير «لهم» . والعامل: الاستقرار.
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: وعدهم ذلك وعداً، وثبت لهم حقاً مُهماً، مصدران مؤكدان، الأول لنفسه، والثاني لغيره، إذ قوله: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى: وعدهم الله جنات النعيم. وحَقًّا: يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، الذي لا يُعارَض في حكمه، فينفذ وعده لا محالة. الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا في البواطن، وحققوا ذلك بالعمل الصالح في الظواهر، لهم جنات المعارف معجلة، وجنات الزخارف مؤجلة، وعداً حقاً وقولاً صدقاً، فما كَمُنَ في السرائر ظهر في شهادة الظواهر، وإلا كان دعوى ونفاقاً، والعياذُ بالله.
ثم ذكر شواهد قدرته على إنجاز وعده، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
قلت: «بغير عمد» : يتعلق بحال محذوفه، أي: مُمْسَكَةً أو مرفوعة بغير عمد، و (عَمَدَ) : اسم جمع على المشهور، وقيل: جمع عماد أو عامد. وجملة (ترونها) : إما استئنافية، لا محل لها، أو صفة لعمد.
يقول الحق جلّ جلاله: خَلَقَ السَّماواتِ ورفعها بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، الضمير: إما للسموات، أي: خلقها، ظاهرة، ترونها، أو لعمد، أي: بغير عَمَد مرئية، بل بعمد خفية، وهي إمساكها بقدرته تعالى. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي: جبالاً ثوابت، كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: لئلا تضطرب بكم، وَبَثَّ: نشر فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف من أصناف النبات،(4/364)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
كَرِيمٍ: حسن بهيج، أو كثير المنفعة. وكأنه استدل بذلك على عزته، التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هي كمال العلم، فهي مقررة لقوله: (العزيز الحكيم) ثم أَمَرَ بالتفكُّر في هذه المصنوعات استدلالاً على توحيده بقوله: هذا خَلْقُ اللَّهِ أي: هذا الذي تُعاينونه من جملة مخلوقاته، فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، يعني: آلهتهم. بكَّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلق الله، فأروني ماذا خلق آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالظلم والتورط في ضلال ليس بعده ضلال.
الإشارة: خلق سموات الأرواح- وهو عالم الملكوت- مرفوعاً غنياً عن الاحتياج إلى شيء، وألقى في أرض النفوس- وهو عالم الأشباح- من العقول الراسخة، لئلا تميل إلى جهة الانحراف، إما إلى الحقيقة المحصنة، أو الشريعة. ونشر في أرض النفوس دواب الخواطَر والوساوس، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة، من كل صنف بهيج. قال القشيري: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ في الظاهر: الجبال، وفي الحقيقة: الأبدال، الذين هم أوتاد، بهم يقيهم، وبهم يَصرِف عن قريبهم وقاصيهم، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء.. المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَةَ، ومن سماء الباطن في رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة. هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبَدْتم من دونه في أرضه وسمائه؟. هـ.
ثم ذكر قصة لقمان، الذي وقع السؤال عنه فنزلت السورة، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قلت: (يا بُني) فيه ثلاث قراءات كسر الياء، وفتحها مُشَدَّدةً، وإسكانها «1» . وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا «الدرر الناثرة فى توجيه القراءات المتواترة» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ، وهو لقمان بن باعوراء بن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر، وقيل: أخو شداد بن عاد، أُعطى شداد القوة، وأُعطى لقمان الحكمة، وعاش ألف
__________
(1) قرأ حفص: بفتح الياء.(4/365)
سنة، وقيل: أكثر، وسيأتي. وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم. وكان يُفتي قبل مبعث داود، فلما بُعث قطع الفتوى، فقيل له في ذلك؟ فقال: ألا أكتفي إذا كُفيت. وقيل: كان خياطاً، وقيل: نجاراً، وقيل: راعياً. وقيل: كان قاضياً في بني إسرائيل. وقال عكرمة والشعبي: كان نبياً، والجمهور على أنه كان حكيماً فقط. وقد خُير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وهي الإصابة في القول والعمل. وقيل: تتلمذ لألف نبي وتتلمذ له ألف نبي. قاله النسفي.
قال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة. كان قائماً فجاءه نداء: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت، فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني. قالت الملائكة بصوت ولا يراهم: لِمَ يا لقمان؟ فقال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إن يُعَن، فالبحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً، خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفُته الدنيا، ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأُعطى الحكمة، فانتبه وتكلم بها «1» . هـ.
قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مُشققَّ القدمين «2» . زاد في اللباب: وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها. قيل: لم يزل لقمان، من زمن داود، مظهراً للحكمة والزهد، إلى أيام يونس بن متى. وكان قد عمّر عمر سبعة أنس، فكان آخر نسوره «لبذ» . رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه، وكان يصرفه في حوائجه، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات، ثم أخذ نسراً آخر، فعاش خمسمائة سنة، ثم أخذ آخر، فعاش مثل ذلك، إلى السابع، عاش خمسمائة سنة، واسمه لبذ، فقال له لقمان يوماً: يا لبذ انهض إلى كذا، فأراد النهوض فلم يستطع، وإذا بوتر لقمان قد اختلج، وكان لم يألم قط، فنادى بأهله وعشيرته، وعلم أن أجله قد قرب، وقال: إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر، كما أعلمني ربي، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر، كما [تدفنون] «3» الجبابرة، ولكن ادفنوني في ضريح الارض، فدفنوه كما أوصاهم، فقال ابن ثعلبة:
رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ ... حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ، والدَّهْرُ آكِلُهْ
فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ ... لَصَرْفْ المَنَايَا، بعد ذلك، حافله
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 311) للحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن أبى مسلم الخولاني مرفوعا.
(2) أخرجه الطبري (21/ 67) .
(3) فى الأصول (تدفنوا) .(4/366)
قال البيضاوي: والحكمة، في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الْمَلَكَةِ التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً، وكان يسرد الدرع، فلم يسأله عنها، فلما أتمها لبسها، فقال: نِعْمَ لبوسُ الحرب أنتِ، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، وأن داود قال له يوماً: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في يَدَيْ غيري. وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مُضْغَتين منها، فأتى باللسان والقلب، ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين منها، فأتى بهما أيضاً، فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب شيء إذا طابا، وأخبث شيء إذا خبثا. والذي عند الثعلبي: أن الآمر له بإتيان المضغتين سيدهُ، لا داود عليه السلام قيل له: بِمَ نلت هذه الحكم، وقد كنت راعياً؟ فقال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني «1» . هـ.
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما رؤى من حكمة لقمان: أن مولاه أطال الجلوس في المخرج، فناداه لقمان: إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد، ويورث الباسور، ويُصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هويناً، وقم هويناً.» «2» وروي أنه قَدِمَ من سفر، فقيل له: مات أبوك، فقال: الحمد لله، ملكتُ أمري، فقيل له: ماتت امرأتك، فقال: الحمد لله جُدِّدَ فراشي، فقيل له: ماتت أختك، فقال: سُترت عورتي، فقيل له: مات أخوك، فقال: انقطع ظهري. «3» هـ.
و «أَنْ» - في قوله: أَنِ اشْكُرْ: مفسرة لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول، أي: وقلنا له: اشكر لله على ما أعطاك من الحكمة، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادةُ الله والشكر له، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر. وقيل: لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته.
وقال الجنيد: الشكر: ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه. وقال أيضاً: ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل: أن شكر القلب: المعرفة، وشكر اللسان: الحمد، وشكر الأركان: الطاعة. ورؤية العجز في الكل دليل القبول. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن منفعته تعود عليه، لأنه بريد المزيد، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ غير محتاج إلى شكر أحد، حَمِيدٌ حقيق بأن يُحمد، وإن لم يحمده أحد. وَاذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، واسمه: أنعم، أو أشكم، أو ناران، وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ، تصغير ابن، لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنه تسوية بين مَنْ لاَ نِعْمَةَ إلا منه، ومن لا نعمة منه أصلاً. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى الزهد (ص 49) ، والطبري فى التفسير (21/ 67) ، وابن أبى شيبة (13/ 214) .
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 311) لابن المنذر، عن عكرمة، بدون رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) عزاه فى الدر (5/ 317) لعبد الله فى زوائده، عن عبد الله بن دينار.(4/367)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
الإشارة: قال القشيري: الحكمة: الإصابة في [الفعل] «1» والعقد والنطق. ويقال: الحكمة: متابعة الطريق، مِنْ حَيْثُ توفيق الحق، لا من حيث هِمة النفس. ويقال: الحكمة: ألا يكون تحت سلطان الهوى. ويقال: هي معرفةُ قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجاً عن كسائك. ويقال: ألا تستعصي على منْ تعلم أنك لا تقاومه. وحقيقة الشكر:
انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق. ويقال: الشكرُ: تَحَقُّقُكَ بعجزك عن شكره. ويقال: ما به يَحْصُلُ كَمَالُ استلذاذِ النعمة. ويقال: هو فضلةٌ تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور، فينطق بمدح المشكور. ويقال:
الشكر: نعتُ كُلّ غنيٍّ، كما أن الكفران وصف كلِّ لئيم. ويقال: الشكر: قرعُ باب الزيادة. هـ. قلت: والأحسن: أنه فرح القلب بإقبال المنعم، فيسري ذلك في الجوارح.
ثم قال في قوله: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ: الشركُ على ضربين: جَليّ وخفيّ، فالجليُّ عبادة الأصنام، والخفيّ:
حسبان شيء من الحدثان من الأنام- أي: أن تظن شيئاً مما يحدث في الوجود أنه من الأنام- ويقال: الشرك:
إثباتُ غَيْنٍ مع شهود العين، ويقال: الشرك ظلمٌ عَلَى القلب، والمعاصي ظلمٌ على النفس، فظلم النفس مُعَرَّضٌ للغفران، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه. هـ.
ثم أمر ببر الوالدين، الذي تقدم السؤال عنه فى سبب نزول السورة، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
قلت: الجملتان معترضتان بين أجزاء توصية لقمان لابنه. و (وَهْناً) : حال من (أمه) ، أي: حملته حال كونها ذَاتَ وَهْنٍ، أو من الضمير المنصوب، أي: حملته نُطْفَةً، ثم علقة.. إلخ، أو مصدر، أي: تهن وهناً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أن يَبَرَّهُمَا ويُطِيعَهُمَا، ثم ذكر الحامل على البر فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي: تضعف ضعفاً فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل، كلما ازداد وعظم، ازدادت ثِقلاً. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: فطامه لتمام عامين. وهذا أيضاً مما يهيج
__________
(1) فى القشيري [العقل] .(4/368)
الولد على بر والديه، فيتذكر مَرْقده في بطن أمه، وتعبَها معه في مدة حَمْلِةِ، ثم ما قاست من وجع الطلق عند خروجه، ثم ما عالجته في أيام رضاعه من تربيته، وغسل ثيابه، وسهر الليل في بكائه، إلى غير ذلك.
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، هو تفسير لِوَصَّينَا، أو على حذف الجار، أي: وصيناه بشكرنا وبشكر والديه. وقوله:
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ.. إلخ: اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر لأنه، لَمَّا وصى بالوالدين، ذكر ما تُكابده وتُعاينه من المشاق في حمله وفصاله، هذه المدة الطويلة تذكيراً لحقها، مفرداً.
وعن ابن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين، في أدبار الصلوات الخمس، فقد شكرهما. هـ. وقال القشيري: والإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما. ثم قال: فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإشفاق والتوقير. هـ.
ثم قال تعالى: إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك على شكرك، أو كفرك. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أراد بنفي العلم به نفيَه من أصله، أي: أَن تُشْرِكَ بِي مَا ليس بشيء، أو: ما ليس لك به علم باستحقاقه الإشراك مع الله، بل تقليداً لهما، فَلا تُطِعْهُما في ذلك الشرك. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي: صِحَاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم، وهو الخُلُقُ الجميل، بِحِلْمٍ، واحتفالٍ، وبر، وصلة. وقد تقدم تفسيره في الإسراء «1» .
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي: اتبع طريق مَنْ رَجَعَ إليَّ بالتوحيد والإخلاص، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولا تتبع سبيلهما، وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا. وقال ابن عطاء: اتبع سبيل من ترى عليه أنوار خدمتي. هـ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي: مرجعك ومرجعهما، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيك على إيمانك وَبِرِّكَ، وأجازيهما على كفرهما. وَاعْتَرَضَ بهاتين الآيتين، على سبيل الاستطراد تأكيداً لِمَا في وصية لقمان من النهي عن الشرك، يعني: إنما وصيناه بوالديه، وأمرناه ألا يطيعَهُمَا في الشرك، وإن جاهدا كل الجهد لقبح الشرك.
وتقدم أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأنه مضت لأمه ثلاث ليال لم تَطْعم فيها شيئاً، فشكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت «2» ، وقيل: من أناب: أبو بكر لأن سعداً أسلم بدعوته «3» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: بر الوالدين واجب، لا سيما في حق الخصوص، فيطيعهما في كل شيء، إلا إذا منعاه من صحبة شيح التربية، الذي يُطهر من الشرك الخفي، الذي لا ينجو منه أحد، فإن الآية تشمله بطريق العموم والإشارة، أي:
وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تشرك بي متابعة هواك وحظوظك ومحبتهن، فلا تُطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا،
__________
(1) راجع تفسير الآيتين: 23- 24 من سورة الإسراء.
(2) راجع تفسير الآية (8) من سورة العنكبوت مع حاشية التحقيق.
(3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 250- 252) وأسباب النزول للواحدى (ص 358) . وتفسير البغوي (6/ 288) .(4/369)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
واتبع سبيل من أناب إليَّ، هو شيخ التربية في علم الإشارة. وقد تقدم قول الجنيد: أمرني أبي بشيء، وأمرني السّري بشيء، فقدمت أمر السّري، فرأيت سراً كبيراً. وكان شيخ شيوخنا الولي الشهير، سيدي يوسف الفاسي، يأتيه شاب من أولاد كبراء فاس، وكان أبوه ينهاه ويزجره عن صحبته، وربما بلغ لمجلس الشيخ فيؤذيه، فكان الشيخ يقول للشاب: أطع أباك في كل شيء إلا في الإتيان إلينا. هـ. وكان بعض المشايخ يقول: ائتوني ولو بسخط الوالدين إذ لا يضره ذلك، حيث قصد إصلاح نفسه ودواءها.
وقال الشيخ السنوسي، في شرح عقائد الجزائري، ما نصه: وحاصل الأمر في النفس: أنها شبيهة، في حالها، بحال الكافر الحَرْبِيّ، الذي يريد أن تكون كلمة الكفر هي العليا، وكلمة التوحيد السفلى، وكذلك النفس تريد أن تكون كلمة باطلها من الدعاوى للحظوظ العاجلة، المُشْغِلة عن إخلاص العبودية لمولانا جل وعلا، وعن القيام بوظائف تكاليفه، على الوجه الذي أمر به، هي العليا، النافذ أمرها ونهيها في مُدُنِ الأجسام وما تعلق بها، بعد أن نزلت ساحة الأبدان، واتصلت اتصالاً عظيماً لا انفكاك له إلا بالموت، فوجب، لذلك، على كل مؤمن يُعظّم حرمات الله تعالى أن ينهض كل النهوض، بغاية قواه العِلمية والعملية، لجهادها وقتالها. وفي مثل هذا القتال الذي نزل العدو فيه بساحة الأبدان، وهو فرض عين على كل مؤمن، يسقط فيه استئذان الأبوين وغيرهما. هـ. فأنت ترى كيف جعل قيام النفس على العبد، وحجابها له عن ربه، كعدو يجب جهاده ولو خالف الوالدين، وهو كذلك إذ طاعة الوالدين لا تكون في ترك فرض، ولا في ارتكاب معصية، ومن جملة المعاصي، عند الخواص، رؤية النفس والوقوف معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
فَقلتُ: ومَا ذنبي؟ فَقَالَتْ مُجِيبَةً ... : وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
وتطهير النفس فرض عين، ولا طاعة للوالدين في فرض العين. وقوله تعالى: (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) قال الورتجبي: المعروف، هاهنا، أن تُعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، نهاه عن متابعة المخلَّطِين، وحثه على متابعة المنيبين. هـ. وبالله التوفيق.
ثم قال لقمان فى وصيته:
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 19]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(4/370)
قلت: الضمير في (إنها) : للقصة، ومن قرأ «مثقال» : بالرفع ففاعِلُ كَانَ التامة، ومن قرأ بالنصب فخبرها، والضمير: للخطيئة أو الهيئة. وأنث «المثقال» لإضافته إلى الحبة.
يقول الحق جلّ جلاله: وقال لقمان لابنه، حين قال له: يا أبت: إن عَمِلْتُ بالخطيئة، حين لا يراني أحد، كيف يعلمها الله؟ فقال: يا بُنَيَّ إِنَّها، أي: القصة أو الخطيئة إِنْ تَكُ مِثْقالَ «1» حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي: إن تك المعصية في الصغر والحقارة، مثقال حبةٍ من خَرْدَلٍ، أو: إن تقع مثال حَبَّةٍ من المعاصي فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أي: فتكن، مع صغرها، في أخفى مكان، أو في جبل. وقال ابن عباس: هي صخرة تحت الأَرَضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة الماء منها. هـ. قال السدي: خلق الله تعالى الأرض على حوت، والحوت في الماء، والماء على ظهر صَفَاةٍ- أي: صخرة- والصفاة على ظهر ملَكَ، والملك على صَخْرَة.
وهي الصخرة التي ذكر لقمان. ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الريح «2» . هـ.
أي: إن تقع المعصية في أخفى مكان يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يوم القيامة فيحاسب عليها عاملها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ: يتوصل علمه إلى كل خفي، خَبِيرٌ: عالم بكنهه، أو: لطيف باستخراجها خبير بمستقرها.
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ: أتقنها، وحافظ عليها تكميلاً لنفسك، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلاً لغيرك، وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ في ذات الله تعالى، إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر فإن من فعل ذلك تعرض للأذى، أو: على ما أصابك من الشدائد والمحن فإنها تورث المنح والمنن. إِنَّ ذلِكَ الذي وصيتك به، مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: مما عزمه الله من الأمور، أي: قَطَعَه قطع إيجاب وإلزام، أي: أمر به أمراً حتماً. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: من معزومات الأمور، أي: مقطوعاتها ومفروضاتها. وفيه دليل على أنَّ هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي: تُمله عنهم، ولا تولهم صفَحة خدك، كما يفعله المتكبرون. والتصعير: داء يصيب العير، فيلوى عُنُقَهُ منه. والمعنى: أَقْبِل على الناس بوجهك تواضعاً، ولا تُولهم شق وجهك وصفحته تكبرا.
__________
(1) قرأ نافع: «مثقال» بالرفع، على أن «تك» تامة. وقرأ الباقون: بالنصب على أن «تك» ناقصة، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام، وتقديره: «هى» . انظر: البحر المحيط (7/ 182) . [.....]
(2) انظر: تفسير البغوي (6/ 288- 289) ، والبحر المحيط (7/ 187) . قلت: كل هذه أقوال لا علاقة لها بالآية، ولا يصح تفسير الآية بها. وعلم الفلك الحديث، وعلم الفضاء، وجميع حقائقه القطعية تبرهن على أن الأرض جرم، وكوكب يسبح فى الفضاء، وليس على حوت ولا على صخرة. والذي نرجحه: أن هذه الأوهام غير صحيحة السند إلى هؤلاء السادة العلماء.(4/371)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً خُيَلاَءَ متبختراً، فهو مصدر في موضع الحال، أي: مَرِحاً، أو: تمرح مرحاً، أو: لأجل المرح، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، علة النهي. والمختال هو المرِحُ الذي يمشي خيلاء، والفخور هو المُصَعِّرُ خَدَّهُ تكبراً. وتأخير الفخور، مع تقدمه لرؤوس الآي.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الدبيب والإسراع، فلا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثوب الشطارين، قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ سُرْعَةَ المَشي تُذْهِبُ ببهاء المُؤْمِنِ» «1» . وأما قول عائشة- رضى الله عنها: (كان إذا مَشَى أسْرَع) فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كانوا ينهون عن خَبَبِ «2» اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك. وقيل: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: انظر موضع قدميك، أو: اقصد: تَوَسَّطْ بين العلو والتقصير.
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه، أي: اخفض صوتك. كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت، فنهى الله عن خُلُق الجاهلية، فذكره لوصية لقمان، وأنه لو كان شيء يُهَابْ، لرفع صوته لكان الحمار، فجعلهم في المثل سواء. وهو قوله: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها وأقبحها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لأن أوله زفير، وآخره شهيق، كصوت أهل النار. وعن الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار، فإنه يصيح لرؤية الشيطان، وقد سماه الله منكراً، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير تنبيه على أن رفع الصوت في غاية البشاعة، ويؤيده: ما رُوِيَ أنه:
عليه الصلاة والسلام- كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون مجهور الصوت.
وقال بعضهم: رفع الصوت محمود في مواطن منها: الأذان والتلبية. وقال في الحاشية الفاسية: بل ينبغي الاقتصاد في ذلك، كما قال عمرُ بنُ عبد العزيز: أَذِّن أذاناً سنِّياً، وإلا اعتزلنا. هـ. وقال عليه الصلاة والسلام:
«ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لاَ تَدْعُون أصمَّ ولا غَائباً» «3» . وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.
الإشارة: قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية، تدل على كمال صاحبها، منها: استحضار مراقبة الحق ومشاهدته، في السر والعلانية، في الجلاء والخفاء. وهو قوله: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ.. إلخ. ومنها:
القيام بوظائف العبودية، بدنية ولسانية، وهو قوله: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ.. إلخ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهى
__________
(1) أخرجه ابن عدى فى الكامل (5/ 8) ، وأبو نعيم فى الحلية (10/ 290) ، من حديث أبى هريرة. وانظر: الفتح السماوي (2/ 913- 915) .
(2) الخبب: ضرب من العدو. وقيل: الخبب: السرعة. انظر: «اللسان» (خبب 2/ 1085) .
(3) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، ح 6384) ، ومسلم فى (الذكر والدعاء، باب استجاب خفض الصوت بالذكر 4/ 2076 ح 2074) من حديث أبى موسى الأشعري رضى الله عنه. وقوله «اربعوا» أي: ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم.(4/372)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
عن المنكر سائر عبادات اللسان، ومنها: الصبر على النوائب، سواء كانت من جهة الخلق، أو من قهرية الحق، وهو ركن في الطريق. وتقدم تفصيله في آخر النحل «1» . ومنها: التواضع والليونة، وهما مصيدة الشرف، ومن شأن أهل السياسة. ومن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوق قدره. وهو قوله: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. ومنها: السكينة والوقار والرزانة، وهي نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال. وهو قوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. ومنها: خفض الصوت في سائر الكلام، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة، والقرب من الحق، قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «2» ، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء.
قال القشيري: قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ..، الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغُهُ: أن تمنع نفسك عما تنهى عنه، واشتغالك، واتصاف نفسك، بما تأمر به غيرك، ومنْ لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به: ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه، والمنكر الذي يجب النهي عنه: ما يشغل العبد عن الله.
ثم قال: وقوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ: تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقِّ امْتُحِنَ في الله، فسبيله أن يصبرَ في الله، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله.
ثم قال: قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تتكبرْ عليهم، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك. ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه لا يتكبرُ ولا يتطاول، بل يتخاضع ويتضاءل. قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ.. الآية، أي: كُنْ فانياً عن شواهدك، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك. وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خُمَارِ غفلتك، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: في الإشارة: أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق. وقالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. هـ. أي: يتكلم على الناس، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بالنعم، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
__________
(1) راجع إشارة الآيات: 126- 128 من سورة النحل.
(2) الآية 108 من سورة طه.(4/373)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ، يعني: الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وغير ذلك، وَما فِي الْأَرْضِ، يعني: البحار، والأنهار، والأشجار، والثمار، والدواب، والمعادن، وغير ذلك، وَأَسْبَغَ: أتم عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ، بالجمع، والإفراد إرادة الجنس. والنعمة: ما يسر به الإنسان ويتلذذ به، حال كونها ظاهِرَةً ما تدرك بالحس، وَباطِنَةً ما تدرك بالعلم والوجدان.
فقيل: الظاهرة: السمع، والبصر، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة: القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك.
أو: الظاهرة: الصحة، والعافية، والكفاية والباطنة: الإيمان، واليقين، والعلم، والمعرفة بالله، وسيأتي في الإشارة بقيتها.
رُوِي أن موسى عليه السلام قال: دُلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم: النَّفسُ. هـ.
قلت: إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً ما ربحنا إلا منها. هـ. وقيل: الظاهرة: تحسين الخلْق، والباطنة: حُسْنُ الخلقُ.
وقال ابن عباس: الظاهرة: ما سوى من خلقك، والباطنة: ما ستر من عيوبك.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بعد هذه النعم المتواترة، أي: في توحيده وصفاته ودينه، بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل ولا برهان، وَلا هُدىً اي: هداية رسول، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله الله، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت في النضر بن الحارث. وقد تقدمت في الحج «1» .
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله من التوحيد، والشرائع، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد في الأصول. قاله البيضاوي قلت: والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح. وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينظر، فهو مؤمن، اتفاقا. قال تعالى: أَوَلَوْ أيتبعونهم، ولو كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، يحتمل أن يكون الضمير لهم، أي: أيقلدونهم، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب، أو: لآبائهم، أي: أيتبعون آباءهم، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
الإشارة: الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان، وأنت خُلِقْتَ للحضرة، فاعرف قَدْرَكَ، ولا تتعدّ طورك، واشكر النعم التي أسبغ عليك ظاهرة وباطنة. الظاهرة: استقامة الظواهر في عمل الشرائع، والباطنة: تصفية البواطن لتتهيأ لأنوار الحقائق، أو: الظاهرة: المنن، والباطنة: المحن. قال القشيري: قد تكلموا فى الظاهرة والباطنة وأكثروا.
__________
(1) راجع تفسير الآية 8 من سورة الحج (3/ 515) .(4/374)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
فالظاهرةُ: وجودُ النعمة، والباطنةُ: شهودُ المنعِم، أو: الظاهرةُ: الدنيويةُ، والباطنة: الدينية. أو: الخلْق والخُلق، أو:
نَفْس بلا زَلَّة، وقلبٌ بلا غفلة، أو: عطاء ورضى. أو: الظاهرة: في الأموال ونمائها، والباطنة: في الأحوال وصفائها، أو: الظاهرة: النعمةُ، والباطنة: العصمةُ، أو: الظاهرةُ: توفيقُ الطاعات، والباطنة: قبولُها، أو: الظاهرة:
صحبة العارفين، والباطنةُ: حِفْظُ حُرْمَتِهم وتعظيمهم. أو: الظاهرة: الزهدُ في الدنيا، والباطنة: الاكتفاءُ بالله من الدنيا والعُقبى. أو: الظاهرة: الزهد، والباطنة: الوَجْدُ. أو: الظاهرة: توفيق المجاهدة، والباطنة: تحقيقُ المشاهدة، أو:
الظاهرة: وظائف النَّفْس، والباطنة: لطائف القلب، أو: الظاهرة: اشتغالُك بنفسك عن الخلق، والباطنة: اشتغالك بربَّك عن نفسك، أو: الظاهرة: طَلَبَهُ، والباطنة: وجودُه، أو: الظاهرةُ: أنْ تَصِلَ إليه، والباطنة: أن تبقى معه. هـ. ببعض المعنى.
ثم قال القشيري: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ.. الآية: لم يتخطوا أمثالَهم، ولم يهتدوا إلى تحوِّل أحوالهم هـ. يعني: قلدوا أسلافهم في الإقامة مع الرسوم والأشكال، والانهماك في الحظوظ، فعاقهم ذلك عن السير والوصول. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما من خالف أمثاله وأشكاله، وانقاد بكليته إلى مولاه، فقد استمسك بالعروة الوثقى، كما قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
قلت: قال في الحاشية: لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم، وعدّاه هنا بإلى، وفي قوله: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» ، باللام لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين، ولم يخص له واحداً بعينه، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام. أو: في الآية الأخرى أتى به خاصاً، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله: فَلَهُ أَجْرُهُ ... إلخ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء. و «إلى» : لا تقتضي ذلك. انظر ابن عرفة.
وقال النسفي: عدّاه هنا بإلى وهناك باللام لأن معناه، مع اللام: أنه جعل وجهه- وهو ذاته ونفسه- سالماً لله، أي: خالصاً له، ومعناه، مع «إلى» : أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل، إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه. هـ. أي: فهو أبلغ من اللام، ومثله البيضاوي.
__________
(1) الآية 112 من سورة البَقَرَة.(4/375)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي: ينقد إليه بكليته، وينقطع إليه بجميع شراشره، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه، وَهُوَ مُحْسِنٌ في أعماله. قال القشيري: من أَسْلَمَ نَفْسُه، وأخلص في الله قَصْدَهُ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. هـ. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص، فلذلك قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ. قاله المحشي. وقلت: وفيه نظر فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام، وإنما المعنى: أسلم وجهه في الباطن، وهو محسن بالعمل في الظاهر، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، أي: تعلق بأوثق ما يتعلق به فالعروة:
ما يستمسك به. والوثقى: تأنيث الأوثق. مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروي: أي: تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهري: أصله: من عروة الكلأ، وهو: ما له أصل ثابت في الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض. ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به، ويُلْجأُ إليه. هـ.
وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً، والآخِذُ به، مُّتصلاً بالله، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً، بخلاف الشرك، فإنه على الضد، كما يرشد إليه قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ.. «1» الآية. وقوله تعالى:
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ... الآية «2» .
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: صائرة إليه، فيُجازى عليها.
وَمَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه لله، فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فلا يهمك شأنه، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أي: فنعاقبهم على أعمالهم، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أي: عالم بحقائق الصدور، وما فيها، فيجازى على حسبها، فضلاً عما في الظواهر، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، أي: نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. شبَّه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم إليه، باضطرار المضطر إلى الشيء. والغِلظ: مستعار من الأجرام الغليظة، والمراد: الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ. عائذاً بالله من موجبات غضبه.
الإشارة: ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه، وغاب عن كل ما سواه، وهو من أهل مقام الإحسان، بأن أشرقت عليه شمس العيان، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً. ومن أمارات الانقياد: ترك التدبير والاختيار، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فيوصل من يشاء برحمته، ويقطع من يشاء بعدله. ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه فلا يحزنك، أيها العارف،
__________
(1) الآية 26 من سورة إبراهيم.
(2) الآية 31 من سورة الحج.(4/376)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
فعله، إلينا إيابهم، وعلينا حسابهم، فَسَنُمَتَّعهُمْ بحظوظهم، والوقوف مع عوائدهم، زماناً قليلاً، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب. والعياذ بالله.
ثم برهن على توحيد من يجب الاستسلام له، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، فيضطرون إلى الإقرار بذلك، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه، ولم ينتبهوا، فالإضراب عن كلام محذوف، أي: فيجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، لمّا اعترفوا، ولكنهم لا يعلمون، لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكاً وعبيداً، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، أي: الغني عن حمد الحامدين، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
الإشارة: قد اتفقت الملل على وجود الصانع. ثم وقفت العقول في مقام الحيرة والاستدلال، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها، فمن وَجَدَتْ عارفاً كاملاً سلك بها الطريق، حتى أوقعها على عين التحقيق، فأشرفت على البحر الزاخر، فغرقت في بحر الذات وتيار الصفات، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول. وقل الحمد لله أَنْ وَجَدْتَ من يعرفك بالله، وأكثر الخلق حائدون عن العلم بالله.
ثم إن العلم بالله وبصفاته وأسمائه لا نهاية له، كما قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
قلت: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض) : مذهب الكوفيين وجماعة: أن ما بَعد «لو» : فاعل بفعل محذوف، أي: ولو ثبت كون ما في الأرض.. إلخ. ومذهب سيبويه: أنه مبتدأ، أي: ولو كون ما في الأرض واقع، و (البحر) : مبتدأ، و (يمده) : خبره، أي: يمد ما ذكر من الأقلام. و (من بعده سبعةُ أبحر) : مبتدأ وخبر. وحذف التمييز، أي: (مداداً) ،(4/377)
يدل عليه (يمده) ، أو (سبعة) : فاعل (يمده) ، أي: يصب فيه سبعةُ أبحر، والجملة: حال، أي: ولو أن الأشجار أقلام، في حال كون البحر ممدوداً، ما نفدت.. إلخ. وجملة (يمده) : خبر (البحر) . ومن قرأ بالنصب فعطف على اسم «إن» ، وهو (ما) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ من الأشجار أَقْلامٌ، والبحر يمد تلك الأقلام، يصب في ذلك البحر سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات الله الدالة على عظمته وكمالاته، ما نَفِدَتْ كلماته، ونفدت الأقلام، وجفت تلك الأبحر، وهذا كقوله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي»
مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر، يقال: مد الدواة وأمدها: جعل فيها مداداً، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مدادها، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر، قبل ان تنفد كلماته تعالى لأنها تابعة لعلمه، وعلمه لا نهاية له.
وإنما وحدَّ الشجرة لأن المراد تفصيل الشجر وتقَصِيها شجرة شجرة، حتى ما يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة إلا وقد بُريت أقلاماً. وأوثر الكلمات، وهي من حيز جمع القلة، على الكَلِم، الذي هو جمع الكثرة لأن المعنى: أن كلماته لا يفي بها الأقلام فكيف بكلامه الكَثير؟
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يُعجزه شيء، حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، فلا تنفد كلماته وحكمته.
والآية جواب اليهود، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلنا: الآية مدنية، أو: أَمروا وَفد قريش أن يسألوه عن قوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» ، فقالوا: هل عنيتنا أمْ قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كُلاّ قد عنيت» ، فقالوا: أليس فيما قد أوتيت أنَّا قد أُوتينا التوراة، فيها علم كل شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل» ، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّ ما ...
إلخ «3» .
ولما ذكر شأن كلامه وعلمه ذكر شأن قدرته، فقال: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أي: إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة. فحُذف، للعلم به، أي: القليل والكثير في قدرة الله تعالى سواء، فلا يشغله شأن عن شأن، وقدرته عامة التعلق، تَنْفُذُ أسرع من لمح البصر. قال الغزالي في الإحياء: ومن غريب حِكَم الآخرة أن الرجل يُدعى به إلى الله تعالى، فيُحاسب ويُوبخ، وتُوزن له حسناته وسيئاته، وهو في ذلك كله يظن أن الله لم
__________
(1) الآية 109 من سورة الكهف.
(2) الآية 85 من سورة الإسراء.
(3) أخرجه الطبري فى التفسير (21/ 81) عن ابن عباس. وذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 358) بدون إسناد.(4/378)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يحاسب إلا هو، ولعل آلاف آلاف ألف مثله في لحظة واحدة. وكل منهم يظن ظنه، لا يرى بعضُهم بعضاً، ولا يسمعه، وهو قوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. هـ.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقول من يُنكر البعث من المشركين، بَصِيرٌ بأعمالهم، فيجازيهم.
الإشارة: أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة، غير محصورة ولا متناهية من علم، وقدرةٍ، وإرادة، وكلام، وغيرها. وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية، وقد يمد الحقُّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى «1» ، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول، لا يقدر على إمساكه، فلو بقي يتكلم عمرَه كله ما نفد كلامه، حتى يُسكته الحق تعالى. وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه، حين يتكلم عليهم: إني لأستفيد من نفسي كما تستفيدون أنتم مني، وذلك حين الفيض الإلهي. وإذا أمده بصفة القدرة، قدر على كل شيء، وإذا أمده بصفة السمع سمع كل شيء، وإذا أمده بصفة البصر، أبصر كل موجود.. وهكذا. وهذه الأوصاف كامنة في العبد من حيث معناه، احتجبت بظهور أضدادها صوناً لسِّر الربوبية. والله تعالى أعلم.
ثم برهن على كمال أوصافه، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يُدخل ظلمة الليل في ضوء النهار، إذا أقبل الليل، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل، إذا أقبل النهار. أو: بإدخال جزء
__________
(1) أي: يمد الله عبده المخلص ببعض أنوار صفة من صفاته، فقد يمده بنور من صفة العلم، أو بنور من صفة القدرة، أو بنور من صفة العزة، أو بنور من صفة الكلام.. إلخ. أما أن يمده بصفة لا متناهية من صفاته اللامتناهية.. فهو أمر غير منصور، فالرب رب، والعبد عبد، والله ليس كمثله شىء. [.....](4/379)
أحدهما في الآخر بزيادة الليل أو النهار. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لمنافع العباد، كُلٌّ، أي: كل واحد من الشمس والقمر يَجْرِي في فلكه، ويقطعه، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى يوم القيامة، أو: إلى وقت معلوم للشمس، وهو تمام السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه، لا يخفى عليه شيء.
فدل، بتعاقب الليل والنهار، أو بزيادتهما ونقصانهما، وَجَرْي النيرين في فلكهما، على تقدير وحساب معلوم، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق، على عظيم قدرته، وكمال علمه وحكمته.
ذلِكَ شاهد بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وما سواه باطل، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ «1» مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ المعدوم في حد ذاته، لا حقيقة لوجوده. أو: ذلك الذي وصف بما وصف به، من عجائب قدرته وباهر حكمته، التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية، وأن مَن دونه باطل ألوهيته، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، أي: العلي الشأن، الكبير السلطان.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه ورحمته، أو: بالريح، لأن الريح من نعم الله. أو: ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع، فالباء، حينئذٍ، للأرزاق، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على وحدانيته وكمال صفاته لِكُلِّ صَبَّارٍ في بلائه، شَكُورٍ لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
وَإِذا غَشِيَهُمْ، أي: الكفار، أي: علاهم وغطاهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، أي: كشيء يظل من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل جمع ظُلة، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لا يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو: متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار.، ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان.
أو: مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني: أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي: بحقيقتها إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار. والختْر: أقبح الغدر، كَفُورٍ لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ: مقابل صبّار، وكفور: مقابل شكور لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
__________
(1) قرأ أبو عمرو وحفص والكسائي ويعقوب: «ما يدعون» بالغيب.. انظر: الإتحاف (2/ 364) .(4/380)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الإشارة: ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما. فآداب القبض: الصبر، والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط: الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كل يجري إلى أجل مسمى فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إِنَّ الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن في ذلك لآيات لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.
وإذا غشيهم، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجئوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا، فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم: غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم: غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ، ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا، ... أَحِبَّاءَنَا: كم تجهلون ونحلم!
ثم ختم بالوعظ والتذكير، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قلت: (بأي أرض) قال في المصباح: الأفصح: استعمال «أي» في الشرط والاستفهام بلفظ واحد، للمذكر والمؤنث، وعليه قوله تعالى: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
«1» ، وقد تطابق في التذكير والتأنيث، نحو: أَيُّ رَجُلٍ، وأي وأية امرأة. وفي الشاذ: بأية أرض تموت. هـ.
__________
(1) من الآية 81 من سورة غَافر.(4/381)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بطاعته وترك معصيته. وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئاً، لا يقضى عنه شيئاً، ولا يدفع عنه شيئاً. والأصل:
لا يجزى فيه، فحذف. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً، وتغيير النظم في حق الولد، بأن أكده بالجملة الاسمية، وبزيادة لفظ (هو) ، وبالتعبير بالمولود للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آباءهم الذين ماتوا على الكفر بالشفاعة في الآخرة. ومعنى التأكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه، فضلاً عن أن يشفع لأجداده لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود لأنه لِمَا وُلِدَ منك.
كذا في الكشاف، قلت: وهذا في حق الكفار، وأما المؤمنون فينفع الولد والده، والوالد ولده بالشفاعة، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ، وكل من له جاه عند الله، كما تقدم في سورة مريم «1» .
ثم قال تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والحساب والجزاء، حَقٌّ لا يمكن خلفه، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزخارفها الغرارة فإِنَّ نعمها دانية، ولذاتها فانية، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء، بالزهد فيها، والتفرغ لِمَا يرضي الله، من توحيده وطاعته، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ، أي: لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحمله، أو: لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به، الْغَرُورُ أي: الشيطان، أو: الدنيا، أو: الأمل. وفي الحديث: «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ المَوْتِ، والأحمقُ من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأمَاني» «2» . وفي الحديث أيضاً: «كَفَى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً» .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: وقت قيامها، فلا يعلمه غيره، فتأهبوا لها، قبل أن تأتيكم بغتة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ: عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل، أي: إن الله يُثبت عنده علم الساعة، ويُنزل الغيث في وقته، من غير تقديم ولا تأخير، وفي محله، على ما سبق في التقدير، ويعلم كم قطرة ينزلها، وفي أي بقعة يمطرها.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وشقي أو سعيد، وحسن أو قبيح. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، ووفاق وشقاق، فربما كانت عازمة على الخير فعملت شراً، أو على شر فعملت خيراً. وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت:
لا أبرحُها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.
رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: مَن هذا؟ فقال:
ملك الموت، فقال: كأنه يُريدني، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك. هـ.
__________
(1) راجع إشارة الآية 87 من سورة مريم.
(2) سبق تخريج الحديث عند إشارة الآيات: 38- 40 من سورة العنكبوت.(4/382)
وجعل العلم لله والدرايةَ للعبد، لِمَا في الدراية من معنى التكسب والحيلة، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها. وأما المنجم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيباً، على أنه مجرد الظن، والظن غير العلم. وعن ابن عباس: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب.
وجاءه يهودي منجم، فقال: إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت. قال له: أين موتك؟ قال: لا أدري، فقال ابن عباس: صدق الله: ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت، وسأله عن مدة عمره، فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو إشارة إلى هذه الآية، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلاَّ الله. هـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: قيل: أنَّ الله تعالى يُعْلِم الأشياء بالوَسم والرسم، والرسم يتغير، والوسم لا يتغير، فقد أخفى الله تعالى الساعة، ولم يخف أمارتها، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه، ولكن لا من كل وجوهه، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص، جُملة لا تفصيلي، وجزئي لا كُلي، ومقيد لا مطلق، وعرضي لا ذاتي، بخلاف علمه تعالى. هـ.
قال المحلي: روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. «1»
إلى آخر السورة.. ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة، بعد كلام، ما نصه: والحكمة في جعلها خمسة: الإشارة إلى حصر العوالم فيها، ففي قوله: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ: الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها، فغيرها بطريق الأولى. وفي قوله:
لا يعلم متى يأتي المطر: إشارة إلى أمور العالم العلوي، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل بجرى العادة على وقوعه، لكنه من غير تحقيق. وفي قوله: «لا تدري نفس بأي أرض تموت» : إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه، بل قبر أعده هو له.
وفي قوله: «ولا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إلا الله» : إشارة إلى أنواع الزمان، وما فيها من الحوادث، وعبَّر بلفظ (غدٍ) لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه، مع إمكان الأمارة والعلامة، فما بعد
__________
(1) أخرج حديث مفاتيح الغيب، البخاري فى (الاستسقاء، باب لا يدرى متى يجىء المطر إلا الله ح 1039) .(4/383)
عنه أولى. وفي قوله: «متى تقوم الساعة إلا الله» إشارة إلى علوم الآخرة، فإن يوم القيامة أولها، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعدُ، فجمعت الآية أنواع الغيوب، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة. وقد بيّن في قوله تعالى:
في الآية الأخرى، وهي قوله: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى.. «1» الآية، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. هـ ملخصاً.
والحاصل: أن العوالم التي اختص الله بها خمسة: عالم القيامة وما يقع فيه، والعالم العلوي وما ينشأ منه، وعالم الأرض وما يقع فيه، وعالم الإنسان وما يجري عليه، وعالم الزمان وما يقع فيه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ عليم بالغيوب، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري: أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب هـ.
الإشارة: يا أيها الناس المتوجهون إلى الله، إن وعد الله بالفتح، لمن أنهض همته إليه، حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها، عن النهوض إليها، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور، فيغركم بكرم الله، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما، إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ الساعة التي يفتح على العبد فيها، وينزل غيث المواهب والواردات، ويعلم ما في أرحام الإرادة، من تربية المعرفة واليقين، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه، وما تلقاه من المقادير الغيبية، فيجب عليها التفويض والاستسلام، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها، إن الله عليم خبير.
قال القشيري: في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ: خوّفهم، تارةً، بأفعاله، فيقول: اتَّقُوا يَوْماً «2» ، وتارة بصفاته، فيقول: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «3» ، وتارة بذاته، فيقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «4» . هـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
__________
(1) الآيتان 26- 27 من سورة الجن.
(2) جاء فى آيات كثيرة، منها الآية 48 من سورة البقرة.
(3) من الآية 14 من سورة العلق.
(4) من الآية 28 من سورة آل عمران.(4/384)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
سورة السّجدة
مكية، وقيل: إلا قوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً «1» ، نزلت بالمدينة، وهى ثلاثون آية، أو: تسع وعشرون. ومناسبتها لما قبلها: قوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ... إلى آخر الآيات، فإنها كالاستدلال على قيام الساعة، التي خوّف بها فى ختم السورة بعد تقرير الرسالة. وقيل: المناسبة: هى ما بعد هذه من تبيين الرسالة، التي هى مستند ما ذكر قبلها من المعاد ودلائل التوحيد. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ: الم السجدة. وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ويقول: «هما مفضلتان على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحى عنه سبعون سيئة» .
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
قلت: (تنزيل) : إما خبر عن (الم) ، إن جُعِلَ اسماً للسورة، أو: خبر عن محذوف، أي: هذا تنزيل. أو: مبتدأ، خبره: (لا ريب فيه) . وعلى الأول (لا ريب) : خبر بعد خبر، و (من رب العالمين) : خبر ثالث. أو: خبر عن «تنزيل» ، و (لا ريب فيه) : معترض. والضمير في (فيه) : راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي: كونه منزلاً من رب العالمين، و «أم» : منقطعة بمعنى: «بل» .
يقول الحق جلّ جلاله: ألم أيها المصطفى المقرب، هذا الذي تتلوه هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ، لأنه معجز للبشر، ومثله أبعد شيء عن الريب، وهو مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لا محالة. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، أي: اختلقه محمد من عنده، وهو إنكار لقولهم، وتعجيب منه لظهور أمره في عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّكَ، ولم تفتره، كما زعموا تعنتاً وجهلاً، أنزله عليك لِتُنْذِرَ قَوْماً أي: العرب، ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى- عليهما السلام- لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الصواب من الدين. والترجي مصروفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ «2» مصروفاً إلى موسى وهارون.
__________
(1) الآية 18.
(2) من الآية 44 من سورة طه.(4/385)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
الإشارة: (الم) الألف: أَلِفَ المحبون قُربى، فلا يصبرون عني. اللام: لمع نوري لقلوب السائرين، فزاد شوقهم إليّ. الميم: مَلَك الواصلون ملكي وملكوتي، فلا يغيبون عني. تنزيل الكتاب، إذا طال أمد لقاء الأحباب، فأعزّ شيء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابي كتابي، وحَمَلتْ إليهم بالرسل خطابي، ولا عليهم إن قرع أسماعَهم عتابي، فإنهم مني في أمان من عذابي. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، إنكار الأعداء على المحبين سُنَّة لازمة. فإن أُلبِسَ الحق على الأعداء فلا يضركم، ولا عليكم، فإنَّ [صحبة] «1» الحبيب للحبيب ألذّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.
ثم ذكر المقصود بالذات، وهو الاستدلال على البعث، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 6]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي: استولى بقهريه ذاته. وسئل مالك عنه، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة. هـ. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة. وسيأتي شيء في الإشارة. ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ من دون الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي: إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً، أي: ناصراً ينصركم، ولا شفيعاً يشفع لكم، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تتعظون بمواعظ الله.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه، فهو كقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «2» ، أي: يُبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي، الجزئي، لا الكلي، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، نازلة آثارها إلى الأرض. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا.
__________
(1) فى الأصول: محبة، والمثبت هو الذي فى القشيري، وهو المناسب للسياق.
(2) من الآية 29 من سورة الرحمن.(4/386)
قال الأقليشي: جاء في حديث: «إن بُعد ما بين السماء والأرض، وما بين سماء إلى سماء، مسيرة خمسمائة سنة» . وفي حديث آخر: «إنَّ بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة» ، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة.
وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل: من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل. وعليه يخرج قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وقال في آية أخرى: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» . وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل. هـ. وقيل: المعنى: أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل: إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية، فقال: يُدبر الأمر في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ: مقداره ألف سنة من عَدِّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لِهوله، حسبما في سورة المعارج. هـ.
قلت: والتحقيق، في الفرق بين الآيتين، أن الحق تعالى، حيث لم يختص بمكان دون مكان، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته، كان العروج إنما هو إليه على كل حال، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها، قرّب المسافة ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة. ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة زيادة في علو شأنه ورفعة قدره.
وكل هذا العروج في دار الدنيا. على قول من عَلَّقَ (في يوم) بتَعْرج في سورة المعارج. فتأمله.
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك. الْعَزِيزُ الغالب أمره وتدبيره، الرَّحِيمُ البالغ لطفُه وتيسيره.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات، قطعة من نور ذاته، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش، ثم بالماء، فكان عرشه على الماء، ثم بالكرسي، ثم بالأرض، ثم بالسماوات، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته، استوى به على عرشه لتدبير ملكه، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله خلق آدم على صورته» . وفي رواية: «على صورة الرحمن» . وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده، ولرؤيته- باعتبار العامة-، وهذا التجلي كله، من جهة معناه، متصل بسائر التجليات،
__________
(1) الآية 4 من سورة المعارج. [.....](4/387)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس: أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس إذ لا عبودية فيه، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء، لأن كنزه ما زال مدفوناً، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل، وسَلِّمْ، إن لم تفهم، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقة، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.
ثم كمل ما بقي من أوصافه، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 7 الى 10]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)
قلت: (الذي) : صفة للعزيز، أو: خبر عن مضمر. ومن قرأ خَلَقَهُ بالفتح «1» فصفة لكل، ومن سَكَّنَهُ فبدل منه، أي: أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ.
يقول الحق جلّ جلاله في وصف ذاته: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي: أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته. أو: أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة. ثم بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ آدم مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي: نطفة مسلولة من سائر البدن، مِنْ ماءٍ أي:
مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، مَهِينٍ ضعيف حقير. ثُمَّ سَوَّاهُ أي: سوّى صورته في أحسن تقويم، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل: مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربه. وقد تقدّم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه «2» . وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم لقلة التدبر فيها.
__________
(1) قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: «خلقه» بفتح اللام، فعلا ماضيا، وقرأ الباقون: بسكونها بدل من «كل» بدل اشتمال. انظر:
الإتحاف (2/ 366) .
(2) راجع إشارة الآية 85 من سورة الإسراء. (3/ 228- 230) .(4/388)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
وَقالُوا منكرين للبعث: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ، أي: صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن. أو: غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال: ضَلَلَ كضرب، وضِلل كفرح. وانتصب الظرف في (أإذا) بقوله: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أي: أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض؟. والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم لرضاهم بذلك، بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده. وقال المحشي: أي: ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أظهر الحق تعالى: من تجلياته الكونية فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها، كما قال صاحب العينية:
وَكلُّ قبِيح، إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ ... أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ ... فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ، وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ «1»
وأكملُها وأعظمُها: خلقةُ الإنسان، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن، حيث جعل فيه أوصافه من قدرة، وإرادة، وعلم، وحياة، وسمع، وبصر، وكلام، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس، وسخّر له جميع الكائنات، وهيأه لحمل الأمانة، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو في أسفل سافلين. قال الورتجبي: ذكر حسن الأشياء، ولم يذكر هنا حسن الإنسان غيرةً، لأنه موضع محبته، واختياره الأزلي، كقول القائل:
وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ، ولكن ... عليك، من الورى، وقع اختياري
قال الواسطي: الجسم يستحسن المستحسنات، والروح واحديةٌ فردانيةٌ، لا تستحسن شيئاً. وقال ابن عطاء في قوله: ثُمَّ سَوَّاهُ ... : قوّمه بفنون الآداب، ونفخ فيه من روحه الخاص، الذي، به، فَضَّله على سائر الأرواح، لما كان له عنده من محل التمكين، وما كان فيه من تدبير الخلافة، ومشافهة الخطاب- بعد أن قال الورتجبي-: أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته، كما ذكر بقوله: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. هـ.
ثم ذكر أمر اللقاء الذي أنكروه، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 11 الى 15]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
__________
(1) انظر النادرات العينية (76- 77) .(4/389)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بقبض أرواحكم فتموتون، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفي: استيفاء الروح، أي: أخذها، من قولك: توفيت حقي من فلان، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان. وعن مجاهد: زُويت الأرض لملك الموت، وجُعلت مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء «1» . وعن مقاتل والكلبي: بلغنا أن اسم ملك الموت «عزرائيل» ، وله أربعة أجنحة: جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كَمَا بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ، وله الدنيا مثل راحة اليد، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل: أن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الموتى، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين- وفي حديث آخر، خمس مرات- فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضربه بتلك الحربة. وقال: الآن يُزار بك عسكر الأموات «2» .
فإن قيل: ما الجمع بين قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «3» وتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «4» وقُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ «5» ؟ فالجواب: أن توفي الملائكة: القبضُ والنزعُ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها، ثم يذهبون بها إلى عليين. وقبض الحق تعالى: خَلْقُ الموتِ فيه. والحاصل: أنَّ قبض الملك: المباشرة، وقبض الحق: الإخراجُ حقيقةً.
قال الورتجبي: قال الحسن: ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكي الموت والحياة، فقال العراقي: لم أجد له أصلاً. ويعني بملك الحياة: كون الأرواح، أنفاسَ ملك الحياة كما في الإِحْيَاء. ومذهب أهل السُنَّة قاطبة: أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح، من بني آدم
__________
(1) أخرجه الطبري (21/ 98) .
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 302) .
(3) من الآية 61 من سورة الأنعام.
(4) من الآية 97 من سورة النساء.
(5) من الآية 42 من سورة الزمر.(4/390)
والبهائِم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ، كيبس الشجر وجفاف الثياب، فلا قبض لأرواحها، وهو أعلم من كونها تُبعث، أو: لا بأن تعاد عن عدم، بخلاف المكلف، فإن روحه لا تعدم، خلافاً للملاحدة، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً، كجفاف العود الأخضر، وهو كفر.
هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة، فيكون معنىً وجودياً، أو هو عدم الحياة، فيكون عدماً، وعلى كلا القولين فألأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان، منعّمة أو معذبة.
وَلَوْ تَرى يا محمد إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم الذين قالوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ... إلخ، و «لو» و «إذ» للماضي، وإنما جاز هنا لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع. و (ترى) ، هنا، تامة، لا مفعول لها، أي: لو وقعت منك رؤيةٌ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي: وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم، عِنْدَ رَبِّهِمْ عند حساب ربهم، قائلين: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك، وأبصرنا ما حدثَتْنَأ به الرسلُ، وسمعنا منك تصديق رسلك، فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً من الإيمان والطاعة، إِنَّا مُوقِنُونَ بالبعث والحساب الآن. وجواب «لو» : محذوف، أي: لرأيت أمراً فظيعاً.
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي: ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة، أي: لو شئنا لأعطيناء في الدنيا، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي، لو كان منهم اختيارُ ذلك، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم: قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها، لكنها لم تهتد، وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر، وهو فاسد. قال تعالى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، أي: ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفي تخصيص الجن والإنس: إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا، ولا يصح ذلك، إلا أن يكونوا من الجن.
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا، وهو الإيمان به. إِنَّا نَسِيناكُمْ: تركناكم في العذاب، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي: العذاب الدائم الذي لا انقطاع له بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي.(4/391)
ثم ذكر ضدهم بقوله: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا القرأن الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً سجدوا لله تواضعاً وخشوعاً، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: نزَّهوا الله عما لا يليق به، وأثنوا عليه حامدين له، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنِّه، آمين.
الإشارة: أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب، يتوفاهم ملك الموت، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام كما قيل في الأخفياء من الأولياء الذين اختص الله تعالى بعلمهم- أنه يتولى قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها، مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم، بالرجوع إليه من الفناء، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد في الخبر: «من واظب على قراءة آيَةَ الكُرْسيّ، دبُر كُلِّ صلاة، كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ روحه ذو الجلال الإكرام» . يعني: من تدبر معناها.
والمراد بذلك خطفتها بالتجلي، واستغراقها في الشهود، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط، مع وجود الواسطة لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ، فخاطبهم على قدر أفهامهم، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم. وكلَّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. هـ. وقال في قوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ.. الآية: مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة، فاعترفوا، حينَ لا عُذْرَ، واعترفوا، حينَ لا اعتراف. هـ.
قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ... قال القشيري: لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم، وأردنا أن يكون للنار قُطان، كما يكون للجنة سُكان، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ. فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا، إذ لو لم يقع، ولم يحصل لم يكن عِلْماً. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أُريد ذلك. ويقال: من يتسلَّطْ عليه من يحبه لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك، فما تفعل فيما مضى، كيف تبدله؟ وما تصنع في مشيئتي، وبأي وسع ترُدُّها؟ وأنشدوا:
شكا إليك ما وَجَدْ ... من خَانَهُ فيك الجَلَدْ
حيرانُ، لو شئتَ، اهتدى ... ظمآنُ، لو شئتَ، وَرَدْ. «1» . هـ.
__________
(1) البيتان لأبى هبة الله بن المنجم، كما فى يتيمة الدهر (3/ 389) .(4/392)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ.... الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الخضوع، وما أكرمهم به، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 16 الى 17]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
يقول الحق جلّ جلاله: تَتَجافى أي: ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل: وَهَب لقوم هِبَةً، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته، ثم مدحهم عليه فقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، يَدْعُونَ أي: داعين رَبَّهُمْ خَوْفاً، أي: لأجل خوفهم من سخطه، وَطَمَعاً في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: «هو قيامُ العبد من الليل» «1» . وعن ابن عطاء: أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم «2» . وقال ابن عمر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «من عَقَب- أي: أحيا- ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين، وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد: الدعاء ما بين المغرب والعشاء» «3» . هـ.
وقيل: هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة الله، يعني: أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي: لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تَقَرُّ بِهِ العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب: «أَخْفَى» على المضارع. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وعن الحسن: أخفى القوم أعمالهم في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أنَّ المراد الصلاةُ في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 348) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 412) ، والطبري فى تفسيره (21/ 103) ، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(2) أخرجه الطبري (21/ 100) .
(3) عزاه فى كنز العمال (ح 19450) لابن مردويه، عن ابن عمر.(4/393)
وفي حديث أسماء، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين، يوم القيامة، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع، اليوم، مَنْ أَوْلَى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل. ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون، وهم قليل، يسرحون جميعاً إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» «1» . وفي البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله- عزّ وجل-: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ، قال أبو هريرة: واقرأوا، إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «2» .
وقال في «البدور السافرة» : أخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مَائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لو سعتهم» . «3» . هـ. وقال ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد، الضبي، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أول درجة منها دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها، من فضة، والدرجة الثانية:
دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة: دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسَبْع وتسعون درجة، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى» «4» . هـ.
وقيل: المراد بقرة الأعين: النظر إلى وجه الله العظيم. قلت: قرة عين كل واحد: ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام. قال أبو سليمان: شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفع الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.
الإشارة: قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أخفي لهم من نعيم القصور، والحور، والولدان، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية، ثم عن مضاجع الفَرْقِ، إلى حال
__________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (3/ 169 ح 3244) .
(2) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب ما جاء فى صفة الجنة ح 3244) ، ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها، 4/ 2174، ح 2824) . [.....]
(3) أخرجه الترمذي فى (صفة الجنة، باب فى صفة درجات الجنة، 4/ 583، ح 2532) .
(4) أخرج الطبري نحوه فى التفسير (21/ 105) عن أبى اليمان الهذلي، والجزء الأول من الحديث أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله ح 2790) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه بلفظ: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهد في سبيلِ الله، ما بينَ الدَرجتين كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْض ... » الحديث.(4/394)
الجمع، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهولاء على صلاتهم دائمون، وفي حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة، والعكوف في الحضرة، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية، سرية خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود وعبرة واستبصار، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد ورد: (تفكر ساعة أفضل من عبادة سَبْعينَ سَنَة) . هذا تفكر الاعتبار، وأما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة، أفضل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ ... قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّه
أي: سنة، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكراً، وقياماً بآداب العبودية، وهي في حقهم كمال، كما قال الجنيد: عبادة العارفين تاج على الرؤوس. هـ. وفى مثل هولاء ورد الخبر: «إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم، إذ سطع عليهم نور من فَوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم في الهواء، يزورون ذا الجلال الإكرام، فينادون هؤلاء: يا أخواننا، ما أنصفتمونا، كنا نُصلي كما تُصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء مِنْ قِبَل الله تعالى: كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكتون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم.
فذلك قوله تعالى: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أعين جزاء بما كانوا يعملون» . هـ.
قال القشيري: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، في الظاهر، عن الفراش، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد، وفي الباطن: بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قَدرِ النفس، وتوهم المقام لأن ذلك بجملته، حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمٍّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم، ولا يلاحظون أحوالهم، ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجُرون معارفهم. والليل زمان الأحباب، قال الله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «1» يعني: عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم، والنهارُ زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «2» .. انظر بقية كلامه.
__________
(1) من الآية (73) من سورة القصص.
(2) من الآية (11) من سورة النبأ.(4/395)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
ثم بيّن أن من كان فى نور الطاعة والإحسان، ليس كمن كان فى ظلمة الكفر والعصيان، فقال.
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 20]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً بالله ورسله كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجاً عن الإيمان، لا يَسْتَوُونَ أبداً عند الله تعالى. وأفرد، أولاً مراعاة للفظ «من» ، وجمع ثانياً مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي: المسكن الحقيقي، وأما الدنيا، فإنها منزل انتقال وارتحال، لا محالة، وقيل: المأوى: جنة من الجنان. قال ابن عطية: سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها. هـ. أي: في الدنيا لأنها في حواصل طير خضر، كما ورد في الشهداء، وأما الصدِّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها، تسرح حيث شاءت. نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: عطاء معجلاً بأعمالهم. والنُزُل:
ما يقدم للنازل، ثم صار عاماً.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: هي ملجأهم ومنزلُهم، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها، فلا خروج منها، ولا موت، وَقِيلَ لهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، هذا دليل على أن المراد بالفاسق: الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزي: فإن قيل: لِمَ وصف، هنا، العذاب، وأعاد عليه الضمير، ووصف، في سبأ، النار وأعاد عليها الضمير، فقال: عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ «1» ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لَمَّا تكرر ذكره في قوله:
لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ..، الثاني: أنه تقدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر، فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه، وهو النار، فوصف العذاب، ولم يصف النار، الثالث- وهو الأقوى: أنه امتنع في السجدة وصف النار، فوصف
__________
(1) من الآية 42 من سورة سبأ.(4/396)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
العذاب، وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. هـ.
الإشارة: أفمن كان مصدقاً بطريق الخصوص، داخلاً فيها، شارباً من خمرتها، كمن كان فاسقاً خارجاً عنها، مشتغلاً بنفسه، غريقاً في هواه، لا يستوون أبداً. أما الذين آمنوا بها، وصدقوا أهلها، ودخلوا في تربيتهم، فلهم جنات المعارف، هي مأواهم ومعشش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم، فمأواهم نار القطيعة، وعذاب الحرص، وغم الحجاب، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم: ذوقوا وبال الإنكار، وحرمان الخصوصية، التي كنتم بها تكذبون.
قال القشيري: هذا ما يلقون يوم القيامة، ثم ذكر ما يُعجل لهم في الدنيا، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 21 الى 22]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي: عذاب الدنيا من القتل، والأسر في بدر، أو ما مُحنوا به من السَّنَةِ، سَبْعَ سنين. دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي: قبل عذاب الآخرة، الذي هو أكبر، وهو الخلود في النار. وعن الداراني: العذاب الأدنى: الخذلان، والعذاب الأكبر: الخلود في النيران. وقيل: الأدنى: عذاب القبر، والأكبر: النار. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يتوبون عن الكفر.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ أي: وُعظ بِآياتِ رَبِّهِ القرآن، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها اي: تولى عنها، ولم يتدبر في معناها. و «ثم» للاستبعاد فإن الإعراض عن مثل هذه في ظهورها، وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى، بعد التذكر بها، مُسْتَبْعَدٌ في العقل، كما تقول لصاحبك: وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهِزْها- استبعاداً لتركه الانتهاز. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ، ولم يقل:
«منه» ، تسجيلاً عليه بإعراضه بالإجرام، ولأنه إذا جعله أظلم من كل ظالم، ثم توعد المجرمين، عامة، بالانتقام، دلّ على إصابة الأظلم أوفر نصيب من الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة: ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب، من العذاب الأدنى، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع، قبل العذاب الأكبر، وهو غم الحجاب وسوء الحساب. قال القشيري: قومٌ: الأدنى لهم: مِحَنُ الدُنيا، والأكبر: عقوبة العُقبى.(4/397)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
وقومٌ: الأدنى لهم: فترةٌ تُداخلهم في عبادتهم، والأكبر: قسوةٌ تُصيبهم في قلوبهم. وقومٌ: الأدنى لهم: وقفة مع سلوكهم تمسهم، والأكبرُ: حَجْبَةٌ عن مشاهدتهم بسرهم- قلت: الأول في حق العوام، والثاني: في حق الخواص، وهم العباد والزهاد. والثالث: في حق أهل التربية من الواصلين- ثم قال: ويقال: الأدنى: الخذلان في الزلة، والأكبر: الهجران في الوصلة. ويقال: الأدنى: تكدّرُ مَشَارِبِهم، بعد صفوها، والأكبر: تَطَاوُلُ أيامِ الحَجْب، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا:
تَطَاوَلَ بُعْدُنَا، يا قومُ، حتى ... لقد نَسَجَتْ عليه العنكبوتُ «1»
هـ. ببعض المعنى.
أذقناهم ذلك لعلهم يرجعون إلى الله، في الدنيا بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يُذكِّرهم بالله من الداعين إلى الله، ثم أعرضوا عنه، فلا أحد أظلم منهم، ولا أعظم جُرماً. إنا من المجرمين منتقمون.
ولمّا قرر الأصول الثلاثة الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقائِهِ من لقاء موسى الكتاب، أو: من لقائك موسى ليلة المعراج، أو: يوم القيامة، أو: من لقاء موسى ربَّه في الآخرة، كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وجعلنا الكتاب المنزَّل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه، وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس، ويدعون إلى الله وإلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، بِأَمْرِنا إياهم بذلك، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم، لَمَّا صَبَرُوا على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو: على طاعة الله وترك معصيته. وقرأ الأَخَوَان: بكسر اللام، أي: لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها.
وفيه دليل على أنَّ الصبر ثمرته إمامة الناس والتقدم في الخير. وَكانُوا بِآياتِنا التوراة يُوقِنُونَ
__________
(1) فى القشيري:
تطاول نأينا يا نور حتى ... كأن نسجت عليه العنكبوت(4/398)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم لإمْعانِهم النظر فيها، أو: هِبَةٌ من الله تعالى. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: بين الأنبياء وأممهم، أو: بين المؤمنين والمشركين، فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين، فيظه المُحِقُّ من المبطل.
الإشارة: أئمة الهدى على قسمين: أئمة يهدون إلى شرائع الدين، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان، وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون: من عامة أهل اليمين، والآخرون: من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس، حتى وردوا حضرة القُدُّوس. قال القشيري، في شأن القسم الثاني: لمّا صبروا على طلبنا سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم، وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم، فهم للخلق هُداةً، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم. هـ.
وفي الإحياء: للإيمان ركنان: أحدهما: اليقين، والآخر: الصبر. والمراد باليقين: المعارف القطيعة، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين، والمراد بالصبر، العمل بمقتضى اليقين إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. هـ. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ..، قال القشيري: يحكم بينهم، فيُبين المقبول من المردود، والمهجور من الموصول، والرّضي من الغَويّ، والعدو من الوليّ. فكم من بَهجةٍ دامت هناك! وكم من مهجةٍ ذابت كذلك. هـ.
ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم، فقال:
[سورة السجده (32) : آية 26]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
قلت: فاعل «يهد» : هو الله، بدليل قراءة زيد عن يعقوب «نهد» بالنون، ولا يجوز أن يكون الفاعل «كم» لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به، فينظروا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ كعاد، وثمود، وقوم لوط، يَمْشُونَ يعني: قريشاً، فِي مَساكِنِهِمْ حين(4/399)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يمرون على ديارهم، ومنازُلُهمْ، خاوية، في متاجرهم إلى الشام، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على قدرتنا، وقهريتنا أَفَلا يَسْمَعُونَ المواعظ، فيتعظون بها؟.
الإشارة: قال القشيري: لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حَبْرَةٍ، فصاروا في عَبرةً، كانوا في سرورِ، فآلوا إلى ثبور، فجميع ديارهم وتراثِهم صارت لأغيارهم، وصُنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا في ظِلالهم، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وفي مثلهم قيل:
نِعَمٌ، كانت على قو ... مٍ زمانا، ثم فاتت،
هكذا النعمةُ والإح ... سانُ قد كانت وكانت. هـ. «1»
ثم ذكّرهم بآثار قدرته، فقال:
[سورة السجده (32) : الآيات 27 الى 30]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ: المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي: التي جُرِزَ نباتها، أي: قُطِعَ، ولم يَبْقَ منه شيء إما لعدم الماء، أو لأنه رُعِيَ. يقال: جرزت الجراد الزرع إذا استأصلته، وفي القاموس: وأرض جرز: لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر. ثم قال: وأرض جارزة: يابسة غليظة، وفيه أربع لغات: جُرْز وجُرُز وجَرَز وجُرَز. ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز، بدليل قوله: فَنُخْرِجُ بِهِ أي: بالماء، زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي: الزرع، أَنْعامُهُمْ كالتبن والورق، وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والتمر، والمراد بالزرع:
كل ما يُزرع ويستنبت، أَفَلا يُبْصِرُونَ، فيستدلون به على قدرته على إحياء الموتى؟.
__________
(1) ورد البيتان:
نِعَمٌ، كانت على قو ... م زمانا، ثم بانت،
هكذا النعمة والإنسان ... مذ كان وكانت.
وانظر: محاضرات الأدباء ص 259.(4/400)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي: النصر، أو الفصل بالحكومة من قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا «1» . وكان المسلمون يقولون: إن الله سيفتح لنا على المشركين، أو يفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون، قالوا: متى هذا الفتح؟ أي: في أي وقت يكون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه كائن؟.
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي: يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم. أو: يوم نصرهم عليهم. أو: يوم بدر، أو يوم فتح مكة، لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ لفوات محله، الذي هو الإيمان بالغيب، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يُمهلون، وهذا الكلام لم ينطبق جواباً عن سؤالهم ظاهراً، ولكن لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم، على وجه التكذيب والاستهزاء، أُجيبوا على حسب ما عُرف من غرضهم من سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تُمهلوا. ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح، فهو يريد المقتولين منهم فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال الفعل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند دَرَك الغرق. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ النصر وهلاكهم، إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليكم وهلاككم.
قال عليه الصلاة والسلام: «من قرأ الم تَنْزِيلُ في بيته، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام» «2» .
الإشارة: أوَ لم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح، تأكل منه، من لذة حلاوته، جوارحُهم وقلوبُهم، أفلا يبصرون؟. ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء: متى هذا الفتح، إن كنتم صادقين في أنه موجود؟ قال: يوم الفتح الكبير- وهو يَوْمَ يَرْفَعُ اللهُ أولياءه في أعلى عليين- لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية، في دار الدنيا، إيمانُهم في الالتحاق بهم، ولا هم يمهلون حتى يعملوا مثل عملهم، فأعرض عنهم اليوم، واشتغل بالله، وانتظر هذا اليوم، إنهم منتظرون لذلك.
قال القشيري: «أولم يروا..» الآية. الإشارة فيه: نَسْقي حَدَائِقَ [وصلهم] «3» ، بعد جفاف عُودِها، فيعود عُودُها مورِقاً بعد ذبوله، حاكياً حالُه حالَ حصوله، (ويقولون متى هذا الفتح..) استبعدوا يومَ التلاق، وجحدوه، فأخبرهم
__________
(1) من الآية 89 من سورة الأعراف.
(2) قال ابن حجر فى الكافي الشاف (ح 196) : «لم أجده» . وانظر: الفتح السماوي (2/ 926) .
(3) فى الأصول المخطوطة (وصفهم) والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.(4/401)
أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.. أي: باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا، وانتظر زوائد وَصْلِنا وعوائدَ لطفنا، إنهم منتظرون هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا. وعن قريب وجد كلّ منتظره محتضرا هـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد، عين الوصول إلى التحقيق، وعلى آله المبينين سواء الطريق، وسلم.(4/402)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
سورة الأحزاب
مدنية. وهى ثلاث وسبعون- بتقديم السين- آية. وعن أبىّ أنه قال: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قالوا: ثلاثا وسبعين، قال: فوالذى يحلف به أبىّ إن كانت لتعدل سورة البقرة، أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة، إذا زنيا، فارجموهما أَلْبَتَّةَ نكالاً من الله، والله عزيز حكيم «1» . أراد أبىّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. انظر النسفي. ومناسبتها لما قبلها: أن الفتح إنما يكون مع التقوى، فأمره بها، بعد أمره بانتظار نصره، كأنه قيل: يا أيها النبي اتق الله تر الفتح طوع يدك.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ أي: المُشرِّف حالاً، المفخم قدراً، العلي رتبة لأن النبوة مشتقة من النَّبْوَةَ، وهو الارتفاع. أو: يا أيها المخبرُ عنا، المأمون على وحينا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل: يا محمد، كما قال: «يا آدم، يا موسى» تشريفاً وتنويهاً بفضله، وتصريحُه باسمه في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «2» ، ونحوه، ليعلم الناس بأنه رسول الله. اتَّقِ اللَّهَ أي: اثبت على تقوى الله، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ لا تساعدهم على شيء، واحترس منهم فإنهم أعداء لله وللمؤمنين.
رُوي أن أبا سُفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السُّلمي، نزلوا المدينة على ابن أُبيّ، رأس المنافقين، بعد أُحد، وقد أعطاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن أبي سَرْح، وطُعْمَة بن
__________
(1) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 415) وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح 4352) ، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 345) لعبد الرزاق فى المصنف، والطيالسي، وسعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند، وابن منيع، والنسائي، وابن المنذر، وابن الأنبارى فى المصاحف، والدارقطني فى الأفراد، وابن مردويه، عن زر، عن أبىّ.
(2) كما جاء فى الآية 29 من سورة الفتح.(4/403)
أبيرق، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات، والعزى، ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لِمن عَبَدَها، وندعك وَرَبَّك. فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر: ائذن لنا، يا رسول الله، في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني قد أعطيتهم الأمان» . فقال عمر: اخرُجوا في لعنة الله وغضبه، فخرجوا من المدينة، فنزلت «1» .
أي: اتق الله في نقض العهد، ولا تُطع الكافرين من أهل مكة، كأَبي سفيان وأصحابه، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخبث أعمالهم، حَكِيماً بتأخير الأمر بقتالهم.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في الثبات على التقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين. أو: كل ما يُوحى إليك من ربك، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي: لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم. وقيل: إنما جمع لأن المراد بقوله: «اتبع» : هو وأصحابه، وقرأ بالغيب: أبو عمرو، أي: بما يعمل الكافرون والمنافقون، من كيدهم لكم ومكرهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَسْنِدْ أمرك إليه، وكِلْهُ إلى تدبيره. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظاً موكولاً إليه كل أمر. وقال الزجاج: لفظه، وإن كان لفظ الخبر فالمعنى: اكتفِ بالله وكيلاً.
الإشارة: أُمر بتقوى الله، وبالغيبة عما يشغل عن الله، وبالتوكل على الله، فالتقوى أساس الطريق، والغيبة عن الشاغل: سبب الوصول إلى عين التحقيق، والتوكل زاد رفيق. قال القشيري بعد كلام: يا أيها المُرقَّى إلى أعلى المراتب، المُتَلقَّى بأسنى القُرَب والمناقب اتقِ الله أن تلاحظ غَيْراً معنا، أو تُساكِن شيئاً دوننا، أو تُثبت شيئاً سوانا، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ إشفاقاً منك عليهم، وطمعاً في إيمانهم، بموافقتهم في شيء مما أرادوه منك. والتقوى رقيب على الأولياء، تمنعهم، في أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم، أن ينظروا إلى غيره، أو يُثْبِتُوا معه سواه، إلا منصوباً بقدرته، مصرَّفاً بمشيئته، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ... لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج- أي: تقم- في أوطان الكسل، ولا تجنح إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ. «وتوكل» انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال: التوكل: تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال: التوكل: استواءُ القلب في العدم والوجود. هـ.
__________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 364) ، والبغوي فى تفسيره (6/ 315) ، بدون إسناد.(4/404)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
والتقوى محلها القلب، ولا يحصل منتهاها إلا بانفراد القلب إلى مولاه، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
يقول الحق جلّ جلاله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، أو:
يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر، أو: يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر، بل ما للعبد إلا قلب واحد، إن أقبل به على الله أدبر عمن سواه، وإن أقبل به على الدنيا أدبر عن الله. قيل: الآية مثل للمنافقين، أي: إنه لا يجتمع الكفر والإيمان، وقيل: لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد. وقال ابن عطية: يظهر من الآية، بجملتها، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها فى ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر فيها، فمنها: أنَّ العرب كانت تقول: الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك.. الخ كلامه.
قال النسفي: والمعنى: أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو: إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فَضْلَةٌ غير مُحْتاَج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظانّاً، موقناً شاكّاً، في حالة واحدة. هـ.
وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها: أُمًّا، فردّ ذلك بقوله: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي: ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة لتضاد أحكامهما لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعي ابن، فردّ عليهم بقوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي: لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلا [و] «1» غير أصيل.
__________
(1) زيادة، ليست فى الأصول. [.....](4/405)
ونزل هذا في «زيد بن حارثة» ، وهو رجل من كلب، سُبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام، لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، فطلبه أبوه وعمه، وجاءا بفدائه، فخُيَّر، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقه وتبنّاه. وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب وكانت تحت زيد- على ما يأتي- قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، قلب معكم، وقلب مع أصحابه «1» . وقيل: كان «أبو مَعْمَر» أحفظ العرب، فقيل له: ذو القلبين «2» ، فأكذب اللهُ قولَهم. والتنكير في رجل، وإدخال «مِن» الاستغراقية على (قلبين) ، وذكر الجوف للتأكيد. و (اللائي) : جمع «التي» . وفيها أربع قراءات: «اللاء» بالهمزة مع المد والقصر، وبالتسهيل، وبالياء، بدلاً من الهمز. وأصل تُظاهِرُونَ: تتظاهرون، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف منْ: ظَاَهَر. ومعنى الظهار: أن يقول للزوجة: أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر، وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنُّب لأنه كان طلاقاً في الجاهلية. وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر، كما يأتي في المجادلة. والأدعياء: جمع دعي، فقيل: بمعنى مفعول، وهو الذي يُدعى ولداً، وجمعه على أَفْعِلاَء: شاذ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء. ولا يكون فى ذلك فى نحو رَمِيَّ وسَمي، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل، فَجُمِعَ جَمْعَهُ.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ إذ إن قولكم للزوجة: أُمًّا، والدعيّ: هو ابن، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ما له حقيقة عينية، مطابقة له ظاهراً وباطناً.
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق.
ثم بيّن ذلك الحَقَّ، وهدى إلى سبيله، فقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انسبوهم إليهم. هُوَ، أي: الدعاء، أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ. بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في العدل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمّه إليه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده، من ميراثه. وكان ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي: فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم،
__________
(1) هذا معنى ما أخرجه الإمام أحمد (1/ 268) والترمذى، وحسنه، فى (التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، 5/ 324- 325، ح 3199) والطبرى (21/ 118) والحاكم (2/ 415) عن ابن عباس رضي الله عنه. وصححه الحاكم، وفيه «قابوس بن أبى ظبيان» قال الذهبى: قابوس، ضعيف.
(2) ذكره الواحدى فى أسباب النزول/ 365. بدون إسناد.(4/406)
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي: فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي، ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك، مخطئين جاهلين، قبل ورود النهي، أو بعده، نسياناً. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي: ولكن الإثم فيما تعمِّدتموه بعد النهي. أو: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بنيّ، على سبيل الخطأ، أو: الشفقة ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لا يؤاخذكم بالخطأ، ويقبل التوبة من المتعمّد.
الإشارة: العبد إنما له قلب واحد، إذا أقبل به على مولاه أدبر عن ما سواه، وملأه اللهُ تعالى بأنواع المعارف والأسرار، وأشرقت عليه الأنوار، ودخل حضرة الحليم الغفار، وإذا أقبل به على الدنيا أدبر عن الله، وحُشي بالأغيار والأكدار، وأظلمت عليه الأسرار، وطبع فيه صور الكائنات، فّحُجِبَ عن المُكَوِّنِ، وكان مأوى للخواطر والوساوس، فلم يَسْوَ عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ. قال القشيري: القلب إذا اشتغل بشيء اشتغل عما سواه، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَمِ منفصلٌ عَمن له القِدَمُ، والمتصل بقلبه بِمَنْ نَعْتُهُ القِدَم مشتغلٌ عمِّا من العدم، والليل والنهار لا يجتمعان، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان. هـ.
وقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ... الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا في المحبة والخدمة. وقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ..:
تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ: يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وقوله: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ..:
إخوان الدين أّوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري: وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا:
وَقَالُوا: قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ ... فَقُلْتُ: وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ
مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة ... وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التّناسب «1»
__________
(1) فى القشيري: (وإن باعدتهم فى الأصول المناسب) والبيتان لأبى تمام، يرثى غالب بن السعدي. انظر ديوانه (4/ 41) ونهاية الأرب (5/ 202) .(4/407)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
ثم ذكر أبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمومة أزواجه لجميع أمته، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
يقول الحق جلّ جلاله: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ أي: أحق بهم في كل شيء مَنْ أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فإنه لا يأمرهم، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء: يعني: (إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعةُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى) «1» . أو: هو أولى بهم، أي: أرأف، وأعطف عليهم، وأنفع لهم، كقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» وفى الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: «ما من مؤمن إلا وأنَا أوْلَى الناس به فى الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فأيُّمَا مُؤْمِن هَلَكَ، وتركَ مالاً فلورَثَته ما كانوا، ومَن تَرَكَ دَيْناً أو ضَيَاعاً فليَأتني، فإني أنا مَوْلاه» . «3» .
وفي قراءة ابن مسعود «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم» . وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته، ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم، في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك- كالإرث وغيره- كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدَّ التحريم إلى بناتهن.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي: ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في المواريث. وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرةِ، لا بالقرابة، ثم نسخ، وجعل التوارث بالقرابة. وذلك فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في حكم الله وقضائه، أو: في اللوح المحفوظ، أو: فيما فرض الله، فهم أولى بالميراث، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بحق الولاية في الدين، وَمن الْمُهاجِرِينَ بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة: كان المسلمون
__________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 318) .
(2) الآية 128 من سورة التوبة.
(3) أخرجه البخاري فى (الاستقراض، باب الصلاة على ترك دينا، ح 2399) ، ومسلم فى (الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته، 3/ 1238، ح 1619) ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(4/408)
يتوارثون بالهجرة، ولا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً، فنزلت. وقال الكلبي: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس، فكان يواخى بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، دون عصبته، حتى نزلت: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1» في حكمه، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ. ويجوز أن يكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: بياناً لأولي الأرحام، أي: وأولو الأرحام، من هؤلاء، بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً، وهو أن تُوصوا لمَن أحببتم من هؤلاء بشيء، فيكون له ذلك بالوصية، لا بالميراث فالاستثناء منقطع. وعَدّى (تفعلوا) بإلى لأنه في معنى تُسْنِدُوا، والمراد بالأولياء:
المؤمنون، والمهاجرون: المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. كانَ ذلِكَ أي: التوارث بالأرحام فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي: اللوح المحفوظ، أو: القرآن. وقيل: في التوراة.
الإشارة: متابعته- عليه الصلاة والسلام، والاقتباس من أنواره، والاهتداء بهديه، وإيثار محبته، وأمره على غيره لا ينقطع عن المريد أبداً، بدايةً ونهايةً إذ هو الواسطة العظمى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم. فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى الله عليه وسلم، وعلى يده، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك في تربية المريدين، فهو جزء من الذي جاء به. وهم في ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهي معجزة له صلى الله عليه وسلم، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه: اعلم أن كل وَليّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بِوَاسِطَةِ رُوحَانِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم مَن يعرف ذلك، ومنهم مَن لا يعرفه، ويقول: قال لي الله، وليس إلا تلك الروحانية. هـ. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، حيث قال: الوليّ إنما يكاشف بالمثال، كما يرى مثلاً البدر في الماء بواسطته، وكذلك الحقائق الغيبية، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة فى بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عياناً لا مثالاً. والوليّ لقربه منه ومناسبته له لهديه بهديه، ومتابعته له يُكاشف بمثال ذلك فيه، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدي «عبد الرحمن العارف» .
قال القشيري: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الإشارة: تقديم سُنّته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار مَن تتوسل به نسباً وسبباً على أعِزَّتكَ ومَن والاك، وَأُولُوا الْأَرْحامِ.. الآية. ليكن
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 468) .(4/409)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك للأقارب وصلةُ الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار، وليكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد، وإن كانت ... أشْبَاحُناَ بِشَآمٍ أوْ خُرَاسَانِ «1» . هـ.
ولمّا كان كل نبى أبا لأمته، أخذ عليهم العهد فى إرشادهم، ونصحهم، كما ينصح الأب ابنه، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ أَخَذْنا حين أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الدين القيم، وإرشاد العباد ونصحهم. قيل: أخذه عليهم في عالم الذَّرِّ. قال أُبيّ بن كعب: لما أخرج الله الذرية، كانت الأنبياء فيهم مثل السُرُج، عليهم النور، فخُصُّوا بميثاقٍ وأخذ الرسالة والنبوة. وقال القشيري: أخذ الميثاق الأوَل وقت استخراج الذرية من صُلب آدم، عوندَ بعثة كل رسول، ونُبُوَّة كل نبيٍّ، أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، ومنَ اختصه بإسماعه كَلاَمَهُ بلا واسطة ملك- كنبينا ليلة المعراج، وموسى- عليهما السلام- فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة، وكان لنبينا- عليه الصلاة السلام- زيادة حال بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. هـ.
قال في الحاشية: والذي يظهر: أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي، وذلك في الغيب، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه النور الأول قبل آدم، ثم انتقل إلى ظهره، وحينئذ، فأخذ الميثاق هنا غيبي، ولذلك قدّمه. وفي قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ... «2» في عالم الظهور، فلذلك قدّم نوحاً، وثنَّى بنبينا لأن نوحاً أول أُولي العزم، ونبينا خاتمهم. والله أعلم. هـ. والحاصل: أن أخذ الميثاق كان مرتين في عالم الغيب وفي عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني؟ قولان.
__________
(1) البيت لأبى تمام، يمدح سليمان بن وهب. انظر ديوان أبى تمام (3/ 335) ، وتاريخ بغداد (10/ 97) وفيهما:
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد، وغدت ... إلخ.
(2) الآية 13 من سورة الشورى.(4/410)
وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، قال النسفي: وقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح ومَن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلمَّا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قُدّم عليهم، ولولا ذلك لقدّم مَن قدمه زمانه. هـ. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وثيقاً. وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه.
وإنما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ اللهُ الصَّادِقِينَ أي: الأنبياء عَنْ صِدْقِهِمْ عما قالوه لقومهم، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار، كقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «1» ، أو: ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم: هل كان بإخلاص أم لا؟ لأن مَن قال للصادق: صدقت كان صادقاً في قوله. أو: ليسأل الأنبياء: ما الذي أجابتهم أممهم؟ وهو كقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ «2» ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ بالرسل عَذاباً أَلِيماً، وهو عطف على «أخذنا» لأن المعنى: أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليما. أو: على ما دلّ عليه: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ، كأنه قال: فأثاب المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليماً.
الإشارة: كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل أخذ الميثاق على العلماء والأولياء. أما العلماء فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر، وألا تأخذهم في الله لومة لأئم، وأما أخذه على الأولياء فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله، وتربية مَن تعلّق بهم، وسياسة الخلق، ودلالتهم على الحق، فمَن قصَّر من الفريقين استحق العتاب.
قال القشيري: فلكلِّ من الأولياء والأكابر حال، على ما يؤهلهم له قال صلى الله عليه وسلم: «لقد كان في الأمم مُحَدِّثون، وإن يكُن في أمتي فَعُمر» ، وغير عُمَر مشارك لعُمر في خواص كثيرة، وذلك سر بينهم وبين ربِّهم.
ثم قال: قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ سؤال تشريف لا تعنيف، وإيجاب لا عتاب.
والصدقُ: ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ، ولا في اعتقادك ريب، ولا في عملك عَيْبٌ، ويقال: من أمارات الصدق في المعاملة: وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة، وفي الأحوال: تصفيتُها [من غير مداخلة الحجاب] «3» ، وفي القول:
سلامته من المعاريض، [فيما بينك وبين نفسك] «4» . وفيما بينك وبين الناس: تباعدٌ من التلبيس والتدليس، وفيما
__________
(1) الآية 6 من سورة الأعراف.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر، ح 3689) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر 4/ 8164، ح 2398) .
(3) فى القشيري [من غير مداخلة إعجاب] .
(4) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول، وأثبته من القشيري، وهو ضرورى يقتضيه السياق.(4/411)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
بينك وبين الله: إدامة التبري من الحول والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام. وفى التوكل:
عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر [بالوجد] «1» ، وفي الأمر بالمعروف: التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال:
الصدق: أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد. ويقال: الصدق: ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
ثم شرع فى غزوة الأحزاب، التي هى المقصودة من السورة، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أي: ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ. إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ أي: الأحزاب، وهم: قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير، وهم السبب فى إتيانهم، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً أي: الصّبا، قال عليه الصلاة والسلام: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور» «2» . قيل: كانت هذه الريح معجزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، ولم يكن بينهم وبينها إلا عُرض الخندق، وكانوا فى عافية منها. وَلا شعور لهم بها.
وأرسلنا عليهم جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة، وكانوا ألفاً، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور.
وكان سبب غزوة الأحزاب: أن نفراً من اليهود، منهم ابن أَبي الحقيق، وحُيي بن أخطب، في نفر من بني النضير، لَمَّا أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من بلدهم، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا إلى غطفان، وأشجع، وفزارة، وقبائلَ مِنَ العرب، يُحرضونهم على ذلك، على أن يعطوهم نصف تمر خيبر كل
__________
(1) فى القشيري [بالوجود] . [.....]
(2) سبق تخريج الحديث عن تفسير الآية 46 من سورة الروم. فراجعه إن شئت، أكرمك الله.(4/412)
سنة. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حِصن، والحارث بن عوف في مُرة، وسعد بن رخيلة «1» في أشجع، وعامر بن الطفيل في هوازن.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ضرب الخندق على المدينة، برأى سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حُر. وقال: يا رسول الله: إنا كنّا بفارس إذا حُوصرنا: خَنْدَقْناَ علينا، فحفر الخندق، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي، إلى جانب أُحد. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «2» .
واشتد الخوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون، بِضعاً وعشرين ليلة، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمَن معهما، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقال سعد بن معاذ: أشيء أمرك الله به، لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تحبه فنصنعه، أم شيء تصنعه لنا؟
قال: «لا، بل شيء أصنعه لكم، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم» . فقال سعد: يا رسول الله لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة، إلا قِرىً، أو شراءً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال- عليه الصلاة والسلام: «فأنت وذاك» ، فمحا سعدُ ما في الكتاب، وقال: ليجهدوا علينا» .
ثم إن الله تعالى بَعَثَ عليهم ريحاً باردة، في ليلة شاتية، فأحصرتهم، وأحثت الترابَ في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأكفأت القدور، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض.
وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء يقول: يَا بَني فلان، هلمّوا، فإذا اجتمعوا إليه قال: النَّجا، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، أي: بصيراً بعملكم، من حَفر الخندق، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم، والثبات معه، فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو: بالغيب، أي: بما يعمل الكفار من البغي، والسعي في إطفاء نور الله،
__________
(1) فى تفسير البغوى [مسعود بن رخيلة] .
(2) الآطام: الحصون. جمع أطم. انظر اللسان (أطم 1/ 93) .
(3) انظر: السيرة لابن هشام (3/ 225) .(4/413)
إِذْ جاؤُكُمْ هو بدل من: (إذ جاءتكم) ، مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، من قِبَل المشرق. وهم بنو غطفان.
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قِبَل المغرب، وهم قريش. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها حَيْرَةً وشخوصاً. أو: مالت إلى عدوها لشدة الخوف، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رُعباً.
والحنجرة: رأس الغَلْصَمَة، وهي منتهى الحلقوم، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا: إذا انتفخت الرئة، من شدة الفزع والغضب، رَبَتْ، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: «نعم، قولوا:
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» «1» .
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف منهم الأقوياء، ومنهم الضعفاء، ومنهم المنافقون. فظنّ الأقوياء، المخلصون، الثُبْتُ القلوب أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه، ويمتحنهم، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال، وأما الآخرون فظنُّوا ما حكى عنهم، وهم الذين زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، دون الأقوياء رضى الله عنهم، وقرأ أبو عمرو وحمزة: الظنون بغير ألف، وهو القياس. وبالألف فيهما: نافع، والشامي، وشعبة إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكيّ، وعليّ، وحفص: بالألف في الوقف. ومثله: الرَّسُولَا «2» و (السبيلا) «3» ، زادوها في الفاصلة، كما زادوها في القافية، كقوله:
«أقِلّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ والعِتابا» «4» وهو في الإمام: بالألف.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي: اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، والثابت من المزلزل، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وحُركوا، بالخوف، تحريكاً شديداً.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص اذكروا نعمةَ الله عليكم بالتأييد والنصر، فحين تَوَجَّهْتُمْ إليّ، ودخلتم في طريق ولايتي، رفضتكم الناس، ونكرتكم، ورمتكم عن قوس واحدة، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) من الآية 66 من سورة الأحزاب.
(3) من الآية 67 من سورة الأحزاب. وانظر الحجة لأبى على الفارسي (5/ 468- 469) .
(4) صدر بيت لجرير، وعجزه: وقولى- إن أصبت- لقد أصابا. انظر: معانى القرآن للزجاج (4/ 218) .(4/414)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
من كل جانب، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف. وإذ زاغت الأبصار: مالت عن قصدها بالاهتمام بالرجوع، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين، وتظنون بالله الظنونا، فمنهم مَن يظن الامتكان بعد الامتحان، فيفرحون بالبلاء، ومنهم مَن يظن أنه عقوبة ... إلى غير ذلك، هنالك ابتلي المؤمنون المتوجهون ليظهر الصادق، في الطلب، من الكاذب فيه، فعند الامتحان يعز المرء أو يُهان، ويظهر الخَوّافون من الشجعان، وزُلزلوا زلزالاً شديداً ليتخلصوا ويتمحصوا، كما يتخلص الذهب والفضة من النحاس، ومَن عرف ما قصد هان عليه ما ترك.
قال القشيري: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.. يعني: بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... الآية: كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو- سبحانه- يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صدره!. هـ.
ثم ذكر سبحانه نتيجة الابتلاء، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 14]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: عطف تفسير إذ هو وصف المنافقين، كقول الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ، وابنِ الهُمَامِ ... ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
فابن الهمام هو القَرْمُ، والقرم- بالراء-: السيد. وقيل: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، هم الذين لا بصيرة بهم في الدين من المسلمين، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشُّبه عليهم، قالوا، عند شدة الخوف: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً.(4/415)
رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ، المنافق، حين رأى الأحزاب قال: إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز، خوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. هـ.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من المنافقين، وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه: يا أَهْلَ يَثْرِبَ، وهم أهل المدينة، لا مُقامَ لَكُمْ «1» أي: لا قرار لكم هنا، ولا مكان تقيمون فيه- وقرأ حفص: بضم الميم- اسم مكان، أو مصدر، فَارْجِعُوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاربين، أو: إلى الكفر، فيمكنكم المقام بها، أو:
لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي: بنو حارثة، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ: ذات عورة، أي: خالية غير حصينة، وهي مما يلي العدو. وأصلها:
الخلل. وقرأ ابن عباس بكسر الواو: (عَوِرَة) ، يعني: قصيرة الجدران، فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة، وعَوِرَ المكان: إذا بَدا فيه خلل يُخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عَوْرَة: تخفيفَ عَوِرة.
اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله تعالى بقوله: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، بل هي حصينة، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتل.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مدينتهم، أو: بيوتهم. من قولك: دخلت على فلان داره. مِنْ أَقْطارِها من جوانبها، أي: ولو دَخلت هذه العساكر المتحزبة- التي يفرَّون خوفاً منها- مدينتَهم، أو بيوتهم، من نواحيها كلها ناهبين سارقين، ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع، الْفِتْنَةَ أي: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، أو: القتال في العصبية، وهو أحسن لأنهم مسلمون، لَآتَوْها «2» لجاءوها وفعلوا. ومَن قرأ بالمد فمعناه: لأعطوها من أنفسهم، وَما تَلَبَّثُوا بِها بإجابتها وإعطائها، أي: ما احتبسوا عنها إِلَّا يَسِيراً، أو:
ما لبثوا بالمدينة، بعد ارتدادهم، إلا زماناً يسيراً، ثم يهلكهم الله لأن المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم ليفرُّوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رُعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو سألوهم أن يقاتلوا فتنة وعصبية لأجابوهم، وما تعلّلوا بشيء، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، والعياذ بالله.
الإشارة: وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء: لا مقام تقفون معه إذ قد قطعتم المقامات، حين تحققتم بمقام الفناء، فارجعوا إلى البقاء لتقوموا بآداب العبودية، وتنزلون في المقامات ثم ترحلون عنها، كما
__________
(1) أثبت المفسر- رحمة الله- قراءة (مقام) بفتح الميم، وهى قراءة الجمهور. وقرأ حفص (مقام) بضم الميم. انظر: الحجة للفارسى (5/ 471) .
(2) قرأ نافع وابن كثير: (لأتوها) بالقصر، وقرأ الباقون: بالمد.. انظر: الإتحاف (2/ 372) .(4/416)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
تنزل الشمس في بروجها، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضي النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضي التوبة، وتارة ما يقتضي الخوف والهيبة، أي: خوف القطيعة، وتارة ما يقتضي الرجاء والبسط، وتارة ما يقتضي الشكر، وتارة الصبر، وتارة ما يقتضي الرضا والتسليم، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل في المقامات ويرحل عنها، ولا يقيم في شيء منها. ويستأذن بعض المريدين في الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام، أو شيء من أمور البدايات، يقولون: إن بيوت تلك المقامات لم نُتقنها، بل فيها عورة وخلل، وما هي بعورة، ما يريدون إلا فراراً من ثِقَل أعباء الحضرة. ولو دُخلت بيوت قلوبهم من أقطارها، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها لأنها قريبةُ عَهْدٍ بتركها، وما تلبّثوا بها إلا زماناً يسيراً، بل يبغتهم الموت، ويندمون، قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمَن اتقى.
وقد كانوا عاهدوا الله ألّا يرجعوا إليها، كما قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 17]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي: قبل غزوة الخندق، وهو يوم أحد.
والضمير في «كانوا» : لبني حارثة، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله، وقالوا: لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ منهزمين أبداً، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا
عن الوفاء به، مُجازىً عليه، أو:
مطلوباً مقتضى حتى يوفى به. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، فإنه لا بد لكل شخص من حتفِ أنفه، أو: قتل في وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: إن حضر أجلكم له ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر، وفررتم، لن تُمتعوا في الدنيا إلا زماناً قليلاً، وهو مدة أعماركم، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي: يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً في أنفسكم من قتل أو غيره، أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي: أراد بكم إطالة عمر في عافية وسلامة. أو: مَن يمنع الله(4/417)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمة، فَحُذِفَ بعدا واختصارا، لما فى العصمة من معنى المنع، أو: من ذا الذي يعصمكم إن أراد بكم سوءاً، أو يصيبكم بسُوء، إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم، وَلا نَصِيراً يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: ولقد كان عاهدَ الله مَنْ دخل في طريق القوم، ألاَّ يولي الأدبارَ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتّر عن السير، وكان عهد الله مسئولا، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرادة، ولماذا حَرَمَ نَفْسَهُ من لذيذ المشاهدة؟ قل- لمَن رجع، ولم يقدر على مجاهدة نفسه: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم، أو القتل بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها، وتحميلها ما يَثقُل عليها، وإذا لا تمتعون إلا قليلاً، ثم ترحلون إلى الله، في غم الحجاب وسوء الحساب. قل: مَن ذا الذي يعصمكم من الله، إن أراد بكم سوءاً؟، وهو البُعد والطرد، أو: مَن يمنعكم من رحمته، إن أراد بكم رحمة؟، وهي التقريب إلى حضرته، فلا أحد يعصمكم من إبعاده، ولا أحد يمنعكم من إحسانه إذ لا وليّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين، وارحمنا برحمتك الخاصة، حتى تُقَرِّبَنَا إلى حضرتك، بفضل منك وجودك، يا أرحم الراحمين.
ثم ذكر نعوت أهل البعد، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
يقول الحق جلّ جلاله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي: يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ في الظاهر من ساكني المدينة من المسلمين: هَلُمَّ إِلَيْنا تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في «هلم» : أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال.. وهكذا. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الحرب(4/418)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
إِلَّا قَلِيلًا إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ جمع شحيح، وهو البخيل، نُصب على الحال من ضمير يَأْتُونَ أي: لا يأتون الحرب بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله، أو: في الظفر والغنيمة، أي: عند الظفر وقَسْم الغنيمة. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من قِبَلَ العدو، أو: منه صلى الله عليه وسلم، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في تلك الحالة، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ يميناً وشمالاً كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولِواذاً بك.
فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ أي: زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال: خطيب سِلق: فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق: مبالغ في الكلام. يعني: بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون: أعطنا، أعطنا فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي: خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، وَكانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيناً.
الإشارة: هذه صفة منافقي الصوفية، يدخلون معهم على تذبذب، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم، أو: أرادوا الخروج عن دنياهم عَوَّقُوهُمْ عن ذلك، وثبطوهم، وكذلك إذا توجهوا في سفر لشُقة بعيدة عوقوهم ليستتروا بهم، وقالوا لأخوانهم في الطريق: هلم إلينا، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً. أشحةً بأنفسهم عليكم، فإذا جاء الخوف، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل بأن نزلت بالفقراء محنة، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك، تدور أعينهم، نظر المغشي عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف، وجاء النصر والعز سلقوكم بألسنة حداد، وقالوا: إنا كنا معكم، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم تمم وصفهم، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 20]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)(4/419)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
يقول الحق جلّ جلاله: يَحْسَبُونَ أي: هؤلاء المنافقون الْأَحْزابَ، يعني: قريشاً وغطفان، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اجتمعوا، أنهم لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا لشدة جُبنهم، مع أنهم انصرفوا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ، والبادون: جمع باد، أي: يتمنى المنافقون- لجُبنهم- أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب، يَسْئَلُونَ كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ يَسَاءلون «1» ، بالشد. أي: يتساءلون، بعضهم بعضاً عَنْ أَنْبائِكُمْ عن أخباركم وعما جرى عليكم، وَلَوْ كانُوا أي:
هؤلاء المنافقون فِيكُمْ أي: حاضرون فى عسكركم، وحضر قِتَالٌ، ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياءً وسمعة، ولو كان الله لكان كثيراً إذ لا يقل عمل لله.
الإشارة: الجبان يخاف والناس آمنون، والشجاع يأمن والناس خائفون، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء: أنهم، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة- كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه- يتمنون أنهم خارجون عنهم، وربما خرجوا بالفعل، وإن ذهبت شوكتهم يحسبون أنهم لم يذهبوا لشدة جزعهم.
ومن أوصافهم: أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم، والبحث عما جرى بهم خوفاً وجزعاً ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم من أهل القوة، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 24]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)
__________
(1) وهى قراءة رويس، ورويت عن زيد بن على، وقتادة، وغيرهما. انظر الإتحاف (2/ 373) .(4/420)
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ محمد صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ «1» حَسَنَةٌ خَصْلَةٌ حسنة، من حقها أن يُؤتسى بها كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، ومباشرة القتال. أو: في نفسه قدوة يحسن التأسي به. كما تقول: في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي: هي في نفسها عشرون. وفيه لغتان: الضم والكسر، كالعِدوة والعُدوة، والرِشوة والرُشوة. وهى لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي: يخاف الله ويخاف اليوم الآخر، أو: لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. و «لمن» : قيل: بدل من ضمير «لكم» ، وفيه ضعف إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما دل على الإحاطة. وقيل: يتعلق بحسنة، أي: أسوة حسنة كائنة لمَن آمن، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي: في الخوف والرجاء، والشدة والرخاء، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك.
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قد أقبلوا عليهم ليستأصلوهم، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.. إلى قوله: نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «2» ، فلما جاء الأحزاب واضطربوا قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم في آخر تِسْع ليال، أو عشر» ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد، قالوا ذلك «3» . وهذا: إشارة إلى الخطب والبلاء، أي: هذا الخطب الذي وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وَما زادَهُمْ، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم، إِلَّا إِيماناً بالله وبمواعيده، وَتَسْلِيماً لقضائه وأقداره.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي: صدقوا فيما عاهدوه، فحذف الجار، وأوصل المفعول إلى «ما» وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة، وسعيد بن زيد، وحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر، وغيرهم. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر. والنَّحْبُ: النذر، واستعير للموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي:
نذره. وقال في الصحاح: النحب: النذر، ثم قال: والنَّحْبَ: المدة والوقت. يقال: قضى فلان نَحْبَه إذا مات. هـ. فهو
__________
(1) قرأ عاصم (أسوة) بضم الهمزة، حيث كان، وهى لغة قيس وتميم، وقرأ الباقون بكسرها حيث وقعت. وهى لغة الحجاز.
انظر الإتحاف (2/ 373) .
(2) الآية 214 من سورة البقرة.
(3) قال الحافظ ابن حجر، فى الكافي الشاف (ص 133، رقم 208) : لم أجده. [.....](4/421)
لفظ مشترك بين النذر والموت. وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت. بل معناه:
قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين، سواء قُتل أو بقي حيّا. بدليل قوله- عليه الصلاة والسلام- في طلحة: «هذا ممن قَضَى نَحْبَه» «1» هـ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي: الموت على الشهادة كعثمان وطلحة، وَما بَدَّلُوا العهد تَبْدِيلًا ولا غيَّروه، لا المسْتَشْهَد، ولا مَن ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق، كقوله تعالى فيما مر: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ... «2» . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ بوفائهم بالعهد، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بقبول التوبة، رَحِيماً بعفو الحوبة.
الإشارة: قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول- عليه الصلاة والسلام- والاهتداء بهديه، وأنه منهاج الأكابر.
وقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ... الآية. كذلك الأقوياء من هذه الطائفة، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً، ويقيناً وطمأنينة، وتحققوا بصحة الطريق إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين، وسنة الأنبياء والمرسَلين. قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «3» الآية. وتقدم فى إشاراتها ما يتعلق بهذا المعنى.
قال بعضهم: نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري: كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً، وفي الله قوة. ثم قال: قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا.... الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحالة، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق: حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال: استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال: هو الثبات عند ما يكون الأمر جدّا.
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (المناقب، مناقب طلحة بن عبيد الله 5/ 602، ح 3740) وابن ماجة فى (المقدمة: باب فى فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 46، ح 126) . من حديث معاوية رضي الله عنه.
(2) الآية 15 من سورة الأحزاب.
(3) الآية الثانية من سورة العنكبوت.(4/422)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قوله تعالى:.. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ.. في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ يقال: إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
ثم ذكر رجوع الأحزاب، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 25 الى 27]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
يقول الحق جلّ جلاله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: الأحزاب بِغَيْظِهِمْ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» أي: ردهم غائظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً ظفراً، أي: لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه «خيراً» بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي: غير ظافرين، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح، والملائكة، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ: عاونوا الأحزاب وجاءوا بهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، يعني بني قريظة، أنزلهم مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. والصيصة:
ما يتحصّن به قال الهروي: وكل ما يتحصّن به فهو صيصة، ويقال لقرون البقر والظبي: صَيَاصي لأنها تتحصن بها، وفي وصف أصحاب الدجال: «شواربهم كالصياصي» ، لطولها، وفتلها، فصارت كالقرون. هـ.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة- على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال: ما هذا يا جبريلُ؟ فقال: من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال: إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طعمة.
__________
(1) من الآية 20 من سورة المؤمنون.(4/423)
وفي رواية: لَمَّا رجع- عليه الصلاة والسلام- ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلُون على حُكْمي؟ فأبَوْا، فقال: تنزلون عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذِ؟ فرضوا به. فقال سعد: نحكم فيهمْ: أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» «1» .
ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل: كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير- رضى الله عنهما- يضربان أعناق بني قريظة. والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير «2» .
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف. وفيه السكون والضم، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضى الله عنهما: لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن «3» .
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ كالمواشي والنقود والأمتعة. رُوِي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، وقال لهم: «إنكم فى منازلكم» . وَأورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعدُ، قيل: خيبر، ولم يكونوا نالوها، أو: مكة، أو: فارس والروم، أو: كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة، فمكّنهم الله من ذلك كله، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً، فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة: هذه عادة الله مع خواصه، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم، ويذلهم ثم يعزهم، ويفقرهم ثم يغنيهم، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ... الآية. ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره، أمرهم بأمر الله، وحكمهم بحكمه، والله غالب على أمره.
__________
(1) أخرجه الطبري فى التفسير (21/ 153) . وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» ، انظر صحيح البخاري (المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب. ح 41117، 4119) ومسلم (الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، 3/ 1388- 1389، ح 64- 65- 66) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أرقعة» يعنى سبع سموات. وكل سماء يقال لها: (رقيع) . انظر النهاية (رقع) . ولسان العرب (3/ 1705) .
(2) راجع السيرة لابن هشام (3/ 333- 343) .
(3) أخرجه الطبري (21/ 153- 154) .(4/424)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
ولَمَّا نصر الله رسولَه، وفرّق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله: وقلن: يا رسول الله بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول «1» ونحن على ما تراه من الفاقه والضيق، وآلمن قلبه- عليه الصلاة والسلام- لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوكُ والأكابرُ أزواجهم، فأنزل الله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ، وكن تسعاً خمساً من قريش: عائشة بنت الصدّيق، وحفصة بنت الفاروق، وأم حبيبة بنت سفيان، وسَوْدة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أُمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، من بني إسرائيل، من ذرية هارون عليه السلام، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. أي: فقل لهن إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي: التوسعة في الدنيا وكثرة الأموال والحُلل، فَتَعالَيْنَ أي: أَقبلن بإرادتكن واختياركن. وأصل «تعال» أن يقوله مَن في المكان المرتفع لمَن في المكان الأدنى، ثم كثر استعماله في كل أمر مطلوب. أُمَتِّعْكُنَّ أي: أُعطِكُن متعة الطلاق. وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها، كما في كتب الفقه. وَأُسَرِّحْكُنَّ أُطلقكن سَراحاً جَمِيلًا لا ضرر فيه.
وقيل: سبب نزولها: أنهن سألنه زيادة النفقة، وقيل: آذينه بغيرة بعضهن من بعض، فاغتمّ- عليه الصلاة والسلام- لذلك. وقيل: هجرهن شهراً، فنزلت. وهي آية التخيير. فبدأ بعائشة- رضى الله عنها- وكانت أحبهن إليه، فخيّرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرحُ في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهُنّ اختيارها. وروي أنه قال لعائشة: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً، ولاَ عَلَيكِ ألا تَعْجَلِي فيه حَتَّى تَسْتَأْمرِي أَبَوَيْكِ» ، ثُمَّ قرأ عليها الآية، فقالت: أَفي هذا أسْتَأُمِرُ أَبَويّ؟ فَإِني أُريدُ الله ورسوله والدّار الآخرة «2» .
__________
(1) خول الرّجل: حشمه وأتباعه، واحدهم: خائل، وقد يكون واحدا. وهو مأخوذ من التخويل، أي: التمليك، وقيل: من الرعاية. انظر النهاية (2/ 88) واللسان (خول 2/ 1293) .
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الأحزاب، ح 4785) ومسلم فى (الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية 2/ 1103، ح 1475) من حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(4/425)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
وحكم التخيير في الطلاق: أنه إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترتُ نفسي، أن تقع تطليقة واحدة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء. قاله النسفي. وقال ابن جزي: وإذا اختارت المرأة الطلاق فمذهب مالك: أنه ثلاث، وقيل: طلقة بائنة. وقيل: رجعية. ووصف السراح بالجميل يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث، أو: يريد الثلاث، وجماله: حسن المرعى، والثناء، وحفظ العهد. هـ.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ، «من» : للببان، أَجْراً عَظِيماً، فاخترن- رضى الله عنهن- ما هو مناسب لحاله- عليه الصلاة والسلام-، حين خُيّر بَيْن أن يكون نبيّاً عبداً، أو نبيًّا مَلِكاً، فاختار أن يكون نبيًّا عبداً، لا مَلِكاً. فاخترن العبودية، التي اختارها- عليه الصلاة والسلام.
الإشارة: ينبغي لمَن قلّده الله نساء متعددة أن يخيِّرهن، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يخلو من حال الغيرة، فإذا خَيّرهن فينبغي أن يغيب عن تشغيبهن، ولم يصغ بأُذُنه إلى حديثهن، ولا ينبغي أن يغتم من أجل الغيرة، فإنها طبع لازم للبشر، وليُقدِّر في نفسه: أنه إذا تزوجت زوجته غيره، وهي في عصمته، هل يقْدِر على ذلك أم لا، فالأمر واحد. والله أعلم.
قال القشيري: لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى واحد منهم أذى، أو تعب من الدنيا، فخيّر صلى الله عليه وسلم بأمر ربه نساءَه، ووفق اللهُ عائشةَ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها، وكمال دينها ويقينها، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرَيْن على منهاجها، ونَسَجْنَ على منوالها. هـ.
ثم هددهن وبشّرهن، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
يقول الحق جلّ جلاله: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بسيئة بليغة في القُبح مُبَيِّنَةٍ ظاهرٌ فحشها، مِنْ: بيَّن، بمعنى: تبيّن. وقرأ المكي وشعبة بفتح الياء، وهي عصيانهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشوزهن.
قال في المقدمات: كل فاحشة نُعتت في القرآن بالبينة فهي بالنطق، والتي لم تُنعت بها زنى. هـ. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي: ضِعفي عذاب غيرهنّ من النساء لأن الذنب منهن أقبح فإنَّ قُبح الذنب يتبع زيادة فضل(4/426)
المذنب والنعمة عليه، ولذلك قيل: ليست المعصية في القُرب كالمعصية في البُعد. وليس لأحد من النساء مثل فضل النساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالِم أقبح، وفي الحديث: «أشَدُّ النَّاس عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَم ينْفَعْهُ الله بعلْمِه» «1» لقوة الجرأة في العالم دون غيره. ولهذا أيضاً فضل حدّ الأحرار على العبيد، ولم يرجح الكافر. وَكانَ ذلِكَ أي: تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيناً.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ أي: يدم على الطاعة لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي: مثل ثوابي غيرها، مرة على الطاعة، ومرة على طلبهن رضا النبي صلى الله عليه وسلم، بالقناعة، وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي بالغيب «2» على لفظ «من» ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً جليل القدر، وهو الجنة.
الإشارة: من شأن الملِك أن يُعاتب الوزراء بما لا يعاتب غيرهم، ويهددهم بما لا يهدد به غيرهم، ويعطيهم من التقريب والكرامة ما لا يُعطي غيرهم، فإن هفوا وزلُّوا عاتبهم، ثم يردهم إلى مقامهم، وربما سمح وأغضى.
والغالب: أن الحق تعالى يعجل عتلت خواصه، في الدنيا قبل الآخرة، بمصائب وأهوال، تصفيةً وتطهيراً، ولا يُبعدهم من حضرته بما اقترفوا. قال القشيري: زيادةُ العقوبة على الجُرْمِ من أمارات الفضيلة، كحدّ الحر والعبد، وتقليل ذلك من أمارات النقص، ولَمَّا كانت منزلتُهن في الشرف تزيد وتربو على منزلة جميع النساء، تضاعفت عقوبتهن على أجْرامهن، وتضاعف ثوابَهن على طاعتِهن، فقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ... وقال: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ... الآية هـ. والله تعالى أعلم.
ثم وصّاهن بما يليق بجنابهن المعظم، فقال:
يا نِساءَ النَّبِيِّ ...
__________
(1) رواه الطبراني فى الصغير (1/ 182) والبيهقي فى الشعب (ح 1778) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وقال الهيثمي فى المجمع (1/ 185) (: رواه الطبراني فى الصغير، وفيه عثمان البرسي، ضعّفه أحمد، والنسائي، والدارقطني.
(2) قرأ حمزة والكسائي «يعمل» و «يؤتها» بالياء، وقرأ الباقون «تعمل» و «نوتها» . انظر الحجة للفارسى (5/ 474) .(4/427)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
يقول الحق جلّ جلاله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي: لستن كجماعة من جماعات النساء، أي: إذا تقصيت أمة النساء، جماعةً جماعةً، لم توجد منهن جماعة واحدة تُساويكن في الفضل، فكما أنه- عليه الصلاة والسلام- ليس كأحد من الرجال، كما قال: «إني لسْتُ كَأَحَدِكُمْ ... » «1» ، كذلك زوجاته التي شرُفن به. وأصل «أحد» : وَحَدٍ، بمعنى: واحد، فوضع في النفي العامّ، مستوياً فيه المذكّر والمؤنّث، والواحد وما وراءه، أي:
لستن في الشرف كأحد من النساء، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفةَ الله ورضا رسوله، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب، فلا تجئنَ بقولكنّ خاضعاً، أي: ليناً خنثاً مثل قول المُريبات، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ريبة، وفجور، وهو جواب النهي، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسناً مع كونه خشيناً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 33 الى 34]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي: استكِن فيه، والْزَمن بيوتكن من غير خروج. وقرأ نافع وعاصم بالفتح، وهو من:
قرَر يَقْرَرُ، لغة في قرّ بالمكان، وأصله: اقرَرن، فحذفت الراء، تخفيفاً، وألقيت فتحتها على ما قبلها. وقيل: من: قار يقار: إذا اجتمع. والباقون بالكسر، من: قرّ بالمكان يقِرّ- بالكسر، وأصله: اِقْررْن، فنقلت كسرة الراء إلى القاف، وحذفت الراء. وقيل: من: وَقَر يَقِر وقاراً.
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي: لا تتبخترن في المشي تبختر أهل الجاهلية، فالتبرُّج: التبختر في المشي وإظهار الزينة، أي: ولا تبرجن تبرجاً مثل تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي: القديمة، وهو الزمان الذي وُلد فيه إبراهيم عليه السلام، فكانت المرأة تتخذ فيه الدرع من اللؤلؤ، وتعرض نفسها على الرجال، زمان نمرود الجبار، والناس كلهم كفار. أو: ما بين آدم ونوح- عليهما السلام- ثمانمائة سنة. وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم حِسَان، فتريده المرأة على نفسها. أو: زمن داود وسليمان- عليهما السلام-، وكان للمرأة قميص من الدّر، غير
__________
(1) بعض حديث شريف، لفظه كاملا: «إنى لست كهيئتكم، إنى أطعم وأسقى» أخرجه مسلم فى (الصيام، باب النهى عن الوصال فى الصوم، 2/ 774، ح 1102) من حديث سيدنا عبد الله ابن عمر رضي الله عنه.(4/428)
مخيط الجانبين، فتظهر صورتها فيه. والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد- عليهما السلام- أو: الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام.
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ، خصهما بالذكر تفضيلاً لهما لأن مَن واظب عليهما جرتاه إلى غيرهما.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما أمرَكن به، ونهاكن عنه.
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أي: يا أهل البيت، أو: أخص أهل البيت. وفيه دليل على أنَّ نساءه من أهل بيته. قال البيضاوي: وتخصيص أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما، لِما رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- خرج ذات غدوة عليه مِرْطٌ مُرَحَّل «1» من شعر أسود، فجاءت فاطمة، فأدخلها، ثم جاء عليّ، فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين، فأدخلهما فيه، فقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ... » «2»
والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون اجتماعهم حجة، ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم. هـ. وإنما قال: عَنْكُمُ لأنه أُريد الرجال والنساء. والرجس: كل ما يدنس، من ذنب، أو عيب، أو غير ذلك، وقيل: الشيطان.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من نجاسات الآثام والعيوب، وهو كالتعليل لِمَا قبله، فإنما أَمَرَهن، ونهاهن، ووعظهن لئلا يقارف أهل البيت ما يدنس، من المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنب الرجس، وللتقوى الطُهر لأن عِرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس وأما مَن تحصّن منها فعرضه مصون، نقي كالثوب الطاهر. وفيه تنفير لأُولي الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار، وترغيب لهم في كل ما يطهر القلوب والأسرار، من الطاعات والأذكار.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ القرآن وَالْحِكْمَةِ السنة، أو: بيان معاني القرآن، أو:
ما يُتلى عليكن من الكتاب الجامع بين الأمرين. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً عالماً بغوامض الأشياء. خَبِيراً عالماً بحقائقها، أو: هو عالم بأقوالكن وأفعالكن، فاحذرن مخالفة أمره ونهيه، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
الإِشارة: علَّق الحق تعالى شرف نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيلهن على سبعة أمور، ويقاس عليهن غيرهن من سائر النساء، فمَن فعل هذه الأمور حاز شرف الدنيا والآخرة. الأول: تقوى الله في السر والعلانية، وهى أساس
__________
(1) المرط: الكساء، جمعه: «مرط» . انظر: النهاية (مرط 4/ 319) . والمرحّل: الذي نقش فيه تصاوير رحال الإبل. انظر: النهاية (رحل 2/ 210) .
(2) أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضل أهل البيت 4/ 1883، ح 2424) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها-. [.....](4/429)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
الشرف. الثاني: التحصُّن مما يُوجب مَيْل الرجال إليهن من التخنُّث في الكلام وغيره. الثالث: لزوم البيوت والقرار بها. وقد مدح الله نساء الجنة بذلك فقال: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ
«1» . الرابع: عدم التبرُّج، وهو إظهار الزينة حيث يحضر الرجال. الخامس: إقامة الصلاة وإتقانها وإيتاء الصدقة. السادس: طاعة الله ورسوله، ويدخل فيه طاعة الزوج. السابع: لزوم ذكر الله، وتلاوة كتابه لمن تُحسن ذلك في بيتها. فمَن فعلت من النساء هذه الأمور أذهب الله عنها دنس المعاصي والعيوب، وطهّرها تطهيراً، وأبدلها بمحاسن الأخلاق والشيم الكريمة.
والله تعالى أعلم.
ولما نزل فى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل، قال نساء المؤمنين: فما نزل فينا؟ فأنزل الله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي: الداخلين في الإسلام، المنقادين لأحكام الله قولاً وفعلاً، فالمسلم: هو الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يُعاند، أو: المفوِّض أمره إلى الله، المتوكل عليه، مِن: أسلم وجهه إلى الله، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدِّقين بالله ورسوله، وبما يجب أن يصدّق به، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعة، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في النيات، والأقوال، والأفعال، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وترك السيئات، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله بالقلوب والجوارح، أو: الخائفين، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ فرضاً ونفلاً، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ فرضاً ونفلاً. وقيل: مَن تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومَن صام البيض من كل شهر، فهو من
__________
(1) الآية 72 من سورة الرحمن.(4/430)
الصائمين، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يحلّ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم، بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، وتلاوة القرآن، وغير ذلك من الأذكار، والاشتغال بالعلم لله، ومطالعة الكتب من الذكر. وحذف «كثيراً» في حق الذاكرات لدلالة ما تقدم عليه.
وقال عطاء: من فوض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ، ومَن أقرّ بأن الله ربه، وأن محمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانَه، فهو من المؤمنين والمؤمنات، ومَن أطاع الله في الفرض، والرسول في السُنَّة، فهو داخل في قوله: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ، ومَن صلّى فلم يعرف مَنْ عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ، ومَن صبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى الذرية، فهو من الصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ، ومَن تصدّق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين والمتصدقات، ومَن صام في كل شهر أيام البيض، الثالث عشر وما بعده، فهو من الصائمين والصائمات، ومَن حفظ فرجه عما لا يحل فهو من الحافظين فروجهم والحافظات، ومَن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات «1» .
قال ابن عباس: (جاء إسرافيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عدد ما علم، وزنة ما علم، وملءَ ما علم. مَن قالهن كُتبت له ست خصال كتب من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكان أفضل ممن ذكره في الليل والنهار، وكان له عرش في الجنة، وتحاتت عنه ذنوبه، كما تحات ورق الشجر اليابس، وينظر الله إليه، ومَن نظر إليه لم يعذبه) . وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضجعاً. هـ. من الثعلبي.
وسُئل ابنُ الصلاح عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً؟ فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، كان من الذاكرين كثيراً. هـ. قلت: وقد تتبعت ذلك في تأليف مختصر سميته: «الأنوار السنية في الأذكار النبوية» .
هذا وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين. وهو ضروري كقوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «2» . وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين، وليس بضروري، ولو قال: «إن المسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات» بغير واو لجاز، كقوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ ... الخ. وهو مِن عطف الصفة، ومعناه: إن الجامعين والجامعات
__________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 352) .
(2) من الآية 5 من سورة التحريم.(4/431)
لهذه الصفات. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من السيئات، وَأَجْراً عَظِيماً على طاعتهم. قال البيضاوي: والآية وعد لهن، ولأمثالهن، على الطاعة والتدرّعُ بهذه الخصال. رُوي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: ذكر الرجال في القرآن بخير فما فينا خير، فنزلت «1» . هـ.
الإشارة: اعلم أن اصطلاح الصوفية أن ما يتعلق بعمل الجوارح الظاهرة يُسمى إسلاماً، وما يتعلق بعمل القلوب الباطنية يُسمى إيماناً، وما يتعلق بعمل الأرواح والأسرار يُسمى إحساناً. قال في البغية: فالإسلام يشتمل على وظائف الظاهر، وهي الغالبة عليه، وذلك من عالم الشهادة، والإيمان يشتمل على وظائف الباطن، وهي الغالبة عليه، وذلك من عالم الغيب، وهي الأعمال الغيبية، ولمّا انفتح لها باب من الأعمال الظاهرة للعبادة، وأشرقت عليها من ذلك أنوار، وتعلقت همتها بعالم الغيب، مالت إلى الوفاء بالأعمال الباطنة، ثم لمّا تمكنت في الأعمال الباطنة، واطلعت على عالَمها، وأشرفت على طهارتها، وتعلقت همتها بعالم الملكوت، مالت إلى الوفاء بالأسرار الإحسانية، ومن هناك تدرك غاية طهارتها وتصفيتها، والاطلاع على معارف الحقائق الإلهية. ثم قال: فإذا تبين هذا، فالإسلام له معنى يخصه، وهو انقياد الظاهر بما تكلف به من وظائف الدين، مع ما لا بد منه من التصديق.
والإيمان له معنى يخصه، وهو تصديق القلب بجميع ما تضمنه الدين من الأخبار الغيبية، مع ما لا بد منه من شُعبه. والإحسان له معنى يخصه، وهو تحسين جميع وظائف الدين الإسلامية والإيمانية، بالإتيان بها على أكمل شروطها، وأتم وظائفها، خالصة من جميع شوائب عِللها، سالمة من طوارق آفاتها. هـ.
قلت: ولا يكفي في مقام الإحسان تحسين الوظائف فقط، بل لا بد فيه من كشف حجاب الكائنات، حتى يُفضي إلى شهود المكوِّن، فيعبد الله على العيان. كما في الحديث: «إنَّ تعبد الله كأنك تراه» . فإذا تقرّر هذا فالآية مشتملة على تدريج السلوك فأول مقامات المريد: الإسلام، ثم الإيمان، كما في الآية، ثم يكون من القانتين المداومين على الطاعة، ثم يكون من الصادقين في أقواله، وأفعاله، وأحواله، صادقاً في طلب مولاه، غائباً عن كل ما سواه، ثم من الصابرين على مجاهدة النفس، ومقاساة الأحوال، وقطع المقامات والمفاوز. وقال القشيري: من الصابرين على الخصال الحميدة وعن الخصال الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية. هـ. ثم من الخاشعين الخاضعين لهيبة الجلال، مشاهداً لكمال أنوار الجمال. قال القشيري: الخشوعُ: إطراق السريرة عند بواده الحقيقة. هـ.
__________
(1) أخرجه، بنحوه، أحمد فى المسند (6/ 301) والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي (2/ 416) ، والطبراني فى الكبير (23/ 263 ح 554) و (23/ 294 ح 650) من حديث أم سلمة- رضى الله عنها- وأخرجه ابن جرير فى التفسير (22/ 10) من حديث ابن عباس رضي الله عنه وأم سلمة- رضى الله عنها.(4/432)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
ثم يتحقق بأوصاف الكمال كالسخاء والكرم، فيبذل ما عنده فى مرضات ربه، فيكون من المتصدقين بأموالهم وأنفسهم، حتى لا يكون لأحد معهم خصومة فيما أخذوا منهم وقالوا فيهم، ثم يصوم عن شهود السِّوى، ثم يحفظ فرجه عن وِقاع الشهوة والهوى، فلا ينزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ، إلا بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. ثم يكون من المُسْتَهتَرين بذكر الله، أعني ذكر الروح والسر، وهو مقام الإحسان، الذي هو محل العيان، فيكون ذاكراً بالله، مذكوراً في حضرة الله، مشهوراً في ملكوت الله. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر قضية تزويجه- عليه الصلاة والسلام- زينب، مناسبا للحافظين فروجهم، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي: ما صحّ لرجل مؤمن، ولا امرأة مؤمنة، إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً من الأمور أَنْ يَكُونَ «1» لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي: أن يختاروا من أحدهم شيئاً، بل الواجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه، واختيارهم تلواً لاختياره.
نزلت في زينب بنت جحش، وأخيها عبد الله بنَ جَحْش. وكانت زينب بنت أميمةَ بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها- عليه الصلاة والسلام- لمولاه زيد بن حارثة، فلما خطبها، ظنت أنه يخطبها لنفسه، فرضيت، فلما علمت أنه خطبها لزيد كرهت وأبت، وقالت: أنا أم نساء قريش، وابنة عمتك، فلم أكن أرضه لنفسي، وكذلك قال أخوها. وكانت بيضاء جميلة، وكان فيها بذاذة، فأنزل الله الآية «2» ، فأعلمهم أنه لا اختيار لهم على ما قضى اللهُ ورسولُه. فلما نزلت الآية إلى قوله: مُبِيناً قالت: رضيتُ يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (يكون) بالياء من تحت. وقرأ الباقون بالتاء وقد أثبت المفسر- رحمه الله- قراءة التاء.
انظر الإتحاف (2/ 376) .
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (22/ 11) .(4/433)
وكذلك أخوها، فأنكحها صلى الله عليه وسلم زيداً، فدخل بها، وساق إليها النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير، وستين درهماً، وملحفة، ودرعاً، وإزاراً، وخمسين مدًّا من طعام، وثلاثين صاعاً من تمر «1» . وقيل نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، وكانت من أول مَن هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم فقبلها، وقال: زوجتها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت «2» . والأول أصح.
وإنما جمع الضمير في «لهم» ، وكان من حقه أن يُوحَّد لأن المذكورين وقعا نكرة في سياق النفي، فعمَّا كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير إلى المعنى، لا إلى اللفظ. والخيرة: ما يُتخير، وفيه لغتان: سكون الياء، وفتحها، وتؤنث وتذكَّر باعتبار الفعل لمجاز تأنيثها.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما اختار وقضى فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بيِّن الانحراف عن الصواب.
فإن كان العصيانُ عصيانَ رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيانَ فعلٍ، مع قبول الأمر، واعتقاد الوجوب، فهو ضلال فسق.
ثم إن زينب مكثتْ عند زيد زمانا، فأتى عليه الصلاة والسلام ذات مرة دار زيد، لحاجة، فأبصرها في درع وخمار، فوقعت في نفسه، وذلك لِمَا سبق في علم الله من كونها له. فقال: «سبحان مقلِّب القلوب» «3» ، وكانت نفسه قبل ذلك تنفر منها، لا تُريدها، فانصرف، وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففَطِنَ، وأُلقي في نفسه كراهيتُهَا والرغبة عنها في الوقت، وقال: يا رسول الله إني أُريد فراق صاحبتي؟ فقال: «مالك، أرابك منها شىء؟»
__________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 353) .
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (22/ 12) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 381) لابن أبى حاتم. عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
والحديث معضل.
(3) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص 134 رقم 224) : (ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرج الطبري «22/ 13» معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم) قلت: هذه الرواية، وإن ساقها عدد من المفسرين، إلا أن العلماء المحققين ردوها فالروايات كلها جاءت من طرق ضعيفة، ولا يوجد شىء منها فى كتب الحديث المعتمدة، والذي جاء فى الصحيح يخالف ذلك. ولا يجوز أن يستند إلى روايات ضعيفة فى إثبات خبر فيه نيل من عصمة المعصوم صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره: (3/ 490) : (ذكر ابن جرير، وابن أبى حاتم، هاهنا، آثارا عن بعض السلف، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها، فلا نوردها) - ثم إن السيدة «زينب بن جحش» - رضى الله عنها- ابنه عمته، ويعرفها مذ كانت طفلة حتى كبرت، وهو الذي زوّجها لمولاه زيد، وكان بإمكانه أن يتزوجها قبل أن يزوجها زيدا. فغير معقول- والحال كما ذكر- أن يزوجها لغيره ثم يرغب فيها.
والحق فى المسألة ما سيذكره الشيخ ابن عجيبة بعد، نقلا عن الشيخ عبد الرحمن الفاسى من أن المعنى: وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه من مفارقة زيد لها، وتزوجك إياها بعده ... إلخ كلامه.
للمزيد راجع: الشفاء للقاضى عياض (2/ 878- 880) روح المعاني للألوسى، (22/ 24- 25) الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة (323- 328) .(4/434)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
فقال: لاَ والله، ما رأيت منها إلا خيراً، إلا أنها تتعظم عليَّ، لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 39]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
وهذا معنى قوله: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو من أجلّ النعم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق والتبني، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب، وَاتَّقِ اللَّهَ فلا تطلقها، وهو نهي تنزيه، أو: اتقِ الله، فلا تذمها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: تُخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد، وقد أبداه الله وأظهره، وقيل:
الذي أخفاه في نفسه: تعلُّق قلبه بها، ومودة مفارقة زيد إياها.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: والصواب أن المعنى: وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه من مفارقة زيد لها، وتزوجك إياها بعده، فإن هذا هو الذي أبداه سبحانه وأظهره بعد ذلك. وأما قوله: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فإنما يعني به الحياء من الناس في أن يقابلهم بما يسوءهم، وهو إخبار زيد بما أطلعه الله عليه من صيرورة زوجته زينب له، بعد مفارقة زيد لها، لأنه لم يؤمر بإفشاء ذلك، وإلا لبلَّغ من غير رَوية ولا حشمة، سالكاً في ذلك سُنَّة مَن خلا قبله من الأنبياء، الذين لا يخشون في التبليغ أحداً إلا الله.
وقال القشيري: أي: تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة في قصة زيد [والفتنة التي يقعون فيها هي ظنهم أنه عليه الصلاة والسلام عشقها، وأمره بطلاقها] وكانت تلك الخشية إشفاقاً منه عليهم، ورحمة لهم ألا يُطيقوا سماع هذه الحالة، بأن يخطر ببالهم ما ليس في وسعهم. وأما قوله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ.... الآية- مع علمه بما يؤول إليه الأمر في العاقبة، بما أطلعه الله عليه من فراقه لها- فإقامة للشريعة. هـ. ملخصاً.
وفي الوجيز: وَتَخْشَى النَّاسَ أي: تكره مقالة الناس لو قلت طَلِّقْها، فيقال: أمر رجلاً فطلّق امرأته ثم تزوجها. وقد نقل في نوادر الأصول عن عليّ بن الحسين: أن الله أعلم نبيه أنها تكون من أزواجه، فأخفى ذلك.
فلما جاء زيد يشكوها قال له: اتقِ الله، وأمسك عليك زوجك «1» ، قال: فعليُّ بن حسين جاء بها من خزانة العلم، جوهراً من الجواهر، ودرًّا من الدرر، وأنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه، ثم قال بعد ذلك لزيد: أمسك..
__________
(1) أخرجه الطبري (22/ 13) .(4/435)
رعاية لِما يقال، وتركاً لتدبير الله، مع كونه أحق بالرعاية، وكيف، وفي ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض الله له فيما أعلمه. ثم قال: والحاصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم يلمّ بخطيئة، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا استغفار، وإنما أخبره بما أضمر في نفسك، خشية افتتان الغير، والله أحق أن يخشى، بأن يبتهل إليه ليزيل عنهم ما يخشى فيهم.
قال ابن عرفة: الصواب: أن ما أخفاه في نفسه هو: أن الله أخبره أن سيتزوجها. وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال، لأنه تنقيص لم يرد في حديث صحيح. وإنما ذكره المفسرون. هـ. قلت: إنما يكون تنقيصاً إذا كان ذلك الواقع في القلب ثابتاً، وأما إن كان خاطراً مارًّا فلا نقص إذ ليس في طوق البشر لأنه من أوصاف العبودية، بل الكمال في دفعه ورده بعد هجومه.
ثم قال ابن عرفة، على قوله: وَتَخْشَى النَّاسَ: هو تمهيد لعذره، وإن كان لمجرد أمر الله له بذلك، ولا ينبغي حمله على أنه خاف الناس فقط. بل المراد: عتابه على خلط خوفه من الله بخوفه من الناس، وأَمَرهُ ألا يخاف إلا من الله فقط، خوفاً غير مشوب بشيء. هـ. قلت: إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسُّف، مع أن الخوف من الخَلْق مذموم، وحده أو مع خوف الله، والنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عن ذلك، أي: تستحي من الناس أن يقولوا:
نكح امرأة ابنه، وكان- عليه الصلاة والسلام- أشد الناس حياء من العذراء في خدرها. والحياء ممدوح عند الخاص والعام. وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فتنبيه على أن الحياء في بعض المواضع تركه أَولى، فهو ترقية له، وتربية لوقت آخر. أو: وتخشى أن يفتتن الناس بذلك، والله أرحم بهم من غيره، فالله أحق أن تَخشى، فتبتهل إليه في زوال ذلك عنهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية الأولى حث على التفويض وترك الاختيار، مع ما أمر به الواحد القهّار. وفي الحِكَم:
«ما تَركَ من الجهل شيئا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غير ما أظهر الله» «1» . فالواجب على العبد أن يكون في الباطن مستسلماً لقهره، وفي الظاهر متمثلاً لأمره، تابعاً لسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولِمَا يُوجب رضاه ومحبته. وفي الآية الثانية تنبيه على أن خواص الخواص يُعاتبون على ما لا يُعاتب عليه الخواص. والخواص، يُعاتبون على ما لا يعاتب عليه العوام، فكلما علا المقام، واشتد القرب، اشتدت المطالبة بالأدب، ووقع العتاب على أدنى ما يخل بشيء من الأدب، على عادة الوزراء مع الملك. وذلك أمر معلوم، مذوق عند أهل القلوب. وبالله التوفيق.
__________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 20، حكمة: 17)(4/436)
ثم ذكر تزوجه- عليه الصلاة والسلام- لزينب بعد مفارقة زيد، فقال:
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ ...
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة، بحيث ملَّها ولم تبقَ له فيها حاجة.
والوطر: الحاجة، فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همّة، يقال: قضى منه وطراً، أي: فلما قضى حاجته منها، وطلقها، وانقضت عدّتها، زَوَّجْناكَها. رُوي أنها لما اعتدت قال- عليه الصلاة والسلام- لزيد: «ما أجد أحداً أوثقُ في نفسي منكَ، ايت زينبَ فاخطبها لي» قال زيدٌ: فأتيتُها وولَّيتُها ظهْرِي، إعظاماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت:
يا زينبُ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُك، فَفَرحَتْ، وقالت: ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أؤامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها، فنزَلَ القرآنُ: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ ... الآية، فتزوجها عليه الصلاة والسلام، ودخل بها حينئذ، ومَا أوْلَمَ على امْرأةٍ ما أوْلَمَ عليها، ذبح شاةٍ، وأطعمَ الناسَ الخبزَ واللحمَ حتى امتد النهار «1» .
وقيل: زوّجه الله تعالى إياها بلا واسطة عقد، ويؤيده: أنها كانت تقول لسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله زوجني من فوق سبع سموات، وأنتن زوَّجَكُنَّ أولياؤكُنَّ «2» . وكانت تقول للنبى صلى الله عليه وسلم: إني لأدُلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدِل عليك بهنّ: جدّي وجدّك واحد، وإياي أنكحك الله من السماء، وإن السفير لي جبريل «3» .
ثم علل تزويجه إياها، فقال: لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين يتبنونهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، قال الحسن: ظنت العرب أن حُرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبيّن اللهُ تعالى الفرق بينهما، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة. وليست كحلائل أبناء الصلب. قال البيضاوي: وفيه دليل على أنَّ حكمه
__________
(1) أخرجه، بنحوه، مسلم فى (النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، 2/ 1048- 1049 ح: 1428) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (التوحيد، باب وكان عرشه على الماء ح 7420) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) أخرجه الطبري فى تفسيره (22/ 14) من مرسل الشعبي. [.....](4/437)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
وحكم الأَمة واحد، إلا ما خصّه الدليل. هـ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ الذي يريد أن يكونه مَفْعُولًا مكوناً لا محالة، كما كان تزويج زينب.
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي: حلّ له، أو: قسم له، من قولهم: فرض له في الديوان كذا، وفروض العساكر، لأرزاقهم. أي: لا حَرج على النبي فيما حلّ له وأمر به، كتزويج زينب، أو: قسم له من عدد النساء بلا حدّ، سُنَّةَ اللَّهِ: مصدر مؤكد لِمَا قبله من قوله: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي:
سُنَّ ذلك سُنَّة في الأنبياء الماضين، وهو: ألا حرج عليهم في الإقدام على ما أحلّ لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره. وكانت تحتهم المهائر «1» والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة، وثلاثمائة سُرِّية. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي: في الأنبياء الذين مضوا من قبله، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي: قضاءً مقضياً، وحكماً مثبوتاً مبرماً، لا مرد له.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ، هو صفة ل «لذين خلوا من قبل» ، أو: بدل منه، أو: مدح لهم منصوب، أو:
مرفوع، أي: هم الذين، أو: أعني الذين يُبلغون رسالات الله، وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، ونبينا صلى الله عليه وسلم من جملتهم ومن أشرفهم، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً للمخاوف، أو: محاسباً، فينبغي ألا يُخشى إلا منه تعالى.
الإشارة: إذا تمكن العبدُ مع مولاه وتحققت محبته فيه، كانت حوائجه مقضية، وهمته كلها نافذة، إذا اهتم بشيء، أو خطر على قلبه شيء، مكّنه الله منه، وسارع في قضائه، كما فعل مع حبيبه، حين خطر بباله تزوج زينب، أعلمه أنه زوَّجه إياها. وأهل مقام الفناء جُلهم في هذا المقام، إذا اهتموا بشيء كان، إذا ساعدتهم المقادير، وإلا فسوابقُ الهِمَم لا تخرق أسوارَ الأقدار، ولذلك قال هنا: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وصفة أهل الهمم القاطعة: أنهم لا يخافون إلا الله، ولا يخشون أحداً سواه، لا يخافون في الله لومة لائم، ذِكْرُهم لله دائم، وقلبُهم في الحضرة هائم. وبالله التوفيق.
ثم ردّ على مَن قال: إنه- عليه الصلاة والسلام- تزوج امرأة ابنه، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
__________
(1) المهائر: جمع المهيرة، وهى الحرة، والمهائر: الحرائر، ضد السّرارى. انظر اللسان (مهر 6/ 4287) .(4/438)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أي: لم يكن أبا رجل منكم حقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، والمراد: من رجالكم البالغين، وأما أولاده القاسم، والطيب، والطاهر، فماتوا قبل أن يكونوا رجالاً، وأما الحسن والحسين، فأحفاد، لا أولاد. وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ، وكل رسول أبو أمته، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء. وزيد واحد من رجالكم، الذين ليسوا بأولاد حقيقة، فكان حكمُه حكمهم. والتبني من باب الاختصاص والتقريب، لا غير. وَكان أيضا صلى الله عليه وسلم خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي: آخرهم الذي ختمهم، أو: ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء، بمعنى: الطابع، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شيء. فلا نبي بعده. وعيسى ممّن نبأ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعته صلى الله عليه وسلم، كأنه بعض أمته. ومَن قرأ بكسر التاء، فمعناه: فاعل الختم، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي» «1» . ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضاً إذ فيه لغات خاتِم- بالفتح والكسر-، وخاتام، وخَيْتام. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوة، وكيف ينبغي شأنه.
الإشارة: كان صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة إذ الوجود كله ممتد من نوره، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره.
فأول ما ظهر نوره- عليه الصلاة والسلام-، ومنه امتدت الكائنات، فهو بذرة الوجود. وسيأتي في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2» تتميم ذلك إن شاء الله. ولم يكن أباً باعتبار تولُّد الصلب، وهو الذي نفاه الله تعالى عنه.
ثم حضّ على الذكر إذ هو سبب التهذيب والتأديب، فيزجر صاحبه عن الخوض فيما لا يعنى، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
__________
(1) أخرجه مطولا أحمد فى المسند (5/ 278) ، وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 386) لابن مردويه، عن ثوبان. وجاء الجزء الأول «أنا خاتم النبيين» في حديث «مثلى ومثل الأنبياء من قبلى..» الحديث، أخرج البخاري فى (المناقب، باب خاتم النبيين، ح 3535) ومسلم فى (الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين 4/ 1791) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) الآية 81 من سورة الزخرف.(4/439)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم، قال ابن عباس: (لم يُعذَر أحد في ترك ذكر اللهِ- عزّ وجل- إلا مَن غلب على عقله) «1» . وقال: الذكر الكثير: ألاَّ تنساه أبداً. وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكْثِرُوا ذِكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ» «2» .
والذكر أنواع: تهليل، وتحميد، وتقديس، واستغفار، وتلاوة، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد: ذكر القلوب، فإن الذكر الذي يمكن استدامته، هو ذكر القلب، وهو استدامة الإيمان والتوحيد. وأمَّا ذكرُ اللسان فإن إدامته كالمتعذَر. قاله القشيري. وَسَبِّحُوهُ أي: نزِّهوه، أو: قولوا: سبحان الله وبحمده، بُكْرَةً أول النهار وَأَصِيلًا آخر النهار. وخُصَّا بالذكر لأن ملائكةُ الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما. وعن قتادة: (قولوا:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) . أو: الفعلان- أي: (اذكروا) و (سبّحوه) - موجهان إلى البُكرة والأصيل، كقولك: صم وصلِّ يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختص من بين أنواعه إبانةً لفضله لأن معناه: تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات. ويجوز أن يراد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات والعبادات، فإنها من جملة الذكر، ثم خصّ من الذكر التسبيح بكرة، وهي صلاة الفجر، وأصيلاً، وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أو: صلاة الفجر والعشاءين.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ، لمّا كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمَن ينعطف على غيره، حُنواً عليه، كحنو المرأة على ولدها. ثم كثر، حتى استعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: صلى الله عليك، أي: ترحّم عليك وترأف. فإن قلت: صلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في العطف؟ قلت: لاشتراكهما في قدر مشترك، وهو إرادة وصول الخير إليهم، إلا أنه منه تعالى برحمته، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
وذكر السدي: أن بني إسرائيل قالت لموسى عليه السلام: أيُصلي ربنا؟ فكَبُر هذا الكلام على موسى عليه السلام، فأوحى الله إليه: أن قل لهم: إني أُصلي، وإنَّ صلاتي رحمتي، وقد وَسِعَتْ كل شيء «3» . وفي حديث المعراج: «قلت:
إلهي لَمَّا لحقني استيحاش قبل قدومي عليك، سمعت منادياً يُنادي بلغة، تُشبه لغةَ أبي بكر، فقال: قف، إن ربك
__________
(1) أخرجه الطبري (22/ 17) .
(2) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 68، 71) والحاكم (1/ 499) وصححه، من حديث سيدنا أبى سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) عزاه فى الدر المنثور (5/ 389) لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن الحسن.(4/440)
يصلي، فعجبت من هاتين، هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيٌّ عن أن يصلِّي؟ فقال تعالى: أنا الغني عن أن أُصلّي لأحد، وإنما أقول: سبحاني، سبقت رحمتي غضبي. اقرأ يا محمد: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... الآية، فصلاتي رحمة لك ولأمتك. ثم قال. وأما أمر صاحبك، فخلقت خلقاً على صورته، يُناديك بلغته، ليزول عنك الاستيحاش، لئلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك» .
والمراد بصلاة الملائكة: قولهم: اللهم صَلّ على المؤمنين. جُعلوا- لكون دعائهم بالرحمة مستجاباً- كأنهم فاعلون الرحمة. والمعنى: هو الذي يترحّم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار ذكره، ويأمر ملائكته يترحّمون عليكم، ويستغفرون لكم، ليقربكم، ويخصكم بخصائص ليست لغيركم. بدليل: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ثم من ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة، ثم من ظلمات الحجاب إلى نور العيان. وقيل: يُصَلِّي عليكم: يشيع لكم الذكر الجميل في عباده.
وَكانَ الله بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، قد اعتنى بصلاح أمرهم، وإثابة أجرهم، واستعمل في خدمتهم ملائكتَه المقربين، وهو دليل على أن المراد بالصلاة: الرحمة، حيث صرَّح بكونه رحيماً بهم. قال أنس: لمّا نزل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر: يا رسول الله ما خصك الله بشريف إلا وقد اشتركنا فيه، فأنزل قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... الخ «1» .
تَحِيَّتُهُمْ أي: تحية الله لهم، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ عند الموت. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن، قال: ربك يُقرئك السلام «2» . أو: يوم الخروج من القبور، تُسلِّم عليهم الملائكة وتُبشرهم. أو: يوم يرونه في الجنة، سَلامٌ، يقول الله تبارك وتعالى: «السلام عليكم يا عبادي، هَلْ رَضيتُم؟ فَيَقُولونَ: وَما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيت ما لم تُعط أحداً من العالمين. فيقول لهم: أعطيكم أفضل من ذلك، أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً» كما في البخاري «3» . وفي رواية غيره: يقول تعالى:
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 389) لعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد. وذكره البغوي فى التفسير (6/ 360) عن أنس رضي الله عنه.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 390) للمروزى فى الجنائز، وابن أبى الدنيا، وأبى الشيخ.
(3) سبق تخريج الحديث.(4/441)
«السلام عليكم، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري» هو إشارة إلى قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ «1» .
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً، يعني الجنة وما فيها.
الإشارة: قال القشيري: قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. الإشارة فيه: أَحِبُّوا الله لقوله- عليه الصلاة والسلام- «مَنْ أحبَّ شيئاً أكثَرَ من ذكره» «2» فيُحب أن يقول: الله، ولا ينسَ اللهَ بعد ذكر الله. هـ. قلت: لأن ذكر الله عنوان محبته، ومنار وصلته، وهو الباب الأعظم في الدخول إلى حضرته، ولله در القائل:
الذكر عمدة لكل سالك ... تنورت بنوره المسالك
هو المطية التي لا تنتكب ... ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب
به القلوب تطمئن في اليقين ... ما بعده على الوصالِ من معين
به بلوغ السالكين للمُنى ... به بقاء المرء مِن بعد الفنا
به إليك كل صعب يسهل ... به البعيد عن قريب يحصل
فهو أقوى سبب لديكَ ... وكلُّهُ إليك، لا عليك
فكل طاعة أتى الفتى بها ... هو أساسها، كذاك سَقفها
ووحدَه يفوق كل طاعه ... كما أتى عن صاحب الشفاعهْ
كَفى بفضله لدا البيان ... ذهابه بالسهو والنسيان
إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم ... لديك يصغرُ الفقير يا نديم
عليه دُمْ حتى إذا تجوهرا ... بسره الفؤاد كلّ ما ترى
ترى به المذكور دون ستر ... وقد علا الإدراك درك الفكر
به الحبيب في الورى تجلّى ... به السِّوى عن الحِجا تولى
به تمكن المريد في الفنا ... حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا
به رجوعه إلى العبادة ... به التصرُّف الذي في العادهْ
تالله لو جئتُ بكل قول ... ما جئتكم بما لَهُ من فضل. هـ.
__________
(1) من الآية 73 من سورة الزمر.
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 8312) للديلمى، فى الفردوس، وضعّفه، من حديث السيدة عائشة- رضي الله عنها.(4/442)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَق المُفَرِّدُونَ، قيل: مَن المفردون يا رسول الله؟ قال: المستهترون بذكر الله، يَضَعُ الذِّكرُ عنهم أثقالَهُمْ، فيَردُون يَوْمَ القيامةِ خِفَافاً» «1» وسئل صلى الله عليه وسلم: أيّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ قال: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. وقيل: فأي الصالحين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذِكْراً. ثم ذَكَرَ الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً» . فقال أبو بكر لعمرَ: يا أبا حفصٍ ذهب الذاكرون بكل خيرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل» «2» رواه أحمد والطبراني.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... الآية. قال الورتجبي: صلوات الله: اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكة مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي: قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء: أعظم عطية للمؤمن في الجنة: سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال القشيري: التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية: خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
ولمّا أمر بذكره وتنزيهه، ذكر شهادته لرسوله، ليدلّ على اقترانها فى صحة الإيمان وكمال الذكر، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
__________
(1) أخرجه بلفظه الترمذي فى: (الدعوات، باب: فى العفو والعافية 5/ 539، ح: 3596) ، وبنحوه أخرجه مسلم فى (الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى 4/ 2062، ح 2676) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
والمستهترون بذكر الله: المولعون بالذكر: المداومون عليه، لا يبالون ما قيل فيهم، ولا ما فعل بهم.
(2) أخرجه أحمد (3/ 438) ، وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (10/ 74) : رواه أحمد والطبراني، وفيه: زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثّق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات.(4/443)
قلت: «شاهداً» : حال مقدرة، كمررت برجل معه صقر صائداً به غداً.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعث إليهم، على تصديقهم وتكذيبهم، أي: مقبولاً قولك عند الله، لهم وعليهم، كما يُقبل قول الشاهد العدل في الحكْم، وَمُبَشِّراً للمؤمنين بالنعيم المقيم، وَنَذِيراً للكافرين بالعذاب الأليم، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار بربوبيته، وتوحيده، وما يجب الإيمان به، من صفاته، ووعده، ووعيده، بِإِذْنِهِ بأمره، أو: بتيسيره. وقيّد به الدعوى إيذاناً بأنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونةٍ من جناب قدسه، وَسِراجاً مُنِيراً يُستضاء به في ظلمة الجهالة، وتُقتبس من نوره أنوار الهداية، قد جلى به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، ويهتدى به. وقيل: المراد به القرآن، فيكون التقدير: وذا سراج. ووُصف بالإنارة لأن من السُرج مَن لا يضيء جدًّا إذا قلّ سَلِيطُه، - أي: زيته- ورقَّت فتيلته. أو: شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً برحمتنا، ونذيراً بنقمتنا، وداعياً إلى عبادتنا، وسراجاً تُنير الطريقَ إلى حضرتنا.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً ثواباً عظيماً، يربو على ثواب سائر الأمم. وفي الحديث:
«مثَلُكمْ ومَثَلُ اليهود والنصارى كمَن استأجر عُمالاً إلى آخر اليوم، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى الظهر، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى آخر النهار، فاستحققتم أجر الفريقين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقلّ أجراً، فقال لهم الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء» «1» وفي رواية: «أنهم عملوا إلى الظهر، أو العصر، وقالوا: لا حاجة لنا بأجرك، فبطل أجر الفريقين» . وهذا في حق مَن أدرك الإسلام منهم ولم يؤمن. والحديث في الصحيح. نقلته بالمعنى.
قال البيضاوي: ولعله معطوف على محذوف، أي: فراقب أمتك وبشِّرهم. هـ.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي: دُم على مخالفتهم، وهو تهييج وتنفير عن حالهم، وَدَعْ أَذاهُمْ أي: لا تلتفت إليه، ولا تحتفل بشأنه. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، أي: اجعل إيذائهم إياك في جانب، وأنت في جانب، ولا تُبال بهم، ولا تخفْ من إيذائهم. أو: إلى المفعول، أي: دع إيذاءك إياهم مجازاةً ومؤاخذة على كفرهم. ولذلك قيل: إنه منسوخ. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا عليه،
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، ح 2268) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه. [.....](4/444)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
ومفوضاً إليه الأمر في الأحوال كلها، ولعله تعالى لَمّا وصفه بخمسة أوصاف، قابل كُلاًّ منها بخطاب مناسب له، فقابل الشاهد بقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لأنه يكون شاهدا على أمته، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير، وقابل المبشِّر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين لأنه إذا أعرض عنهم أقبل بكليته على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة، وقابل النذير بدَعْ أذاهم لأنه إذا ترك أذاهم في العاجل، والأذى له، لا بد له من عقاب عاجل أو آجل، كانوا منذرين به في المستقبل. وقابل الداعي إلى الله بأمره بالتوكل عليه لأن مَن توكل على الله يسَّر عليه كل عسير، فتسهل الدعوة، ويتيسر أمرها، وقابل السراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً لأن مَن أناره الله وجعله بُرهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يَكتفي به عن جميع خلقه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الورتجبي: إنا أرسلناك بالحقيقة شاهداً، أنت شاهِدُنا، شاهدناك وشهدت علينا، فألبستك أنوار ربوبيتي، فمَن شهدك بالحقيقة فقد شَهِدنَا. قُلتُ: لأن نوره صلى الله عليه وسلم أول نور ظهر من نور الحق، فمَن شَهِدَه شَهِدَ الحق.
ثم قال: ومَن نظر إليك فقد نظر إلينا. قال صلى الله عليه وسلم: «من عرفنى فقد عرف الحق، ومَن رآني فقد رأى الحق» . ثم قال:
وَسِراجاً مُنِيراً، أسرجت نورك من نوري، فتُنور بنوري عيون عبادي المؤمنين، فيأتون إليّ بنورك. ثم أمره بأن يُبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته، بلا حجاب ولا عتاب. هـ.
قال القشيري: يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله بدوام الانقطاع إليه، وكفى بالله وكيلا. هـ.
ثم ذكر حكم المطلقة قبل الدخول، وأنه لا عدّة عليها. مناسب لقوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ ... إلخ، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)(4/445)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي: تزوجتموهن. والنكاح في الأصل: الوطء، من: تناكحت الأشجار: إذا التصق بعضها ببعض. وتسمية العقد نكاحاً مجاز لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثماً لأنها سببه، ولم يَرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد لأنه لو استعمل في الوطء لكان تصريحاً به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي، والإتيان، تعليماً للأدب والحياء. وفي تخصيص المؤمنات، مع أن الكتابيات تُساوي المؤمنات في هذا الحُكُم، إشارة إلى أن الأولَى للمؤمن أن ينكح المؤمنة، تخييراً للنطفة. والمعنى: إذا تزوجتم النساء ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن. والخلوة الصحيحة كالمسّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي: تستوفون عددها، وتَعُدونها عليهن، من: عددته الدراهم فاعتدها، كقوله: كِلته الطعام فاكتاله. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العِدَّة تجب على النساء لحق الأزواج، كما يشعر به، فَما لَكُمْ. والإتيان ب «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخي الطلاق [ربما يمكن الإصابة فتجب العدة] «1» .
فَمَتِّعُوهُنَّ بشيء من المال، وهذا في المفوض لها قبل الفرض، وأما المفروض لها، أو المسمى صداقها، فتأخذ نصف مَهرها، ولا متعة لها على المشهور. وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي: لا تمسكوهنّ ضراراً، وأخرجوهن من بيوتكم إذ لا عدة لكم عليهن. قال القشيري: (سراحاً جميلاً) لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئاً، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال. هـ.
الإشارة: أيها المريدون إذا طلقتم نفوسكم، وغبتم عنها بخمرةٍ قوية، من قَبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة، فمتعوها بالشهود، وسرحوا فكرتها في ذات المعبود، سَراحاً جميلاً، لا حجر فيه ولا حصر، فمن رزقه الله الغيبة عن نفسه، حتى غاب عن حظوظها وهواها، فقد كفاه الله قتالها، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب، لكنه نادر، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية لأنه يكون كمن طُويت له الطُرق للحج، فلا يعرفها كما يعرفها مَن سافر فيها، وكابد مشقتها، وعرف منازلها ومياهها، ووعرها وسهلها، ومخوفها ومأمونها، وكلهم أولياء لله تعالى، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة، وقاس شدائد نفسه، وعالجها ليُعالج غيره بما يُعالج نفسه، على يد شيخ عارف بالطريق. وبالله التوفيق.
__________
(1) العبارة كما فى البيضاوي: [وفائدة «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخى الطلاق ريثما تمكن الإصابة، كما يؤثر فى النسب يؤثر فى العدة] .(4/446)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
ثم وسّع على نبيه فى باب النكاح، فقال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن إذ المهر أجر البضع، ولذا قال الكرخي- من الحنفية-: إن النكاح بلفظ الإجارة جائز، والجواب: أن التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة، وبينهما منافاة، وإيتاؤها: إعطاؤها عاجلاً، أو فرضها في المفوض، وتسميته في المسمى. والمراد بالأزواج المحلّلة له- عليه الصلاة والسلام-: نساؤه اللاتي في عصمته حينئذ، كعائشة وغيرها، وكان قد أعطاهن مهورهن، أو: جميع النساء اللاتي يريدُ أن يتزوجهن، فأباح له جميع النساء.
وهذا أوسع.
وَأحللنا لك ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من السّراري مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ من الغنائم، وهي صفية، أعتقها وتزوجها، وَبَناتِ عَمِّكَ، وَبَناتِ عَمَّاتِكَ، وَبَناتِ خالِكَ، وَبَناتِ خالاتِكَ، يعني قرابتك، التي من جهة أبيك، ومن جهة أمك. وكان له- عليه الصلاة والسلام- أعمام وعمات، إخوة لأبيه، ولم يكن لأمه صلى الله عليه وسلم أخ ولا أخت، فإنما يعني بخاله وخالته: عشيرة أمه، وهم بنو زهرة، ولذلك كانوا يقولون: نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا: المراد بقوله: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ مَن كان في عصمته، فهذا عطف عليهن، وإباحة لأن يتزوج قرابته، زيادة على مَن كان في عصمته، وإذا قلنا: المراد: جميع النساء، فهذا تحديد لهن، على وجه التشريف، بعد دخولهن في العموم. وقوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، قيد فى حلّية قرابته- عليه الصلاة والسلام-. قالت أم(4/447)
هانئ: خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرتُ إليه، فعَذَرَني، فأنزل الله هذه الآية، فلم أَحِلَ له لأني لم أُهاجر معه، كنت من الطُلَقَاءِ «1» .
و «مع» هنا: ليست للاقتران، بل لوجود الهجرة فقط، كقوله: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
«2» .
وَأحللنا لك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ من غير مَهر ولا عقد، فهو منصوب بفعل يُفسره ما قبله، أو: عطف على ما سبقه، ولا يدفعه أن «التي» للاستقبال لأن المعنى بالإحلال: الإعلام بالحِلّ، أي:
أعلمناك حِلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها، ولا تطلب مهراً إن اتفق، ولذلك نكّرها. واختلف في اتفاق ذلك، والقائل به ذكر أربعاً: ميمونة بنت الحارث، حين جاءها الخاطب، قالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها. وزينب بنت خزيمة الأنصارية، أم المساكين، وتوفيت فى حياته صلى الله عليه وسلم، وأم شريك بنت جابر الأسدية، وقيل: أم شريك العامرية، قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك. ذكره ابن عبد البر. وخولة بنت حكيم السُلَمية. ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن. قال أبو نعيم:
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. قال السهيلي: فدلّ أنهن كن غير واحدة. والله أعلم. هـ. وقال ابن عباس: هو بيان حكم في المستقبل، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة، فانظره «3» .
وقرأ الحسن بفتح «أن» على حذف لام التعليل. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير «إن» أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، أي: طلب نكاحها والرغبة فيها. وقيل: نكح واستنكح بمعنى واحد.
والشرط الثاني تقييد للأول، كأنه قال: أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، وإرادته هي:
قبول [الهبة] «4» .
جعلنا ذلك خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، بل يجب عليهم المهر، تسمية أو فرضاً. وفيه إيذان بأنه مما خصّ به- عليه الصلاة والسلام- لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة. قال ابن جزي: وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص المخاطب وحده. وقيل: إن «خالصة» يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير- سورة الأحزاب 5/ 331، ح 3214) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 420) ، والبيهقي فى السنن (7/ 54) وابن جرير فى التفسير (22/ 20) والطبراني فى الكبير (24/ 405 ح 985) وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) من الآية 44 من سورة النمل.
(3) انظر: تفسير القرطبي (6/ 5443) والبحر المحيط (7/ 233) .
(4) فى الأصول: الهدية.(4/448)
صلى الله عليه وسلم لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة، وأبيح له- عليه الصلاة والسلام- أكثر من ذلك. ومذهب مالك:
أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد، خلافاً لأبي حنيفة. هـ. قلت: إن قرنه ذكر الصداق جاز، كما في المختصر.
و (خالصة) : مصدر مؤكد، أي: خلُص إحلالها، أو: إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك. أو:
حال من الضمير في (وهبت) ، أو: صفة لمصدر محذوف، أي: هبة خالصة لك.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي: ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم، أو:
ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق، كالنفقة وحسن المعاشرة، أو: ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع، أو: ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء وغيره من وجوه الملك، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به، مع حلية الوطء، ولو تعددن. وإنما وسَّعنا عليك في أمر النساء لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ضيق، وهو راجع لقوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
والجملة من قوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا.. الخ: اعتراضية للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة، والعكس أخرى، كنكاح الكتابية والأَمة، فتحرمان عليه صلى الله عليه وسلم دون أُمته. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً بالتوسعة على عباده، أو: غفوراً لما يُعسر التجرُّد عنه، رحيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
الإشارة: قد وسَّع الله على خواصه في باب النكاح، وأمدّهم في ذلك بالقوة، وأعطاهم من الباءة ما لم يُعط غيرهم، تشريفاً وترغيباً في هذا الأمر، لإبقاء النسل الطيب، ولِما فيه من التوسعة في المعرفة، وحسن الخلق، وتعلم السياسة، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا يُنافي الزهد، ولا يقدح في كمال المعرفة، بل يزيد فيها. قال الإمام ابن منصور المقدسي، في شرح منازل السائرين- في باب الزهد-: ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي: المال، والرئاسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله. وليس المراد رفضها عن الملِك، فقد كان داود وسليمان- عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المُلك والنساء والمِلك ما لهما. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب- كرّم الله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان- رضوان الله عليهم- من الزهاد، مع مالهم من الأموال- أي: والنساء- فكان لعلىّ رضي الله عنه أربع حرائر، وسبعة عشر سرية، ولعبد الرحمن بن عوف والزبير أربع أربع، ولعثمان كذلك. وتزوج المغيرة بن شعبة تسعاً وتسعين امرأة. ثم قال: وكان الحسن بن علىّ- رضى الله عنهما- من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن. ثم قال: ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن وغيره، قال: ليس الزهد في الدنيا(4/449)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تُصبك. انتهى المقصود منه.
ثم وسّع على نبيه فى القسمة، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
يقول الحق جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي: تؤخرها في القسمة، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي: تضمها إليك، والمعنى: تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها. قال أبو رزين: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن، فقلن: يا نبيَّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا «1» ، فكان ممن أرجى منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقيم لهن ما يشاء، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان يقسم لهن بالسوية «2» ، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعاً وأرجى خمساً. وقيل: إنه كان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين الجميع في القسم، إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة، حين همّ بطلاقها، وقالت: لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك. والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه، أخذاً منه بأفضل الأخلاق، مع أن الله خيّره. وقيل: (تُرجي من تشاء) أي: تطلق من تشاء منهن، وتُمسك من تشاء. وقيل: تترك تزوج من شئت من أمتك، وتتزوج من شئت.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي: ومَن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء، فلا ضيق عليك في ذلك، أي: ليس إذا عزلتها من القسمة، أو من العصمة، لم يجز لك ردّها إلى نفسك، بل افعل ما شئت، فلا حرج عليك. ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي: هو أقرب إلى قرة أعينهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعاً لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون.
__________
(1) أخرجه بمعناه الطبري (22/ 26) عن أبى رزين. وانظر أسباب النزول للواحدى (ص: 371) .
(2) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص 135 ح 232) لابن أبى شيبة، وعبد الرزّاق، عن أبى رزين، وهذا مرسل.(4/450)
قلت: والذي يظهر أن من أرجاه صلى الله عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي، ومَن ضمه كذلك إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله رضين بذلك، وقرّت أعينهن، وزال تغايرهن، وأما مطلق التفويض إليه فقط، فلا يقطع الغيرة في العادة، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و «كلهن» :
تأكيد ضمير «يَرْضَيْن» .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء، والميل إلى بعضهن، أو: يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهن بما دبَّر الله، وفوّض إلى رسوله، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور، حَلِيماً لا يُعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر.
الإشارة: إذا تحقق فناء العبد وزواله، وتكملت ولايته، كان مفوضاً إليه في الأمور، يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لم يبقَ عليه تحجير، ولم يتوجه إليه عتاب لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له، كتب له عقد التحرير. وشاهده حديث: «إِذَا أحَبَّ الله عَبْداً لمْ يضُره ذَنْبٌ» «1» ، وحديث البخاري: «لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرتُ لَكم» «2» ، وسببه معلوم.
وفي القوت عن زيد بن أرقم: إن الله عزّ وجل ليُحب العبد، حتى يبلغ من حبه أن يقول له: اصنع ما شئت، فقد غفرتُ لك. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: يبلغ الولي مبلغا يقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «3» . وهذا وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه،
__________
(1) ذكره الغزالي فى الإحياء (كتاب المحبة 4/ 345) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال العراقي فى المغني: ذكره صاحب الفردوس- الديلمي- ولم يخرجه ولده فى مسنده. هـ. والحديث أخرجه- مطولا- القشيري فى الرسالة (باب التوبة/ 76) عن شيخه «ابن فورك» بسنده عن أنس. وزاد الزبيدي فى إتحاف السادة المتقين (9/ 609) عز والحديث لابن أبى الدنيا، وابن النجار فى تاريخه.
قلت: معناه: أنه إذا أحب الله العبد تاب عليه قبل الموت، فلم تضره الذنوب الماضية، ولو كثرت، كما لا يضر الكفر الماضي قبل الإسلام.
(2) جزء من حديث، أخرجه بطوله البخاري فى (الجهاد، باب الجاسوس، ح 3007) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم 4/ 1941- 1942، ح 2494) عن سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وسبب الحديث: أن حاطب بن أبي بلتعة، أرسل رسالة مع امرأة إلى قريش، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أتى برسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يا خاطب! ما هذا؟» قال: لا تعجل علىّ يا رسول الله! إني كنت امرأ ملصقا فى قريش، وكان ممن كان معك من المهاجرين، لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم، فأحببت إذا فاتنى ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا، يحمون بها قرابتى، ولم أفعل كفرا ولا ارتدادا عن دينى، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق» فقال عمر: دعني، يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: «إنه قد شهد بدرا..» الحديث.
(3) الآية 39 من سورة «ص» .(4/451)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
من أجل الحفظة. وقال أيضا رضي الله عنه في بعض أدعيته: وأدرج أسمائي تحت أسمائك، وصفاتي تحت صفاتك، وأفعالي تحت أفعالك، درج السلامة، وإسقاط الملامة، وتنزُل الكرامة، وظهور الإمامة. هـ.
فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، لم يبقَ للعبد وجود أصلاً، وكان الفعل كله بالله، ومن الله، وإلى الله. وهذا مقام عزيز، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء في الله، والبقاء بالله، وقد غطى وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فغيَّبهم عن اسمهم ورسمهم، فهم بالله فيما يفعلون ويذرُون. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
يقول الحق جلّ جلاله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي: من بعد التسع، اللاتي خيرتهن فاخترنك لأن التسع نِصابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الأربع نِصاب أمته. لَمّا اخترن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة قصره الله عليهن، وقيل: هي منسوخة كما يأتي. أو: لا يحلّ لك نساء الأجانب، وإنما لك نساء قرابتك، كبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، فيحل لك منهن ما شئت، ولو ثلاثمائة، أو أكثر. أو: لا يحل لك النساء من غير المسلمات، كالكتابيات والمشركات. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بالطلاق. والمعنى: ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً، بكلهن أو بعضهن، كرامةً لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر رسوله صلى الله عليه وسلم على التسع اللاتي مات عنهن. وقال أبو هريرة وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بالأزواج، يعطي امرأة هذا أياماً ويأخذ امرأته، فأنزل الله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تُعطي بعض أزواجك وتأخذ بعض أزواجهم، إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فلا بأس أن تبادل بجاريتك. و «مِن» : لتأكيد النفي ليفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي: حُسْن الأزواج المتبدلة. وقيل: هي أسماء بنت عُميْس، امرأة جعفر بن أبي طالب، فإنها ممن أعجبه حسنهنّ.
وعن عائشة وأم سلمة، (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أَحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء) «1» ، يعني أن الآية نُسخت إما بالسُنَّة، أو: بقوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. وترتيب النزول ليس على ترتيب
__________
(1) أخرجه، عن السيدة عائشة، رضى الله عنها، أحمد فى المسند (4/ 41) والترمذي فى (التفسير- سورة الأحزاب 5/ 332، ح 3216) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي فى (النكاح، باب ما افترض الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وحرمه على خلقه، 6/ 56) والدارمي فى (النكاح، باب قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ 2/ 205، ح 2241) وصححه الحاكم (2/ 437) ووافقه الذهبي.(4/452)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
المصحف. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج، وقيل: منقطع، أي: لكن ما ملكت يمينك، فيحل لك ما شئت، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً حافظاً ومُطلعاً. وهو تحذير عن مجاوزة حدوده.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن نكح أبكار الحقائق العرفانية ودخل بأسرار العلوم اللدنية، لا يحل له أن ينكح ثيبات نساء العلوم الرسمية، ولا أن يتبدل بما عنده من المواهب الربانية، بغيرها من العلوم اللسانية، ولو أعجبك حُسنها ورونقها- على الفرض والتقدير- إذ التنزُّل إليها بطالة عند المحققين، إلا ما كنت تملكه قبل علم الحقيقة، فلا بأس أن تنزل إلى تعليمه وإفادته، إن توسعت في علم الباطن، وصرت من الأغنياء الكبار، تُنفق كيف تشاء، فلا يضرك حينئذ التنزُّل إلى علم الظاهر. وقد كان شيخ شيوخنا سيدي يوسف الفاسى رضي الله عنه عنده مجلسان مجلس لأهل الظاهر، ومجلس لأهل الباطن. فإن كان في مجلس الظاهر، وجاء إليه أحد من الفقراء، يقول: اذهب حتى نأتي إلى مجلسكم، وإن كان في مجلس أهل الباطن، وجاء إليه أحد من أهل الظاهر، قال: اذهب حتى نأتي إليكم. وكان له هذا بعد الرسوخ في علم الحقيقة. وبالله التوفيق.
ولمّا أو لم- عليه الصلاة والسلام- على زينب، جلس قوم فى بيته يتحدثون، فأنزل الله تعالى فى شأنهم:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وكانت تسعاً، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي: إلا وقت أن يُؤذن لكم، أو: إلا مأذوناً لكم، فجملة: (إلا أن يُؤذن) : في موضع الحال، أو الظرف. و (غير ناظرين) : حال من (لا تدخلوا) ، وقع الاستثناء على الوقت والحال، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت(4/453)
النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غَيْرَ ناظِرِينَ أي: منتظرين إِناهُ أي: إدراكه ونضجه. قال ابن عزيز: إِناهُ: بلوغ وقته، يقال: أنِيَ يَأنَى، وآن يئين: إذا شهى، بمنزلة: حان يحين. هـ. وقال الهروي: أي:
غير ناظرين نضجه وبلوغ وقته، مكسور الهمزة مقصور، فإذا فتحت مددت، فقلت: الإناء، أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أو لّم على زينب بتمر وسويق، وذبح شاةً، وأمر أنساً أن يدعوا الناس، فترادفوا أفواجاً، يأكل كل فوج، فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال: يا رسول الله دعوتُ حتى ما أجد أحداً أدعوه. فقال: «أرفعوا طعامكم» وتفرّق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا، فطاف بالحجرات، وسلّم عليهن، ودعون له، ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون. وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متولياً خرجوا، فنزلت الآية، وهي آية الحجاب. قال أنس: فضرب بيني وبينه الحجاب «1» .
قال تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا: تفرقوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي: ولا تدخلوها حال كونكم مستأنسين لحديث، أو: غير ناظرين ولا مستأنسين، فهو منصوب، أو مجرور، عطف على «ناظرين» ، نُهوا أن يُطيلوا الجلوس في بيته صلى الله عليه وسلم مستأنسين بعضهم ببعض، لأجل حديث يتحدثون به، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، يعني أن إخراجكم حق، ما ينبغي أن يُستحى منه، ولا يُترك بيانه، حياءً، أو: لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يَشرع ذلك.
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي: نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة البيوت عليهن لأن فيها نساءه، مَتاعاً عارية أو حاجة، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ستر، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من خواطر الشيطان وعوارض الفتن. وكانت النساء قبل هذه الآية يبرزن للرجال، وكان عمر رضي الله عنه يُحب ضَرْبَ الحجاب عليهن، ويودّ أن ينزلَ فيه، وقال: يا رسول الله: يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت «2» .
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام، كان يَطعمَ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ يدَ عائشة، فكَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت الآية «3» . والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الأحزاب، ح 4793) وفى (الاستئذان) ، ومسلم فى (النكاح، باب زواج زينب بنت جحش 2/ 1052، ح 95 من كتاب النكاح) من حديث سيدنا أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ح 4483) . عن أنس رضي الله عنه.
(3) أخرجه الطبري فى التفسير (22/ 39) والواحدي فى أسباب النزول (ص 374) عن مجاهد، مرسلا. [.....](4/454)
الإشارة: العلماء ومشايخ التربية ورثة الأنبياء، فإذا دَعوا إلى طعام فلا يدخل أحد حتى يُؤذن له، فإذا طعموا فلينتشروا، وإذا سأل أحدٌ حاجته من أهل دار الشيخ فليسأل من وراء الباب، وليتنحَّ عن مقابلة الباب لئلا يتكشف على عِرض شيخه، فيسيء الأدب معه، وهو سبب الخسران.
ثم نهى عن تزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
وَما كانَ لَكُمْ ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: ما صحَّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كفر، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً تعظيما لحرمته صلى الله عليه وسلم، ولبقاء عصمته عليهن، ولذلك وجبت نفقتهن بعده، لقوله: «ما بقي بعد نفقة أهلي صدقة» . وكذا السكنى كما قد علم، وبه قال ابن العربي.
وعَطفُ (ولا أن تنكحوا) على (أن تؤذوا) من عطف الخاص على العام إذ تزوج نسائه من أعظم الإيذاء. إِنَّ ذلِكُمْ أي: الإيذاء أو التزوُّج كانَ عِنْدَ اللَّهِ ذنباً عَظِيماً.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نكاح أزواجه، أَوْ تُخْفُوهُ في أنفسكم، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، فيُعاقبكم عليه. رُوي أن رجلاً من الصحابة قال: لئن قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لأنكحنَّ عائشة، فنزلت، فَحُرّمن «1» . وفيه نزلت: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي: من نكاح عائشة، أَوْ تُخْفُوهُ ... إلخ. وكان- عليه الصلاة والسلام- مَلَك قتيبة بنت الأشعث بن قيس، ولم يبنِ بها، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، بعد ذلك، فهمَّ به أبو بكر، وشقّ عليه، حتى قال له عمر: يا خليفة رسول الله، ليست من نسائه، ولم يُخيرها، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة، حين ارتدت مع قومها، فسكن أبو بكر. وقال الزهري: إن العالية بنت ظبيان، التي طلق النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له قبل أن يحرم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم «2» .
__________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 374) بدون سند. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 404) لابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البيهقي فى الكبرى (7/ 73) عن يونس، عن ابن شهاب، بلاغا.(4/455)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
الإشارة: مذهب الصوفية تشديد الأدب مع الأشياخ، فإذا مات الشيخ، أو طلَّق امرأة بعد الدخول، فلا يتزوجها أحد من تلامذته أبداً، تعظيماً وأدباً مع الشيخ. وأما تزوج بنت الشيخ فلا بأس، إن قدر على القيام بالأدب معها، والصبر على أذاها، وإلا فالبُعد أحسن وأسلم، والله تعالى أعلم.
قال القشيري: قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً.... الآية: حِفْظُ القلبِ مع الله تعالى، ومراعاةُ الأمر- بينه وبين الله على الصِّحَّةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ، من أهل الحضور. هـ.
ثم رخّص للأقارب أن يدخلوا على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
يقول الحق جلّ جلاله: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أن يدخلوا عليهن بلا حجاب. قال ابن عباس: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: ونحن أيضاً نُكلمهن من وراء حجاب، فنزلت: لا جُناحَ ... الخ، أي: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء. ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد جاء تسمية العم أباً في قوله تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ.. «1» وإسماعيل عم يعقوب، فسمّاه أباً. وذكر القاضي إسماعيل، عن الحسن والحسين: أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل، أي: لأنهما ولدا البعل. قال القاضي: وأحسبُ أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يُذكروا في الآية. وقال في سورة النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلى قوله: ... أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ «2» ، فذهب ابن عباس إلى ما في سورة النور، وذهب الحسن والحسين إلى ما في هذه السورة. هـ.
__________
(1) الآية 133 من سورة البقرة.
(2) الآية 31 من سورة النور.(4/456)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
وَلا نِسائِهِنَّ أي: نساء المؤمنات، فلا حجاب عليهن، وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء.
وقيل: من الإماء خاصة، وأما العبيد فهم كالأجانب. وهو المشهور، وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أُمِرتُن به من الحجاب، وما نزل فيه الوحي من الاستتار، واحتطن في ذلك. ونقل الكلام فيه من الغيبة إلى الخطاب لشدة التهديد، ولذا قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً عالماً يعلم خطرات القلوب وهواجسها، فيعاتب عليها.
الإشارة: ما قيل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يُقال في نساء المشايخ والعلماء، فتحتجبن من جميع الخلق، إلا من محارمهن، ولا يمنعهن من إدخال محارمهن عليهن إلا جامد أو جاهل، ولا ينبغي لأحد أن يمنع زوجه من لقاء محرمها والدخول عليها إلا لفساد بيّن. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وحضّ عليها، بعد أن أمر بتعظيمه واحترامه، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.
وقال صاحب المُغني: الصواب عندي: أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف، ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى:
الرحمة، وإلى الملائكة: الاستغفار، وإلى الآدميين: دعاء. واختاره السُّهيلي قبله. والمراد بالرحمة منه تعالى غايتها، وهو إفاضة الخير والإحسان، لا رقة القلب، الذي هو معنى الرحمة حقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي: قولوا: اللهم صلِّ على محمد- أو: صلى الله على محمد. وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي: قولوا: اللهم سلّم على محمد، أو: صلّ وسلِّم على محمد، أو: انقادوا لأمره وحكمه، انقياداً كليًّا.
وعن كعب بن عُجْرَة: قلنا: يا رَسُولَ الله، أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، إنك حميد مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما بَارَكْت على إبراهيمَ، إنك حميد مجيد» «1» . ومعرفتهم السلام من التشهُّد. والصلاة على غير الأنبياء
__________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة الأحزاب، باب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ح 4797) .(4/457)
بالتبع جائزة. وأما بالاستقلال فمكروه، وهو من شعار الروافض. هـ. قال الكواشي: رُوي أنه قيل يا رسول الله: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. الآية؟ فقال: هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم، إن الله وكَل بي ملكين، فلا أُذكر عند عبدٍ مسلم، فيُصلي عليّ، إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك.
وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملّكين: آمين. ولا أُذكر عند عبد مسلم، فلا يُصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان:
لا غفر الله لك. وقال الله جوابا لذينك الملكين: آمين «1» . هـ.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. فمنهم مَن أوجبها عند ذكره كلما ذكر، وعليه الجمهور، وهو الاحتياط للحديث المتقدم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ دَخَلَ النار» . ومنهم مَن أوجبها في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كتشميت العاطس وآية السجدة. ومنهم مَن أوجبها مرة في العمر. قالوا: وكذلك الخلاف في إظهار الشهادتين، وأما ذكرها في الصلاة فليست شرطاً عند أبي حنيفة ومالك، خلافاً للشافعي، والاحتياط: الإكثار منها بغير حصر، ولا يغفل عنها إلا مَن لا خير فيه. واختلف هل كانت الأمم الماضية متعبدة بالصلاة على أنبيائهم. قال القسطلاني: إنه لم ينقل إلينا ذلك، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع. هـ.
الإشارة: اعلم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سُلم ومعراج الوصول إلى الله لأن تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم توجب محبته، ومحبته- عليه الصلاة والسلام- توجب محبة الله تعالى، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته، بواسطة وبغيرها. وأيضا: الرسول صلى الله عليه وسلم وزير مقرب، ومَن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير، ويتقرّب إليه، حتى يُدخله على الملِك. فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الأعظم، وبابه الأكرم، فمَن رام الدخول من غير بابه طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول ابن وفا:
وأنتَ بابُ الله، أيُّ امرئ ... وفاه من غَيْرِكَ لاَ يدْخُلُ.
وقال الشيخ الجزولي رضي الله عنه في دلائل الخيرات: وهي من أهم المهمات لمَن يريد القرب من رب الأرباب.
وقال شارحه: ووجه أهميتها من وجوه، منها: ما فيها من التوسُّل إلى الله سبحانه بحبيبه ومصطفاه. وقد قال تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «2» ، ولا وسيلة إليه أقرب، ولا أعظم، من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) قال الهيثمي فى المجمع (7/ 93) : رواه الطبراني، وفيه الحكم بن عبد الله بن خطاف، وهو كذّاب.
(2) من الآية 35 من سورة المائدة.(4/458)
ومنها: أن الله تعالى أمر بها، وحضَّنا عليها، تشريفاً له وتكريماً، وتفضيلاً لجلاله، ووعد مَن استعملها حُسن المآب، وجزيل الثواب، فهي من أنجح الأعمال، وأرجح الأقوال، وأزكى الأحوال، وأحظى القربات، وأعم البركات.
وبها يتوصل إلى رضا الرحمن، وتنال السعادة والرضوان، وتجاب الدعوات، ويرتقي إلى أرفع الدرجات. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى أتريدُ أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك، ومن وسواس قلبك إلى قلبك، ومن روحك إلى بدنك، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا رب، قال: فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم محبوب لله عزّ وجل، عظيم القدر عنده، وقد صلّى عليه هو وملائكتُه، فوجبت محبة المحبوب، والتقرُّب إلى الله تعالى بمحبته، وتعظيمه، والاشتغال بحقه، والصلاة عليه، والاقتداء بصلاته، وصلاة ملائكته عليه. قلت: وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السلام، بأمر الملائكة بالسجود له لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف. فتشريف يصدر عنه مع ملائكة أبلغ من تشريف تختص به الملائكة.
ومنها: ما ورد في فضلها، ووعَدَ عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر، وفوز مستعملها برضا الله، وقضاء حوائج آخرته ودنياه.
ومنها: ما فيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمور، بشكره، وما من نعمة لله علينا، سابقة ولا لاحقة من نعمة الإيجاد والإمداد، في الدنيا والآخرة، إِلا وهو السبب في وصولها إلينا، وإجرائها علينا، فوجب حقه علينا، ووجب علينا في شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه، مع دخول كل نفس وخروجه.
ومنها: ما فيها من القيام برسم العبودية، بالرجوع لِما يقتضي الأصلُ نفيه، فهو أبلغ في الامتثال، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل عمل. والذي يقتضي الأصل نفيه، هو كون العبد يتقرب إلى الله بالاشتغال بحق غيره لأن قولنا «اللهم صَلِّ على محمد» هو الاشتغال بحق محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل التعبدات: ألا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه. ولكن لمّا كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من الله تعالى، كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال الأمر، فهي بمثابة أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، فكان شرفهم في امتثال أمر الله، وإهانة إبليس في مخالفة أمره سبحانه.
ومنها: ما جُرب من تأثيرها، والنفع بها في التنوير ورفع الهمة، حتى قيل: إنها تكفي عن الشيخ في الطريق، وتقوم مقامه، حسبما نقله الشيخ السنوسي، والشيخ زروق، وغيرهما.(4/459)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
ومنها: ما فيها من سير الاعتدال، الجامع لكمال العبد وتكميله، ففي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الله ورسوله، ولا كذلك عكسه، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف، وتُكسب نورانية تحرق الأوصاف، وتثير وهجاً وحرارة في الطباع، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذهب وهَج الطِّباع، وتقوي النفوس لأنها كالماء البارد، فكانت تقوم مقام شيخ التربية. انتهى كلامه.
قلت: والحق الذي لا غُبار عليه: إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها، تدلّ صاحبها على مَن يأخذ بيده، وتُوصله إلى شيخ التربية، الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان صادق الطلب، وأما كونها تقوم مقام الشيخ في دخول مقام الفناء والبقاء، حتى تعتدل حقيقته وشريعته فلا إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناهٍ من غيره، يكون عالماً بدسائس النفوس وخِدعها، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- إن لم يظفر بالشيخ- الفناء في الصفات، وينال مقام الصلاح الأكبر، ويظهر له كرامات وخوارق، ويكون من أرباب الأحوال، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته.
هذا ما ذقناه، وشهدناه، وسمعناه من أشياخنا، والطريق التي أدركناهم يستعملونها، وأخذناها منهم، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلاً للتربية أن يلتزم الاسم المفرد، ويفنى فيه، حتى تنهدم به عوالمه، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه، ردُّوه إلى مقام البقاء، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون صلاته عليه كاملة، يُصلي على روحه وسره بلا حجاب، ويشاهده في كل ساعة كما يشاهدونه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أهل الغفلة والبعد، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع. وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى والمشركون. فقالت اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «1» ، إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «2»
__________
(1) كما ذكرت الآية 64 من سورة المائدة.
(2) كما ذكرت الآية 181 من سورة آل عمران(4/460)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
وقالت النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» ، إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «2» . وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. وقيل: يؤذونه: يُلحدون في أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول الله، حين شُج وجهه، وكُسرت رباعيتُه، وقيل له: هو ساحر وشاعر ومجنون. أو: بترك سُنَّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسولَ الله فقط بالتنقيص، أو بالتعرُّض لنسائه. وذكرُ اسم الله للتشريف. لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: أبعدهم من رحمته في الدارين وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يُهينهم ويُخزيهم في النار.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية يستحقون بها الإيذاء، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً كذباً وَإِثْماً مُبِيناً ظاهراً، وإنما أطلق في إيذاء الله ورسوله، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق، كالحدّ والتعزير، ومنه باطل. وقيل:
نزلت في ناس من المنافقين، كانوا يؤذون عليّا رضي الله عنه، ويُسْمِعُونه، وقيل: في زُناة المدينة، كانوا يمشون في طرق المدينة، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتتْ اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا «3» . وعن الفضيل: لا يحلّ أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق، فكيف بالمؤمنين؟. هـ.
الإشارة: إذاية الله ورسوله هي إذاية أوليائه، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني، فقال: فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه، فجعل أذاهم أذاه. هـ. ويؤيده الحديث القدسي: «مَنْ آذَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «4» ، أو كما سبحانه. وإذاية المؤمنين كثيرة، تكون باللسان وبغيره، وقد قالوا: البَر لا يؤذي الذر. ومن أركان التصوف: كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورمي الدنيا بالقفا. وبالله التوفيق.
ثم أمر بتمييز الحرائر من الإماء فى اللباس، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
__________
(1) كما ذكرت الآية 30 من سورة التوبة.
(2) كما ذكرت الآية 73 من سورة المائدة.
(3) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص 377) والبغوي فى التفسير (6/ 376) عن الضحاك، والسدى، والكلبي.
(4) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب: التواضع، ح 6502) . من حديث أبى هريرة بلفظ: «مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب..»
الحديث وأخرجه الإمام أحمد فى المسند (6/ 256) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها- بلفظ: «من أذل لى وليّا فقد استحل محاربتى ... » الحديث.(4/461)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي: يُرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوهَهن. والجلباب: كل ما يستر الكل، مثل الملحفة، والمعنى: قل للحرائر يُرخين أرديتهن وملاحفَهن ويغَطين بها وجوههن ورؤوسهن، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. وذلِكَ أَدْنى أي: أقرب وأجدر، أَنْ يُعْرَفْنَ من الإماء فَلا يُؤْذَيْنَ، وذلك أن النساء في أول الإسلام كن على زيهنَّ في الجاهلية متبدّلات، تبرز المرأةُ في درج وخمار، لا فَصْل بين الحُرّة والأَمَة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ في النخيل والغَيْضات «1» ، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر، فربما تعرّضوا للحُرّة، يحسبونها أَمَة، فأُمِرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بلباس الجلابيب، وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهنّ طامع.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، ويُبدين عيناً واحدة. قلت: وقد مرَّ في سورة النور «2» أن الوجه والكفين ليس بعورة، إلا لخوف الفتنة، وأما الإماء فلا تسترن شيئاً إلا ما بين السرة والركبة، كالرجل. قال أنس: مرتْ جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة، وقال:
يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر، فألقِ القناع. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لِما سلف منهن من التفريط، رَحِيماً بتعليمهن آداب المكارم.
الإشارة: ينبغي لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة بزيادة الصَوْن والتحفُّظ، وقلة الخروج، فإذا لزمهنَّ الخروج، فليخرجن في لباس خشين، بحيث لا يُعرفن، أو يخرجن ليلاً. وثبت أن زوجة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتن خرْجة حين زُفت إلى زوجها، وخرجة إلى المقابر. نفعنا الله ببركاتهم. آمين.
ثم هدد المنافقين، حيث كانوا [يؤذوان] «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
__________
(1) الغيضة: هى الشجر الملتف، وجمعه: غياض وغيضات. انظر اللسان (غيض 5/ 3327) . [.....]
(2) راجع تفسير الآية 31 من سورة النور.
(3) فى الأصول الخطية [يؤذوا] ..(4/462)
قلت: (لنُغرينك) : جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و (ثم لا يُجاورنك) : عطف عليه لأنه يصح أن يُجاب به القسم لصحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يُجاورنك، ولَمَّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أُصيبوا به عطف بثم، لبُعد حاله عن حال المعطوف عليه. و (ملعونين) : نصب على الشتم أو الحال، والاستثناء دخل على الظرف والحال معاً، أي: لا يُجاورنك إلا قليلاً في اللعنة والبُعد، ولا يصح نصبه بأُخذوا لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وإيذائهم، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فجور، وهم الزناة من قوله: «فيطمع الذي في قلبه مرض» . وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ، وهم أُناس كانوا يُرجفون بأخبار السوء في المدينة، من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هُزموا وقُتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوبَ المؤمنين. يقال: رجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقته لكونه خبراً مزلزلاً غير ثابت، من:
الرجفة، وهي الزلزلة، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء، أو:
لنُسلطنك عليهم، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها في المدينة إِلَّا زمناً قَلِيلًا.
والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يُلقون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وألاّ يُساكنوك فيها إلاّ زمناً قليلاً، ريثما يرتحلون. فسمّي ذلك إغراء، وهو التحريشُ، على سبيل المجاز. حال كونهم مَلْعُونِينَ أي: لا يجاورونك إلا ملعونين، مُبعدين عن الرحمة أَيْنَما ثُقِفُوا وُجدوا، أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، والتشديد للتكثير.
سُنَّةَ اللَّهِ أي: سنَّ اللهُ ذلك سُنَّة فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ في المنافقين الذين كانوا يُنافقون الأنبياء من قبل، ويسعون في وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وُجدوا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي: لا يُبدل الله سُنَّته ولا يقدر أحد أن يبدلها، بل يُجريها مجرىً واحداً في الأمم كلهم.
قال ابن جزي: تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا، ولم ينفُذ الوعيد فيهم. ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة. وقيل: إنهم انتهوا وستروا أمرهم فكف عنهم إنفاء الوعيد. هـ.
الإشارة: منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية، ويدّعون محبة القوم، وهم يعترضون على الفقراء، ويرفعون الميزان عليهم، وهم الذين في قلوبهم مرض، أي: حيرة وضيق من غم الحجاب إذ لو ارتفع عنهم(4/463)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
الحجاب لم يعترضوا على أحد، وهم المرجفون بأهل النسبة، إذا سمعوا شيئاً يسوؤهم أفشوه، وأظهروا الفرح. لئن لم ينتهوا عن ذلك ليُسلطن الله عليهم مَن يُخرجهم من النسبة بالكلية، ثم لا يبقون فيها إلا قليلاً، ممقوتين عند أهل التحقيق، أينما وُجدوا، أُخذوا بالفعل أو بالقول فيهم. وقد ألَّف بعض الفقهاء تأليفاً في الرد على الفقراء، فسلّط الله عليه من أهانه، ووَسمَه بالبلادة والجمود، ولا زال مُهاناً أينما ذُكر، والعياذ بالله.
ولما ذكر حال المنافقين، ذكر حال المشركين، لاشتراكهم فى الكفر، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة، استعجالاً واستهزاءً، واليهود يسألون امتحاناً لأن الله تعالى أخْفى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام- أنها قريبة الوقوع، تهديداً للمستعجلين، وإسكاتاً للممْتحنين فقال: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، لم يُطلع عليها ملكاً ولا نبيًّا.
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي: شيئاً قريباً، أو: في زمان قريب، فتنصب على الظرفية، ويجوز أن يكون التذكير لأن الساعة في معنى اليوم أو الزمان.
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أبعدهم عن رحمته، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ناراً شديدة التسعير، أي: الإيقاد، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، وهذا يرد مذهبَ الجهمية في زعمهم أن النار تفنى، و (خالدين) : حال مقدَّرة من ضمير «لهم» . لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم، وَلا نَصِيراً يمنعهم ويدفع العذاب عنهم، وذلك يَوْمَ تُقَلَّبُ أو: واذكر يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تطوف من جهة إلى جهة، كما ترى البضعة «1» من اللحم تدور
__________
(1) البضعة: القطعة. انظر اللسان (بضع، 1/ 296) .(4/464)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
في القِدْرِ إذا غلت. وخصّت الوجوه لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده. أو: يكون الوجه كناية عن الجملة.
حال كونهم يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا، فنتخلص من هذا العذاب، فندّموا حيث لم ينفع الندم.
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، والمراد: رؤساء الكُفر، الذين لقنوهم الكفر، وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» بالجمع، جمع: سادة، وسادة: جمع سيد، فهو جمع الجمع، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي:
أتلفونا عن طريق الرشد. يقال: ضلّ السبيلَ وأضلّه إياه، وزيادة الألف للإطلاق. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي: مثلي ما آتيتنا منه للضلال والإضلال، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «1» كثير العدد، تكثيراً لأعداد اللاعنين، أو: العنهم المرة بعد المرة. وقرأ عاصم بالباء، أي: لعناً هو أشد اللعن وأعظمه. وهو يدلّ على تعدُّد الأجزاء والأفراد.
الإشارة: مذهب العباد والزهّاد والصالحين: جعل الساعة نُصب أعينهم، لا يغيبون عنها، فهم يجتهدون في التأهُّب لها ليلاً ونهاراً. ومذهب العارفين الموحّدين: الغيبة عنها، بالاستغراق في شهود الحق، فلا يشغلهم الحق، دنيا ولا آخرة، ولا جنة ولا نار لما دخلوا جنة المعارف، غابوا عن كل شيء، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوِّن، وجعلوا الوجود وجوداً واحداً إذ المتجلي هنا وثَم واحد. وإذا كان كُبراء الضلال يُضاعَف عذابهم، وكان كبراء الهداية يُضاعف ثوابهم، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد، فمَن دلّ على هُدىً كان له أجره وأجر مَن اتبعه إلى يَومِ القيامَةِ، ومَن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره، وكان في ميزانه كل مَن تبعه كذلك، وفي ذلك يقول القائل:
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ ... فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبي محمد «2»
ثم رجع إلى النهى عن إذاية الرسول، فقال:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
__________
(1) قرأ عاصم «كبيرا» بالباء، وقرأ الباقون «كثيرا» بالتاء، من الكثرة. انظر الإتحاف (2/ 378) .
(2) انظر ديوان البوصيرى (ص 122) ، وفيه:
والمرء فى ميراثه أتباعه ... فاقدر إذن فضل النبي مُحَمد(4/465)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى من بني إسرائيل فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يستتر لشدة حيائه، فقالوا: ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر- والأدْرَة: انتفاخ الأنثيين- أو: به عيب من برص أو غيره، فذهب يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فلجّ في أثره يقول: ثَوْبي حَجَر، ثوبي حجر! حتى نظروا إلى سوأته، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، ثلاثاً أو أربعاً «1» .
وقيل: كان أذاهم: ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال علىّ رضي الله عنه: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته. وكان أشدَّ لنا حبًّا، وألين منك، فآذوه بذلك، فأمر تعالى الملائكة فحملته، حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بمماته، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرّأ الله موسى من ذلك، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرَّخَم «2» من الطير، وإن الله جعله أصم أبكم «3» ، وقيل: إنه على سرير في كهف الجبل. وقيل: إن قارون استأجر امرأة مومسة، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله، وبرأ موسى، وأهلك قارون «4» . وقد تقدّم.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة رفيعة، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «وكان عبداً لله وجيهاً» .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يكرهه، فضلاً عما يؤذي رسوله، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً صدقاً وصواباً، أو: قاصداً إلى الحق. والسدادُ: القصدُ إلى الحق والقول بالعدل. والمراد: نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والحثُّ على أن يُسددوا قولهم في كل باب لأن حفظ اللسان، وسداد القول رأس كل خير، ولذلك قال: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي: يوفقكم لصالح الأعمال، أو: يقبل طاعتكم، ويثيبكم عليها، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي: يمحها.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الأنبياء- باب 28 ح 3404) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) الرّخم: نوع من الطير معروف، واحدته: «رخمة» ، وهو موصوف بالغدر، وقيل بالقذر. انظر النهاية (2/ 212) .
(3) أخرجه ابن جرير (22/ 52) والحاكم وصححه () ، وانظر الدر المنثور (5/ 419) .
(4) ذكره البغوي فى التفسير (6/ 379) عن أبى العالية.(4/466)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غايةُ الطُلبة من تقبل حسنَاتكم، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتي قبلها، فدلت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليها النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً، يعيش في الدنيا حميداً، وفي الآخرة سعيداً. جعلنا الله منهم، آمين.
الإشارة: في الآية تسلية لمن أوذي من الأولياء بالتأسي بالأنبياء. رُوِي أن موسى عليه السلام قال: يا رب احبس عليّ ألسنة الناس، فقال له: هذا شيء لم أصنعه لنفسي، فكيف أفعله بك. وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير: إن لم تطِبْ نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين، لم أثبتك عندي من المتواضعين. هـ.
واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه- بعد كلام-: ولكن قد تصعب التقوى على النفس لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدر عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية: الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس لإِلْفها، مستسهلة لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد: أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً. هـ.
فإذا تحققت بالتقوى، وحصّنت لسانك بالقول السديد، كنت أهلاً لحمل الأمانة، كما قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)(4/467)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً، وإلا كان خائناً. والمعنى: إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها. فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ، خلقه الله فيها، وقيل: أحياها وأعقلها، كقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «1» . ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وقد يقال: الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته، وينظر لذلك قوله: «لن يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن» .
وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي لأن الجن أيضاً مكلف، ومناسبة الآية لِمَا قبلها: أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. هـ.
وقيل: لم يقع عَرض حقيقةً، وإنما المقصود: تعظيم شأن الطاعة، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء.
والمعنى: أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذا شعور وإدراك، لأبيْن أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، مع ضعف بنيته، ورخاوة قوته، لا جرم، فإن الراعي لها، والقائم بحقوقها، بخير الدارين. هـ. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية: الاستعفاء، لا الاستكبار، أي: أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي: آدم. قيل: فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة، وقيل: جنس الإنسان، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حيث تعرض لهذا الخطر الكبير، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل، وكان صالحاً أمينا
__________
(1) الآية 11 من سورة فصلت.(4/468)
عدولاً، وإن خانها ولم يقم بها، كان ظلوماً جهولاً، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه، فالكفار خانوا أصل الأمانة، وهي الإيمان فكفروا، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة، فبعضهم أشد، وبعضهم أهون، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
ثم علل عرضها، وهو: لتقوم الحجة على عباده، فقال: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ حيث لم يقوموا بها، وخانوا فيها، فتقوم الحجة عليهم، ولا يظلم ربك أحداً. وقال أبو حيان: اللام للصيرورة والعاقبة. وقال أبو البقاء: اللام متعلق بحَمَلَها، وحينئذ تكون للعاقبة قطعاً. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، حيث حملوا الأمانة، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط، قال تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ «1» وقال:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» ولذلك قال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، فالغفران لمن لَحِقه تفريط وتقصير، والرحمة لمَن اجتهد قدر طاقته، كالأولياء وكبار الصالحين.
والحاصل: أن العذاب لمَن تحملها أولاً، ولم يقم بحقها ثانياً. والغفران لمَن تحملها وقام بحقها، والرحمة لمَن تحملها ورعاها حق رعايتها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال هي شهود أسرار الربوبية في الباطن، والقيام بآداب العبودية في الظاهر، أو تقول: هي إشراق أسرار الحقائق في الباطن، والقيام بالشرائع في الظاهر، مع الاعتدال، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع، ولا الشرائع على الحقائق، فلا يغلب السُكْرُ على الصحو، ولا الصحو على السُكْر. وهذا السر خاص بالآدمي لأنه اجتمع فيه الضدان اللطافة والكثافة، النور والظلمة، المعنى والحس، القدرة والحكمة، فهو سماوي أرضي، رُوحاني بشري، معنوي وحسي. ولذلك خصّه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «3» أي: بيد القدرة والحكمة، فكان جامعاً للضدين، ملكياً ملكوتيًّا، حسه حِكْمةٌ، ومعناه قدرة. وليست هذه المزية لغيره من الكائنات، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأسرار.
__________
(1) الآية 23 من سورة عبس.
(2) الآية 67 من سورة الزمر.
(3) من الآية 75 من سورة (ص) .(4/469)
وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه، من حيث هو، كان كافراً أو مؤمناً، كما كَمُن الزبد في اللبن، فلا يظهر إلا بعد الترييب والضرب والمخض، وإلا بقي فيه كامناً، وكذلك الإنسان، السر فيه كامن، وهو نور الولاية الكبرى، فإذا آمن ووحّد الله تعالى، واهتز بذكر الله، وضرب قلبه باسم الجلالة، ظهر سره، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.
وله مثال آخر، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره، فإذا نزل المطر، وضربت الرياح أغصان الأشجار، أزهرت الأغصان وأثمرت، وإليه أشار في المباحث الأصلية، حيث قال:
وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون ... كما يكون الحَبُّ في الغصون
حتى إذا أرعدت الرعود ... وانسكب الماء ولان العود
وجال في أغصانها الرياح ... فعندها يرتقب اللقاح
ثم قال:
فهذه فواكه المعارف ... لم تشر بالتالِد أو بالطارف «1»
ما نالها ذو العين والفلوس ... وإنما تُباع بالنفوس
فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه، وهي المجاهدة والمكابدة، وقتل النفوس، بخرق عوائدها، وبعد نزول أمطار النفخات الإلهية، والخمرة الأزلية، على يد الأشياخ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات، وينحط مع أهل الفن، حتى يسري فيه أنوارهم، ويتأدّب بآدابهم، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه، ويجني ثمار معارفه، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
__________
(1) التالد: المال القديم الأصلى، الذي ولد عندك، وطال فى ملكك. انظر اللسان (تلد، 1/ 439) والطارف والطريف: الحادث من المال، أي: الذي تجدد ملكه، وهو ضد التالد. انظر (طرف، 4/ 2657) وانظر شرح الأبيات فى الفتوحات الإلهية (117- 126) . [.....](4/470)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سورة سبإ
مكية، إلا قوله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.. الآية «1» ، فاختلف فيه، مكى أو مدنى؟ وهى خمس وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» مع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وكأنه يشير إلى أنه تعالى غنى عمن حمل الأمانة، ومن لم يحملها، فمن حملها فلنفسه، ومن تركها فعليها، وإن الله لغنى عن العالمين، ولذلك افتتح بالثناء عليه، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
يقول الحق جلّ جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إن أُجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق. واللام في (لله) للتمليك لأنه خالقُ ناطقِ الحمد أصلاً، فكان بملكه مالك للحمد، وللتحميد أهلاً، الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا، وملكا، وقهرا، فكان حقيقا بأن يُحمد سرًّا وجهراً، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما له الحمد في الدنيا إذ النعم في الدارين هو مُوليها والمُنعم بها.
غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار التكليف. وثمَّ لا لأن الدار دار التعريف، لا دار التكليف. وإنما يحمد أهل الجنة سروا بالنعيم، وتلذذاً بما نالوا من الفوز العظيم، كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ.. «3» والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. «4» فأشار إلى استحقاقه الحمد في الدنيا بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وأشار إلى استحقاقه في الآخرة بقوله: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ بتدبير ما في السموات والأرض، الْخَبِيرُ بضمير مَن يحمده ليوم الجزاء والعَرْض.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ: ما يدخل فِي الْأَرْضِ من الأموات والدفائن، وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات وجواهر المعادن، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار وأنواع البركات، وَما يَعْرُجُ يصعد فِيها من الملائكة والدعوات، وَهُوَ الرَّحِيمُ بإنزال ما يحتاجون إليه، الْغَفُورُ بما يجترئون عليه. قاله النسفي.
__________
(1) الآية 6 من السورة.
(2) الآية 72 من سورة الأحزاب.
(3) من الآية 74 من سورة الزمر.
(4) من الآية 34 من سورة فاطر.(4/471)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
الإشارة: المستحق للحمد هو الذي بيده ما في سماوات الأرواح من الكشوفات وأنواع الترقيات، إلى ما لا نهاية له، من عظمة الذات، وبيده ما في أرض النفوس من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات، وبيده ما يتحفهم به في الآخرة، من التعريفات الجمالية، والفتوحات الربانية، والترقي في الكشوفات السرمدية. فله الحمد في هذه العوالم الثلاثة إذ كلها بيده، يخص بها مَن يشاء من عباده، مع غناه عن الكل، وإحاطته بالكل، ورحمته للكل، يعلم ما يلج في أرض النفوس من الهواجس والخواطر، وما يخرج منها من الصغائر والكبائر، أو من الطاعة والإحسان من ذوي البصائر، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.
ثم ردّ على مَن أنكر الآخرة، التي تقدم ذكرها، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 5]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
قلت: (ولا أصغر) و (لا أكبر) : عطف على (مِثْقال) ، أو: مبتدأ، وخبره: ما بعد الاستثناء. و (ليجزي) : متعلق بقوله: (لَتَأتينكم) ، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية، والذاتي لا يُعلل، وإنما تعلل الأفعال لجوازها، ويصح تعلقه بما تعلق به (في كتاب) أي: أحصى في كتاب مبين للجزاء.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: منكر والبعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب، ووافق عليها غيره، وقد أسلم هو. قالوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع. قبَّح الله رأيهم، وأخلى الأرض منهم. قُلْ لهم: بَلى، أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى، التي للإضراب، وأوجب ما بعدها، أي: ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه، مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجل، فقال: وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ.(4/472)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
ولمَّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله: عالِمِ الْغَيْبِ، وقرأ حمزة والكسائي:
«علاّم الغيب» ، بالمبالغة، يعلم ما غاب في عالم ملكه وملكوته، لا يَعْزُبُ عَنْهُ: لا يغيب عن علمه مِثْقالُ ذَرَّةٍ: مقدار أصغر نملة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي: من مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ في اللوح المحفوظ، أو في علمه القديم، وكنَّى عنه بالكتاب لأن الكتاب يحصي ما فيه.
قال الغزالي، في عقيدة أهل السنة: وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويُدرك حركة الذر في جو السماء، ويعلم السر وأخفى، ويطّلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلي، لم يزل موصوفاً به في أزل الأزل. هـ.
ثم علل إتيان الساعة بقوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما اقترفوا من العصيان، وما قصروا فيه من مدراج الإيمان، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لِمَا صبروا عليه من مناهج الإحسان. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ بالإبطال وتعويق الناس عنها، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي: لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع «أليم» مكي وحفص ويعقوب، نعت لعذاب، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة:
الرجز: سُوء العذاب «1» .
الإشارة: بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته.
كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
__________
(1) أخرجه الطبري (22/ 61) .(4/473)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قلت: (ويرى) : مرفوع، استئناف، أو منصوب، عطف على (ليجزي) . و (الحق) : مفعول ثان ليرى العلمية.
والمفعول الأول: (الذي أُنزل) وهو ضمير فصل.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الصحابة، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أي: يعلمون الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ، لا يرتابون فى حقيّته لما انطوى عليه من الإعجاز، وبموافقته للكتب السالفة، على يد مَن تحققت أميته. أو: ليجزي المؤمنين، وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق، علماً لا يزاد عليه في الإيقان، لكونه محل العيان، كما علموه في الدنيا من طريق البرهان. وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وهو دينُ الله، من التوحيد، وما يتبعه من الاستقامة.
الإشارة: أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده، فيسمع كلامه منه، لكن من وراء رداء الكبرياء، وهو رداء الحس والوهم، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته، فيلزمه الخشوع والبكاء والرِقة عد تلاوته.
قال جعفر الصادق: «لقد تجلّى الحق تعالى في كلامه ولكن لا تشعرون» . ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب، فتغيب حلاوة الكلام في حلاوة شهود المتكلم، فينقلب البكاء سروراً، والقبض بسطاً. وعن هذا المعنى عبّر الصدِّيق عند رؤيته قوماً يبكون عند التلاوة، فقال: «كذلك كنا ولكن قست القلوب» «1» فعبَّر عن حال التمكُّن والتصلُّب بالقسوة لأن القلب قبل تمكُّن صاحبه يكون سريعَ التأثُّر للواردات، فإذا تمكّن واشتد لم يتأثر بشيء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى للكفرة، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
__________
(1) راجع التعليق على إشارة الآية 58 من سورة مريم.(4/474)
قلت: (إذا) : العامل فيه محذوف، دلّ عيه: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. و (مُمَزَّقٍ) : مصدر، أي: تجددون إذا مزقتم كل تمزيق، و (جديد) : فعيل بمعنى فاعل، عند البصريين. تقول: جَدَّ الثوب فهو جديد، أو بمعنى مفعول، كقتيل، من جد النساج الثوب: قطعه. ولا يجوز فتح (إنكم) للاّم في خبره. و (أَفْترى) : الهمزة للاستفهام، وحذفت همزة الوصل للآستغناء عنها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من منكري البعث: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، وإنما نكّروه- مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم- تجاهلاً به وبأمره. وباب التجاهل في البلاغة معلوم، دال على سِحْرها، يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً، وتمزق أجسادكم بالبلى، كل تمزيق، وتفرقون كل تفريق، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: أهو مفترٍ على الله كَذِباً فيما يُنسب إليه من ذلك؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ: جنون توهمه ذلك، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه، وأجيب: بأن الافتراء أخص من الكذب، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد، والكذب أعم. وكأنه قيل: أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون.
قال تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو منزّه عنهما، بل هؤلاء الكفرة، المنكرون للبعث، واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه، وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أحق بالجنون. جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال، مبالغة في استحقاقهم له، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد لأن الضلال، لمّا كان العذاب من لوازمه، جُعلا كأنهما مقترنان. ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة.
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما أينما كانوا، وحيثما ساروا، وجدوهما أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه، من ملكوت الله، ولم يخافوا أن يَخْسِفَ اللهُ بهم في الأرض، أو يسقط عليهم كِسَفاً قطعة، أو قطعاً من السماء بتكذيبهم الآيات، وكفرهم بما جاء به الرسول، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي «يخسف» ، و «يسقط» بالياء «1» لعود الضمير على (الله) في قوله: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ، وقرأ حفص: «كَسَفاً» بالتحريك، جمعاً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إن في النظر إلى السماء والأرض والتفكُّر فيهما،
__________
(1) وكذا قوله: (يشأ) . وقرأ الباقون بنون العظمة فى الثلاثة. انظر الإتحاف (2/ 382) .(4/475)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالةً ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع بقلبه إلى ربه، مطيع له تعالى، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، فيعتبر، ويعلم أنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأجرام العظام، قادر على إحياء الأموات وبعثها، وحسابها وعقابها.
الإشارة: يقول شيوخ التربية: بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة: هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة؟ بل الذي لا يؤمنون بالنشأة الآخرة- وهي حياة الروح بمعرفة الله- في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يهدد به منكر والبعث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان، احتجاجاً على ما منح محمد- عليه الصلاة والسلام- من الرسالة والوحي، ردًّا لقولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قلت: (يا جبال) : بدل من (فضلاً) ، أو يقدر: وقلنا. و (الطير) : عطف على محل الجبال، ومَن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي: مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء، وهو ما جمع له من النبوة، والمُلك، والصوت الحسن، وإلانة الحديد، وتعلم صنعة الزرد، وغير ذلك مما خُص به، أو:
فضلاً على سائر الناس بما ذكر، وقلنا: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رَجّعي معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه:
أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب، أي: الترجيع، وقيل: من الإياب بمعنى الرجوع، أي: ارجعي معه بالتسبيح. وَالطَّيْرَ أي: أوبي معه، أو: وسخرنا له الطير تؤب معه. قال وهب: فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه، من أجل زلته، أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم «1» .
__________
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 388) .(4/476)
قال القشيري: يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام: كانت تلك الزلة مباركة عليك، فقال: يا رب وكيف تكون الزلة مباركة؟ فقال: كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين، والآن تجيء بانكسار المذنبين، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين. هـ. مختصراً. وفي هذا اللفظ من قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ من الفخامة ما لا يخفى، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا، وإذا دعاهم أجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال: آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة.
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي: جعلناه له ليناً، كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار ولا ضرب بمطرقة، قيل: سبب لينه له: أنه لما مَلك بني إسرائيل، وكان من عادته أن يخرج متنكراً، ويسأل كل مَن لقيه: ما يقول الناس في داود؟ فيثنون خيراً، فلقي ملكاً في صورة آدمي، فسأله، فقال: نِعْمَ الرجل، لولا خصلة فيه: يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فتنبّه، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال، فألان له الحديد مثل الشمع، وعلّمه صنعة الدروع، وهو أول مَن اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح «1» .
ويقال: كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويُطعم عياله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين. وقيل:
كان يلين له ولمَن اشتغل معه له، قُلت: ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على صخرة أثر فيها قدمه، وهذا أبلغ من إلانة الحديد لأن لين الحجارة لا يعرف بنار، ولا بغيرها، بخلاف الحديد. هـ. وقيل:
لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة.
وأمرناه أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي: دروعاً واسعةً تامة، من: السبوغ، بمعنى الإطالة، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق، أو تؤذي لابسها. والتقدير: التوسُّط في الشيء، والسرد: صنعة الدروع، ومنه قيل لصانعه: السراد والزراد. وَاعْمَلُوا صالِحاً شكراً لما أُسدي إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح: ما يصلح للقبول لإخلاصه واتقائه، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
الإشارة: الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون، فلما شهد المكون، كانت الأكوان معه. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك» . ولا يلزم من كونها معه في المعنى، بحيث تتعشّق له وتهواه، أي: تتقاد كلها له في الحس، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه، حسبما تقتضيه الحكمة، وتسبق به المشيئة، فسوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ فى الظاهر: الحديد
__________
(1) ذكر البغوي (6/ 388) وابن كثير (3/ 527) .(4/477)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
الحسي، وفي الباطن: القلوب الصلبة كالحديد، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي. ويقال له: أن اعمل سابغات، أي: دروعا تامة، يتحصّن بها من الشيطان والهوى، وهو ذكر الله، يستعمله ويأمر به، ذكراً متوسطاً، من غير إفراط ممل، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه، فيؤمر بالشكر، وهو قوله: وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر سليمان عليه السلام، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
قلت: «الريح» : مفعول بمحذوف، أي: وسخرنا له الريح، ومَن رفعه فمبتدأ تقدّم خبره.
يقول الحق جلّ جلاله: وَسخرنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، وهي الصبا، غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي: جريها بالغد مسيرة شهر، إلى نصف النهار، وجريها بالعشي كذلك. فتسير في يوم واحد مسيرة شهرين. وكان يغدو من دمشق، مكان داره، فيقيل بإصطخر فارس، وبينهما مسيرة شهر، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل، وبيهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل: كان يتغذّى بالريّ، ويتعشّى بسمرقند. وعن الحسن: لَمَّا عقر سليمان الخيل، غضباً لله تعالى، أبدله الله خيراً منها الريح، تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. هـ «1» .
قال ابن زيد: كان لسليمان مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت معه، فيه الجن والإنس، تحت كل ركن ألف شيطان، يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم. قلت: وقد تقدّم أن العاصفة هي التي ترفعه، والرخاء تسير به، وهو أصح. ثم قال: فتقيل عند قوم، وتُمسي عند قوم، وبينهما شهر، فلا يدري القوم إلا وقد أظلّهم، معه الجيوش.
__________
(1) عزاه فى الدر المنثور (5/ 427) لعبد الرزاق، وابن أبى شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن الحسن.(4/478)
ويُروى أن سليمان سار من أرض العراق، فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ، تحمله الريح، وتظله الطير، ثم سار من بلخ متخللاً بلاد الترك، ثم سار به إلى أرض الصين، ثم عطف يُمنة على مطلع الشمس، على ساحل البحر، حتى أتى أرض فارس، فنزلها أياماً، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى اليمن، وكان مستقره بها بمدنية تدْمُر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح، والعُمد، والرخام الأبيض والأصفر. هـ.
قلت: وذكر أبو السعود في سورة «ص» أنه غزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وغيرهما، والله تعالى أعلم.
ووُجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه السلام:
وَنَحْنُُ ولا حَوْلَ سِوََى حَوْلِ رَبّّنا ... نَرُوحُ إلى الأَوْطَانِ من أرضِ كسْكَر
إذ نَحْنُ رُحْنا كان رَيْثُ رَوَاحنا ... مسِيرة شهرٍ والغدو لآخرِ
أُناسٌ أعزَّ اللهُ طوعاً نفوسَهُم ... بنصر ابن داودَ النبيِّ المُطَهَّر
لَهُمْ في مَعَالِي الدِّين فَضْلٌ ورفعةٌ ... وإن نُسِبُوا يوماً فَمِنْ خَيْر مَعْشَر
متى يركب الريحَ المُطِيعةَ أسرَعَتْ ... مُبَادِرةً عن شهرهَا لم تُقَصِّر
تُظِلُّهُم طيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمُ ... مَتى رَفْرَفَتْ مِن فوقِهِمْ لمْ تُنْفرِ «1»
قال القشيري: وفى القصة أنه لا حظ يوماً مُلْكَه، فمال الريحُ، فقال له: استوِ، فقال له مادمت أنت مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً لك، فحيث مِلْتَ. هـ.
ثم قال: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي: معدن النحاس. والقطر: النحاس، وهو الصُفر، ولكنه أذابه له، وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، كما يسيل الماء. وكان قبل سليمان لا يذوب. قال ابن عباس: كانت تسيل له باليمن عين من نحاس، يصنع منها ما أحب. وقيل: القطر: النحاس والحديد، وما جرى مجرى ذلك، كان يسيل له منه عيون.
وقيل: ألانه له كما ألان الحديد لأبيه، وإنما ينتفع الناسُ اليوم بما أجرى الله تعالى لسليمان، كما قيل.
وَسخرنا له مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ما يشاء بِإِذْنِ رَبِّهِ أي: بأمر ربه، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أي: ومَن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ:
عذاب الآخرة. وقيل: كان معه ملك بيده سوط من نار، فمَن زاغ عن طاعة سليمان ضربه بذلك ضربة أحرقته.
__________
(1) انظر الأبيات فى: تفسير القرطبي (6/ 5504- 5505) والبحر المحيط (7/ 254) .(4/479)
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي: مساجد، أو مساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد ومجلس وبيت. وَتَماثِيلَ صور الملائكة والأنبياء، على ما اعتادوا من العبادات، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم.
صنعوا له ذلك في المساجد، ليجتهد الناس في العبادة. أو: صور السباع والطيور، رُوي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كُرسيه، ونسْريْن فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسطَ الأسدان له ذرَاعيهما، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما. وكان التصوير مباحاً. وَجِفانٍ وصحاف، جمع: جفنة، وهي القصعة، كَالْجَوابِ جمع جابية، وهي الحياض الكبار. قيل: كان يقعد على الجفنة ألف رجل، يأكلون بين يديه، وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافي، لا تنزل لِعظمها، ولا تعطل لدوام طبخها. وقيل: كان قوائمها من الجبال، يصعد إليها بالسلالم، وقيل: باقية باليمن.
وقلنا: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي: اعملوا بطاعة الله، واجهدوا أنفسكم في عبادته، شكراً لِما أولاكم من نعمه. قال ثابت: كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يُصلّي. هـ «1» .
وقال سعيد بن المُسَيِّب: لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه، فعالجها، فلم تنفتح، حتى قال:
بصلوات آل داود إلا فُتحت الأبواب، ففتحت، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عزّ وجل يُعبد فيها. هـ. وعن الفضيل:
(اعملوا آل داود) أي: ارحموا أهل البلاء، وسلوا ربكم العافية.
و (شكراً) : مفعول له، أو حال، أي: شاكرين، أو مصدر، أي: اشكروا شكراً لأن «اعملوا» فيه معنى اشكروا، من حيث إن العمل للنعم شكرٌ، أو: مفعول به، أي: إنَّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكراً.
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ، يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه السلام، أو خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم. والشكور:
القائم بحق الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شُغل به بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً. وعن ابن عباس: هو مَن يشكر على أحواله كلها. وقيل: مَن شكر على الشكر، ومَن يرى عجزه عن الشكر. قال البيضاوي:
لأن توفيقه للشكر نعمة، فتقتضي شكراً آخر، لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشكور مَن يرى عجزه عن الشكر. هـ.
الإشارة: وسخرنا لسليمان ريح الهداية، تهب بين يديه، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً. وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات، جنها وإنسها، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود: اعملوا آل داود شكراً. قال الجنيد: الشكر: بذل المجهود بين يدي المعبود. وقال أيضاً: الشكر ألا يعصى الله بنعمه.
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 430) لابن أبى شيبة، وأحمد، فى الزهد، وابن أبى حاتم، والبيهقي فى الشعب، عن ثابت البناني.(4/480)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
والشكر على ثلاثة أوجه: شكر بالقلب، وشكر باللسان، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب: أن يعقتد أن النعم كلها من الله، وشكر اللسان: الثناء على الله وكثرة المدح له، وشكر الجوارح: أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم: ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته، قيل: فما شكر الأذنين؟
قال: إذا سمعت بهما خيراً وعيته، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته، قيل: فما شكر اليدين؟ قال: ألا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما، قيل: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلُه صبراً، وأعلاه علماً، قيل: فما شكر الفرج؟
قال: كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية «1» ، قيل: فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما. هـ.
والناس في الشكر درجات: عوام، وخواص، وخواص الخواص. فدرجة العوام: الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص: الشكر على النِّعم والنقم، وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص: أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إن الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا، وإذا مُنعوا صبروا، فقال: هذه أخلاق الكلاب عندنا، ولكن الفقراء إذا مُنِعوا شكروا، وإذا أُعطوا آثروا. هـ.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ، وخصه القشيري بالقسم الثالث، فقال:
فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ، والشكور على المنع، فكيف بالبذل؟ ثم قال: ويقال في قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ:
قليل مَن يأخذ النعمة مني، فلا يحملها على الأسباب، فيشكر الوسائط ولا يشكرني. وفي الحِكَم: «مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها» . فالشكر قيد الموجود، وصيد المفقود. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر موت سليمان عليه السلام، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ على سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ أي: الجن وآل داود عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي: الأرضة، وهي دويبة تأكل الخشب، ويقال: لها، سُرْفةَ والقادح. والأرض هنا مصدر: أرَضَتِ الخشبة، بالبناء للمفعول، أرَضَّا: أكلتها الأرضة. فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض، أي: الأكل.
__________
(1) الآية 5 من سورة المؤمنون.(4/481)
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، أي: عصاه، سميت منسأة لأنها تنسى، أي: تطرح ويُرْمى بها. وفيها لغتان الهمز وعدمه، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز، وعليه قول الشاعر:
إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ ... فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ
وقرأ غيرهما بالهمز، وهو أشهر.
فَلَمَّا خَرَّ سقط سليمانُ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي: تحققت وعلمت علماً يقيناً، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم، أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا بعد موت سليمان فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ في العمل الشاق له، لظنهم حياته، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته.
وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصّى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه. فلما بقي من عمره سنة، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا، ولتبطل دعواهم علم الغيب. وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة. وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قال الثعلبي: فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمَّره بأساطين المها الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر، وفضض سقوفه وحيطانه باللئالئ، وسائر أنواع الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد.
كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر «1» . ومن أعاجيب ما اتخد في بيت القدس، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة، وصقله، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود، فارتدع كثير من الناس عن الفجور.
قال صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وأن أرجو أنى يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه، فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا خَرَجَ من ذَنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» «2» هـ.
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السّلام حتى خرّ به بخت نصر، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت، وحمله إلى دار مملكته من العراق.
ثم قال «3» : قال المفسرون: كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، يدخل فيه طعامه وشرابه، فدخله في المرة التي مات فيها. وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت
__________
(1) انظر تفسير البغوي (5/ 390) . [.....]
(2) أخرجه ابن ماجه فى (الإقامة، باب ما جاء فى الصلاة فى مسجد المقدس 1/ 452، ح 1408) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(3) أي الثعلبي.(4/482)
المقدس شجرة، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا، فيأمر بها فنقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كُتبت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروبة، قال لها: ولأي شيء نَبَتِّ؟ قالت: لخراب هذا المسجد، فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي، وهلاك بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط، ثم قال: اللهم أعم عن الجن موتي، حتى يعلم الإنسُ أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تُخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب، ثم دخل المحراب، وقام يصلي على عصاه، فمات «1» .
وقيل: إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم: قد آتاني الله ما ترون، وما مرّ عليَّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببتُ أن يكون لي يوم واحد يصفو لي من الكدر، فدخل قصره من الغد، وأمر بغلق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفْعِ الأخبار إليه. ثم اتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه، عليه ثياب بيض، قد خرج عليه من جوانب قصره، فقال: السلام عليك يا سليمان، فقال: عليك السلام، كيف دخلت قصري؟ فقال: أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا، وما كنتُ لأدخل هذا القصر من غير إذن. فقال سليمان: فمَن أَذِنَ لك في دخوله؟ قال: ربه، فارتعد سليمان، وعَلِمَ أنه ملك الموت، فقال: يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردتُ أن يصفو لي، قال: يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا، فقبض روحه وهو متكىء على عصاه. هـ.
وفي رواية: أنه دعا الشياطين، فبنوا له صرحاً من قوارير، ليس له باب، فقام يُصلي، واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه «2» . والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان. وبقي سليمان ميتاً، وهو قائم على عصاه سنة، حتى أكلت الأَرَضةَ عصاه. ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. سبحان الحي الذي لا يموت، ولا ينقضي ملكه.
الإشارة: كل دولة في الدنيا تحول، وكل عز فيها عن قريب يزول، فالعاقل مَن صرف دولته فى طاعته مولاه، وبذل جهده في محبته ورضاه، فإن كانت قسمته في الأغنياء كان من الشاكرين، وإن كانت في الفقراء كان من الصابرين، والفقير الصابر أحظى من الغني الشاكر، ولذلك ورد أن سليمان عليه السلام آخر مَن يدخل الجنة من
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (22/ 75) وتفسير ابن كثير (3/ 529) .
(2) أخرجه الطبري (22/ 75- 76) عن ابن زيد.(4/483)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، وعبد الرحمن بن عوف آخر مَن يدخلها من الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين. والغني الشاكر هو الذي يُعطي ولا يُبالي، ويتواضع للكبير والصغير، والوجيه والحقير، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره، ويكتمه عن غيره. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حال مَن لم يشكر النعم، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
قلت: (لسبأ) فيه الصرف، بتأويل الحي، وعدمه، بتأويل القبيلة. و (مسكنهم) ، مَن قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس في الاسم والمصدر، كمدخَل، ومَن كسره فلغة، والسماع في المصدر كمسجِد. و (جنتان) : بدل من (آية) أو: خبر عن مضمر، أي: هي جنتان. و (أُكل خَمْطٍ) «1» ، فمَن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز، ومَن نوّنه قطعه عن الإضافة، وجعله عطف بيان. أو صفة، بتأويل خمط ببشيع.
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ، سئل صلى الله عليه وسلم أرجلاً كان أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو واديا، فقال صلى الله عليه وسلم: «هو رجل من العرب، ولد عشرة من الولد، فتيامن ستةٌ، وتشاءم أربعةٌ: فالذين تيامنوا كثرة، فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذجح، وأنمارُ، وحميرُ، فقال رجل: مَن أنمار يا رسول الله؟ قال: منهم خَثْعَمُ وبجيلة. والذي تشاءموا: عاملة، وجذام، ولخم، وغسان» «2» .
قلت: وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. واختلف في قحطان، فقيل: هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل: هو أخو هود عليه السلام. وقيل: هو هود، بنفسه، وإن هودا هو ابن عبد الله بن رباح، لا ابن عابر، على الأصح. فهو على هذا القول ابن أرم بن سام. وقيل: قحطان من ولد إسماعيل، فهو ابن أيمن بن
__________
(1) قرأ نافع، وابن كثير: «أكل» بسكون الكاف، وبالتنوين، وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر: بضم الكاف مع التنوين. وقرأ أبو عمرو: ويعقوب بضم الكاف من غير تنوين. انظر الإتحاف (2/ 385) .
(2) أخرجه أبو داود فى (الحروف والقراءات 4/ 288 ح 3988) مختصرا، والترمذي فى (التفسير، باب ومن سورة سبأ 5/ 336- 337، ح 3222) ، وقال: «حديث حسن غريب» والحاكم (2/ 224) عن فروة بن مسيك المرادي.(4/484)
قيذر بن إسماعيل. وقيل: هو ابن الهميسع ابن أيمن. وبأيمن سميت اليمن، وقيل: لأنها عن يمين الكعبة. هذا والعربُ كلها يجمعها أصلان: عدنان وقحطان، فلا عربي في الأرض إلا وهو ينتهي إلى أحدهما، فيقال:
عدناني أو قحطاني.
ومَن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل، كما تقدّم، واختلف في خزاعة، فقيل: قحطانية، وقيل: عدنانية، وأن جدهم عمرو بن لحي، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ، نزلت يثرب، بعد سيل العرم، كما يأتي.
قال تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «1» أي: في بلدهم، أو أرضهم، التي كانوا مقيمين فيها باليمن، آيَةٌ دالة على وحدانيته تعالى، وباهر قدرته، وإحسانه، ووجوب شكر نعمه، وهي: جَنَّتانِ أي: جماعة من البساتين، عَنْ يَمِينٍ واديهم، وَشِمالٍ وعن شماله. وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة، كما يكون بساتين البلاد العامرة. قيل: كان الناس يتعاطون ذلك على جَنْبتي الوادي، مسيرة أربعين يوماً، وكلها تُسقى من ذلك الوادي لارتفاع سده. أو: أراد بُسْتانين، لكل رجل بستان عن يمين داره، وبستان عن شماله. ومعنى كونهما آية: أن أهلها لَمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم الله النعمة، ليعتبروا ويتَعظوا، فلا يعودوا لِمَا كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، فلما أثمرت البساتين قلنا لهم- على لسان الرسل المبعوثين إليهم، أو بلسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بالإيمان والعمل الصالح، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وَرَبٌّ غَفُورٌ أي: وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ غفور لمَن شكره.
قال ابن عباس: كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد، فتخرج المرأة على رأسها المكتل، وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المِكْتَل مما يتساقط فيه من الشجر «2» ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه، وعلى رأسه مكتل، أو قُفة، أو طبق فارغ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة، مما تسقطه الرياح، دون أن يمد يده إلى شيء من ثمرها. ومن طيبها: أنها لم تُرَ في بلدهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حية. وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب ماتت الدواب والقمل لطيب هواها.
__________
(1) قرأ حمزة، وحفص: (مسكنهم) بسكون السين وفتح الكاف، بلا ألف على الإفراد. وقرأ الكسائي بالتوحيد وكسر الكاف. وقرأ الباقون «مساكنهم» بفتح السين وألف وكسر الكاف على الجمع. وقد سار الشيخ المفسر على قراءة الجمع. انظر الإتحاف (2/ 384) .
(2) أخرجه الطبري (22/ 77) عن قتادة.(4/485)
فَأَعْرَضُوا عن الشكر، بتكذيب أنبيائهم، وكفر نعمة الله عليهم. وقالوا: ما نعرف لله علينا من نعمة، عائذاً بالله.
قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا، يدعونهم إلى الله تعالى، فكذّبوهم «1» ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي:
سيل الأمر العرم، أي: الصعب. من: عرَم الرجل فهو عارم، وعَرِمَ: إذا شَرِسَ خُلقه وصعب، أي: أرسلنا عليهم سيلاً شديداً، مزَّق سدهم، وغرق بساتينهم. قيل: جمع عَرمة، وهي السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته.
قال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا السد يسقي جنتها، وبنته بلقيس لأنها لَمّا ملَكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم، فنهتهم، فأبَوا، فنزلت عن ملكها، فلما كثر الشرُّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لترجعي أو لنَقتلنك، فجاءت، وأمرت بواديهم فسُد أعلاه بالعرم، وهو المُسنّاة- بلغة حِمْير- فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار، وجعلت له أبواباً ثلاثة، بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة عظيمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً، على عدة أنهارهم. فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السدّ، ففتحت الباب الأعلى، وجرى ماؤه في البركة، وألقت البقر فيها، فخرج بعض البقر أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البقر في الماء، حتى خرجت جميعاً معاً، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. فكانوا يسْقُون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الأسفل، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. فلما كفروا وطغوا، سلّط الله عليهم جُرذاً، يُسمى الخلد- وهو الفأر- فنقبه من أسفله، فغرَّق الماء جنتهم، وخرّب أرضهم. هـ «2» .
قال وهب: وكانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يُخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هِرًّا، فلما حان ما أراد الله بهم، أقبلت فأرة حمراء، إلى بعض تلك الهِرَر، فساورتها- أي: حاربتها، حتى استأخرت عنها- أي: عن تلك الفرجة- الهرة، فدخلت في الفرجة التي كات عندها، ونقبت السد، حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون، فلما جاء السيل دخل في تلك الخلل، حتى بلغ السد، فخربه، وفاض على أموالهم، فغرقتها، ودفن بيوتهم، ومُزقوا، حتى صاروا مثلاً عند العرب، فقالوا: تفرّقوا أياديَ سبأ. هـ «3» .
وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ المذكورتين جَنَّتَيْنِ أخريَيْن. وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «4» . ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ الأُكل: الثمر المأكول، يخفف ويثقل. والخمط، قال ابن عباس: شجر الأراك «5» ، وقال أبو عبيد: كل شجر مؤذ مشوِّك. وقال الزجاج: كل شجر مُر. هـ. وفي القاموس:
__________
(1) أخرجه الطبري (22/ 78) .
(2) ذكره الطبري (22/ 79) والبغوي (6/ 394) .
(3) أخرجه الطبري (22/ 80) بنحوه، عن وهب.
(4) الآية 40 من سورة الشورى.
(5) أخرجه الطبري (22/ 81) .(4/486)
الخمط: الحامض المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة وحموضة، وشجر كالسدر، وشجر قاتل، أو كل شجر لا شوك له. هـ. وقرأ البصريان بالإضافة، من إضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز لأن المراد بالأكل المأكول، أي: ذواتي ثمر شجر بشيع. والباقون: بالتنوين، عطف بيان، أو صفة، بتأويل خمط ببشيع، أي: مأكول بشيع. وَأَثْلٍ هو شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، وأجود عوداً. وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر. وإنما قال: السدر، لأنه أكرمُ ما بُدلوا به لأنه يكون في الجنان.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي: جزيناهم ذلك بكفرهم، فذلك مفعول مطلق بجزينا، وهل يُجازى «1» هذا الجزاء الكلي إِلَّا الْكَفُورَ أي: لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا مَن كفر النعمة ولم يشكرها، أو:
كفر بالله، أو هل يعاقب لأن الجزاء وإن كان عامًّا يستعمل في معنى المعاقبة، [وفي معنى الإثابة] «2» لكن المراد الخاص، وهو المعاقبة. قال الواحدي: وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله. قلت: بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم، ولا تسلب إلا للكفور، دون الشكور. قاله في الحاشية.
وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد- عليهما السلام. هـ. قلت: ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السلام.
الإشارة: لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية بلدة طيبة هي جنة الربوبية إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور.
__________
(1) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، ويعقوب (وهل نجازى) بنون العظمة وكسر الزاى، ونصب «الكفور» . وقرأ الباقون (يجازى) بالياء المضمومة، وفتح الزاى، ورفع الكفور. انظر الإتحاف (2/ 385) . [.....]
(2) ما بين المعقوفتين زيادة ليست فى الأصول. وأثبته لاقتضاء السياق له.(4/487)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
قال القشيري: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ.. الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا:
ما زلتُ أختال في زَماني ... حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه
طال علينا الصدودُ حتى ... لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه «1»
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا.. الآية: ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. هـ.
ثم ذكر سبب تمزيقهم، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
يقول الحق جلّ جلاله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي: بين سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها بالنعم والمياه، وهي قرى الشام، قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يُرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو: ظاهرة للسَّابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم، وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة، من سبأ إلى الشام، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي: جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم، يقيل المسافر في قرية، ويروح إلى أخرى، إلى أن يبلغ الشام. وقلنا لهم: سِيرُوا فِيها، ولا قول هناك، ولكنهم لَمَّا تمكنوا من السير، ويُسّرت لهم أسبابه، فكأنهم أُمروا بذلك، فقيل لهم: سيروا في تلك القرى لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي: سيروا فيها إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو: سيروا فيها آمنين لا تخافوا عدواً، ولا جوعاً، ولا عطشاً، وإن تطاولت مدة سيركم، وامتدت أياماً وليالي. فبطروا النعمة، وسئموا العافية، وطلبوا الكدر والتعب.
__________
(1) الأبيات بنحوها فى لطائف الإشارات (3/ 181) ، وجاءت فى شرح أسماء الله الحسنى/ 173 مسبوقة ببيت، هو:
يا سائلى كيف كنت بعده؟ ... لقيت ما ساءنى وسره(4/488)
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قالوا: يا ليتها كانت بعيدة، نسير على نجائبنا، ونتخذ الزاد، ونختص بالريح في تجاراتنا، أرادوا أن يتطاولوا على الفقراء بالركوب على الرواحل، ويختصوا بالأرباح. وقرأ يعقوب «ربُّنا» بالرفع «باعَدَ» بفتح العين، فربنا: مبتدأ، والجملة: خبر، على أنه شكوى منهم ببُعد سفرهم، إفراطاً في الترفيه وعدم الاعتداد بالنعمة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بشد العين، من «بعِّد» المضعف. والباقون بالألف والتخفيف، من: باعد، بمعنى «بعد» المشددة. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بما قالوا، وما طلبوا، ففرّق الله شملهم، كما قال تعالى:
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم، ويتعجبون من أحوالهم، ويضرب بهم الأمثال، يقال: تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، يقال بالوجهين. وفي الصحاح: ذهبوا أيادي سبأ، أي: متفرقين، فهو من المُركّب تركيب مزج.
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرقناهم كل تفريق، فتيامن منهم ست قبائل، وتشاءمت أربعة، حسبما تقدم في الحديث. قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما أنمار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، والأزد بنعمان. هـ. قلت: وفيه مخالفة لظاهر الحديث، فإن أنمار جد خثعم وبجيلة، ولم يكونوا في المدينة.
والذي هو المشهور أن الأوس والخزرج هما اللذان قدما المدينة، فوجدوا فيها طائفة من بني إسرائيل، بعد قتلهم للعماليق. وسبب نزولهم بها: أن حَبْرين منهم مَرَّا بيثرب مع تُبع، فقالا له: نجد في علمنا أن هذه المدينة مهاجرَ نبي، يخرج في آخر الزمان، يكون سنه كذا وكذا، فاستوطناها، يترصّدان خروجه صلى الله عليه وسلم، فمن نسلهما بقيت اليهود في المدينة، والأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث بن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وولد مازن بن الأسد هم غسان، سموا بماء اليمن، شربوا منه. ويقال: غسان: ماء بالشمال شربوا منه، نُسبوا إليه. قال حسان:
أما سألت فإنا معشرٌ نجبٌ ... الأسْدُ نسبتُنا والماء غسان
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم، أو: لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه صبر، ونصفه شكر.
الإشارة: وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازلَ ظاهرة، ينزلوها، ويرحلون عنها، آمنين من الرجوع، إن صَدَقوا في الطلب، وهي منازل كثيرة، وأهمها اثنا عشر مقاماً: التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والصبر، والشكر، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، والمراقبة، والمشاهدة. ومنازل الحضرة هي الفناء، والبقاء، وبقاء البقاء، والترقِّي في معاريج الأسرار والكشوفات، أبداً سرمداً. يقال للسائرين: سيروا فيها، وأقيموا في كل منزل منها، ليالي وأياماً، حتى يتحقق به نازله، ثم يرحل عنه إلى ما بعده. ثم إن قوماً سئموا من السير وادَّعوا القوة، فقالوا:(4/489)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
ربنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا، وظلموا أنفسهم بذلك، ففرقناهم عنا كل تفريق، وعوّقناهم عن السير كل تعويق، ليكون ذلك آية وعبرة لمَن بعدهم، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة، والانكسار والذلة «أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي» .
وسبب الحرمان هو إبليس، كما قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ صَدَّقَ»
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ، الضمير في «عليهم» لكفار سبأ وغيرهم.
وكأن إبليسَ أضمر في نفسه حين أقسم: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» أنه يسلط عليهم، وظن أنه يتمكن منهم، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم. فمَن قرأ بالتخفيف ف «ظنه» : ظرف، أي: صَدق في ظنه. ومَن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به، أي: وجد ظنه صادقاً عليهم حين كفروا فَاتَّبَعُوهُ أي: أهل سبأ ومَن دان دينهم، إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قللهم بالإضافة إلى الكفار، قال تعالى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «3» وفي الحديث: «ما أنتم في أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» «4» .
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي: ما كان لإبليس على مَن صدق ظنه عليهم من تسلُّط واستيلاء بالوسوسة، إِلَّا لِنَعْلَمَ موجوداً ما علمناه معدوماً مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي: إِلا ليتعلق علمنا بذلك تعلُّقاً تنجيزيًّا، يترتب عليه الجزاء، أو: ليتميز المؤمن من الشاك، أو: ليؤمن مَن قُدّر إيمانُه، ويشك من قُدر ضلالُه. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ رقيب، وفعيل ومفاعل أخوان.
الإشارة: كل مَن لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة، ظن أنه يجري معه مجرى الدم، فكل مَن لم يسد مجاريه بذكر الله، حتى يستولي الذكر على بشريته، فيصير قطعة من نور، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه، ولا يزال يتسلّط على قلب ابن آدم، حتى يدخل حضرة
__________
(1) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «صدّق» بتشديد الدال. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر الإتحاف (2/ 386) .
(2) من الآية 82 من سورة ص.
(3) من الآية 17 من سورة الأعراف.
(4) أخرجه مطولا البخاري فى (الرقاق، باب الحشر، ح 6528) ومسلم فى (الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة 1/ 200، ح 221) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(4/490)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
القدس، فحيئنذ يحرس منه، لقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» . وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة، وهم المرادون بقوله تعالى: إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وما سلَّطه علهم إلا ليتميز الخواص من العوام، فلولا ميادين النفوس، ومجاهدة إبليس، ما تحقق سير السائرين، أي: وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة، وهي الشهود، ممن هو منها في شك، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان تسلط إبليس جله من الشرك، الذي زيّنه لهم، رده بقوله:
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قلت: حذف مفعولي زعم، أي: زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلِ لهم ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: زعمتموهم آلهة، فعبدتموهم من دون الله، من الأصنام والملائكة، وسميتموهم باسْمِهِ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم، كما تلتجئون إليه في اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويُروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشاً. ثم ذكر عجزهم فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر، ونفع أو ضر فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي: وما لهم في هذين العالَمين العلوي والسفلي، من شرك في الخلق، ولا في المُلك، وَما لَهُ تعالى مِنْهُمْ من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ معين يعنيه على تدبير خلقه. يريد أنه على هذه الصفة من العجز، فكيف يصحُّ أن يُدْعَوا كما يدعى تعالى، أو يُرْجَوا كما يُرجى سبحانه؟
ثم أبطل قولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «2» بقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ تعالى في الشفاعة، ممن له جاه عنده، كالأنبياء، والملائكة، والأولياء، والعلماء الأتقياء، وغيرهم ممن له مزية عند الله. وقرأ
__________
(1) الآية 42 من سورة الحجر.
(2) من الآية 18 من سورة يونس.(4/491)
أبو عمرو «1» والأخوان بالبناء للمفعول، أي: إلا مَن وقع الإذن للشفيع لأجله. ثم ردّ على مَن زعم من الكفار أن الملائكة تشفع، قطعاً لمكانها من الله، فقال: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ، فحتى: غاية لمحذوف، أي: وكيف تشفع قبل الإذن، وهي في غاية الخوف والهيبة من الله، إذا سمعوا الوحي صعقوا، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي: كشف الفزع عن قلوبهم قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ من الوحي؟
قالُوا الْحَقَّ، فمَن كان هذا وصفه لا يجترىء على الشفاعة إلا بإذن خاص. قال الكواشي: إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام الله لجبريل بالوحي، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر لأهل السماء أخذت السموات منه رَجْفةٌ- أو قال: رَعْدَةٌ شديدةٌ- خوفاً من ذلك، فإذا سمع أهل السموات صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجداً، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل، فيُكلمه من وَحْيِه بما أراد، ثم يَمُرُّ على سماءٍ سماء، إلى أن ينزل بالوحي، فإذا مَرَّ على الملائكة سألوه، ثم قالوا: ماذا قال ربكم؟ فيقول جبريل: قال الحقَّ «2» . نصب المفعول بقالوا، وجمع الضمير تعظيماً لله تعالى.
ثم قال: وفي الحديث: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة، كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، حتى يأتيهم جبريل، فيفزغ عن قلوبهم، - أي: يكشف- وبخبرهم الخبر، ثم قال «3» : وقيل المعنى: أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن، ولا يشعر به إلا المقربون لِما غشي عليهم من هول ذلك اليوم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم في الشفاعة؟ قالوا الحق، أي: أذن فيها. هـ. ومثل هذا لابن عطية، وتبعه ابن جزي، قال:
الضمير في «قلوبهم» ، وفي «قالوا» للملائكة. فإن قيل: كيف ذلك، ولم يتقدم لهم ذكر؟ فالجواب: أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء، الذين دلَّ عليهم ذكر الشفاعة. هـ.
وقرأ يعقوب وابن عامر «فَزع» بفتح الفاء بالبناء للفاعل. والتضعيف للسلب والإزالة، أي: سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم، مِثل: قردت البعير: إذا أزلت قراده، ومَن بناه للمفعول فالجار نائب. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي:
المتعالي عن سمة الحدوث، وإدراك العقول، الكبير الشأن، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه.
__________
(1) فى الأصول [ابن عمرو] .
(2) أخرجه الطبري (22/ 91) والبغوي فى التفسير (6/ 398) والبيهقي فى الأسماء والصفات (1/ 326) وابن أبى عاصم فى السنّة (1/ 227) من حديث النواس بن سمعان.
(3) أي: الكواشي.(4/492)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
الإشارة: كل مَن آثر شيئاً أو أحبّه سوى الله، أو خافه، يقال له: ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم، من دون الله، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ... الآية. وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهي محبة الله، لأنهم يُوصلون إليه، فلم يحبهم أحد إلا لأجل الله، فتنفع شفاعتهم بإذن الله. وقوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ.. الخ، قال الورتجبي: وصف سبحانه أهل الوجد، من الملائكة المقربين، وذلك من صولة الخطاب، فإذا سمعوا كلام الحق، من نفس العظمة، وقعوا في بحار هيبته وإجلاله، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة. فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السلام، فهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة. هـ.
ثم تتم قوله: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي: لا من رزق ولا غيره، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: بأسباب سماوية وأرضية؟ قُلِ اللَّهُ وحده. أمره أن يقرّرهم، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم، أي: يرزقكم الله لا غيره، وذلك للإشعار بأنهم مقرُّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبَوا أن يتكلموا به، لأنهم إن تفوّهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون مَن يرزقكم، وتؤثرون عليه مَن لا يقدر على شيء؟
ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإحجاج: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: ما نحن وأنتم على حالة واحدة، بلى على حالين متضادين، واحدنا مهتد، وهو مَن اتضحت حجته، والآخر ضال، وهو مَن قامت عليه الحجة. ومعناه: أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال.
وهذا من كلام المنصف، الذي كل مَن سمعه، من مُوالٍ ومعاند، قال لمَن خوطب به: قد أنصفك صاحبك. وفي ذكره بعد تقديم ما قدّم من التقرير: دلالة واضحة على مَن هو من الفريقين على الهدى، ومَن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض، ونحوه قولك لمَن تحقق كذبه: إن أحدنا لكاذب، ويحتمل أن يكون من تجاهل العارف.(4/493)
قال الكواشي: وهذا من المعاريض، وقد ثبت أن مَن اتبع محمداً على الهدى، ومَن لم يتبعه على الضلال. هـ ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المرتّب. وفيه ضعف. وخولف بين حرفي الجار، الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعلٍ على فرس جواد، يركضُه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام، لا يدري أين يتوجّه.
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي: ليس القصد بدعائي إياكم خوفاً من ضرر كفركم، وإنما القصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، فلا يُسأل أحد عن عمل الآخر، وإنما يُسأل كل واحد عن عمله. وهذا أيضاً أدخل في الإنصاف، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، وهو محظورٌ، والعمل إلى المخَاطبين، وهو مأمورٌ به مشكورٌ.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة، ثُمَّ يَفْتَحُ أي: يحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ بلا جور ولا ميل، فيدخل المحقّين الجنة، والمبطلين النار، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يحكم به.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ أي: ألحقتموهم بِهِ شُرَكاءَ في العبادة معه، بأي صفة ألحقتموهم به شركاء في استحقاق العبادة، وهم أعجز شيء. قال القشيري: كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك لانهماكهم في ضلالهم، مع تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر، ولا شبهة لهم غير تقليد أسلافهم. هـ. ومعنى قوله: (أَروني) مع كونه يراهم: أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يطلعهم على [حالة] «1» الإشراك به، ولذلك زجرهم بقوله: كَلَّا أي: ارتدعوا عن هذه المقالة الشنعاء، وتنبّهوا عن ضلالكم. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي: الغالب القاهر، فلا يشاركه أحد، و «هُوَ» : ضمير الشأن، الْحَكِيمُ في تدبيره وصنعه. والمعنى: بل الوحدانية لله وحده لأن الكلام إنما وقع في الشركة، ولا نزاع في إثبات الله ووجوده، وإنما النزاع فى وحدانية. أي: بل هو الله وحده العزيز الحكيم.
الإشارة: أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي: غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم: وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل: لا تسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نسأل
__________
(1) فى الأصول [إحالة] والمثبت هو الذي فى تفسير النسفي.(4/494)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
عما تعملون. وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا، أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال:
وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ ... هـ.
ولمَّا ذكر ما منّ به على داود وسليمان، وذكر وبال مَن لم يشكر النعم، ذكر ما منّ به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عموم الرسالة والدعوة، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قلت: «كافة» : حال من «الناس» ، على قول الفارسي وابن جني وابن كيسان، واختاره ابن مالك. وقال الأكثر:
إنه حال من الكاف، والتاء للمبالغة، وما قاله ابن مالك أحسن. انظر الأزهري.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي: جميعاً، إنسهم وجِنّهم، عَربيهم وعجميهم، أحمرهم وأسودهم. وقدّم الحال للاهنمام. قال صلى الله عليه وسلم: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنّ أحدٌ قبلي بُعثتُ إلى الأحمر والأسود، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهوراً، وأُحلّت لي الغنائمُ، ولم تُحل لأحدٍ قبلي، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ، وأعطت الشفاعة، فادخرتها لأمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة مَن لا يشرك بالله شيئاً» «1» .
أو: وما أرسلناك إلا رسالة عامة لهم، محيطة بهم لأنها إذا عمتهم فقد [كفتهم] «2» أن يخرج منها أحد.
وقال الزجاج: معنى الكافة في اللغة: الإحاطة، والمعنى: أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ، على أنه حال
__________
(1) أخرجه البخاري فى (التيمم، باب 1 ح 335) ومسلم فى (فاتحة كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 370، ح 521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) فى الأصول [كفهم] والمثبت من تفسير أبى السعود. [.....](4/495)
من الكاف، والتاء للمبالغة، كالراوية والعلاّمة. حال كونك بَشِيراً بالفضل العظيم لمن أقر، وَنَذِيراً بالعذاب لمن أصرّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي: الكفرة، لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
وَيَقُولُونَ من فرط جلهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: القيامة، المشار إليها بقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا «1» ، أو: الوعد بالعذاب الذي أنذرتَ به. وأطلق الوعد على الموعود به لأنه من متعلقاته، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إتيانه؟ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ، «الميعاد» : ظرف الوعد، من مكان، أو زمان. وهو- هنا- الزمان، بدليل مَن قرأ «ميعادٌ يومٌ» ، فأبدل منه «اليوم» . وأما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول: بعير سائبة، أي: قد وقت لعذابكم يوماً لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي: لا يمكنكم التأخُّر عنه بالإمهال، ولا التقدُّم عليه بالاستعجال. ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم: أنهم سألوا عن ذلك، وهم منكرون به، تعنُّتاً لا استرشاداً، فجاء الجوابُ على طريق التهديد مطابقاً للسؤال، على وجه الإنكار والتعنُّت، وأنهم مُرْصَدون له، يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخُّراً، ولا تقدُّماً عليه.
الإشارة: الداعون إلى الله على فرقتين: فرقة تدعو إلى معرفة أحكام الله، وهم العلماء، وفرقة تدعو إلى معرفة ذات الله بالعيان، وهم الأولياء العارفون بالله، فالأولون دعوتُهم خاصة بمَن في مذهبهم، والآخرون دعوتهم عامة إذ معرفة الله تعالى الذوقية لم يقع فيها اختلاف مذاهب، فأهل المشرق والمغرب كلهم متفقون عليها، فشيخ واحد يربي جميع أهل المذاهب، إن خضعوا له، وفي ذلك يقول صاحب المباحث:
مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف ... ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف
وقال الشاعر:
عبارتنا شَتَّى وحُسْنُكَ واحِدٌ ... وكُلٍّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير
ويقول مَن استبعد الفتح: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل: لكم ميعاد يوم عيّنه للفتح، لا يتقدّم ولا يتأخر.
فالأدب: الخدمة وعدم الاستعجال.
__________
(1) الآية 26 من السورة.(4/496)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
ثم ذكر ما يلقون فى ذلك الميعاد على كفرهم، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قلت: أتى بالعاطف في قوله: (وقال) الأخيرة، وترَك في الأولى لأن قول الرؤساء جواب لقول المستضعفين، فحسن ترك العاطف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطفه على كلامهم الأول. و (مكر الليل) :
الإضافة على معنى «في» ، وإضافة المكر إلى الليل على الاتساع، بإجراء الثاني مجرى المفعول به، وإضافة المكر إليه، أو: جعل الليل والنهار ماكرين بهم مجازاً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا، كأبي جهل وأضرابه: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي: ما نزل قبل القرآن، من كُتب الله تعالى، الدالة على البعث. وقيل: إن كفار قريش سألوا أهل الكتب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروهم أنهم يجدون نعته فى كتبهم، فغضبوا، وقالوا ذلك. وقيل: (الذين بين يديه) :
القيامة والجنة والنار، فكأنهم جحدوا أن يكون القرآنُ مِنْ عِندِ الله، وَإِن يكون ما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.
وَلَوْ تَرى يا محمد، أو مَنْ تصح منه الرؤية، إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ في موقف الحسابِ يَرْجِعُ يردّ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ في الجدال والمحاورة. أخبر عن عاقبتهم ومآلهم في الآخرة، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو للمخاطب: ولو ترى في الآخرة موقفهم، وهم يتجاذبُون أطراف المحاورة، ويتراجعونها بينهم، لرأيت أمراً فظيعاً، فحذف الجواب لأن العبارة لا تفي به. ثم بيّن بعض محاورتهم بقوله:(4/497)
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: الأتباع السفلة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي: الرؤساء المقدّمين: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ لولا دعاؤكم إيّانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ: رددناكم عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي: بل أنتم صددتم باختباركم، ولم نقهركم على الكفر. أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان، وأثبتوا أنهم هم الذين صدُّوا أنفسهم، حيث أعرضوا عن الهدى، وآثروا التقليد عليه. وإنما وقعت «إذ» مضافاً إليها، وإن كانت «إذ» و «إذا» من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتّسع في الزمان ما لم يتَسع في غيره.
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي صدّنا عن الهدى. أو: مَكَرَ بنا الليل والنهار، وطولُ السلامة، حتى ظننا أنكم على حق فقلدناكم. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً: أشباهاً، نعبدها معه. والحاصل: أن المستكبرين لَمَّا أنكروا أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين، وأثبتوا أن ذلك بسبب اختيارهم، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرامُ من جهتنا، بل من جهة مكركم بنا دائماً، ليلاً ونهاراً، وحملُكم إيّانا على الشرك واتخاذ الأنداد.
ثم حصل الندم حيث لم ينفع، كما قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي: أضمرَ الندم كِلاَ الفريقين، وأخفاه عن رفيقه، مخافة التعيير، لَمّا رأوا العذاب، وتحققوا لحوقه بهم، فندم المستكبرون على إضلالهم وضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم. وقيل: معنى أسروا: أظهروا، فهو من الأضداد. وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: في أعناقهم. فأظهر في محل الإضمار للدلالة على ما استوجبوا به الأغلال، وهو كفرهم. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لا يفعل بهم إلا ما استوجبته أعمالُهم الخبيثة في الدنيا.
الإشارة: كل مَن له رئاسة وجاه، عالماً كان أو جاهلاً، وصدّ الناس عن طريق التربية على يد المشايخ، يقع له هذا الخصام، مع مَن صدّهم من ضعفاء الناس، حيث يرتفع المقربون، ويسقط الغافلون من تلك المراتب، فيقع الندم والتحسُّر، ويتبرأ الرؤساء من المرءوسين من عامة أهل اليمين. قال القشيري: وهكذا أصحابُ الزلاتِ، الأخلاء في الفساد- أي: يتبرأ بعضهم من بعض- وكذلك الجوارحُ والأعضاء، يشهد بعضها على بعض، اليدُ تقول للجملة: أخذت، العين تقول: أبْصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة. ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه مَن كان أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك. ولو علموا لاعتذروا، ولو اعتذروا لتابوا وتوقفوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا. هـ.(4/498)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
ثم سلّى رسوله، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 36]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ رسول إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: متنعّموها، ورؤساؤها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، فهذه تسليةٌ لرسول صلى الله عليه وسلم مما لقي من رؤساء قومه من التكذيب، والكفر بما جاء به، وأنه لم يرسل قطّ إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهلُ مكة. وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي إلى التكبُّر، وعدم الخضوع للغير هو الانهماك في الشهوات، والاستهانة بمَن لم يحظَ بها، جهلاً، ولذلك افتخروا بالأموال الفانية، كما قال تعالى:
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، رأوا- من فرط جهلهم- أنهم أكرم على الله من أن يعذّبهم. نظروا إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يُكرموا على الله لَمَا رزقهم ذلك. ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ذلك، فأبطل الله رأيهم الفاسد بقوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: يُضيقه على مَن يشاء، فإن الرزق بيد الله، يقسمه كيف يشاء. فربما وسّع على العاصي، استدراجاً، وضيَّق على المطيع، تمحيصاً وتطهيراً، فيوسع على المطيع، ويضيق على العاصي، وربما وسّع عليهما على حسب مشيئته، فلا يُقاسُ عليهما أمر الثواب، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يُوجبانه لم يكن بمشيئته. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة عند الله. وقد تكون للاستدراج، وصاحبها لا يشعر.
الإشارة: ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه، الذين هم أتباع الرسل، فهم الذين حَطُّوا رؤوسهم، وباعوا نفوسهم وأموالهم لله، وبذلوها لمن يُعرّفهم به، فعوّضهم جنة المعارف، يتبوءون منها حيث شاءوا، وأما مَن له جاه أو مال فقلّ مَن يحط رأسه منهم، إلا مَن سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري: بعد كلام: ولكنها أقسام سبقت، وأحكامُ حقت، ثم الله غالبٌ على أمره. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وليس هدا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي ببصائر مفتوحة لقوم، ومسدودة لقوم هـ.(4/499)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 37 الى 38]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قلت: جمع التكسير يُذكّر ويؤنث للعقلاء وغيرهم، ولذلك قال: «بالتي» . و (زلفى) : مفعول مطلق، أي: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم، و (إلا من آمن) : مستثنى من الكاف في «تُقربكم» ، متصل، وقيل: منقطع.
و (من) : شرط، جوابه: (فأولئك) . وعلى الاتصال ف «مَن» منصوبة بتُقرب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي: قُربة، إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، يعني أن الأموال لا تُقرب أحداً إلا المؤمن الصالح، الذي يُنفقها في سبيل الله. والأولاد لا تُقرب أحداً من الله إِلا مَن علَّمهم الخير، وفقَّههم في الدين، وأرشدهم للصلاح والطاعة، فإنَّ عملهم يجري عليه بعد موته لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثلاثٍ: صَدَقَةٍ جَاريَةٍ، وعِلْمٍ بثَّه في صُدور الرِّجالِ، وولدٍ صالح يدعُو له بَعدَ موته» «1» .
فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي: تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشراً إلى سبعمائة، على قدر النية والإخلاص. وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. والأصل: يجازون الضعفَ، ثم جزاءٌ الضعفَ، ثم أضيف. وقرأ يعقوب بالنصب على التمييز، أي: فأولئك لهم الضعف لأعمالهم جزاءُ بِما عَمِلُوا أي: بأعمالهم وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي: في غرفات الجنان آمنون من كل هائل وشاغل. وقرأ حمزة: «في الغرفة» إرادة الجنس.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا في إبطالها، بالرد والطعن مُعاجِزِينَ: مغالبين لأنبيائنا، أو: سابقين، ظانين أنهم يفوتوننا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ يحضرونه فيحيط بهم.
الإشارة: الأموال والأولاد لا تقرب العبد ولا تُبعده، إنما يقربه سابق العناية، ويبدعه سابق الشقاء، فمن سبقته العناية قرّبته أمواله، بإنفاق المال في سبيل الله، وإرشاد الأولاد إلى طاعة الله، ومَن سبق له الشقاء صرف أمواله
__________
(1) أخرجه، بنحوه، مسلم فى (الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255 ح 1631) من حديث ابى هريرة رضي الله عنه.(4/500)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
في الهوى، وأولادَه في جمع الدنيا. قال القشيري: لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال، ولا بالأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة الخالصة، والأحوال الصافية، والأنفس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة.
هـ. وقال في قوله: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ: هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقَّ الله في السِّر، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله تعالى. هـ.
ثم حضَّ على الصدقة، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إنما كرره تزهيداً في المال، وحضًّا على إنفاقه في سبيل الله. ولذلك عقبه بقوله: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، إما عاجلاً في الدنيا إذا شاء، أو آجلاً في الآخرة، ما لم يكن إسرافاً، كنزهة لهو، أو في بنيان، أو معصية. وذكر الكواشي هنا أحاديث منها: «كُلُّ معروفٍ صدقةً، وكل ما أنفق الرجلُ على نفسِه وأهلِه صدقةٌ، وما وَقَى به الرجلُ عِرْضَهُ كُتِبت له بها صدقةً- وهو ما أعطى لشاعر، أو لذي اللسان المتَّقَى- وما أنفق المؤمنُ صدقة فعلى الله خلفها ضامناً، إلا ما كان من نفقةٍ في بُنيانٍ أو معصيةٍ» «1» . قلتُ: يُقيد النفقة في البنيان بما زاد على الحاجة والضرورة، وإلا فهو مأمور به، فيؤجر عليه. والله تعالى أعلم.
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ المطعمين لأن كل مَن رزق غيره من سلطان، أو سيّد، أو زوج، أو غيره، فهو من رزق الله، أجراه على يد هؤلاء، وهو خالقُ الرزق، والأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم قال:
الحمد لله الذي أوجده، وجعلني ممن يشتهي، فكم من مشتَهٍ لا يجد، وواجد لا يشتهي!.
الإشارة: في الآية إشارة إلى منقبة السخاء، وإطلاق اليد بالعطاء، وهو من علامة اليقين، وخروج الدنيا من القلب. وذكر الترمذي الحكيم حديثاً طويلاً عن الزبير رضي الله عنه رأيت أن أذكره لكثرة فوائد مع مناسبة لهذا المعنى.
قال: جئتُ حتى جلستُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بطرف عمامتي من ورائي، ثم قال: «يا زبير إني رسول الله إليك خاصة، وإلى الناس عامة. أتدرون ما قال ربكم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال. قال ربكم حين استوى على
__________
(1) رواه الدار قطنى فى سننه (3/ 28) والحاكم فى المستدرك (2/ 50) من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي.(4/501)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
عرشه ونظر إلى خلقه: عبادي أنتم خلقي وأنا ربكم، أرزاقكم بيدي، فلا تتعبوا فيما تكفلتُ لكم به، فاطلبوا مني أرزاقكم، وإليّ فارفعوا حوائجكم، انصُبُوا إليَّ أنفسَكم أصُبُّ عليكم أرزاقكم. أتدرون ما قال ربكم؟ قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك، وأوسع أُوسع عليك، ولا تضيق فأضيق عليك، ولا تَصُرّ فأصر عليك، ولا تخزُنُ فأخزنُ عليك، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سموات، متواصل إلى العرش، لا يغلق ليلاً ولا نهاراً، ينزل الله منه الرزق، على كل امرئ بقدر نيته، وعطيته، وصدقته، ونفقته، مَنْ أكثر أكثر عليه، ومَنْ أقل أقل عليه، ومَنْ أمسك أمسك عليه. يا زبير فكُل وأَطعم، ولا تُوك فيُوك عليك «1» ، ولا تحْصِ فيُحصَ عليك، ولا تقترّ فيقترْ عليك، ولا تعسر فيعسرْ عليك. يا زبير، إن الله يحب الإنفاق، ويبعض الإقتار، وإن السخاء من اليقين، والبخل من الشك، فلا يدخل النار مَن أيقن، ولا يدخل الجنة مَن شك. يا زبير إن الله يُحب السخاوة، ولو بفلق تمرة، والشجاعة، ولو بقتل عقرب أو حية. يا زبير إن الله يُحب الصبر عند زلزلة الزلازل، واليقين النافذ عند مجيء الشهوات، والعقل الكامل عند نزول الشبهات. والورع الصادق عند الحرام والخبيثات. يا زبير عظِّم الإخوان، وأجلّ الأبرار، ووقر الأخيار، وصل الجار، ولا تماشِ الفجار، تدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، هذه وصية الله إليّ، ووصيتي إليك» .
ثم ذكر توبيخه على الشرك، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ «2» جَمِيعاً، العابدين والمعبودين، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ هو خطاب للملائكة، وتقريع للكفرة، وارد على المثل السائر من قول العامة: الخطاب للسارية وافهمي يا جارية. ونحوه قوله:.. أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي.. الآية «3» . وتخصيص
__________
(1) أي: لا تدخر وتشد ما عندك، وتمنع ما فى يديك، فتنقطع مادة الرزق عنك. والوكاء: الخيط الذي تشد به الصرّة والكيس وغيرهما. انظر النهاية فى غريب الحديث (وكاء، 5/ 222- 223) .
(2) قرأ حفص، ويعقوب: «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون «نحشرهم» و «نقول» بالنون. وقد أثبت المفسر قراءة النون. انظر إتحاف فضلاء البشر (2/ 388) .
(3) من الآية 116 من سورة المائدة.(4/502)
الملائكة لأنهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم. قالُوا سُبْحانَكَ تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك. أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الذي نُواليه من دونهم، لا موالاة بيننا وبينهم. والموالاة خلاف المعاداة، وهي مفاعلة من الولْي، وهو القرب. والوليّ يقع على المُوالِي والمُوالَى جميعاً. فبينوا بإثبات موالاةِ الله تعالى ومعاداة الكفار: براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم فإنَّ مَن كان على هذه الصفة، كانت حالُه منافية لذلك.
ثم قالوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي: الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، أو: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام، إذا عُبِدَت، فيُعْبَدون بعبادتها، أو: صَوَّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي: أكثر الإنس، أو: الكفار، بِهِمْ بالجن مُؤْمِنُونَ مصدقون لهم فيما يأمرونهم به. والأكثر هنا بمعنى الكل.
قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لأن الأمر في ذلك اليوم إليه وحده، لا يملك أحد فيه منفعة ولا مضرة لأحد لأن الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقبُ هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا، التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلَّى بينهم، يتضارون، ويتنافعون، وأما يوم القيامة فلا فعل لأحد قط.
ثم ذكر معاقبة الظالمين بقوله: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع العبادة في غير موضعها: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدنيا.
الإشارة: ما أحببتَ شيئاً إلا وكنتَ له عبداً، ولا يُحب أن تكون لغيره عبداً، فإذا تحققت الحقائق، التحق كل عابد بمعبوده، وكل حبيب بمحبوبه، فيرتفع الحق بأهله، ويهوي الباطلُ بأهله. وكل ما سوى الله باطل، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها، وتعلق بالباقي، دون الفاني، ولا تتعلق بشيء سوى المتكبر المتعالي.
قال القشيري: قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ.. الخ، الإشارة في هذا: أنَّ مَن علّقَ قلبه بالأغيار، وظنّ صلاحَ حاله في الاختيار، والاستعانة بالأمثال والأشكال، نزع اللهُ الرحمة من قلوبهم، وتركهم، وتشوش أحوالهم، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة، ولا لهم في عقولهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، فإن رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم، ويقول: ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة. هـ. قلت: قوله: «فإن رجعوا لا يرحمهم» يعني أنهم فزعوا أولاً إلى المخلوق، فلما لم ينجح مسعاهم، رجعوا إلى الله، فلم ينفعهم، ولو تابوا في المستقبل لقبل توبتهم.
وقال أيضاً: ومن تشديد العقوبة الافتضاح في السؤال. وفي بعض الأخبار: أن عبيداً يسألهم الحق غداً، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون: يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة، ولا تعذبنا بهذا السؤال. هـ. وبالله التوفيق.(4/503)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
ثم ذكر حال أهل الغفلة، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي: إذا قُرئت عليهم آيات القرآن، بَيِّناتٍ:
واضحات، قالُوا أي: المشركون: ما هذا؟ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ: يصرفكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام. وَقالُوا ما هذا أي: القرآن إِلَّا إِفْكٌ: كذب مُفْتَرىً بإضافته إلى الله تعالى. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: وقالوا. والعدول عنه دليلٌ على إنكار عظيم، وغضب شديد، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد، لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أي: للقرآن، أو لأمر النبوة كله، لما عجزوا عن معارضته، قالوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: ما هذا إلا سحر ظاهر سِحريتُه. وإنكارهم أولاً باعتبار معناه، وثانياً باعتبار لفظه وإعجازه، ولذلك سمُّوه سحراً.
قال تعالى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي: ما أعطينا مشركي مكة كُتباً يدرسونها، فيها برهان على صحة الشرك. وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي: ولا أرسلنا إليهم نذيراً يُنذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، ويدعوهم إليه، إذ لا وجه له، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة؟ وهذا في غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم.
ثم هدّدهم بقوله: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: وكذّب الذين تقدّموا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الرسل، كما كذّب هؤلاء. وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي: وما بلغ أهل مكة عُشر ما أُوتي الأولون، من طول الأعمار، وقوة الأجرام، وكثرة الأموال والأولاد، وتوالي النعم، والظهور في البلاد. والمِعشار: مِفعال، من: العشر، ولم يأتِ هذا البناء إلا في العشرة والأربعة. قالوا: معشار ومرباع. وقال في القوت: المعشار: عشر العشر.
فَكَذَّبُوا رُسُلِي أي: فكذبت تلك الأمم رسلي، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم(4/504)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
بالهلاك والتدمير. فالنكير: مصدر، كالإنكار معنى، وكالنذير وزناً. و (كيف) للتعظيم، لا لمجرد الاستفهام، أي:
فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل [ما حل] «1» بأولئك لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري: إن الحكماء والأولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء- وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا:
مَن ذا الذي يطيق هذا؟ ولا بُد من الدنيا مادمت تعيش! .. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها.. ما حاصله: إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قلت: «أن تقوموا» : بدل من «واحدة» ، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة، وهي: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي: لوجه الله خالصاً، لا لحمية، ولا عصبية، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوي، وهو القصد والتوجُّه بالقلب، وقيل: حسي، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم كل واحد منفرداً بنفسه، يتفكر، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله: مَثْنى وَفُرادى أي: اثنين اثنين، أو فرداً فرداً. والمعنى:
أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا وتنهضوا الله، معرضين عن المراء
__________
(1) فى النسخة الأم [ما حق] .(4/505)
والتقليد، متفرقين اثنين اثنين، أو واحداً واحداً فإنَّ الازدحام يُشوّش الخاطر، ويخلط القول، ويمنع من الرويّة، ويقلّ فيه الإنصاف، ويكثر الاعتساف.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، حتى تعلموا أنه حق، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف، حتى يؤديهما النظرُ الصحيح إلى الحق، وكذلك المفرد، يتفكر في نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالإنصاف عرفتم أن ما بِصاحِبِكُمْ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ من جنون، وهذا كقوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» .
ومنهم مَن يقف على «تتفكروا» ثم يستأنف النفي. قال القشيري: يقول: إذا سَوَّلَتْ لكم أنفسكم تكذيبَ الرسل، فأمعنوا النظرَ، هل تَرَوْنَ فيهم آثار ما رميتموهم به- هذا محمد صلى الله عليه وسلم قُلْتُم ساحر، فأين آثار السحر في أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم: فأيّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قُلْتُم مجنون، فأيُّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلاَّ اعترفتم به أنه صادق؟!. هـ.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي: قُدَّام عذابٍ شديد، وهو عذاب الآخرة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «بُعثتُ بين يَديِ الساعة» «2» .
الإشارة: فكرة الاعتبار تشد عُروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان، فأول ما يتفكر فيه الإنسان فى أمره صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية، والشرائع المتباينة، مع كونه أُميًّا، لم يقرأ، ولم يطالع كتاباً قط، وما أخبر به من أمر الغيب، فوقع كما أخبر، وما ظهر على يديه من المعجزات، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام من الأخلاق الحسنة، والشيم الزكية، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ سياسة الخلق، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر رباني، وتأييد إلهي. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة، ترقى بها إلى أنوار الربوبية، فيتفكر في عجائب السموات والأرض، فيعرف عظمة صانعها، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان، فيغيب عن نظرة الأكوان، ويبقى المُكوّن وحده. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.
__________
(1) من الآية 184 من سورة الأعراف.
(2) بعض حديث، أخرجه أحمد فى المسند (2/ 50) وابن أبى شيبة فى مصنفه، من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه (5/ 313) ، وانظر: مجمع الزوائد (5/ 267) ، وجاء معنى الجملة عند البخاري ومسلم بلفظ: «بعثت أنا والساعة كهاتين» أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ح 6504) ومسلم فى (الفتن، باب قرب الساعة، 4/ 2268، ح 2951) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(4/506)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
ثم بيّن أنه لا يطلب أجرا على الإنذار إزاحة للتهمة عنه، فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 47]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ عليه أي: على إنذاري وتبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ، إذ لو كنت كذلك لا تهمتمونى أني أطمع في أموالكم. وما طلبتُ من ذلك فَهُوَ لَكُمْ، ومعناه: نفي سؤاله الأجر رأساً. نحو: ما لي في هذا فهو لك، وما تعطني تصدق به على نفسك. إِنْ أَجْرِيَ في ذلك إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيعلم أني لا أطلب الأجر في نصيحتكم، ودعائكم إليه، إلا منه تعالى.
الإشارة: تقدم مراراً أن الدعاة إلى الله ينبغي لهم أن يتنزّهوا عن الطمع في الناس جهدهم، ولو اضطروا إلى ذلك إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام، والتعفُّف التام عما في أيدي الناس، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حُجةً، يدمغ بهم على الباطل، كما قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 48 الى 50]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: بالوحي، فيرمي به على الباطل، من الكفر وشبهه، فيدمغه، أو: يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإسلام، أو: يلقيه وينزله إلى أنبيائه.
والقذف: رمي السهم ونحوه بدفع واعتمادٍ، ويستعار لمطلق الإلقاء، ومنه: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «1» . تمّ وصف الرب بقوله: عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي: هو علام الغيوب.
قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي: الإسلام، أو: القرآن، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي: زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي، فعدمهما عين الهلاك، والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ «2» قال الكواشي: المعنى: ذهب الباطل لمجيء الحق، فلم يبقَ له بقية حتى يبدئ شيئاً أو يعيده. ثم
__________
(1) من الآية 26 من سورة الأحزاب.
(2) الآية 81 من سورة الإسراء.(4/507)
قال: وهذا مثلٌ، يقال: فلان لا يبدئ ولا يعيد، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي: الباطل: إبليس، ما يبدىء ولا يعيد: لا يخلق ولا يبعث، والله تعالى هو المبدئ المعيد، ومعناهما: الخالق الباعث. وقال في الصحاح:
وفلان ما يبدئ وما يعيد، أي: ما يتكلم ببادية ولا عائدة، ومثله في القاموس.
والحاصل: أنه عبارة عن زهوق الباطل، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح، وحَوْلَ الكعبة أصنام، فجعل يطعنُها بعودٍ، فتقطع لقفاها، ويقول: «جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الباطل كان زهوقا. قل جاء الحق وما يبدئ الباطلُ وما يُعيد» «1» .
ولما قالوا له صلى الله عليه وسلم: قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال ضلالي عليها، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي: فبتسديده بالوحي إِليّ. وكان قياس المقابلة أن يقال: وإن اهتديتُ فإنما أهتدي لها، كقوله: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «2» ، ولكن هما متقابلان معنًى لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها، وما لها مما ينفعها، فهو بهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسولَه أن ينسبه إلى نفسه تشريعاً لغيره لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره؟. إِنَّهُ سَمِيعٌ لما أقوله لكم، قَرِيبٌ مني ومنكم، فيجازيني ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
الإشارة: الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو: ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر:
فلم يبق إلا الله لم يبق كائن ... فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى ... بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفي القوت في تفسير الآية: أي: لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي:
كشف ما يبدىء الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني: أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. هـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه: (إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي..) الآية.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (المظلم، باب: هل تكسر الدنان التي فيها خمر، ح 2478) ومسلم فى (الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة 3/ 1408. ح 1781) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) الآية 41 من سورة الزمر.(4/508)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
ثم ذكر حسرة من فاته الإيمان فى إبّانه، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قلت: «مُرِيب» : اسم فاعل، من: أراب، أي: أتى بريبة، وأربته: أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد: وصفه بالشدة والإظلام، بحيث إنه يوقع في شك آخر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ تَرى يا محمد، أو: يا مَن تصح منه الرؤية، الكفرةَ. إِذْ فَزِعُوا حين فزعوا عند صيحة البعث، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، فَلا فَوْتَ أي: لا مهرب لهم، أو: فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. وَأُخِذُوا إلى النار مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من المحشر إلى قعر جهنم. أو: ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو: إذ فزعوا يوم بدر، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
وَقالُوا حين عاينوا العذاب: آمَنَّا بِهِ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» أو: بالله، أو: بالقرآن المذكور في قوله: فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي: التناول. من قرأه بالواو «2» فوجهه: أنه مصدر: ناش، ينوش، نوشاً، أي: تناول، وهي لغة حجازية، ومنه: تناوش القوم في الحرب: إذا تدانوا، وتناول بعضهم بعضاً، أي: ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة، تُقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل: هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول
__________
(1) الآية 46 من السورة. [.....]
(2) قرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، والكسائي (التناوش) بالهمزة، وقرأ الباقون (التناوش) بالواو من غير همز.(4/509)
الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز: أنه مصدر: تناءش، بمعنى أبطأ، أو:
بعُد، يقال: تناءشت الشيء: أخذته من بعد. والنئيش: الشيء البطيء، كما قال الشاعر:
وجئت نئيشا بعد ما فَاتَكَ الخير «1» .
أي: جئت بطيئاً. وقيل: الهمز بدل الواو، كالصائم، والقائم، وأقتت. والمعنى: ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ حصول العذاب، أو: قبل الموت في الدنيا، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، هو عطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية، أي: وقد كفروا في الدنيا، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عن الحق والصواب، أو: هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاعر، ساحر، كذاب، وهو رجم بالغيب إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم إذ لم يعرفوه إلا بالصدق، والأمانة، ورجاحة العقل.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النيران، والفوز بنعيم الجنان، أو بين الرد إلى الدنيا، كما حُكِيَ عنهم بقوله: فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً «2» كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي:
بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ في أمر الرسول والبعث، مُرِيبٍ: موقع للريبة، أو: ذي ريبة، نعت به للمبالغة. وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك، قاله النسفي.
الإشارة: قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف- بعد الموت- عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا: آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يسمع.
__________
(1) عجز بيت، وهو كما فى القرطبي (6/ 5553) :
قعدت زمانا عن طلابك للعلا ... وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر
(2) من الآية 12 من سورة السجدة.(4/510)
قال القشيري: إذا تابوا- وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا- وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه.
فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد:
فَخَلِّ سَبِيلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ للبكا ... فليس لأيام الصفاء رجوعُ. هـ
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولاديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.(4/511)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة فاطر
مكية. وآيها ست- أو خمس- وأربعون. ومناسبتها لما قبلها: أن صدرها استدلال على عظم ذاته، وباهر قدرته، وتحقيق رسالة نبيه، بجعل الملائكة رسلا إليه، ففيها إزاحة للشك، وقلع للريب، الواقع فى قلوب الكفرة، الذي ختمت به السورة، فكأنه تعالى حمد نفسه على إظهار شأنه، وإن لم يحمده عتاة خلقه.
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قلت: (أولِي) : اسم جمع، كذُو، وهو بدل من «رسلاً» ، أو نعت له، ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: نعوت لأجنحة، وهو غير منصرف لأنه معدول عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وهو باعتبار الأشخاص، أي: منهم مَن له اثنان، ومنهم مَن له ثلاثة، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جلّ جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، حمد نفسه تعليماً وتعظيماً، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه: «ما كنت أدري معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها» . قال البيضاوي: من الفطر، بمعنى الشق، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت:
وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف، فنور السموات والأرض من نوره الأزلي، وسره الخفي. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى عباده، أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، فيُبلغون إليهم رسالاته بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة. أُولِي أَجْنِحَةٍ متعددة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي: منهم ملائكة لهم اثنان لكل واحد جناحان، ومنهم مَن له ثلاثة، ومنهم مَن له أربعة، بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون، أو: يُسرعون نحو ما وكلهم الله عليه، يتصرفون فيه على ما أمرهم به، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها، لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج، وله ستمائة جناح «1» . وَرُويَ أنه طلب منه أن يريه
__________
(1) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم «آمين» ح 3232) ومسلم فى (الإيمان، باب ذكر سدرة المنتهى 1/ 158، ح 174) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، لكنه ليس فيه «ليلة المعراج» .(4/513)
صورته التي خلقه اللهُ عليها، فلما رآه كذلك خرّ مغشِياً عليه. وقال: ما كنت أرى شيئاً من الخلق هكذا. فقال له: لو رأيت إسرافيل، إِنَّ له لاثني عشر جناحاً بالمشرق، واثني عشر جناحاً بالمغرب، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل لعظمة الله تعالى «1» هـ.
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي: يزيد في خَلْق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل: هو الوجه الحسن، والشَعْر الحسن، والصوت الحسن، والحظّ الحسن، والملاحة في العينين. والآية مطلقة تتناول كلَّ زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة العقل، وجزالة في الرأي، وفصاحة في اللسان، وحُسن خلق في المعاشرة، ومحبة في قلوب المؤمنين وغير ذلك. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما يشاء، من زيادةٍ في الخلق، ونقصان فيها، على حسب المشيئة السابقة.
الإشارة: الحمدُ في القرآن وقع على أربعة أقسام: حمد مطلق، وهو الواقع على عظمة ذاته، من غير أن يكون في مقابلة شيء، وهو قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «3» ، وحمدٌ وقع في مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص، وهو قوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ... «4» الآية. وحمدٌ وقع في مقابلد نعمة الإيجاد، وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. «5» ، وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإمداد الحسي، كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ «6» ، فإن التربية تقتضي وصول ما يحتاج إليه المربّي، أو الإمداد المعنوي، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية، وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «7» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا.. «8» فهذه أربعة: حمد مطلق، أو مقيد بشأن التنزيه، أو بنعمة الإيجاد، أو الإمداد، وما وقع هنا في إظهار تجلياته، من أرضه وسماواته، ولطائف ملائكته، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال القشيري: يقال: هو الفهم عن الله، أو السخاء والجود، أو:
الرضا بالتقدير، أو: علو الهمة، أو: التواضع في الشرف، أو: العفة في الفقر، أو: الظَرفُ- أي: الظرافة- في الشمائل، أو: أن يكون مُحَبباً في القلوب، أو: خفة الروح، أو: تحرُّر القلب عن رِقِّ الحرمان- أي: بالوقوف مع الأكوان- أو: ألا يطْلُب لنفسه منزلةً في الدارين- أي: بأن يكون عبد الله حقيقة-. هـ. ملخصا.
__________
(1) ذكره القرطبي (6/ 5558) عن الزهري.
(2) من الآية 59 من سورة النمل.
(3) من الآية 75 من سورة النحل.
(4) الآية 111 من سورة الإسراء.
(5) من الآية الأولى من سورة الأنعام.
(6) الآية 36 من سورة الجاثية.
(7) الآية الأولى من سورة الكهف.
(8) من الآية 43 من سورة الأعراف.(4/514)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
والصواب أن الزيادة تشمل ذلك كله، وكل من خصه بشىء فإنما ذلك رحمة منه تعالى، كما قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 2]
مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
يقول الحق جلّ جلاله: مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي: ما يطلق ويرسل من رحمة، كنعمة، ومطر، وأمن، وعافية، ورزق، وعلم، ومعرفة، ونبوة، وغيرها، فَلا مُمْسِكَ لَها فلا أحد يقدر على إمساكها وردها، واستعير الفتح للإطلاق لأنه مسبب عنه. ونكّر الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أيّ رحمة كانت، فتشمل نعمة الدفع والجلب، كدفع المحن وجلب المنن. والاعترافُ بالمنعم من تمام النعمة، والأمران مدرجان في الفتح والإمساك، وَما يُمْسِكْ أي: يمنع ويحبس من ذلك فَلا مُرْسِلَ لَهُ فلا مُطلق له مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمِّن معنى الشرط على معنى الرحمة، وذكّره حملاً على لفظ المرجوع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسّر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فتُرك على أصل التذكير.
وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تزال يدُ الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفُقْ خيارُهم بشرارهم، ويُعظّمْ بَرُّهُم فاجرهم، وتعن قراؤهم على أمراءهم على معصية الله. فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم» «1» قال ابن عرفة: يُؤخذ من قوله تعالى: وَما يُمْسِكْ.. أن العدم السابق الإضافي متعلق للقدرة، وجعله بعض الأصوليين متعلقاً للإرادة أيضاً، وذلك لأن المصحح للتعلُّق الإمكان. هـ. قال الأُبي: لا دليل في الآية لاحتمال أن يكون التقدير: وما يريد إمساكه، فيكون من متعلقات الإرادة، ويحتمل: وما يُمسك عن الإرسال بعد وجوده، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه في السحاب. هـ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، القادر على الإرسال والإمساك. الْحَكِيمُ الذي يُرسل ويُمسك، بما تقتضي الحكمة إرساله، أو إمساكه.
الإشارة: ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات، وواردات، وإلهامات، وعلوم لدنية، وحِكَم ربانية، وتعرفات جمالية وجلالية، فلا ممسك لها، بل الله يفتح على مَن يشاء، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة، علامته: عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم، وصَحِبهم، وعظَّمهم، وخدمهم،
__________
(1) ذكر نحوه العراقي فى المغني (2/ 164) وعزاه لأبى عمرو الداني، فى كتاب الفتن، من رواية الحسن، مرسلا، بلفظ: (لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه ما لم يمالىء قراؤها أمراءها) وقال العراقي. ورواه الديلمي في مسند الفردوس، من حديث علىّ، وابن عمر، بلفظ: «ما لم يعظم أبرارها فجارها، ويداهن خيارها شرارها، وإسنادهما ضعيف.(4/515)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه، وكل مَن نكبه عنهم، ولم يصحبهم، كما ذكر، فقد سُدّ الباب في وجهه عن معرفته العيانية. وفي الحكم: «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» «1» . وما يُمسك من ذلك فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بعده، ولو صلّى وصام ألف عام. قال القشيري: ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضباب يقهره. ويقال: ما يلزم قلوبَ أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمسك له، والذي يمنع من أعدائه- بسبب ما يُلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا مُيَسِّرَ له من دونه. هـ. وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم بالنعم لأن تذكر النعم سبب الفتح، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 4]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
قلت: «غيرُ الله» : من رفعه فنعت للمحل، أي: هل خالق غير الله، ومن جره: فنعت للفظ. و «يرزقكم» : إما استئناف، أو: صفة ثانية لخالق، و «لاَ إله إِلاَّ هُوَ» : مستأنفة، لا محل لها.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ باللسان والقلب، وهي التي تقدمت، من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم، وهو توحيد المُنْعم، فقال: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات، بل لا خالق يرزق غيره، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
ثم سلَّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المُنعم بقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فلك فيهم أُسوة، فاصبر كما صبروا. وتنكير «رسل» للتعظيم، المقتضي لزيادة التسلية، والحث على المصابرة، أي: فقد
__________
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ 13، حكمة/ 156) . [.....](4/516)
كُذِّبت رسل عظام، ذوو عدد كثير، وأولو آيات عديدة، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام:
وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك لأن الجزاء يعقب الشرط، ولو أجري على الظاهر، لكان الجزاء مقدماً على الشرط لأن تكذيب الرسل سابق، فَوضعَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ موضع فتأسّ، استغناءً بالسبب عن المسبب. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وهو كلامٌ مشتمل على الوعد والوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذِّب والمكذَّب بكل ما يستحقه في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب، وفي الآخرة معلوم، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر النعمة هو أن ينظر العبد، ويتفكر في نفسه، فيجد نفسه مغروقة في النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدّم تعدادها في لقمان «1» . وليتفكر في حالته الماضية، فقد كان جاهلاً، فعلَّمه الله، ضالاًّ، فهداه الله، غافلاً، فأيقظه الله، عاصياً، فوفقه الله، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضاً إلى مَن تحته مِن العباد، فيجد كثيراً مَن هو أسوأ منه حالاً ومقاماً، فيحمد الله ويشكره. قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى مَن هو تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكم فهو أَجْدَرُ ألا تَزْدَرُوا نعمةَ الله عليكم» «2» . وحمله المحققون على العموم في الدين والدنيا. ذكره ابن عباد في الرسائل وغيره.
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز رضي الله عنه: تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري: مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. هـ.
قلت: مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين إذا المتجلي واحد. ثم قال: والنعمة على قسمين:
ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ..؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
__________
(1) راجع تفسير الآية 20 من سورة لقمان.
(2) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق 4/ 2275، ح 2963) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(4/517)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
ثم قال في قوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ... الآية: وفي هذا إشارة للحكماء، وأرباب القلوب، مع العوامِّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق منهم أبداً في مقاساة الأذية، إلا بسَتْر حالهم عنهم، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتعمقين، والعلماء المتجمدين، الذين هم لهذه الأصول منكرون. هـ.
ثم حذّر من الدنيا لأنها تنسى النّعم والشكر، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ، أي: كائن لا محالة، فاستعدُّوا للقائه، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة، ولا يُذهلنكم التمتُّع بها، والتلذُّذ بملاذها، والاشتغال بجمعها واحتكارها، عن التأهُّب للقاء الله، وطلب ما عنده. وفي الحديث: «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه» . وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي: الشيطان، فإنه يُمنِّيكم الأماني الكاذبة، ويقول: إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك. أو: إن الله غفور لمَن عصاه.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ظاهر العداوة، فعل بأبيكم ما فعل، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فلا تقبلوا غروره في عقائدكم وأفعالكم، وكُونوا على حذر منه في جميع أحوالكم إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته في سركم وجهركم.
قال الورتجبي: إنه عدو لأنه من عالم القهر خُلق، ونحن من عالم اللطف خُلقنا. والطبعان متخالفان أبداً، لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل، فسبق اللطفُ القهر، فعداوته من جهة الطبع الأول، والجهل بالعصمة، وأنوار التأييد والنصرة، ومَن لا يعرفه بما وصفنا، كيف يتخذه عدواً؟ وهو لا يعرف مكائده، ولا يعرف مكائده إلا وليّ أو صدِّيق. هـ.(4/518)
ثم خطّأ مَن اتبعه بأن غرضه أن يورد شيعَته موارد الهلاك، بقوله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ، فهو تقرير لعداوته، وبيان لغرضه في دعوى شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، أي: إنما يدعوهم إلى الهوى، ليكونوا من أهل النار.
ثم بيَّن مآل مَن اتبعه ومَن عاداه، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: فمَن أجابه إلى ما دعي فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه وأتباعه، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ولم يجيبوه، ولم يصيروا من حزبه، بل عادوه، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لكبر جهاده ودوامه.
الإشارة: وَعْد الله هنا عام، وكله حق، واجب الوقوع، لا يتخلّف، فيصدق بوعد الرزق، وكفاية مَن انقطع إليه عن الخلق، لقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1» وتولى مَن أصلح حالَه لقوله: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «2» ، ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب العاصي، أو: حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ... الخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب: إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم: كيف صُنعك مع الشيطان؟ فقال: نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدى رضي الله عنه: «انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله» . «3» وفي الحكم العطائية: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده» . وقال أيضاً: «وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه» . وقال: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك» «4» .
__________
(1) من الآية 3 من سورة الطلاق.
(2) من الآية 196 من سورة الأعراف.
(3) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ 23، حكمة/ 236) .
(4) (ص/ 31، حكمة 130) .(4/519)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
ومن جملة عداوته تزيين القبائح، كما قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
قلت: «أفمن» : مبتدأ حُذف خبره، أي: كمن هداه الله، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و «حسرات» : مفعول له.
وجَمعها لتضاعف اغتمامه، أو تعدُّد مساوئهم. و «عليهم» : صلة لتذهب، كما تقول: هلك عليه حُبًّا، ومات عليه حُزناً. ولا يتعلق بحسرات لأن المصدر لا يتقدَّم عليه صلته، إلا أن يُتَسَامحَ في الجار والمجرور.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بأنْ غلَب هواه على عقله، وجهله على علمه، حتى انعكس رأيه، فَرَآهُ حَسَناً فرأى الباطل حقًّا، والقبيح حسناً، كمَن هداه الله واستبصر، فرأى الحق حقًّا، والباطل باطلاً، فتبع الحق، وأعرض عن الباطل، ليس الأمر كذلك، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، فمَن أضله رأى الباطل حقًّا، فتبعه، ومَن هداه رأى الباطل باطلاً، فاجتنبه، والحق حقًّا فاتبعه.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي: فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، فإن أمرهم بيدي، وأنا أرحم بهم منك، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة: إذا أراد الله إبعاد قوم غطّى نور بصيرتهم بظلمة الهوى، فيُزيّن في عينهم القبيح، ويستقبح المليح، فيرون القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، كما قال الشاعر:
يُغمى على المرء في أيام مِحنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
قال القشيري: ومعنى التزيين كالكافر يَتَوَهَّمُ أنَّ فعله حَسَنٌ، وهو عند الله من أقبح القبيح، ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ويحوّش حُطَامها «1» ، لا يتفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها من قبل كمالها، لقد زُين له سُوء عمله، والذي يتبع الشهوات يبيع مؤبد راحته في الجنة، بمتابعة شهوة ساعة، فلقد زُين له سُوء عمله، والذي يؤثر على ربِّه شيئاَ من المخلوقات، فهُو من جملتهم، والذي يتوهَّمُ أنه إذا وَجَدَ النجاة والدرجات في الجنة
__________
(1) أي: يجمعه ويدخره.(4/520)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
فقد اكتفى، فقد زُين له سُوء عمله، حيث تغافل عن حلاوة مناجاته. والذي هو في صحبة حظوظه، دون إيثار حقوق الله، فقد زُين له سُوء عمله فرآه حسناً. هـ.
قلت: وكذلك مَن وقف مع الكرامات والمقامات، وحلاوة الطاعات، دون درجة المشاهدة، فقد زُين له سُوء عمله. والحاصل: كل مَن وقف مع شيء، دون تحقيق الفناء في الذات، فهو مُزيَّن له سوء عمله. وكل مَن لم يصحب الرجال فهو غالط، يظن أنه واصل، وهو منقطع في أول البدايات. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، كذلك يقال للواعظ، إذا رأى إدبار الخلق، وعدم تأثير الوعظ فيهم، فليكتفِ بعلم الله فيهم، ولا يتأسّف على أحد، فإن التوفيق بيد الله.
وربما يحييهم بعد حين، كما يُحيي الأرضَ بعد موتها، كما أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
قلت: «كذلك» : خبر مقدّم، و «النشور» : مبتدأ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، وفي قراءة بالإفراد، للجنس «1» ، فَتُثِيرُ سَحاباً أي: تزعجه، وعبَّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ لا نبات فيه، فَأَحْيَيْنا بِهِ أي: بالمطر النازل منه الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها. وعدل من الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص لِمَا فيه من مزيد بديع الصنع، كَذلِكَ النُّشُورُ أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش، كمنيّ الرجال، فتنبت به الأجسادُ في قبورها، ثم يرسل الأرواح فتدخل في أشباحها «2» . قال أبو رزين: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بواد أهلك مَحْلاً؟ - أي: جدباً- قلت: نعم، قال: فكذلك يُحيي الله الموتى، وتلك آية الله في خلقه» «3» .
__________
(1) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي (الريح) بالتوحيد، وقرأ الباقون (الرياح) بالجمع. انظر الإتحاف (2/ 392) .
(2) ذكره الطبري (22/ 119) .
(3) أخرجه أحمد فى المسند (4/ 11) والطبراني فى الكبير (19/ 208 ح 470) والطيالسي (ص 147 ح 1089) عن أبى رزين العقيلي. قال الهيثمي فى المجمع (1/ 85) : رجاله ثقات.(4/521)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
الإشارة: والله الذي أرسل رياح الهداية، فتزعج سحاب الغين عن قلوب أهل الهداية، فسقناه- أي: ريح الهداية- إلى قلب ميت بالغفلة والجهل بالله، فأحيينا بالوارد الناشئ عن ريح الهداية أرضَ النفوس، بالنشاط إلى العبادة، والذكر، والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والقسوة، كذلك النشور. وذلك عزها، كما قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ أي: الشرف والمنعة على الدوام، في الدنيا والآخرة، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً فليطلبها من عنده، بالتقوى، والعلم، والعمل الصالح، كالزهد في الدنيا، والتبتُّل إلى الله، أي: فالعزة كلها مختصة بالله، عز الدنيا وعز الآخرة. وكان الكفار يتعززون بالأصنام، كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «1» ، والمنافقون كانوا يتعزّزون بالمشركين، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.. «2» ، فبيَّن أن العزة إنما هي لله بقوله: «فإن العزة لله» فليطلبها مَن أرادها من عنده. فوضع قوله: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ موضعه، استغناء به عنه لدلالته لأن الشيءَ لا يُطلب إلا من عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: مَنْ أراد النصيحة فهي عند الأبرار، أي:
فليطلبها من عندهم. وفي الحديث: «إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمَن أراد عزّ الدارين فليُطِعِ العزيز» «3» .
ثم ذكر ما يطلب به العز، وهو العمل المقبول، بقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ كلمة التوحية: لا إله إلا الله، وما يلحقها من الأذكار، والدعاء، والقراءة. وعنه صلى الله عليه وسلم: «هو سُبحان الله والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ. إذا قالها العبدُ عَرَجَ بها الملكُ إلى السماء، فحَيّا بها وَجْهَ الرحمن «4» . وكان القياس: الطيبة، ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يُذكّر ويؤنّث. ومعنى الصعود: القبول والرضا، وكل ما اتصف بالقبول وُصف بالرفعة والصعود.
__________
(1) الآية 81 من سورة مريم.
(2) الآية 139 من سورة النساء.
(3) ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات (1/ 120) عن أنس رضي الله عنه. وقال ابن الجوزي: وهذا من تلصيص سعيد بن هبيرة العامري، قال ابن عدى: كان يحدث الموضوعات.
(4) أخرجه بنحوه الطبري (22/ 120) والحاكم- وصححه ووافقه الذهبي (2/ 425) - وأخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (2/ 34) والبغوي فى التفسير (6/ 414- 415) من حديث ابن مسعود، موقوفا. [.....](4/522)
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ كالعبادة الخالصة يَرْفَعُهُ الله تعالى، أي: يقبله. أو: الكلم الطيب، فالرافع على هذا الكلم الطيب، والمرفوع العمل الصالح، أي: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب لأن العمل متوقف على التوحيد، المأخوذ من الكلم الطيب وفيه إشارة إلى أنَّ العمل يتوقف على الرفع، والكَلِم الطيب يصعد بنفسه، ففيه ترجيح الذكر على سائر العمل. وقيل: بالعكس، أي: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فإذا لم يكن عمل صالح فلا يقبل منه الكلم الطيب. وقيل: والعمل الصالح يرفعُ العامل ويشرفه، أي: مَن أراد العزّة والرفعة فليعمل العمل الصالح فإنه هو الذي يرفع العبد.
ثم ذكر سبب الذل في الدارين، فقال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات السَّيِّئاتِ، فالسيئات: صفة لمصدر محذوف لأن «مكر» لا يتعدى بنفسه. والمراد: مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... «1» الآية. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي: يفسد ويبطل، دون مكر الله بهم، فالضمير يفيد الاختصاص.
الإشارة: العز على قسمين: عز الظاهر، وعز الباطن، فعز الظاهر هو تعظيم الجاه وبُعد الصيت، واحترام الناس لصاحبه، ولمَن تعلّق به، وسببه: التقوى، والعلم، والعمل، ومكارم الأخلاق كالسخاء، والتواضع، وحسن الخلق، والإحسان إلى عباد الله. وعز الباطن: هو الغنى بالله، وبمعرفته، والتحرُّر من رق الطمع، والتحلّي بحلية الورع. وسببه الذل لله، يُظهر ذلك بين أقرانه، كما قال الشاعر:
تَذَلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزةً ... فكم عزة قد نالها المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَمْ تَكُنْ ... ذَلِيلاً لَهُ فَاقْرَ السلامَ على الوَصْلِ
وغايته: الوصول إلى معرفة الشهود والعيان. فإذا تعزّز القلب بالله لم يلتفت إلى شيء، ولم يفتقر إلى شيء، وكان حرًّا من كل شيء، عبداً لله في كل شيء. وقد يجتمع للعبد العزان معاً، إذا كان عارفاً بالله عاملاً، وقد ينفرد عز الظاهر في أهل الظاهر، وينفرد عز الباطن في بعض أهل الباطن، يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه وهم
__________
(1) من الآية 30 من سورة الأنفال.(4/523)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
عرائس الأولياء، ضنّ بهم الحق تعالى عن خلقه، فلم يُظهرهم لأحد، حتى قدموا عليه، وهم الأولياء الأخفياء الأتقياء، كما ورد مدحهم في الحديث «1» . وكلا العزين لله، وبيد الله، فلا يُطلب واحد منهما إلا منه سبحانه.
قال القشيري: وقال في آية أخرى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» فأثبت العزة لغيره، والجمع بينهما:
أن عِزَّة الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّة الرسول والمؤمنين لله فضْلاً، ومنه لطفاً، فإذاً العزة لله جميعا. والكم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة، وقلب طيب، لا كدر فيه ولا أغيار، وقيل: ما ليس فيه حظ للعبد، وقيل: ما يستخرج من العبد، وهو فيه مفقود، وقيل: ما ليس فيه حاجة، ولا يطلب عليه عوض، وقيل: ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف. انظر القشيري.
ويؤخذ من قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه، وينظر إليه، فهو علامة على عدم قبوله، إذ لو قُبل لرفع عن نظره، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده، ويختفي لديك وجوده. والذين يمكرون بالأولياء، المكرات السيئات، لهم عذاب شديد، وهو البُعد من الله، ومكر أولئك هو يبور. وأما الأولياء فهم في حجاب مستور، من كل مكر وخداع وغرور.
ثم ذكر أصل نشأتهم ليتحققوا ضعفهم ووهنهم، فقال:
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي: أباكم مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ أنشأكم مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أصنافاً، أو: ذكراناً وإناثاً، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلا معلومة له، وقتاً وكيفية، وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: وما يمد في عمر أحد فيكون طويلاً. وإنما سمّاه معمّراً لِمَا هو صائر
__________
(1) يشير الشيخ المفسر- رحمه الله- إلى حديث: «إنَّ للهِ ضَنَائِن من خلقه، يغدوهم فى رحمته، يحييهم في عافية، ويميتهم في عافية، وإذا توفاهم توفاهم إلى جنته، أولئك الذي تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم بها فى عافية» ، عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 2372) للطبرانى، وأبى نعيم فى الحلية، عن ابن عمر رضي الله عنه.
(2) من الآية 8 من سورة المنافقون.(4/524)
إليه، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي: يكون عمره قصيراً إِلَّا فِي كِتابٍ أي: اللوح المحفوظ، أو: صحيفة الإنسان. وقال ابن جبير: «مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا، ثم يكتب أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهب ثلاثة، حتى ينقطع عمره» «1» . ففسر النقص بالذهاب، ولا يذهب شيء من عمره إلا في كتاب. ويمكن أن يُجري على ظاهره، باعتبار المحو والإثبات في غير أم الكتاب، كما ورد في صلة الرحم وقطعها. وانظر عند قوله:
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ... «2» إلخ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إحصاء الأعمار، أو زيادتها ونقصانها، سهل على علم الله وقدرته.
الإشارة: أصل نشأة الأشباح من الصلصال، وأصل نشأة الأرواح من نور الكبير المتعال، فمَن غلبت طينته على روحانيته، وهواه على عقله، التحق بالبهائم، ومَن غلبت روحانيته على بشريته، وعقله على هواه، التحق بالملائكة الكرام.
وقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ.. الآية، طول العمر وقصره عند الحكماء، ليس هو بكثرة آماده، وإنما هو بكثرة أمداده. وفي الحِكَم: «رُبّ عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده، ورُبّ عمر قليلةٌ آماده، كثيرة أمداده» .
والأمداد: ما يجد القلب من معارف الله، وعلومه، وأنواره، وأسراره. فرُبّ قلب استمد في زمان قليل، من العلوم والمعارف والأسرار، ما لم يستمده غيره في أزمنة متطاولة. وقال أيضاً: «مَن بورك له في عمره، أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة» «3» . والغالب أن هذه الأمداد إنما تُنال بصحبة الرجال العارفين بالله، فإن المدد الذي يحصل له معهم في ساعة واحدة لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
وقال في القوت: فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير، بيقظتك، ما فات غيرك في عمره الطويل بعْد، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع لغيرك في عشرين سنة. وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات، وتدارُكٌ بما فات عند أذكارهم، وأعمال قلوبهم، اليسيرة، في هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح، أو تهليل، أو حمد، أو تدبُّر، أو تبصرة، أو تفكُّر وتذكرة، لمشاهدة قرب، ووجد برب، ونظرة إلى حبيب، ودنو من قريب، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين، الذين هم لنفوسهم واجدون، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين، فيما ذكرناه من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم، في وقت
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 464) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، وأبى الشيخ فى العظمة.
(2) الآية 40 من سورة الرعد.
(3) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص 28، حكمة 259، 260) .(4/525)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قربهم وحضورهم مثلُ العامل في ليلة القدر، العمل فيها، لمَن وافقها، خيرٌ من ألف شهرٍ. وقد قال بعض العلماء:
كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. هـ. منه.
ثم ذكر دلائل قدرته تتميما لقوله: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، فقال:
[سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ في العذوبة والملوحة، بل هما مختلفان، والماء واحد، هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي: شديد العذوبة. وقيل: هو الذي يَكْسر العطش لشدة برودته، سائِغٌ شَرابُهُ أي:
سهل الانحدار، مريء، لعذوبته، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة، وقيل: الذي تُحرِق ملوحته. وَمِنْ كُلٍّ أي: من كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وهو السمك، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وهي اللؤلؤ والمرجان. قيل: من الملح فقط. وقيل: منهما. قال بعضهم: نسب استخراج الحلية إليهما لأنه تكون في البحر عيون عذبة، تمتزج بماء الملح، فيكون اللؤلؤ من ذلك هـ. تَلْبَسُونَها أي: نساؤكم لأن القصد بالتزيُّن هو الرجال.
وَتَرَى الْفُلْكَ السفن، فِيهِ مَواخِرَ شواقّ للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء: شَقَّته، وهي جمع ماخرة، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل الله، ولم يتقدم له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجرِ له ذكر، لم يشكل لدلالة المعنى عليه. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على ما أولاكم من فضله.
وقيل: هو ضرب مثل للكافر والمؤمن، فالمؤمن، يجري عذب فُرات، والكافر ملحٌ أُجاج. ثم ذكر- على سبيل الاستطراد- ما يتعلق بالبحرين من نِعَم الله وعطائه. ويحتملُ أن يكون على غير الاستطراد، وهو أن يشبّه الجنسيْن، ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر، وهو ما خصّ به من المنافع، كاستخراج اللؤلؤ، والمرجان، والسمك، وجري الفلك فيه، وغير ذلك. والكافر خلوّ من المنافع بالكلية، فهو على طريقة قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثم قال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ.. «1» .
__________
(1) الآية 74 من سورة البقرة.(4/526)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
الإشارة: بحر الشريعة عذب فُرات، سائغ شرابه، وبحر الحقيقة مِلح أُجاج لأنه مُرّ على النفس، يحتاج ركوبه إلى بذل المُهج والنفوس، وحط الرؤوس، وبذل الأموال، ورفض الأوطان والدنيا وأهلها. بخلاف الشريعة، فلا تحتاج إلى هذا كله، وإن كانت متوقفة على مشاق التعلم والتدريس، ولكن تُنال مع بقاء عز النفس والمال والجاه، وغير ذلك. ومن كُلٍّ تأكلون لحماً طرياً، فبحر الشريعة يُنال منه حلاوة المعاملة الظاهرة، وبحر الحقيقة يُأكل منه حلاوة الشهود والمعرفة. وترى سُفن الأفكار في بحار الأحدية، مواخر، تجول في عظمة بحر الجبروت والملكوت، ولِتبتغوا من فضله تمامَ معرفته، ولتكونوا من الشاكرين، أي: ممن يعبد شُكراً، لا قهراً.
قال القشيري: وما يستوي الوقتان، هذا بسط، وصاحبه في رَوْح، وهذا قبضٌ، وصاحبه في نَوْح. هذا خوفٌ وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاءٌ وصاحبه في ارتياح. قلت: الرجاء عذب، والخوف ملح، خلاف ما يقتضي كلامه. ثم قال: هذا فرق، وصاحبه بوصف العبودية، وهذا جمع، وصاحبه بشهود الربوبية.
ثم ذكر دليلاً آخر، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 13 الى 14]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
يقول الحق جلّ جلاله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي: يُدخل من ساعات أحدهما في الآخر، حتى يصير الزائدُ منهما خمس عشرة ساعة، والناقص تسعاً. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللها لِمَا يُراد منهما، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: يوم القيامة، فينقطع جريهما، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء، وهي: مبتدأ، و «الله» وما بعده: أخبار، لَهُ الْمُلْكُ له التصرف التام. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام، أي: تعبدونهم، ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وهي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، كما أن النقير: النقطة في ظهره. وهما كنايتان عن حقارة الشيء وتصغيره.(4/527)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
إِنْ تَدْعُوهُمْ أي: الأصنام لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد، وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية، بل يتبرؤون منها. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ بإشراككم لهم، وعبادتكم إياهم. ويقولون: مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ «1» . وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي: ولا يخبرك بالأمر على حقيقته مخبر مثل خبير به، وهو الله تعالى فإنه خبير به على الحقيقة، دون سائر المخبرين. والمراد: تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدعون لها. أو: ولا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور، كما ينبئك الله الخبير بخبايا الأمور وتحقيقها، أي: لا يخبرك بالأمور مخبر هو خبير عالم به، يريد أنَّ الخبير بالأمور وحده هو الذي يُخبرك بالحقيقة، دون سائر المخبرين. والمعنى: أنَّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأنه خبيرٌ بما أخبرتُ به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه: يولج الليل في النهار، ويُولج النهارَ في الليل. يُولج المعصية في الطاعة، ويُولج الطاعة في المعصية. يعمل العبد الطاعة فيُعجب بها، ويعتمد عليها، ويستصغر مَن لم يفعلها، ويطلب من الله العوض عليها، فهذه حسنات أحاطت بها سيئات. ويُذنب العبدُ الذنبَ، فيلتجأ إلى الله فيه، ويعتذر منه، ويستصغر نفسه، ويُعظم مَن لم يفعله، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات، فأيتهما الطاعة، وأيتهما المعصية؟ هـ.
أو: يولج ليلَ القبض في نهار البسط، وبالعكس، أو: يولج ليلَ الحجبة في نهار الكشف، ونهارَ الكشف في ليل القطيعة، يتواردان إلى حال طلوع شمس العرفان، فلا غروب لها، كما قال الشاعر:
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بلَيلٍ ... واستنَارَت فمَا تَلاها غُرُوبُ
إنَّ شَمْسَ النهارِ تَغْربُ باللي ... ل وشَمْسَ القلوب ليست تغيب «2» .
قال القشيري: يُولج الليل في النهار، تغلب النَّفسُ مرةً على القلب، وبالعكس، وكذلك القبضُ والبسط، فقد يستويان، وقد يغلب أحدُهما، وكذلك الصحو والسُكْرُ، والفناء والبقاء، وآثار شموس التوحيد، وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهارها على القلوب. هـ. فهذه كلها يولج أحدها في الآخر. ولا يعرف هذا إلا مَن تحقق بفقره إلى الله تعالى، كما قال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 17]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
__________
(1) من الآية 28 من سورة يونس.
(2) البيت من الخفيف، وهو للحلاج. انظر ديوانه ص 23، وصلة تاريخ الطبري 11/ 87.(4/528)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في دقائق الأمور وجليلها، في كل لحظة لا يستغني أحد عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك إذ لا قيام للعبد إلا به، فهو مفتقر إلى الله، إيجاداً وإمداداً. قال البيضاوي: وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، كأنهم لشدة افتقارهم، وكثرة احتياجهم، هم الفقراء دون غيرهم، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير مُعتد به، ولذلك قال: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «1» قلت: ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى، أي: أنتم فقراء دون خالقكم، بدليل وصله بقوله: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
وقال ذون النون رضي الله عنه: الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ، وطرفة، ولحظة، وكيف لا، ووجودهم به، وبقاؤهم به؟، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن الأشياء كلها، الْحَمِيدُ أي: المجمود بكل لسان. ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير، بل للتعظيم لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر «الحميد» ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم، حمده المُنعَم عليهم.
ولمّا ذكر افتقارهم إلى نعمة الإيجاد، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد، بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: إن يشأ يُفنيكم كلكم، ويردكم إلى العدم فإنَّ غناه بذاته، لا بكم، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يكون أطوع منكم، أو بعالَم آخر غير ما تعرفون. وَما ذلِكَ أي: الإفناء والإنشاء عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بممتنع. وعن ابن عباس: يخلق بعدكم مَن يعبده، لا يشرك به شيئاً. قال القشيري: فقر الخِلْقَة عام لكلِّ أحدٍ، في أول حال وجوده ليُبديه وينْشيه، وفي ثاني حال بقائه ليُديمَه ويُبقيَه. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: «نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل موجود منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد» .
الإشارة: الفقر على أربعة أقسام: فقر من الدين، وفقر من اليقين، وفقر من المال، وفقر مما سوى الله.
فالأولان مذمومان، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع، ومنهما وقع التعوُّذ في الحديث. والثالث: إن صحبه الرضا فممدوح، وفيه وردت الأحاديث النبوية، وإلاَّ فمذموم، ويشمله التعوُّذ في الحديث. الرابع: هو مطلب القاصدين والعارفين، وهو الغيبة عما سوى الله، والغنى بالله، كما قال الشيخ أبو الحسن: «أسألك الفقر عما سواك، والغنى بك، حتى لا نشهد إلا إياك» وهو ينشأ عن التحقُّق بالفقر ظاهراً وباطناً لأن الفقر من وصف العبد، والغنى
__________
(1) الآية 28 من سورة النساء.(4/529)
من وصف الرب، فمَن تحقق بوصفه أمدّه الله بوصفه، «تحقق بوصفك يُمدك بوصفه، تحقق بفقرك يمدك بغناه، تحقق بذلك يمدك بعزه» «1» .
وقال القشيري- بعد كلام-: والفقراءُ على أقسام فقير إلى الله، وفقير إلى شيء هو من الله معلوم وموسوم.
ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء، فالفقير إلى الله هو الغني بالله، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى، وأنشدوا.
وإذا تذلّلَت الرقابُ [تَقَرُّباً] «2» ... منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها
ومن شرط الفقير: ألا يملك شيئاً، ولا يملكه شيء. ومن آداب الفقير الصادق: إظهارُ التكثُّر عند وجود التقتُّر، والشكر على البلوى، والبُعد عن الشكوى. ويقال: الفقر المحمود: العيش مع الله براحة الفراغ على سَرْمَدِ الوقت، من غير استكراه شيء منه بكلِّ وجْهٍ. هـ. ملخصاً.
قال الورتجبي: فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل، بنعت الافتقار إليه، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس لأنها وقعت بنعت العشق، والعاشق مفتقر إلى معشوقه، انفعالاً، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله، متصفاً بغناه، غنيًّا به عن غيره، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه، فصار محجوباً عنه، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه: لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى، ولهم بالفقر، فمَن ادّعى الغِنى، حُجب عن الله، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه، ومنقطعاً عن الغير إليه، حتى يكون عبوديّته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي: مَن استغنى بالله لا يفتقر، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ: الفقرُ خير للعبد من الغِنى لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغِنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
__________
(1) فى الأصول [بقربها] .
(2) انظر الحكم (ص 31، حكمة/ 178) .(4/530)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
وكيف يفتقر العبد إلى العبد وهو لا يغنى عنه شيئا؟! قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
قلت: «وازرة» : صفة لمحذوف، أي: نفس آثمة. و «إن تدع» : شرط، و «لا يُحمل» : جواب، و «لا» النافية لا تمنع الجواب من الجزم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: ولا تحمل نفس آثمة إثمَ نَفْسٍ أخرى، والوزر والوِقر أخوان، ووزَر الشيء: حمله. والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، كما تأخذ جبابرةُ الدنيا الظلمةُ الجارَ بجريمة الجار، والقريبَ بالقريب، فذلك ظلم محض.
وأما قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» ففي الضالّين المضلّين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قوله:
اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «2» .
قال ابن عطية: مَن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة- كفعل [زياد ونحوه] «3» ، فإن ذلك، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة، أو مواصلة، أو اطلاع على حاله، أو تقرير له، فهذا قد أخذ من الجُرم بنصيب. وهذا هو المعنى بقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ... الآية لأنهم أغروهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ..» «4» الحديث، فراجعه. قلت: لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن، فالصواب حسم هذا الباب، والتصريح بتحريمه لكثرة جور الحُكام.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بالذنب أحداً إِلى حِمْلِها أي: إلى حمل ثِقل ذنوبها، ليتحمل عنها بعض ذلك، لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ المدعو، المفهوم من قوله: وَإِنْ تَدْعُ، ذا قُرْبى
__________
(1) الآية 13 من سورة العنكبوت.
(2) الآية 12 من سورة العنكبوت. [.....]
(3) فى الأصول [كفعل زاد] والمثبت هو الذى فى تفسير ابن عطية. قلت: قال أبو حيّان فى البحر المحيط، تعقيبا على كلام ابن عطية: «وكأن ابن عطية تأوّل أفعال زياد، وما فعل فى الإسلام، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجّاج»
(4) الحديث أخرجه كاملا مسلم فى (الزكاة، باب الحث على الصدقة، 2/ 705، ح 1017) من حديث جرير بن عبد الله.(4/531)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
ذا قرابة قريبة، كأب، وولد، وأخ. والفرق بين معنى قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وبين قوله: إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أنَّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه، وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في بيان أنه لا غياث يومئذ لمَن استغاث، فمَن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يُغثه، وهذا غاية الإنذار.
ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه بِالْغَيْبِ أي: يخشون ربهم غائبين عنه، أو: يخشون عذابه غائباً عنهم، فهو حال، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو: يخشون ربهم في حال الغيب، حيث لا اطلاع للغير عليهم، فيتقون الله في السر، كما يتقون في العلانية. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها في مواقيتها، وَمَنْ تَزَكَّى أي: تطهّر بفعل الطاعات، وترك المنهيات، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذا نفعه يعود لها، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم، وإقامتهم الصلاة لأنها من جملة التزكي. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيهم على تزكيتهم، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب.
الإشارة: وبال الوزر خاص بصاحبه، إلا إذا كان مقتدى به، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه، حتى يطهر منه لأن الصحبة صيرت الجسدين واحداً. وراجع ما تقدم عند قوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً ... «1» الآية. قال القشيري: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، ومحاسبٌ عن ديوانه. ولكلٍّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة، ولكن في المعارف لا تجري النيابة ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ، وألفُ صَفِيٍّ، تلك الصلاة الواحدة، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ. هـ. وقال في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ ... الخ: الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشيةُ هي المخافة، فمعنى الآية: لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف- طيرُ السماء على إلا فها تقع. هـ.
ثم ضرب المثل لمن تزكى، ومن لم يتزك، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 24]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
__________
(1) الآية 25 من سورة الأنفال.(4/532)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي: لا يستوي الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم. وقيل: هما مثلان للصنم ولله تعالى. وَلَا الظُّلُماتُ كالكفر والجهل، وَلَا النُّورُ كالإيمان والمعرفة، وَلَا الظِّلُّ كنعيم الجنان، وَلَا الْحَرُورُ كأليم النيران. والحَرور: الريح الحارّ كالسموم، إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور يكون بالليل والنهار. قاله الفرّاء.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين، أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل، وقيل: للعلماء والجهال. وزيادة «لا» في الجميع للتأكيد، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وترأً إلى وتر. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، شبّه الكفار بالموتى، حيث لا ينتفعون بمسموعهم، مبالغة في تصاممهم، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيهدي مَن يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين، فإنذار هم كإنذار مَن في القبور من الموتى.
قال ابن عطية: الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول: إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك «1» ، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. هـ «2» .
ثم قال تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه، وإن كان من المصريين فلا عليك.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي: محقاً، أو: محقين، أو: إرسالاً مصحوباً بالحق، فهو حال من الفاعل، أو المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، بَشِيراً لمَن آمن وَنَذِيراً لمَن كفر، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي:
ما من أُمة من الأمم الماضية، قبل أمتك، إلا فيها نذير نبيّ، أو عالم، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر: أمة.
والمراد هنا: أهل العصر. قال ابن عطية: معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة، فهو ممن بَلَغَته الدعوة، لأن آدم بُعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم. والآية
__________
(1) من هذه الأحاديث ما أخرجه الدارمي فى (الجهاد، باب أرواح الشهداء) عن مسروق، قال: سألنا عبد الله فى أرواح الشهداء ولولا عبد الله لم يحدثنا أحد. قال: أرواح الشهداء عند الله يوم القيامة في حواصل طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح فى أىّ الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيشرف عليهم ربهم، فيقول: ألكم حاجة؟ تريدون شيئا؟ فيقولون: لا، إلا أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى.
(2) النقل باختصار.(4/533)
تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذيرٌ، ومعناه: نذيرٌ مباشر، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم، فإنما ذلك بالفرض، لا أنه توجد أُمةً لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. هـ.
وذكر في الإحياء، في باب التوبة: أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا [على البله] «1» وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين. هـ. وقال ابن مرزوق في شرح حديث [هرَقْل] «2» : الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحيله بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطئ قطعاً. هـ.
وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه: آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار. هـ. وقال أيضاً: إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه: أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين- وهذا قليل الوجود- إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. هـ.
والحاصل: أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان. قاله المحشي.
الإشارة: وما يستوي الأعمى، الذي لا يرى إلا حس الكائنات، والبصير، الذي فتحت بصيرته، فشاهد المكوّن، ولم يقف مع حس الكون، ولا الظلمات: المعاصي والغفلة ودائرة الحس، ونور اليقظة والعفة والمعرفة، ولا ظل برد الرضا والتسليم، وحرور التدبير والاختيار، وما يستوي الأحياء، وهم العارفون بالله، الذاكرون الله، والأموات الجاهلون، أو الغافلون. قال القشيري: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ.. الآية، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا، ومَن أشهدناه حقَّنا، ومَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا. هـ.
__________
(1) الكلمة مشتبهة فى الأصول، وأثبتها من إحياء علوم الدين 4/ 32.
(2) ما بين المعقوفتين أثبته من النسخة التيمورية، وهو مطموس فى النسخ الأخرى. قلت: وحديث هرقل أخرجه البخاري فى (بدء الوحى، باب 6، ح 7) ومسلم فى (الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3/ 1393- 1397، ح 1773) عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه.(4/534)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. النذير على قسمين: نذير من وبال الذنوب، ونذير من وبال العيوب. فوبال الذنوب: العذاب، ووبال العيوب: الحجاب، فمَن تطهَّر من الذنوب استوجب نعيم الجنان، ومَن تطهّر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان. فالنذير الأول عالم بأحكام الله، والثاني عارف بالله، الأول مقتصد، والثاني سابق، ولا يخلو الدهر منهما، حتى يأتي أمر الله، فالشريعة باقية بقيام العلماء، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين بالله، أهل التربية النبوية، بالاصطلاح، والهمة، والحال. ومَن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال.
ثم سلّى نبيه لأنه لمّا أنذر قومه قابلوه بالتكذيب، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 25 الى 26]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي: قومك فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم، حال كونهم قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، وَبِالزُّبُرِ وبالصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي: التوراة، والإنجيل، والزبور. ولَمَّا كانت هذه الأشياء من جنسهم، أسند المجيء بها إليهمْ إسناداً مطلقاً، وإن كان بعضُها في جميعهم، وهي البينات، وبعضها في بعضهم، وهي الزُبُر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزُبر والكتاب واحد، والعطف لتغاير الوصفين، فكونها زُبُر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزير القلوب، وكونها كتباً منيرة لِمَا فيها من الأحكام والبراهين النيِّرة. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: ثم عاقبتُ الكفرة بأنواع العقاب، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم؟ والاستفهام للتهويل.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية. فأولياء كل زمان يتسلُّون بمَن سلف قبلهم، فقد قُتل بعضهم، وسُجن بعضهم، وأُجلي بعضهم، إلى غير ذلك زيادة في مقامهم وترقية بأسرارهم. والله عليم حكيم.
ثم ذكر دلائل قدرته على إهلاك من خالف أمره، فقال:
[سورة فاطر (35) : آية 27]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27)(4/535)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قلت: «مختلفاً» : نعت «ثمرات» . و «مختلف ألوانه» : صفة لمحذوف، أي: صنف مختلف.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي: أجناسها، كالرمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يُحصى، أو: ألوانها: هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ طُرق مختلفة اللون. جمع: جُدَّة، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ. والجُدة: الطريقة والخطة، تكون في الجبل، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة. قاله الهروي. وهي مبتدأ وخبر، أي: وطرق بِيضٌ وَحُمْرٌ كائنة من الجبال.
وَغَرابِيبُ سُودٌ أي: ومنها غرابيب سود، أي: ومن الطرق سود غرابيب جمع: غربيب، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب، ومنه: الغراب. قال الهروي: هي الجواد ذوات الصخور السود، والغربيب: شديدة السواد. هـ.
وفي الصحاح: تقول هذا أَسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود تجعل السود بدلاً من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. هـ. تقول: أصفر فاقع، وأسود حالك، ولا يتقدم الوصف، ونقل الكواشي عن أبي عبيد:
أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره: وسود غرابيب. وفائدته: أن يكون المؤكد مضمراً، والمظهر تفسيراً له، فيدل على الاعتناء به، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد هـ. ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي: من الجبال ذو جدد بيض، وحمر، وسود غرابيب حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.
[سورة فاطر (35) : آية 28]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي: ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد. كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري: تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام، بل جميع المخلوقات، متجانس الأعيان، مختلف الصفات، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال هـ.
الإشارة: ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأخرجنا به ثمرات، وهي العلوم والأذواق والوجدان، مختلف ألوانها، فمنها علوم الشرائع، وتحقيق مسائلها، ومنها علم العقائد، وتشييد أدلتها وبراهينها، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب، وهو علم الطريقة، ومنها علم الأسرار، وهي أسرار الذات والصفات، وهو علم الحقيقة. ومن جبال العقل طُرق بيض، وحمر، وسود، فالبيض: طرق الكشف والبيان، وحلاوة الذوق والوجدان، والحُمر: طُرق الدليل والبرهان لأنها قد تظهر وتخفى، والسود الغرابيب: عقول(4/536)
الفلاسفة والطبائعيين، أهل الحدس والتخمين، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين، وشرعِ النبي الأمين. أولئك هم الضالون المضلُّون.
ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم، ذكر أهله، فقال:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ ...
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ أي: يخافه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة، ومحبة، ورغبة في طاعته، وموجب رضوانه، دون مَن عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
«أعلمكم بالله أشدكم له خشية» «1» وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله» «2» .
وقال الربيع بن أنس: مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية: كفى بالزهد عِلماً، وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله عِلماً، وبالاعتذار جهلاً. وفي الحِكَم: «خيرُ علم ما كانت الخشية معه» . وقال في التنوير: اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. هـ.
وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: واعلم أن العلم النافع، المتفق عليه فيما سلف وخلف، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحى السنية. هـ.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر: لم أجده هكذا، وفى الصحيح: «أنا أعلمكم بالله وأشدُّكم له خشيةً» . حاشية الكشاف (3/ 611) .
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (1/ 471/ ح 743، 744) عن ابن مسعود، موقوفا ومرفوعا. قال العراقي فى المغني: رواه أبو بكر بن لال الفقيه فى مكارم الأخلاق، والبيهقي فى الشعب، وضعّفه من حديث ابن مسعود، ورواه فى دلائل النبوة، من حديث عقبة بن عامر، ولا يصح أيضا.(4/537)
وقال في لطائف المنن: شاهد العلم، الذي هو مطلب الله تعالى: الخشية، وشاهد الخشية: موافقة الأمر، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع، والادخار، والمباهاة، والاستكثار، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، فما أبعد من هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه. ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة، تُضيء على غيرها، وهي تحرق نفسها. جعل الله العلم- الذي علمه من هذا وصفه- حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه. هـ.
وتقديم اسم الله تعالى، وتأخير العلماء، يُؤذِن أن معناه: إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم.
ولو عكس، بأن قال: إنما يخشى العلماءُ الله، لكان المعنى: أنهم لا يخشون إلا الله.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز: بنصب «العلماء» ورفع «الله» . والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم.
والمعنى: إنما يعظم الله من عباده العلماء. وعنه صلى الله عليه وسلم: «يقول الله للعلماء يوم القيامة- إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه، يفصل قضاء عباده: إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي» «1» ، قال المنذري: انظر إلى قوله: «علمي وحلمي» يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العمل به والإخلاص. وفي رواية: «لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم، ادخلوا الجنة بما فيكم» . وقال- عليه الصلاة والسلام-: «يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء، فيرجع مداد العلماء على دماء الشهداء» «2» .
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ، هو تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة لعزته وغلبته، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم لعظيم غفرانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى.
الإشارة: العلماء على قسمين علماء بأحكام الله، وعلماء بالله، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم. فخشية العلماء بالله أرق وأشد. العلماء بالله أخذوا علمهم من الله، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: في علماء أهل الرواية: مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. هـ.
__________
(1) أخرجه للطبرانى فى الكبير (1381) من حديث ثعلبة بن الحكم الصحابي. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (1/ 126) : ورجاله موثقون.
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح/ 10026) للمرهبى، عن عمران بن حصين، وابن عبد البر، فى العلم، عن أبى الدرداء، وابن الجوزي فى العلل، عن النعمان بن بشير، وضعّفه.(4/538)
والفرق بين الخوف والرهبة والخشية: أن الخوف من العقاب، والرهبة من العتاب، والخشية من الإبعاد. قال القشيري: والفرق بين الخشية والرهبة: أنَّ الرهبة: خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه، فيجري في تفرقته. والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها، فيبقى مع الله. فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة، والخوف قضية الإيمان، قال تعالى: وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» . والخشية قضية العلم والهيبة. هـ. ثم قال: العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ، وانبساط في غير وقت، بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى. هـ.
قال الورتجبي: الخوف عموم، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم، أي: العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية: وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين، ممزوجاً بسنا التعظيم، ورؤية الكبرياء والعظمة، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم، والأزل، والبقاء، والأبد، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه» . هـ. وفي الحديث: قيل يا رسول الله: أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال: «العلم» قيل: أيُّ العلم؟ قال: «العلم بالله سبحانه» «2» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه؟ والله إني لأعلمُكم بالله، وأشدُّكم له خشيةً» «3» .
ثم قال «4» : عن جعفر الصادق: العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات، وترك الحرمة في الحياء من الحق، وترك الحرمة في متابعة الرسول، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين. هـ. ومعى كلامه: أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه. ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد، في قول الحِكَم: «العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا، فعليك» . وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 175 من سورة آل عمران.
(2) ذكره ابن عراق فى تنزيه الشريعة (كتاب العلم، 1/ 278، القسم الثالث) وعزاه لابن حبان، والديلمي عن أنس، عن طريق عباد ابن عبد الصمد. قال فى تنزيه الشريعة (1/ 70) : «عباد بن عبد الصمد عن أنس، بنسخة، أكثرها موضوع. قاله ابن حبان» .
قلت: معني الحديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري فى (الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو فى الدين والبدع، ح 7301) ، ومسلم فى (الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله وشدة خشيته، 4/ 1829، ح 2356) من حديث السيدة عائشة بلفظ: « ... لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية» . [.....]
(4) أي: الورتجبي.(4/539)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
ولمّا ذكر العلماء، ذكر حملة القرآن، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي: يُداومون على تلاوة القرآن وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوها في أوقاتها، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ فرضاً ونفلاً سِرًّا وَعَلانِيَةً مسرّين النفل، ومعلنين الفرض، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به. وخبر «إن» : قوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ لن تكسد، وهو ثواب أعمالهم، يعني: يطلبون تجارة ينتفي عنها الكسد، وتنفق عند الله.
لِيُوَفِّيَهُمْ متعلق ب: «تبور» ، أي: ليوفيَهم بإنفاقها عند الله أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتفسيح القبور، أو: تشفيعهم في أهلهم، ومَنْ أحسن إليهم، أو: تضعيف حسناتهم، أو: بتحقيق وعد لقائه.
أخرج ابن أبي شيبة عن بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، يقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلتك، فإنَّ كل تاجر وراء تجارته. قال: فيُعطى المُلك بيمينه، والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتين، لا تُقوّم لهما الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسِينَا هذا؟ فيقال لهما: بأخْذِ وَلَدِكُما القرآنَ. ثم يقال له: اقرأ، واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود مادام يقرأ» «1» .
وذُكر في بعض الأخبار: أن حملة القرآن يُحشرون يوم القيامة على كثبان المسك، وأنوارُ وجوههم تغشى النظار، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة الذين وُكلوا بحملة القرآن، فتأخذ بأيديهم، وتُوضع التيجان على
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 348) ، وأخرجه، مختصرا، ابن ماجه فى (الأدب، باب ثواب القرآن 2/ 1242 ح 3781) والدارمي فى (فضائل القرآن، باب فى فضل سورة البقرة وآل عمران، 2/ 543 ح 3391) والحاكم (1/ 568) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.(4/540)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
رؤوسهم، والحُلل على أجسادهم، وتُقرب إليهم خيل من نور الجنة، عليها سُرُج المسك الأذفر، ألجمتُها من اللؤلؤ والياقوت، فيركبونها، وتطير بهم على الصراط، ويجوز في شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار، وينادي مناد: هؤلاء أحباء الله، الذين قرأوا كتاب الله، وعَمِلوا به، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. هـ.
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ، غفور لهفواتهم، شكور لأعمالهم، يُعطي الجزيل، على العمل القليل.
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي: القرآن، و «مِن» : للتبيين، هُوَ الْحَقُّ لا مرية فيه، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدمه من الكتب، إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالظواهر والبواطن، فعلِمَك وأبصر أحوالك، ورآك أهلاً لأن يُوحي إليك هذا الكتاب المعجز، الذي هو عِيار على سائر الكتب.
الإشارة: كل ما ورد في فضل أهل القرآن، فالمراد به في حق مَن عَمِلَ به، وأخلص في قراءته، وحافظ على حدوده، ورعاه حق رعايته. وقد ورد فيمن لم يعمل به، أو قرأه لغير الله، وعيد كبير، وورد أنهم أول مَن يدخل جهنم. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرَّحمن الفاسي، بعد ذكر الحديثين في فضل حامل القرآن: وهذا مقيد بالعمل، أي: فإنَّ منزلتك عند آخر آية مما عملتَ، لا مما تلوت بلسانك وخالفتَ بعملك لأنه لو كان كذلك لا نخرقت أصول الدين، ويؤدي إلى أن مَن حفظ سرد القرآن اليوم، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار، والصالحين الأبرار فإن كثيراً من خيارهم مات قبل حفظ جميعه. هـ.
ثم فصّل أحوالهم، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)(4/541)
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي: أوحينا إليك القرآن، وأورثناه مَنْ بعدَك، أي: حكمنا بتوريثه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين، وتابعيهم، ومَن بعدهم إلى يوم الدين لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية: الكتاب هنا يراد به معاني القرآن وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله، فكأنه وَرَّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. هـ.
ثم رتَّبهم مراتب، فقال: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ، بأن جمع بين علمه والعمل به، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث، فقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر- بعد قراءة هذه الآية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» «1» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، والظالمُ يُحبس، حتى يظن أنه لن ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة» رواه [أبو الدرداء] «2» . وقال ابن عباس رضي الله عنه: السابق، المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر النعمة غير الجاحد له، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس: الظالم: صاحب الكبائر، والمقتصد: صاحب الصغائر، والسابق: المجتنب لهما. وقال الحسن: الظالم: مَن رجحت سيئاته، والسابق:
مَن رجحت حسناته، والمقتصد: مَن استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون.
وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ «3» . وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده لأنه قال: فمنهم، ومنهم، ومنهم، والكل راجع إلى قوله: الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فهم أهلُ الإيمان، وعليه الجمهور.
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم، وأنّ المقتصد: قليلٌ بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل: إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه. وقيل: لأن أول
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 473) لسعيد بن منصور، وابن أبى شيبة، وابن المنذر، والبيهقي فى البعث، موقوفا على سيدنا عمر. وأخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 421) مرفوعا. وعزى السيوطي المرفوع للعقيلى فى الضعفاء (3/ 443) وبن لال، وابن مردويه، والبيهقي.
(2) فى الأصول: [أبو داود] والصواب ما أثبت، قلت: والحديث أخرجه أحمد فى المسند (5/ 194، 198 و 6/ 444) ، قال الهثيمى فى المجمع (7/ 96) : «رواه أحمد بأسانيد، رجال أحدها رجال الصحيح» . وأخرجه الحاكم (2/ 426) والطبري (22/ 137) والبغوي فى التفسير (6/ 421) كلهم من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه.
(3) الآية 36 من سورة فاطر.(4/542)
الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة. وقال سهل: السابق: العالم، والمقتصد: المتعلم، والظالم: الجاهل. وقال أيضاً:
السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.
وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل: الظالم: مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً، والمقتصد: المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال، والسابق: مَن أعرض عنها جملة.
وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب الآخرة، والسابق: طالب الحق لا يبغي به بدلاً. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة: الأقسام الثلاثة في جميع العباد فالظالم لنفسه: الكافر، والمقتصد:
المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1» والتحقيق ما تقدّم.
وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بأمره، أو: بتوفيقه وهدايته ذلِكَ أي: إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا أكبر منه، وهو جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها أي: الفرق الثلاث لأنها ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء، إذا كانوا مقرين في النسب. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ جمع أَسورة، جمع سوار، مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي: من ذهب مرصَّع باللؤلؤ. وقرأ نافع بالنصب «2» ، عطف على محل أساور، أي: يحلون أساور ولؤلؤاً. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لِمَا فيه من اللذة والليونة والزينة.
وَقالُوا بعد دخولهم الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ خوف النار، أو: خوف الموت، أو:
الخاتمة، أو: هَم الرزق. والتحقيق: أنه يعم جميع الأحزان والهموم، دنيوية أو أخروية، وعن ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إلا الله وحشة، في قبورهم، ولا في محشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن وجوههم، فيقولون: الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عنا الحزن» «3» . إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، يغفر الجنايات، وإن كثرت، ويقبل الطاعات، ويشكر عاملها، وإن قلَّت. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ
__________
(1) الآية 7 من سورة الواقعة.
(2) وهى أيضا قراءة عاصم. وقرأ الباقون بالجر عطفا على «ذهب» . انظر الإتحاف (2/ 393) .
(3) أخرجه البغوي فى تفسيره (6/ 424) وعزاه الحافظ ابن حجر، فى الكافي الشاف (ص 139) لأبى يعلى، وابن أبى حاتم، والبيهقي فى أول الشعب، والطبراني فى الأوسط.(4/543)
أي: دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نُفارقها. يقال: أقمت إقامة ومقاماً ومقامة، مِنْ فَضْلِهِ أي: من عطائه وإفضاله، لا باستحقاق أعمالنا، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب ومشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إعياء وكَلَلَ من التعب، وفترة إذ لا تكليف فيها ولا كد. نفى عنهم أولاً التعب والمشقة، وثانياً ما يتبعه من الإعياء والملل.
وأخرج البيهقي: أن رجلاً قال يا رسول الله: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا، فهل في الجنة من نوم؟ فقال: «إن النوم شريك الموت- أو أخو الموت- وإن أهل الجنة لا ينامون- أو: ليس في الجنة موت» . وفي رواية أخرى، قال: فما راحتهم؟ قال: «ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة» «1» ، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان، ومِن ثِقل الطعام، وكلاهما منتفيان في الجنة.
قال الضحاك: إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة الجنة، استقبلهم الولدان والخدم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة، معه هدية من رب العالمين، وكسوة من كسوة الجنة، فيلبسه، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت، فيقف، ومعه عشرة خواتم، فيضعها في أصابعه، مكتوب: طبتم فادخلوها خالدين، وفي الثانية: ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، وفي الثالثة: رُفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابعة: وزوجناهم بحور عين، وفي الخامسة: ادخلوها بسلام آمنين، وفي السادسة: إني جزيتهم اليوم بما صبروا، وفي السابعة: أنهم هم الفائزون. وفي الثامنة: صرتم آمنين لا تخافون أبداً، وفي التاسعة: رفقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشرة: سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران. فلما دخلوا قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إلى: لُغُوبٌ. هـ.
الإشارة: قال الورتجبي: الاصطفائية تقدمت الوراثة لمحبته ومشاهدته، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به، واصطفائيته إياهم، وهو محل القرب والانبساط، لذلك قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا، ثم قسمهم على ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق. والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال: فالظالم عندي- والله أعلم- الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه، فأي ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئاً مستحيلاً، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «2» ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق، وكمال عشقه، ومحبة جلاله. هـ.
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 476) لابن أبى حاتم، وابن مردويه، والبيهقي فى البعث، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
(2) الآية 72 من سورة الأحزاب.(4/544)
قلت: وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً.
فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين فالظالم لنفسه: مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم: السالك المحض، والمقتصد: المجذوب المحض، والسابق: الجامع بينهما إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم: الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ- كرّم الله وجهه-: الظالم: الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد: الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق:
الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري: ويقال: الظالم: مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد: مَن استوت حالاته، والسابقُ: مَن زادت حسناته. أو: الظالمُ: مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ: مَن رغب في عقباه، والسابق: مَن آثر على الدارين مولاه. أو: الظالم: مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد: مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق: مَن ذَرَّت شمسُ معرفته.
أو: الظالم: مَن طلبه، والمقتصد: مَن وجده، والسابق: مَن بقي معه. أو: الظالم: مَن ترك الزلة، والمقتصد: مَن ترك الغفلة، والسابق: مَن ترك العلاقة. أو: الظالم: مَن جاد بنفسه، والمقتصد: مَن لم يبخل بقلبه، والسابق: مَن جاد بروحه. أو: الظالم: مَن له علم اليقين، والمقتصد: مَن له عين اليقين، والسابق: مَن له حق اليقين. أو: الظالم.
بترك الحرام، والمقتصد: بترك الشُّبهة، والسابق: بترك الفضل في الجملة.
أو: الظالم: صاحب سخاء، والمقتصد: صاحب جود، والسابق: صاحب إيثار. أو: الظالم: صاحب رجاء، والمقتصد: صاحب بسط، والسابق: صاحب أُنس. أو: الظالم: صاحب خوف، والمقتصد: صاحب خشية، والسابق:
صاحب هيبة. أو: الظالم له المغفرة، والمقتصد: له الرحمة، والسابق: له القُربة، أو: الظالم: طالب النجاة، والمقتصد: طالب الدرجات، والسابق: طالب المناجاة. أو: الظالم: أمن من العقوبة، والمقتصد: طالب المثوبة، والسابق: متحقق بالقربة. أو: الظالم: صاحب التوكُّل، والمقتصد: صاحب التسليم، والسابق: صاحب التفويض، أو:
الظالم: صاحب تواجد، والمقتصد: صاحب وجد، والسابق: صاحب وجود- غير محجوب عنه البتة-. أو: الظالم:
مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق: مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو: الظالم: صاحب(4/545)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
المحاضرة، والمقتصد: صاحب المكاشفة، والسابق: صاحب المشاهدة. وبعضهم قال: يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد: في كل يوم مرة، والسابق: غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. هـ. باختصار.
والتحقيق: أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين.
إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها فيها من أساورَ من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا: الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عنا الحزَن إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فلما مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة:
وإِنْ خَطَرَتْ يوما علَى خاطر امرئ ... أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ
وقال أيضاً:
فما سكَنتْ والهمَ يوماً بموضِعٍ، ... كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَم الغَم «1»
إِنَّ ربنا لغفور بتغطية العيوب، شكور بكشف الغيوب، الذي أحلّنا دار المُقامة، هي التمكين في الحضرة، بفضله، لا بحول منا ولا قوة، لا يمسنا فيها نصب. قال القشيري: إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْعِ مسافةٍ، بل هم في غُرَفِهم يشاهدون مولاهم، ويُلَقَّون فيها تحيةَ وسلاماً، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مُقلةٍ من جهةٍ، كما هم يَرَوْنه بلا كيفية. هـ.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
__________
(1) فى الأصول الخطية: [كذلك لا يسكُنْ مع النعم الغم] .(4/546)
قلت: «فيموتوا» : جواب النفي.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، يُخلدون فيها، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي: لا يحكم بموت ثان فيستريحوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ساعة، بل كلما خبت زِيد إسعارها، وهذا مثل قوله: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ «1» ، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد في الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان، وأنه كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعُه، فقال عليه السلام: «لا، فإنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يومَ الدين» . ثم قال عياض: ولكن بعضهم يكون أشد عذاباً، بحسب جرائمهم.
وذكر أبو بكر البيهقي: أنه يجوز أن يراد بما ورد في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار: أنهم لا يتخلصون بها من النار، ولكن يُخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل: وعلى ما قاله عياض، فما ورد في أبي طالب من النفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بسبب ذبِّه عنه ونصرته له، مختص به. هـ. ويرد عليه ما ورد من التخفيف في حاتم بكرمه، فالظاهر ما قاله البيهقي. والله أعلم.
ومثل ما قاله في أبي طالب، قيل في انتفاع أبي لهب بعتق ثويبة، كما في الصحيح «2» .
والحاصل: أن التخفيف يقع في بعض الكفار، لبره في الدنيا، تفضلاً منه تعالى، لا في مقابلة عملهم لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.
كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفران وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: يستغيثون، فهو يفتعلون، من: الصراخ، وهو الصياح بجهد ومشقة. فاستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث. يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها، ورُدنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فنؤمن بعد
__________
(1) من الآية 75 من سورة الزخرف.
(2) كانت السيدة (ثويبة) مولاة لأبى لهب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعتقها حين بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم- على أصح الأقوال- حين قالت لأبى لهب:
أشعرت أن آمنة قد ولدت غلاما لأخيك عبد الله، فقال لها: اذهبي فأنت حرة. ويؤكد ذلك ما أخرجه الإمام البخاري فى (النكاح، باب وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ح 5101) عن عروة بن الزبير «أن ثوبية مولاة أبى لهب، وكان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب، أريه بعض أهله بشر حيبة. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم [راحة- رخاء] غير أنى سقيت فى هذه بعتقي ثويبة» وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.
وقد نظم شمس الدين محمد بن ناصر فى هذا المعنى شعرا، قال فيه:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه ... وتبت يداه فى الجحيم مخلدا
أتى أنه فى يوم الاثنين دائما ... يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسرورا ومات موحدا
انظر: شرح المواهب (1/ 138- 139) وأيضا: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 108) وكتاب «أعظم المرسلين» لشيخنا البركة الدكتور «جودة المهدى» (177- 79) .(4/547)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
الكفر، ونُطيع بعد المعصية. فيُجابون بعد قدر عمر الدنيا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي: أو لم نعمركم تعميراً يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه، والتدبُّر في آياته، وإن قصُر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وقيل: هو ثماني عشرة سنة. وقيل: ما بين العشرين إلى الستين، وقيل: أربعون. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب، مسح الشيطان على وجهه. وقال: وجه لا يُفلح أبداً، وقيل: ستون. وعنه صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة» «1» ، وفي البخاري عنه عليه السلام: «أعذر الله المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» «2» .
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي: الرسول عليه السلام، أو: الكتاب، وقيل: الشيخوخة، وزوال السن، وقيل: الشيب. قال ابن عزيز: وليس هذا شيء لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير. هـ. ولقوله تعالى بعدُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، فإنه يتعين كونه الرسول، وهو عطف على معنى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ لأن لفظه استخبار، كأنه قيل: قد عمَّرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة: احتج عليهم بطول العمر، وبالرسول، فانقطعت حجتهم. قال تعالى: فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: الذين كفروا بطريق الخصوصية، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح، فبقوا مع نفوسهم، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية، لا يُقضى عليهم فيموتوا، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة، ولا يُخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ، ونسج الأكنة على القلوب، كذلك نجزي كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها، بلسان حالهم، قائلين: ربنا أخرجنا، ورُدّنا إلى دار الفناء، نعمل صالحاً غيرَ الذي كنا نعملُ، حتى ندخل، كما دخلها أهل العزم واليقظة؟ فيقال لهم: أو لم نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تذكر، وجاءكم النذير، مَن ينذركم وبال القطيعة، ويُعرفكم بطريق الحضرة، فأنكرتموه، فذُوقوا وبال القطيعة، فما للظالمين من نصير.
ولمّا كان الكفر والإيمان من أعمال القلوب، قد يخفى على الناس، أخبر أن الله هو مطلع على ما فيها، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
__________
(1) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (3/ 947) للبزار، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. وأصله عند البخاري. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه فى العمر، ح 6419) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(4/548)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أي: ما غاب فيهما عنكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
، تعليل لِمَا قبله لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم. وذات الصدور: مضمراتها ووساوسها. وهي تأنيث «ذو» ، بمعنى: صاحب الوساوس والخطرات، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب، أي: عليم بما في القلوب، أو بحقائقها، على أن «ذات» بمعنى الحقيقة.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي: جعلكم خلفاء عنه في التصرُّف في الأرض، قد ملككم مقاليد التصرُّف فيها، وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة. فَمَنْ كَفَرَ منكم، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة، فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فوبالُ كفره راجعٌ عليه، وهو مقتُ الله، وخسران الآخرة، كما قال تعالى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وهو أشد البغض، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً: هلاكاً وخسراناً.
الإشارة: إن الله عالم بما غاب في سموات الأرواح، من أسرار العلوم والمكاشفات، والاطلاع على أسرار الذات، وأنوار الصفات، وما غاب في أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات، إنه عليم بحقائق القلوب، من صفائها وكدرها، وما فيها من اليقين والمعرفة، وضدهما.
قال القشيري: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. هـ.
وقال في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ: أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه:
أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم.
ثم ردّ على مَن كفر بالشرك، فقال:
[سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)(4/549)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
قلت: «أرأيتم» : بمعنى: أخبروني، وهي تطلب مفعولين: أحدهما منصوب، والآخرُ مُشتمل على استفهام، كقولك: أرأيت زيداً ما فعل، فالأول: (شركاءكم) والثاني: (ماذا خلقوا) . و (أروني) : اعتراض، فيها تأكيد للكلام وتشديد. ويحتمل أن يكون من باب التنازع لأنه توارد على (ماذا خلقوا) : (أرأيتم) و (أروني) ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. قاله أبو حيان. ولابن عطية وابن عرفة غير هذا، فانظره. و «بعضهم» : بدل من «الظالمين» .
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ أي: أخبروني عن آلهتكم التي أشركتموها في العبادة مع الله، الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ، ما سندكم في عبادتهم؟ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي: جزء من الأرض، استبدُّوا بخلقه حتى استحقُّوا العبادة بسبب ذلك، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: أم لهم مع الله شركة في خَلْق السموات حتى استحقُّوا أن يُعبدوا؟ بل لا شيء من ذلك، فبطل استحقاقها للعبادة. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه، فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ قال ابن عرفة: هذا إشارة إلى الدليل السمعي، والأول إشارة إلى الدليل العقلي، فهم لم يستندوا في عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلي ولا سمعي، بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي:
ما يَعِد الظالمون، وهم الرؤساء بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً باطلاً وتمويهاً، وهو قولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1» . لَمَّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف، والرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله تُقربهم إليه. هذا هو التقليد الردئ، والعياذ بالله.
الإشارة: كل مَن ركن إلى مخلوق، أو اعتمد عليه، يُتلى عليه: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ.. الآية. وفي الحِكَم: «كما لا يقبل العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه» .
ثم ذكر من يستحق العبادة وحده، فقال:
[سورة فاطر (35) : آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
__________
(1) من الآية 18 من سورة يُونس.(4/550)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي: يمنعهما من أن تزولا لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين: أن السموات هي الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب، كما في الثعلبي، تحامل إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة، وانظر عند قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها.. «1» قال القشيري: أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، وزينهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإمساكهما يُسَاهِمُه، ولا شريك في إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. هـ.
وَلَئِنْ زالَتا، على سبيل الفرض، إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، من بعد إمساكه. و «من» الأولى:
مزيدة، لتأكيد النفي، والثانية: ابتدائية، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً، غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.. «2» الآية.
الإشارة: الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح، بين سماء المعاني وأرض الحس، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول: عالم التعريف، والثاني:
عالم التكليف. الأول: محل التنزيه، والثاني: محل التشبيه، الأول: محل أسرار الذات، والثاني: محل أنوار الصفات، مع اتحاد المظهر إذ الصفات لا تفارق الموصوف، فافهم. وفي بعض الأثر: «إن العبد إذا عصى الله استأذت السماء أن تسقط عليه من فوقه، والأرض أن تخسف من تحته، فيمسكهما الله تعالى بحلمه وعفوه، ثم تلى الآية: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إلى قوله: كانَ حَلِيماً غَفُوراً» هـ. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم، تتميماً لقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ.. إلخ، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 44]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)
__________
(1) الآية 38 من سورة يس.
(2) الآية 90 من سورة مريم.(4/551)
قلت: «جهد» : نصب على المصدر، أو على الحال. و «استكبار» و «مكر» : مفعول من أجله أو حال.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي: إقساماً وثيقاً، أو: جاهدين في أيمانهم:
لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ المهتدية، بدليل قوله: (أهدى) وقوله في سورة الأنعام: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1» وذلك أن قريشاً قالوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم: لعن الله اليهود والنصارى، أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم «2» ، أي: من الأمة التي يقال فيها: هي أهدى الأمم، تفضيلاً لها على غيرها في الهُدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة: هي أهدى الدواهي. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي: ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق، وهو إسنادٌ مجازيّ إذ لا فاعل غيره.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي: ما زادهم إلا تهورا للاستكبار ومكر السيّء. أو: مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، المكر القبيح، وهو إجماعهم على قتله. عليه الصلاة والسلام، وإذاية مَن تبعه.
وأصل قوله: (ومكر السيئ) : وأن مكروا المكر السيّء، فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم أبدل «أن» مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف إلى صفته اتساعاً، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع. وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي: لا يحيط وينزل المكر السيّء إلا بمَن مكره، وقد حاق بهم يوم بدر. وفي المثل: مَن حفر حفرة وقع فيها.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ: ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين، من العذاب المستأصل، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، بيّن أن سُنَّته- التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل- سُنَّة ماضية، لا يبدلها في ذاتها، ولا يحوّلها عن وقتها، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ممن كذَبوا رسلهم، كيف أهلكهم الله ودمرهم، كعاد، وثمود، وقرى قوم لوط. استشهد عليهم بما كانوا يُشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق، من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم ودمارهم. وَقد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً واقتداراً، فلم يتمكنوا من الفرار، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ أيَّ شيء كان فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأحوالهم قَدِيراً على أخذهم. وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 157 من سورة الأنعام.
(2) قاله الضحاك، فيما ذكره ابن كثير فى تفسيره (3/ 562) .(4/552)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
الإشارة: ترى بعض الناس يقول: لئن ظهر شيخ التربية لنكونن أول مَن يدخل معه، فلما ظهر، عاند واستكبر، وربما أنكر ومكر. نعوذ بالله من سابق الخذلان. قال القشيري: ليس لقولهم تحقيق، ولا لضمانهم توثيق، وما يَعدُون من أنفسهم فصريحُ زورٍ، وما يُوهمُون من وِفاقهم فصِرْفُ غرور. وكذلك المريد في أول نشاطه، تُمَنِّيه نَفْسُه ما لا يقدر عليه، فربما يعاهد الله، ويؤكد فيه عقداً مع الله، فإذا عَضّتْهُ شهوتُه، وأراد الشيطانُ أن يكذبه، صَرَعه بكيده، وأركسه في كُوةِ غيِّه، وفتنةِ نَفْسه فيسودُّ وجْهُه، ويذهب ماء وجهه.
ثم قال في قوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا.. الخ: ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدو، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه، وارتدَ عليه كيدُه، دَمّر على أعدائه تدميراً، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
ثم تمّم قوله: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً بقوله:
[سورة فاطر (35) : آية 45]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا بما اقترفوا من المعاصي مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض لأنه جرى ذكرها في قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «1» ، مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدبُّ عليها. قيل: أهل المعاصي فقط من الناس، وقيل: من الجن والإنس.
والمشهور: أنه عام في كل ما يدب لأن الكل خُلق للآدمي. وعن ابن مسعود: (إِن الجُعل «2» ليُعذب في جُحره بذنب ابن آدم) «3» ، يعني ما يصيبه من القحط، بشؤم معاصيه. وقال أبو هريرة: إن الحبارى «4» لتموت هزالاً في وكرها بظلم الظالم. هـ.
__________
(1) الآية 44 من السورة.
(2) الجعل: حيوان معروف كالخنفساء. انظر النهاية فى غريب الحديث (جعل 1/ 277) .
(3) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 480) للفريابى، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، وصححه.
(4) الحبارى: طائر معروف، وهو على شكل الإوزة، برأسه وبطنه غبرة، ولون ظهره وجناحيه كلون السمانى غالبا. والجمع حبابير، وحباريات. انظر اللسان (حبر) مع تعليق محققه.
وقال: ابن الأثير فى النهاية (1/ 328) :
وإنما خصها بالذكر لأنها أبعد الطير نجعة، فربما تذيح بالبصرة، ويوجد فى حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.(4/553)
قال القشيري: لو عَجَّل لهم ما يستوحبونه من الثواب والعقاب، لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ، وما اتسعت أفهامُهم القصيرة له، فأخَّرَ ذلك ليوم الحَشْرِ، فإِنَّه طويل، واللهُ على كل شيءٍ قدير، بأمور عباده بصير، وإليه المصير هـ وهذا معنى قوله: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أجل جمعهم، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي: لن يخفى عليه حقيقة أمرهم، وحكمة حكمهم، فيجازيهم على قدر أعمالهم.
الإشارة: تعجيل العقوبة في دار الدنيا للمؤمن إحسان، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان. فكل مَن له عناية سابقة عاتبه الله في الدنيا، بمصيبة في بدنه، أو ماله، أو في أهله، ومَن لا عناية له أُخرت عقوباته كلها لدار الجزاء. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه، وبسيدنا محمد نبيه- صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه.(4/554)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
سورة يس
مكية، وقيل: إلا قوله: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «1» ، نزلت فى بنى سلمة، حين أرادوا الانتقال إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم «2» . وآيها: ثلاث وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ «3» مع قوله:
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد حقق هنا نذارته ورسالته بالقسم. وعنه صلى الله عليه وسلم: «يس تدعى المعمة، تعم صاحبها بخير الدارين، والدافعة والقاضية- تدفع عنه كل شر، وتقضى له كل حاجة» «4» . وفى خبر آخر: «يس لما قرئ له» ، وفي حديث آخر: «ما قرأها خائف إلا أمن، ولا جائع إلا شبع، ولا عطشان إلا روى، ولا عريان إلا كسى، ولا مسجون إلا سرح، ولا عازب إلا تزوج، ولا مسافر إلا أعين، ولا ذو ضالة إلا وجدها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ يس عند الموت، أو قرئ عليه، أنزل الله بعدد كل حرف منها عشرة من الملائكة، يقفون بين يديه، ويصلون عليه، ويستغفرون له، ويشهدون جنازته» .
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
يقول الحق جلّ جلاله: يس أيها السيد المفخم، والمجيد المعظم، وَحق الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ المحكم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفي الحديث: «إن الله تعالى سمّاني في القرآن بسبعة أسماء: محمد، وأحمد، وطه، ويس، والمزّمّل، والمدّثر، وعبد الله» ، قيل: ولا تصح الاسمية في يس لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة، على أنها حروف هجاء محكية، ولو سمي بها لأعربت غير مصروفة، كهابيل وقابيل، ومثلها «طس» و «حم» ، كما قال الشاعر:
لما سمى بها السورة ... فهلا تلى حميمَ قبل التكلم.
__________
(1) الآية 12.
(2) أخرجه الترمذي فى (التفسير، باب: ومن سورة يس، 5/ 339، ح 3226) والحاكم، وصححه، وأقره الذهبي (2/ 428) ، والواحدي فى أسباب النزول (ص 378- 379) عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» وقال الحافظ ابن كثير فى التفسير (3/ 566) معلقا على حديث نحوه، رواه البزار: فيه غرابة.
(3) من الآية 42 من سورة فاطر.
(4) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (2/ 481، ح 2465) وضعّفه، من حديث أبى بكر الصدّيق رضي الله عنه. وذكره بنحوه، مطولا، القرطبي فى تفسيره (6/ 5602) وعزاه للثعلبى، من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها. [.....](4/555)
فدلَّ على أنها حروف حال التلاوة. نعم قد قرئ «يسُ» بضم النون، ونصبها، خارج السبعة، وعلى ذلك تخرج بأن اللفظ اسم للسورة، كأنه قال: اتل يس، على النصب، وعلى أنها اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وتوجه في قراءة الضم على النداء. هـ. قلت: والظاهر إنها حروف مختصرة من السيد، على طريق الرمز بين الأحباء، إخفاء عن الرقباء.
ثم أقسم على رسالته، ردّاً على مَن أنكره بقوله: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي: ذي الحكمة البالغة، أو: المحكم الذي لا ينسخه كتاب، أو: ذي كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ مِن أعظمهم وأجلِّهم. وهو ردٌّ على مَن قال من الكفار: لَسْتَ مُرْسَلًا «1» . عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: كائناً على طريق مستقيم، يوصل مَن سلكه إلى جوار الكريم، فهو حال من المستكن في الجار والمجرور. وفائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحاً، وإن دلَّ عليه: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ التزاماً، أو: خبر ثان لإنَّ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: يس، معناه: يا سيد- رقَّاه أشرف المنازل، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل، سُنَّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند مَن تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك قَضوا بالعَجَب في استحقاقه، وقالوا: كيف آثر يتيم أبي طالب من بين البرية، ولقد كان- صلوات الله عليه- في سابق اختياره تعالى مقدّماً على الكافة من أشكاله وأضرابه، وفي معناه قيل:
هذا وإن أصبح في أطمار ... وكان في فقر من اليسار
آثرُ عندي من أخي وجاري ... وصاحب الدرهم والدينار
وصاحب الأمر مع الإكثار «2» . هـ.
__________
(1) من الآية 43 من سورة الرعد.
(2) وردت الأبيات- كاملة- فى قصة، ذكرها ابن كثير فى البداية والنهاية (8/ 89- 90) ، وملخصها:
كان معاوية بن أبى سفيان على السماط، فمثل بين يديه شاب من بنى عذرة، فأنشده شعرا، مضمونه: التشوق إلى زوجته سعاد.
وقال: يا أمير المؤمنين: إنى كنت متزوجا بابنة عم لى، وكان لى إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها، فلما قلّ ما بيدي رغب عنى أبوها، وشكانى إلى عاملك بالكوفة (ابن أم الحكم) وبلغه جمالها، فحبسنى، وحملنى على أن أطلقها، فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم، فزوّجه إياها، فهل من فرج؟
فكتب معاوية إلى ابن أم الحكم يؤنبه، وأمره بطلاقها، فطلقها، وسيّرها إلى معاوية، وخيّرها معاوية بين زوجها وابن أم الحكم، فاختارت زوجها الأول، وأنشدت الأبيات:
هذا وإن أصبح في أطمار ... وكان فى نقص من اليسار
أكبر عندى من أبى وجاري ... وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار ... خلى سبيلى ما به عار
لعلنا نرجع للديار ... وأن عسى نظفر بالأوطار
راجع أيضا: تزيين الأسواق (1/ 249) ، ونهاية الأرب (2/ 159) ، ولطائف الإشارات (1/ 42- 43) .(4/556)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
قال الورتجبي: قيل: الياء تُشير إلى يوم الميثاق، والسين تُشير إلى سره مع الأحباب، فقال: بحق يوم الميثاق، وسرى مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم، إنك لَمن المرسلين يا محمد هـ..
وجاء: «إن قلب القرآن يس، وقلبه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» «1» . قلت: وهو إشارة إلى سر القربة، الداعي إليه القرآن، وعليه مداره، وحاصله: تسليم الله على عباده كِفاحاً، لحياتهم به، وأنسهم بحديثه وسره. وقيل: لأن فيه تقرير أصول الدين. قاله في الحاشية الفاسية.
ثم فسّر القرآن، المقسم به، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 5 الى 11]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
قلت: «تنزيل» : خبر، أي: هو تنزيل. ومَن نصبه فمصدر، أي: نُزل تنزيل، أو: اقرأ تنزيل، وقرئ بالجر، بدل من القرآن. و «ما أُنذر» : نعت لقوم. و «ما» : نفي، عند الجمهور، أو: موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر، أي: العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم، أو: مصدرية، أي: لتنذر قوما إنذار مثل إنذار آبائهم.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا، أو هو تَنْزِيلَ «2» الْعَزِيزِ أي: الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد، الرَّحِيمِ الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد. أنزلناه لِتُنْذِرَ به قَوْماً، أو:
__________
(1) وردت الجملة الأولى فى حديث أخرجه الترمذي فى (فضائل القرآن، باب: ما جاء فى فضل «يس» 5/ 150، ح 2887) والدرامى فى (فضائل القرآن، باب فضل يس، 2/ 548، ح 3416) وأحمد فى المسند (5/ 26) عن أنس. بلفظ «إن لكل شىء قلبا، وقلب القرآن يس..» الحديث، قال الترمذي: هذا حديث غريب. وهارون أبو محمد شيخ مجهول.
(2) قرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي، بنصب اللام على المصدر. وقرأ الحسن بالجر، وقرأ الباقون بالرفع، خبر لمقدر. وقد سار المفسر على قراءة الرفع. انظر الإتحاف (2/ 397) .(4/557)
أرسلناك لتنذر قوماً غافلين، ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي: غير منذر آباؤهم، كقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ «1» وقوله: وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ «2» أو: لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم، لقوله:
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«3» . أو: لتنذر قوماً إنذار آبائهم، وهو ضعيف إذ لم يتقدم لهم إنذار. فَهُمْ غافِلُونَ، إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، وإلا فهو متعلق بقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر قوماً، كقولك: أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «4» أي: تعلق بهم هذا القول، وثبت عليهم ووجب لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة: إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به، اعتباراً بظاهر الأمر، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق، ولا فائدة فيها لأنَّ المكلفين قسمان: فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان إذ لا يطيقه، ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة في إنذاره وأمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه. هـ. قلت: الحكمة تقتضي تكليفهم لتقوم الحجة عليهم أو لهم، والقدرة تقتضي عذرهم. والنظر في هذه الدار- التي هي دار التكليف- للحكمة لا للقدرة.
ثم مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم، بقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ، معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، فَهُمْ مُقْمَحُونَ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق، يقال: قمح البعيرَ فهو قامح إذا روي فرفع رأسه، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه، تحت الذقن، حلقة، فلا [تخليه] «5» يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحاً. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن: مجتمع اللحيين. وقيل: «فهي» أي:
الأيدي. وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين. وفي مصحف أُبي: «إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً» وفي بعضها: «في أيديهم فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مقمحون» .
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، بفتح السين وضمها- قيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله، كالجبل ونحوه، فالبضمّ، أي: جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم، فهم محبوسون
__________
(1) الآية 3 من سورة السجدة.
(2) الآية 44 من سورة سبأ.
(3) الآية 430 من سورة النبأ.
(4) الآية 13 من سورة السجدة.
(5) ما بين المعقوفتين مطموس فى النسخة الأم، وغير موجود فى غيرها من النسخ المعتمدة فى التحقيق.(4/558)
في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، فَأَغْشَيْناهُمْ أي: فأغشيناهم أبصارهم، أي:
غطيناها وجعلنا عليها غشاوة، فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق والرشاد.
وقيل: نزلت في بني مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف: لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه، فأتاه وهو يصلّي، ومعه حجر، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، حتى فكّوه عنها بجَهد، فرجع إلى قومه، فأخبرهم، فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله بصره، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه، ولم يرهم حتى نادوه «1» . وقيل: هي ذكر حالهم في الآخرة، وحين يدخلون النار، فتكون حقيقة.
فالأغلال في أعناقهم، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب لقوله: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، أي: الإنذار وتركه في حقهم سواء إذ لا هادي لمَن أضلّه الله.
رُوي أن عمرُ بنُ عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ، فقال غيلان: كأني لم أقرأها قط، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده، فقطع يديه ورجليه، وصلبه على باب دمشق «2» .
ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار، فقال: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وخاف عقاب الله قبل أن يراه، أو: تقول: نُزِّل وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر، وإنما الإنذار لمَن انتفع به. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ، وهو العفو عن ذنوبه، وَأَجْرٍ كَرِيمٍ الجنة وما فيها.
الإشارة: كل مَن تصدّى لوعظ الناس، وإنذارهم، على فترة من الأولياء، يقال له: لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد: لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون. إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا: موانع تمنعهم من النهوض إلى الله، ومن خلفهم سدّاً: علائق تردهم عن حضرة الله، فأغشيناهم: غطَّينا أعين بصيرتهم، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله، فهم لا يُبصرون داعياً، ولا يُلبون منادياً، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي: سد ما خلفهم سد قهر الأزل، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد، فبنفسه منعهم من نفسه. لا
__________
(1) أخرجه الطبري مختصرا (22/ 152) عن عكرمة. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (139) لابن إسحاق فى السيرة، وأبى نعيم فى الدلائل، عن عكرمةُ، عن ابن عباس- رضى الله عنهما.
(2) انظر تفسير النسفي (3/ 97) .(4/559)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
جرم أنهم في غشاوة القسوة، لا يبصرونه أبداً. هـ. إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى الله مَن خشع قلبه بذكر الله، واشتاقت رُوحه إلى لقاء الله، فبشِّره بمغفرة لذنوبه، وتغطية لعيوبه، وأجر كريم، وهو النظر إلى وجه الله العظيم.
ثم ردّ على مَن أنكر البعث، ممن سبق له الشقاء، فقال:
[سورة يس (36) : آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي: نبعثهم بعد مماتهم، أو: نُخرجهم من الشرك إلى الإيمان. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: لَمَّا أمر بالتبشير بالمغفرة، والأجر الكريم، لمَن انتفع بالإنذار، أعلم بحكم مَن لم يؤمن، ولم ينتفع بالإنذار، وأنه يبعثهم، وإليه حكمهم، كما قال: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ «1» هـ.
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها، وَآثارَهُمْ ما تركوه بعدهم من آثار حسنة، كعِلْم علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبس حبسوه، أو رباط أو مسجد صنعوه. أو آثار سيئة، كبدعة ابتدعوها في الإسلام. ونحوه قوله تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«2» أي: قدّم من عمله وأخّر من آثاره. وفي الحديث: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً، فعمل بها من بعده، كان له أجرُها ومثل أجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن يَنْقُص من أجورِهِمْ شيءٌ. ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا، وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها، من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شيءٌ» «3» وفي خبر آخر: «سبع تجري على العبد بعد موته: مَن غرس غرساً، أو حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو علَّمَ علماً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ولداً صالحاً» »
. انظر المنذري. وهذا كله داخل في قوله تعالى: وَآثارَهُمْ قيل: آثارهم: خطاهم إلى المساجد، للجمعة وغيرها.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ حفظناه، أو عددناه وبيَّنَّاه فِي إِمامٍ كتاب مُبِينٍ اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب وإمامها، وقيل: صحف الأعمال. والمراد: تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر، لينزجروا عن معاصي الله، وينهضوا إلى طاعة الله.
__________
(1) الآية 36 من سورة الأنعام.
(2) الآية 13 من سورة القيامة.
(3) أخرجه مسلم، فى (الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، 2/ 704- 705، ح 1017) من حديث جرير. [.....]
(4) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار- 149) والبيهقي فى الشعب (ح 3449) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه، بلفظ مقارب، فى (المقدمة/ ح 242) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(4/560)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
الإشارة: إنّا نحن نُحيي القلوب الميتة بالغفلة والجهل، فنحييها بالعلم والمعرفة، ونكتب ما قدّموا من العلوم، والأسرار والمعارف، وآثارهم، أي: الأنوار المتعدية إلى الغير، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم. قال القشيري: نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة، بما نُمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدموا وَآثارَهُمْ خطاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وما ترقرقَ من دموعهم على عَرَصات خدودهم، وتَصَاعُدَ أنفاسهم. هـ.
ثم ضرب مثلاً لقريش فى تكذيبهم، وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قلت: «اضرب» : يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و «مَثَلاً» : مفعول أول، وأَصْحابَ: مفعول ثان، أو: بمعنى «مثل» ، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و «أصحاب» : بدل من «مَثَلاً» ، و «إذ» :
بدل من «أصحاب» . و «أَئِن ذُكِّرتُم» : شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاضْرِبْ لَهُمْ أي: لقريش مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي: واضرب لهم مثل أصحاب القرية «أنطاكية» أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، إِذْ جاءَهَا أي: حين جاءها الْمُرْسَلُونَ رُسل عيسى عليه السلام «1» ، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
إِذْ أَرْسَلْنا: بدل من «إذ» الأولى، أي: إذ بعثنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ، بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟
__________
(1) هذا قول قتادة، أخرجه الطبري (22/ 155) والظاهر من (أرسلنا) أنهم أنبياء، أرسلهم الله، ويدلّ عليه: قول المرسل إليهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وهذه المحاورة لا تكون إلاَّ مع من أرسله الله، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح- عليه السّلام. راجع تفسير ابن كثير (3/ 569) والبحر المحيط (7/ 313) .(4/561)
فقالا: نشفي المريض، ونُبرىء الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض منذ سنين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك، وقال: ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا؟ فقالا: نعم، مَن أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتى أنظر في أمركما، فحبسهما.
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به. فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما؟ قال: لا، فدعاهما. فقال شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك. فقال: صِفاه وأوجزا، فقالا:
يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع. فقال: إِنْ قدر إلهاكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال: وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: مَن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا «1» . كما سيذكره بقوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ.
وهذا معنى قوله هنا: فَكَذَّبُوهُما أي: فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، فَعَزَّزْنا: قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف، من: عزّه: غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا بِثالِثٍ، وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغراض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. فَقالُوا أي: الثلاثة لأهلِ القرية: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من عند عيسى، الذي هو من عند الله. وقيل: كانوا أنبياء من عند الله- عزّ وجل- أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي: ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: وحياً، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فيما تدعون من الرسالة. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، أكَّد الثاني باللام دون الأول لأن الأول مجرد إخبار،
__________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 11- 12) .(4/562)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
والثاني جواب عن إنكار، فيحتاج إلى زيادة تأكيد. ورَبُّنا يَعْلَمُ جارٍ مجرى القسم في التأكيد، وكذلك قولهم: شَهِد الله، وعَلِمَ اللهُ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: التبليغ الظاهر، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته.
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة، قالوا:
بشؤم هذا، وبركة ذلك. وقيل: حبس عنهم المطر، فقالوا ذلك. وقيل: ظهر فيهم الجذام، وقيل: اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ لنقتلنكم بالحجارة، أو: لنطردنّكم، أو: لنشتمنكم، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وليصيبنّكم منا عذاب الحريق، وهو أشد العذاب.
قالُوا أي: الرسل طائِرُكُمْ سبب شؤمكم مَعَكُمْ وهو الكفر، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: وُعظتم، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم، وقلتم ما قلتم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مجاوزون الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم، لا من قِبَلِ الرسل. أو: بل أنتم قومٌ مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله- عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة: إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً، ثم شكّ فيه، وَدَفَعَهُ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه، ثم عزّزه بثالث، وجب تصديقه والعمل بما يقول، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلى فيه إلا الحق، وإلا وجب اتهامه، حتى يتبين وجهه. وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وبالله التوفيق.
ثم تمم القصة، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 27]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)(4/563)
يقول الحق جلّ جلاله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، وهو حبيب النجار «1» ، وكان في غارٍ من الجبل يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم، وأظهر دينه. قال القشيري: في القصة أنه جاء من قرية فسمَّاها مدينة، وقال: من أقصاها، ولم يكن بينهما تفاوت كثير، وكذلك أجرى سُنَّته في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِه، إذا كان يرضاه، ويستنزِرُ الكثيرَ من فضله إذا بَذَلَه وأعطاه. هـ.
ولما قَدِم سألهم: أتطلبون على ما تقولون أجراً؟ فقالوا: لا، قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة وَهُمْ مُهْتَدُونَ على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة. فقالوا: وأنت على دين هؤلاء؟ فقال: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: خلقني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب، ومقتضى الظاهر: وإليه أرجع. والتحقيق: أن المراد: مالكم لا تعبدون، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم تلطّف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها، جرى على ذلك في قوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، والمراد: تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره.
ثم قال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني الأصنام، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ، وهو شرطٌ جوابه:
لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ من مكروه بالنصر والمظاهرة، إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت إلهاً غيره لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لفي خطأ بيّن، لا يخفى على عاقل، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي: اسمعوا إيماني، لتشهدوا به لي يوم القيامة، فقتله قومُه «2» .
ولمَّا مات قِيلَ له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فدُفن في أنطاكية، وقبره بها. ولم يقل: قيل له لأن الكلام مسوق لبيان القول، لا لبيان المقول له لكونه معلوماً. وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. وقال الحسن: لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله، فهو في الجنة «3» ، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا، وما أعدّ الله لأهل الإيمان، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي: بالسبب الذي غفر لي ربي به، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بالجنة، وهو الإيمان بالله ورسله، أو: بمغفرة ربي وإكرامي، ف «ما» : موصولة، حُذف عائدها المجرور، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول، أو: مصدرية، وقيل: استفهامية. ورُدّ بعدم حذف ألفها.
__________
(1) أخرجه ابن جرير (22/ 159) ، وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 491) لعبد بن حميد، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن قتادة.
(2) عزاه ابن كثير فى تفسيره (4/ 568) لابن إسحاق، فيما بلغه عن ابن عباس- رضى الله عنهما، وكعب، ووهب.
(3) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 15) .(4/564)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قال الكواشي: تمنى أن يعلم قومُه أنَّ الله قد غفر له، وأكرمه، ليرغب قومُه في اتباع الرسل، فيُسلموا، فنصح قومَه حيًّا وميتاً. وكذلك ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تعالى، في المجاهدة والنصيحة لعباد الله، وألاَّ يحقد عليهم إن آذوه، وأن يكظّم كل غيظ يناله بسببهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سُبَّاق الأمم ثلاثة: عليّ بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون» «1» . هـ.
قال القشيري: قد أَبْلَغَ- حبيب الوَعْظَ، وصَدَقَ النُّصْح، ولكن كما قالوا وأنشدوا:
وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد البغةَ المتنصِّحُ «2»
فلمَّا صَدَقَ في حاله، وصَبَرَ على ما لَقِيَ من قومه، ورجع إلى ربه، تلقَّاه بحسن إقباله، وآواه إلى كنف إفضاله، ووجد ما وعده به من لُطْفِ نواله، فتَمنَّى أنْ يعلم قومُه حاله، فَحَقَّقَ مُناة، وأخبر عن حاله، وأنزل فيه خطابه، وعَرَفَ قومُه هـ.
الإشارة: أحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله وأنصحهم لهم. وفي الحديث: «لئن يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَم» «3» فينبغي لمَن أراد الظفر بمحبة الحبيب، وينال منه الحظوة والتقريب، أن يتحمّل المشاق في إرشاد عباد الله، ويستعمل الأسفار في ذلك، لينال عنده الجاه الكبير، والقُرب العظيم. حققنا الله بذلك بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر هلاك قومه، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 29]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد قتله، أو رفعه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ فيهلكهم، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ وما كان يصحّ في حكمنا في إهلاك قوم أن نُنزل عليهم جنداً من
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 492) بنحوه، للطبرانى، وابن مردويه، بسند ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2) البيت للعباس بن الفرج الرياشي. انظر: الكامل للمبرد (2/ 392) .
(3) جزء من حديث شريف، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة، باب: مناقب سيدنا عليّ بن أبي طالب، ح 3701) ومسلم فى (فضائل الصحابة باب: من فضائل سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، 4/ 1872، ح 2406) من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه.(4/565)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
السماء، كما فعلنا معك يوم بدر والخندق لحظوتك عندنا. وفيه تحقير لإهلاكهم، وتعظيم لشأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق، مع أنه كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة؟ قلت: لأن الله فضّل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء، على كبار الأنبياء وأولي العزم، فضلاً عن حبيب النجار. هـ. ملخصاً. إِنْ كانَتْ العقوبة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، صاح عليهم جبريل عليه السلام فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون.
الإشارة: كل وعيد ورد في مُكذِّبي الرسل يجر ذيله على مُكذِّبي الأولياء لأنهم خلفاء الأنبياء، إلا أن عقوبة مؤذي الأولياء، تارة تكون ظاهرة، في الأبدان والأموال، وتارة باطنة، في قسوة القلوب والتعويق عن صالح الأعمال، وكسْف نور الإيمان والإسلام، والبُعد وسوء الختام، وهي الحسرة العظمى، كما قال تعالى:
[سورة يس (36) : الآيات 30 الى 32]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
قلت: كَمْ أَهْلَكْنا: معلّقة ليروا عن المفعولين. وأَنَّهُمْ: بدل من كَمْ، والتقدير: ألم يَرَوا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون كونهم غير راجعين إليهم. ووَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ: من قرأ «لما» بالتخفيف «1» ، فإن: مخففة، واللام: فارقة، و «ما» مزيدة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لَجميعٌ محضرون عندنا. ومَن قرأها بالتشديد فإِنْ:
نافية، و «لَمَّا» : بمعنى إلا، أي: ما كُلهم إلا مجموعون ومُحضرون للحساب.
يقول الحق جلّ جلاله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ تعالى، فهذا أوان حضورك. ثم بيّن لأي شيء كانت الحسرة عليهم، فقال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من عند الله إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين، المنوط بنصحهم خير الدارين، أحقّاء بأن يتحسَّروا، ويتحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهَّف المتلهِّفون. أو: هم مُتَحَسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي: ألم يعلموا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون الماضية، أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي: كونهم غير راجعين إليهم أبداً حتى يلحقوا بهم، ففيهم عبرة وموعظة لمَن يتعظ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ
__________
(1) قرأ، ابن عامر، وعاصم، وحمزة «لمّا» بتشديد الميم. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر الإتحاف (2/ 400) .(4/566)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
أي: وإن كلهم مجموعون محضرون للحساب، أو معذَّبون. وإنما أخبر عن «كل» بجميع لأن «كل» تفيد معنى الإحاطة. والجميع: فعيل، بمعنى مفعول، ومعناه: الاجتماع، والمعنى: أن المحشر يجمعهم، فكلهم مجموعون مُحضرون للحساب.
الإشارة: يا حسرةً على العباد، ما يأتيهم من داع يدعو إلى الله، على طريق التربية الكاملة، إلا كانوا به يستهزؤون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون، ماتوا على الغفلة والحجاب، وكلهم محضرون للعتاب والحساب، ماتوا محجوبين، ويبعثون محجوبين لإنكارهم في الدنيا مَن يرفع عنهم الحجاب، ويفتح لهم الباب، وهم شيوخ التربية، الموجودون في كل زمان. أو: يا حسرةً على المتوجهين، ما يأتيهم من وارد على قلوبهم إلا كانوا به يستهزؤون، ولو فهموا عن الله لعملوا بما يرد على قلوبهم الصافية.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث والإحضار، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
قلت: «وآية لهم» : مبتدأ، وجملة «الأرضُ الميتة» : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي: وعلامة لهم تدلُّ على أن الله يبعثُ الموتى، ويُحضرهم للحساب، إحياءُ الأرض اليابسة بالمطر، فاهتزت وربت بالنبات. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، هم وأنعامهم. وقدَّم الظرف ليدل على أن الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظمُ العيش، ويقوم، بالارتفاق به، صلاحُ الإنسان، إذا قلَّ جاء القحط، ووقع الضرّ، وإذا فُقد حضر الهلاك، ونزل البلاء.
وَجَعَلْنا فِيها في الأرض جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ، «من» :
زائدة عند الأخفش، وعند غيره: المفعول: محذوف، أي: ما تتمتعون به من العيون.(4/567)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي: من ثمر الله، أي: ليأكلوا مما خلق الله تعالى من الثمر، أو: من ثَمَرة، يخلقها الله من ذلك، على قراءة الأخوين «1» . وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي: ومما عملته أيديهم من الغرس، والسقي، والتلقيح، وغير ذلك، مما تتوقف عليه في عالم الحكمة، إلى أن يبلغ الثمر منتهاه. يعني: أن الثمر في نفسه فعل الله، وفيه آثارٌ من عمل ابن آدم، حكمةً، وتغطيةً لأسرار الربوبية. وأصله: من ثمرنا، كما قال: وَجَعَلْنا وَفَجَّرْنا، فالتفت إلى الغيبة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى النخيل، ويترك الأعناب غير مرجوع إليها لأنه عُلم أنها في حكم النخيل. وقيل: «ما» نافية، على أن الثمرة خلق الله، ولم تعمله أيدي الناس، ولا يقدرون عليه. أَفَلا يَشْكُرُونَ الله على هذه النعم الجسيمة، وهو حثّ على الشُكر.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النخيل، والشجر، والزرع، والثمار، كيف جعلها مختلفة في الطعوم، والروائح، والشكل، والهيئة، واختلاف أوراق الأشجار، وفنون أغصانها، وأصناف نورها وأزهارها، واختلاف أشكال ثمارها، في تفرُّدها واجتماعها، مع ما بسط فيها من الطبائع الأربع من الحرورة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وما فيها من المنافع المتنوعة. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ الأولاد ذكوراً وإناثاً، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصنافٍ لم يُطلعهم الله عليها، ولم يتوصَّلوا إلى معرفتها، ففي البحار عجائب لا يعلمها الناس. قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ «2» . وفائدة التنزيه: نفي تشبيه الذات بشيء من هذه الأزواج.
والله تعالى أعلم.
قال القشيري: والعَجَبُ مِمَّن يُنكر أصول الدين، ويقول: ليس في الكتاب عليه دليل، وأكثر ما في القرآن من الآيات تدل على سبيل الاستدلال، ولكن يَهْدِي لنوره مَن يشاء، ولو أنهم أنصفوا واشتغلوا بأهم شيءٍ لهم ما ضيَّعوا أصول الدين، ورضوا فيها بالتقليد، وادَّعَوْا في الفروع رتبة الإمامة والتصدير، وفي معناها قيل:
يا مَنْ تصدَّرَ في دَسْتِ «3» الإمامة من ... مسائل الفقه إمْلاءً وتدْريسا
غَفَلْتَ عن حججِ التوحيد تُحْكِمُها ... شيَّدتَ فرعاً وما مَهَّدتَ تأسيسا! هـ
قلت: وحاصله: مدح علم الأصول وترك علم أصل الأصل، وهو علم التوحيد الخاص، أعني الشهود والعيان.
وقد قلتُ في ذلك، تذليلا:
__________
(1) قرأ حمزة والكسائي (من ثمر) بضم المثلثة والميم. وهى إما جمع «ثمرة» مثل: خشبة وخشب. وإما جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فيكون جمع الجمع. انظر: شرح الهداية للمهدوى (2/ 285) ، وإتحاف فضلاء البشر (2/ 25) .
(2) من الآية 8 من سورة النحل.
(3) الدست: صدر البيت.(4/568)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
يا مَنْ تصدّى لعلم الأصل يُحكمه ... قد فاتك الذوق بالوجدان مستأنسا.
الإشارة: وآية لهم النفس الميتة بالجهل أحييناها بالعلم، وأخرجنا منها علماً لَدُنيًّا، فمنه تتقوّت القلوب والأرواح، وجعلنا فيها جناتِ المعارف، من نخيل الحقائق، وأعناب الشرائع، وفجَّرنا فيها من عيون الحِكَم، ليأكلوا من ثمره، ومما عملته أيديهم، من المجاهدات والمكابدات، فإنها تُثمر المشاهدات. سبحان الذي خلق الأزواج كلها من الأحوال، والمقامات، والعلوم، والمعارف، مما يُستخرج من النفوس والأرواح، ومما لا يعلمه إلا الله.
ثم ذكر برهانا آخر، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
يقول الحق جلّ جلاله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نُخرج منه النهار، إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار. مستعار من: سلخ الجلد عن الشاة، أو: ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض، فيعري نفس الزمان، كشخص أسود، نزع عنه قميص أبيض لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء: الظلمة، فاكتسى بعضه ضوء الشمس، كبيت مظلم أُسرج فيه، فإذا غاب السراج أظلم. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون فى الظلام.
وَآية لهم أيضاً الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ لها مؤقّت، تنتهي إليه من فَلكِها في آخر السنة.
شبهت بمستقرّ المسافر إذا انتهى سفره، أو: لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم في مرائي عيون الناس، وهو المغرب. وفي الحديث الصحيح- من طريق أبي ذرٍّ-: «إنها تسجد كل يوم تحت العرش، فتستأذن، فيُؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يُؤذن لها، فتَطلُعُ من مغربها» ، ذرّ قال صلى الله عليه وسلم: «وذلك قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» «1» .
__________
(1) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر، ح 3199) ومسلم فى (الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، 1/ 139 ح 251) من حديث أبى ذر رضي الله عنه. [.....](4/569)
وعن ابن عباس: أن الشمس بمنزلة السانية، تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت في الليل تحت الأرض في فَلَكِها، حتى تطلع من مشرقها، وكذلك القمر. كذا نقل الكواشي عنه. ولعله لا يناقض ما جاء في الحديث، من أنها تسجد تحت العرش، لإحاطة العرش بالجميع، فهي حيث ما انتهت تحته. ونقل الأقليشي من حديث عكرمةُ، عن ابن عباس: (ما طلعت شمس حتى ينخسها سبعون ألف ملك، فيقولون لها: اطلعي، فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها ملك من الله، فيأمرها بالطلوع، فتستقل بضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع، فتطلع بين قرنيه، فيحرقه الله تعالى تحتها، وما غربت شمس قط إلا خرَّت لله ساجدة، فيأتيها شيطان، يريد أن يصدها عن السجود، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تعالى، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما طَلَعت شمسٌ إلا بين قرنَي الشيطان، ولا غربت إلا بين قرنَي الشيطان» «1» . هـ. على نقل شيخ شيوخنا الفاسي.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: «تجري لا مستقر لها» ، ومعناها: إنها جارية أبداً، لا تثبت في مكان. وقراءة الجماعة أوفق بالحديث. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي: ذلك الجري على ذلك التقدير البديع، والحساب الدقيق، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، العليم بكل معلوم.
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ، من نصبه فبِفِعْل مضمر، ومن رفعه فمبتدأ، والخبر: قَدَّرْناهُ مَنازِلَ، وهي ثمانية وعشرون منزلاً: فرع الدلو المقدم، فرع الدلو المؤخر، بطن الحوت، النطْح، البُطَيْن، الثُّريَّا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، الذِّراع، النَّثْرة، الصَّرْفَة، الجَبْهَة، الطَّرْفة، الزَّبرة، العَوَّاء، السِّمَاك، الغَفْر، الزَّبَاني، الإِكْليل، القَلْب، الشَّوْلة، النعَائِم، البَلَدة، سَعْدُ الذَّابح، سعد السُّعُود، سَعْد الأخبية «2» ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها، ولا يتقاصر عنها. على تقدير مستوٍ، يسيرُ فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين، أو ليلة إذا نقص الشهر. ولا بد في قَدَّرْناهُ مَنازِلَ من تقدير مضاف أي: قدّرنا سيره، أو نوره، فيزيد وينقص، إذ لا معنى لتقدير القمر منازل، فيكون «منازل» ظرفاً.
فإذا كان في آخر منازله، دقّ وتقوّس، حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ أي: كالشّمراخ، وهو عنقود التمر إذا يبس واعوج. ووزنه فعلون، من الانعطاف، وهو الانعراج، الْقَدِيمِ العتيق المُحْوِل «3» ، وإذا قُدم دقّ، وانحنى، واصفرّ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
__________
(1) أخرجه ابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق 3/ 124) .
(2) انظر البحر المحيط (7/ 322) وتفسير القرطبي (6/ 5632- 5633) .
(3) أي: مرّ عليه حول (عام) فصاعدا.(4/570)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها يصح ويستقيم لها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فتجتمع معه في وقتٍ واحد، وتداخله في سلطانه، فتطمس نوره قبل تمام وقته لأن لكلِّ واحد من النيّرين سلطانا عل حياله، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل. وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ولا يسبق الليل النهار، أي: آيةَ الليل لا تسبق آيةَ النهار، وهي النيّران. ولا يزال الأمرُ على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة، فيجمع الله بين الشمس والقمر، ويُكوران ويُرميان في النار، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي: وكلهم في فلك يسبحون يسيرون فالتنوين للعوض والضمير للشمس والقمر فإنَّ اختلاف الأحوال يُوجب تعدُّداً ما في الذات، أو: للكواكب فإن ذكر النيرين مشعر بها وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقرأ مقلوباً ومرتّباً، ففيه نوع من البديع.
الإشارة: وآيةٌ لهم ليلُ الغفلة نسلخ منه نهارَ اليقظة، ونهارُ اليقظة، نسلخ منه ليلَ الغفلة، فلا يزال العبد بين غفلة ويقظة، حتى تُشرق عليه شمس العرفان، وتستقر في قلبه، فلا غروب لها، وإليه الإشارة بقوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ومستقرها: قلوب العارفين. وقمر الإيمان قدَّرناه منازل، ينقص ويزيد، بزيادة التفرغ والتوجُّه ونقصانه، حتى تطلع عليه شمس العرفان، فينسخ نوره، فلا زيادة ولا نقصان. قال القشيري: فشبيهُ الشمس عارفٌ أبداً في ضياء معرفته، صاحبُ تمكينٍ، غيرُ مُتَلَوِّنٍ، شُرفَ في بروج سعادته قائماً، لا يأخذه كسوفٌ، ولا يستره سحابٌ. وشبيهُ القمر عبدٌ تلوّن أحوالُه في التنقُّل، صاحب تلوين، له من البسط ما يرقيه إلى حَدِّ الوصال، ثم يُرَدُّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان فيه من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقص أمره، إلى أن يدفع قلبه عن وقته، ويجود عليه الحقُّ سبحانه، فيُوَفِّقُه لرجوعه عن فترته، وإفاقته من سكرته، فلا يزال تصفوا أحواله، إلى أن يَقْرُبَ من الوصال، ويُرزقَ صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال، كذلك حاله إلى أن يُحَقَّ له بالمقسوم ارتحاله، وأنشدوا:
كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ ... غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ. «1» هـ.
ثم ذكر دليلاً آخر، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
__________
(1) غنته جارية فى قصة. انظرها فى الرسالة القشيرية/ 156. وورد فى الكبريت الأحمر (2/ 147) : [غير هذا بك أحسن] .(4/571)
يقول الحق جلّ جلاله: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها. وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق، وتماسكهم فيها أعجب، أو خصهم لضعفهم عن السفر، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ: المملوء، والظاهر: أن الضمير في «ذريتهم» للجنس. كأنه قال: ذُريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة: يريد بالذُريَّات المحمولين: أصحابَ نوح في السفينة، ويريد بقوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ: السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها عنى بقوله: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ.. الخ.
وأما إطلاق الذرية على الآباء، فقال ابن عطية: لا يُعرف لغة، وإنما المراد بالذرية الجنس، أو حقيقة ما تقدّم.
وعليه يكون قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يراد به الإبل فإنها سفن العرب.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إذا اركبوا سفن البحر، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث، أو: لا مستغيث لهم، وهو أبلغ، أي: لم تبقَ لهم قدرة على الاستغاثة. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي: لا ينقذون إلا لرحمة منا، ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم:
الاستثناء راجع لثلاث جمل: «نغرقهم» ، «فلا صريخ لهم» ، «ولا هم يُنقذون» .
الإشارة: إذا عامت أفكار العارفين، في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال أوت إلى سفينة الشريعة، بعد ركوبها في فلك الحقيقة، وإليه الإشارة في قوله: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ. وإن لم تسبق له عناية، غَرِقَ في بحر الزندقة والإلحاد، كما قال تعالى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ من شيخ كامل، ولا هم يُنقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين الكمال، فيعتدل. قال القشيري: الآية إشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة، في بحار التقدير، عند تلاطم أمواجها، بفنونٍ من التغيير والتأثير، وكم من عبدٍ غرق في أشغاله، في ليله ونهاره، لا يستريح لحظةً في كَدِّ أفعاله، ومقاساة التعب من أعماله، وجَمْعِ ماله، بنسيان عاقبته ومآلِه. ثم قال في قوله تعالى:
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ: لولا صفة جُوده وفَضْله لَحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه لحُسْنِ إفضاله، حفظهم في جميع أحوالهم. هـ.(4/572)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
ثم ذكر كفرهم لهذه النعم، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
قلت: جواب «إذا» محذوف، أي: أعرضوا، فدلّ عليه قوله: «معرضين» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي: كفار قريش: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ أي:
ما تقدّم من ذنوبكم، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعدُ، أو: ما بين أيديكم: ما سلف من مثل الوقائع التي حلَّت بالأمم المكذبة قبلكم، وما خلفكم من أمر الساعة، أو: ما بين أيديكم من فتنة الدنيا، وما خلفكم من عذاب الآخرة.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا في رجاء رحمة الله، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا.
قال تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وحدانية تعالى، وصدق رسوله، إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون لها رأساً، ف «من» الأولى لتأكيد النفي، والثانية للتبعيض، أي: دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: تصدّقوا على الفقراء، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكة لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. عن ابن عباس رضي الله عنه: كان بمكة زنادقة، فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين، قالوا: لا والله، أيُفقره الله ونُطعمه نحن؟! «1» . قيل: سبب الآية: أن قريشاً لَمّا أسلم ضعفاؤهم، قطعوا عنهم صِلاتهم، فندبهم بعضُ المؤمنين إلى ذلك، فقالوا تلك المقالة.
وقيل: إن قريشاً شَحَّتْ- بسبب أزمة نزلت بهم- على المساكين، مؤمِنهم وكافرهم، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين، فقالوا على سبيل الجهل: أَنُطعم قوماً أراد الله فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم: كن مع الله على المدبر، حتى كان الرجل يرعى إبله، فيجعل السِمَان في الخصب، والمهازيل في الجدب، فإذا قيل له في ذلك، قال:
__________
(1) انظر: البحر المحيط (7/ 325) وتفسير القرطبي (6/ 5641) .(4/573)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
أُكرم ما أَكرم الله، وأُهين ما أهان الله. ويحتمل أن يكون قولهم ذلك استهزاءً، فكأنهم قالوا: لِمَ لا يرزقهم إلهك الذي تزعم.
قال الكواشي: قد يتمسّك بهذه الآية بعضُ البخلاء، فيقول: لا أُعطي مَن حرمه الله. وليس هذا بصحيح لأن الله تعالى أغنى وأفقر، وجعل للفقير جزءاً من مال الغني كما يشاء. وفي الإحياء: أن المراد بالصدقة وشرعها:
التخلُّص من رذيلة البخل، وذلك نفع يعود على المتصدق، بإخراجه عن حب الدنيا، وتعلُّق قلبه بها، الصادّ عن الله، وهؤلاء لم يفهموا حكمة الله، فقالوا ما قالوا. هـ. ثم قال: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في أمركم لنا بالنفقة، أو في غير ذلك من دينكم، أو: يكون من قول الله تعالى للكفرة.
الإشارة: وإذا قيل للعامة: اتقوا ما بين أيديكم، من شدائد الدنيا، وما خلفكم، من أهوال الآخرة، لعلكم تُرحمون فيهما فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل في حياته وبعد مماته، وربما يسري الحفظ إلى عقبه، كما هو مشاهد في عقب أولياء الله. أو: إذا قيل لهم: اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم إذ ليس أمره بيدكم، فجُل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير، وخواطر التدبير، فيما سلف قبلكم، إذ فيه تحصيل الحاصل، وتعطيل الوقت بلا فائدة. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بمقام الرضا، وسكون القلب وراحته تحت مجاري القضاء، أعرضوا وانهمكوا في أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى، وانفراده بالخلق والتدبير، إلا كانوا عنها مُعرِضين.
قال القشيري: هذه صفة مَن سَيَّبَهم في أودية الخذلان، ووَسَمَهم بسِمَة الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها، على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإذا شاءَ نَظَرَ إليهم بالإِنعام. هـ.
ثم ذكر استعجالهم البعث، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)(4/574)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُونَ- استهزاء-: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: وعد البعث والقيامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولون. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي: النفخة الأولى، تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ يختصمون، يخصم بعضهم بعضاً في المعاملات، لا يخطر ببالهم أمرها، فتأتيهم بغتة. وقرأ حمزة- بسكون الخاء- من: خصمه: إذا غلبه في الخصومة. وفتح الباقون، مع الاختلاس والنقل وعدمهما. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً فلا يستطيعون أن يوصوا في أمورهم بشيء، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم، بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الثانية، بعد خُلو الأرض أربعين سنة. والصور: القرن، أو: جمع صورة. فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يُسرعون في المشي إلى المحشر.
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مَن أنشرنا مِنْ مَرْقَدِنا مضجعنا؟. قال مجاهد وأُبيّ بن كعب: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا يا ويلنا مَن بعثنا؟ وأنكره ابن عطية، وقال: إنما هو استعارة، كما تقول في قتيل: هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة في جوابهم: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أو يقوله المؤمنون، أو: الكفار، يتذكرون ما سمعوه من الرسل، فيُجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضاً. و «ما» : مصدرية، أي: هذا وَعْدُ الرحمن وصِدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدْق. أو: موصولة، أي: هذا الذي وعده الرحمن والذي صَدَقه المرسلون، أي: والذي صدق فيه المرسلون.
إِنْ كانَتْ النفخة الأخيرة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ للحساب، ثم يقال لهم في ذلك اليوم: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر.
الإشارة: إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة، والآجلة عاجلة، فيستعد لها قبل هجومها، ويتأهّب للقائها قبل وقوعها، أولئك الأكياس، الذينَ نَظَرُوا إلى بَاطِنِ الدنْيَا، حينَ نَظََرَ النَّاسُ إلى ظاهرها، واهتمُّوا بآجالها، حين اغترّ الناس بعاجلها، كما في الحديث في صفة أولياء الله.(4/575)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
ثم بين الحق تعالى مآلهم، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 59]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قلت: «سلام» : بدل من «ما» ، أو: خبر عن مضمر، أو: مبتدأ حُذف خبره، أو: من ذلك سلام، وهو أظهر ليكون عاماً، أي: ولهم كل ما يتمنون، كقوله: وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
«1» ومن جملة ذلك: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فيوقف على «ما يدَّعون» . و «قولاً» : منصوب على المصدر المحذوف، أي: يقال لهم «قولاً» ، وقيل:
على الاختصاص.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ- بضم الغين وسكونها «2» - أي: في شغل لا يوصف لِعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم، وهو افتضاض الأبكار، على شط الأنهار، تحت الأشجار، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار. وعن أبي هريرة وابن عباس- رضى الله عنهما- قيل: يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة، كما نُفضي إليهن في الدنيا؟. قال: «نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» «3» وعن أبي أمامة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: «نعم، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ، وشهوة لا تنقطع، دحْماً دحْماً» «4» . قال في القاموس: دحمه- كمنعه: دفعُه شديداً. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً» «5» ، وفي رواية أبي الدرداء: «ليس في الجنة مَنِّي» ، وفي رواية: «بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً» «6» وعن إبراهيم النخعي: جماع ما شئت، ولا ولد. هـ. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه- عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنة ليولد له الولد، كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة» . انظر البدور السافرة.
__________
(1) من الآية 31 من سورة فصلت.
(2) قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر (شغل) بضم الغين، وقرأ الباقون بالسكون. انظر الإتحاف (2/ 102) .
(3) أخرج حديث أبى هريرة: البزار (كشف الأستار ح 3525) . قال الهيثمي فى المجمع (10/ 416) : (رواه البزار والطبراني، ورجال هذه الرواية رجال الصحيح، غير محمد بن ثواب، وهو ثقة) . وحديث ابن عباس عزاه فى المجمع لأبى يعلى.
(4) عزاه فى المجمع (10/ 416) للطبرانى.
(5) أخرجه البراز (كشف الأستار ح 3527) . وقال الهيثمي فى المجمع (10/ 417) : رواه البزار، والطبراني فى الصغير، وفيه معلى ابن عبد الرحمن، وهو كذاب.
(6) عزاه فى المجمع (10/ 416) للطبرانى فى الأوسط وفى الكبير، بنحوه، عن زيد بن أرقم.(4/576)
قلت: والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف، فمنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأشباح، من حور، وولدان، وأطعمة، وأشربة، على ما يشتهي، ومنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأرواح، كالنظر لوجه الله العظيم، ومشاهدة الحبيب، ومناجاة ومكالمات، ومكاشفات، وترقيات في معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم مَن يُجمع له بين النعيمين، وسيأتي في الإشارة. وقوله تعالى: فاكِهُونَ أي: متلذذون في النعمة، والفاكه والفكه: المتنعم، ومنه: الفكاهة لأنه مما يتلذّذ به، وكذا الفاكهة.
ثم قال تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ جمع ظِل، وهو: الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفي قراءة «ظُلَل» بالضم، جمع ظُلة، كبُرمة وبرام، وهو ما يسترك عن الشمس، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس، قال تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» عَلَى الْأَرائِكِ: جمع أريكة، وهي السرير في الحَجَلة. فالأرائك: السرر المفروشة، بشرط أن تكون عليها الحَجلة، وإلا فليست بأريكة، والحَجَلة: ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم مُتَّكِؤُنَ عليها كالملوك على الأسرّة. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ كثيرة مما يشتهون. وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي: كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً، فوزنه: يفتعلون، من الدعاء، أو: ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح، من قولهم: ادَّع عليّ ما شئت، أي: تمنّه. وقال الفراء: هو من الدعوى، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون.
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي: من أهم ما يدعون: سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم، بلا واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك غاية متمناهم، مضافاً لرؤيته، ومن مقتضى الرحمة: الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري: يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد بقوله: قَوْلًا. وبقوله: مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ليُعلم أنه ليس على لسان سفير، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم، ليكمل لهم النعمة هـ. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذْ سطع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة، فينظر إليهم، وينظرون إليه» «2» .
ثم ذكر أهل البُعد والحجاب، فقال: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة، وذلك حين يُحشر المؤمنون، ويُساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار، يكون فيه، لا يَرى ولا يُرى أبدا. هـ.
__________
(1) الآية 30 من سورة الواقعة.
(2) أخرجه ابن ماجه فى (المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية 1/ 66، ح 184) وزاد السيوطي فى الدر المنثور (5/ 501) عزوه لابن أبى الدنيا، فى صفة الجنة، والبزار، وابن أبى حاتم، والآجرى فى الرؤية، وابن مردويه، عن سيدنا جابر رضي الله عنه.(4/577)
الإشارة: إِنَّ أصحاب الجنة المعجَّلة لأوليائه، اليوم، في شُغُل كبير، لا تجدهم إلا مشتغلين بالله، بين شهود واستبصار، وتفكُّر واعتبار، في محل المشاهدة والمكالمة، والمناجاة والمساررة، أوقاتهم محفوظة، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة، فهم في شغل شاغل عن الدنيا وأهلها، هم ومَن تعلّق بهم في ظلال الرضا، وبرد التسليم يرتادون، وفي مشاهدة وجه الحبيب يتنعّمون. قال القشيري: إن أصحاب الجنة اليوم، أي: طلابها، والساعون لها، والعاملون لنيلها، ولمثل ذلك فليعمل العاملون، فهم في الدنيا في طلب الجنة عن المنعِم بها، كما جاء في الحديث: «أكثر أهل الجنة البُلْه» «1» ، ومَن كان في الدنيا عن الدنيا حُرًّا، فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حُرًّا، «يختص برحمته مَن يشاء» - قلت: فالبله هم أهل الحجاب، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء، ويقنعون بالنعيم الحسي- ثم قال: ويقال: الحقُّ تعالى لا يتعلَّق به حقٌّ ولا باطل، فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم، وبين شهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته، بأي حالةٍ كانت. ولا يَقْدَحُ اشتغالهم باستيفاء حُظُوظِهم، في معارفهم. هـ. مختصراً.
قلت: وما في سورة الواقعة، من ذكر نعيم السابقين، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان، مع نعيم العيان والرضوان لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة، ومعاينة أسرار الحقيقة. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال ابن عطاء: السلام جليل عظيم الخطر، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة، حين يقول: سلام قولا من رب رحيم. قال القشيري: الرحمة في ذلك الوقت أنَّ يُبقهم في حال سماع السلام، أو حال اللقاء، لئلا تصحبهم دهشة، ولا تلحقهم حيرة. هـ. وقال الورتجبي: سلام الله أزلي الأبد، غير منقطع عن عباده الصالحين، في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب، فسَمِعُوا كلامه، ونظروا إلى وجهه كفاحاً. هـ. قلت: وقد يُرفع في دار الدنيا، فيسمع سلام الله على عباده، كما وقع لبعض الأولياء-. قيل: وفي قوله: رَحِيمٍ إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء، فلا تصحبهم دهشة، كما تقدّم. وقيل: الإشارة في الرحيمية: أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد، وإنما هو بالرحمة، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء. قاله المحشى.
__________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (2/ 120- 126، ح 1366) من حديث جابر رضي الله عنه قال البيهقي معقبا: هذا الحديث بهذا الإسناد منكر.
كما أخرجه البيهقي فى الموضع نفسه (ح 1367) والديلمي (الفردوس ح 1463) ، وعزاه فى الكنز (ح 39283) للبزار، من حديث أنس بن مالك. وقال العراقي فى المغني (3/ 20) : أخرجه البزار، من حديث أنس وضعّفه، وصححه القرطبي فى التذكرة، وليس كذلك، فقد قال ابن عدى: إنه منكر. راجع الكامل لابن عدى (3/ 1160) والعلل المتناهية (2/ 934) .
قلت: قال فى النهاية فى غريب الحديث (1/ 155) : «البله» هو جمع الأبله. وهو الغافل عن الشر، المطبوع على الخير، وقيل: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس لأنهم أغفلوا أمر ديناهم، فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم، فشغلوا أنفسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة. فأما الأبله، وهو الذي لا عقل له، فغير مراد فى الحديث. [.....](4/578)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
وقوله: وَامْتازُوا الْيَوْمَ إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة، وإبعادَ العدوِّ من أجَلِّ العوارف، فالأولياءُ في إيجاب القربة، والأعداء في العذاب والحجبة. انظر القشيري.
ثم ذكر توبيخ أعدائه يوم القيامة، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 60 الى 65]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)
يقول الحق جلّ جلاله، في توبيخ الكفرة يوم القيامة: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، يقال: عهِد إليه: إذا وصّاه. وهذا العهد إما على ألسنة الرسل، أو: يوم: «ألست بربكم» ، أو: ما نصبه لهم من الحُجج العقلية، والدلائل السمعية، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره. وعبادة الشيطان:
طاعته فيما يُوسوس به إليهم، ويُزيِّنه لهم. وَأَنِ اعْبُدُونِي: عطف على «ألاَّ تعبدوا» ، أي: عهدنا إليكم ألاَّ تُطيعوا الشيطان ووحّدوني، وأطيعوني، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان، وطاعة الرحمن، أي: هذا طريق بليغ في الاستقامة، لا طريق أقوم منه. وفيه إشارة إلى جنايتهم على أنفسهم بعد النصح التام، فلا حجة بعد الإعذار، ولا ظلم بعد التذكير والإنذار.
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا أي: خلقاً كَثِيراً- وفيه لغات مذكورة في كتب القراءات- أي: ولقد أتلف الشيطان عن طريقي المستقيم خلقاً كثيراً، بأن أشركوا معي غيري، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، قرّعهم على تركهم الانتفاع بالعقل، الذي ركّبه فيهم، حيث استعملوه فيما يضرهم، من تدبير حظوظهم وهواهم. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: ادخلوا واحترقوا فيها، بكفركم وإنكاركم لها.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي: نمنعهم من الكلام، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يُروى: أنهم يجحدون، ويُخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم، وأهاليهم، وعشائرهم، فيحلفون: ما كانوا(4/579)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
مشركين، فحينئذ يُختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «يقول العبد يوم القيامة: إني لا أُجيزُ عليّ إلا شاهداً من نفسي، فيُخْتم على فِيهِ، ويُقال لأركانه: انْطِقي، فتنطِقُ بأعماله، ثم يُخَلِّي بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لكُنَّ، وسُحْقاً، فعنكُنّ كنت أُناضِلُ» «1» .
الإشارة: كل مَن آثر حظوظه ومُناه، ولم يقدر على مجاهدة هواه، حتى مات محجوباً عن الله، يلحقه شيء من هذا التقريع. والصراط المستقيم: هو طريق التربية، التي توصِّل إلى الحضرة، التي قام بيانها الأولياء العارفون بالله. ولقد أضلَّ الشيطانُ عنها خلقاً كثيراً، حملهم على طلب الدنيا والرئاسة والجاه، فلم يقدروا على التفرُّغ لذكر الله، ولم يحُطوا رؤوسهم لمَن يُعَرِّفهم بالله، فيُقال لهم: هذه نار القطيعة التي كنتم تُوعدون، إن بقيتم مع حظوظهم ورئاستكم، اصلوها اليوم بكفركم بطريق التربية، اليوم نختم على أفواههم، فلا مناجاة بينهم وبين حبيبهم، وتُكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم- بلسان الحال أو المقال- بما كانوا يكسبون من التقصير.
قال القشيري: قوله: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ.... إلخ، فأمَّا الكفار فشهادةُ أعضائِهم عليهم مؤبدة، وأما العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد عليهم بعض أعضائهم بالإحسان، وأنشدوا:
بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ ... والحاكم العَدْلُ، الجوادُ المُنْصِفُ.
وفي بعض الأخبار المرويةِ: أن عَبْداً شهدت أعضاؤه عليه بالزَّلَّة، فتطير شَعرة من جَفْن عينه، فتشهد له بالشهادة. فيقول الحق تعالى: يا شعرة جَفْنِ عبدي احتَجّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادي منادٍ: هذا عتيقُ الله بشعرة. هـ.
ثم هددهم فى دار الدنيا، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
__________
(1) أخرجه مسلم فى (الزهد، 4/ 2880، ح 2969) من حديث سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.(4/580)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ اليوم، أي: أعميناهم وأذهبنا أبصارهم.
والطمس: سد شق العين حتى تعود ممسوخة. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ، على حذف الجار، وإيصال الفعل، أي:
فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وبادَروا إليه لِما يلحقهم من الخوف، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فكيف يُبصرون حينئذ من جهة سلوكهم، فيضلون في طريقهم عن بلوغ أملهم.
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ قردة، وخنازير، أو حجارة، عَلى مَكانَتِهِمْ: على منازلهم، وفي ديارهم، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ فلم يقدروا على ذهاب ومجيء، أو: مُضِياً أمامهم، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى: أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك، لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم، واقتضاء الحكمة إمهالهم.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُطِل عمره نُنَكِّسْهُ «1» فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس: جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى: مَن أطلنا عمره نكَسنا خلقه، وهو نوع من المسخ، فصار بدل القوة ضعفاً، وبدل الشباب هرماً، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايدُ إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته، ويعْقل، ويعلم ما له وعليه، فإذا انتهى نكّسناه في الخلق، فجعلناه يتناقصُ حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ «2» . قال ابن عباس:
«مَن قرأ القرآن- أي وعمل به- لم يرد إلى أرذل العمر» . أَفَلا يَعْقِلُونَ أنّ مَن قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، قادرٌ على أن يطمسَ على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويبعثهم بعد الموت.
الإشارة: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم، فلا يهتدون إلى طريق السلوك، ولا يسلكونها، فيبقوا في الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم، من رجاحة العقل والفهم، فلا يتدبّرون إلا في الأمور الحسية،
__________
(1) قرأ عاصم وحمزة «ننكسه» بضم الأول، وفتح الثاني، وتشديد الثالث وكسره، مضارع: (نكّس) ، للتكثير، وقرأ الباقون بفتح الأول، وإسكان الثاني، وضم الثالث، وتخفيفه. مضارع «نكسه» كنصره. انظر الإتحاف (20/ 404) .
(2) الآية 70 من سورة النحل.(4/581)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
فلا يستطيعون مُضيًّا في بلاد المعاني، ولا رجوعاً عن الحسيّات. ومَن نُعَمّره من هؤلاء نُنكّسْهُ في الخلق، فيلحقه الخرف والضعف، وأما مَن اهتدى إلى طريق السير، وسلك بلاد المعاني، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحةً في العقل، وقوةً في العلم، وتمكيناً في المعاني والمعرفة.
قال القشيري: ومَن نُعَمِّرْهُ ننكِّسْه فِي الخلق: نرده إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة، يأخذ في النقصان، إلى أن يبلغَ أرذلَ العُمر، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شيءٌ، كما أنشدوا:
طَوَى العَصْرانِ ما نَشَرَاهُ مني ... فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ
أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ ... ولا يبقى مع النقصان شي «1»
وهذا في الجثة والمباني، دون الأحوال والمعاني، فإن الأحوال- في حق الجثة- في الزيادة إلى بلوغ حَد الخَرَفِ، فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبُهم، ولكنَّ محابَّهم ومعانيَهم في عنفوان شبابها، وطراوة جدّتها. هـ.
ثم أنكر على من رمى القرآن بكونه شعرا، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي: وما علّمنا نبينا محمداً الشعر، حتى يقدر أن يقول شعراً، فيُتهم على القرآن، أو: وما علّمناه بتعلُّم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر، فإنه غير مقفّى ولا موزون، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفيه؟
فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: وما يليق بحاله، ولا يتأتى له لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قَرْضَ الشعر لم يتأتّ له، ولم يسهل، كما جعلناه أُميًّا لم يهتدِ إلى الخط لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض.
__________
(1) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل، كما فى كتاب الوافي بالوفيات (5/ 222) . ونسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا، كما فى تاريخ بغداد (14/ 311) .(4/582)
وأما قوله- عليه الصلاة والسلام-: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» «1» ، وقوله: «هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصبعٌ دَمِيتِ، وفِي سَبِيلِ الله ما لَقِيتِ» «2» ، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد، كما يتفق في خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم، ولا يسمى شعراً إلا ما قصد وزنه.
ولَمَّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر، قال: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي: ما الذي يُعلِّم ويقوله إلا ذكر من الله، يُوعظ به الإنس والجن، وَقُرْآنٌ أي: كتاب سماوي، يُقرأ في المحاريب، ويُتلى في المتعبّدات، ويُنال بتلاوته والعملِ به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر، الذي هو من همزات الشيطان؟!.
أنزلناه إليك لِتُنْذِرَ بِهِ «3» يا محمد، أو: لينذر القرآن مَنْ كانَ حَيًّا بالإيمان، أو عاقلاً متأملاً فإن الغافل كالميت، أو: مَن سبق في علم الله أنه يحيى فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي: تجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ المُصرِّين على الكفر، وجعلهم في مقابلة مَن كان حَيًّا إشعار بأنهم بكفرهم في حكم الأموات، كقوله: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «4» .
الإشارة: أما النبي- عليه الصلاة والسلام- فنفى الله عنه صنعة الشِّعر، والقوة عليه، لئلا يُتهم فيما يقوله، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه، ويصرف ذلك في أمداح الخمرة الأزلية، والحضرة القدسية، أو في الحضرة النبوية، وينالون بذلك تقريباً، ورتبة كبيرة، وأما قوله- عليه الصلاة والسلام-: «لأن يمتلئ جَوْفُ أحدِكم قَيْحاً يَرِيهُ خير من أن يمتلئ شِعْراً» «5» فالمراد به شعر الهوى، الذي يشغل عن ذكر الله، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة- رضى الله عنها- أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر؟ فقالت: لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيت طرفة، أخي بني قيس:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهلاً ... وَيَأتِيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ.
وربما عكسه فقال: «ويأتيك مَن لم تزود بالأخبار» «6» . وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب من قاد دابة غيره فى الحرب، ح 2864) ومسلم فى (الجهاد، باب فى غزوة حنين، 3/ 1400، ح 1776) من حديث البراء بن عازب.
(2) أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب من ينكب فى سبيل الله، ح 2802) وفى (الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز) ومسلم فى (الجهاد، باب لقى النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، 3/ 1421، ح 1796) من حديث جندب بن سفيان.
(3) قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب «لتنذر» بالخطاب. وقرأ الباقون «لينذر» بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 404) .
(4) من الآية 22 من سورة فاطر.
(5) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر الله، ح 6155) ومسلم فى (كتاب الشعر، 4/ 1769 ح 2257) .
(6) أخرجه بنحوه، وبدون ذكر بيت الشعر، الطبري فى تفسيره (23/ 27) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 505) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبى حاتم. وانظر: تفسير البغوي (7/ 27) وتفسير ابن كثير (3/ 579) .(4/583)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
ثم ذكّرهم بالنعم، عليهم ينقادوا بملاطفة الإحسان فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أعملوا ولم يعلموا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي:
أظهرته قدرتنا، ولم يقدر على إحداثه غيرُنا. وذِكْر الأيدي، وإسناد العمل إليها، استعارة، تُفيد مبالغة في الاختصاص والتفرُّد بالإيجاد، أَنْعاماً، خصَّها بالذكر لِمَا فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي: خلقناها لأجلهم، فملكناها إياهم، فهم يتصرفون فيها تصرُّف المالك، مختصُّون بالانتفاع بها. أو:
فهم لها حافظون قاهرون.
وَذَلَّلْناها لَهُمْ وصيَّرناها منقادة لهم. وإلا فمَن كان يقدر عليها لولا تذليلُه وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «1» فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي: مركوبهم، وهو ما يُركب منها، وقرىء بضم الراء، أي: ذو ركوبهم. أو: فمن منافعها ركوبهم. وَمِنْها يَأْكُلُونَ ما يأكلون لحمه، أي: سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود، والأوبار، والأصواف، وغير ذلك، وَمَشارِبُ من اللبن، على تلوُّنه من المضروب وغيره، وهو جمع: مشرب، بمعنى: موضع الشرب. أو: المصدر، أي: الشرب. أَفَلا يَشْكُرُونَ نِعَم الله في ذلك؟ إذ لولا إيجاده إيها لها ما أمكن الانتفاع بها.
الإشارة: قوم نظروا إلى ما منَّ الله إليهم من المبرة والإكرام، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان، فعرفوا المنعِّم، وشكروا الواحد المنّان، فسخّر لهم الكون وما فيه، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم، فسلّط عليهم المصائب والنقم، فانقادوا إليه قهراً بسلاسل الامتحان، «عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقون إلى الجنة بالسلاسل» «2» ، وكل هؤلاء سبقت لهم
__________
(1) الآية 13 من سورة الزخرف.
(2) لفظ حديث، أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب الأسارى فى السلاسل، ح 3010) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه.(4/584)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
من الله العناية. وقوم لم ينجح فيهم نِعَمٌ ولا نِقَم، قد سبق لهم الخذلان، فأصرُّوا على العصيان، ولم يشكروا الله على ما أسدى من سوابغ الإحسان، وإلى هؤلاء توجه الخطاب بقوله:
[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، أشركوها معه في العبادة، بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة، والنعم المتظاهرة، وتحقّقوا أنه المنفرد بها، فعبدوا الأصنام، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ بها إذا حزبهم أمْرٌ. والأمر بالعكس، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أبداً، وَهُمْ لَهُمْ أي: الكفار للأصنام جُنْدٌ أي: أعوان وشيعة مُحْضَرُونَ يخدمونهم، ويذبّون عنهم، ويعكفون على عبادتهم. أو: اتخذوهم لينصروهم عند الله، ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهّموا، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم، محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار، التي يحترقون بها.
ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فلا يُهمنَّك تكذيبهم، وأذاهم، وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من عداوتهم وكفرهم، وَما يُعْلِنُونَ، فيجازيهم عليه، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة، حتى ينقشع عنهم الهمّ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهي على طريق الاستئناف، ولذلك لو قرئ «أنّا» بالفتح، على حذف لام التعليل، لجاز، خلافاً لمَن أنكره وأبطل صلاة مَن قرأ به. انظر النسفي.
الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء دون الله، فهو في حقه صنم، كائناً ما كان، عِلماً، أو عملاً، أو حالاً، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبي حسن الشاذلي- رضى الله عنهما- لَمَّا قال: بِمَ تلقى الله يا أبا الحسن؟
فقال له: بفقري، قال: إذاً تلقاه بالصنم الأعظم، أي: وإنما يلقى الله بالله، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى:
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فيه تسلية لمَن أُوذي في جانب الله. قال القشيري: إذا عَلِمَ العبدُ أنه بمرأىً من الحق، هان عليه ما يقاسيه، لا سيما إذا كان في الله. هـ.(4/585)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
ثم أبطل دعوى من أنكر البعث، وهو من جملة قولهم، الذي أمر نبيه بالتسلى عنه، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ مَذِرة، خارجة من الإحليل، الذي هو قناة النجاسة، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ بيّن الخصومة، أي: فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله، يتصدّى لمخاصمة ربه، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر، وهو توبيخ بليغ حيث عجّب منه، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها.
رُوي أنَّ أُبيّ بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ، ففتَّه بيده، وقال: يا محمد أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما رمّ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» «1» فنزلت الآية.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، أمراً عجيباً، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين، فنعجز عما عجزوا عنه من إحياء الموتى، وَنَسِيَ خَلْقَهُ من المنيّ المهين، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و «خلقه» : مصدر مضاف للمفعول، أي: خلقنا إياه، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ بالٍ مفتت، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام، لا صفة، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث، وقيل: صفة بمعنى مفعول، من: رممته، فيكون كقتيل وجريح. وفيه
__________
(1) أخرجه الطبري (23/ 30) والواحدي فى أسباب النزول (ص 379) عن قتادة. وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 508) لسعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي فى البعث، عن أبى مالك. وأخرج الحاكم (2/ 429) وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في العاص بن وائل. والآية عامة، والألف واللام فى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ للجنس، يعم كل منكر للبعث.(4/586)
دليل على أن العظم تحله الحياة، فإذا مات صار نجساً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تحلّه الحياة، فهو طاهر كالشعر والعصب.
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: ابتداء، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ مخلوق عَلِيمٌ لا يخفى عليه أجزاؤه، وإن تفرقت في البر أو البحر، فيجمعه، ويُعيده كما كان.
ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، كالمَرْخ والعَفَار، ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ تقدحون، ولا تشكون أنها نار خرجت منه، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية، المضادة للنار، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس، وهي الزناد عند العرب، وأكثرها من المَرْخ والعَفار، وفي أمثالهم: «في كل شجر نار، واستمجد المرخُ والعفار» أي:
استكثر في هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ- وهو ذكر- على العفار- وهي أنثى، فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه:
ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار، إلا العناب لمصلحة الدقّ للثياب.
والمرخُ- ككتف: شجر سريع الورى. قاله في الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكُلخ. وفي القاموس: عَفار كسحاب: شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية: النار موجودة في كل عود، غير أنها في المتحلحَل، المفتوح المسام، أوجد، وكذلك هو المَرْخ والعَفار. هـ.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مثل أجسامهم في الصِّغر والحقارة، بالإضافة إلى السموات والأرض، أو: أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه في الذات والصفات لأن المعاد مثل المبْدأ، بل أسهل، بَلى أي: قُل: بَلى هو قادر على ذلك، وَهُوَ الْخَلَّاقُ كثير الخلق والاختراع، الْعَلِيمُ بأحوال خلقه، أو: كثير المخلوقات والمعلومات.
إِنَّما أَمْرُهُ شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً يكونه أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيحدث، أي: فهو كائن موجود، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته في الأشياء، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع وتوقف، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد، كأنه يقول: كما لا يثقل عليكم قول «كن» ، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي: ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة في الزمان المتحد، وذلك ممتنع على غيره، فقال: إِنَّما أَمْرُهُ ... الآية، فيحدث من غير توقف، فمَن رفع «فيكونُ» ،(4/587)
فلأنه جملة من مبتدأ وخبر، أي: فهو يكون. ومَن نصب فللعطف على «يقول» . والمعنى: أنه ليس ممن يلحقه نصَب ولا مشقة، ولا يتعاظمه أمر، بل إيجاد المعدومات، وإعدام الموجودات، عليه أسرع من لمح البصر هـ.
فَسُبْحانَ تنزيهاً له مما وصفه به المشركون، وتعجيب مما قالوا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ أي: ملك كُلِّ شَيْءٍ والتصرُّف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء للمبالغة، أي: مالك كلّ شيء، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث للجزاء والحساب.
الإشارة: أوَ لَم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة مهينة، فإذا هو خصيم لنا في تدبيرنا واختيارنا، ويُنازعنا في مُرادنا من خلقنا، ومرادنا منهم: ما هم عليه. فاستحي أيها الإنسان أن تُخاصم الله في حكمه، أو تنازعه في تقديره وتدبيره، وسلِّم الأمور لمَن بيده الخلق والأمر. بكى بعضُ الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له: وما هو؟
قال: (قلت لشيء كان: ليته لم يكن) . فارْضَ بما يختاره الحق لك، جلاليًّا كان أو جماليًّا ولا تختر من أمرك شيئاً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل مَن اهتم بأمر نفسه، واشتغل بتدبير شئونها، فقد ضرب لله مثلاً، بأن أشرك نفسه معه، ونَسِي خلقه، ولو فكر في ضعف أصله، وحاله، لاستحيا أن يُدبِّر لنفسه مع ربه، وفي الإشارات عن الله تعالى: أيها العبد لو أَذِنْتُ لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيي مني أن تدبر لها، فكيف وقد نهيتك عن الندية!.
وكما قَدَرَ على إحياء العظام الرميمة، يَقْدر على إحياء القلوب الميتة، ومَن قَدَرَ على استخراج النار من محل الماء، يقدر على استخراج العلم من الجهل، واليقظة من الغفلة، ومَن كان أمره بين الكاف والنون، بل أسرع من لحظ العيون، ينبغي أن يُرجع إليه في جميع الشئون. قال القشيري: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يحدث شيء- قلَّ أو كثر- إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شيء إلا بإبقائه، فمنه ظهر ما يحدث، وإليه يصير ما يخلق. هـ.
قال النسفي: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ يس يريد بها وجه الله غفر اللهُ له، وأُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة» وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه، وسلم.(4/588)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
سورة الصّافّات
مكية. وهى مائة وإحدى، أو اثنتان، وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها: أنها رد على المشركين فى عبادة الأصنام، وانكارهم البعث، المختتم بهما السورة قبلها، فقال فى صدر هذه: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ، ثم قال:
وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذا مِتْنا ... «1» إلخ. قال تعالى:
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً، أقسم بطوائف الملائكة، الصافِّين أقدامهم في مراتب العبادة، كل على ما أمر به، فالزجرات السحاب سوقاً إلى ما أراد الله، أو:
عن المعاصي بإلهام الخير. أو: الشياطين عن التعرُّض لهم. (فالتاليات ذكراً) لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح، حيث قال في فتاويه: إن الملائكة لا تقرأ القرآن، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال: فقد ورد أن الملائكة لم تُعط ذلك، فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، كما نقله عنه في الإتقان، فانظره.
أو: بنفوس العلماء والعمال، الصافات أقدامها في التهجُّد وسائر الصلوات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدراسات شرائعه. أو: بنفوس الغزاة في سبيل الله، التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و (صفاً) : مصدر مؤكد، وكذلك (زجراً) ، والفاء تدلُّ على الترتيب، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر، فتفيد الفضل للصف، ثم للزجر، ثم للتلاوة، أو بالعكس.
__________
(1) الآية 15 من سورة الصافات. [.....](4/589)
وجواب القسم: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ لا شريك معه يستحق أن يعبد، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وهو خبر بعد خبر، أو: خبر عن مضمر، أي: هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ أي: مطالع الشمس، وهي ثلاث مائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تُشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها، وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وأما: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «1» فإنه أريد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ «2» فإنه أريد به الجهة، فالمشرق جهة، والمغرب جهة. قال الكواشي: لم يذكر المغارب لأن المشارق تدل عليها.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القُربى منكم، تأنيث الأدنى، بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بالإضافة، أي: بأن زينتها الكواكب ومَن قرأ بالتنوين والخفض «3» فبدل، أي: هي الكواكب، ومَن قرأ بالنصب فعلى إضمار «أعني» ، أو: بدل من محل «بزينة» ، أي: زيَّنَّا الكواكب، أو: على إعمال المصدر منوناً في المفعول، أي: بتزيُّن الكواكب. قال البيضاوي: وركوز الثوابت في الكُوة الثامنة، وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة، متلألئة على سطحها الأزرق. هـ.
وَحِفْظاً من الشياطين، كما قال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «4» أو:
بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج عن الطاعة، فيُرمي بالشهب. لا يَسَّمَّعُونَ «5» إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى: استئناف لبيان حالهم، بعد بيان حفظ السماء منهم، ولا يجوز وصفه لكل شيطان لأنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلٍّ باعتبار المعنى لأنه في معنى شياطين، وتعدية (يسمعون) بإلى لتضمُّنه معنى الإصغاء مبالغة في نفيه، وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ومَن قرأ بالتشديد فأصله: «يتَسمَّعون» فأدغم. والتسمُّع: طلب السماع. يقال: تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم: الملائكة لأنهم في السموات العُلى، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض، وَيُقْذَفُونَ يُرمون بالشُهب، مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع جوانب السماء، من أيّ جهة صعدوا للاستراق.
__________
(1) الآية 17 من سورة الرحمن.
(2) الآية 9 من سورة المزمل.
(3) قرأ حفص، وحمزة، بتنوين (زينة) وجر (الكواكب) . وقرأ أبو بكر بتنوين (زينة) ونصب (الكواكب) . والباقون بحذف التنوين، على إضافة «زينة» للكواكب. انظر الإتحاف (2/ 408) .
(4) الآية 5 من سورة الملك.
(5) قرأ حفص، وحمزة، والكسائي، بتشديد السين والميم، والأصل «يتسمعون» فأدغمت التاء. وقرأ الباقون بالتخفيف.
انظر الإتحاف (2/ 408) .(4/590)
دُحُوراً مفعول له، أي: ويُقذفون للدحور، وهو الطرد، أو: مدحورين، على الحال، أو: لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فيكون مصدراً له، فكأنه قيل: ويُقذفون قذفاً، وَلَهُمْ عَذابٌ آخر واصِبٌ دائم، أو:
شديد، وهو عذاب الآخرة، أو: عذاب الدنيا لأنه دائم الوجوب لأنهم في الدنيا مرجمون بالشهب دائماً، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، «مَنْ» : بدل من ضمير «يسمعون» ، أي: لا يتسمّع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الخطفةَ، أي: اختلس شيئاً من كلام الملائكة بسرعة، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي: نجم مضيء يثقبه، أو يحرقه، أو يخبله، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم، في طلب الحضور، التالين لذكر ربهم لرفع الستور، إنه منفرد في ألوهيته، متوحِّد في ربوبيته إذ هو ربُّ كل شيء، ربُّ سموات الأرواح، وربُّ أرض النفوس والأشباح، وربُّ مشارق أنوار العرفان، وهي قلوب أهل العيان، ولم يذكر المغارب لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.
قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا.. إلخ، قال القشيري: زيَّن السماء بالنجوم، وزيَّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. هـ. وقوله تعالى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، قال القشيري: كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمَهَا بنجوم معارفهم، إلا مَن خَطِفَ الخطفة، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يُلْقِيَ شيئاً من وساوسه تَذَكَّرُواْ، فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ. هـ.
وقال في لطائف المنن: إن الله تعالى إذ تولى وليًّا صان قلبه من الأغيار، وحرسه بدوام الأنوار، حتى لقد قال بعض العارفين: إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشُّهب كي لا يسترق السمع منها، فقلبُ المؤمن أولى بذلك، لقول الله سبحانه، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن» . هـ. والمراد: المؤمن الكامل، الذي تولّى الله حفظه، وهو الولي العارف.
ثم ردّ على مَن أنكر البعث بعد هذه الدلائل الباهرة، فقال:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ ...(4/591)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
[سورة الصافات (37) : آية 11]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: فاستخبر كفّار مكّة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي: أقوى خلقاً وأعظم، أو: أصعب خلقاً وأشقه. أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب، والشُهب الثواقب؟. وجيء ب «مَنْ» تغليباً للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ: (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد: الرد على منكري البعث، فإنَّ مَن قدرَ على خلق هذه العوالم، على عظمها، كان على بعثهم أقدر.
ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق باليد، أو: لازم. وقرئ به، أي: يلزم مَن جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو:
احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خُلقوا منه إنما هو تراب، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقاً آخر؟ حيث قالوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً «1» الخ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعدُ من ذكر إنكارهم البعث.
[سورة الصافات (37) : آية 12]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
بَلْ عَجِبْتَ من تكذيبهم إيَّاك، وإنكارهم البعث، وَيَسْخَرُونَ هم منك، ومن تعجُّبك، أو: مِن أمر البعث، قال الكواشي: ولَمَّا لم تؤثِّر فيهم البراهين، أَمَرَ نبيّه- عليه الصلاة والسلام- بالإضراب عنهم، والإعجاب منهم، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث، والمعنى: إنك تعجبت من تكذيبهم، وهم يسخرون منك ومن تعجُّبك. هـ. قال قتادة: لَمَّا نزل القرآنُ عجب منه النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به، فلما سَمِعَه المشركون، ولم يؤمنوا، وسخروا، تعجَّب من ذلك «2» . هـ. وذكر ابن عطية وغيره: أن الآية نزلت في رُكانة، الذي صرعه صلى الله عليه وسلم «3» ، وذكر ابن عبد البر: أنه أسلم يوم الفتح. هـ.
وقرأ الأخوان «عجبتُ» بضم التاء، أي: استعظمت. والعجَبُ: روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء لخفاء سببه، وهو في حقه تعالى مُحال، ومعناه: التعجُّب لغيره، أي: كل مَن يرى حالهم يقول: عجبت، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: «عجب الله من شاب ليست له صبوة» «4» . وهو عبارة عما يُظهره الله في جانب المتعجب منه، من التعظيم أو التحقير، أو: قل يا محمد: عجبت ويسخرون.
__________
(1) الآية 5 من سورة الرعد.
(2) أخرجه الطبري (23/ 44) .
(3) حديث صرع النبي صلى الله عليه وسلم للركانة، أخرجه الترمذي فى (اللباس، باب العمائم على القلانس 4/ 217 ح 1784) وأبو داود فى (اللباس، باب فى العمائم 4/ 341 ح 4078) عن أبى ركانة.
(4) أخرجه أحمد (4/ 151) والطبراني فى الكبير (17/ 309) من حديث عقبة بن عامر. قال الهيثمي فى المجمع (10/ 270) :
وإسناده حسن.(4/592)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
[سورة الصافات (37) : آية 13]
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13)
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي: ودأبهم أنهم إذا وُعظوا بشيء لا يتعظون به.
[سورة الصافات (37) : آية 14]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة، كانشقاق القمر، ونحوه، يَسْتَسْخِرُونَ يُبالغون في السخرية، ويقولون: إنه سحر، ويستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها،
[سورة الصافات (37) : آية 15]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
وَقالُوا إِنْ هذا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته،
[سورة الصافات (37) : آية 16]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي: أنُبعث إذا كنا ترابا وعظاما؟
[سورة الصافات (37) : آية 17]
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ، فمن فتح الواو عطف على محلّ «إِنّ» واسمها، والهمزة للإنكار، أي: أو يبعث أيضاً آباؤنا الأولون الأقدمون، على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبْعد وأبطل. ومَن سَكَّن «1» فَمِنْ عطفِ أحد الشيئين، أي: أيُبعث واحد منا، على المبالغة فى الإنكار.
[سورة الصافات (37) : الآيات 18 الى 21]
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
قُلْ نَعَمْ تُبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة واحدة، وهى النفحة الثانية، والفاء: جواب شرط مقدر، أي: إذا كان كذلك فما هي إلا صيحة واحدة، وهي مبهمة، يُفسرها خبرها. أو: فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبلَ والغنمَ: إذا صاح عليها، فَإِذا هُمْ أحياء يَنْظُرُونَ إلى سوء أعمالهم، أو:
ينظرون ما يحلُّ بهم.
وَقالُوا يا وَيْلَنا، الويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، هذا يَوْمُ الدِّينِ اليوم الذي يُدانُ فيه العباد، ويُجازون بأعمالهم. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة، الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، يحتمل أن يكون قوله: هذا يَوْمُ الدِّينِ من كلام الكفرة، بعضهم مع بعض، وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ من كلام الكفرة، وما بعده كلام الملائكة، جواباً لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنسان فيه عالَمان، عالَم في غاية الضعف والخِسة، وهي بشريته الطينية، أصلها من ماء مهين.
وعالَم في غاية القوة والكمال، وهي روحانيته السماوية النورانية، فإذا حييت الروح بالعلم بالله، واستولت على البشرية، استيلاء النار على الفَحمة، أكسبتها القوة والشرف، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شيء في محله، فينزل الضعف في ظاهره، والقوة في باطنه، فظاهره يمتد من الوجود بأسره، وباطنه يمُد الوجود بأسره. فمَن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره، ولذلك قال سيدنا علي كرّم الله وجهه: ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة. هـ.
__________
(1) قرأ قالون، وابن عامر، وأبو جعفر، بإسكان الواو، وقرأ الباقون بالفتح. انظر الإتحاف (2/ 410) .(4/593)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
ومَن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره، لكن من آداب العبد: ألا يُظهر بين يدي سيده إلا ما يناسب العبودية، من الضعف، والذل، والفقر، فإذا تحقّق بوصفه مدَّه اللهُ بوصفه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مثال أهل الكفر، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 34]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
يقول الحق جلّ جلاله للملائكة يوم القيامة: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: اجمعوا الذين كفروا وَأَزْواجَهُمْ وأَشباهَهم، فيُحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو: نساءهم الكافرات، أو: قرناءهم من الشياطين. و «الواو» بمعنى «مع» ، أو: عاطفة. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: الأصنام، اجمعوها معهم، فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: دُلوهم على طريقها، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعي: يقال: هديته في الدين هُدى، وهديته الطريق هداية.
وَقِفُوهُمْ: احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضاً. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، أو: استهزاء بهم.
وقيل: هو جواب لأبي جهل، حيث قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «1» ، وجملة النفي: حال، أي: ما لكم غير متناصرين، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لِما يُراد بهم لعجزهم، وانْسِدَادِ أبواب الحيل عليهم، أو: قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي: التابع على المتبوع يَتَساءَلُونَ يتخاصمون، ويسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتسخُّط، قالُوا أي: الأتباع للمتبوعين: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي: تصدوننا عن
__________
(1) كما حكت الآية 44 من سورة القمر.(4/594)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
الحق والإيمان، قاله الحسن. وبيانه: أن العرب كانت تتيمّن بالسانح «1» عن اليمين من الطير، ويناسبه ما ذكره ابن عطية في جملة التأويلات بقوله: ومنها: أن يريد باليمين اليمْن، أي: تأتوننا من جهة النصائح، والعمل الذي يتيمّن به. هـ. قلت: والأحسن: أن يقدر معلق الجار، أي: تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين.
قالُوا أي: الرؤساء: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: بل أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه مع تمكُّنكم منه، مختارين للكفر، غير ملجئين إليه، أو: بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كُفركم لا استئنافه. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ وقهر، نسلبكم به تمكُّنكم واختياركم، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي: بل كنتم قوماً مختارين للطغيان، فَحَقَّ عَلَيْنا أي: لزمنا جميعاً قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، يعني: حقت علينا كلمتُه بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال: إنكم لذائقون، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلّمون بذلك عن أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم: فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغي إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا، فَإِنَّهُمْ أي: الأتباع والمتبوعين جميعاً، يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ المشركين، أي: مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم.
الإشارة: ويقال على طريق العكس: احْشُروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم، وأزواجهم، ومَن انتسب إليهم، فاهدوهم إلى طريق الجنان، وقِفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون، فينصر بعضكم بعضاً في هذا الموطن الهائل، بل هم اليوم منقادون لأمر الله، حتى يأذن لهم في الشفاعة. وفي الحديث: «اتَّخِذُوا يداً عند الفقراءِ، فإن لهم دَوْلَة يومَ القيامة» «2» ودولتهم:
الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى الله تعالى، حتى وصلوا إلى حضرته. ومَن صَدّ الناسَ عن طريقه وصحبتهم، يتعلّق به المخذول عنهم، فيقول له: (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ... ) الآية.
ثم ذكر سبب ورودهم العذاب، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 35 الى 39]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
__________
(1) السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبى أو طائر، أو غير ذلك، والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك. انظر اللسان (سنح 3/ 2112) .
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 104) لأبى نعيم فى الحلية، عن الحسين بن على رضي الله عنه. والحديث ضعفه السيوطي.(4/595)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّهُمْ أي: المشركين كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، هو أعم من إذا قيل لهم: قولوها، أو: ذكرت بمحضرهم، يَسْتَكْبِرُونَ أي: يتعاظمون عن قولها، أي: كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها، وأَبَوا إلا الشرك، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ، يعنون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ لكونه مصدِّقاً لما بين يديه من الرسل. وهو ردٌّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ مقابل لقولهم:
«شاعر» لأن الشاعر في الغالب كَذُوبٌ، وتصديق المرسلين في مقابلة مجنون لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسول وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، فعذبتم، على الكفر والتكذيب، وخلدتم، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة: ينبغي للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد، وهي «لا إله إلا الله» أن يخشع قلبه، وتهتز جوارحه، فرحاً بها، ويخضع لمَن جاء بها، ودلَّ عليها، حتى يُدخله في بحار معانيها، وهو التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية النبوية. قال القشيري:.. كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ..
الخ. احتجابُهم بقلوبهم أوقعهمْ في وهْدة عذابهم، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.. «1» وقال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ..
«2» ، فمَن عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته وعبوديته، قال قائلهم:
ويظهرُ في الورى عزُّ الموالي ... فيلزمني له ذُلُّ العبيد
ولمَّا لم يحتشموا من وصفه- سبحانه- بما لا يليق بجلاله، لم يُبالوا بها أطلقوا من المثالب في جانب أنبيائه. هـ.
ثم استثنى المخلصين، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 50]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)
__________
(1) من الآية 206 من سورة الأعراف. [.....]
(2) من الآية 173 من سورة النساء.(4/596)
يقول الحق جلّ جلاله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ- بفتح اللام، وكسرها «1» - أي: لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم، أو: الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك، فليسوا مع أولئك المعذّبين، بل أُولئِكَ المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، يأتيهم بكرة وعشياً، كحال المياسير في الدنيا، فهو معلوم الوقت لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري: قد كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم مَن له رزقٌ معلومٌ، فهو من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم، فالأغنياء- اليوم- لهم رزق معلوم لأبشارهم، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. هـ.
ثم فسّره بقوله: فَواكِهُ: جمع فاكهة، وهي كل ما يتلذّذ به، فليس قوتهم لحفظ الصحة، بل رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ.
أو: معلوم، أي: منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم، ورائحة، ولذّة، وحسن منظر، وَهُمْ مُكْرَمُونَ:
معظَّمون. قال القشيري: من ذلك: ورد الرسُل عليهم من قِبَلِ الله- عزّ وجل- في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. هـ.
وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، إما ظرف لمكرمون، أو: حال، أو: خبر، أي: في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ: يُقابل بعضها بعضاً، إن استوت درجتهم، فالتقابل أتم للسرور، وآنس.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ إناء من زجاج فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء.
وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. مِنْ مَعِينٍ من خمر معين، أي: جارية في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة أنهاراً، كما يجري الماء، قال تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ «2» . وقوله: بَيْضاءَ صفة للكأس، أي: صافية في نهاية اللطافة.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: لذيذة للشاربين، وصفت باللذة، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو: ذات لذة. لا فِيها غَوْلٌ أي: لا تغتال عقولَهم فتذهب بها، كخمر الدنيا، وهو من: غاله يغوله: إذا أهلكه وأفسده. أو: لا فيها غول: إثم، أو وجع بطن أو صداع، وهو وجع الرأس، أي: لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، من:
نُزِف الشارب: إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي «3» فمعناه: لا يَنْفَد شرابهم، يقال: أنزف الرجل فهو مُنزف: إذا فنيت خمرته.
__________
(1) قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، «المخلصين» بفتح اللام.
(2) من الآية 15 من سورة سيدنا محمد.
(3) قرأ بذلك حمزة، والكسائي. وقرأ الباقون بفتح الزاى.. انظر الإتحاف (2/ 411) .(4/597)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي: حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم عِينٌ: جمع عيناء، أي: نجلاء، واسعة العين. يقال: رجل أعين، وامرأة عيناء، ورجال ونساءٌ عينٌ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار، في الصفاء والبياض.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ في الجنة، تساؤل راحة وتنعُّم. والمعنى: أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب، كعادة الشَّرْب «1» . قال الشاعر:
ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلاَّ ... أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ
أو: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا. وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع.
الإشارة: المخلَصين- بالفتح- أبلغ من المخلِصين- بالكسر- المخلَصين: أخلصهم الله واصطفاهم، والمخلصى: ن طالبين الإخلاص، مجتهدين فيه، الأولون مجذوبون، والآخرون سالكون، الأولون محبوبون، والآخرون مُحبون، الأولون واصلون، والآخرون سائرون. قال القشيري: والإخلاص: إفرادُ الحقِّ- سبحانه- بالعبودية، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص. ويقال: الإخلاص: تصفية العمل، لا توفيقه، وفي الخبر:
«يا معاذ: أخلص العملَ، يكفك القليل منه» «2» . ويقال: الإخلاص: فقد رؤية الأشخاص. هـ.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ للمخلَصين- بالفتح- رزق أرواحهم وأسرارهم، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة. وللمخلصين، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة، على قدر سعيهم هنا، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني، وشرب خمرة المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها.
وقوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، كان من تمام نعميهم في الشرب: التحادث عليها بما يُناسب حالها، ومدحها، كما قال الشاعر:
وإذا جسلت إلى المدام وشربه ... فاجعل حديثك كله في الكاس
__________
(1) الشّرب: القوم يشربون، ويجتمعون على الشراب، جمع شارب، كركب ورجل. انظر اللسان (شرب 4/ 222) .
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 298) لابن أبى الدنيا فى الإخلاص، والحاكم، عن معاذ.(4/598)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة، وغاب في الشهود والنظرة، لا يجول إلا في عظمة الذات، وأسرارها، وبهائها، وجمالها، لا يخطر على باله غيرها، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية. هذه هي الفكرة الصافية، والنظرة الشافية، متعنا الله بها على الدوام. آمين.
ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 51 الى 61]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي: من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في الدنيا، قيل:
كان شيطاناً، وقيل: من الإنس، ففيه التحفُّظ من قرناء السوء، وقيل: كانا شريكين بثمانية آلاف دينار، أحدهما:
قطروس، وهو الكافر، والآخر: يهوذا، المؤمن، فكان أحدهما مشغولاً بعبادة الله، وكان الآخر مُقبلاً على ماله، فحلَّ الشركة مع المؤمن، وبقي وحده لتقصير المؤمن في التجارة، وجعل الكافر كلما اشترى شيئاً من دار، أو جارية، أو بستان، عرضه على المؤمن، وفخر عليه، فيمضي المؤمن، ويتصدّق بنحو ذلك، ليشتري به من الله تعالى في الجنة. فكان من أمرهما في الجنة ما قصّه اللهُ تعالى في هذه الآية «1» . قال السهيلي: هما المذكوران في سورة الكهف بقوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ..»
إلخ.
يَقُولُ أي: قرين السوء، لقرينه المؤمن في الدنيا: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من: الدين، وهو الجزاء.
__________
(1) ذكر السيوطي القصة بطولها فى الدر (5/ 518- 519) وعزاها لعبد الرزاق، وابن المنذر، عن عطاء الخراسانى، وأخرجها الطبري (23/ 56) عن فرات بن ثعلبة البهراني. وقد ذكر الشيخ ابن عجيبة- رحمه الله تعالى- القصة كاملة عند تفسير الآية 32 من سورة الكهف.
(2) الآية 32 وما بعدها من سورة الكهف.(4/599)
قالَ ذلك القائل لمَن معه في الجنة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لأريكم حال ذلك القرين. قيل:
إن في الجنة كُوىً ينظر أهلُها منها إلى أهل النار. قلت: حال الجنة كله خوارق، فيُكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل: القائل: هو الله، أو: بعض الملائكة. يقول لهم: هل تُحبون أن تطلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، أو: لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي: أو: إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة: هل أنتم ناظرون أخي في النار؟، فيقولون له: أنت أعرف به منا، فانظر إليه. فَاطَّلَعَ على أهل النار فَرَآهُ أي:
قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها.
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتُهلكني بإغوائك. و «إن» مخففة، واللام: فارقة، أي: إنه قربت لتهلكني، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي عليَّ بالهداية، والعصمة، والتوفيق للتمسُّك بعروة الإسلام، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك، أو: من الذين أُحضروا العذاب، كما أُحْضِرْتَه أنت وأمثالك.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، الفاء للعطف على محذوف، أي: أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه في الجنة، لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله وحال رفقائه في الجنة، تحدُّثاً بنعمة الله. أو: قاله بمرأى من قرينه ومسمع ليكون توبيخاً له، وزيادة تعذيب، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه، كأنه يقول: أين الّذي كنت تقول في الدنيا من أنَّا نموت، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى «1» والتقدير: أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمعذَّبين، بل الأمر وقع خلافَه، وكان يقال له: نحن نموت ونُسأل في القبر، ثم نموت ونحيا، فيقول:
ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.. إلخ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام، أي: إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال اللهُ- عَزّ وجل: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية، المشوبة بالآلام، السريعة الانصرام. أو: لمثل هذا فليجتهد المجتهدون، مادام يُمكنهم الاجتهاد، فإنَّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فبقدر ما يزرع هنا يحصد ثَمَّ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.
__________
(1) الآية 35 من سورة الدخان.(4/600)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
الإشارة: تنسحب الآية من طريق الإشارة على مَن رام النهوض إلى الله، بصحبة الرجال في طريق التجريد، فينهاه رفقاؤه، فيخالفهم، وينهض إلى الله، فإذا كان يوم القيامة رُفع مع المقربين، فيقول لهم: إني كان قرين يُنكر طريقَ الخصوص، وينهاني عن صحبتهم، فيطلع عليه، فيراه في أسفل الجنة، مع عامة أهل اليمين، فيحمد الله على مخالفته، ويقول: لولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحضَرِينَ معك. قال القشيري: فيقول الوليُّ له: إن كدتَّ لتُردين، لولا نعمةُ ربي. نطقوا بالحق، ولكنهم لم يُصَرِّحوا بعين التوحيد إذ جَعَلوا الفضلَ واسطة، والأَوْلى أن يقول: ولولا ربي لكنتُ من المحضَرين. ثم يقول: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. ثم قال: فإذا بدت شظيةٌ، من الحقائق، أو ذَرةٌ من نسيم القرية، فبالحريِّ أَن يقول القائل: لمِثل هذا الحال تُبذلُ الأرواحُ، وأنشدوا:
على مِثْلِ ليلى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه ... وإِن بات من ليلى على اليأس طاويا «1» . هـ.
ثم قال تعالى:
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
يقول الحق جلّ جلاله: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي: أنعيم الجنة وما فيها من اللذات، والطعام، والشراب، خيرٌ نزلا أم شجرة الزقوم؟ النُزل: ما يُقَدم للنازل من الرزق. و «نزلاً» : تمييز، وفي ذكره: تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يُقدم للنازل، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية: في البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرةٌ، مُرَّة، مسمومة، لها لبنٌ، إن مسَّ جسم أحد تورَّم ومات منه، في غالب الأمر، تُسَمَّى شجرة الزقوم. والتزقُّم: البلعُ على شدة وجهد. هـ. وفى
__________
(1) البيت لمجنون ليلى. انظر: ديوانه: / 296 وتزيين الأسواق/ 128. وجاء فى لطائف الإشارات: (سلمى) بدل (ليلى) .(4/601)
الحديث: «لو أن قطرةً من الزقوم قُطرَتْ في بحار الدنيا لأفسدتْ على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمَن يكون الزقومُ طعامُه!» «1» . وقال ابن عرفة: هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة، أو: تكون واحدة بالشخص. هـ.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنةً وعذاباً لهم في الآخرة، وابتلاء لهم في الدنيا. وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أنَّ مَنْ قَدَر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذّذ بها- وهو السمندل- «2» كيف لا يقدر على خلق شجر في النار، وحفظه من الإحراق؟ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص.
طَلْعُها أي: حملها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، الطلع للنخلة، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها، وشُبِّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة، وقُبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبَح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل: الشياطين: حيَّات هائلة، قبيحة المنظر، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقُبحها، وإن كانت لا ترى، كما شبهوا سنان الرماح بأنياب أغوال، كما قال امرؤ القيس:
أَيَقتُلُني والمشْرَفيُّ مُضَاجِعي ... ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوَالِ «3»
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي: من طلع تلك الشجرة، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ مما يبلغهم من الجوع الشديد، فيملؤون بطونهم منها مع تناهي بشاعتها، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها على أكلها، أي: بعد ما شَبِعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استقاؤهم، لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي: لشراباً من غساق، أو: حديد، مشوباً بماء حار، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، في مقابلة ما قال في شراب أهل الجنة: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ «4» وأتى ب «ثم» لما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة فإِنَّ الزقوم حار محرق، وشرابهم أشد حرا وإحراقا.
__________
(1) أخرجه الترمذي وصححه فى (صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار، 4/ 609، ح 2585) ، وابن ماجة فى (الزهد، باب صفة النار، 2/ 446، ح 4325) وابن حبان (ح 7470) والحاكم (2/ 294) وصححه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما.
(2) السمندل: طائر إذا انقطع نسله، وهرم، ألقى نفسه فى الجمر، فيعود إلى شبابه. وقيل: هو دابة يدخل النار فلا تحرقه. انظر اللسان (سمندل، 3/ 2105) .
(3) انظر: ديوان امرئ القيس (ص 33) . والكامل (3/ 96) ..
(4) الآية 27 من سورة المطففين. [.....](4/602)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي: إنهم يُخرجون من مقارهم في الجحيم- وهو الدركات التي أُسْكِنُوها- إلى شجرةَ الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يتملَّوا. ويشربون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، كما تورد الإبل، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي في ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم، فقال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ، علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد آبائهم في الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويُحثّون حثّاً. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، يعني الأمم الماضية، بالتقليد وترك النظر. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء، حذّروهم العواقب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا، وحذّروا، فقد أُهلكوا جميعاً، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: إلا الذين آمنوا، وأخلصوا دينهم لله، أو: أخلصهم الله لدينه، على القراءتين «1» .
الإشارة: إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان، فيرى المؤمنُ من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفي به العبارة، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما في دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد، مؤمناً أو كافراً، كان من الخاصة أو العامة، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى في الجلال والجمال لمعرفتهم في الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال لإنكارهم في الجلال. والمراد بالجلال: كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أول المنذرين من أولى العزم، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ نادانا أي: دعانا نُوحٌ، حين أيس من قومه بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «2» أو: دعانا لِنُنجيه من الغرق، فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي: فأجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه،
__________
(1) فى «المخلصين» ، وقد قرأ بفتح اللام: نافع وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بالكسر.
(2) الآية 10 من سورة القمر.(4/603)
وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون، فو الله لَنِعْمَ المجيبون نحنُ، فحذف القسم لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص، والجمع دليل العظمة والكبرياء. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ ومَن آمن به وأولاده المؤمنين مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وهو غمّ الغرق، أو: إذاية قومه، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، وقد فني غيرهم. قال قتادة: الناسُ كلهم من ذرية نوح، وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام- وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام- وهو أبو السودان، من المشرق إلى المغرب- ويافث- وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج «1» . وقد نظمه بعضهم، فقال:
العرب والروم وفارس اعلمن ... أولاد سام فيهم الخير كَمَن
من نسل حام نشا السودان ... شرقاً وغرباً، ذا له برهان
يأجوج مأجوج مع الصقالبة ... ليافث، لا خير فيهم قاطبه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الأمم الآخِرِين، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، سَلامٌ عَلى نُوحٍ: مبتدأ وخبر، استئناف، فِي الْعالَمِينَ، يعني: أنهم يُسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، أي: ثبتت هذه التحية فيهم، ولا يخلو أحد منهم منها، كأنَّ الله أثبت التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، يسلّمون عليه عن آخرهم. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فنُكرمهم ونُحييهم، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية، بأنه مجازاة له على إحسانه، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ليريك جلاله محلّ الإيمان. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي: الكافرين.
ذكر في كتاب حياة الحيوان، عن القشيري: أن العقرب والحية أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا: احملنا معك، ونحن نعاهدك ألا نضر أحداً ذكرك، فحملهما. فمَن قرأ، حين يخاف مضرتهما، حين يمسي وحين يصبح: سلام على نوح في العالمين، ومحمد في المرسلين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ما ضرتاه. هـ. وقال نبينا- عليه الصلاة والسلام: «مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خَلَقَ، لم يضره شيء» «2» .
الإشارة: إذا تحقق الإيمان والإحسان في عبد أُعطي ثلاث خصال: نفوذ الدعوة، والثناء الحسن بعده، والبركة في الذرية، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السّلام.
__________
(1) قاله سعيد بن المسيب، كما فى تفسير ابن كثير (4/ 13) .
(2) أخرجه، بنحوه، مسلم فى: (الذكر والدعاء، باب فى التعوذ من سوء القضاء، 4/ 2080، ح 2708، 2709) من حديث سعد بن أبي وقاص، وأبى هريرة- رضى الله عنهما.(4/604)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
ثم ذكر خليله إبراهيم عليه السلام، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 87]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
قلت: (أَئِفكاً) : مفعول له، و (آلهة) : مفعول «تُريدون» ، أي: أتريدون آلهة من دون الله إفكا وزورا. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له، وقدّم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكونَ «إفكاً» مفعولاً به، أي: أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك في نفسها، أو: حالاً، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي: نوح لَإِبْراهِيمَ، أي: ممن شايعه على أصول الدين، وإن اختلفا في الفروع، أو: شايعه على التصلُّب في دين الله، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيَّان هود، وصالح. إِذْ جاءَ رَبَّهُ: متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وممن شايعه على دينه إبراهيم، حين جاء ربه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك، أو: من آفات القلوب، ومعنى المجيء بقلبه ربه: أنه أخلص لله قلبه، وعلم ذلك منه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ، «إذ» : بدل من الأولى، أو: ظرف لجاء، أو: لسليم، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكا وزورا وباطلاً. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، فما تقولون، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟. أو: أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة لكونه رب العالمين، حتى تركتم عبادته، وأشركتم معه غيره، أَو أمنتم عذابه؟.
الإشارة: لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله، كحب الدنيا، والرئاسة، والجاه، فيجئ إلى الله بقلب سليم، أي: مقدس من شوائب الطبيعة، فهو سالم مما دون الله لاتصاله بالله. قال القشيري: «بقلب سليم» لا آفة فيه. ويقال: لديغٍ مِن محبة الأغيار، أو: من الحظوظ، أو: من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.(4/605)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
ثم ذكر كسره الأصنام، وما ترتب عليه، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 98]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
يقول الحق جلّ جلاله: فَنَظَرَ إبراهيم نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بما يعلمون لئلا ينكروا عليه تخلّفه. وكانو يقولون: إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سَقِمَ مَن نظر إليه، فاعتلّ عليهم لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم، فيقربون إليها القرابين، ويضعون بين أيديها الطعام، قبل خروجهم إلى عيدهم، لتبارك عليه، فإذا قَدِمُوا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم، قال: إِنِّي سَقِيمٌ إني مشارف للسقم- وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى- ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل: إن علم النجوم كان حقًّا ثم نُسخ الاشتغال به.
والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السلام مِعْراض من الكلام، أي: سأسقم، أو: مَنْ في عنقه الموت سقيم، أو: سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيمُ بشيء من الكذب، وإنما عرّض. وأيضاً: إنما كان لمصلحة، وقد أُبيح لها، كالجهاد ونحوه. وفي الحديث: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه لقوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «1» ، وقوله لسارة: هي أختي» «2» .
قال السدي: خرج معهم إلى بعض الطريق، فوقع في نفسه كيده آلهتهم، فقال: إني سقيم أَشتكي رجلي.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أعرضوا عنه مولين الأدبار، فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فمال إليها سرّا، وكانت اثنتين وسبعين صنماً من خشب، وحديد، ورصاص، ونحاس، وفضة، وذهب، وكان كبيرهم من ذهب، فى عنقه
__________
(1) من الآية 63 من سورة الأنبياء.
(2) أخرجه بنحوه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، ح 3358) ومسلم فى (الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام 4/ 1840 ح/ 2371) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(4/606)
ياقوتتان، فَقالَ لها، استهزاء: أَلا تَأْكُلُونَ من الطعام الذي وُضع عندكم، ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟.
والجمع بالواو والنون لأنه خاطبها خطاب مَن يعقل. فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال إليهم سرًّا، فضربهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي: ضرباً شديداً بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما، أو: بالقوة والمتانة، أو: بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «1» .
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم يَزِفُّونَ: يسرعون، من: الزفيف، وهو الإسراع. وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم، فلما جاء مَن لم يره قال لمَن رآه: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا «2» فأجابوه على سبيل التعريض:
سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ «3» ، ثم قالوا بأجمعهم: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟، فأجابهم بقوله:
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ: ما تنجرونه بأيديكم من الأصنام؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام. أو: «ما» مصدرية، أي: وخلق أعمالكم. وهو دليلنا في خلق الأفعال لله تعالى، أي: الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلِمَ تعبدون غيره؟!.
قالُوا ابْنُوا لَهُ أي: لأجله بُنْياناً من الحجر، طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار الشديدة: وقيل: كل نار بعضها فوق بعض فهو جحيم. فبنوه وملؤوه حطباً، وأضرموه ناراً، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً بإلقائه في النار، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين عند إلقائه، حين خرج من النار سالماً، فعلاهم بالحُجة والنصرة. قيل: ذكر أسفل، هنا لمناسبة ذكر البناء، بخلاف سورة الأنبياء «4» .
الإشارة: كلُّ عبدٍ مأمور بكسر صنمه، وهو: ما تَرْكَنُ إليه نفسُه من حظٍّ، أو هوىً، أو علم، أو عمل، أو حال، أو مقام. وفي الإشارات عن الله تعالى: لا تركنن لشيء دوننا، فإنه وبال عليك، وقاتلٌ لك، فإن ركنتَ إلى العلم تتبعناه عليك، وإن أويتَ إلى العمل رددناه إليك، وإن وثقت بالحال وقفناك معه، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم، وإن اعتززت بالمعرفة نكرناها عليك، فأيّ حيلة لك، وأيّ قوة معك؟
فارضنَا لك ربًّا حتى نرضاك لنا عبداً. هـ. ولا بأس أن يتعلّل لنفسه، ويحتال عليه بحيل، كما تعلّل الخليل للقعود لكسر الأصنام، لعلها تُوافقه على ترك ما تهواه وتركن إليه، كما قال القائل «5» :
فاحتلْ على النفس قربّ حِيله ... أنفعُ في النُّصْرة من قبيله.
__________
(1) الآية 57 من سورة الأنبياء.
(2) الآية 59 من سورة الأنبياء.
(3) الآية 60 من سورة الأنبياء.
(4) فى قوله تعالى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ الآية 70.
(5) وهو ابن البنا السرقسطي، فى المباحث الأصلية (ص 505) .(4/607)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
ثم ذكر هجرة إبراهيم، وما امتحن به، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 111]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
قلت: «معه» : يتعلق بمحذوف، أي: بلغ السعي يسعى معه، ولا يتعلق ببلغ لأنه يقتضي الاشتراك في البلوغ، ولا بالسعي لأن المصدر لا يتقدَّم عليه معموله، إلا أن يُقال: يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ إبراهيمُ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى موضع أمرني ربي بالذهاب إليه، وهو الشام، أو: إلى مرضاة ربي، بامتثال أمره بالهجرة، أو: إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي، سَيَهْدِينِ أي: سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني، أو: إلى مقصدي، وإنما بتَّ القول لسبق وعده لأن الله وعده بالهداية، أو: لفرط توكله، أو: للبناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء «1» .
ثم قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين، يُعينني على الدعوة والطاعة، ويُونسي في الغربة.
يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب على الولد. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، انطوت البشارة على ثلاث: على أنّ الولد ذكر، وأنه يبلغ أوانَ الحُلم لأن الصبيَّ لا يُوصف بالحلم، وأنه يكون حليماً، وأيّ حليم أعظم من حلمه، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «2» ، ثم استسلم. وقيل: ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه لمَعَزَّةِ وجوده.
__________
(1) حيث قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ الآية 22 من سورة القصص.
(2) الآية 102 من سورة الصافات.(4/608)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: فلما وُجدَ وبلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، أي: الحدّ الذي يقدر على السعي مع ابنه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: سبع سنين. قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أي: قيل له في المنام: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي، كاليقظة. قال الكواشي: لم يرَ أنه يذبحه في النوم، ولكنه أُمر في النوم بذبحه، بدليل قوله: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. وقيل: رأى أنه يُعالج ذبحه، ولم يرَ إراقة الدم.
وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئاً فعلوه «1» . وفي رؤيا ذلك في النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم، فلا مجال للكذب فيما يُوحى إليهم، وفيما يصدر عنهم، فهم صادقون مصدِّقون، فليس للشيطان عليهم سبيل، وإيذان بأن مَن كان في منامه صادقاً كان يقظته أولى بالصدق. هـ.
وإنما لم يقل: «رأيت» لأنه رأى مرة بعد أخرى، فقد قيل: رأى ليلة التروية كأنّ قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ليعلم أَمِنَ اللهِ هذا الحلم، أم لا، فسُمِّي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فسُمِّي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمَّ بنحره، فسُمِّي يوم النحر «2» .
واخْتُلِف مَن المخاطب المأمور بذبحه، فقال أهل الكتابين: هو إسحاق، وبه قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، والعباس، وابنه عبد الله، وكعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي بَرّة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدي. قال سعيد بن جبير: أُريَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به على البراق مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى المنحر بمِنى، فلما صرف عنه الذبح، وأمره أن يذبح الكبش، وذبحه، سار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طُويت له الأودية والجبال. هـ.
واحتج أهل هذا القول بأنه ليس في القرآن أن إبراهيم بُشِّر بولد إلا بإسحاق، وقال هنا: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ فتعيَّن أنه إسحاق إذ هو المبَشَّر به في غير هذه الآية، وبأن الذي كان يسعى معه في حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائباً عنه، ولم يثبت في الصحيح أن إبراهيم قَدِمَ مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما رُوِي أن موسى عليه السلام قال: يا رب الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبمَ ذلك؟
فقال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو لي بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاءً زاد لي حسن ظن «3» . وقال يوسف للملك: أترغب أن تأكل معي، وأنا- والله- يوسف بن
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 528) لعبد بن حميد. [.....]
(2) انظر تفسير البغوي (7/ 48) .
(3) أخرجه الطبري فى تفسيره (23/ 82) وعزاه السيوطي فى الدر (5/ 530) لابن أبى شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي فى الشعب، عن عبد الله بن عمير.(4/609)
يعقوب، نبي الله، ابن إسحاق، ذبيح الله، ابن إبراهيم، خليل الله «1» . وبما روى أن نبينا- عليه الصلاة والسلام- سُئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدِّيق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله» «2» . وفي الجامع الصغير: «الذبيح إسحاق» رواه الدار قطنى عن ابن مسعود، والبزار وابن مردويه عن العباس، وأبي هريرة «3» .
وقال آخرون: هو إسماعيل، وبه قال عُمر، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وسعيد من المسيب، والشعبي، ويوسف ابن مهران، ومجاهد، وابن عباس أيضاً، وغيرهم. واحتجُّوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح. وبقوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» «4» فأحدهما: جده إسماعيل، والآخر: أبوه، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سَهُل له حفر زمزم، أو بلغ بنوه عشراً، فلما سَهُل، أقرع بينهم، فخرج السهم على عبد الله، فَفَدَاه بمائة من الإبل، ولذلك سنت الدية مائة. وبأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلَّقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة. هـ.
وقد يُجاب بأن البشارة أولاً كانت بولادته، والثانية بنبوته، أو: بسلامته. وبأن الثانية تفسير للأولى، كأنه قال بعد ما فرغ من ذكر المبشر به: وكانت تلك البشارة بإسحاق. قاله الفاسي في حاشيته. وعن الحديث بأن العم يُطلق عليه أباً، كقوله تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «5» وكان عمًّا له، وتقدّم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها. والله تعالى أعلم بغيبه «6» .
__________
(1) أخرجه الطبري (23/ 83) عن أبى ميسرة.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 531) للطبرانى، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) حديث رقم (4349) وعبارة السيوطي: « (قط) فى الإفراد، عن ابن مسعود، والبزار وابن مردويه، عن العباس بن عبد المطلب، وابن مردويه عن أبى هريرة، والحديث ضعّفه السيوطي.
(4) أخرج ابن جرير (23/ 85) والحاكم فى المستدرك (2/ 554) عن الصّنابحى، قال: كنا عند معاوية بن أبى سفيان، فذكروا الذبيح، إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عد علىّ مما أفاءَ الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك عليه الصلاة والسلام، فقال له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم ... » إلخ. والحديث ضعفه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 529) .
(5) من الآية 133 من سورة البقرة.
(6) الصواب فى هذه المسألة: أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل عليه السّلام، وهذا هو المروي عن جمهرة الصحابة والتابعين- كسيدنا علىّ، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والربيع بن أنس، والشعبي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها:
أنّ الله تعالى لَمَّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى هذه السورة (الصافات، الآيات 100- 111) عطف على ذلك فقال:
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فهذه بشارة من الله تعالى، شكرا له على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا فى أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه، وغير معقول أن يبشر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح.(4/610)
ولَمَّا قال له: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ به سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح. رُوي أن إبراهيم قال لابنه: انطلق بنا نُقرب قرباناً لله تعالى، فأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه، حتى إذا ذهب بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قربانك؟ فقال: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ ... الآية، فقال: يا أبت خذ بناصيتي، واجلس بين كتفي، حتى لا أؤذيك إذا أصابتني الشفرة، ولا تذبحني وأنت تنظر لوجهى لئلا ترحمنى، واجعل وجهى إلى الأرض. وفى رواية واذبحني وأنا ساجد، واقرأ على أمي السلام، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أمي فافعل، عسى أن يسليها عني. قال إبراهيم: نِعْمَ العون أنت على أمر الله تعالى. فربطه إبراهيم عليه السلام ثم جعل يُقبّله، وهو يبكي، والابن يبكي، حتى استنقعت الدموع تحت خده.
فَلَمَّا أَسْلَما أي: انقادا لأمر الله وخضعا. وعن قتادة: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على جنبه، ووضع السكين على حلقه، فلم تعمل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي:
__________
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لمّا صبر الأب على ما أمر به، وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر، أي: مقدرا نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الغفلة، هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
أن البشارة بإسحاق وقعت مقرونة بولادة يعقوب، على ما هو الظاهر من قوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ سورة هود/ 71، ولا يتصور أن يبشر بالولد وولد الولد دفعة، ثم يؤمر بذبح الولد قبل ولادة ولده.
وأيضا: فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعى بين الصفا والمروة، ورمى الجمار، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه. وكان النحر بمكة من تمام حج البيت، ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب- لكانت القرابين والنحر بالشام، لا بمكة.
وفى هذا الشأن نقل عن الأصمعى أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعى أين عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.
أما من نقل من أخبار من أن الذبيح هو إسحاق فهو منقول عن أهل الكتاب، وحال أهل الكتاب، لا يخفى عل ذوى الألباب، ونقل ابن القيم فى زاد المعاد (1/ 71) عن الشيخ ابن تيمية- رحمهما الله- قوله: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفى لفظ: «وحيده» ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غرّ أصحاب هذا القول أن فى التوراة، التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق. وقال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: (اذبح بكرك ووحيدك) ، ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله» .
للمزيد فى هذه المسألة انظر: مفاتيح الغيب (3/ 247) - تفسير ابن كثير (4/ 17- 19) زاد المعاد لابن القيم (1/ 71- 75) القول الفصيح، للسيوطى، ضمن كتاب الحاوي (1/ 318- 322) - الإسرائيليات والموضوعات، للدكتور أبى شهبة (252- 260) .(4/611)
يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. رُوي أنَّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمِنى. وجواب «لما» محذوف، أي: فلما أسلما رُحما وسَعدا. وقال بعض الكوفيين: الجواب: (وتله) ، والواو: زائِدة. وقال الكسائي: الجواب: (وناديناه) . والواو زائدة. وقال الخليل وسيبويه: الجواب محذوف، أي: فلما أسلما سَلِما. وقدّر الراضي: فلما أسلما كان من لطف الله مالا يوصف. هـ.
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي: حققت ما أمرناك به في المنام، من تسليم الولد للذبح، وبالعزم والإتيان بالمقدمات، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة. والحاصل: أن الجزاء هو الوقاية من الذبح، مع إمرار السكين، ولم تقطع، جزاء على إحسانهما، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة، لا تحصيل الذبح، رُوِي أنه لما أُمر السكين فلم تقطع، تعجّب، فنُودي: يا إبراهيمُ كان المقصود من هذا استسلامكما، لا ذبح ولدك.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الاختبار البيّن، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو: المحنة البيّنة الصعبة، فإنه لا محنة أصعب منها. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ: ضخم الجثة سمين. قال ابن عباس: هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم. وعنه: لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة، وذَبَحَ الناسُ أولادهم. رُوي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة، فرماه سبع حصيات، حتى أخذه، فبقيت سُنَّة في الرمي. قلت: والجمهور: أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده، ثلاث مرات، فرماه سبع حصات عند كل مرة، فبقيت سُنَّة في الرمي. ورُوي أنه لما ذبحه، قال جبريل: الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقيت سُنَّة صبيحة العيد.
قال البيضاوي: واحتج به من جوّز النسخ قبل الفعل، فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح، لقوله: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ولم يحصل. هـ. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي في الحاشية: وَلَمَّا بذل إبراهيم وسعه، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه، وإمرار الشفرة على حلقه، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز، لكن هذه الآية ليست منه في شيء لأنه عليه السلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود، ولم يكن منه تقصير، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتمّ الذبح المأمور به، لهذا قال تعالى: صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدي شرعاً، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما، ولمَن بعدهما إلى غابر الدهر. هـ.
وقيل: إن هذه الآية نُسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل، بناءً على أن إبراهيم لم يمر الآلة. وعزاه المحلي في جمع الجوامع لمذهب أهل السنة. وعليه ينزل الفداء، ثم قال: والحق: إن الآية من المنسوخ قبل تمام الفعل وكماله، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته. ثم اعترض كلام ابن عطية، وقال: فيه تدافع، فانظره.(4/612)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي: الثناء الحسن في الأمم الآخرين، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، سبق بيانه في نوح «1» كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، لم يقل: إنا كذلك، هنا، كما في غيره لأنه قد سبق في القصة، فاكتفى هنا عن ذكره. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، فيه تنويه بشأن الإيمان لأنه أساس لكل ما يُبنى عليه من معرفةٍ وإحسان.
الإشارة: قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم، سيهدين إلى صريح معرفته، ومكافحة رؤيته، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه، بشهود محبوبه، وهذه الحالة متبوعة للامتحان إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن: تسليم بدنه للنيران، وولده للقربان، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن، «2» وذهاب زوجه للجبّار، فوقع اللطف في الجميع، واصطفى خليلاً للرحمن. وأيضاً: الحق غيور، لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه، فأمر بذبح ولده لإخراجه من قلبه، كما فرّق بين يوسف ووالده، وامتحن حبيبه صلى الله عليه وسلم في عائشة صدِّيقته، وهذه عادة الله مع أصفيائه.
قال القشيري: يُقال في القصة: أنه رآه راكباً على فرس أشهب، فاستحسنه، ونظر إليه بقلبه، فأُمر بذبحه، فلما أخرجه من قلبه، واستسلم لذبحه، ظَهَرَ الفداء. وقيل له: كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك منه، لا ذبحه. ويقال في القصة: أنه أمَرَ أباه أن يَشُدّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذبح، فيُعاتَب، ثم لمَّا هَمَّ بذبحِه قال: افتح القيدَ عني، فإني لا أتحرك، فإني أخشى أن أُعاتب، فيقول: أمشدودَ اليد جئتني؟ وأنشدوا:
ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًّا ... لكان السُّمُّ من يدهِ يطيب
قيل: إن الولد كان أشدَّ بلاء، لأنه وَجَدَ الذبح من يد أبيه، ولم يتعوَّد منه إلا التربية بالجميل، فكان البلاء منها «3» أشد إذ لم يتوقعه منها. وقيل: بل إبراهيم أشد بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده، ويعيش بعده، ولم يأتِ الولد بالدعوى، بل قال: إن شاء الله، فتأدّب بلفظ الاستثناء. ثم قال: ويقال: إنَّ الله ستر عليهما ما عَلِمَ أنه أريد منهما في حال البلاء، وإنما كشف لهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة، لئلا يَبْطُلُ معنى الابتلاء، وهو توجُّع القلب
__________
(1) راجع تفسير الآية 79 من هذه السورة.
(2) هذا على أن الذبيح هو إسحاق، وقد مر آنفا أن الصحيح أنه سيدنا إسماعيل عليه السلام.
(3) أي: من اليد.(4/613)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
بالقهرية، وكذلك لما ألقي في النار أخفي عنه المراد منه، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء. وهكذا يكون الحال في حال البلاء، [ينسد عيون التهدي إلى الحال] «1» . وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في الإفك، وأيوب عليه السلام، وإنما تبيّن الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها، وإلاَّ لم تكن حينئذ محنة، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء. هـ. ملخصا.
ثم قال تعالى:
[سورة الصافات (37) : الآيات 112 الى 113]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قلت: «نبياً» : حال مقدرة من «إسحاق» ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، أي: وبشرناه بوجود إسحاق نبيًّا، أي: بأن يُوجد مقدراً نبوته، فالعامل في الحال: الوجود، لا فعل البشارة، قاله الكواشي وغيره.
يقول الحق جلّ جلاله: وَبَشَّرْناهُ أي: إبراهيم بِإِسْحاقَ بعد امتحانه، نَبِيًّا أي: يكون نبيّاً.
قال قتادة: بشّره بنبوة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه. قالوا: ولا يجوز أن يُبشَّر بنبوته وذبحه معاً لأن الامتحان لا يصح مع كونه عالماً بأن سيكون نبيًّا. هـ. قلت: لا يبعد أن يُبَشَّر بهما معاً قبل المحنة لأن العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد لاتساع علمه، فإن الوعد قد يكون متوقفاً على شروط، قد لا يُلم العبد بها، وراجع ما تقدم عند قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «2» بالتخفيف، وعند قوله: وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «3» . ثم قال قتادة: وهذه حجة لمَن يقول: إن الذبيح كان إسحاق. ومَن قال: كان إسماعيل الذبيح، قال: بشَّر إبراهيم بولد يكون نبيًّا بعد القصة لطاعته. هـ. وذكر ابن عطية عن مالك أنه نزع بهذه الآية لكون الذبيح إسماعيل، انظر بقية كلامه. وتقدّم الجواب عنه، فإنّ الأولى بولادته، وهذه بنبوته. انظر الحاشية.
وقوله: مِنَ الصَّالِحِينَ: حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء لأن كل نبيّ لا بد أن يكون من الصالحين.
قال ابن عرفة: الصلاح مقول بالتشكيك، فصلاح النبي أعظم من صلاح الولي. هـ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي: أفضنا عليهم بركات الدين والدنيا. وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا
__________
(1) عبارة القشيري: (تنسد الوجوه فى الحال) .
(2) الآية 110 من سورة يوسف. [.....]
(3) الآية 11 من سورة الأحزاب.(4/614)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
من صلبه ألف نبيّ، أولهم يعقوب، وآخرهم عيسى عليه السلام. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما أي: إبراهيم وإسحاق، وليس لإسماعيل هنا ذكر، استغناء بذكر ترجمته في مريم «1» ، مُحْسِنٌ مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر مُبِينٌ ظاهر كفره. أو: محسن إلى الناس، وظالم لنفسه بتعدِّيه عن حدود الشرع.
وفيه تنبيهٌ على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر، فقد يلد البرُّ الفاجرَ، والفاجرُ البرَّ.
وهذا مما يهدم الطبائع والعناصر، وتنبيه على أن الظلم في أعقابهما لم يعدْ عليهما بعيب، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله، ويُعاقب بما كسبتْ يداه، لا على ما وجد من أصله وفرعه. قاله النسفي. قلت: قاعدة «العرق نزاع» أغلبية، لا كلية. وقيل: هو حديث، فيكون أغلبيًّا، فالشجرة الطيبة لا تنبت في الغالب إلا الطيب، إلا لعارض، والشجرة الخبيثة لا تجد فروعها إلا مثلها، إلا لسبب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: البشارة الكبيرة، والبركة العظيمة، إنما تقع في الغالب بعد الامتحان الكبير، فبقدر الامتحان يكون الامتكان، ويقدر الجلال يعظم الجمال، فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. فبقدر الفقر يعقب الغنى، وبقدر الذل يعقب العز، إن كان في جانب الله. وقس على هذا.. ويسري ذلك في العقب، كما هو مشاهد في عقب الصالحين والعلماء والأولياء. وبالله التوفيق.
ثم ذكر موسى وهارون، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلى مُوسى وَهارُونَ بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بني إسرائيل، مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق والدهش الذي
__________
(1) فى قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا الآيتان: 54- 55.(4/615)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
أصابهم، حين طلعت خيل فرعون عليهم، أو: من سلطان فرعون وقومه وعنتهم. وَنَصَرْناهُمْ أي: موسى وهارون وقومهما، فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه. وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه، وهو التوراة، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط أهل الإسلام، وهو الطريق الذي يُوصل إلى الحق، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما الثناء الحسن فِي الْآخِرِينَ الآيتين بعدهما، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكاملين في الإيمان.
الإشارة: منّ عليهما أولاً بالخصوصية، ثم امتحنهما عليها بالكرب العظيم، كما هي عادته في أهل الخصوصية، ثم مَنَّ عليهم بالفرج والنصر والعز، ثم هداهما إلى طريق السير إليه، في الظاهر والباطن، بإنزال الكتاب، وبيان طريق الرشد والصواب، فالطريق المستقيم هي طريق الوصول إلى الحضرة، وشهود عين التوحيد الخاص، ثم ينشر الصيت والذكر الحسن في الحياة والممات. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر إلياس، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وهو إلياس بن ياسين بن العيزار، من سبط هارون عليه السلام. قال ابن إسحاق: لَمَّا قبض الله حزقيل النبي، عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا عهد الله، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إلياس «1» ، وبنو إسرائيل حينئذ متفرقون في أرض الشام، وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمَّا فتح الشام بعد موسى عليه السلام وملكها، بوّأها بني إسرائيل، وقسمها بينهم، وأحلّ سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها. ومنهم السبط الذي نشأ منهم إلياس. انظر الثعلبي. وقيل: إلياس هو إدريس. وقرأ ابن مسعود- رضى الله عنه-: «وإن إدريس» موضع إلياس. والمشهور ما تقدم.
__________
(1) أخرجه الطبري (23/ 92) عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه.(4/616)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ألا تخافون الله، أَتَدْعُونَ بَعْلًا، هو عَلَم لصنم، كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعاً، وكان له أربعة أوجه، فافتتنوا به وعظّموه، حتى أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه.
وكان الشيطان يُوسوس إليهم شريعة من الضلالة، وكان موضعهم يُسمى «بك» فركب معه وصار «بعلبكّ» ، وهو من بلاد الشام، قلت: ويسمونه اليوم عكا، وفيه قبر صالح عليه السلام، وقيل: إن إلياس والخضر حيان، يلتقيان كل سنة بالموسم «1» ، فيأخذ كل واحد من شعر صاحبه. قيل: إن إلياس وُكِّلَ بالفيافي، والخضر وُكِّلَ بالبحار. وقيل: إن الله قطع عنه لذة المطعم والمشرب، وأليس الريش، وطار مع الملائكة، فصار إنسيًّا ملكيًّا، أرضيًّا سماويًا. فهو مازال حيًّا. فالله أعلم.
ثم قال: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي: تعبدون صنماً جامداً، وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن الخالقين.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ «2» . من نصب الثلاثة فبدل، ومن رفعها فمبتدأ وخبر. فَكَذَّبُوهُ فسلّط الله عليهم، بعد رفعه، أو موته، عدوًّا، فقتل ملكهم وكثيراً منهم، فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ في النار، وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة، أو: لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قومه، فإنهم ناجون من حضور العذاب، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ الثناء الحسن فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «3» ، وهو إلياس وأهله لأن «ياسين» اسم أبيه. وقرأ أكثر القراء: إلياسين، بكسر الهمزة ووصل اللام، أي: إلياس وقومه المؤمنين، كقولهم: الخُبَيْبون والمهَلَّبون، يعنون عبد الله بن الزبير وقومه. والمهلَّب وأتباعه. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وقيل: آل ياسين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأهله، والسياق يأباه.
الإشارة: يُؤخذ من قوله تعالى: أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا.. الخ، أن مدار التقوى هو توحيد الله، والانحياش إليه، والبُعد عن كل ما سواه، والرجوع إلى الله في كل شيء، والاعتماد عليه في كل حال. ويؤخذ من قوله: سلام على آل ياسين في قراءة المد، أن الرجل الصالح ينتفع به أهله وأقاربه، وهو كذلك فإن عَظُمَ صلاحه تعدّت منفعته إلى جيرانه وقبيلته، فإذا كبر جاهه شفع فى الوجود بأسره.
__________
(1) عزاه فى الدر المنثور (5/ 537) لابن عساكر، عن ابن شوذب، والحسن.
(2) قرأ حفص، وحمزة، والكسائي بنصب الأسماء الثلاثة، وقرأ الباقون بالرفع. انظر الحجة للفارسى (6/ 63) .
(3) قرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: (آل ياسين) بفتح الهمزة، مشبعة، وكسر اللام، مفصولة عما بعدها، والمراد: ولد ياسين وأصحابه، قرأ الباقون «على إلياسين، بكسر الهمزة، وسكون اللام، موصولة بما بعدها، كلمة واحدة، جمع «إلياس» . انظر الإتحاف (2/ 416) .(4/617)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
ثم ذكر لوطا عليه السّلام، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْناهُ أي: واذكر إذ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ في الباقين لأنها شاركتهم في عصيانهم، فحقّ عليهم العذاب مثل ما حقّ عليهم، ثُمَّ دَمَّرْنَا
: أهلكنا الْآخَرِينَ،
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
داخلين في الصباح، وَبِاللَّيْلِ
أي: ومساء، أو: نهاراً وليلاً. ولعل مدينتهم الخالية كانت قريب منزل ينزل به المسافر، فيغدوا منه ذهاباً، ويروح إليه إياباً، فكانت قريش تنزل به وتروح عنه في متاجرهم إلى الشام، فتشاهد آثارهم والدارسة، وديارهم الخالية.
أَفَلا تَعْقِلُونَ
أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام، كما ختم قصص مَن قبلهما لأن الله تعالى قد سَلَّمَ على جميع المرسلين في آخر السورة، أو: تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع، من أُولي العزم.
الإشارة: ينبغي لمَن له عقل إذا مرَّ بآثار مَن سلف قبله أن يعتبر، وينظر كيف كان حالهم، وإلى ما صار إليه مآلهم، وأنه عن قريب لا حق بهم، فيتأهّب للسفر، ويتزوّد للمسير. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة يونس، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)(4/618)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ يُونُسَ
بن متى، اسم أبيه، لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
إلى أهل نَيْنَوى، فكذَّبوه، فوعدهم بالعذاب، فلما رأى أمارات العذاب هرب عنهم، وهي معنى قوله: إِذْ أَبَقَ
هرب. والإباق: الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب، فسمي هربه من قومه- بغير إذن ربه- إباقاً، مجازاً. رُوي أنه لمَّا فرَّ عنهم، وقف في مكان ينتظر نزول العذاب بهم، وكان يُحب ذلك لتكذيبهم إياه، فلما رأوا مخايل العذاب تابوا وخرجوا إلى الصحراء، يجأرون إلى الله تعالى، فكشف عنهم، فلما رأى يونس العذابَ انكشف عنهم، كره أن يرجع إليهم، فركب البحر، فأوى إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
: المملوء بالناس والمتاع، فلما ركب معهم وقفت السفينة، فقالوا:
هاهنا عبد آبق من سيده. وفيما يزعم أهل البحر: أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجرِ، فاقترعوا، فخرجت القرعةُ على يونس، فقال: أنا الآبق، وزجّ بنفسه في البحر، فذلك قوله: فَساهَمَ
: فقارعهم مرة- أو ثلاثاً- بالسهام، فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين بالقرعة. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ داخلٌ في الملامة، أو: آتٍ بما يُلام عليه، ولم يُلَم فإذا ليم كان مألوماً.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ من الذاكرين كثيراً بالتسبيح، أو: من القائلين: لآَّ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» أو: من المصلين قبل ذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. قال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدّم عملاً صالحاً فنجَّاه، وإنَّ العمل الصالح يرفع صاحبه، إذا عَثَرَ وجد متكئاً. هـ «2» . أي: فلولا طاعته قبل ذلك لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قيل: للبث حيًّا إلى يوم البعث.
وعن قتادة: لكان بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة. وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام، أو: سبعة أو: أربعين يوماً.
وعن الشعبي: التقمه ضحوة، ولَفَظَه عشية. قيل: أوحى الله تعالى إل الحوت: إني جعلت بطنك ليونس سجناً- وفي رواية: مسجداً- ولم أجعله لك طعاماً «3» . هـ.
فَنَبَذْناهُ أي: أخرجناه بِالْعَراءِ بالمكان الخالي، لا شجر فيه ولا نبات. أو: بالفضاء، وَهُوَ سَقِيمٌ عليل مطبوخ، مما ناله من بطن الحوت. قيل: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يُولد. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً أي: أنبتناها فوقه، مظلة له، كما يطنَّب البيتُ على الإنسان، مِنْ يَقْطِينٍ، الجمهور على أنه القرع،
__________
(1) الآية 87 من سورة الأنبياء.
(2) انظر: تفسير البغوي (7/ 60) .
(3) قال الحافظ ابن حجر: «لم أجده» . وذكره الزيلعى فى تخريج أحاديث الكشاف (535) وعزاه لابن مردويه، عن ابن مسعود، فى قصة يونس. وانظر الفتح السماوي (3/ 957) .(4/619)
وفائدته: أن الذباب لا تجتمع عنده، وأنه أسرع الأشجار نباتاً، وامتداداً، وارتفاعاً، وأن ورقه باطنها رطبة. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتُحب القرع، فقال: «أجل، هي شجرة أخي يونس» «1» ، قلت: ولعلها النوع الذي يُسمى اليوم «السلاوي» لأنه هو الذي ورقه لينة، وفيه منافع.
رُوي أن ظبية كانت تختلف إليه، فيشرب من لبنها بكرة وعشية، حتى نبت لحمه، وأرسل الله تعالى على اليقطين دابة تقرض ورقها، فتساقطت حتى أذته الشمس، فشكاها إلى الله تعالى. وفي رواية: فحزن عليها، فقيل له: أنت الذي لم تخلُق، ولم تسقِ، ولم تُنبت، تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تُريد مني أن أستأصِلَهم في ساعة واحدة، وقد تابوا، وتُبت عليهم، فأين رحمتي يا يونس، أنا أرحم الراحمين «2» . هـ.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ، المراد به القوم الذين بُعث إليهم قبل الالتقام، فتكون «قد» مضمرة، أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، أي: إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. وقال الزجّاج: «أو» بمعنى «بل» . وقيل: بمعنى الواو. قال ابن عباس: زادوا على مائة ألف عشرين ألفاً. وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً.
وقال ابن جبير: سبعين ألفاً. وقيل: وأرسلناه بعد الالتقام إلى مائة ألف. وقيل: قوماً آخرين. فَآمَنُوا به، وبما أُرسل به، فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ منتهى أجلهم، ولم يُعاجَلوا، حيث تابوا وآمنوا.
الإشارة: في قصة يونس نكتة صوفية، ينبغي الاعتناء بها، وهو أن العبد إذا زلّت قدمُه، وانحطّ عن منهاج الاستقامة، لا ييأس ولا يضعُف عن التوجه، بل يلزم قرعَ الباب، ويتذكر ما سلف له من صالح الأعمال، فإن الله تعالى يرعى ذمام عبده، كما يرعى العبد ذمام سيده، وفي حال البُعد والغضب يظهر المحب الصادق من الكذّاب، وفي ذلك يقول ابن وفا رضي الله عنه:
ونحن على العهد نرعى الذمام ... وعهد المحبين لا ينقضي
صددت فكنت مليح الصدود ... وأعرضتَ أُفديك من معرض
وفي حالة السخط لا في الرضا ... بيان المحب من المبغض.
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 544) لعبد بن حميد، وابن جرير، عن شهر بن حوشب.
(2) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 454- 546) لعبد الرزاق، وأحمد فى الزهد، وعبد بن حميد، عن وهب.(4/620)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
وفيها أيضاً: الحث على الشفقة على عباد الله، وإن كانوا عصاة. قال القشيري: وفي القصة: أن الله تعالى أوحى إلى يونس بعد نجاته: قُلْ لفلانٍ الفَخَّار: يَكْسِرَ من الجرات ما عمله في هذه السنة كلّها، فقال يونس: يا ربِّ، إنه تعنَّى مدة في إنجاز ذلك، فكيف آمره أن يكسرها كلّها؟ فقال له: يا يونس، يَرِقُّ قلبُك لخزاف يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ، وأردتَ أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي؟ لم تخلقهم، ولو خَلَقْتَهم لرحمتهم. هـ.
ثم وبَّخ قريشاً على قولهم: الملائكة بنات الله- بعد ذكر هلاك مَن كفر من الأمم قبلهم، تهديدا، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 160]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمَرَ رسولَه أولاً في أول السورة باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث، بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «1» ، ثم أمره هنا باستفتائهم [عن] «2» وجه القسمة الضّيزى التي قسموها، بأن جعلوا لله الإناث، ولهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، واستنكافهم من ذكرهن، وليس من باب العطف النحوي، خلافاً للزمخشري.
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ حاضرون حتى تحققوا أنهم إناث. وتخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم، وتجهيل لهم، لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدةً، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر، بل بمجرد ظن وتخمين، وإلقاء الشيطان إليهم. أو: معناه: أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم شاهدوا خلقهم.
__________
(1) الآية 11 من سورة الصافات.
(2) فى الأصول [على] .(4/621)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، الهمزة للاستفهام الإنكاري، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد، الذي لا يرتضيه عقل ولا نقل، أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفوا أنه منزّه عن ذلك أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في دعواكم.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ بين الله وَبَيْنَ الْجِنَّةِ الملائكة- لاستتارهم، نَسَباً وهو زعمهم أنهم بنات الله.
أو: قالوا: إن الله صاهر الجن، تزوج سَرَوَاتِهم فولدت له الملائكة «1» ، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار. أو: لقد علمت الملائكة أنهم سيحضرون للحساب من جملة العباد، فكيف تكون بنات الله؟. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، نزّه نفسه عما يصفه الكفرة من الولد والصاحبة، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، استثناء منقطع من «المحضرين» ، أي: لكن المخلصون ناجون من النار. و «سبحان الله» : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه، ويجوز أن يقع الاستثناءُ من واو «يصفون» ، أي: عما يصفه هؤلاء الكفرة لكن المخلصون برءاء من أن يصفوه بذلك.
الإشارة: الحق تعالى في عالم القدرة منزَّه عن الولد والصاحبة، وتصور الأثنينية، وإنما سر الازدواج والتولد خاص بعالم الحكمة في حضرة الأشباح، فليكن للعارف عينان عين تنظر لعالم القدرة في حضرة أسرار الذات، فتوحّد الله، وتنزهه عن الاثنينية، وعين تنظر لعالم الحكمة، فتثبت سر الازدواج والتولد في حضرة الأشباح، والمظهر واحد، ولا يفهم هذا إلا الأفراد من البحرية، الذين خاضوا بحر أحدية الذات وتيار الصفات، فحطَّ رأسك لهم، إن أردت أن تذوق هذه الأسرار. وإلا فسلم تسلم.
ثم بيّن أنَّ الأمور كلها بيد الله، هداية وإضلالا، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
__________
(1) انظر تفسير الطبري (23/ 108) . [.....](4/622)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ أي: ومعبوديكم، ما أَنْتُمْ وهم جميعاً عَلَيْهِ على الله بِفاتِنِينَ بمضلّين، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي: إلا مَن سبق في علمه أنه من أهل النار. والمعنى: إنكم لستم تضلُّون أحداً إلا أصحاب النار، الذين سبق في علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار، يقال: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأته: أفسدها عليه. وقال الحسن: فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحداً، إلا مَن أوجبتُ عليه الضلال في السابقة. هـ. وفيها دليل للقدر، بل هي صريحة فيه. و «ما» في «أنتم» : نافية، و «مَن» : في موضع النصب بفاتنين، على الاستثناء المفرغ، أي: لا تفتنون إلا الذي هو صالي الجحيم. وحذفت الياء في الرسم اكتفاء بالكسرة، وقرأ الحسن: «صالُ الجحيم» بضم اللام- ووجهه: أنه جمْع، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين، و «مَن» مفرد في اللفظ، جمع في المعنى، فحمل «هو» على اللفظ، و «الصالون» على المعنى.
الإشارة: ويقال لمَن يُرغّب الناس في الدنيا، ويدلهم على جمعها، والاعتناء بها، بمقاله، أو بحاله، ويزهّد في طريق التجريد والانقطاع إلى الله: ما أنتم بفاتنين أحداً عن طريق الله، إلا مَن سبق أنه يصلى نار القطيعة والبعد، وأما مَن سبقت له سابقة الوصال، فلا يصده عن الله فاتن ولا ضال. ولا شك أن مَن يدلّ الناس على الدنيا فقد غشّهم. قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه: مَن دَلَّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتبعك، ومَن دَلَّكَ على الله فقد نصحك. هـ. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين، ورين الفاتنين، والدلالة على العمل من شأن الصالحين، الواقفين مع ظاهر الشريعة وعملها، والدلالة على الله من شأن العارفين أهل التربية، يدلون على الله، بسقي الكؤوس، ونسيان النفوس، ودخول حضرة القدوس، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.
ثم رجع إلى الكلام على الملائكة، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
يقول الحق جلّ جلاله: حاكياً عن الملائكة: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في العبادة، أو: في السموات، نعبد الله فيه، أو: في القُرب والمشاهدة لا نتعداه، ولا نترقى عنه إلى غيره، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم، القاضي بحدوثهم. وفي اعترافهم بذلك ردٌّ على زعم الكفار أنهم بنات الله، أو شركاء له، وتنزيه له تعالى عن ذلك لتنافي العبودية والطاعة التي اعترفوا بها، والبنوة المدّعاة من الكفار، تعالى الله عن قولهم. وهذا(4/623)
يجري أيضاً في القول الذي يقول: إنهم قسم ثالث، مجردات، ليسوا بجوهر ولا عرض، كالأرواح، فإنها على تقدير كونها كذلك، جائزة لقبولها التفاوت في العلوم والمعارف وغير ذلك. وذلك قاضٍ بالافتقار، والتخصيص لِمَا هي عليه، المستلزم للحدوث. قاله في الحاشية.
قلت: القول بأن الملائكة مجردات عن المادة، هو قول الفلاسفة، ونحى إليه الغزالي. وهو مناقض للقرآن والحديث لأن كونهم صفوفاً قائمين، أو ساجدين، أو سائرين، يقتضي تشكيلَهم وتحييزَهم، فيستلزم المادة إلا أنها نورانية لطيفة، وكذلك الأرواح، على ما في الأحاديث، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة. والله أعلم.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ نصفّ أقدامنا في الصلاة، أو: نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون الله تعالى عما نسبته إليه الكفرة، من الولد، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة. أو:
المشتغلون بالتسبيح على الدوام، أو: المصلُّون. ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله: سُبْحانَ اللَّهِ.... الخ، من كلام الملائكة، حتى يتصل بذكرهم «1» ، كأنه قيل: ولقد عَلِمَ الملائكةُ أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على الله فيما نسبوا إليه، وقالوا: سبحان الله، ونزّهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين، وبرّؤوهم من ذلك، وقالوا للكفرة: وإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه، وتضلُّوه، إلاّ مَن كان من أهل النار، وكيف نكون مناسِبين لرب العزة! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكلّ منا مقامٌ من الطاعة معلومٌ، لا يستطيع أن يزلَّ عنه، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته، مسبِّحين بحمده، كما يجب على العباد. ولعل قولهم: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرب ومقامات اليقين. وقولهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات، وهم طبقات منهم هائمون مستغرقون في الشهود، ومنهم مستغرقون في مقام الهيبة والمراقبة، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل، واعتنى بتصفية روحه وسره، طَوى نوره الوجودَ بأسره، ولا يزال يترقى في معاريج أسرار التوحيد والتفريد، وتتوارد عليه الكشوفات، والعلوم، والأسرار، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية، أبداً سرمداً، بخلاف الملائكة، فإنَّ لكل واحد مقاماً معلوما لايتعداه، كما أخبر تعالى.
وسرُّ ذلك: أن الآدمي فيه بشرية وروحانية، فكلما جاهد نفسه، وغاب عن حس بشريته ترقى في معارج التوحيد، والمجاهدة لا تنقطع عنه فى هذا الدار لأنها دار أكدار، فلا ينقطع عنه الترقي في المشاهدة، وأما في تلك
__________
(1) فى قوله: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ.(4/624)
الدار فالترقي فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضاً: البشرية للآدمي بمنزلة الطلاء للمِرآة، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء، كذلك الملائكة لا بشرية لهم، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمي، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. والله أعلم.
قال في القوت: لَعمري إن سائر الملائكة لا ينتقلون في المقامات كترقي المؤمنين، إنما لكلٍّ مقام معلوم، لا ينتقل إلى غيره، إلا أنهم يُمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة، بأكثر ما يزداد جملة البشر هـ.
قلت: ومعنى كلامه: أن الملائكة يُمدون في مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر، فمَن كان في مقام الهيبة دام فيها، وقَوِي عليها، ومَن كان في مقام الخدمة، دام عليها، وقوي عليها، قوةً لا يطيقها البشر، ولا يترقى عنها، بخلاف الآدمي، فليست فيه هذه القوة، لكنه يترقى من مقام إلى مقام، ويترقى في المعارف على الدوام.
ثم بسط صاحب القوت في ذلك الكلام في فضائل الصلاة، وأنها جامعة لما فُرق على الملائكة من الأعمال والأذكار. قال: وبذلك فضل المؤمنون الملائكة، وكذلك فضل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب، على الأملاك بالتنقيل بأن جُمعت فيه، ورُفع فيها مقامات، والملائكة لا يُنقلون، بل كل ملك موقوف في مقام معلوم، لا ينقل منه إلى غيره، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه، وجمع ذلك كله في قلب المؤمن، ونقل فيه مقامات. وكان له من كل مقام مشاهدات. هـ.
قال المحشي الفاسي: وفيه نظر، مع تلقيهم ضروب الوحي الجامع للمقامات، فكيف لا يُمكّنهم تحققاً بها على اختلافها؟، ولو كان كما قال لكان كل مَلَكٍ إنما يتلقى من الوحي ما يناسبه، ويختص بمقامه، وليس الأمر كذلك ضرورة. هـ. قلت: وفي نظره نظر إذ لا يلزم من تلقيهم للوحي على أنواعه أن يترقوا به إذ ليس الترقي هو مجرد العلم، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان، وكشوفات بعد حصول العلم. وقد يتحقق العلم بالمقام، ولا ينتقل عنه إلى غيره، بل قد يعلمه ولا يذوقه، كما هو محقق عند أهل الفن، ثم قال: والحق ما نبّه عليه البيضاوي. وكلام القوت ينظر لقول الحكماء، ومثله كلام الإحياء. هـ.
ونص البيضاوي في قوله تعالى: قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ «1» الآية: إنَّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، والحكماء مَنعوا ذلك في الطبقات العليا منهم، وحملوا عليه قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.
هـ. قلت: ترقي الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام، حتى يُكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات، ثم لا يزال يترقى
__________
(1) الآية 33 من سورة البقرة.(4/625)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
في الأذواق والكشوفات، يتجدّد له في كل يوم وساعة، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ، بخلاف الملائكة، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ، ولا ينتقل عنه، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها. ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر و؟؟؟ ان، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات، لا في العلوم الغيبية، ولا في الكمالات النفسية. فتأمله.
وقال القشيري: الملائكة لا يتخطون مقامهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله، لا يطلع عليه أحد، والأنبياء- عليهم السلام- لهم مقام مشهورٌ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخَلْقِ قدوة، فأمْرُهُم على الشهرة، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ. هـ. وقال الورتجبي: أهل البدايات في مقام الطاعات، والأوْسَاط في المقامات، مثل التوكل والرضا، والتسليم، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة في مقام معارف، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام، ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات، فليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف، حيث أفناهم قهرُ الجلال، والجمال، والعظمة، والكبرياء، عن كل ما وجدوا من الحق، فيبقوا في الفناء إلى الأبد. هـ. قلت: ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد، والزهّاد، وأرباب الأحوال، وحالهم كحال الملائكة، يُمَدُّون في مقامهم، ولا ينتقلون منه، فلكل واحدة قوة في مقامه، لا يطيقها العارف، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات، والترقي فيها أبداً.
ثم قال الورتجبي في قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية، من الصلاة والتسبيح، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية. قال بعضهم: لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة، حتى قالوا بالتفخيم: إِنَّا لَنَحْنُ، فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة، حتى قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. هـ. وكلامنا كله مع عامة الملائكة، وأما المقربون فالأدب الإمساك عنهم- صلوات الله وسلامه عليهم.
ثم رجع إلى الكلام مع قريش، فقال:
[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 182]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)(4/626)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كانُوا أي: مشركو قريش لَيَقُولُونَ قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: كتاباً من كتب الأولين، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: لأخلصنا لله، وما كذّبنا كما كذَّبوا، ولَمَا خالفنا كما خالفوا، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب، فكفروا به، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم، وما يحلّ بهم من الانتقام. و «إن» مخففة، واللام فارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولون، مؤكّدين للقول، جادّين فيه، ثم نقضوا بأشنع نقض، فكم بين أول الأمر وآخره!.
ثم بشَّر رسولَه بالنصر والعز، فقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي: وعدناهم بالنصر والغلبة.
والكلمةُ هي قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ دون غيرهم، إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
، وإنما سمّاها كلمةٌ، وهي كلمات لأنها لَمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد: الوعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الاحتجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وعن الحسن: ما غُلب نبيّ في حرب قط.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن لم ينتصروا في الدنيا نُصروا في العُقبى. والحاصل: أن قاعدة أمرهم، وأساسَه، والغالب منه: الظفَرُ والنصر، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر، والعبرة بالغالب.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ إلى مدة يسيرة. وهى المدة التي أملهوا فيها، أو: إلى بدر، أو: إلى فتح مكة، وَأَبْصِرْهُمْ أي: أبصر ما ينالهم، والمراد بالأمر: الدلالة على أن ذلك كائن قريب، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من النصر والتأييد، والثواب الجزيل في الآخرة. و «سوف» للوعيد، لا للتبعيد.
ولَمّا نزل: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا: متى هو؟ فنزل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قبل وقته؟ فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ صباحهم. واللام للجنس لأن «ساء» و «ليس» يقتضيان ذلك. قيل: هو(4/627)
نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وقيل: نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هَجَمَ فأناخ بفنائهم بغتةً.
والصباح: مستعار من: صباح الجيش المبيت، استعير لوقت نزول العذاب. ولَمّا كثرت الغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً، وإن وقعت في غيره.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، كُرر ليكون تسلية بعد تسلية، وتأكيداً لوقوع الوعد إلى تأكيد، وفيه فائدة، وهو إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول، بعد التقييد له، إيذان بأنه يُبْصِر من صنوف المسرة ويُبصرون من أنواع المساءة ما لا يفي به نطاقُ العبارة. وقيل: أريد بأحدهما: عذاب الدنيا، وبالآخرة: عذاب الآخرة.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ، أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها، أو: يريد: أن ما من عزّة لأحد إلا وهو ربها ومالكها، لقوله: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» أي: تنزيهاً له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، عمم الرسل بالسلام بعد ما خصص البعض في السورة لأن في تخصيص كلٍّ بالذكر تطويلاً.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء.
قيل: في ختم السورة بالتسبيح بعد ما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذبيهم، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلساً من فلتة أو هفوة، وكلمات فيها رضى الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلسه أن يتلو هذه الآية لتكون مكفرة لتلك السقطات، ويحمد لِمَا وفق من الطيبات، ومن ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «كلمات لا يتكلمُ بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كُفِّرَ بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ، ومجلس ذكرٍ، إلا ختم الله بهن، كما يُخْتَمُ بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» «2» . والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن عليّ- كرّم الله وجهه: مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «3» .. إلخ.
__________
(1) من الآية 26 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه، بلفظه، أبو داود فى (الأدب، باب فى كفارة المجلس 5/ 181، ح 4857) وابن حبان في صحيحه (592) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، موقوفا. وأخرجه أبو داود فى الموضع نفسه (ح 4858) عن أبى هريرة مرفوعا. ولم يذكر أبو داود نص الرواية، بل قال- بعد ذكره لرواية عبد الله بن عمرو: (عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله) ، وأخرجه بنحوه الترمذي فى (الدعوات باب: ما يقول إذا أقام من المجلس 5/ 460- 461، ح 3433) من حديث أبى هريرة، مرفوعا.
(3) أخرجه البغوي فى تفسيره (7/ 66) وعبد الرزاق فى المصنف (2/ 237) ، عن سيدنا علىّ، موقوفا، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 554) لابن أبى حاتم، من رواية الشعبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا.(4/628)
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سلمتم عليَّ فسلِّموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم» «1» .
الإشارة: ترى بعض الناس يقول: لو ظهر شيخ التربية لكُنَّا من المخلصين، بصحبته وخدمته، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر، وأَنِفَ واستكبر، وقنع بما عنده من العلم، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه، من الامتحان في أول البادية، قال: ليس هذه طريق الولاية، فيقال له: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين، ولِمن كان على قدمهم، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون، فتولّ عن مثل هذا حتى حين، وهو وقت هجوم الموت عليه، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب، وسوء الحساب، فسوف يُبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم، فيقال له: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ... الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أُوذوا قابلوا بالإحسان، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن، فينزهونه بقولهم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» .
__________
(1) أخرجه الطبري (23/ 116) وزاد السيوطي فى الدر (5/ 553) عزوه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن قتادة، بنحوه. كما عزاه السيوطي لابن مردويه، وابن سعد، عن قتادة، عن أنس.
(2) إلى هنا ينتهى المجلد الرابع بتجزئة المحقق، ويتلوه- إن شاء الله- المجلد الخامس، وأوله تفسير سورة «ص» . - أسأل الله العلى القدير- أن يتقبله بأحسن قبول، وأن يبلّغ من طالعه كل مأمول. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. وكان الفراغ من نسخ هذا المجلد وتحقيقه ومراجعته فى الثاني عشر من ربيع الأول، سنة عشرين وأربعمائة وألف، على يد/ أحمد عبد الله القرشي، عفا الله عنه، آمين.(4/629)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
[المجلد الخامس]
سورة ص
مكية، أو: سورة داود. وآيها: ست أو ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ «1» مع قوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، فأخبر عنهم أولا أنهم لو نزل عليهم الذكر لأخلصوا فى الإيمان، فلما نزل كفروا به، وتعززوا عنه، قال تعالى:
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
يقول الحق جلّ جلاله: ص أي: أيها الصادق المصدوق. وقال القشيري: معناه: مفتاحُ اسمه الصادق، والصبور، والصمد. أقسم بهذه الأسماء، وبالقرآنِ ذِي الذِّكْرِ أي: ذي الشرف التام، الباقي، المخلَّد لمَن تمسّك به، أو: ذي الوعظ البليغ لمَن اتعظ به، أو: الذكر للأمم والقصص والغيوب. أو: يراد به الجميع.
وجواب القسم: محذوف، أي: إنه لكلام معجز، أو: إنه لَمن عند الله، أو: إن محمداً لصادق، أو: ما الأمر كما يزعمون، أو: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقيل: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أو: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، وهو بعيد.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش فِي عِزَّةٍ تكبُّر عن الإذعان لذلك، والاعتراف بالحق، وَشِقاقٍ خلاف لله ولرسوله. والإضراب عن كلام محذوف يدل عليه جواب القسم، أي: إن كفرهم ليس عليه برهان، بل هو بسبب العزة، والعداوة، والشقاق، وقصد المخالفة. والتنكير في «عزة وشقاق» للدلالة على شدتهما وتفاقمهما.
وقرىء «في غِرَّةٍ» «2» أي: في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.
ثم هدّدهم بقوله: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل قومك مِنْ قَرْنٍ من أُمّة أو جيل، فَنادَوْا أي: فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي: وليس الوقت وقت خلاص ونجاة وفرار،
__________
(1) الآية 168 من سورة الصافات.
(2) هى قراءة حماد بن الزبرقان. انظر مختصر ابن خالويه ص 130.(5/5)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
والمعنى: أنهم استغاثوا حين لم ينفعهم ذلك. وَلاتَ هي «لا» المشبّهة ب «ليس» ، زيدت عليها تاء التأنيث، كما زيدت على «ربّ» و «ثمّ» للتوكيد، وتغيّر بذلك حكمها، حيث لم تدخل إلا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد معموليها، إما الاسم أو الخبر، وامتنع بروزهما بنفي الأحيان، وهذا مذهبُ الخليل وسيبويه، وعند الأخفش أنها النافية للجنس، زيدت عليها الهاء، وخصّت بنفي الأحيان. وقال أبو محمد مكي: الوقف عليها عند سيبويه، والفراء، وأبي إسحاق، وابن كيسان، بالتاء، وعليه جماعة القراء، وبه أتى خط المصحف. وعند المبرد والكسائي بالهاء، بمنزلة «رب» . هـ.
الإشارة: افتتح الحق جلّ جلاله هذه السورة، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه، بحرف الصاد، إشارة إلى مادة الصبر، والصدق، والصمدانية، والصفاء إذ بهذه المقامات ارتفع مَن ارتفع، وبالإخلال بها سقط مَن سقط.
فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة، وبالصدق في الطلب يقع الظفر بكل مطلب، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جُحوداً وعناداً، وتعزُّزاً واستكباراً، لا لخلل فيهم، ثم أوعدهم بالهلاك، كما أهلك مَن قبلهم، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث.
ثم ذكر تعجبهم من كون المنذر منهم، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 7]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
يقول الحق جلّ جلاله: وَعَجِبُوا أي: كفار قريش من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ رسول من أنفسهم، استبعدوا أن يكون الرسول من البشر. قال القشيري: وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ منهم، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلهاً لهم، وهذه مناقضة ظاهرة. هـ. يعني: لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر، لا وجود منذر من البشر، وهم عكسوا القضية. وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي: ساحر فيما يُظهر من المعجزات، كذَّاب فيما يدَّعيه من الرسالة. وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالكفر، وغضباً عليهم، وإشعاراً بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء.(5/6)
ثم قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفى الألوهية التي كانت لآلهتهم وقصرها على واحد، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بليغ في العجب، وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم، الذين أطبقوا على عبادة آلهتهم، كابراً عن كابر، فإنَّ مدار كل ما يأتون ويذرون، من أمور دينهم، هو التقليد والاعتياد، فيَعُدون ما يخالف ما اعتادوه عجباً من العجاب، بل محالاً، وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد، وقدرته بالأشياء الكثيرة، فلا وجه له لأنهم لا يدّعون أن لآلهتهم علماً وقدرة ومدخلاً في حدوق شيءٍ من الأشياء، حتى يلزم من ألوهيتهم بقاء الأثر بلا مؤثر، قاله أبو السعود منتقداً على البيضاوي.
قال القشيري: لم تباشر خلاصةُ التوحيد قلوبَهم، وبُعدوا عن ذلك تجويزاً، فضلاً عن أن يكون إثباتاً وحكماً، فلا عَرَفُوا أولاً معنى الإلهية فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقديرُ قادِرَيْن على ذلك غيرُ صحيح لِمَا يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، وذلك يمنع من كمالها، ولو لم يكونا كامِلَي الوصفِ لم يكونا إِلَهيْن، وكلُّ مَن جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل. هـ.
رُوي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون، وشقّ على قريش، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا: أنت كبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء- أي: الذين دخلوا في الإسلام- وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تَمِلْ كل الميل على قومك، فقال- عليه الصلاة والسّلام- «ماذا يسألونني» ؟ فقالوا:
ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، وندعك وإلهك، فقال- عليه الصلاة والسّلام: «أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم» ، قالوا: نعم، وعشراً «1» . قال: «قولوا: لا إله إلا الله» فقاموا، وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «2» . قيل: العجب: ما له مِثل، والعجاب: لا مثل له.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي: وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبي طالب، بعد ما بكّتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب، وشاهدوا تصلبه- عليه الصلاة والسّلام- في الدين، وعزيمته على إظهاره، ويئسوا مما كانوا يرجونه، بتوسُّط أبي طالب، من المصالحة على الوجه المذكور، قائلين أَنِ امْشُوا و «أنْ» تفسيرية لأن المنطلقين عن
__________
(1) أي: نعطيكها وعشر كلمات معها.
(2) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (1/ 227، 362) والترمذي وحسّنه فى (التفسير- سورة ص، ح 3232) والنّسائى فى الكبرى (التفسير 4/ 456) وابن حبان (الموارد ح 1757) والطبري فى التفسير (23/ 125) والبيهقي فى السنن (9/ 188) . والواحدي فى الأسباب (ص 380) وصحّحه الحاكم (2/ 432) ووافقه الذهبي. عن ابن عباس رضي الله عنه.(5/7)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
مجلس التقاول لا بُدَّ لهم من أن يتكلموا، أو يتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول، وقيل:
ليس المراد بالانطلاق المشي، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف، بل الاستمرار على المشي، يعني أنه على هذا القول: عبارة عن تفرُّقهم في طُرق مكة، وإشاعتهم للكفر. هـ. أي: امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي: اثبتوا على عبادتها، متحمِّلين لِما تسمعون في حقها من القدح.
قال القشيري: إذا [تواصى] «1» الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمأمنون أَوْلى بالصبر على عبادة معبودهم، والاستقامة في دينهم. هـ.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي: هذا الذي شاهدناه من محمد صلى الله عليه وسلم من أمر التوحيد، وإبطال أمر آلهتنا، لشيء يُراد إمضاؤه وتنفيذه، من جهته- عليه الصلاة والسّلام- لا محالة، من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يُقال من طرف اللسان، وأمر تُرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه، بواسطة أبي طالب وشفاعته، وحسبكم ألا تُمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية، فاصبروا عليها، وتحمَّلوا ما تسمعون في حقها من القدح وسوء المقالة، أو: إنَّ هذا الأمر لشيء يريده الله تعالى، ويحكم بإمضائه، فلا مرد له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو: إنَّ هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر، يُراد بنا، فلا انفكاكَ لنا منه، أو: إن دينكم لشيء يُراد، أي: يُطلَبُ ليؤخذ منكم وتُغلَبوا عليه، أو: إن هذا الذي يدَّعيه من التوحيد، ويقصده من الرئاسة، والترفُّع على العرب والعجم، لشيء يُتمنى، ويريده كلُّ أحد. فتأمّل هذه الأقاويل، واختر منها ما يساعده النظم الجليل.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله من أمر التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي: في ملة عيسى، التي هي آخر الملل لأن النصارى مثلثة غير موحدة، أو: في ملّة قريش التي أدركنا عليها آباءنا، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالاً من «هذا» ، أي: ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهّان كائناً في الملة المترقبة. ولقد كذّبوا في ذلك أقبح كذب فإن حديث البعثة والتوحيد، وإبطال عبادة الأصنام، كان أشهر الأمور قبل الظهور. إِنْ هذا أي: ما هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي: كذب، اختلقه من تلقاء نفسه.
[سورة ص (38) : الآيات 8 الى 11]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي: القرآن: مِنْ بَيْنِنا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم. أنكروا أن يُختص بالشرف من بين أشرافهم، وينزل عليه الكتاب من بينهم، حسداً من عند أنفسهم، كقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» . وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد، وقصر النظر على الحطام الدنيوية، والعياذ بالله.
__________
(1) فى الأصول [توصوا] .
(2) الآية 31 من سورة الزخرف.(5/8)
قال الورتجبي: كانوا منطمسة العيون عما ألبسه الحق من أنوار ربوبيته، وسنا جلاله وجماله، لم يروا إلا الصورة الإنسانية، التي هي ميراث آدم من ظاهر الخلقة. وهذا كقوله: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» ، استبعدوا اصطفائيته بالوحي، ولم يعرفوا أنه أثرُ اللهِ في العالم، ومشكاةُ تجلِّيه، حتى قالوا مثل ما قالوا: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، رأوا أنفسهم خالية عن مشاهدة الغيوب، وإدراك نور صفات الحق، فقاسوا نفس محمد صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، ولم يعلموا أنه كان نفسَ النفوس، وروحَ الأرواح، وأصل الخليقة، وباكورةً من بساتين الربوبية. يا ليتهم لو رأوه في مشاهدة الملكوت، ومناصب الجبروت، إذ خاطبه الحق بلولاك ما خلقتُ الأفلاك. هـ.
الإشارة: هذه عادة الله تعالى في خلقه، كل مَن يأمر الناس بالتجريد، وخرق العوائد، وصريح التوحيد، وترك ما عليه الناس من جمع الدنيا، وحب الرئاسة، والجاه، أنكروه، وسفَّهوا رأيه، وقالوا فيه: ساحر كذَّاب. ويقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على ما أنتم عليه، من جمع الدنيا، والخدمة على العيال، وعلى ما وجدتم عليه أسلافكم، من الوقوف مع العوائد، ما سمعنا بهذا الذي يدلّ عليه هذا الرجل من ترك الأسباب والانقطاع إلى الله في هذا الزمان، إن هذا إلا اختلاق، أأُنزلت عليه الخصوصية من بيننا، ولم يعلموا أنَّ الله يختص برحمته مَن يشاء، ويبعث في كل زمان مَن يُجدد الدين بتربية مخصوصة. والله تعالى أعلم.
ثم رَدّ عليهم بقوله:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ...
يقول الحق جلّ جلاله: بَلْ هُمْ أي: كفار قريش فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن، أو الوحي، لميلهم إلى التقليد، وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى علم حقيقته، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: بل لَمَّا يذوقوا عذابي الموعود في القرآن، ولذلك شكُّوا فيه، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الشك والحسد حينئذ، أي: إنهم لا يُصدِّقون به إلا أن يمسّهم العذاب، فحينئذ يُصدّقون، ولات حين تصديق.
__________
(1) الآية 198 من سورة الأعراف. [.....](5/9)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي: ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يُصيبوا بها من شاءوا، ويصرفوها عمن شاءوا، ويختاروا للنبوة بعض صناديدهم، ويترفَّعوا بها عن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيزُ القاهر على خلقه، الوهّاب الكثير المواهب، المصيب بها مَن يشاء. والمعنى: أن النبوة عطية من الله تعالى، يتفضّل بها على من يشاء من عباده المصطفين، لا مانع له، فإنه الغالب، الذي له أن يهب كل ما يشاء لكل مَن يشاء.
وفي إضافة اسم الرّب المنبئ عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميرة- عليه الصلاة والسّلام- من تشريفه واللطف به ما لا يخفى.
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي: بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية، ويتحكّموا في التدابير الإلهية، التي اختصّ بها رب العزّة والكبرياء؟ ثم تهكّم بهم غاية التهكُّم فقال: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ، وهو جواب عن شرط مقدر، أي: إن كان لهم ما ذكر من الملك، ويملكون التصرُّف في قسمة الرحمة، فليصعَدوا في المعارج والطُرق التي يتوصّل بها إلى السماء، حتى يُدبروا أمر العالم وملكوت الله، فيُنزلون الوحي إلى مَن يختارون ويستصوبون. والسبب، في الأصل: ما يتوصل به إلى المطلوب.
ثم وعد نبيه- عليه الصلاة والسّلام- بالنصر عليهم بقوله: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي: هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مَهْزُومٌ مكسور عما قريب، فلا تُبالِ بما يقولون، ولا تكترث بما يَهْذُون. و «جُند» : خبر، أو: مبتدأ، و «مهزوم» : خبره و «مَّا» : صلة مقوّية للنكرة. أو: للتقليل والتحقير.
و «من الأحزاب» : متعلق بجند، أو: بمهزوم، و «هنالك» : إشارة إلى بدر ومصارعهم، أو: إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمَن ينتدب لأمر وليس من أهله: لست هنالك.
الإشارة: يُقال في جانب أهل الغفلة: بل في شك من حلاوة ذكري ومعرفتي، حيث لم يذوقوا. قال إبراهيم ابن أدهم رضي الله عنه: (خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئاً، قيل: ومافاتهم؟ قال: حلاوة المعرفة) . بل لَمَّا يذوقوا عذابي، هو وبال القطيعة والبُعد، والانحطاط عن درجات المقرَّبين، وسيذوقونه إذا تحققت الحقائق، حيث لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلا مَن أتى الله بقلب سليم. ويقال في جانب من حسد أهل الخصوصية: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ... الآية.(5/10)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
ثم هدد كفار قريش بقوله:
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ نوحاً، وَعادٌ هوداً وَفِرْعَوْنُ موسى، ذُو الْأَوْتادِ، قيل: كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه، وقيل:
كان يوتّد مَن يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يرسل عليه عقارب وحيّات.
وقيل: معناه: ذو المُلك الثابت، من: ثبات البيت المُطَنَّب «1» بأوتاده، فاستعير لرسوخ السلطنة، واستقامة الأمر، كقول الشاعر:
ولقد غَنَوا فيها بأَنْعَمِ عيشةٍ ... في ظلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ «2»
وَثَمُودُ وهم قوم صالح، وَقَوْمُ لُوطٍ كذَّبوا لوطاً، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أصحاب [الغيضة] «3» كذَّبوا شُعيباً عليه السلام، أُولئِكَ الْأَحْزابُ: بدلٌ من الطوائف المذكورة. وفيه فضل تأكيد وتمهيد لما يعقبه، وأراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هؤلاء الطوائف، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب، ولذلك قال:
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أي: ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب، أو: ما كل حزب منهم إلا كذّب الرسل لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم لاتفاق الكل على الحق، أو: ما كل حزب إلا كذَّب رسوله، على نهج مقابل الجمع بالجمع. وأيًّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [العلل] في خبر المبتدأ، أي: ما كل أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرسل، فَحَقَّ عِقابِ أي: فوجب لذلك أن أُعاقبهم حق العقاب، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات.
__________
(1) خباء مطنب، أي: مشدود بالأطناب، والأطناب: ما يشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق، وقيل: هى الأوتاد، واحدتها:
طنب. انظر اللسان (4/ 2708) .
(2) البيت للأسود بن يعفر. انظر غريب القرآن لابن قتيبة (2/ 100) ومعانى القرآن للنحاس (6/ 85) .
(3) فى الأصول الخطية [الغيظة] .(5/11)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي: وما ينتظر أهل مكة. وفي الإشارة إليهم بهؤلاء تحقير لشأنهم، وتهوين لأمرهم، أي: وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب، إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النفخة الثانية لما فيها من الشدة والهول، فإنها داهية، يعم هولها جميع الأمم، برَّها وفاجرها. والمعنى: أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من العقاب إلا نفخة البعث، أُخرت عقوبتهم إلى الآخرة لأن حلولها بهم في الدنيا يوجب الاستئصال، وقد قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ، فأخرت ليوم القيامة.
وأما ما قيل من أنها النفخة الأولى فمما لا وجه له لأنه لا يشاهد هولَها، ولا يصعَق بها إلا مَن كان حيًّا عند وقوعها. قاله أبو السعود.
ما لَها مِنْ فَواقٍ أي: مِن توقُّف مقدار فواق، هو ما بين حلبتي الحالب، أي: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد، من أفاق المريض: إذا رجع إلى الصحّة، وفواق الناقة: ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد: أنها نفخة واحدة، لا تثنى، ولا تردد. والفواق بمعنى التأخر، فيه لغتان: الفتح والضم، وأما ما بين حلبتي الناقة، فبالضم فقط.
الإشارة: ما جرى على مكذبي الرسل يجري في مكذِّبي الأولياء، إلاَّ أن عذابهم البُعد والطرد، وحرمان معرفة العيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر استعجالهم العذاب، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 16 الى 20]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي: حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفي القاموس: القِط- بالكسر: النصيب، والصَّك، وكتاب المحاسبة. هـ. أو: عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها، أو:
__________
(1) من الآية 33 من سورة الأنفال.(5/12)
حظنا من الجنة لأنه صلّى الله عليه وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة، فقالوا على سبيل الهزء: عَجِّل لنا نصيبنا منها «1» .
وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة.
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء- عليهم السلام- الذين كانت بدايتهم أيام المحن، ثم جاءتهم أيام المنن، وبدأ بنبيه داود عليه السلام، فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً، يرعى الغنم، ثم صار نبيّاً مَلِكاً، ذا الأيادي العظام. وقوله: ذَا الْأَيْدِ أي: ذا القوة في الدين، والملكَ، والنبوة. يقال: فلان ذو يد وأيد وأياد، بمعنى القوة، وأياد كل شيء: ما يتقوّى به.
إِنَّهُ أَوَّابٌ: رجاع إلى الله في كل شيء، أو: إلى مرضاة الله تعالى. وهو تعليل لكونه ذا الأيد، ودليل على القوة فى الدين فإنه كان عليه السّلام يصوم يوما ويفطر يوماً، وهو أشدُّ الصوم، ويقومُ نصفَ الليل «2» ، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود، فقد أعطى القوة في الجهتين.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ أي: ذللناها له، تسير معه حيث يريد. ولم يقل «له» لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي، كتسخير الرياح وغيرها لابنه، بل بطريق التبعية، والاقتداء به في عبادة الله تعالى. وقيل: مَعَهُ متعلق ب يُسَبِّحْنَ، أي: سخرناها تُسبِّح معه، إما بلسان المقال، يخلق الله لها صوتاً، أو:
بلسان الحال، أي: يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به. والجملة: حال، أي: مسبِّحات، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال، وتجدُّده شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال، بِالْعَشِيِّ في طرفي النهار، والعشيّ:
وقت العصر إلى الليل وَالْإِشْراقِ، وهو حين تُشرق الشمس، أي: تضيء، وهو وقت الضحى، وأما شروقها- الثلاثي: فطلوعها، تقول: شرقت الشمس ولمّا تَشرق، أي: طلعت ولم تضيء. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية «3» . وعنه- عليه الصلاة والسّلام- أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى، وقال:
«هذه صلاة الإشراق» «4» .
__________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 75) .
(2) أخرج البخاري فى (التهجد، باب من نام عند السحر، ح 1131) ومسلم فى (الصيام، باب النّهى عن صوم الدهر 2/ 816، ح 189) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السّلام وأحبّ الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما» .
(3) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 562) لسعيد بن منصور، بلفظ: طلبت صلاة الضحى فى القرآن، فوجدتها بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وانظر روايات أخرى تفيد هذا المعنى ذكرها السيوطي فى الدر.
(4) أخرجه البغوي فى التفسير (7/ 76) عن ابن عباس بلفظ: قال- أي ابن عباس-: كنت أمرّ بهذه الآية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت أبى طالب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلّى الضحى، فقال: «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق» .(5/13)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي: وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية. عن ابن عباس رضي الله عنه: كان إذا سبّح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير، فسبَّحت، فذلك حشرها. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود. ووضع الأوّاب موضع المسبّح لأن الأوّاب: الكثير الرجوع إلى الله تعالى، من عادته أن يكثر ذكر الله، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه. وقيل: الضمير لله، أي: كل من داود والجبال والطير أوّاب، أي:
مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح، وقيل: لداود، أي: يرجع لأمره.
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي: قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود. قيل: كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري: ويقال: وشددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية، أو: بدعاء المستضعفين، أو: بقوم مناصحين، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه، أو: بقبوله الحق من كل أحد، أو:
برجوعه إلينا في عموم الأوقات. هـ. وقال ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود، فقال المستعدي: إن هذا غصبني بقرتي، فجحد الآخر، ولم تكن له بينة، فقال داود: قُوما حتى أنظر في أمركما، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه: أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله، أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل: أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك، فقال: تقتلني بغير بينة؟ فقال: نعم، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله، فقال: لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب، الذي هو السرقة، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة، وأخذتُ البقرة، فقتله داود، فقال الناس: إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه فقتله، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب هـ. «1» .
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة، وكمال العلم، وإتقان العمل، والإصابة في الأمور، أو: الزبور وعلم الشرائع. وكل كلام وافق الحق فهو حكمة. وَفَصْلَ الْخِطابِ علم القضاء وقطع الخصام، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس، أو: الفصل بين الحق والباطل. والفصل: هو [التمييز] «2» بين الشيئين، وقيل: الكلام البيِّن، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس، فصْل بمعنى مفصول، أو: الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة، فيكون بمعنى فاصل، والمراد: ما أعطاه الله من فصاحة الكلام، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، فى قضاياه
__________
(1) أخرجه الطبري (23/ 138- 139) والبغوي فى التفسير (7/ 77) . وعزاه فى الدر المنثور (5/ 563) لعبد بن حميد، وابنُ أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2) فى الأصول [التحيز] .(5/14)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
وحكوماته، وتدابير الملك، والمشورات. وعن علىّ رضي الله عنه: «هو الْبَيِّنَةُ على المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وعن الشعبي: «هو: أما بعد» «1» فهو أول مَن تكلم بها، فإنَّ مَن تكلم في الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد.
الإشارة: فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى، ففيهم أُسوة حسنة لمن كان يرجو الوصول إلى الله تعالى. وقوله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ... الخ. قال القشيري: كل من تحقق بحالة ساعده كل شيء. هـ. قلت: وفي الحِكَم: «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك» وبالله التوفيق.
ثم ذكر امتحان داود عليه السلام، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يقول الحق جلّ جلاله: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام، معناه التعجُّب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لأنه من الأنباء البديعة، والأخبار العجيبة. والخصم- في الأصل: مصدر، ولذلك يطلق على الواحد والجمع، كالضيف والزوْر. وأريد هنا اثنان، وإنما جمع الضمير بناء على أنَّ أقل الجمع اثنان. إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي: تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع، ونظيره: تسنمه: إذا علا سنمه. والمحراب:
__________
(1) انظر هذه الأقوال فى تفسير الطبري (3/ 140) والبغوي (7/ 77- 78) والدر المنثور (5/ 564) .(5/15)
الغرفة، أو: المسجد، سمي محراباً لتحارب الشيطان فيه والخواطر الردية. و «إذ» : متعلق بمحذوف، أي: نبأ تحاكم الخصمين، أو: بالخصم لما فيه من معنى الخصومة، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ: بدل مما قبله، أو: ظرف لتَسوروا، فَفَزِعَ مِنْهُمْ: تروَّع منهم.
رُويَ أنَّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، قيل: جبريل وميكائيل، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في عبادته، فمنعهما الحرس، فتسوّروا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه، جالسان، ففزع منهم لأنهم دخلوا عليه في غير يوم القضاء، ولأنهم نزلوا من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون مَن يدخل عليه. قال الحسن: جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أجزاء يوماً لنسائه، ويوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للمذاكرة مع بني إسرائيل. فدخلوا عليه يوم عبادته.
فلما فزع قالُوا لا تَخَفْ، نحن خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي: ظلم وتطاول عليه، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ لا تَجُرْ، من: الشطط، وهو مجاوزةُ الحدّ وتخطي الحق، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته، والمراد: عين الحق وصريحه.
رُوي: أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسألُ بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته، فيتزوجها إذا أعجبته، وكان لهم عادة في المواساة بذلك. وكان في أول الإسلام شيء من ذلك بين المهاجرين والأنصار، فاتفق أنَّ عَيْنَ داودَ عليه السّلام وقعت عل امرأة أورِيا، وكانت جميلة، فأحبّها، فسأله النزولَ له عنها، فاستحيا أن يردّه، ففعل، فتزوجها، وهي أم سليمان فعُوتب في ذلك، وقيل له: إنك مع عظيم منزلتك، وكثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة، كان الواجب عليك مغالبةُ هواك، وقهر نفسك، والصبر على ما امتحِنْتَ به. وقيل:
خطبها أوريا، وخطبها داود، فآثره أهلها، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه «1» . هـ.
ولعلم لم يكن محرماً في شرعهم، وإنما كان خلاف الأَولى.
وقال شيخ شيوخنا في حاشيته: لا يصح هذا في حق الأنبياء، وما يُحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة، وأحبّ أن يُقتل ليتزوجها، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء الناس، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء.
وقال علي- كرم الله وجهه-: مَن حدّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصَّاص جلدتْه مائةً وستين «2» ، وهو
__________
(1) قال القاضي عياض فى الشفاء (2/ 827) : لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب، الذين بدّلوا وغيّروا، ونقله المفسرون، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك فى كتابه، ولا ورد فى حديث صحيح، والذي نصّ الله عليه فى قصة داود:
قوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وليس فى قصة داود وأوريا خبر ثابت.
وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (4/ 31) : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه.... فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عزَّ وجَلَّ، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. وانظر: الإسرائيليات والموضوعات لأبى شهبة (264- 270) .
(2) قال الحافظ ابن حجر، فى الكافي الشاف: (رقم 306) : لم أجده.(5/16)
حدّ الفرية على الأنبياء- يعني الحدّ مرتين- ورُويَ: أن رجلاً حدّث بها عند عمرُ بنُ عبد العزيز، وعنده رجلٌ من أهل الحق، فكذَّب المحدِّث، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله، فما ينبغي أن يُلتمَس خلافُها، ولا أن يُقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرتَ، وقد سترها الله على نبيه، فما ينبغي إظهارَها عليه، فقال عمر: لَسَماعي لهذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس «1» .
والذي يدلُّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب، فتزوجها، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض، دون التصريح لكونها أبلغ في التوبيخ، من قِبَل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرِّض به كان أوقع في نفسه، وأَشَدّ تمكُّناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، مع مراعاة حسن الأدب، بترك المجاهرة بالعتاب. قاله النّسفى.
ثم ذكر التعريض بقوله: إِنَّ هذا أَخِي في الدين، أو: في الصداقة، أو: الشركة. والتعبير به لبيان كمال قُبح ما فعل به صاحبه، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً النعجة: الأنثى من الضأن، وقد يُكنى بها عن المرأة، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح «2» . وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ لا أملك غيرها، فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي:
ملِّكنيها، واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وَعَزَّنِي غلبني فِي الْخِطابِ في الخصومة، أي: كان أقدر مني على الاحتجاج والمجادلة، أو: غلبني في الخِطبة، حيث خطبتُ وخطبَ، فأخذها، وهذا منهما تعريض وتمثيل، كأنهما قالا: نحن كخصمين هذه حالهما، فمثّلت قصة أورِيا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة، وخليطه له تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وحاجّه في أخذها، محاججة حريص على بلوغ مراده. وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه، ليحكم بما حكم به من قوله:
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ، حتى يكون محجوجا بحكمه. وهو جوابُ عن قسم محذوف، قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه به، وتهجين طمعه في نعجة مَن ليس له غيرها، مع أنَّ له قطيعاً منها. ولعله عليه السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادّعاه عليه، أو: بناه على تقدير صدق المدعي، أي:
إن كنت صدقت فقد ظلمك، والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم.
__________
(1) ذكره النّسفى فى تفسيره (3/ 150) . [.....]
(2) الظاهر: إبقاء لفظ النّعجة على الحقيقة، من كونها أنثى الضأن، ولا يُكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. انظر البحر المحيط (7/ 376) .(5/17)
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم، لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ غير مراع لحق الصحبة والشركة، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم، فإنهم يتحامَوْن عن البغي والعدوان، وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي: وهم قليل. و «ما» : مزيدة للإبهام، والتعجُّب من قِلتهم. والجملة: اعتراض. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة، أي: علم بما جرى في مجلس الحكومة وقيل: لمّا قضى بينهما نظر أحدُهما إلى الآخر، فضحك، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه السلام أنه تعالى ابتلاه. والقصر مُنصَّب على الفتنة، أي: علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان.
واختلف في سبب امتحانه، قيل: لأنه تمنّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقال: يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي، فأوحى إليه: إني ابتليتهم، فصبروا فابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ولده، وإسحاق بالذبح «1» .
ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، وأنت لم تُبتل بشيءٍ، فقال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، فابتلي بالمرأة «2» . وقيل: إنه ادعى القوة، وقال: إنه لا يخاف من نفسه قط، فامتُحن، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب وَخَرَّ راكِعاً أي: ساجداً، على تسمية السجود ركوعاً، أو: خرَّ راكعاً مصلياً صلاة التوبة، وَأَنابَ أي: رجع إلى الله بالتوبة، رُوي: أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي، حتى نبت البقل من دموعه، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دموع، واشتغل بذلك عن المُلك، حتى وثب ابن له، يقال له: «إيشا» على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. هـ.
وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك، خلافاً للشافعي، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل سجد عند قوله:
وَأَنابَ أو عند قوله: وَحُسْنَ مَآبٍ. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أنه رأى في المنام شجرة تقرأ سورة «ص» ، فلما بلغت: «وأناب» سَجَدَت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحطّ عني بها وزرا، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فقال له- عليه الصلاة والسّلام- «وسجدتً أنت يا أبا سعيد؟» قلت: لا. قال: «كنتَ أحق بالسجود من الشجرة» ، ثم تلى نبي الله الآيات، حتى بلغ: وَأَنابَ فسجد، وقال كما قالت الشجرة «3» .
__________
(1) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل عليه السّلام، راجع التعليق على تفسير الآيات: 99- 111 من سورة الصافات.
(2) انظر تفسير الطبري (23/ 146) والبغوي (7/ 78) .
(3) أخرجه، عن ابن عباس، الترمذي فى (أبواب السفر، باب ما يقول فى سجود القرآن 3/ 472- 473- ح 579) ، وابن ماجه فى (إقامة الصلاة والسنة، باب: سجود القرآن 1/ 334، ح 1053) والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي، (1/ 219- 220) والبغوي فى تفسيره (7/ 86) قال- أي: ابن عباس-: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى رأيتى الليلة وأنا نائم كأنى أصلى خلف شجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودى.. إلخ الحديث. قال الترمذي: (وفى الباب عن أبى سعيد) قلت: حديث أبي سعيد الخدري عزاه السيوطي فى الدر المنثور (5/ 572) لأبى يعلى.(5/18)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي: ما استغفر منه. قال القشيري: ولمّا أوحى الله بالمغفرة، قال: يا رب كيف بحديث الخصم؟ - أي: الرجل الذي ظلمته- فقال: قد استوهبتك منه. هـ. وفي رواية: إني أعطيه يوم القيامة ما لم ترَ عيناه، فأستوهِبك منه فيهبك لي، قال: يا رب الآن قد عرفتُ أنك غفرت لي «1» . هـ. قال تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقُربى وكرامة بعد المغفرة، وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع في الجنة.
الإشارة: إنما عُوتب داود عليه السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسي الفرقي، دون الجمال المعنوي الجمعي، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقي، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي، الذي هو جمال الحضرة القدسية، وعبارة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسى رضي الله عنه: عدَّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصُور إلى المقيد بهما، وهي مقام تفرقة، لا مقام جمع، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعاً، عن شهود فعله فرقاً، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. هـ. قال القشيري: قال داود عليه السلام: يا رب إني أجد في التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرتب العالية، فأعطينها؟ فقال: إنهم صبروا لمّا ابتليتهم، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه، طمعاً في مثل تلك الرتب، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته، وأغلق أبوابه، ولم يُمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء: الهارب مما هو كائن في كف الطالب يتقلّب. ثم إنه كان في البيت كوة، يدخل منها النور، فدخل منها طير صغير، كأنه من ذهب، وكان لداود ولد صغير، فهمَّ أن يقبضه لابنه، فمازال يحاوله ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة، فامتحن بها، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل، وفي ذلك لأولي الأبصار عبرة. هـ.
وقال عند قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ: التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة، والبكاء، والتضرُّع، والاستكانة، فوجد المغفرةَ والتجاوز. وهكذا مَن رَجع في أوائل الشدائد إلى الله، فالله يكفيه ويتوب عليه، و [كذلك] «2» مَن صَبَرَ إلى حينِ طالت عليه المحنة. ويقال: إن زلة قدّرها عليك، توصلك إليه بندمك، أحرى بك من طاعة، إعجابك بها يُقصيك عن ربك. هـ. وفي الحِكَم: «معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً» وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل سوء أدب يُثمر لك حُسن أدب فهو أدب. هـ.
__________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 84) .
(2) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.(5/19)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
ولمّا تحققت إنابته، جعله الله خليفة، كما قال:
[سورة ص (38) : الآيات 26 الى 28]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
يقول الحق جلّ جلاله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي: استخلفناك على المُلك فيها، والحُكم فيما بين أهلها، أو: جعلناك خليفة عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وفيه دليل على أنَّ حاله عليه السلام بعد التوبة، كما كان قبلها، لم يتغير قط، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته، ومنع الطيور من إجابته، فانظره.
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ بحكم الله تعالى، إذ كنت خليفته، أو: بالعدل، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: هوى النفس في الحكومات، وغيرها من أمور الدين والدنيا، بل قِفْ عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: فيكون الهوى، أو اتباعه، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق، تكويناً وتشريعاً. و «يُضلك» : منصوب في جواب النهي، أو: مجزوم، فُتح لالتقاء الساكنين.
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر «سبيلَ الله» في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا بسبب نسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات على هذا النظام البديع باطِلًا أي: خلقاً باطلاً، عارياً عن الحكمة، أو: مبطلين عابثين، بل لحِكَم بالغة، وأسرارٍ باهرة، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً، أودعناها العقل لتميز بين الحق والباطل، والنافع والضار، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية، في استجلاب(5/20)
منافعها، واستدفاع مضارها، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية، ونفسية، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف، بل أرسلنا إليها رسلاً، وأنزلنا عليها كتباً، بيَّنَّا فيها كيفية الأدب معنا، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا، وقيَّضنا لها جهابذة، غاصوا على جواهر معانيها، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا، ظاهراً وباطناً، وأوعدنا فيها بالعِقَاب لمَن أعرض عنها، ووعدنا بالثواب الجزيل لمَن تمسّك بها، ولم نخلق شيئاً باطلاً.
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، الإشارة إلى خلق العبث، والظن بمعنى المظنون، أي: خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث، وإن لم يصرحوا بذلك لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث، والثواب، والحساب، والعقاب، التي عليها يدور فلك تكوين العالم، مؤدياً إلى خلقها عبثاً، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمَن جحده فقد جحده الحكمة في خلق العالم.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، الفاء سببية لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم، و «من النار» : تعليلية، كما في قوله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ «1» أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، «أم» : منقطعة، والاستفهام فيها للإنكار، والمراد أنه لو بطل الجزاء- كما تقول الكفرة- لا ستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، ومَن سوّى بينهما كان سفيهاً، ولم يكن حكيماً، أي: بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتُّع فى الحياة الدنيا، بل الكفرة أوفر حظًّا فيها من المؤمنين، مع صبر المؤمنين، وتعبهم في مشاق الطاعات، لكن ذلك الجعل محال، فتعيّن البعث والجزاء لرفع الأولين إلى أعلى عليين، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين.
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يُساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين، هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين. وقيل: قالت قريش للمؤمنين: إنا نُعْطَى من الخير يوم القيامة مثل ما تعطون، فنزلت «2» .
__________
(1) من الآية 79 من سورة البقرة.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (7/ 87) .(5/21)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
الإشارة: قال الورتجبي: ولَمَّا خرج داودُ من امتحان الحق وبلائه، كساه خلعة الربوبية، وألبسه لباسَ العزة والسلطنة، كآدم خرج من البلاء، وجلس في الأرض على بساط فلك الخلافة، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن، مصوّرين بصورة الروح الأعظم، فإذا تمكن داود في العشق، والمحبة، والنبوة، والرسالة، والتخلٌّق، صار أمرُه أمرَ الحق، ونهيُه نهيَ الحق. هـ. وقال ابن عطية: لا يُطلق خليفة الله إلا لنبي، وإطلاقه في غير الأنبياء تجوُّز وغلوٌّ. هـ. قلت: يُطلق عند الأولياء على مَن تحققت حريته، ورسخت ولايته، وظهر تصرفه في الوجود بالهمة، حتى يكون أمره بأمر الله، غالباً، وهو مقام القطبانية، فالمراتب ثلاث: صلاح، وولاية، وخلافة، فالصلاح لِمن صلح ظاهره بالتقوى، والولاية لِمن تحقق شهوده، مع بقية من نفسه، بحيث تقل عثراته جدًّا، والخلافة لِمن تحققت حريته، وظهرت عصمته بجذب العناية. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، الهوى: ما تهواه النفس، وتميل إليه، من الحظوظ الفانية، قلبية كانت، كحب الجاه، والمال، وكالميل في الحُكم عن صريح الحق، أو: نفسانية، كالتأنُّق في المآكل، والمشارب، والمناكح.
واتباعُ الهوى: طلبُه، والسعي في تحصيله، فإن كان حراماً قدح في الإيمان، وإن كان مباحاً قدح في نور مقام الإحسان، فإن تَيسَّرَ من غير طلب وتشوُّف، وكان موافقاً للسان الشرع، جاز تناول الكفاية منه، مع الشكر وشهود المنَّة. قال عمرُ بنُ عبد العزيز: إذا وافق الحقُّ الهوى، كان كالزبد بالبرسام، أي: الكسر. وفي الحِكَم: «لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك» «1» وغلبة الهوى: قهره وسلطنته، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها.
وقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي: بل خلقناهما لنُعرف بهما، فما نُصبت الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقد تقدم هذا مرارًا.
ولا ينال هذا المقام إلا بعبادة التفكر والتدبر، كما أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة ص (38) : آية 29]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
قلت: «كتابٌ» : خبر عن مضمر، أي: هذا، و «أنزلناه» : صفة له، و «مبارك» : خبر ثان، أو: صفة الكتاب، و «لِّيدبروا» : متعلق بأنزلناه.
__________
(1) حكمة رقم 107، انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ص 17.(5/22)
قيل: لمَّا نفى التسوية بين الصالح المتقِّي، والمفسد الفاجر، بيَّن ما تحصل به لمتبعيه السعادة الأبدية، ويحصل به الصلاح التام، والتقوى الكاملة. وهو كتاب الله فقال جلّ جلاله: هذا كِتابٌ وهو القرآن أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير المنافع الدينية والدنيوية، أنزلناه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي: ليتفكروا في آياته، التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع، فيعرفوا ما في ظاهرها من المعاني الفائقة، والتأويلات اللائقة.
وقرىء: لتدبروا على الخطاب «1» ، أي: أنت وعلماء أمتك، بحذف إحدى التاءين. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي: وليتّعِظ به ذوو العقول الصافية، السليمة من الهوى، فيقفوا على ما فيه، ويعملوا به، فإنَّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليُتدبر ما فيها، ويُعمَل به. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان، لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده. هـ.
الإشارة: كتاب الله العزيز بطاقة من عند الملك، والمراد من البطاقة فَهْمُ ما فيها، والعمل به، لا قراءة حروفها ورسومها فقط، فمَن فعل ذلك فهو مقصّر.
وذكر في الإحياء أن آداب القراءة عشرة، أي: الآداب الباطنية:
الأول: فَهْمُ عظمة الكلام وعُلوّه، وفضل الله سبحانه بخلقه، في نزوله عن عرش جلاله، إلى درجة أفهام خلقه، فلولا استتار كُنه جلال كلام الله تعالى، بكسوة الحروف، لما ثبت لكلام الله عرش ولا ثرى، ولَتَلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه، ولولا تثبيت الله موسى عليه السلام ما أطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادر نوره.
الثاني: تعظيم المتكلم به، وهو الله سبحانه، فيخطر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كتابه غاية الخطر، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشي عليه.
الثالث: حضور القلب، وترك حديث النفس، فإذا قرأ آية غافلاً أعادها.
الرابع: التدبُّر، وهو وراء الحضور، فإنه قد لا يتفكّر في غير القرآن، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبّره. قال علىّ رضي الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها.
الخامس: التفهُّم «2» ، وهو أن يستوضح كل آية ما يليق بها إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى، وذكر أفعاله، وذكر أحوال أنبيائه- عليهم السلام-، وذكر أحوال المكذّبين، وكيف أُهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن» ، أي: فإنه مشتمل على فعل الله، وصفاته، وكشف أسرار ذاته، لمَن تأمّله حق تأمله.
__________
(1) وبذلك قرأ أبو جعفر.. انظر إتحاف فضلاء البشر (2/ 421) .
(2) فى الأصول [التفهيم] والمثبت هو الذي فى الإحياء.(5/23)
السادس: التخلي عن موانع الفهم، ومعظمها أربعة: أولها: صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها، وهذا تولى حفظه شيطان وكُلِّ بالقراء. وكذلك الاشتغال بضبط رواياته، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني. ثانيها: أن يكون مقيَّداً بمذهب، أخذه بالتقليد، وجمد عليه، فهذا شخص قيَّده معتقدُه، فلا يمكن أن يخْطر بباله غير معتقده، فلا يتبحر في معاني القرآن لأنه مقيّد بما جمد عليه. ثالثها: أن يكون مصرًّا على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو: مبتلى بهوى في الدنيا، وبهذا ابتلى كثير من الناس، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ «1» أي: عن فهم آياتي. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النقل عن ابن عباس وغيره، وأمَّا ما وراء ذلك تفسير بالرأي، فهذا أيضاً من أعظم الحُجب فإن القرآن العظيم له ظَاهرٌ وبَاطِنٌ، وحَدٍّ ومَطْلَع، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد، فهو بحر مبذول، يغرف منه كل واحد على قدر وسعه، إلى يوم القيامة.
السابع: التخصيص، وهو أن يعتقد أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمراً أو نهياً، قدر أنه المأمور والمنهي، وكذلك إن سمع وعداً ووعيداً، وإن سمع قصص الأولين عَلِمَ أن المقصود به الاعتبار، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه، ويتقوّى إيمانه، قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «2» فالقرآن لم ينزل خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين، فيثبت فؤاد كل مَن يسمعه.
الثامن: التأثير، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة، بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد، يتصف به قلبه من الخوف، والرجاء، والقبض، والبسط، وغير ذلك.
التاسع: الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه، لا من نفسه، ولا من غيره. فدرجات القرآن ثلاث: أدناها: أن يُقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى، واقفاً بين يديه، فيكون حاله السؤال والتملُّق.
ثانيها: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم. الثالثة:
أن يرى في الكلام المتكلِّم، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، مستغرقاً في شهوده، وهذه درجة المقرَّبين، وما قبلها درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله: والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يُبصرون. هـ. وقال
__________
(1) من الآية 146 من سورة الأعراف.
(2) الآية 120 من سورة هود.(5/24)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
بعض الحكماء: كنتُ أقرأ القرآن ولا أجد حلاوة، حتى تلوته كأنه أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رُفعت إلى مقام، كأني أسمعه من جبريل، يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء اللهُ بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به، فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه.
العاشر: التبري، وهو أن يتبرأ من حوله، وقوته، والالتفات إلى نفسه بعين الرضا. انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية.
ثم ذكر سليمان عليه السلام، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي: سليمان، فهو المخصوص، إِنَّهُ أَوَّابٌ أي: رجاع إلى الله تعالى في السرّاء والضراء، وفي كل أموره، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ أي: واذكر ما صدر عنه حين عُرض عليه بِالْعَشِيِّ وهو ما بين الظهر إلى آخر النهار، الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي:
الخيل الصافنات، وهي التي تقوم على طرف سنبك يدٍ أو رِجل. وهي من الصفات المحمودة، لا تكاد توجد إلا في الخيل العِراب، الخُلَّص. وقيل: هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما، والجياد: جمع جواد، أو: جود، وهو الذي يسرع في جريه، أو: الذي يجود عند الركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية، أي: إذا وقفت كانت ساكنة، وإذا جرت كانت سِراعاً خفافاً في جريها.
رُوِي أنه عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، وأصاب ألف فرس، وقيل: أصابها أبوه من العمالقة، وورثها منه، وفيه نظر فإن الأنبياء لا يورثون، إلا أن يكون تركها حبساً، فورث النظر فيها. ويكون عقرها بنية إبدالها. وقيل:
خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوماً بعد ما صلّى الظهر على كرسيه، فاستعرضها، فلم تزل تُعرض عليه حتى غربت الشمس، وغفل عن العصر، أو: عن الوِرد، كان له من الذكْر وقتئذ، وهو أليق بالعصمة، فاغتم لِما فاته، فاستردها، فعقرها، تقرُّباً إلى الله تعالى، وبقي مائة، فما في أيدي الناس اليوم مِن الجياد فمن نسلها «1» .
__________
(1) انظر تفسير البغوي (7/ 88) . [.....](5/25)
وقيل: لَمَّا عقرها أبدل الله تعالى له خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، قاله عليه السلام عند غروب الشمس، اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة أو الذكر، وغايته حينئذ: أن الأَوْلى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بالدنيا، فترَكَ الأَوْلى، وتحسّر لذلك، وأمر بالقطع.
وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت، فذنب عظيم، تأباه العصمة. قاله شيخ شيوخنا الفاسي.
وقد يُجاب بأنَّ تركه كان نسياناُ وذهولاً، لا عمداً، فلا معصية.
وعدّى «أحببتُ» ب «عن» دون «على» لتضمنه معنى النيابة، أي: أَنَبْتُ حبَّ الخير «1» ، وهو المال الكثير، والمراد: الخيل التي شغلته عن ذكر ربه، حَتَّى تَوارَتْ أي: استترت بِالْحِجابِ أي: غربت واحتجبت عن العيون، و «عن» : متعلق بأحببت، باعتبار استمرار المحبة ودوامها. حسب استمرار العَرض، أي: أنبت حب الخير عن ذكر ربي، واستمر ذلك حتى غربت الشمس. وإضمارها من غير تقدُّم ذكرٍ لدلالة «العَشي» عليها.
رُدُّوها عَلَيَّ، هو من مقالة سليمان، فَطَفِقَ مَسْحاً، الفاء فصيحة، مفصحة عن جملة حُذفت، لدلالة الكلام عليها، إيذاناً بسرعة الامتثال، أي: فَردُّوها عليه، فأخذ يمسح السيف مسحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي: بسوقها وأعناقها يقطعها، من قولهم: مسح عنقه بالسيف، وقيل: جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها، حبّاً لها، وإعجاباً بها، وهو يُنافي سياق الكلام «2» .
الإشارة: لم يذكر الحق تعالى لسليمان ترجمة مخصوصة، كما ذكر لغيره بقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، بل خرطه في سلك ترجمة أبيه، وجعله هبة له تنبيهاً على أن مقام أهل الجمال الدنيوي، لا يبلغ مقام أهل الجلال ففيه تنبيه على أن الفقير الصابر أعظم من الغني الشاكر. قاله في القوت.
وقوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ، فيه: أن مَن ترك شيئاً عوَّضه الله خيراً منه، فمَن كان في الله تلفه، كان على الله خلفه. وفيه حجة للصوفية على إتلاف كل ما شغل القلب عن الله، كما فعل الشبلي من تمزيق الثياب الرفهة «3» . والله تعالى أعلم.
__________
(1) أيُّ: أنبتُ حب الخير عن ذكر ربى ووضعته موضعه.
(2) وقيل معناه: أنه حبسها فى سبيل الله، وكوى سوقها وأعناقها بكىّ الصدقة. وهذا هو الذي رحجه أبو حيان، لأنه يناسب مناصب الأنبياء، لا القول الأول فإن فيه ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء. انظر البحر المحيط (7/ 380) .
(3) قال القرطبي فى تفسير (6/ 5806) : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية فى تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا، وهو استدلال فاسد، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبى معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا فى معنى الآية ... وأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح، فإنه لا يجوز.. انظر بقية كلامه.(5/26)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
ثم ذكر امتحانه، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي: ابتليناه، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ سرير ملكه، جَسَداً شق ولد، أو جِنياً، ثُمَّ أَنابَ رجع إلى الله تعالى، وأظهر ما قيل في فتنته عليه السلام ما رُوي مرفوعاً: أنه قال: لأطُوفَنَّ الليلةَ على سبعين- أو تسع وتسعين- امرأةً، تأتي كل واحدة منهن بفارس، يُجاهد في سبيل الله، ولم يقل «إن شاء الله» فطاف عليهنَّ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشقّ رجل. قال نبينا عليه الصلاة والسّلام: «والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فُرساناً أجمعون» »
فالفتنة على هذا: كونه لم يقل: «إن شاء الله» والجسد هو شق الإنسان الذي وُلد له. وقيل: إنه ولد له ابن، فأجْمعَت الشياطين على قتله، وقالوا: إن عاش له ولد لم ننفك من خدمته، فلمَّا عَلِمَ ذلك، حمله في السحاب، فما شعر حتى ألقي على كرسيه جسدا ميتا، فتنبه لخطأه، حيث لم يتوكل على الله.
وقيل: إنه غزا صيدون من الجزائر، فقتل مَلِكها، وأخذ بنتاً له تُسمى جرادة، من أحسن الناس، فاصطفاها لنفسه، وأسلمت على جفاء، وأحبها، وكان لا يرقأ دَمْعها، جزعاً على أبيها، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورته، فكانت تغدوا عليها وتروح مع ولائدها، فيسجدْنَ لها، كعادتهن في ملكه، فأخبره صاحبه آصف بذلك، فكسر الصورة، وعاقب المرأة، ثم خرج إلى فلاة، وفُرش له الرماد، وجلس عليه تائباً إلى الله متضرعاً. وكانت له أم ولد، يقال لها: «أمينة» إذا دخل للطهارة، أو لإصابة امرأة، يعطيها خاتمه، وكان فيها مُلكه، فأعطاها يوماً، فتمثّل لها بصورته شيطان، اسمه «صخر» وأخذ الخاتم، فتختّم به، وجلس على كرسيه، فاجتمع عليه الخلق، ونفذ حكمه في كل شيء، إلا في نسائه، على المشهور، وغُيرَ سليمان عن هيئته، فأتى «أمينة» لطلب الخاتم، فأنكرته وطردته، فعلم
__________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ح 3424) ومسلم فى (الأيمان، باب الاستثناء 3/ 1275 ح 1654) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(5/27)
أن الخطيئة قد أدركته، فكان يطوف على البيوت يتكفف، وإذا قال: أنا سليمان، حثوا التراب عليه، وسبُّوه، ثم عمد إلى السمَّاكين ينقل لهم السمك، فيُعطونه كل يوم سمكتين، فمكث على ذلك أربعين صباحاً، عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماءُ بني إسرائيل حُكمَ الشيطان، حتى دخلوا على نسائه، فقالوا: قد أنكرنا حُكمه، فذهبوا حتى جلسوا بين يديه، فنشروا التوراة، فقرؤوها، فطار من بين أيديهم، والخاتم معه، ثم قذفه في البحر، فابتعلته سمكة، فوقعت في يد سليمان، فبَقَر بطنها، فإذا هو بالخاتم، فتختّم به، وخرّ ساجداً لله، وعاد إليه مُلكه، وقبض الجني «صخر» فجعله في وسط صخرة، وشدّ عليه بأخرى، ثم أوثقهما بالحديد والرصاص، وقذفه في البحر، فهو باق فيه. فالجسد على هذا عبارة عن «صخر» سمي به، وهو جسم لا روح فيه لأنه تمثيل بما لم يكن كذلك، والخطيئة: تغافُلُه عليه السلام عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل لم يكن محظوراً حينئذ، والسجود للصورة بغير علم منه لا يضره. وأنكر بعض المحققين هذه القصة. وقال: لا يصح ما نقله الإخباريون وأهل التفسير في هذا الموضع، من تشبُّه الشيطان بنبيه، وتسلُّطه على ملكه، وتصرُّفه في أمته والجور في حكمه «1» .
قال القاضي عياض: الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا، وقد عصم الله الأنبياء عن مثله. ومثله لا بن العربي أيضاً. وحكى إنكاره عن السمرقندي. وقال الطيبي: أشبه الأقاويل في إلقاء الجسد هو شق الولد، كما تقدّم. وخالفه ابن حجر، فقال: قال غير واحد من المفسرين: أن المراد بالجسد المذكور شيطان، وهو المعتمد، فالله أعلم، غير أن التنزيه أسلم.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وليس هذه كقصة أيوب، فيما يذكر أنه تسلّط الشيطان على إتلاف ماله وولده، وضرره في جسده لأن ذلك إنما فيه تسلُّط على محض ضرر دنيوي لا دينى. وقد قال عليه الصلاة والسّلام: «تفلت عليّ البارحة عفريتٌ ... » الحديث «2» . وكذا سُحر، وسُمّ وشُجّ. والتسلُّط المذكور في حق سليمان، فيه تلبيس في الدين فلا يصح، إلا أن يقال: إنه لم يقر، بل رُفع اللبس بعد ذلك، كما في آية: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ «3» ، والله أعلم هـ.
__________
(1) قال النّسفى- رحمه الله- فى تفسيره (3/ 156) : وأما ما يروى من حديث الخاتم، والشيطان، وعبادة الوثن فى بيت سليمان عليه السّلام، فمن أباطيل اليهود. وقال فى البحر المحيط (7/ 381) : نقل المفسرون فى هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا، يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها فى كتبهم، وهى مما لا يحل نقلها، وإما هى من أوضاع اليهود والزنادقة. للمزيد انظر تفسير ابن كثير (4/ 36) والإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير (270- 275) .
(2) ولفظه كاملا: «إن عفريتا من الجن تفلت علىّ البارحة، ليقطع علىّ الصلاة، فأمكننى الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سوارى المسجد، تنظروا إليه كلكم. فذكرت دعوة أخى سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددته خاسئا» أخرجه البخاري فى (الأنبياء، باب قوله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ح 2423) ومسلم فى (المساجد، باب جواز لعن الشيطان فى أثناء الصلاة والتعوذ منه. 1/ 384 ح 541) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(3) من الآية 52 من سورة الحج.(5/28)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي، هو بدل من «أناب» ، أي: اغفر لي ما صدر عني من الزلة، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، ليكون معجزةً لي، مناسبة لحالي، فإنه عليه السلام لمَّا نشأ في بيت الملك والنبوة، وورثهما معاً، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما. أو: لا ينبغي لأحد يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو: لا يصح لأحد من بعدي لعظمته وشدته.
قال القشيري: ويُقال: لا ينبغي لأحد من بعد أن يسأل المُلْك، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله- ومثله للجنيد، وزاد: فإن المُلْكَ شُغل عن المالك- أو: يقال: لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك، لا من الأنبياء، وإنما سأل المُلكَ لسياسة الناس، وإنصافِ بعضهم من بعض، والقيام بحقِّ الله، ولم يسأله لأجل مَيْلِه إلى الدنيا. وهو كما قال يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ... «1» . ثم قال: عَلِمَ أن نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يلاحِظَ الدنيا، ولا يملكها، تحقيراً لها فقال: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا لأنه بَخِلَ به عليه، ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك.
هـ. هذا، وقد يُقال: إن قوله: وَهَبْ لِي مُلْكاً قد جرى على لسانه، كما هو حال النطق بالله من أهل الله، ولذلك كان الأمر كذلك، ولم يزاحمه أحد، كقول الخليل» : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا «2» ، لما جرى به القضاء أنطقه الله بما سيكون. وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين، جرياً على سنَن الأنبياء والصالحين، وكون ذلك أدخل في الإجابة.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معاً، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهَّابية قطعاً، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذللناها لطاعة، إجابة لدعوته، فعاد أمره عليه السلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة، قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين، وملك بعد الفتنة عشرين، فسخرت له الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ بيان لتسخيرها، رُخاءً أي: لينة، من الرخاوة، أو: طيبة لا تزعج، وهذا بعد أن تُقِلّ السرير من الأرض الإعصارُ، فإذا صار في الهواء حملته الرخاء الطيبة، حَيْثُ أَصابَ أي: قصد وشاء، بلغة حمير. تقول العرب: أصاب الصواب فأخطاء الجواب، أي: أراد الصواب فأخطأ. قال الشاعر:
أصَابَ الْكَلاَمَ فَلَمْ يَستَطِعْ ... فأَخْطَا الجواب لدى المفصل
وَسخرنا له الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ: بدل من «الشياطين» . فكانوا يبنون له ما يشاء، ويغوصون له في البحر لاستخراج اللآلئ، وهو أول مَن استخرج اللؤلؤ من البحر، أي: وسخّرنا له كلَّ بنّاء
__________
(1) من الآية 55 من سورة يوسف.
(2) من الآية 129 من سورة البقرة.(5/29)
وغوّاص من الشياطين، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ فكان يقرن مردة الشياطين، بعضهم مع بعض، في القيود والسلاسل، للتأديب والكف عن العباد.
والصفد: القيد، وقد يسمى العطاء بالصفد لأنه ارتباط للمنعَّم عليه في يد المنعِم. ومنه قول علىّ رضي الله عنه: (مَن برَّك فقد أسرك، ومَن جفاك فقد أطلقك) ، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير الناس، أكثر مما يهربون من شرهم. قال الشيخ عبد السّلام بن مشيس لأبى الحسن الشاذلى- رضي الله عنهما: يا أبا الحسن اهرب من خير الناس، أكثر مما تهرب من شرهم، فإنَّ خيرهم يُصيبك في قلبك، وشرهم يُصيبك في بدنك، ولئن تُصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك. هـ.
هذا عَطاؤُنا، هو حكاية لما خُوطب به سليمان من قِبَل الحق تعالى، أي: وقلنا له هذا الذي أعطيناك من المُلك العظيم، والسلطنة، والتسلُّط على ما لم يُسلط عليه غيرُك، هو عطاؤنا الخاص بك، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي:
أعطِ مَن شئت، وامنع مَن شئت، بِغَيْرِ حِسابٍ أي: غير محاسَب على منِّه ومنعه لتفويض التصرُّف فيه إليك، فكان إذا أعطى أُجر، وإذا منع لم يأثم، بخلاف غيره. قال الحسن: إن الله لم يعطِ أحداً عطية إلا جعل فيها حساباً، إلا سليمان، فإن الله أعطاه عطاءً هيناً. وهذا مما خُصّ به سليمان عليه السلام، وأما غيره، فيؤخر على بذله، ويُعاقب على منعه من حقه، وبِغَيْرِ حِسابٍ: قيل: متعلق بعطاؤنا، وقيل: حال من المستكن في الأمر، أي:
هذا عطاؤنا جمّاً كثيراً، لا يكاد يقدر على حصره، أو: هذا التسخير عطاؤنا فامنن على مَن شئت من الشياطين بالإطلاق، أو: أمسك مَن شئت منهم في الوثاق، لا حساب عليك في ذلك.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربى فى الآخرة، مع ماله في الدنيا من الملك العظيم، وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع، وهي الجنة. وزُلفى: اسم إن، و «له» : خبر، و «عند» : متعلق بالاستقرار.
رُوي أن سليمان عليه السلام لما ورث مُلك أبيه، سار من الشام إلى العراق، فبلغ خبره كسرى، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث حتى هلك. ثم سار سليمان عليه السلام إلى مرو، ثم إلى بلاد الترك، فأوغل فيها، ثم جاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس، فنزلها أياماً، ثم عاد إلى الشام، فأمر بيناء بيت المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة، ثم إلى صنعاء، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله، وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما.
انظر أبا السعود «1» . والله تعالى أعلم.
__________
(1) إرشاد العقل السليم (7/ 228) .(5/30)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
الإشارة: ما أعطى اللهُ عبداً مُكنةً إلا بعد محنة، ولا رفع مقاماً إلا بعد ابتلاء، إما فى البدن والمال، وإما في الدين، إنْ صَحِبه رجوع وانكسار. كأنّ الله تعالى إذا أراد أن يرفع عبداً أهبطه إلى أرض قهرية العبودية، ثم يرفعه إلى مشاهدة عظمة الربوبية، ثم يملكه الوجود بأسره، يتصرف فيه بهمّته كيف شاء. ولذلك قيل في معصية آدم:
نعمت المعصية أورثت الخلافة. وشاهده حديث: «أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي» «1» . ومَن كان الله عنده، ماذا يفوته؟
وقوله تعالى: وَهَبْ لِي مُلْكاً.. الخ، قال القشيري: لم يطلب المُلكَ الظَاهر، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه، فإن المَلِكَ- على الحقيقة- مَن ملَك نفسَه، فمَن مَلِكَها لم يَتَّبعْ هواه، - أي: فيكون حرّاً، فيملكه الله التصرُّف في الوجود. ثم قال: ويُقال أراد به كمالَ حاله في شهود ربه، حتى لا يَرى معه غيرَه، ويقال: سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار. هـ.
وقوله تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ، هو عند الأولياء ليس خاصّاً بسليمان، ف كل مَن تمكَّن مع الله التمكُّن الكبير يُفوض إليه الأمر، ويقال: افعل ما شئت، وشاهده: حديث أهل بدر. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى: رضي الله عنه يبلغ الولي مبلغا يقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عك الملامة، فاصنع ما شئت. ثم استشهد بالآية في حق سليمان، هذا، وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه، من أجل الحفظة.
ثم ذكر أيوب عليه السّلام، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
__________
(1) سبق تخريج الحديث.(5/31)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، وهو ابن عيصو ابن إسحاق عليه السلام، أي: من ذريته لأنه بعد يوسف، وامرأته: رحمة بنت إفرائيم بن يوسف. إِذْ نادى رَبَّهُ، وهو بدل اشتمال من «عبدنا» . و «أيوب» :
عطف له، أَنِّي أي: بأني مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ «1» أي: تعب، وفيه قراءات بفتحتين، وبضمتين، وبضم وسكون، وبنصب وسكون. وَعَذابٍ أي: ألم، يريد ما كان يقاسيه من فنون الشدائد، وهو الضر في قوله: مَسَّنِيَ الضُّرُّ «2» ، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به، وإلا لقيل: إنه مسّه. وإسناده إلى الشيطان على طريق الأدب في إسناد ما كان فيه كمال إلى الله تعالى، وما كان فيه نقص إلى الشيطان أو غيره، كقول الخليل: وَإِذا مَرِضْتُ «3» ولم يقل: أمرضني. وكقول يوشع عليه السلام: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ «4» . وفي الحقيقة: كلٌّ من عند الله. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه، من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بدفعه وردّه بالصبر الجميل.
ورُوي: أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتدّ أحدهم، فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان: أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فشكا ذلك إلى ربه. وذكر في سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها، وجاره جائع، أو: رأى منكراً فسكت عنه، أو: استغاثه مظلوم فلم يغثه، أو: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه، فلم يغره، أو: سؤاله امتحاناً لصبره، أي: هل يصبر أم لا، أو: ابتلاه لرفع درجاته بلا سبب، وهو أولى «5» .
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام، أي: أرسلنا له جبريل عليه السلام بعد انتهاء مدة مرضة، فقال له: اركض، أي: اضرب برجلك الأرض، وهي أرض موضع بالجابية «6» ، فضربها، فنبعت عين، فقيل: هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي: هذا ما تغتسل منه، وتشرب منه، فيبرأ ظاهرك وباطنك، وقيل: نبعت له عينان حارة للاغتسال، وباردة للشرب، فاغتسل من إحداهما، فبرئ ما في ظاهره، وشرب من الأخرى، فبرئ ما في باطنه، بإذن الله تعالى. ومدة مرضه قيل: ثمان عشرة سنة، وقيل: أربعين، وقيل: سبع سنين، وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات «7» .
__________
(1) قرأ أبو جعفر «بنصب» بضم النّون والصاد، وقرأ يعقوب بفتحهما، وقرأ الباقون بضم النّون وسكون الصاد. انظر الإتحاف (2/ 421)
(2) من الآية 83 من سورة الأنبياء.
(3) من الآية 80 من سورة الشعراء. [.....]
(4) من الآية 63 من سورة الكهف.
(5) انظر تفسير النّسفى (3/ 157) .
(6) الجابية: موضع بالشام.
(7) راجع (3/ 487) من هذا الكتاب.(5/32)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، قيل: أحياهم الله بأعيانهم، وزاد مثلهم، وقيل: جمعهم بعد تفرُّقهم، وقيل:
أعطاه أمثالهم وزاده ضِعفهم. قال القشيري: وكان له سبع بنات، وثلاثة بنين، في مكتب واحد، فحرّك الشيطانُ الأسطوانةَ، فانهدم البيت عليهم. هـ. ولم يذكر كم كان له من الزوجات، فقد سلمت [منهن] «1» «رحمة» وهلك الباقي.
أعطيناه ذلك رَحْمَةً مِنَّا أي: رحمة عظيمة علية من قِبلنا. وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: ولنذكرهم بذلك ليصبروا على الشدائد، ويلتجئوا إلى الله فيما ينزل بهم لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه، لِصبره، رغَّبهم في الصبر على البلاء.
ولمّا حلف: لَيَضْربنَّ امرأته مائةَ ضربة، حيث أبطأت عليه في حاجتها. وقيل: باعت ذوائبها واشترت به رغيفين، وكانت متعلق أيوب. وقيل: طمع الشيطان فيها أن يسجد زوجُها له فيشفيه، أمره الله تعالى ببر يمينه، فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً حُزمة صغيرة من حشيش أو رَيحان، وعن ابن عباس رضي الله عنه: قبضة من الشجر، فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، وهذه الرخصة باقية عند الشافعي وأبي حنيفة، خلافاً لمالك لأن الأَيْمَان عنده مبنية على الأعراف. قال تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ علمناه صابِراً على البلاء، وأما شكواه فليست جزعاً، بل رجوعاً إلى مولاه، على أنه عليه السلام إنما طلب الشفاء خيفة على قومه، حيث كان الشيطانُ يوسوس إليهم، لو كان نبيّاً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبقَ منه إلا القلب واللسان. قلت:
طلب الشفاء لا ينافي الرضا لأن العبد ضعيف، لا قوة له على قهرية الحق. ثم قال تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ رجَّاع إلى الله تعالى. قال القشيري: لم يشغله البلاء عن المُبْلِي. وهو تعليل لمرضه.
الإشارة: كثير من الصوفية اختاروا البلاء على العافية، وبعضهم اختار العافية، قال علىّ رضي الله عنه: لأَن أُعطَى فأَشكر أحبُّ إِليَّ من أن أُبتلى فأَصبرِ، أي: لأنه طريق السلامة، وبه وردت الأحاديث، والأولى للعبد ألا يختار مع سيده شيئاً، بل يكون مفوضاً مستسلماً، يتلقى ما يرد عليه بالترحيب، أيّ شيء كان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر إبراهيم وبنيه، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 47]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47)
__________
(1) فى الأصول [منهم] .(5/33)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ عِبادَنا، وقرأ المكي «1» : «عبدنا» ، إما على إرادة الخبر، وإما أن يريد «إبراهيم» وحده لشرفه، ثم عطف عليه من بعده، ثم بيَّنهم بقوله: إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي: أُولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين، أو: أُولي الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة. فعبَّر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها تُباشر بها، وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مبادئها. وفيه تعريض بالجهلة الباطلين، كأنهم كالزّمنى والعماة، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ أي: جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن، لا شوب فيها، هي ذِكْرَى الدَّارِ أي: تذكر للدار الآخرة على الدوام، فإنَّ خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها، وذلك لأن مطمح أنظارهم، ومسرح أفكارهم، في كل ما يأتون وما يذرون، جوار الله عزّ وجل، والفوز بلقائه، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا في الآخرة، فمطلبهم إنما هو الجوار والرؤية، لا مجرد الحضور في تلك الدار، كما قال ابن الفارض- رضي الله عنه:
ليسَ سُؤلي من الجِنَان نَعيماً ... غيرَ أَنِّي أريدُها لأراكَ
قال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة، ودعاء الناس إليها، أي: وتزهيدهم في الدنيا، كما هو دَيدن الأنبياء والرسل. وهذا قول قتادة، أو: إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك. وهذا قول مجاهد. هـ. قلت: مرتبة الرسل تنافي العمل لحرف، فإنَّ أولياء هذه الأمة تحرّروا من العمل للحرف، بل عبدوا الله شكراً ومحبة وعبودية، لا طعما في شيء، فكيف بأكابر الرسل. وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار في الحقيقة، وإنما الدنيا معبر إليها.
ومَن قرأ بالإضافة «2» ، فمن إضافة الشيء إلى ما بيَّنَهُ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، و «ذكرى» :
مصدر مضاف إلى المفعول، أي: بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل: خالصة بمعنى خلوص، وهي مضافة إلى الفاعل، أي: بأن خلصت لهم ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشيء آخر، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
__________
(1) وهو ابن كثير الداري، أحد القراء السبعة.
(2) أي: «خالصة» بغير تنوين، مضافا للبيان، كما فى «بشهاب قبس» . وبها قرأ نافع وأبو جعفر. انظر الإتحاف (2/ 422)(5/34)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من بين أبناء جنسهم الْأَخْيارِ: جمع خيّر، أو: خيْر، على التخفيف، كأموات جمع ميّت، أو: ميْت.
الإشارة: أولياء هذه الأمة- أي: العارفون بالله- يزاحمون الأنبياء والرسل في جلّ المراتب، قال عليه السّلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» «1» أي: العلماء بالله فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة، بل حطُّوا هممهم على الله، ولم يقصدوا شيئاً سواه، خلعوا النعلين عن الكونين، وركضوا إلى المكوِّن، وكانت لهم اليد الطولى في عمل الطاعات عبوديةً، والبصيرة النافذة في مشاهدة الربوبية، هذه طريقهم، وهذا مذهبهم، ومَن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم. جعلنا الله ممن خرط فى سلكهم.
ثم ذكر بقية بنيه، فقال:
[سورة ص (38) : آية 48]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه للإشعار بعلو شأنه، واستقلاله بالشرف والذكر، ولعراقته في الصبر، الذي هو المقصود بالتذكير، وهو أكبر بنيه. وَاذكر الْيَسَعَ بن خطوب «2» بن العجوز، استعمله إلياس على بنى إسرائيل، ثم استنبئ. و «ال» فيه، قيل: للتعريف، وأصله: يسع، وقيل: زائدة لأنه عجمي علَم، وقيل: هو يوشع، وَذَا الْكِفْلِ وهو ابن عم اليسع، أو: بشر بن أيوب. واختلف في نبوته وسبب لقبه، فقيل: فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل، خوفاً من القتل، فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفل بعبادة رجل صالح كان في وقته. وَكُلٌّ أي: وكلهم مِنَ الْأَحْبارِ المشهورين بالخيرة.
الإشارة: إنما كان هؤلاء مصطفين أخياراً بالوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والصبر على طاعة الملك المعبود، وتحمُّل ما يقرب إلى حضرة الشهود. ف كل مَن اتصف بهذه الخصال كان من المُصْطَفَين الأخيار.
ثم ذكر عامة المؤمنين، أو: ما أعد لمن ذكر آجلا، بعد ذكرهم الجميل عاجلا، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 49 الى 54]
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
__________
(1) قال فى كشف الخفاء (2/ 83، ح 1744) : «قال السيوطي فى الدرر: لا أصل له. وقال فى المقاصد: قال شيخنا- يعنى ابن حجر- ومن قبله الدميري والزركشي: إنه لا أصل له. زاد بعضهم: ولا يعرف فى كتاب معتبر» . وانظر أيضا العلل المتناهية (ح 702) .
(2) فى نسخة [قطوب] .(5/35)
قلت: (جناتِ) : عطف بيان لحُسن مآب، أو: بدل. و (مفتَّحة) : حال من (جنات عدن) . والعامل فيها:
الاستقرار في (للمتقين) . و (الأبواب) : نائب الفاعل لمُفتَّحة. والرابط بين الحال وصاحبها: إما ضمير مقدّر، كما هو رأي البصريين، أي: الأبواب منها، أو: الألف واللام القائم مقامه، كما هو رأي الكوفيين، أي: أبوابها. و (متكئين) :
حال من ضمير (لهم) ، والعامل فيه: (مفتحة) . و (يَدْعُون) : إما استئناف، أو: حال مما ذكر، أو: من ضمير (متكئين) .
يقول الحق جلّ جلاله: هذا أي: هذا الذي ذكر من الآيات الناطقة بمحاسن الأنبياء والرسل، ذِكْرٌ أي: شَرَفٌ لهم، وذِكْر جميل يُذكرون به أبداً، أو: نوع من الذكر، أي: القرآن. وآيٌ منه مشتمل على أنباء الأنبياء، أو: تذكير ووعظ لأنه يذكر أحوال الأكابر ليقتدي بهم، أو: ذكر مَن مضى الأنبياء، أو: شرف لك لأنه معجزة لك يدلّ على صدقك، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي: جنس المتقين، أو: مَن ذكر مِن الرسل، عبّر عنهم بالمتقين مدحاً لهم بالتقوى إذ هي غاية الكمال. لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع.
ثم بيَّنه بقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ فإذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب، مُتَّكِئِينَ فِيها على أرائكهم في حِجالهم، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ مما يشتهون وَشَرابٍ كثير كذلك، حذف اكتفاء بالأول، والاقتصار على دُعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض [التفكُّه] «1» والتلذُّذ، دون التغذي والحاجة، فإنه لا تَحلُل في الأبدان ولا حاجة.
وَعِنْدَهُمْ حور قاصِراتُ الطَّرْفِ على أزواجهن، لا ينظرون إلى غيرهم، أَتْرابٌ لِداتٌ، أسنانُهنّ كأسنانهم. قيل: ثلاث وثلاثون سنة لكل واحد، أو: مستويات في الحُسن والجمال والشكل لأن التحابّ بين الأقران أبلغ وأثبت، وقيل: أتراب بعضهن لبعض، لا عجوز فيهن ولا صبية. واشتقاقه من التراب، فإنه [يمسَّهن] «2» في وقت واحد.
__________
(1) فى الأصول [الفاكهة] .
(2) فى الأصول الخطية [يمسهم] .(5/36)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ، قال ابن عرفة: اللام للتوقيت، أي: عنده، أو: للتعليل، فإن الحساب علَّة للوصول إلى الجزاء. وقرأ المكي والبصري بياء الغيب، ليُوافق ما قبله، والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم. إِنَّ هذا الذي ذكر من ألوان النعيم والكرامات لَرِزْقُنا أعطيناكموه، ما لَهُ مِنْ نَفادٍ من انقطاع وتمام أبداً.
الإشارة: كل مَن توجَّه إلى الله بكليته، واتصف بمحاسن الأخلاق، كان له ذكر وشرف في الدنيا، وكرامة في العُقبى، بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم ذكر أضدادهم بقوله:
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قلت: (هذا) : خبر، أي: الأمر هذا، أو: مبتدأ أي: هذا كما ذكر، وهو من الاقتضاب «1» الذي يقرب من التخلص «2» ، كقوله بعد الحمد: أما بعد. قال السعد: هو من فصل الخطاب، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص. قال:
وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ.. الآية. هـ. قال الطيبي: هو من فصل الخطاب، على التقدير الأول، لا الثاني. هـ. أي: إذا كان خبراً عن مضمر، لا ما إذا ذكر الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا أي: الأمر هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ مرجع جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها، حال من جهنم، فَبِئْسَ الْمِهادُ: الفراش، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص محذوف، أي: جهنم.
__________
(1) الاقتضاب عند البلغاء: الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود من غير مناسبة، كقولك بعد حمد الله: أما بعد فقد فعلت كذا وكذا. انظر محيط المحيط (ص 742) .
(2) التخلص عند البلغاء: الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة. انظر محيط المحيط (ص 248) .(5/37)
هذا فَلْيَذُوقُوهُ أي: ليذوقوا هذا فليذوقوه، كقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» أو: العذاب هذا فليذوقوه، وهو حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ.. الخ، أو: (هذا) : مبتدأ، و (حميم وغساق) : خبر، وما بينهما اعتراض، والغساق:
ما يَغسَق، أي: يسيل من صديد أهل النار، يقال: غَسَقت العين إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. قيل: «لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق، وقيل: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله. وهو بالتخفيف والتشديد، قرىء بهما «2» .
وَآخَرُ أي: وعذاب آخر، أو: مذوق آخر، مِنْ شَكْلِهِ من مثل العذاب المذكور. وقرأ البصري:
«أُخَرُ» بالجمع، أي: ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاعة، أَزْواجٌ أي: أصناف، وهو خبر لأخر، أو: صفة له، أو: للثلاثة.
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة. والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة، أو: من كلام الطاغين بعضهم من بعض.
لا مَرْحَباً بِهِمْ، هو من تمام كلام الخزنة، على الأول، أو: من كلام الطاغين، دعاء منهم على أتباعهم. يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به: مرحباً، أي: وجدت مكاناً رَحْباً، لا ضيقاً، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء، فتقول:
لا مرحباً. و «بهم» : بيان للمدعو عليهم، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي: داخلوها. وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم.
وقيل: (هذا فوج ... ) إلخ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة. و (لا مرحباً بهم ... ) الخ، من كلام الرؤساء.
قالُوا أي: الأتباع: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي: الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به، وعلّلوا ذلك بقوله: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي: إنكم دعوتمونا للكفر، فتبعناكم، فقدمتمونا به للعذاب، فَبِئْسَ الْقَرارُ أي: بئس المقر جهنم، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم. قالُوا أي: الأتباع، معرَّضين عن خصومتهم، متوجهين إلى الله: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أي: مضاعفاً. فِي النَّارِ أو: ذا ضعف، ومثله قوله: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً «3» ، وهو أن يزيد على عذابه مثله.
__________
(1) من الآية 40 من سورة البقرة. [.....]
(2) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد. وخففها الآخرون. انظر الإتحاف (2/ 423) .
(3) من الآية 38 من سورة الأعراف.(5/38)
وَقالُوا أي: الرؤساء: ما لَنا لا نَرى رِجالًا، يعنون: فقراء المسلمين، كُنَّا نَعُدُّهُمْ في الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم، أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا، بهمزة الاستفهام، سقطت لأجلها همزة الوصل. والجملة: استئنافية، ومَن قرأ بالوصل «1» فقط فالجملة: صفة ثانية لرجال، أَمْ زاغَتْ مالت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ، والمعنى على الاستفهام: أتخذناهم سخرياً وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار فهم في الجنة، أم دخلوها معنا، ولكن مالت عنهم أبصارنا، فلا نراهم معنا؟ وعلى الاستخبار: ما لنا لا نرى رجالاً معنا في النار، كانوا عندنا أشرار، قد اتخذناهم سخرياً نسخر بهم، ثم أضربوا وقالوا: بل زاعت عنهم الأبصار، فلا نراهم فيها، وإن كانوا معنا، أو: زاغت أبصارنا، وكلَّت أفهامنا عنهم، حتى خفي علينا مقامهم، وأنهم على الحق ونحن على الباطل، وما تبعناهم. ومَن قرأ «سُخريا» بالضم «2» فمن:
التسخير والاستخدام. ومَن قرأ بالكسر، فمن السخر، الذي هو الهزء. وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً، فراجعه.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكى من أحوالهم لَحَقٌّ لا بد من وقوعه ألْبتة، وهو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فيها على ما تقدّم.
ولمّا شبَّه تفاوضهم، وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين، سمَّاه تخاصماً، وبأنَّ قول الرؤساء: لا مَرْحَباً وقول الأتباع: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة لا محالة، فسمي التقاول كله تخاصما لا شتماله على ذلك.
الإشارة: كل مَن تعدى وطغى، ولم يتب، من المؤمنين، يرى شيئاً من أهوال الكفرة، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل، ويكون سكناه في أسفل الجنة، فيقول: ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار، أتخذناهم سخرياً، وهم كُبراء عند الله، رفعوا عنا، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ فيُجابون: بأنهم رُفعوا مع المقربين، كانوا مشتغلين بنا، وكنتم منهم تضحكون. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا، في كل حين، وبالله التوفيق.
__________
(1) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، ويعقوب «اتخذناهم» بوصل الهمزة بما قبلها، وبكسر الألف عند الابتداء. وقرأ الباقون بقطع الألف وفتحها، على الاستفهام. انظر الإتحاف (2/ 423) .
(2) قرأ بضم السين نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بكسرها.(5/39)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
ثم قرر تحقيق الرّسالة والوحدانية، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد للمشركين: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ من جهته تعالى، أُنذركم عذابه، وَما مِنْ إِلهٍ في الوجود إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة أصلاً، الْقَهَّارُ لكل شيء سواه، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا من المخلوقات، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها، الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْغَفَّارُ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء. وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد، والوعد للموحِّدين، والوعيد للمشركين، ما لا يخفى. وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة لتقوية الإنذار.
قُلْ هُوَ أي: ما نبأتكم به من كوني رسولاً، وأنَّ الله واحد لا شريك له، نَبَأٌ عَظِيمٌ وارد من جهته تعالى، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ غافلون، وعن ابن عباس: النبأ العظيم:
القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل، له شأن خطير، لا بد من الاعتناء به، أمراً وائتماراً.
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، احتجاج على صحة نبوته، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى، واختصامهم، أمر غيبي، لم يكن له به علم قطّ، ثم علمه وأخبر به، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ عن أهل العلم، ودراسة الكتب، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى. والملأ الأعلى هم الملائكة، وآدم، وإبليس لأنهم كانوا في السماء، وكان اختصامهم: التقاول بينهم، كقولهم:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... «1» الخ، وكقول إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ... «2» الخ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات. وقيل: اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه، حتى يقضي الله ما شاء.
__________
(1) الآية 30 من سورة البقرة.
(2) من الآية 12 من سورة الأعراف، والآية 76 من سورة «ص» .(5/40)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
ورُوي في هذا حديث، وهو أنه- عليه الصلاة والسّلام- قال له ربه- عزّ وجل- في النوم: «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» «1» . رواه الترمذي.
و «إِذ يختصمون» : متعلق بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه- عليه الصلاة والسّلام- بحالهم لا بذواتهم، والتقدير: ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: ما يوحي إلى ما يوحى من الأمور الغيبية، التي من جملتها حال الملأ الأعلى، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل، أي: ما يوحي إلى إلا هذا، وهو أن أُنذر وأُبلّغ، ولا أُفرط في ذلك، أي: ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده، وليس إليَّ غير ذلك. وقرىء بكسر «إنما» «2» على الحكاية، أي: إلا هذا القول، وهو: أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين، ولا أدّعي شيئاً آخر.
الإشارة: تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور في توحيد الألوهية، بالتبري من الشرك الجلي والخفي. وهو مفاد قوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ ... الخ. وفي تصديق الواسطة، وهو النذير المبين، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم، وفي التصديق بما جاء به، وهو النبأ العظيم، على أيّ تفسير كان، إما القرآن، باتباعه، والتدبُّر في معانيه، أو: يوم القيامة، بالتأهُّب له، وجعله نُصب العين. وبالله التوفيق.
ثم فسّر الاختصام المتقدم، فقال:
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير- سورة «ص» ح 3234 و 3235) من حديث ابن عباس، ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهما.
وقال عن حديث ابن عباس: حسن غريب. وعن حديث معاذ: حسن صحيح.
(2) وهى قراءة أبى جعفر المدني. انظر الإتحاف (2/ 424) .(5/41)