ومثَّل العمل الخالص الذي تَصَفَّى من الرياء والعجب وسائر العلل، بالحديد المصفى من خبثه لتصنع منه السيوف والآلات، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأواني، وغيرها مما ينفع به الناس.
ومثَّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى، أو الفضة، إذا صفيت وذهب خبثها ليصنع بهما الحلي والحلل ليتزين بها أهلها، فأشار إلى المثال الأول- وهو العلم- بقوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء إلخ. وأشار إلى الحال بقوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ، وأشار إلى العمل بقوله: أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ. وقدَّم الحال، لشرفه، ومثَّله بالذهب والفضة لزيادة الرغبة فيه لأنه ثمرة العمل، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون.
والحاصل: أن المراتب أربعة: العلم، والعمل، والحال، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلاً للمقام لأن النزول فيه لا يكون إلاَّ بعد التصفية، فليس فيه علة، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجري فيها العلم، والعمل، والحال، والمقام. فالتوبة مثلاً: يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها، وفضليتها، ثم يسعى في العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط، وهذا هو الحال، ثم تطمئن النفس، وترسخ التوبة النصوح، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر، يتعلق به العلم أولاً ثم يسعى في مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه، وهكذا يجري في المقامات كلها.. وهي اثنا عشر مقاماً:
التوبة، والخوف، والرجاء والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة.
وهي: بروج شمس المعرفة، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان: يتعلق العلم أولاً بأسرار التوحيد، ثم يعمل في خرق عوائد نفسه حتى تموت، فيشرق عليها أنوار التوحيد، غير أنها تظهر وتخفى، ثم يصير الشهود مقاماً، رسوخاً وتمكينا.
وقد أشار في الحِكَم إلى بعض هذا فقال: «حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال» . وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه، أو التوصل إلى الدنيا، ويذهب به الشكوك والأوهام فهذا زبده.
وتصفية العمل بالإخلاص في أوله، والإتقان والحضور في وسطه، والكتمان في آخره، فيذهب عنه الرياء والعجب به، والتوصل به إلى حظ نفساني. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها، فيذهب به قصد الظهور، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية، التي هي من حظ النفس وتشتيت القلب، إن لم يفرد وجهته لله، وانحلال عزمه وخمود نوره، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس، ويمكث في أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل في مقام العبودية. وبالله التوفيق.(3/20)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
ثم ذكر حال من عرف هذا العلم النازل، وحال من أنكره، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قلت: أُولئِكَ.. الخ: جملة خبر الموصولات، إن رفعت بالابتداء، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب: فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. وجَنَّاتُ: بدل من عُقْبَى الدَّارِ. ومَنْ صَلَحَ: عطف على الواو بفصل المفعول، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ: محكي بحال محذوفة، أي: قائلين سلام عليكم، وحذف الحال- إذا كان قولاً- كثيرٌ مطرد.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيستجيب له، وينقاد له كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق- جل جلاله- على من اشتبه عليه الحق من الباطل، بعد ما ضرب المثل، فإن الأمور المعنوية، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلّا على الخفافشة، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية، حين قالوا: بَلى «1» . وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما أوثقوه على نفوسهم، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص تأكيداً على الوفاء بالعهود.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم، وموالاة المؤمنين، وحُضور مجالس الصالحين، والعلماء العاملين، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ: غضبه وعذابه، أو إبعاده وطرده، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ: مناقشته، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا.
__________
(1) فى قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..) الآية 172 من سورة الأعراف.(3/21)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق الطاعة وترك المخالفة، أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلباً لرضاه، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته، لا فخراً ورياء، وطلباً لحظ نفساني. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال فرضاً ونفلاً، سِرًّا وَعَلانِيَةً إن تحقق الإخلاص، وإلا تعيَّن الإسرار. أو سراً لمن لا يعرف بالمال، وجهراً لمن يعرف به لئلا يُتهم، أو ليُقتدى به. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالاً لقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ «1» ، أو:
يدفعون الشرك بقول: «لا إله إلا الله» ، أو يفعلون الحسنات فيدرءون بها السيئات، كقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «2» . قيل: نزلت في الأنصار. وهي عامة.
ثم ذكر جزاءهم، فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها. وهي: الجنة التي فسَّرها بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: إقامةٍ، يَدْخُلُونَها مخلدين فيها. والعدْن: الإقامة، وقيل: هي بطنان الجنة، أي: مداخلها لا ربضُها، فيدخلونها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي: يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ فى العمل مبلغهم، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض- لما بينهم من القرابة والوصلة- في دخول الجنة زيادة في أُنسهم، لكن يقع التفاوت في الدرجات والنعيم والقرب، على قدر اجتهادهم في التحقق بتلك الصفات، والدءوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أنَّ مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل.
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح والتحف، قائلين:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة، هذا بِما صَبَرْتُمْ، أو سلامة لكم بسبب صبركم. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه.
الإشارة: أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره، كمن هو أعمى القلب والبصيرة، فلم يرفع بذلك رأساً؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولوا القلوب الصافية التي ذهب خبثها، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ، فأوفوا بعهودهم، وواصلوهم،
__________
(1) من الآية 96 من سورة المؤمنون.
(2) من الآية 114 من سورة هود.(3/22)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته، أو يناقشهم الحساب فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات، وصبروا على دوام المجاهدات، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات، وأقاموا صلاة القلوب- وهي العكوف فى حضرة الغيوب- وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم، ويقابلون الإساءة بالإحسان لأنهم أهل مقام الاحسان. أولئك لهم عقبى الدار وهي العكوف في حضرة الكريم الغفار، تدخل على أبواب قلوبهم المواهبُ والأسرار، تقول بلسان الحال: سلام عليكم بما صبرتم في مجاهدتكم، فنعم عقبى الدار.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 26]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ... الذي أخذه عليهم في عالم الذَّرِّ، حيث قال:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» ، ثم كفروا به بعد بعث الرسل المنبهين عليه. أو ينقضون العهود فيما بينهم وبين عباد الله، أن أعطوا ذلك من أنفسهم، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام، أو ممن يدلّ على الله من الأنبياء، والعلماء الأتقياء فإنَّ الله أمر بوصلهم، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والمعاصي، وتهييج الفتن، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ: البُعد والطرد من رحمة الله، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ: سوء عاقبة الدار، وهو العذاب والهوان، حيث اغتروا في الدنيا بسعة الأرزاق، وظنوا أن ذلك من علامة إقبال الحق.
ولم يدروا أن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ، ولو كان من أهل الشقاء، وَيَقْدِرُ يُضيقه على مَن يشاء، ولو كان من أهل السعادة والعناية، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا واطمأنوا بها، وقنعوا بنعيمها الفاني، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم، كعُجَالة الراكب وزاد الراعي. وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
«مَا لي وللدُّنْيَا، إِنَّما مَثَلي ومثلُ الدُّنيا كَرَاكبٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ، ثم رَاحَ عَنْها وَتَركَهَا» «2» . والمعنى: أنهم أشِروا بما نالوا من الدنيا، ولم يصرفوها فيما يستوجبون به نعيم الآخرة، واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع، سريع الزوال. قاله البيضاوي.
__________
(1) من الآية 172 من سورة الأعراف.
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (1/ 301) والحاكم (4/ 309) وصححه ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضى الله عنه، قال: دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قد أثر فى جنبه، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال:
مالى وللدنيا..» الحديث.(3/23)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
الإشارة: لا شيء أفسد على المريد من نقض عهود المشايخ، والرجوع عن صحبتهم فإنه لمَّا دخل في حماهم انقبض عنه الشيطان والدنيا والهوى، وأسفوا عليه، فإذا رجع إليهم، واتصلوا به، فعلوا به مالم يفعلوا بغيره كمن هرب من عدوه ثم اتصل به. وتنسحب عليه الآية من قوله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إلى قوله: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البُعد عن الحضرة، (ولهم سوء الدار) وهو: غم الحجاب والبقاء من وراء الباب. فإذا رجعت إليه الدنيا يقال له: (الله يبسط الرزقَ لمن يشاء ويقدر) فلا تغتر ولا تفرح بالعرض الفاني، فما الحياة الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ متاع قليل، ثم التحسر الوبيل.
ثم أجاب عمن طلب المعجزة ليؤمن، فقال:
[سورة الرعد (13) : آية 27]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ظاهرة مِنْ رَبِّهِ كما أنزلتْ على مَنْ قبله فنؤمن حينئذٍ؟ قُلْ لهم: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بعد ظهور الآيات والمعجزات. وليس الإيمان والهداية بيد العبد في الحقيقة. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي: من أقْبل ورجع عن عناده من غير احتياج إلى معجزة. قال البيضاوي: وهو جواب، يجرى مجرى التعجب من قولهم، كأنه قال: قل لهم ما أعظم عنادكم! إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائه، وإن نزلت كل آية، ويهدي إليه من أناب لما جئت به، بل بأدنى منه من الآيات. هـ.
الإشارة: تقدم مراراً أن مَن سبقت له من الله عناية الخصوصية، لم يتوقف على ظهور آية. ومن لم يسبق له شيء في الخصوصية لا ينفع فيه ألف آية. فالله تعالى يضل من يشاء عن دخول حضرته، ولو رأى من أولياء زمانه ما رأى، ويهدي إلى حضرته من أناب، ورجع بلا سبب. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الإنابة، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 28 الى 29]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قلت: الموصول: بدل ممن أناب، أو خبر عن مضمر، أي: هم. والموصول الثاني بدل ثانٍ، أو مبتدأ، وجملة طُوبى: خبر، وهي فُعْلى، من الطيب، كبشرى من البشارة، قلبت ياؤها واواً لضم ما قبلها، ومعناها: أصبت خيراً وطيباً. وقيل: شجرة في الجنة. وسوغ الابتداء بها: ما فيها من معنى الدعاء.(3/24)
يقول الحق جلّ جلاله، في وصف من سبقت له الهداية واتصف بالإنابة: هم الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسُهم فإذا حركتهم الخواطر والهواجم، أو فتن الزمان وأهواله تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وترتاح بذكر الله أُنساً به، واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر آلائه ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، أو بكلامه القرآن، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال في القوت: معنى تطمئن بذكر الله: تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام: والحاصل أن المراد من الطمأنينة: السكون إلى المذكور، والأنس به، ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح، والغنى به. هـ.
قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لا بغيره، فلا تسكن إلا إليه، ولا تعتمد إلا عليه فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها، وعظم قلقها. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ أي: لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة، أو شجرة فيها، وَحُسْنُ مَآبٍ أي: مرجع يرجعون إليه بعد الموت.
الإشارة: الطمأنينة على قسمين: طمأنينة إيمان، وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله.
قال الشيخ الشاذلى رضي الله عنه: حقيقة الذكر: ما اطمأن بمعناه القلب، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. هـ. وقال الورتجبي: إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد، فطمأنينة القلب بالذكر، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده. هـ. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين.
وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه. وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه! ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟!. كما في الحِكَم.
وقال في المناجاة: «إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!» .(3/25)
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: «كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء؟ أي: وظهر بكل شيء» . وفي ذلك يقول الشاعر:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيكَ شَهَادَةً ... وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد
وقال آخر:
لَقَدْ ظهرتَ فَمَا تَخْفَى على أحدٍ ... إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا ... وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا
وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين باعتبار القرب والبُعد: فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين، والعلماء العابدين المجتهدين، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه، وهم أهل الشواغل والشواغب، والعلائق والعوائق. وعلامة القرب: وجود حلاوة المعاملة، كلذيذ المناجاة، والأنس به في الخلوات، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه، حتى لا يشبع منه في كل أوان. وعلامة البعد: فقد الحلاوة المذكورة، وعدم الأنس به في الخلوة، وفقد حلاوة القرآن، ولو كان من أعظم علماء اللسان.
وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً: فمنهم من تشرق عليه الأنوار، وتحيط به الأسرار، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار، فيسكر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر، ويسمى عندهم هذا المقام: مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته، ويفيق من صعقته، فيشهد المؤثر، لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقة عن جمعه، ولا يضره فناؤه عن بقائه، ولا بقاؤه عن فنائه، يعطي كل ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه، وهو مقام البقاء، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله، فلا بقاء إلا بعد الفناء، ولا صحو إلا بعد السكْر. ومن ترامى على هذا المقام- أعني مقام البقاء- من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب.
واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص، وطمأنينة العيان، إن حصلت، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار، إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وباهر علمه، وعجائب حكمه وأسراره، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية، مع كونه نبياً أمّياً. فإذا تحقق بمعرفة الرسول فقد(3/26)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
تحقق بمعرفة الله، واطمأن به لأنه الواسطة العظمى، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيارة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر، ونور طمأنينتهم أبهر، لا سيما العارفين، وفي الأثر: تعلموا اليقينَ بمجالسةِ أهل اليقين.
وأما طمأنينة أهل الشهود: فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود، والترقي في العلوم والأسرار، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين.
ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة، فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولا بإثمد علم اليقين، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين، فيدرك عدمه لوجود الحق، أي:
يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين فيدرك وجود الحق- بلا واسطة قدرة وحكمة، معنى وحساً، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله: «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه» .
وأهل طمأنينة الشهود هم خاصة ورثة الرسول- عليه الصلاة والسلام- الذي أشار إليه بقوله:
[سورة الرعد (13) : آية 30]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)
قلت: كَذلِكَ: مفعول مطلق بأرسلناك، أي: مثل ذلك الإرسال المتقدم أرسلناك. وقال ابن جزي: الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. هـ. أي: كما أن الإضلال والهداية بيده كذلك اختصاصك بالرسالة إلى أمة ... إلخ، وجملة: وَهُمْ يَكْفُرُونَ: حال من ضمير عَلَيْهِمُ أي: لتتلو عليهم في حال كفرهم لعلهم يؤمنون. ومَتابِ: مفعل، من التوبة.
يقول الحق جلّ جلاله: قد أرسلنا قبلك رسلاً فأنذروا وبشروا قومهم، كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ أي: مثل ذلك الإرسال أرسلناك في أمة، أو كما هدينا من أناب إلينا اختصصناك برسالتنا، فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أي: تقدمها أُمَمٌ أرسل إليهم رسلهم فليس ببدع إرسالك إلى هذه الأمة الأمية، لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: لتقرأ عليهم الكتاب، الذي أوحينا إليك، والحالة أنهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي: بالبليغ(3/27)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته، ووسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا ما أنعم به عليهم، وخصوصاً إرسالك إليهم، وإنزال القرآن عليهم، الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية. قيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: في قريش حين قالوا: لا نعرف الرحمن، والمعنى: أرسلناك إليهم رحمة لتتلو عليهم ما هو مناط الرحمة، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ-، والحال: أنهم يكفرون ببليغ الرحمة. قُلْ هُوَ رَبِّي أي: الرحمن خالقي ومتولي أمري، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة غيره، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أموري، ومن جملتها نصري عليكم. وَإِلَيْهِ مَتابِ مرجعي في أموري كلها، لا أرجع إلى أحد غيره، ولا أتعلق بشيء سواه.
الإشارة: قد بعث الله في كل عصر عارفاً بالله يحيي به الدين، ويعرف الطريق إلى رب العالمين فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة، غير أنهم تارة يخفون لفساد الزمان، وتارة يظهرون رحمة للأنام. فإذا وقع الإنكار عليهم، أو استغرب وجودهم، يقال لهم: كذلك أرسلنا في كل أمة نذيراً، وداعياً، فإرسالكم أنتم وإظهاركم ليس ببدع، لتعلموا الناس ما أوحي إليكم من طريق الإلهام فإظهاركم رحمة، وهم يكفرون هذه النعمة. فاعتمدوا على الرحمن، وثقوا بالواحد المنان، وارجعوا إليه في كل حال وشأن. فمن توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه حماه.
ثم رجع إلى تتميم الجواب عن قول الكفار: (لولا أنزل عليه آية من ربه) ، فقال:
[سورة الرعد (13) : آية 31]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
قلت: جواب لَوْ: محذوف، أي: لم يؤمنوا لسابق الشقاء، أو: لكان هذا القرآن، وسيأتي بيانه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً أنزل عليك، من صفته: سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي: زعزعت عن مقارها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ: تصدعت وتشققت من خشية الله عند قراءته، أو: تشققت فجعلت أنهاراً وعيوناً، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتجيب من قبورها جهراً، لمّا آمنوا لعنادهم وغلبة الحسد عليهم. فهذا كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كانُوا لِيُؤْمِنُوا «1» ،
__________
(1) من الآية 111 من سورة الأنعام.(3/28)
أو: ولو أن قرآناً بهذه الصفة: من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز، والنهاية في التذكير والإنذار، والأول أرجح لمناسبة ما قبله وما بعده.
رُوي أن قريشاً قالوا: يا محمد، إنْ سَرَّك أن نتبعك فَسَيِّرْ بقرآنك الجبالَ عن مكة، حتى تتسع لنا فنتخذها بساتين وقطائع. أو سخر لنا به الريح لنركبها، فَنَتَّجِرَ بها إلى الشام. أو ابعث لنا قُصَيَّ بن كلاب فإنه كان شيخَ صِدْقٍ، أو غيره من آبائنا، فيكلمونا فيك، ويشهدوا لك بما تقول. فنزلت الآية.
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ليس لي منه شيء، فهو القادر على الإتيان بما اقترحتموه من الآيات، إلا أن الإرادة لم تتعلق بذلك لأنه علم أنه لا ينجع فيكم شيء من ذلك لفرط عنادكم، فإذا رأيتموها قلتم: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «1» . وبيَّن ذلك قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم، وفرط عنادهم، علماً منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً، أو: أَفَلَمْ يَيْأَسِ أي:
يعلم الَّذِينَ آمَنُوا أن الهداية بيد الله، ومشيئته، فلو شاء لهدى الناس جميعاً. وكون «يَيْأَسِ» بمعنى «علم» : لغة هوازن فقد علموا بما أعلمهم إن الله لا يهدي من يضل. وقد قرأ علي وابن عباس وجماعة: «أفلم يتبين الذين آمنوا» وهو يقوي تفسير ييأس بيعلم.
قال البيضاوي: وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم، لأنه مُسَبِّبٌ عن العلم، فإن الميئوس منه لا يكون إلا معلوماً.
ولذلك علّقه بقوله: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وهو- على الأول- يتعلق بمحذوف تقديره: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. أو: بآمنوا، على حذف الجار، أي: بأن الله ... الخ. هـ.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش والعرب، تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر والمعاصي، قارِعَةٌ:
داهية تقرعهم تقلقهم، وتصيبهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم. أو غزوات المسلمين إليهم، إمَّا أن تنزل بهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها وتتطاير إليهم شررها. وقيل: نزلت في كفار مكة، فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لا يزال يبعث السرايا، فتُغير حواليهم وتختطف أموالهم. وعلى هذا يجوز أن يكون ضمير تَحُلُّ خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم أي: تحل بجيشك قريباً من دارهم، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بالموت أو بالبعث أو فتح مكة. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لا متناع الخلف في وعده تعالى.
__________
(1) كما جاء فى الآية 15 من سورة الحجر.(3/29)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
الإشارة: لو أن عارفاً بالله سيَّر الجبال عن أماكنها، وفجر الأرض عيوناً، وكلمه الموتى لما آمن بخصوصيته إلا مَن سبقت له عناية الخصوصية. فلو شاء الله لهدى الناس إلى معرفته جميعاً. لكن الحكمة اقتضت وجود الخلاف، قال تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «1» ، فمن لم يهتد إلى معرفتهم لا يزال تطرقه قوارع الشكوك والأوهام، وخواطر السوء، أو تحل قريباً من قلبه، إن لم تتمكن فيه، حتى يأتي وعد الله بحضور موته، فقد يتداركه اللطف والرعاية، وقد يتسع الخرق عليه فيموت على الشك، والعياذ بالله. بخلاف من صَحِبَ أهل الطمأنينة واليقين، لا يموت إلا على اليقين لأن همة الشيوخ قد حَلَّقَتْ عليه، والعناية قد حفت به. والله ولي المتقين.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب) ، والمراد باليد:
الهمة والحفظ. ووقت الموت أولى بالحضور، وقد شاهدنا ذلك من إخواننا ممن حضره الموت منهم، أخبر أنه يرى شيخه حاضراً معه. فللَّهِ الحمة والمنة.
ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذاية قومه، فقال:
[سورة الرعد (13) : آية 32]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)
يقول الحق جلّ جلاله، فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فأوذوا وأهِينُوا، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: أمهلتهم في دعة ورغد عيش، مدة من الزمان، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالهلاك والاستئصال، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟ أي: عقابي إياهم، وهو تهويل لما نزل بهم، وتخويف لغيرهم من المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمقترحين عليه الآيات.
الإشارة: الاستهزاء بأهل الخصوصية في بدايتهم سنة ماضية، ويتسلون بمن سلف من خصوص الأنبياء والأولياء. وما هدد به الكفار يهدد به أهل الإنكار. وبالله التوفيق.
ثم وبخهم على الشرك وأوعدهم عليه، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 34]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
__________
(1) من الآية 118 من سورة هود.(3/30)
قلت: أَفَمَنْ مع صلته: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: أفمن هو رقيب على كل شيء أحق أن يعبد أم غيره.
أو كمَن ليس كذلك؟!.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ أي: حفيظ رقيب على عمل كل نفس بِما كَسَبَتْ من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم، أحق أن يعبد أم غيره؟. أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع، ولا يعقل!!. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ بعد هذا البيان التام، قُلْ لهم: سَمُّوهُمْ أي: اذكروا أسماءهم، فلا تجدون إلا أسماء إناث كاللات والعزى ومناة، أو أسماء أحجار وخشب فبأي وجه تستحق أن تعبد، وتشرك مع الله في ألوهيته؟.
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده في الأرض، وهذا تهكم بهم، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة، ولم يعلمها الحق تعالى، وهو محال. والمعنى: أنَّ الله لا يعلمُ لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشيء، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم؟ أَمْ تسمونهم شركاء، بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ، من غير حقيقة واعتبار معنى، كتسمية الخبث مسكاً، والبول عطراً.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي: انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقاً، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله، وَصُدُّوا «1» عَنِ السَّبِيلِ أي: وصدُّوا الناس عن طريق الحق، حيث منعوهم من الإسلام.
ومن قرأ بضم الصاد مبنياً للمفعول فمعناه: صدَّهُم الشيطانُ عن طريق الحق وضلوا عنه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي: من يخذله الله فليس له من يوفقه غيره. لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والأسر، وسائر ما يصيبهم من المصائب، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
لشدته ودوامه، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
اي: من عذابه مِنْ واقٍ
يقيهم ويعصمهم منه.
الإشارة: كل مَنْ تحقق أن الله قائم عليه استحيا منه أن يُسيء الأدب بين يديه، يقول الله تعالى في بعض الأخبار: «أن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟» . وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها، أو طمع في الخلق وركن إليهم، فقد جعل لله شركاء، فيقال له: سَمِّ هؤلاء تجدهم خلقا عاجزين، لا قدرة لهم على شيء، ولا ينفعوك بشيء إلا ما قَسَم الله لك في الأزل.
بل زين لضعفاء اليقين مكرهم، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب، أي: كفروا كفراً دون كفر بأن شكّوا فى
__________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي، بضم الصاد، على البناء للمفعول، وقرأ الباقون بالفتح على البناء للفاعل.. انظر الإتحاف (2/ 162) .(3/31)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
الرزق، والشكُّ في الرزق شكٌ في الرزَّاق، وصدوا عن طريق اليقين، والغنى برب العالمين، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالذل والحرص والحرمان.
قال بعض العارفين: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ لقال: الذل والهوان، ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان. وفي الحِكَم: «ما بَسَقَتْ أغصانُ ذُلٍّ إلا عَلَى بَذْرِ طَمعٍ» . وقال
الشاعر: العَبدُ حُرٌّ مَا قَنَع ... والحرُّ عَبدٌ ما طَمعْ
ولعذاب الآخرة أشق حيث يسقط بضعف يقينه عن درجة المقربين على سبيل الدوام، وما لهم من الله من واق يقيهم من غم الحجاب، وعدم اللحوق بالأحباب الذين ترقوا إلى القرب من الحبيب. والله تعالى أعلم.
ثم وصف الجنة تشويقا وترغيبا فى سلوك طريقها وهو الإيمان، فقال:
[سورة الرعد (13) : آية 35]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)
قلت: مَثَلُ الْجَنَّةِ: مبتدأ. قال سيبويه: الخبر محذوف، أي: فيما يتلى عليكم صفة الجنة. وقال الفراء: الخبر هو: تَجْرِي ... إلخ، وعلى قول سيبويه يكون تَجْرِي: حالاً من العائد المحذوف، أي: التي وُعدها المتقون حَالَ كَوْنِها تجري ... إلخ. والمراد بالمثل هنا: الصفة، لا ضرب المثل. وظِلُّها: مبتدأ حُذِف خبره، وظلها كذلك.
والأكُل بضم الهمزة: المأكول، ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها، وأما الأكل بالفتح فمصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: صفة الجنة التي وُعِدَها المتقون هي غرف وقصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء وخمر وعسل ولبن، أُكُلُها دائِمٌ ما يؤكل من ثمارها وأنواع أطعمتها لا ينقطع، وَظِلُّها دائم، لا يُنسخ بالشمس كظلال الدنيا، تِلْكَ الجنة الموصوفة بهذه الأوصاف هي عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي، هى مآلهم وعاقبة استقرارهم، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا محيد عنها، هى مآلهم وإليها رجوعهم.
وفي ترتيب العقبيين إطماع للمتقين، وإقناط للكافرين.
الإشارة: مثل جنة المعارف التي وعدها المتقون لكل ما يشغل عن الله هي حضرة مقدسة، يتنعم فيها أسرار العارفين، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والحكم، لذتها وقُوت الأرواح فيها دائم، وهي الفكرة في ميادين أنوار(3/32)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
التوحيد، وجولان الروح في فضاء أسرار التفريد. وظل روحها وريحانها دائم، وهو: سكون القلب إلى الله، وفرح الروح بشهود الله. وإليه أشار ابن الفارض بقوله، رحمه الله، فى وصف خمرتها:
وإِنْ خَطَرَتْ يَوْماً علَى خاطِر امْرِئ ... أقَامَتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهم
تلك عقبى الذين أتقَّوا السِّوى، وعقبى المنكرين لوجود أهل هذه الجنة نار القطيعة والبعد. أعاذنا الله من ذلك.
ثم ذكر حال الفريقين: أهل الفرح بالله، وأهل الإنكار على أحباء الله، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37)
قلت: حُكْماً: حال من ضمير أَنْزَلْناهُ.
يقول الحق جلّ جلاله، في حق من سبقت له السعادة: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كعبد الله بن سلام ومخيريق وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى، وهم: ثمانون رجلاً: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون من الحبشة. أو: كل مَن آمن مِن أهل الكتاب، فإنهم كانوا يَفْرَحُونَ بما يوافق كتبهم. ثم ذكر ضدهم فقال: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي: ومن كَفَرتهِم الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة والشحناء ككعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود، والعاقب والسيد وأشياعهما من النصارى، مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، وهو ما يخالف شرائعهم التي نُسخت به، أو ما يوافق ما حرّفوا منها.
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، وهو جواب للمنكرين، أي: قل لهم: إنما أمرت فيما أنزل إليَّ أن أعبد الله وأوحده، وهو العمدة في الأديان كلها، فلا سبيل لكم إلى إنكاره. وأما إنكاركم ما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام لأنها تابعة للمصالح والعوائد، وتتجدد بتجددها. إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره، وَإِلَيْهِ مَآبِ أي: وإليه مرجعي بالبعث لا إلى غيره. وهذا هو القدْر المتفق عليه من الشرائع، وهو الأمر بعبادة الله وحده، والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع بالبعث يوم القيامة فلا يخالف ما قبله من الشرائع، فلا معنى للإنكار حينئذٍ.(3/33)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: ومثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الدين المجمع عليها، أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي: يحكم في القضايا والوقائع، بما تقتضيه الحكمة، مترجماً بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه وحفظه.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها كتقرير دينهم، والصلاة إلى قبلتهم بعد ما حُوِّلْتَ عنها، بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بنسخ ذلك، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينصرك، وَلا واقٍ يقيك عتابه. وهو حسم لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الفرح بما أُنزل من عند الله هو مقدمات الفرح بالله، فإذا رفعت أكنة الغفلة عن القلب تلذذ بسماع الخطاب من وراء الباب، وذلك أمارة القرب. وهذا مقام أهل المراقبة من المحبين. فإذا جدَّ في السير رُفعت عنه الحجب والأستار، وواجهته الأنوار والأسرار، فيكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات، فيتلذذ بشهود المتكلم، فيسمع حينئذٍ الكلام من المتكلّم به بلا واسطة. وهذا مقام أهل الشهود من المحبين المقربين. (ومن الأحزاب) ، وهم أهل الرئاسة والجاه، من ينكر وجود بعض هذه المقامات تعصباً وحمية. أو ينسبها لنفسه غلطاً وجهلاً، فيقول له من تحقق بهذا المقام: إنما أمرتُ أن أعبدَ اللهَ ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب. ويغيب عنه بالاشتغال بالله، وبالدعاء إليه. فإن غفل واشتغل به، أو ركن إلى قوله، قيل له: ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق.
ولما قالت اليهود- لعنهم الله- لو كان محمد رسولا لما أولع بالنساء، ردّ الله عليهم بقوله:
[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 39]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً كثيرة:
كداود عليه السلام كان له مائة امرأة، وابنه كان له ألف، على ما قيل، وغيرهما من الأنبياء والرسل. وَجعلنا لهم منهن ذُرِّيَّةً، وأنت يا محمد منهم فليس ببدع أن يكون الرسول بشراً، يتزوج النساء، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، إلا أنه لا يشغله ذلك عن أداء الرسالة، ونصيحة الأمة، وإظهار شريعة الدين، والقيام بحقوق رب العالمين. ولما أجابهم بشبهتهم قالوا: أظهر لنا معجزة كما كانت لهم، كالعصا وفلق البحر، وإحياء الموتى؟ فإنزل الله وَما كانَ لِرَسُولٍ ما صح له ولم يكن في وسعه أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تُقترح عليه، ويظهرها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وإرادته فإنه القادر على ذلك. لِكُلِّ أَجَلٍ من آجال بني آدم وغيرهم، كِتابٌ يُكتب فيه وقت موته، وانتقاله من الدنيا.(3/34)
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ديوان الأحياء، فيكتب في الأموات، وَيُثْبِتُ من لا يموت. قيل: إن هذا الكتاب يُكتب ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، ويجمع بينهما بأن الكتابة تقع ليلة النصف، وإبرازه للملائكة ليلة القدر، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي: الأصل المنسوخ منه كتب الآجال، وهو اللوح المحفوظ، أو العلم القديم. وهذا التفسير يناسب اقتراح الآيات لأنهم إذا أجيبوا بظهور الآية ولم يؤمنوا، عوجلوا بالهلاك، وذلك له كتاب محدود. قال الورتجبي: بيِّن الحق- سبحانه- أن أوان إتيان الآية بأجل معلوم في وقت معروف، بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي:
لكل مقدور في الأزل في قضية مرادة وقت معلوم في علم الله، لا يأتي إلا في وقته هـ.
أو: لِكُلِّ أَجَلٍ أي: عصر وزمان، كِتابٌ فيه شريعة مخصوصة على ما يقتضيه استصلاحهم.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ: ينسخ ما يستصوب نسخه من الشرائع، وَيُثْبِتُ ما تقتضي الحكمة عدم نسخه.
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وهو: اللوح المحفوظ فإنه جامع للكائنات. وهذا يترتب على قوله: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، وهو ما لا يوافق شريعتهم. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ما يستصوب نسخه، وَيُثْبِتُ ما تقتضيه حكمته، فلا ينكر مخالفته للشرائع في بعض الأحكام مع موافقته للحكم، وهو الأصول الثابتة في أصول الشرائع، ولذا قال: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي: لا يبدل. هـ.
وقريب منه للبيضاوي.
وقيل: إن المحو والإثبات عام في جميع الأشياء. قال ابن جزي: وهذا ترده القاعدة المتقررة بأن القضاء والقدر لا يتبدل، وعلم الله لا يتغير. هـ. قلت: أما القضاء المبرم وهو: علم الله القديم الذي استأثر الله به، فلا شك أنه لا يتبدل ولا يتغير، وأما القضاء الذي يبرز إلى علم الخلائق من الملائكة وغيرهم، فيقع فيه المحو والإثبات، وذلك أن الحق تعالى قد يُطلعهم على بعض الأقضية، وهي عنده متوقفة على أسباب وشروط، يخفيها عنهم بقهريته، ليظهر اختصاصه بالعلم الحقيقي، فإذا أراد الملائكة أن ينفذوا ذلك الأمر محاه الله تعالى، وأثبت ما عنده في علم غيبه، وهو أُمُّ الكتاب، حتى قال بعضهم: إن اللوح الحفوظ له جهتان: جهة تلي عالَم الغيب، وفيه القضاء المبرم، وجهة تلي عالَم الشهادة، وفيه القضاء الذي يُرد ويُمْحى لأنه قد تكتب فيه أمور، وهي متوقفة على شروط وأسباب في علم الغيب، لم تظهر في هذه الجهة التي تلي عَالَم الشهادة، فيقع فيها المحو والإثبات، وبهذا يندفع إشكالات كقوله في الحديث: «لا يَرُدُ القَضَاءَ إلا الدُّعَاءُ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العُمُر» «1» .
__________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي، فى (كتاب القدر، باب: ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء) ، من حيث سلمان. وأخرج البخاري فى (الأدب باب، من بسط له فى الرزق) من حديث أبى هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له فى رزقه وأن ينسأ له فى أثره، فليصل رحمه» . [.....](3/35)
وقول ابن مسعود، وعمر- رضى الله عنهما-: اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاء فامحنا، واكتبنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. هـ. أي: إن كنت أظهرت شقاوتنا فامحها، وأظهر سعادتنا فإنك تمحو ما تشاء ... إلخ. وفي ابن عطية ما يشير إلى هذا، قال: وأصوب ما يفسر به أم الكتاب، أنه كتاب الأمور المجزومة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن، وسبق ألا تبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتُمحى وتثبت. قال نحوه قتادة. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ ... الآية، قد أثبت تعالى لأهل خصوصية النبوة والرسالة الأزواج والذرية، وكان ذلك كمالاً في حقهم. وكذلك أهل خصوصية الولاية، تكون لهم أزواج وذرية، ولا يقدح في مرتبتهم، بل يزيد فيها، وذلك بشرط أن يقع ذلك بعد التمكين، أو يكون في صُحبة شيخ عارف كامل عند أمره ونهيه، يكون فعل ذلك بإذنه، فإذا كان هذا الشرط فإن التزوج يزيد صاحبه تمكيناً من اليقين.
قال الورتجبي في هذه الآية: أعْلَمَ تَعالى، بهذه الآية، الجُهَّال أنه إذا شَرَّف وليّاً أو صدِّيقاً بولايته ومعرفته لم يَضُرّ بِه مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد، ولم يكن بسْط الدنيا له قدحاً في ولايته. هـ.
وقال الغزالي في الإحياء، في الترغيب في النكاح: قال تعالى في وصف الرسل ومَدْحِهِم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً، فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل، ومَدَح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ «1» الآية، ويقال: أن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. وقالوا: إن يحيى عليه السلام قد تزوج فلم يجامع.
قيل: إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السُّنة، وقيل: لغض البصر. وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض، ويولدُ له.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم: «النَّكَاحُ سُنَّتي، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتي فَليسْتَنَّ بِسُنَّتِي» . وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «تَنَاكَحُوا تَكَاثَروا فإنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة، حَتَّى السَّقْط» . وقال أيضاً: «مَنْ رَغِبَ عَن سُنتي فَليس مِنِّي، وإِنَّ مِنْ سُنَّتي النِّكاحَ، فَمَنْ أحَبَّنِي فليستنّ بسنّتى» . وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّج مَخَافَةَ العَيْلة فَلَيس مِنَّا» . وقال صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ نَكَحَ لله وأَنكَحَ لله استَحَقَّ ولايَة الله» .
__________
(1) من الآية 74 من سورة الفرقان.(3/36)
ثم قال «1» : وقال ابن عباس لابنه: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. وكان ابن مسعود يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج، لا ألقى الله عزبا. وكان معاذ رضي الله عنه مطعوناً وهو يقول: زوجوني، لا ألقى الله عزبا. وكان ماتت له زوجتان بالطاعون. وكان عُمَرُ يكثر النكاح، ويقول: لا أتزوج إلا للولد. وكان لعليّ رضي الله عنه أربع نسوة، وسبع عشرة سرية، وهو أزهد الصحابة. فدل أن تزوج النساء لا يدل على الرغبة في الدنيا.
قال سفيان: كثرة النساء ليس من الدنيا. واستدل بقضية عليّ رضي الله عنه قال: وكان أزهد الصحابة. ورُوي أن بشر الحافي رُئيَ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: رفعت إلى منازلي في الجنة فأشرفت على مقامات الأنبياء، ولم أبلغ منازل المتأهلين. وفي رواية: قال لي: ما كنت أحب أن تَلقاني عَزَباً، قال الرائي: فقلت له: ما فعل أبو نصير التمار؟ قال: رُفع فوقي بسبعين درجة بصبره على بُنياته وعياله. وقد قيل: فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، وركعةٌ مِنْ متأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب. هـ. كلام الغزالي باختصار.
وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ، من جملة ما يقع فيه المحو والإثبات الواردات الإلهية التي ترد على القلوب من تجليات الغيوب فإن القلب إذا تطهر من الأكدار، وصفا من الأغيار، كان كل ما يتجلى فيه من الغيوب فهو حق، إلا أنه ينسخ بعضها بعضاً فقد يخبر الولي بأمر، يكون، أوْ لا يكون على حسب ما تجلى في قلبه، ثم يمحو الله ذلك، ويثبت في قلبه خلافه. أو يظهر في الوجود خلاف ما أخبر، وليس بكذب في حقه، ولكن الحق تعالى يُظهر لخلقه أموراً من مقدوراته، متوقفاً وجودُها على أسبابٍ وشروطٍ أخفاها الحق تعالى عن خلقه، ليظهر عجزهم عن إحاطة علمه. فالنسخ إنما يقع في فعله لا في أصل علمه.
قال الأستاذ القشيري: المشيئة لا تتعلق إلا بالحدوث، والمحو والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث، فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، لا يدخل تحت المحو والإثبات، إنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله. هـ. وقال سهل رضي الله عنه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الأسباب، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ القضاء المبرم. هـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ: العلم الأول الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، ولا يقبل النسخ والتحريف. ومطالعته: بالفناء عن الحقيقة الخَلْقِية، والبقاء بالأنوار الصمدانية، والأنفاس الرحمانية. قال في القوت: والمحبة من أشرف المقامات، ليس فوقها إلا مقام الخُلَّة، وهو مقام في المعرفة الخاصة، وهي: تخلّل أسرار الغيب، فيطلع على مشاهدة المحبوب، بان يعطى إحاطة بشيء من علمه بمشيئته، على مشيئته
__________
(1) أي: الإمام الغزالي، رحمه الله تعالى.(3/37)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
التي لا تتقلب، وعلمه القديم الذي لا يتغير. وفي هذا المقام: الإشراف على بحار الغيوب، وسرائر ما كان في القديم، وعواقب ما يدب. ومنه: مكاشفة العبد بحاله، وإشهاده من المحبة مقامه، والإشراف على مقامات العباد في المآل، والاطلاع عليهم في تقلبهم في الأبد حالاً ومآلاً. هـ.
قلت: هذا الاطلاع إنما هو إجمالي لا تفصيلي، وقد يقع فيه المحو والإثبات لأنه من جملة المعلومات التي دخلت عالم التكوين، التي يقع فيها التبديل والتغيير.
ثم قال صاحب القوت: وقد قال أحسن القائلين: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ «1» ، والاستثناء واقع على إعطاء الإحاطة بشيء من شهادة علمه، بنورٍ ثاقبٍ من وصفه، وشعاع لائحٍ من سبحاته، إذا شاء، وذلك إذا أخرجت النفس من الروح، فكان روحانياً، خُروجَ الليلِ من النهار. هـ.
ثم تمّم الجواب عن اقتراحهم الآيات، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
قلت: وَإِنْ ما: شرطية، اتصلت ما الزائدة بأن الشرطية للتأكيد، والجواب: فَإِنَّما ... إلخ، أو: فلا تحتفل فإنما ... إلخ، ولا مُعَقِّبَ: في موضع الحال، أي: يحكم نافذاً حكمه، كقوله: جاء زيد لا سلاح معه، أي: حاسرا.
ومَنْ عِنْدَهُ: عطف على بِاللَّهِ.
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم تسكيناً له: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب الذي استعجلوه، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن ترى ذلك، فلا تحتفل بشأنهم، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ للرسالة لا غير، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ: المجازاة. والمعنى: كيفما دار الحال دُرْ معه، أريناك بعض ما أوعدناهم في حياتك، أو توفيناك قبله، فلا تهتم بإعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم فإنا فاعلون ذلك لا محالة، وهذا طلائعه، فقد فتحنا عليك كثيراً من بلادهم ونقصناها عليهم.
__________
(1) من الآية: 255 من سورة البقرة.(3/38)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي: أرض الكفرة، نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتحه على المسلمين منها، فيخافوا أن نُمَكّنك من أرضهم، وتنزل بساحتهم، منصوراً عليهم، فإذا نزلتَ بساحتهم، ولم يخضعوا لك، فساء صباح المنذرين. وقيل: الأرض جنس، ونقصها بموت الناس، وهلاك الثمرات، وخراب البلاد، وشبه ذلك. وذلك مقدمات العذاب الذي حَكَمَ به عليهم، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: لا راد له. والمعقب: الذي يعقب الشيء بالأبطال، ومنه قيل لصاحب الدَيْن: معقب لأنه يعقب غريمه للاقتضاء، والمعنى: أنه حكم للأسلام بالإقبال، وعلى الكفرة بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيحاسبهم عما قليل في الآخرة، بعد ما عذَّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم، وبمن تبعهم، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، إذ لا يُؤبه بمكرٍ دون مكره، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. سَمَّى العقوبة باسم الذنب للمشاكلة، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فينفذ جزاءها. وَسَيَعْلَمُ الكافر «1» أي: جنس الكافر، بدليل قرأءة: «الْكُفَّارُ» ، لِمَنْ هي عُقْبَى الدَّارِ أي: لمن تكون العاقبة في الدارين، دار الفناء ودار البقاء، هل لأهل الإسلام المعد لهم دار السلام؟
أو للكفار المعد لهم دار البوار؟. قال البيضاوي: وهذا كالتفسير لمكر الله بهم، واللام تدل على أن المراد بالعُقبى العاقبة المحمودة، مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت. هـ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء اليهود: لَسْتَ مُرْسَلًا، ولم نجد لك ذكراً في كتابنا، ولا ما يشهد لك عندنا. قال تعالى: قُلْ لهم: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها منكم، ولا من غيركم. وَيشهد لي أيضاً: مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ الأول العلم الحقيقي، كعبد الله بن سلام، ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين علموا صفته صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، وعلماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن، وما احتوى عليه من النظم المعجز، والعلوم الغيبية الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم.
أو علم اللوح المحفوظ، وهو الله، أي: كفى بالله الذي لا يستحق العبادة غيره، وبمن لا يعلم ما فى اللوح المحفوظ إلا هو، شهيداً بيننا. ويؤيده قراءة مَن قرأ: «وَمَنْ عِنْدَهُ» بكسر الميم. وعلم الكتاب، على الأول: مرفوع بالظرف فإنه معتمد على الموصول. ويجوز أن يكون مبتدأ، والظرف خبره. وهو متعين على الثاني. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد قال تعالى في الحديث القدسي: «مَنْ آذى لي وليّاً فقد آذَنَ بالحَرْب» . وجرت عادة الله تعالى أن ينتقم لأوليائه، ويغار عليهم، ولو بعد حين، فإذا أُوذي أحدُهم، واستعجل ذلك يقول له الحق تعالى ما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك، فليس الأمر بيدك، فإنما عليك بلاغ ما جاء به
__________
(1) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «الكفار» جمع تكسير. وقرأ الباقون. (الكافر) على الإفراد ... انظر الإتحاف (2/ 163) .(3/39)
نبيك من نصح العباد، وإرشادهم إلى معالم دينهم، وتصفية بواطنهم، وعلينا الحساب فنُجازي مَنْ أقَْبَلَ ومَنْ أدْبَرَ. ومن جملة الانتقام: حَبسُ الأمطار، ونقص الثمار، وتخريب البلاد، وكثرة موت العباد، فتنقص الأرض من أطرافها. أفلم يعتبروا بذلك، ويقصروا عن مكرهم بأولياء الله؟.
وقد مكر الذين من قبلهم بأولياء زمانهم، فلم يغنوا شيئاً، فَمَكَرَ الله بهم، وخذلهم عن طاعته، وسيعلم أهل الإنكار لِمن تكون عاقبة الدار. ويقول الذين كفروا بخصوصية وليّ من أولياء الله: لست وليّاً. فيقول لهم: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم، ومن عنده علم الخصوصية، وهم: السادات الصوفية، فلا يعرف الوليَّ إلا وليُّ مثله، ولا يعرف أهلَ الخصوصية إلا مَنْ له الخصوصية. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.(3/40)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
سورة ابراهيم
مكية. وهى إحدى وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «1» ، مع قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ فإنه تصريح بالشهادة له. أو: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، على تفسيره بالقرآن، مع قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر ...
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)
الألف: آلاؤه، واللام: لطفه، والراء: رحمته. فكأنه يقول: بآلائنا ولطفنا ورحمتنا أنزلنا إليك كتابنا، ولذلك رتَّب عليه قوله:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ...
قلت: (كتاب) : خبر، أي: هذا كتاب، و (بإذن) : متعلق بتُخرج، أو حال من فاعله، أو مفعوله. و (إلى صراط) : بدل من (النور) . (الله الذي) من رفعه فعلى الابتداء، والموصول خبره، أو خبر عن محذوف، ومن خفضه فبدل من (العزيز) ، و (الذين يستحبون) : صفة للكافرين أو نصب، أو رفع على الذم.
يقول الحق جلّ جلاله: أيها الرسول المحبوب، هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى العمل به، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيقه وهدايته وتسهيله، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي: لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفي ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سائله، بل تحمد عاقبته.
ثم ذكر الموصوف بهما بقوله: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما في السمواتِ وما في الأرض مُلكاً وعبيداً. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به،
__________
(1) من الآية 43 سورة الرعد.(3/41)
فقال: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ بكتابه، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم، مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، والويل: كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك، أي: هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل: وادٍ في جهنم.
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يختارونها عَلَى الْآخِرَةِ، فإنَّ من أحب شيئاً اختاره وطلبه، وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويقهم عن الإيمان، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: ويبغون لها زيغاً، ونُكُوباً عن الحق، ليتوصلوا للقدح فيها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: في تلف بعيد عن الحق، بحيث ضلوا عن الحق، وبعدوا عنه بمراحل. والبُعد في الحقيقة: للضال، ووُصف به فعله للمبالغة.
الإشارة: قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى أنوار متعددة، أولها: ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعِفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون. وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً، وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا الترقي في شهود الأسرار ابداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنما له الإخراج من أحد هذه الأشياء فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون، أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق بعيد. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان الإخراج من هذه الظلمات لا يكون إلا بالمقال والحال، بعث الله الرسل، وورثتهم من الأولياء الداعين إلى الله بلسان قومهم، كما قال تعالى:(3/42)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
[سورة إبراهيم (14) : آية 4]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ قبلك إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، وأنت بعثناك بلسان قومك. وإنما قال: بلسان قومه، ولم يقل بلسان أمته لأن الأمة قد تكون أوسع من قومه، كما فى حق نبينا- عليه الصلاة والسلام- فقد بُعث إلى العرب والعجم، والجن والإنس، فقومه الذين يفهمون عنه: يُتَرْجُمِونَ إلى من لا يفهم، فتقوم الحجة عليهم. وكذلك إعجاز القرآن يُدركه أهل الفصاحة والبلاغة، فإذا وقع العجز عن معارضته منهم قامت الحجة على غيرهم، كما قامت الحجة في معجزة موسى عليه السلام بعجز السحرة، وفي معجزة عيسى بعجز الأطباء.
ثم بيَّن الحكمة، في كون الداعي لا يكون إلا بلسان قومه، بقوله: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما أُمروا به فيفهمونه عنه بسرعة، ثم ينقلونه ويترجمونه لغيرهم، فتقوم الحجة عليهم ولذلك أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولاً، فإذا فهموا عنه بلّغوا إلى غيرهم. قال البيضاوي: ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز، لكن ادى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها، والعلوم المتشعبة منها، وما في إتعاب القرائح وكد النفس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. هـ.
فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- إنما عليهم البيان بلسانهم، والهداية بيد ربهم، ولذلك قال تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ إضلاله، فيخذله عن الإيمان، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق له، وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره، فلا يُغلَب على مشيئته، الْحَكِيمُ في صنعه، فلا يضل ولا يهدي إلا لحكمة أرادها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما بعث الله وليّاً داعياً إلا بلسان قومه، وقد يخرق له العادة، فيطلعه على جميع اللغات، كما قال المرسى رضي الله عنه: من بلغ هذا المقام لا يخفى عليه شيء. وذلك من باب الكرامة كما كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم معجزة له صلى الله عليه وسلم فقد اتسع علمه- عليه الصلاة والسلام- فأحاط بحقائق الأشياء وأسمائها ومفهوماتها، وأصول اللغة وفروعها، فعلم ما علمه سيدنا آدم عليه السلام، أو أكثر، وإلى ذلك أشار القطب ابن مشيش في تصليته المشهورة بقوله: «وتنزلت علوم آدم فإعجز الخلائق» . وقال البوصيري في همزيته:
لَكَ ذَاتُ العُلوم مِنْ عالِم الغِيْ ... بِ ومنها لآدم الأسماء
ولمّا كان علاج موسى عليه السلام في إخراج أمته من الظلمات إلى النور، قريبا من علاج نبينا- عليه الصلاة والسلام- ذكره بإثره، كما فعل فى سورة طه، فقال:(3/43)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قلت: (أَنْ أَخْرِجْ) : إما تفسيرية لا محل لها، أي: وقلنا: أن أخرج لأن في الإرسال معنى القول، أو على إسقاط الخافض، أي: بأن أخرج فإنَّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر، فيصح أن توصل بها «أَنْ» الناصبة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا كاليد والعصا، وسائر معجزاته التسع، وقلنا له:
أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ بني إسرائيل، وفرعون وملأه مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أما فرعون وملؤه فظاهر، وأما بنو أسرائيل فقد كان فرعون فَتَنَ جُلّهم، وأضلهم مع القبط، فكانوا أشياعاً متفرقين، لم يبق لهم دين. فإن قلتَ: إذا كان موسى عليه السلام مبعوثاً إلى القبط، فِلمَ لَمْ يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام؟ فالجواب: أنه لما بلَّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين.
ثم أمره بالتذكير فقال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ: بوقائعه التي وقعت على الأمم الدراجة قبلهم، وأيام العرب:
حروبها. أو ذكِّرهم بِنَعم الله وآلائه، وبنقمه وبلائه فالأيام تطلق على المعنيّين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ في بلائه، شَكُورٍ لنعمائه. وإنما خصه لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء، وأُفِيض عليهم من النعماء، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل: المراد لكل مؤمن، وإنما عبَّر عنهم بذلك تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان. قاله البيضاوي.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ: حين أنجاكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: رهطه، يَسُومُونَكُمْ: يُولونكم سُوءَ الْعَذابِ: أقبحه، يستعبدونكم ويُكلفونكم مشاق الأعمال، وَيُذَبِّحُونَ(3/44)
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، قال البيضاوي: المراد بالعذاب هنا غير المراد به في سورتَيْ البقرة والأعراف لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل، ومعطوف عليه هنا، فهو هنا إما جنس العذاب، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. هـ. وَفِي ذلِكُمْ الامتحان بَلاءٌ أي: ابتلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ اختبركم به حتى أنقذكم منه، ليعظم شكركم، أو: في ذلك الإنجاء بلاء، أي: نعمة واختبار عظيم، لينظر كيف تعملون في شكر هذه النعمة.
ولذلك قال لهم موسى عليه السلام: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي: آذن، بمعنى أعلمَ، كتوعَّد وأوعد، غير أنَّ تأذن أبلغ من آذن لما في تفعّل من التكلف والمبالغة، أي: أعلمكم، وقال: والله لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بني إسرائيل ما أنعمتُ به عليكم من الإنجاء وغيره، بالإيمان والعمل الصالح، وبالإقرار باللسان، وإفراد النعمة للمنعم بالجَنَان، لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة على نعمة. وهذا الخطاب، وإن كان لبني إسرائيل، يعم جميع الخلق، والزيادة إما من خير الدنيا، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء فتكون الزيادة في الضراء، إما في الثواب أو في التقريب. ثم ذكر ضدَّه فقال: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ما أنعمتُ به عليكم، وقابلتموه بالكفر والعصيان، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي: ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويُعرض بالوعيد. هـ. فصرح بوصول الزيادة إليهم، ولم يقل: أعذبكم عذاباً شديداً، بل عظم عذابه في الجملة.
وَقالَ مُوسى، في شأن من لم يشكر: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم، حَمِيدٌ: محمود على ألسنة خلقه، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده حالاً أو مقالاً، فهو غني أيضاً عن حمدكم، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام، وعرضتموها لشديد الانتقام. وبالله التوفيق.
الإشارة: ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين: الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين: (لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر) ، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية:
تلدّ لِيَ الآلامُ إذْ كُنْتَ مُسقِمي ... وَإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ(3/45)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه في كتاب القصد: «رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت: اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي: قل: وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم» .
ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 9]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قلت: (شك) : فاعل بالمجرور، و (فاطر) : نعت له.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن نبيه موسى عليه السلام في تذكير قومه، أو من كلامه تذكيراً لهذه الأمة:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: ما جرى عليهم حين عصوا أنبياءهم قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم شعيب، وأمم كثيرة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ لكثرة عددهم، واندراس آثارهم. ولذلك قال ابن مسعود: كذب النسَّابُون. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ليعضوا عليها غيظاً مما جاءت به الرسل، كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «1» . أو:
وضعوها عليها تعجباً منهم، أو: استهزاءً بهم، كمن غلب عليه الضحك. أو إسكاتاً للأنبياء، وأمراً لهم بإطباق الأفواه، أو: ردوها في أفواه الأنبياء، يمنعونهم من التكلم، أو: ردوا أياديهم، أي: نِعَم الأنبياء عليهم، وهي: مواعظهم والشرائع التي أتوهم بها من عند الله، ردوها في أفواه الأنبياء حيث كذبوها، ولم يعملوا بها، كما تقول لمن لم يمتثل أمرك: ترك كلامي في فمي وذهب. وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
__________
(1) من الآية 119 من سورة آل عمران.(3/46)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من التوحيد والإيمان، مُرِيبٍ: مُوقع في الريبة، أو: ذي ريبة، وهو: قلق النفس بحيث لا تطمئن إلى شيء.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 10 الى 12]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
فأجابتهم الرسل عن دعواهم الشك في الربوبية، قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ: أفي وجوده شك، أو في ألوهيته، أو في وحدانيته شك؟ قال البيضاوي: أُدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه، لا في الشك، أي: إنما ندعوكم إلى الله، وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة، وظهور دلالتها عليه. هـ. وأشار إلى ذلك بقوله: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: خالقهما ومبدعهما على هذا الشكل الغريب، والإتقان العجيب إذ لا يصدر إلا من إله عظيم القدرة، باهر الحكمة، واحد في ملكه لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» ، وهو يَدْعُوكُمْ إلى الإيمان والتوحيد، ببعثه إيانا، والتصديق بنا، لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إن آمنتم، أي: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهو ما تقدم قبل الإسلام، ويبقى ما يذنب بعده في المشيئة، أو: ما بينكم وبينه دون المظالم.
والجمهور: أنه يغفر للكافر ما سلف مطلقاً، وقيل: «مِنْ» : زائدة، على غير مذهب سيبويه. قال البيضاوي: وجيئ بمن، في خطاب الكفرة، دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين، ولعل المعنى فيه أن المغفرة، حيث جاءت في خطاب الكفار، مرتبة على الإيمان، وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة، والتجنب عن المعاصي، ونحو ذلك فيتناول الخروج عن المظالم. هـ. وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى: إلى وقت سماه الله، وجعله آخر أعماركم. وقال الزمخشري تبعاً للمعتزلة: يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت، وهذا على قولهم بالأجلين. وأهل السنة يأبون هذا فإن الأجل عندهم واحد محتوم، والله تعالى أعلم.
الإشارة: التفكر والاعتبار أفضل عبادة الأبرار، وفي الحديث: «تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» .
فيتفكر العبد فيما سلف قبله من القرون الماضية والأمم الخالية، كيف رحلوا عن ديارهم المشيدة، وفروشهم الممهدة، واستبدلوها بضيق القبور، وافتراش التراب تحت الجُنوب، وجاءهم الموت وهم غافلون، وتجرعوا كأسها وهم كارهون، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى مافاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم. فيوجب هذا التفكرُ الانحياش إلى الله، والمسارعة إلى طاعة الله، والزهد فى هده الدار الفانية، والتأهب للسفر إلى الدار الباقية فيفوز فوزاً عظيماً. وفي تكذيب الصادقين تسلية للعارفين، وللمتوجهين من المريدين، إذا قُوبلوا بالإيذاء والتكذيب، وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 22 من سورة الأنبياء.(3/47)
ثم ذكر ما أجاب به الكفار رسلهم، فقال:
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا يقول الحق جلّ جلاله: وقال الذين كفروا لرسلهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل لكم علينا، فلم تختصون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث رسلاً إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل، كالملائكة، أو: ما أنتم إلا بشر، والبشر لا يكون رسولاً. قال ابن جزي: يحتمل أن يكون استبعاداً لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة، أو يكون إحالة لنبوة البشر، والأول أظهر لطلبهم البرهان بقولهم: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، ولقول الرسل: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. هـ. ثم قالوا للرسل: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام بهذه الدعوى، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: ببرهان بيِّن يدل على فضلكم، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هي مرتبة النبوة. كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج، فاقترحوا عليهم آية أخرى تعنتاً ولجاجاً.
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ: ما نحن إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة والرسالة، فمَنَّ علينا بذلك، وإن كنا بشراً مثلكم، سلّموا لهم مشاركتهم في الجنس، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومَنَّهُ عليهم. وفيه دليل على أنَّ النبوة مواهب عطائية لا كسبية. ثم أجابوهم عما اقترحوا بقولهم: وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
، فليس لنا الإتيان بآيات، ولا في قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله، يخص من يشاء بها، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فلنتوكل نحن عليه، في الصبر على معاناتكم ومعاداتكم. عمموا الأمر بذكر المؤمنين للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً، ألا ترى قولهم: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي: أيُّ عذر لنا في ترك التوكل على الله؟ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي: طرقنا التي نعرفه بها، فنوحده، ونعلم أن الأمور كلها بيده، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا: على أذاكم حتى يحكم اللهُ بيننا، وهو جوابُ عن قسم محذوف، أكدوا به توكلهم، وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي: فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم، المسبب عن إيمانهم. قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري.(3/48)
قال ابن جزي: إن قيل: لِمَ كرر الأمر بالتوكل؟ فالجواب عندي: أن قوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: حجة ظاهرة، فتوكل الرسل في ورود ذلك إلى الله. وأما قوله: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فهو راجع إلى قولهم: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي: نتوكل على الله في دفع أذاكم. هـ. وهو حسن، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضي أن التوكل حاصل، والمطلوب الدوام عليه، وقد يقال:
إنما عبَّر ثانيا بفظ المتوكلين كراهية إعادة اللفظ بعينه، أي: من كان متوكلاً على الله فإنه الحقيق بذلك. وقال في القوت: أي: ليتوكل عليه في كل شيء مَنْ توكل عليه في شيء. وهذا أحسن وجوهه. قال في الحاشية: والوجه الآخر: وعليه فليتوكّل، في توكله مَنْ توكل عليه في الأشياء لأن الوكيل في كل شيء واحد، فينبغي أن يكون التوكل في كل شيء واحد. هـ.
الإشارة: سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية، ولا فرق بين خصوصية النبوة، والولاية. سترها الحق تعالى غيرةً عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها فلا يطلعَ عليها إلا مَن سبقت له من الله العناية، وهبت عليه ريح الهداية. وفي الحِكَم: «سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية» . وقال أيضاً: «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» . قال في لطائف المنن: فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسى رضي الله عنه يقول: معرفة الولي أصعب من معرفة الله فإنَّ الله معروف بكماله وجماله، وحتى متى تعرف مخلوقاً مثلك، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب؟ قال فيه: وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
قلت: ومعنى: «طوى عنك وجود بشريته» هو: عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته، التي هي محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي، ولا عن النبي كالأكل والشرب، والنوم والنكاح، والضعف والفقر، وغير ذلك من نعوت البشر لأنها في حقهم رداء وصوان لستر خصوصيتهم صيانةً لها أن تتبدل بالإظهار، وينادى عليها بلسان الاشتهار، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق.
وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله: «لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية» .
وقال صاحب كتاب (أنوار القلوب) : لله سبحانه عباد ضنَّ بهم عن العامة، وأظهرهم للخاصة، فلا يعرفهم إلا شكل، أو محب لهم، ولله عباد ضنَّ بهم عن الخاصة والعامة، ولله عباد يُظهرهم في البداية ويسترهم في النهاية، ولله عباد يسترهم في البداية ويُظهرهم في النهاية، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم، حتى يلقوه بما أودعهم منه في قلوبهم، وهم شهداء الملكوت الأعلى، والصفْح «1» الأيمنِ مِنَ العرش الذين
__________
(1) الصفح: الجنب.(3/49)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
يتولى الله قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها مُشْرِقَةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عزّ وجل. هـ.
وقال أبو يزيد رضي الله عنه: أولياء الله تعالى عرائس، ولا يَرَى العرائسَ إلا من كان مَحرماً لهم، وأما غيرهم فلا. وهم مخبأون عنده في حجاب الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة. هـ. وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم، من قوله: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ، ومتابعة الهوى، وحب الدنيا، ومن قولهم: (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تخويف الكفار للرسل بإخراجهم من الديار، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
قلت: (وَاسْتَفْتَحُوا) : معطوف على (فَأَوْحى) إن كان الضمير للرسل، واستئناف إن كان للكفار. و (يُسْقى) :
معطوف على محذوف، أي: يلقى فيها ويسْقى، و (صَدِيدٍ) : عطف بيان لماء، و (يَتَجَرَّعُهُ) : صفة لماء، أو حال من ضمير (يُسْقى) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ تخويفاً لهم: والله لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، حلفوا ليكونن أحد الأمرين إما إخراج الرسل من ديارهم، أو عودهم إلى ملتهم، والعود هنا بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم، كما تقدم في قصة شعيب عليه السلام. ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول، ولمن آمن معه، فغلّب الجماعة على الواحد، وقال الذين كفروا في كل عصر لكل رسول أتاهم: لنخرجنك، أو لتُعودنَّ في ملتنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي: إلى رسلهم، مجتمعين أو مفترقين- على القولين- وقال في إيحائه: والله لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فتخلى بلادهم، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: أرضهم وديارهم،(3/50)
لقوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «1» . ذلِكَ الميراث والإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي أي: قيامه للحساب بين يدي في القيامة، أو قيامي على عبادي، وحفظي لأعمالهم، واطلاعي على سرهم وعلانيتهم. أو خاف عظمة ذاتي وجلالي، وَخافَ وَعِيدِ أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفار.
وَاسْتَفْتَحُوا أي: استفتح الرسل: طلبوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم، كقوله:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «2» واستفتح الكفرة واستنصروا على غلبة الرسل، على نحو قول أبي جهل في غزوة بدر: اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، أي: أهلكه. أو: استفتح الفريقان معاً، فكل واحد منهما سأل الله أن يُهلك المبطل وينصر المحق. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن: بكسر التاء على الأمر للرسل بطلب الفتح. وَخابَ: خسر كُلُّ جَبَّارٍ: متكبر على الله، عَنِيدٍ: معاند للحق ولمن جاء به. وهذا هو الفتح الذي فتح لهم، وهو: خيبة المتكبرين وفلاح المؤمنين.
ثم ذكر مآل خيبتهم بقوله: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي: أمامه وبين يديه، فإنه مرْصد بها، واقف على شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها بعد الموت فيلقى فيها، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، وهو ما يسيل من جلود الكفار من القيح والدم. يَتَجَرَّعُهُ: يتكلف جرعه، أي: زهوقه في حلقه. رُوي: «أن الكافر يؤتى بالشربة منه فيتكرهها، فإذا أدْنيت منه شوت وجهه، وسقطت فيها فروة رأسه، فإذا شربها قطعت أمعاءه» «3» . فيتجرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي: لا يقارب أن يُسيغه، أي: يبتلعه بصعوبة فكيف يُسيغه، بل يكلف به ويطول عذابه ثم يبتلعه لأن نفي «كاد» يقتضي الوقوع. والسوغ: جواز الشراب على الحلق بسهولة، وهذا بخلافه. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي: أسباب الموت مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أجل الشدائد التي تُحيط به من جميع الجهات. أو: من كل مكانٍ من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجليه. وَما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح، وَمِنْ وَرائِهِ: من بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أي: يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه، وقيل: هو الخلود في النار، وقيل: حبس الأنفاس في الأجساد. قاله الفضيل بن عياض. وقيل: قوله: وَاسْتَفْتَحُوا: كلام منقطع عن قصة الرسل، بل نزل في أهل مكة حين استفتحوا بطلب المطر في السنة التي أخذتهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فخيب الله رجاءهم ولم يسقهم، وأوعدهم أن يسقيهم- بَدَلاً من سقياهم المطر- صديدَ أهل النار. قال معناه البيضاوي.
__________
(1) من الآية 137 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 89 من سورة الأعراف.
(3) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 265) والترمذي فى (أبواب صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار) والحاكم فى المستدرك (2/ 351) وصححه ووافقه الذهبي، عن أبى أمامة مرفوعا.(3/51)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
الإشارة: ما خوَّفت الكفارُ به رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم، قال التجيبي، في الإنالة، لما تكلم على خفاء الأولياء، قال: ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل- عليهم الصلاة والسلام- وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ، ويذنب ويتوب، لكن لما سُطرت مناقب الرجال، وكراماتهم، ولم تذكر سيئاتهم، وطال العهد بهم، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض، والمسلّم والمنتقد. ثم قال: فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم، وقد أُخْرِجَ أبو يزيد البسطامي من بسطام مراراً، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري للسلطان، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء، وقُبض على الحلاج، وضُرب، ومُثَّل به، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت: وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا، فقد خُوفنا بالضرب مراراً، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا، وقال لنا محتسبُهُم: والله لنخرجنكم من مدينتنا، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى، فقلت له: حبّاً وكرامة، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا، كتب لنا بهذه الآية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ.... الخ. وكل آية في الكفار تَجُر ذيلها على مَن تشبه بهم، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.
ثم ضرب مثلا لعمل الكفار، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
قلت: (مَثَلُ) : مبتدأ، والخبر محذوف عند سيبويه، أي: فيما يتلى عليكم مثلهم. وقال الفراء: الخبر ما بعده، وهو جملة: (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) ، أو (أَعْمالُهُمْ) : بدل، والخبر: (كَرَمادٍ) ، وعلى قول سيبويه تكون جملة: (أَعْمالُهُمْ) :
مستأنفة لبيان مثلهم.
يقول الحق جلّ جلاله: مَثَلُ أعمال الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ في عدم الانتفاع بها وذهابها:
كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في الهوى بسرعة فِي يَوْمٍ عاصِفٍ: شديد ريحه. والعصْف: اشتداد الريح.
وصف به زمانه للمبالغة، كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم. شبه صنائعهم من الصدقة، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وعتق الرقاب، ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها- لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله، والتوجه بها إليه- بغبار طارت به الريح العاصفة فِي يَوْمٍ عاصِفٍ، لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْءٍ من الانتفاع بها لحبوطها، وتلاشيها، فلا يقدرون منها على شيء، ولا يجدون ثوابها،(3/52)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
وحيل بينهم وبين النفع، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه، فهو كما قيل: فذلكة التمثيل. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون، هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي: هو الغاية في البُعد عن طريق الحق.
الإشارة: العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص في أوله، والإسرار في آخرِه، والتبري فيه من الحول والقوة، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الإبقَاءَ عَلَى العمل أشَدُّ مِنَ العمل، وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ العمل فيُكتب له عَمَلٌ صالحٌ، معمول به في السر، يضعِّف أجره بسبعين ضِعفاً، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُعْلنه، فيكتب علانيته، ويمحى تضعيف أجره كله، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُحب أن يُحمد عليه، فيُمحى من العلانية ويكتب رياء، فاتقى الله امرؤ صان دينه، وإن الرياء شرك» . رواه البيهقي «1» .
وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب، كعبادة التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، أو نية صالحة وهدى صالح، أو زهد في القلب، وورع وصبر، وشكر وحلم، وغير ذلك من أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، بل يتولى جزاءه أكرمُ الأكرمين. ولذلك قيل: ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام: «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» ولهذا أمر به- أي:
بالتفكر- بعد ضرب المثل للعمل الظاهر، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو أيها السامع، أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لتدل على الحق، أو بالوجه الذي يحقَّ ان تُخلق لأجله، وهو التعريف بخالقها، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام، ولذلك قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، أي: إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقاً آخر. فإنَّ مَن قدر على إيجاد صورهم، وما تتوقف عليه مادتهم، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي: بمتعذر، أو ممتنع لأن قدرته عامة التعلُّق، لا تختص بمقدور دون آخر، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يُفرد بالعبادة والقصد رجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه يوم الجزاء، الذي أشار إليه بقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ ... إلخ.
__________
(1) فى شعب الإيمان (باب فى إخلاص العمل لله وترك الرياء ح 6813، ح 6864) من حديث أبى الدرداء، مرة بلفظ (إن الإبقاء) ومرة بلفظ «إن الاتقاء» .(3/53)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
الإشارة: ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح، لشهود الحق في مقام التعريف، وأرض النفوس لعبادة الحق في مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح في الصورة الخلقية، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر، حتى تترقى إلى عالم الأرواح، فلا تشهد إلا الأرواح في محل الأشباح وهذا من أعظم أسرار الربوبية، التي يطلع عليها العارفون بالله، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام كُوشفوا بأسرار الذات العلية، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل، فلا يغيبون عن الله ساعة، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء.
وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لي ثلاثون سنة، ما غاب عني الحق طرفة عين. وقال أيضاً:
لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه: مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه ... الخ كلامه.
نفعنا الله بهم.
وأهل هذا المقام موجودون في كل زمان، فإن القادر في زمانهم هو القادر في زماننا، وفي قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ.. الآية، إشارة إلى هذا، أي: إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم، ويأت بخلق جديد، تُشاهدون به أسرار ربكم، وما ذلك على الله بعزيز. قال أبو المواهب التونسى رضي الله عنه: حقيقة الفناء محو واضمحلال، وذهاب عنك وزوال. هـ. فيبرزون من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، كما قال تعالى:
[سورة إبراهيم (14) : آية 21]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)
قلت: (تَبَعاً) : جمع تابع، أو مصدر نُعت به للمبالغة على حذف مضاف، أي: كنا لكم ذا تبع، و (مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) : من، الأولى للبيان، والثانية زائدة، هذا المختار. و (مَحِيصٍ)
: إما مصدر، أو اسم مكَان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ أي: لأمر الله جَمِيعاً، فيبرزون من قبورهم يوم القيامةِ حُفَاةً عراة، لفصل القضاء، أو: برزوا لله على ظنهم فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية، ويظنون أنها تخفى على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم. وإنما عبَّر بالماضي لتحقق وقوعه. فيقول حينئذٍ الضُّعَفاءُ وهم:
الأتباع، لضعف رأيهم عندهم، لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ(3/54)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
تَبَعاً في الكفر، وتكذيب الرسل، والإعراض عن نصحهم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: فهل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟.
قالُوا، أي: رؤساؤهم، في جوابهم واعتذارهم: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ أي: لو هدانا الله للإيمان، ووفقنا إليه لهديناكم، ولكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم، لكن سُدَّ دوننا طريق الخلاص، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا، أي: مستوٍ علينا الجزع والصبر، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ: من مهرب ومنجى، ويحتمل أن يكون قوله: سَواءٌ عَلَيْنا.. إلخ، من كلام الفريقين معاً، ويؤيده ما رُوي أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثم يقولون: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
الإشارة: إذا ترقى العارفون، ومَن تعلق بهم، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وبرزوا لشهود الله في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، وتنزهوا في حضرة الأسرار، ورُفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار، بقي ضعفاء اليقين الذين تعوقوا عن صُحبتهم، في غم الحجاب، وتعب الحس والخواطر، مسجونين في سجن الأكوان، فيقولون لمن عَوَّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه: إنا كنا لكم تبعا، فهل تمنعون شيئاً مما نحن فيه من غم الحجاب، وسقوط الدرجة؟ فيقولون: لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا، وفزعوا على ما فاتهم، فلا ينفعهم ذلك فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. رُوي أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسفلين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم.
وسيأتي- إن شاء الله- الحديث عند قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» .
ثم ذكر خطبة الشيطان على أهل النار، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 22]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
قلت: (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) : الاستثناء منقطع، ويجوز الاتصال، و (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) : مصدرية، أو موصولة اسمية، و (مِنْ قَبْلُ) : يتعلق بأشركتمون، وعلى الثاني: بكفرت.
__________
(1) الآية 17 من سورة السجدة.(3/55)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الشَّيْطانُ، أي: إبليس الأقدم لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي: أمر الحساب، وفرغ منه، ودخل أهل الجنةِ الجنة، وأهلُ النارِ النارَ. رُوي أنه يُنصب له منبر من نار، فيقوم خطيباً في النار على أهل النار، يعني على الأشقياء من الثقَلين، فيقول في خطبته: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، أي: وعداً حقاً أنجزه لكم، وهو وعد البعث والجزاء، وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل، وهو: ألاَّ بعث ولا حساب، وإن كان واقعاً شيء من ذلك فالأصنام تشفع لكم، فَأَخْلَفْتُكُمْ، أي: فظهر خلاف ما وعدتكم، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه مجازاً. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إياكم إليها بتسويل وتزيين، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، وهو ليس من جنس التسلط، لكنه تهكم بهم، على طريقة قوله:
تحَيَّةُ بَينِهِم ضَربٌ وَجِيعٌ «1» .
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: ما تسلطت عليكم بالقهر، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتي، فَلا تَلُومُونِي فإنَّ من اشتهر بالعداوة لا يُلام على أمثال ذلك، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني حين دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة في الآية على أن العبد يخلق أفعاله لأن كسب العبد مقدر في ظاهر الأمر، لقيام عالم الحكمة، وهو رداء لعالم القدرة، فالقدرة تبرز، والحكمة تستر، وهو ما يظهر من اختيار العبد، ولا اختيار له في الحقيقة قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ «2» ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «3» .
ثم قال لهم: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ: بمغيثكم من العذاب، وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ: بمغيثي، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، أي: إني كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم في دار الدنيا، بمعنى: تبرأت منه واستنكرته، كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «4» . أو: أني كفرت بالله الذي أشركتموني معه في طاعته من قبل، حين امتنعْت من السجود. والأول أظهر.
قال تعالى: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان، قال البيضاوي: وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، وإيقاظ لهم، حتى يُحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. هـ.
الإشارة: ينبغي لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه ان تصغي بسمع قلبك إلى هذه المقالة، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان، فتبادر إلى خلاص نفسك مادمت في قيد حياتك، قبل حلول رمسك «5» ، قبل أن تزل
__________
(1) عجز بيت أوله: وخيل قد دلفت، لها نجيع. [.....]
(2) من الآية 112 من سورة الأنعام.
(3) من الآية 30 من سورة الإنسان، ومن الآية 29 من سورة التكوير.
(4) من الآية 14 من سورة فاطر.
(5) أي: دخول القبر.(3/56)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
بك القدم، حيث لا ينفعك الندم، فتحاسب نفسك، وتتدبر في عواقب أمرك، وتصحح عقائد توحيدك، وتعمل جهدك في طاعة ربك، وتجتنب مواقع غرور الشيطان، وتعتمد على فضل الكريم المنان، وتجعل الموت نصب عينيك، وما هو مستقبل تجعله حاصلاً، وما هو متوقع تجعله واقعاً فكل ما هو آت قريب، و (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) «1» . وفي الحكم: «لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها» . وبالله التوفيق.
ثم شفع بأضداد من غرّهم الشيطان، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 23]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا، أي: أدخلهم الله على أيدي الملائكة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، فيدخلونها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره، فيأذن للملائكة أن تُدخلهم حين يقضي بينهم.
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي: تحييهم الملائكة، أو الخدام، حين يتلقونهم يسلمون عليهم، ويهنؤنهم، على ما في الحديث.
الإشارة: في ذكر هذه الآية بعد خطبة الشيطان تنبيه على وجه الخلاص منه، حتى لا يكون من أهل خطبته، وهو تصحيح الإيمان وتقوية مواده، وهو ما ذكرنا قبل في مواد طمأنينة أهل الإيمان. وإن أسعده الله بصحبة عارف رقَّاه إلى شهود العيان، فلا يكون للشيطان ولا لغيره عليه سلطان، لتحقيق عبوديته، وارتقائه إلى شهود عظمة ربوبيته قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «2» ، وهم الذين رسخت في قلوبهم شجرة الإيمان، وارتفعت أغصانها إلى الرحمن، الذي أشار إليها بقوله:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
__________
(1) من الآية 134 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 42 من سورة الحجر.(3/57)
قلت: (كَلِمَةً طَيِّبَةً) : يجوز أن يكون مفعولاً بمحذوف، أي: جعل كلمة، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل، وأن تكون (كَلِمَةً) : بدلاً من (مَثَلًا) ، و (شجرة) : صفة لها، أو خبراً عن مضمر، أي: هي شجرة.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو أيها السامع، كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لأهل «لا إله إلا الله» ، وهم: أهل التوحيد، الذين رسخ التوحيد في قلوبهم، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها، ورسخ معناها في قلوبهم كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ: كالنخلة مثلاً، أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض، غائص بعروقه فيها، وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي: أعلاها. أو يريد الجنس، أي: فروعها وأفنانها في السماء، تُؤْتِي أُكُلَها:
تُعطى ما يؤكل من ثمرها كُلَّ حِينٍ وقَّته الله لإثمارها، فقيل: سنة، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء، واستدلوا بها على من حلف لا يُكلم أخاه حيناً لزمه سنة، وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وغيرهما:
كُلَّ حِينٍ أي: غدوة وعشية، ومتى أريد جناها. قلت: وهذا هو الظاهر.
واخْتُلف في هذه الشجرة الطيبة، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص، فقيل: غير معينة، وقيل: النخلة، وبه قال الجمهور. قال الشطيبي: وقيل: جوزة الهند، فإنها ثابتة الأصل، متصلة النفع، يكون طعمها أولاً لبناً، ثم عسلاً، ثم تنعقد طعاماً، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي، ثم يكون كالخل، ثم كالخمر، ثم كالزيت، كل هذا قبل عقد الطعم، وأما النخلة فهي: ستة أشهر طلع رخص، وستة أشهر رطب طيب، فنفعه متصل. وقال ابو حنيفة:
إنه ببلاد اليمن نوعٌ من التمر، يقال له: الباهين، يطعم السنة كلها. هـ. قلت: وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند، ووصفها كما قال الشطيبي، وقوله: «في النخلة ستة أشهر..» الخ، فيه نظر، وصوابه: ثلاثة، فإن المعاينة ترده.
والمشبه بهذه الشجرة: المؤمن الكامل الدائم نفعه، المتصل علمه، أوقاته معمورة بذكر الله، أو تذكير عباد الله، وحركاته وسكناته في طاعة الله، حيث أراد بها وجه الله، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.
ثم قال تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير فإنه تصوير للمعاني وتقريبها من الحس، لتفهم سريعاً.
ثم ذكر ضدها فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ) كمثل شجرة خَبِيثَةٍ، كالحنظلة مثلاً، اجْتُثَّتْ: استؤصلت، وأُخذت جثتها، وقلعت بالكلية (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) ، أي: قطعت من فوق الأرض لأن عروقها قريبة منه، ما لَها مِنْ قَرارٍ: استقرار. وهذا في مقابلة قوله: أَصْلُها ثابِتٌ. قال البيضاوي:(3/58)
واختُلف في الكلمة والشجرة ففُسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد- أي: (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) ، ودعوة الإسلام والقرآن، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى، والدعاء إلى الكفر، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك، فالكلمة الطيبة: ما أعرب عن حق، أو دعا الى صلاح، والكلمة الخبيثة: ما كان على خلاف ذلك. وفُسرت الشجرة الطيبة بالنخلة، ورُوي ذلك مرفوعاً، وبشجرة في الجنة، والخبيثة بالحنظلة، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك. هـ.
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وهو: لا إله إلا الله، أو كل ما يثبت في القلب، ويتمكن فيه من الحق، بالحجة الواضحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مدة حياتهم، فلا يزلون إذا افتتنوا في حياتهم، أو عند موتهم، وهي حسن الخاتمة، وَفِي الْآخِرَةِ عند السؤال، فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في القبر، وعند الموقف، فلا تدهشهم أهوال القيامة. روى أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثُمَّ تُعَادُ رُوحه في جَسَدِهِ، فَيَأتيهِ مَلَكانِ، فيُجْلِسَانهِ فِي قَبْرهِ، ويَقُولاَنِ لَه: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ نَبِيكَ؟ فيقول: رَبي الله، ودِيني الإسْلاَمُ، ونبيى محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مُنَادٍ من السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبْدِي. فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» «1» . قلت: والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي: هو أشبه شيء بحال النائم.
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد، فلا يهتدون إلى الحق، ولا يثبتون في مواقف الفتن. وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض، وإضلال آخرين، من غير اعتراض عليه ولا تعقيب لحكمه.
الإشارة: الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو: التوحيد الثابت في القلب، وفروعها: الفرائض والواجبات، وأغصانها: السنن المؤكدات، وأوراقها: المندوبات والمستحبات، وأزهارها:
الأحوال والمقامات، وأذواقها: الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها: العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمَن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذواقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّاره، تورق ولا تثمر، فهي شجرة إيمان مَن لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «2» . وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه بنحوه مطولا أبو داود فى (السّنة، باب المسألة فى القبر) والحاكم فى المستدرك (1/ 37) وصححه من حديث البراء بن عازب. وأصل الحديث فى الصحيحين.
(2) من الآية 35 من سورة المائدة.(3/59)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
ثم ذكر وبال مَن أنكر هذه النعمة- أعنى نعمة الإيمان- فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 30]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا شكر نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً بأن وضعوا الكفر مكان الشكر، أو: بدلوا نفس النعمة كفراً فإنهم لما كفروها سُلبت منهم، فصاروا تاركين لها مُحصلين للكفر مكانها كأهل مكة، خلقهم الله من نسل إسماعيل عليه السلام، وأسكنهم حَرَمه، وجعلهم خُدَّام بيته، وَوَسَّع عليهم أبواب رزقه، وعطف عليهم قلوب خلقه، وتمم شرفهم ببعْثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك، فقحطوا، وجاعوا حتى أكلوا الميتة، وأُسروا وقُتلوا يوم بدر، وصاروا كذلك مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر، وعن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب- رضى الله عنهما-: أنها نزلت في الأفجريْن من قريش: بني المغيرة، وبني أمية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ: من أطاعهم في الكفر والتبديل، أي: أنزلوهم دارَ الْبَوارِ: دار الهلاك، بحملهم على الكفر معهم. ثم فسرها بقوله: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها:
يحترقون فيها، وَبِئْسَ الْقَرارُ وبئس المستقر جهنم.
ثم بيَّن كفرهم، فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً: أشباهاً وأمثالاً، يعبدونها معه، لِيُضِلُّوا «1» عَنْ سَبِيلِهِ عن طريق التوحيد، أي: ليكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال، على القراءتين، أي: ليضلوا في أنفسهم، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال أو الإضلال كان غرضهم في اتخاذ الأنداد، ولكن لمَّا كان نتيجته وعاقبته جُعل كالغرض.
قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم الدنيوية، فإنها فانية، أو بعبادتكم الأوثان، فإنها من قبيل الهوى، والأمر للتهديد.
وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به، وان الأمرين كائنان لا محالة، فلا بد من وقوع تمتعهم، ولا بد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ، وأن المخاطب، لانهماكه فيه، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.
الإشارة: ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها، ومن أنكرها، وسدَّ بابها، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها، فقد بدل نعمة الله كفراً، وأحلَّ الناس- من تبعه- دار
__________
(1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء، وقرأ الباقون بضمها، من أضل. انظر: الإتحاف (2/ 169) .(3/60)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
البوار، وهي: الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرص والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب للمؤمن أشد من هذا في الدنيا؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه ذات يوم: إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين: قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النفس مجبولة على حب من أحسن إليها» . فقال له الشيخ: إنا لا نرى الإحسان إلاَّ مِن الله، ولا نرى معه غيره. هـ. بالمعنى.
ثم ذكر ضد أهل الشرك، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 31]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
قلت: (يُقِيمُوا) : جواب شرط مقدر، يتضمنه قوله: (قُلْ) ، تقديره: إن تقل لهم أقيموا يقيموا، ومعمول القول، على هذا، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول- عليه الصلاة والسلام-، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، وأنه كالسبب الموجب له، أي: مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل: جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي. وقال ابن عطية: إلا إن ضمّن (قُلْ) معنى: بلّغ أو أدَّ، فيصح أن يكون (يُقِيمُوا) : جواب أمره. و (سِرًّا وَعَلانِيَةً) : حالان، أو ظرفان، ومن قرأ: «لا بيع» بالبناء «1» فقد بنى «لا» مع اسمها بناء التركيب، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، خصهم بالإضافة إليه تشريفا لهم، وتنويهاً بقدرهم، وتنبيهاً على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد: يُقِيمُوا الصَّلاةَ التي هي عنوان الإيمان، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال، فرضاً ونفلاً، سِرًّا وَعَلانِيَةً أي:
مُسرين ومعلنين، أو في سر وعلانية، والأحب: إعلان الواجب، وإخفاء المُتَطَوَّع به، إلا في محل الاقتداء لأهل الإخلاص. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو ما يفدي به نفسه، وَلا خِلالٌ: ولا مخاللة ومودة تنفع في ذلك اليوم، حتى ينفع الخليلُ خليلَه، وإنما ينفع العملُ الصالح، كالإنفاق لوجه الله، وإقام الصلاة، وغير ذلك.
الإشارة: قد مدح الله هاتين الخصلتين: الصلاة والإنفاق، وأمر بهما في مواضع من القرآن لأنهما عنوان الصدق، أحدهما: عمل بدني، والآخر: عمل مالي. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب، واستفتاح لباب الغيوب، وهى
__________
(1) قرأ ابن كثير وابن عمرو ويعقوب «لا بيع فيه ولا خلال» وقرأ الباقون «لا بيع فيه ولا خلال» راجع الإتحاف (2/ 169) .(3/61)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
محل المناجاة، ومعدن المصافاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، وتُشرق فيها شوارق الأنوار، كما في الحِكَم. وفي بعض الأخبار: (أن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحُجُبَ بينه وبينه، وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء، يُصلون بصلاته، ويُؤَمَّنُونَ على دعائه، وإن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد: لو يعلم المناجي من يناجي ما انفتل «1» . وإن أبواب السماء لتفتح للمصلي. وإن الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلين) . وفي التوراة: يا ابن آدم لا تعجز ان تقوم بين يَدَيَّ مصلياً باكياً، فأنا الذي اقتربتُ من قلبك، وبالغيب رأيتَ نوري. هـ. فكانوا يرون أن تلك المراقبة والبكاء، وتلك الفتوح التي يجدها المصلي في قلبه من دنو الرب من القلب.
وأما الصدقة فإنها برهان على إيمان صاحبها، وفي الحديث: «الصَّدقةُ بُرْهانٌ» ، فهي تدل على خروج حب الدنيا من القلب، وعلى اتصاف صاحبها بمنقبة السخاء، التي هي أفضل الخصال، وفي الحديث: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قريبٌ من النَّاس، قريبٌ من الجَنَّةِ، بَعِيدٌ من النارِ، والبَخيلُ بَعيدٌ من اللهِ، بعيدُ من الناسِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ من النَّارِ، ولجَاهلٌ سَخِيٌ أَحَبُ إلى اللهِ من عالم بخيل» .
ثم ذكّرهم بالنعم، ليقيدوها بالشكر قبل أن تسلب منهم، كما سلبت ممن ذكر قبل، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
قلت: (اللَّهُ) : مبتدأ، و (الَّذِي) ، وما بعده: خبر، و (رِزْقاً لَكُمْ) : مفعول أخرج، و (مِنَ الثَّمَراتِ) : بيان له، حال، ويجوز العكس، ويجوز أن يراد بالرزق: المصدر، فينصب على العلة أو المصدر لأن (أخرج) فيها معنى «رَزَقَ» ، و (دائِبَيْنِ) : حال، والدءوب: الدوام على عمل واحد، و (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) : يحتمل أن تكون «ما» مصدرية، أو موصولة، أو موصوفة.
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من أجلكم، السماء تُظلكم، والأرض تُقلكم، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس،
__________
(1) أي: ما انصرف.(3/62)
كالقطن، والكتان، وشبه ذلك وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ: بمشيئته وقدرته، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته، تغطية لقدرته، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها، من الجبال والقلاع، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب، وسائر منافعها، فجعلها مُعدَّة لانتفاعكم وتصرفكم. وقيل:
تسخير هذه الأشياء: تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ متماديين في الطلوع والغروب، يدأبان في سيرهما وإنارتهما، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات، بقدرة خالقهما، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي: وآتاكم بعض جميع ما سألتموه، وهو ما يليق بكم، وما سبق لكم في مشيئته وعلمه. قال البيضاوي: ولعل المراد بما سالتموه: ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه، سُئل أو لم يسأل. هـ. وقرأ الضحاك وابن عباس: «مِنْ كُلِّ» بالتنوين، أي: وآتاكم من كل شيء احتجتم إليه، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون «ما» نافية، في موضع الحال، أي: وآتاكم من كل شيء غير سائليه.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها: لا تحصروها، ولا تطيقوا عدَّ أنواعها، فضلاً عن أفرادها، فإنها غير متناهية فمنها ظاهرة، ومنها باطنة، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمة أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين، وأمسوا توابين. هـ. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحضر عذابه. هـ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ بظلم النعمة لمَّا غفل عن شكرها، أو بظلم نفسه لمَّا عرضها للحرمان، بارتكاب المعاصي، كَفَّارٌ: شديد الكفران، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفّار في النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.
الإشارة: الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً، تحيا به القلوب والأرواح، فأخرج به من أرض النفوس ثمرة اليقين والطمأنينة، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم، منها ما هو علم الرسوم لأصلاح الظواهر، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان، دائبين، يستضيىء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسْكنوا فيه، ونهار البسط لتنشروا فى اقتباس العلوم، وربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في نهار البسط (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) . وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم، وصح وصلكم، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم!! إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ. وشكرها: نسبتها لمعطيها، وحمد الله عليها. وفي الحكم:
«لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك» .(3/63)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال: إلهي، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة، وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمنى. هـ.
ومن جملة النعم التي يجب الشكر عليها- وهى التي بدّلها الكفار كفرا- عمارة بيت الله الحرام، ودعاء إبراهيم عليه السّلام، الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 38]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38)
قلت: قال هنا: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بالتعريف، وقال في سورة البقرة: بَلَداً»
بالتنكير، قال البيضاوي:
الفرق بينهما أن المسئول في الأول- أي: في التعريف- إزالة الخوف وتصييره أمنا، وفى الثاني جعله من البلاد الآمنة. هـ. وفرَّق السهيلي: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم لأنها مكية فلذلك قال فيه: «الْبَلَدَ» بلام التعريف التي للحضور، بخلاف آية البقرة، فإنما هى مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعرفها بلام تعريف الحضور. هـ. قال ابن جزي: وفيه نظر لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام، وَلآ فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. هـ.
قلت: لا نظر فيه لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم، وإنما ترجم عنها بلسان عربي، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ في قصص الأنبياء لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال، من تعريف وتنكير، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود في سورة الأعراف ما يؤيد هذا، فانظره. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعني: مكة، آمِناً لمن فيها من أغدرة الناس عليها، أو من الخسف والعذاب، أو من الطاعون والوباء، وَاجْنُبْنِي أي: امنعني
__________
(1) فى الآية 116.(3/64)
واعصمني، وَبَنِيَّ من بعدي، من أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي: اجعلنا منهم فى جانب بعيد. قال البيضاوي:
وفيه دليل على أنَّ العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته، وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجاً به، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها، ويسمونها الدوار، ويقولون: البيت حجر، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته. هـ. قال ابن جزي: وبَنِيَّ يعني: من صُلبه، وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. هـ. وقد قال في الإحياء: عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام، الذهب والفضة، بمعنى: حبهما والأغترار بهما، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم ... » الحديث لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة. هـ.
قلت: الظاهر أنَّ يبقى اللفظ على ظاهره، في حقه وفي حق بنيه. أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، كما هو شأن الأكابر، لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، وهذا كقوله: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً «1» . وتقدم هذا المعنى مراراً. وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله، لكن لم يجب إلا فيما كان من صلبه فإن دعاء الأنبياء- عليهم السلام- لا يجب أن يكون كله مجاباً، فقد يُجابون في أشياء، ويُمنعون من أشياء. وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء، فأجيب في البعض، ومُنع البعض. كما في الحديث «2» .
ثم قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي: إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق، فلذلك سألتُ منك العصمة، واستعذتُ بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية، كقوله: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا «3» . فَمَنْ تَبِعَنِي على ديني فَإِنَّهُ مِنِّي لا ينفك عني في أمر الدين، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، تقدر أن تغفر له ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أنَّ كل ذنب فللَّه أن يغفره، حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: وَمَنْ عَصانِي يريد: بغير الكفر، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه- عليه السلام- من التخلْق بالرحمة للخلق، وحسن الخُلق. هـ.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي: بعض ذريتي، وهو: إسماعيل عليه السلام، أو: أسكنت ذرية من ذريتي، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم، بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني: وادي مكة، لأنها حجرية
__________
(1) من الآية 80 من سورة الأنعام.
(2) قال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربى ثلاثا، فأعطانى ثنتين، ومنعنى واحدة. سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» أخرجه مسلم فى (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) من حديث عامر بن سعد عن أبيه. [.....]
(3) من الآية 70 من سورة الأنعام.(3/65)
لا تنبت، والوادي: ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل: ولا ماء، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء، عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حَرَّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به، أو: لم يزل محترماً تهابُه الجبابرة، أو مُنع منه الطوفان، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم، ولم يكن موجوداً، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان، أي: عند أثر بيتك المحرم، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه.
وقصةُ إنزاله ولده بمكة: أن هاجر كانت مملوكة لسارة، وهبها لها جبارٌ من الجبابرة وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل مدينة، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات، فأخذها، وأدخلها بيتاً، فلما دخل عليها دعت عليه، فسقط، ثم قالت: يا رب إن مات قتلوني فيه، فقام. فلما دنا منها، دعت عليه، فسقط، فقال في الثالثة: ما هذه إلا شيطانة، أخرجوها عني، وأعطوها هاجر، فعصمها الله منه، وأخدمها هاجر، ثم وهبتها لإبراهيم، فوطئها فحملت بإسماعيل، فلما ولدته غارت منها، فتعب إبراهيم معها، ثم ناشدته سارةُ أن يخرجها من عندها، فركب البراق، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة، تحت دوحة، قريباً من موضع زمزم. فلما ولي تبعته، وهي تقول: لِمنْ تتركنا في هذه البلاد، وليس بها أنيس؟ ثم قالت: أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يُضيعنا. فرجعت تأكل من مِزود، تم تركها لها، وتشرب من قربة ماء، فلما فرغ الماء نشف اللبن، وجعل الولدُ يتخبط من العطش، فجعلت تطوف من الصفا، وكان جبلاً صغيراً قريباً منها، وتذهب إلى المروة، وتسعى بينهما، لعلها ترى أحداً، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتاً في الهواء، فقالت: أغِثْ إن كان معك غياث، فتبدَّى جبريلُ بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم، فهمز بعقبه ففار الماء، فلما رأته دهشت، وخافت عليه يذهب فجعلت تحوطه، وتقول: زم زم، فانحصر الماء. قال صلى الله عليه وسلم: «يَرْحمُ اللهُ أُمَّ إسمَاعِيل، لَوْ تَركَتْهُ، كَانَ عَيْناً مَعِيناً» «1» . فشربت، ودرَّ لبنُها.
ثم إن جرهم رأوا طيوراً تحوم، فقالوا: لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع، فوجدوها مع ابنها، وعندها عين، فقالوا لها: أتشركيننا في مائك، ونشركك في ألباننا؟ ففعلت. وفي حديث البخاري: «قالوا لها: أتحبين أن نسكن معك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء» . فرحلوا إليها، وسكنوا معها، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه، وبنائهما الكعبة، مذكور في البخاري «2» والسَّيَر.
ثم قال: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع «3» من كل مرتفق ومرتزق، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه، للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثَمَّةَ. والمقصود من الدعاء: توفيقهم لها، وقيل: اللام للأمر، وكأنه طلب منهم الإقامة، وسأل من الله أن يوفقهم لها. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
__________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب: تزفّون: النّسلان فى المشي) من حديث ابن عباس- رضي الله عنه.
(2) فى الموضع السابق ذكره.
(3) البلقع: هى الأرض القفر التي لا شىء بها: انظر: اللسان (بلقع 1/ 348) .(3/66)
مِنَ النَّاسِ أي: اجعل أفئدة من بعض الناس، تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي: تسرع إليهم شوقاً ومحبة، و «من» :
للتبعيض، ولذلك قيل: لو قال: أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم، ولحجت اليهودُ والنصارى. وقيل: للبيان أي: أفئدة ناسٍ. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع كونهم بوادٍ لا نبات فيه، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة، فأجاب دعوته، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى أنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية، في يوم واحد.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أي: تعلم سرنا، كما تعلم علانيتنا، والمعنى: إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكننا ندعوك إظهاراً لعبوديتك، وافتقاراً إلى رحمتك، واستجلاباً لنيل ما عندك. قاله البيضاوي. أي: فيكون مناسباً لحاله في قوله: «علمه بحالي يُغني عن سؤالي» .
وقيل: ما نُخفي من وَجْدِ الفرقة، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى. وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لأن علمه أحاط بكل معلوم. و «من» : للاستغراق.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول: رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي: بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، (رب إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ الناس) فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فَإِنَّهُ مِنّىِ، وَمَن عَصَانِى، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، (فإنك غفور رحيم) .
وقوله: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فيه: تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي: فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك، فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية- صلوات الله عليهما- أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب- في حياته وبعد وفاته- لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة، إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله:
«ربنا ليقيموا الصلاة» . الخ.
وقال القشيري: أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي: أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، ثم قال: لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ. أي: أسكنتُهم لإقامة(3/67)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال: اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم. ثم قال:
قوله: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي: أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ، مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. هـ.
وقوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ: قال القشيري: ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ مَن قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي: سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) ، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. هـ. ومعنى قوله: مرادي جلاله وجماله: أي: مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية كلام إبراهيم عليه السّلام فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 39 الى 41]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
قلت: (لسميعُ الدعاء) : من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله، أي: لسميع دعاء من دعاه. و (من ذريتي) :
عطف على مفعول «اجعل» ، أي: اجعلني وبعض ذريتي مقيمين للصلاة.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكيا عن خليله عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي: مع كبر سني عن الولد، إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، رُوي أنه وُلد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة، وإسحاق لمائة وثنتي عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه ليكون أعظم في إظهار النعمة، وإظهاراً لما فيه من الآية، ولذلك قال: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي: يجيب من دعاه، من قولك: سمع الملك كلامي، إذا اعتنى به. وفيه إشعارٌ بأنه تقدم منه سؤال الولد، فسمع منه، وأجابه حين وقع اليأس منه، ليكون من أجلِّ النعم وأجلاها.(3/68)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي: مُتقناً لها، مواظباً عليها، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فاجعل من يُقيمها. والتبعيض لعلمه بالوحي أنَّ مِنْ ولده من لا يقيمها، أو باستقرار عادته في الأمم الماضية أن منهم من يكون كفاراً. رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي: استجب، أو تقبل عبادتي. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ، وكان هذا الدعاء قبل النهي، أو قبل تحقق موتهما على الكفر، أو يريد آدم وحواء. وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي: يثبت ويتحقق وجوده، مستعار من القيام على الرِّجل، كقولهم: قامت الحرب على ساق.
أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أي: يقوم أهل الحساب إليه، وأسند إليه قيامهم مجازاً.
الإشارة: إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد. وفي الحديث: «إذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ: صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بثَّه في صُدور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ» . والولد الروحاني أتم لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ «1» . وقرة عين في الذرية: أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر «2» :
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ ... فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبي مُحَمَّدِ
والله تعالى أعلم.
ثم تمم قوله: (يوم يقوم الحساب) بذكر أهواله، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 45]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)
__________
(1) من آية 74 من سورة الفرقان.
(2) وهو الإمام البوصيرى. انظر ديوانه/ 122. وفيه: فاقدر إذن فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم.(3/69)
قلت: (يوم يأتيهم) : مفعول ثانٍ لأَنذِر، ولا يصح أن يكون ظرفاً. و (نُجبْ دعوتك) جواب الأمر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَحْسَبَنَّ أيها السامع، أن اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، أو أيها الرسول، بمعنى: دُمْ على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم، لا تخفى عليه خافية، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل: إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ، أي: يؤخر عذابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، أي: تحد فيه النظر، من غير أن تطرف من هول ما ترى.
مُهْطِعِينَ: مسرعين إلى الداعي مذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه. أو مقبلين بأبصارهم، لا يطرفون هيبة وخوفا، مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ: رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالي الشجر.
وذلك من شدة الهول، أو من أجل الغل الذي في عنقه، كقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ «1» . وقال الحسن في هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. هـ.
لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف، أو: لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ: خلاء، محترقة، فارغة من الفهم، لا تعي شيئاً لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يُقال للأحمق وللجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه ولا قوة. وقيل: خالية من الخير، خاوية من الحق.
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يا محمد، أي: خوفهم هذا اليوم، وهو: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، يعني يوم القيامة، أو يوم الموت فإنه أول مطلع عذابهم، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك والتكذيب: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: أخِّر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى أجل قريب، نُجِبْ دَعْوَتَكَ حينئذٍ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، ونظيره: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ «2» . قال تعالى لهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ أنكم باقون في الدنيا، مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ عنها بالموت ولا بغيره، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً. أو دل عليه حالهم حيث بنوا مشيداً، وأمَّلوا بعيداً. أو أقسموا أنهم لا يُنقلون إلى دار أخرى، وأنهم إذا ماتوا لا يُزالون عن تلك الحالة، ولا ينقلون إلى دار الجزاء، كقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «3» .
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي، من الأمم السالفة كعاد وثمود، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ بما تُشاهدون من آثارهم الدارسة، وديارهم الخربة، وما تواتر عندكم من أخبارهم،
__________
(1) الآية 8 من سورة يس.
(2) الآية 10 من سورة المنافقون.
(3) الآية 38 من سورة النحل.(3/70)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
وَقد ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ من أحوالهم، أي: بيَّنا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو بيَّنا لكم صفات ما فعلوا، وما فُعل بهم، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.
الإشارة: كما أمهل سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال لأن هذه الدار لاتسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاد لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم: (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل) ، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان؟
وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان، والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان فإن الله يرزق العبدَ على قدر نيته.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما فعل بأهل المكر والخذلان، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 46 الى 52]
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
قلت: (وإن كان مكرُهم) «إن» نافية، واللام للجحود، ومن قرأ «لّتزول» بفتح اللام، فإن مخففة، واللام فارقة و (يوم تُبدل) : بدل من (يوم يأتيهم) ، أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر، أو (بمخلف وعده) . ولا يجوز ان ينتصب بمخلف لأن ما قبل «إن» لا يعمل فيما بعدها. و (السماوات) : عطف على (الأرض) ، أي: وتبدل السماوات.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَدْ مَكَرُوا بك يا محمد مَكْرَهُمْ الكلي، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ اي: مكتوب عنده فعلهم، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به(3/71)
جزاء لمكرهم، وإبطالاً له، وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في العظم والشدة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ الثوابت لو زالت تقديراً، أو ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي: الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة، أو: وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته، ولكن الله عصم ووقى.
وقيل: الآية متصلة بما قبلها، أي: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ومكروا مكرهم في إبطال الحق.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، يعني: وعد النصر على الأعداء. وقدَّم المفعول الثاني، والأصل:
مخلف رسله وعده، فقدَّم الوعد ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال: رُسُلَهُ ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: غالب لا يماكر، قادر لا يدافع، ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.
يظهر ذلك يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، أو اذكر يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء «1» ، كقُرْصَة النقِيّ «2» ، كما فى الصحيح «3» . وَتبدل السَّماواتُ بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب، ويبقى العرش بارزاً، وهو سماوات الجنة.
قال البيضاوي: والتبديل يكون في الذات، كقوله: بدلت الدراهم بالدنانير، وعليه قوله: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «4» ، وفي الصفة، كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «5» . والآية تحتملها، فعن علي رضى الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب، وعن ابن عباس- رضى الله تعالى عنهما-: هي تلك الأرض، وإنما تغير صفاتها، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضى الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرض فتنبسط، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ «لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا» «6» .
قال ابن عطية: وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ، لم يُعْصَ اللهُ فيها، ولا سُفِكَ فيها دم، وليس فيها مَعْلم لأحد. ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ» . وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الناسُ، وقتَ التبديل، على الصِّرَاط» «7» . ورُوي أنه قال: «8» «الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله فلا يُعجزهم ما
__________
(1) العفرة: بياض ليس بالناصع.. انظر النهاية (عفر) .
(2) قرصة النّقىّ: الدقيق النقي من الغش والنخال انظر فتح الباري (11/ 383) .
(3) قال صلى الله عليه وسلم: (يُحشر الناس يوم القيامةِ على أرض بيضاء عفراء، كقُرْصَة النقِيّ، ليس فيها علم لأحد» . أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة) . ومسلم فى (صفات المنافقين، باب فى البعث والنشور) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(4) من الآية 56 من سورة النساء.
(5) من الآية 70 من سورة الفرقان. [.....]
(6) جزء من حديث الصور المشهور المروي عن أبى هريرة.
(7) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب فى البعث والنشور) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها.
(8) أخرجه بنحوه ابن أبى حاتم فى تفسيره (7/ 2253) من حديث أبى أيوب الأنصاري. وانظر تفسير ابن كثير (2/ 544) .(3/72)
وفي سراج المريدين لابن العربي: إن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة ويخلقها يوم القيامة مستوية، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً، متماثلة بيضاء كخبرة النقي، كما في الصحيح، وأما تبديل السموات فليس في كيفيتها حديث، وإنما هو مجهول. وفي حديث مسلم: «أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال: هم على الصراط» . قال: يحتمل أنه الصراط المعروف، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره، تستقر الأقدام عليه، وكأنه الأظهر للحديث الآخر. وقد سألته عائشة- رضى الله عنها- أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر» «1» .
والجسر: الصراط. هـ.
أما تبديل الأرض: فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر، فلا يقع البعث والحشر، إلا على الأرض المبدلة كقوله: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ «2» . وقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعاً صَفْصَفاً «3» .. ثم قال: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ «4» . وقوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «5» ، ثم قال: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا «6» ، إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذٍ أضياف الله، أو في ظل العرش، أو دون الجسر، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً. والله تعالى أعلم.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، أي: وبرزوا من أجداثهم لمحاسبة الواحد القهار، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أنه في غاية الصعوبة، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «7» ، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ: قرن بعضهم إلى بعض فِي الْأَصْفادِ: في القيود، أو الأغلال، كل واحد قُرن مع صاحبه، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال، كقوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ «8» . أو قُرنوا مع الشياطين، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله: فِي الْأَصْفادِ: متعلق بمقرنين، أو حال من ضميره. والصفد: القيد أو الغل.
سَرابِيلُهُمْ: قُمصانُهم، والسربال: القميص، مِنْ قَطِرانٍ، وهو الذي تهنأ به الإبل، أي: تدهن به.
وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار. قال البيضاوي: وهو أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة،
__________
(1) أخرجه مسلم مطولا فى (الحيض، باب بيان صفة منى الرجل والمرأة) من حديث ثَوبَانَ، مَولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) من الآية 47 من سورة الكهف.
(3) الآيتان 105- 106 من سورة طه.
(4) من الآية 108 من سورة طه.
(5) الآية الأولى من سورة الواقعة.
(6) الآيتان: 4- 5 من سورة الواقعة.
(7) الآية 16 من سورة غافر.
(8) الآية 7 من سورة التكوير.(3/73)
يُطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. هـ.
وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، أي: تكسوها وتأكلها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق، ولم يخضعوا بها إلى الخالق، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة من المعرفة والنور، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله:
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» ، وقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «2» .
فعل ذلك بهم لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ من الإجرام، أو ما كسبت مطلقاً لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لأجرامهم علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، فيحاسب الناس في ساعة واحدة لأنه لا يشغله حساب عن حساب، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر لأن ذلك وقت خرق العوائد.
هذا القرآن، أو ما فيه من الوعظ والتذكير، أو ما وصفه من قوله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا ... «3» إلخ، بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي: كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام، يقال: أعطيته من المال ما فيه بلاغ له، أي:
كفاية. أو بلاغ أي: تبليغ لهم، كقوله: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «4» ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ»
، وقوله: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ: عطف على محذوف، أي: ليُنصحوا به، ولينذروا به، أو متعلق بمحذوف، أي: ولينذروا به أنزلناه، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى، أو المنبهة على ما يدل عليه. وَلِيَذَّكَّرَ أي: ليتعظ به أُولُوا الْأَلْبابِ أي: القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه، فيرتدعوا عما يُرديهم، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد، هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب: تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي.
الإشارة: قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم (إن الله عزيز ذو انتقام) فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسوم والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار،
__________
(1) من الآية 24 من سورة الزمر.
(2) من الآية 48 من سورة القمر.
(3) الآية 42 من سورة إبراهيم. [.....]
(4) من الآية 48 من سورة الشورى.
(5) الآية 54 من سورة النور.(3/74)
فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي: يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخليقة، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها «2» وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم من استيلاء قهر أنوار القدم، قال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «3» . قيل: فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال: عادت إلى مصادرها. وقال: متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء؟! لأنهم أقل من الهباء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، ولينذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولوا الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
__________
(1) من الآية 35 من سورة النور.
(2) من الآية 69 من سورة الزمر.
(3) من الآية 88 من سورة القصص.(3/75)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
سورة الحجر
مكية. وهى تسع وتسعون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ «1» ، مع قوله جل جلاله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فهى تتميم لعنوان القرآن، وتفسير له.
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
قلت: رُب: حرف جر، تدل على التقليل غالباً. وفيها ثماني لغات: التخفيف، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء، ودونها. وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل، ويجوز دخولها حينئذٍ على الفعل، ويكون ماضياً، أو منزلاً منزلته في تحقيق وقوعه، وقد تدخل على الجملة الاسمية كقول الشاعر:
رُبَّمَا الجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهمْ ... وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وجملة: (إلا ولها) : صفة لقرية، والأصل ألا يدخلها الواو، كقوله: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ «2» ، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها تأكيداً لوصفها بالموصوف.
يقول الحق جلّ جلاله: أيها الرسول المعظم، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هي آياتُ الْكِتابِ الذي أنزلناه إليك، وَآيات قُرْآنٍ عربي مُبِينٍ واضح البيان، مبيناً للرشد والصواب، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين، ومن تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين، وسيندم حين لا ينفع الندم، كما قال تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ: متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل: يكون عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج العصاة من النار، وهذا أرجح لحديثٍ في ذلك «3» . ومعنى التقليل فيه: أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
__________
(1) من الآية 52 من سورة إبراهيم.
(2) من الآية 208 من سورة الشعراء.
(3) عن أبى موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع أهل النار فى النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا فى النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا-(3/77)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قال تعالى:
ذَرْهُمْ: دعهم اليوم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ: ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار، واستقامة الأحوال، عن الاستعداد للمعاد، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءهم.
والأمر للتهديد، والغرض: حصول الإياس من إيمانهم، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنَّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل من الهلاك عاجلاً وآجلاً، ولذلك قال تعالى بُعد: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي: أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي: أجَل هلاكها، وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعة. وتذكير الضمير في يَسْتَأْخِرُونَ للحمل على المعنى، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر هذا التهديد العظيم، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه، وعكف على حظوظه وهواه: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) . ولله در القائل:
تَفَكَّرتُ فِي الدُّنيا وفي شَهَواتِها ... ولَذاتِها حَتَّى أَطَلْتُ التَّفَكُّرَا
وَكيْفَ يَلَذُّ العَيشُ مَنْ هُو سَالِكٌ ... سَبِيلَ المَنَايا رائِحا أوْ مُبكِّرا
فَلاَ خَيْرَ في الدنيا ولا في نَعِيِمهَا ... لحُرِّ مقلِّ كانَ أو مكثرا
ثم أجاب من اقترح الآيات، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 9]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ في زعمه، أو قالوه تَهكماً، إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي: إنك لتقول قول المجانين، حين تدعي أنه ينزل عليك الذكر، أي: القرآن.
لَوْ مَا: هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ليصدقوك فيما تدعي، أو يعضدوك على الدعوى، أو للعقاب على تكذيبنا، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك، قال تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ لعذابهم أو لغيره إِلَّا بِالْحَقِّ من الوحي، والمصالح التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح، أو اختيار كافر، أو: إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق، أي: بالوجه
__________
- بها، فيغضب الله تعالى لهم، بفضل رحمته، فيأمر بكل مَن كان من أهل القبلة فى النار فيخرجون منها، فحينئذ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كانوا مسلمين» . أخرجه ابن جرير فى التفسير، وابن أبى عاصم فى السّنة (1/ 405) ، وابن أبى حاتم فى تفسيره (7/ 2255) والحاكم فى المستدرك (2/ 442) وصححه.(3/78)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
الذي قدره في الأزل، واقتضته الحكمة الإلهية، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب، وقد سبق في العلم القديم إنَّ من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان، أو يراد بالحق: العذاب، ويؤيده قوله: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي:
ولو نزلت الملائكة لعوجلوا، وما كانوا، إذا نزلت، مُؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزولَ الذكر واستهزاءَهُمْ، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي: القرآن، وأكده بأن وضمير الفصل، وحفظه بعد نزوله، كما قال: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التحريف، والزيادة والنقص، بأن جعلناه معجزاً، مبايناً لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري: نزل التوراة، وَوَكَلَ حفظها إلى بني إسرائيل، بما استُحفظوا من كتاب الله، فحرَّفوا وبَدَّلوا، وأنزل القرآن، وأخبر أنه حافظه، فلا جرم أنه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه. ويقال: إنه أخبر أنه حافظ القرآن، وإنما يحفظه بقرائه، فقلوبُ القُرَّاءِ هي خزائنُ كتابه وهو لا يضيع حفظة كتابه، فإن في ذلك تضييع كتابه. هـ.
وقال ابن عطية على قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ «1» : ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه. هـ.
الإشارة: كل ما جاء في القرآن من الإنكار على الرسل على أيدي الكفرة وتنقيصهم، والاستهزاء بهم، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل في جانبه كقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «2» ، وقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «3» ، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل، فكأن الحق تعالى يقول: لو سَلِم أحد من الناس، لسلمتُ أنا وأنبيائي، الذين هم خاصة خلقي، فليكن بي وبرسلي أسوة لمن أُوذي من أوليائي. وبالله التوفيق.
ثم تمم تلك التسلية، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
__________
(1) من الآية 75 من سورة البقرة.
(2) من الآية 181 من سورة آل عمران.
(3) من الآية 64 من سورة المائدة.(3/79)
يقول الحق جلّ جلاله فى تسلية رسوله- عليه الصلاة والسلام-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلاً فِي شِيَعِ: فرق الْأَوَّلِينَ أي: القرون الماضين، جمع شيعة، وهي: الفرقة المتفقة على طريق واحد، وتتشيع لمذهب أو رجل، من شاعه إذا تبعه، أي: نبأنا رجالاً فيهم، وجعلناهم رسلاً إليهم، فكذبوهم واستهزءوا بهم، فكانوا: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أي: ندخل الاستهزاء فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. والسلك: إدخال الشيء فى الشيء كالخيط في المخيط، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أبداً. أو: نسلكه، أي: القرآن مستهزءاً به، أي: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مُكَذَّباً غير مؤمن به، ثم هددهم على عدم الإيمان به، فقال: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي: تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء، حتى هلكوا بسبب ذلك، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم، فيكون وعيداً لأهل مكة.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش، باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ: يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم، لكذبوا، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق: إِنَّما سُكِّرَتْ: حيرت أَبْصارُنا، فرأينا الأمر على غير حقيقته من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين، وهو السد، أي: سُدَّت أبصارنا، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية.
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي: وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. هـ. وذلك من فرط عنادهم، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
الإشارة: هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء، فيرجعون إلى الله، والاكتفاء بعلمه، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضى الله عنه: عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصى رضى الله عنه لبعض تلامذته: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم، وكفاهم أمرهم. هـ.(3/80)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
ثم دلهم على المعجزة الحقيقية، التي تدلهم على التوحيد الذي فيه نجاتهم، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثني عشر برجاً، وهي: الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر فتقطع البروج كلها في سنة، ستة يمانية، وستة شمالية، وهي مختلفة الهيئات والخواص، على ما دلّ عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى: وَزَيَّنَّاها بالأشكال والهيئات البهية لِلنَّاظِرِينَ المعتبرين ليستدلوا بها على قدرة مبدعها، وتوحيد صانعها.
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ: مرجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها، أو يوسوس أهلها، أو يتصرف في أمرها، أو يطلع على أحوالها.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي: حفظناها من الشياطين، إلا من استرق منها. والاستراق: الاختلاس، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء، فيسمعون أخبار السماء من الغيب، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة، ويخلط معها مائة كذبة، كما فى الصحيح. ورُوي عن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما وُلد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا من كلها بالشهب. وقيل:
الاستثناء منقطع، أي: ولكن من استرق السمع، فَأَتْبَعَهُ لحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين. والشهاب:
شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم، ثم يضرب به المسترق، وقيل: النجوم هي التي تضرب بنفسها، فإذا أصابت الشيطان قتلته أو خبلته فيصير غولاً.
ثم ذكر معجزة الأرض فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها: بسطناها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، وَأَنْبَتْنا فِيها في الأرض، أو فيها وفى الجبال مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مقدر بمقدار معين تقتضيه(3/81)
حكمته. فالوزن مجاز، أو ما يوزن حقيقة كالعشب النافعة، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس، وَخلقنا لكم مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من الولدان والخدمة والمماليك، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم ظنا كاذباً فإن الله يرزقكم وإياهم.
قال البيضاوي: وفذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين، مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرد في ألوهيته، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي: وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. هـ. قال ابن جزي: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قيل: المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن:
المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. هـ. وَما نُنَزِّلُهُ أي: نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم.
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ: حوامل للماء في أوعية السحاب، يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت، فهي لاقحة، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة. ولواقح: جمع لاقحة، أي: حاملة، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر، ونظيره: الطوائح، بمعنى المطيحات في قوله:
ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ «1» والرياح أربعة: صَبَا، ودَبُور، وجَنوب، وشمال. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفى البخاري صلى الله عليه وسلم: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدُّبُور» «2» . وروي أبو هريرة رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرِّيحُ الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» «3» . وفى حديث: «الرِّيحُ من نفس الرحمن» «4» . والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق، كما قال: مِنْ رُوحِي «5» . ومعنى نفس الرحمن، أي:
__________
(1) عجز بيت صدره: (لبيك يزيد صارع لخصومة) . وينسب البيت لأكثر من واحد، والمختبط: طالب العرف المحتاج، تطيح:
تذهب وتهلك، والطوائح: جمع المطيحة، بمعنى السنين أو الجوائح. انظر حاشية الشهاب (5/ 289) .
(2) أخرجه البخاري (كتاب الاستسقاء، باب إذا هبت الريح) من حديث ابن عباس- رضي الله عنه-. [.....]
(3) أخرجه ابن جرير فى تفسيره. وو زاد السيوطي، فى الدر المنثور (4/ 179) ، عزوه لابن أبى الدنيا فى كتاب السحاب، وأبى الشيخ فى العظمة، والديلمي فى المسند، وابن مردويه، من حديث أبى هريرة.
(4) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب: ما يقول إذا هاجت الريح) ، عن أبى هريرة، مرفوعا، بلفظ: (الريح من روح الله) مطولا.
(5) من الآية 29 من سورة الحجر.(3/82)
من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد، فمن التنفيس بالريح: النصر بالصبا، وذر الأرزاق بها، وجلب الأمطار، وغير ذلك مما يكثر عده. قاله ابن عطية.
والمختار في تفسير اللواقح: أنها حاملة للماء، بدليل قوله: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي:
جعلناه لكم سقيا. يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ: بممسكين له في الجبال، والغدران، والعيون، والآبار، فتخرجونه متى شئتم، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم، الذي لا تتناهى قدرته. أو: وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله: عِنْدَنا خَزائِنُهُ.
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. وَنَحْنُ الْوارِثُونَ:
الباقون إذا مات الخلائق كلهم.
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أي: علمنا من تقدم ولادةً، ومن تأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، ومن تأخر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. قيل: رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول، فازدحموا عليه، فنزلت، وقيل: إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها، وتأخر بعض ليبصرها، فنزلت.
قاله البيضاوي.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة، عَلِيمٌ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي: وفي توسيط الضمير- يعني في قوله: هُوَ يَحْشُرُهُمْ للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره، وتصدير الجملة بأن لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. هـ.
الإشارة: ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم، وهي: التوبة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة،(3/83)
والمشاهدة. وزيناها للناظرين أي: السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب، حتى يَحلو لهم ما كان مُراً على غيرهم، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان، إلا ما كان طيفاً خيالياً لا يثبت، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه، وأرضَ النفوس مددناها لقيام رسم العبودية، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي، لتعرف الرب من المربوب الذي اقتضته الحكمة. وأنبتنا فيها من العلوم الرسمية والعقلية، ما قدر لها في العلم المكنون، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم، وتعيش به أرواحكم وأسراركم، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين.
سئل سهل رضي الله عنه عن القوت، فقال: هو الحي الذي لا يموت، فقيل: إنما سألناك عن القوام. فقال: القوام هو العلم، فقيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، فقيل: سألناك عن طعام الجسد، فقال: مالك وللجسد، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا:
يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ ... وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ
عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان، وتخرج من سجن الأكوان. وبالله التوفيق. ثم قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأرزاق المعنوية والحسية، أو العلوم اللدنية، والفتوحات القدسية، إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئاً فشيئاً، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وقال الورتجبي: عِلْم الإشارة في الآية: دعوة العباد إلى حقائق التوكل، وهي: قطع الأسباب، والإعراض عن الأغيار، قيل: كان الجنيد رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، قال: فأين تذهبون؟. وقال حمدون: قطع أطماع عبيده عمن سواه بقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره، فهو لجهله ولؤمه. هـ.
وأرسلنا رياح الهداية لواقح، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين، فأنزلنا من سماء الغيب ماء العلم اللدني، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ، أو بلا واسطة، وما أنتم له بخازنين، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال، أو لهداية مريد، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين، ونميت قلوباً بالجهل والكفر، ونحن الوارثون لبقاء انوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد، وإعطاء الكلية(3/84)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
من نفسه، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته، وإن ربك هو يحشرهم فيُقرب قوماً لسبقهم، ويبعد آخرين لتأخرهم. إنه حكيم عليم.
ثم ذكر أول نشأة الثقلين، ليدل بها على الحشر والإعادة، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
قلت: قال في الصحاح: الحَمأُ الْمسنُون: المنتنُ المتغير. وسُنَّةُ الوجه: صورته، ثم قال: والمسْنُونُ: المصَوَّرُ، وقد سَنَنتُهُ أَسُنُّه سَنَّا إذا صَوَّرتُه، والمسْنُونُ: المُملَّسُ. وفي القاموس: الحَمأُ المسْنُونُ: المنْتنُ، ورجُل مَسْنُونُ الوجه:
مُمَلسُهُ، حَسنُهُ، سَهْلُهُ. أو في وَجْهِهِ وأنْفِهِ طُولٌ. وسنن الطين: عمله فخاراً. هـ. وفي ابن عطية: هو من سننت السكين والحجر: إذا أحكمت تلميسه. انظر بقية كلامه. وموضع مِنْ حَمَإٍ: نعت لصلصال، أي: كائن من حمأ. و (الجان) : منصوب بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي: أصله، وهو آدم، مِنْ صَلْصالٍ أي: طين يابس يصلصل. أي: يصوت إذا نقر فيه وهو غير مطبوخ، فإذا طُبخ فهو فخار، مِنْ حَمَإٍ: من طين أسود مَسْنُونٍ: متغير منتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإنَّ ما يسيل بينهما يكون منتناً، ويسمى سنيناً. أو مسنون: مصور، أو مصبوب ليتصور، كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن، وهو الصب، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
وَالْجَانَّ وهو: إبليس الأول، ومنه تناسلت الجن، خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل خلق الأنسان، مِنْ نارِ السَّمُومِ: من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لم يمتنع خلقها في الجواهر المجردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة، التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل منها لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي. وقوله: مِنْ نارِ: لاعتبار الغالب، كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ «1» .
ومساق الآية كما هو للدلالة على قدرة الله تعالى، وبيان بدء خلق الثقلين، فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول المواد للجمع والإحياء. قاله البيضاوي.
__________
(1) من الآية 11 من سورة فاطر.(3/85)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
الإشارة: اعلم أن الخمرة الأزلية، حين تجلت في مرائي جمالها، تلونت في تجليها، فتجلت نورانية ونارية، ومائية وترابية، وسماوية وهوائية، إلى غير ذلك من ألوان تجلياتها، فكانت الملائكة من النور، والجن من النار، والآدمي من التراب، إلا أن الادمي فيه روح نورانية سماوية، فاجتمع فيه الضدان: النور والظلمة فشرف قدره في الجملة، فاستحق الخلافة، فإذا غلبت روحانيته على جسمانيته فضل على جميع التجليات، وما مثاله إلا كالمرآةِ التي خلفها الطلاءُ، فينطبع فيه الوجود بأسره، إذا صقلت مرآة قلبه، فتكون معرفته بالحق أجلى وأنصع من معرفة غيره لأن المرآة التي خلفها الطلاء يتجلى فيها ما يقابلها أكثر من غيرها. وأيضاً بشرية الآدمي كالياقوتة السوداء إذا صقلت كانت أعظم اليواقيت. وسيأتي بقية الكلام عند قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «1» إن شاء الله.
ثم ذكر تشريف آدم الملائكة بالسجود له، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 41]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قلت: (وإذْ قال) : ظرف لاذكر، وقوله: (فَقَعُوا) : امرٌ، من وقَع، يقع، قَعْ، فهو مما حُذفت فاؤه. وقوله:
فَسَجَدَ معطوف على محذوف، أي: فخلقه، وأمر الملائكة فسجدوا.
__________
(1) من الآية 70 من سورة الإسراء.(3/86)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يا محمد إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، قبل خلق آدم: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره، قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ: عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي حين جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ: إجراء الروح في تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك، اي: من الروح الذي هو لي، وخلق من خلقي.
فإذا نفخت فيه فَقَعُوا: فأسقطوا لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ حين أكمل خلقته، وأمرهم بالسجود، وقيل: اكتفى بالأمر الأول، كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى: امتنع أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قال البيضاوي: إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله: أَبى أي: لكن إبليس أبَى أن يسجد «1» ، وإن جُعِل متصلاً كان قوله أَبى: استئنافاً، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد؟ فقال: أبى.. الخ. قلت: والأحسن: أن يقدر السؤال بعد قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي: وما شأنه؟ فقال: أبى أن يكون مع الساجدين.
قال تعالى: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أي شيء عرض لك، أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم؟ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي: لا يصح مني، بل ينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، وقد خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وهو أخس العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها، منها: أنه خلقه بيديه بلا واسطة، أي: بيد القدرة والحكمة، بخلاف غيره، ومنها: أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة، ومنها: أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه، ومنها: أنه جعله خليفة في أرضه ... إلى غير ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود.
__________
(1) وهذا هو الصحيح فإبليس، بنص الآية السابقة عن خلق الجان، قد خلق من نار السموم، فهذا نص فى اختلاف خلقته، وخلقه، عن الملائكة، فهو جنس آخر غير الملائكة التي خلقها الله من نور، ولا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ، فهذان دليلان قطعيان فى الثبوت والدلالة، على أن إبليس ليس، ولم يكن من الملائكة، لا خلقا ولا خلقا، فالاستثناء منقطع.(3/87)
قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر: فَاخْرُجْ مِنْها أي: من السماء، أو من الجنة، أو من زمرة الملائكة، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ: مطرود من الخير والكرامة فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر، أو شيطان يُرجم بالشُهب، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته، أي: ليس الشرف بالأصل، إنما الشرف بالطاعة والقرب. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ:
الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل: إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي: أخرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، أراد أن يجد فسحة في الإغواء، ونجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ:
المعين فيه أجلك عند الله، وانقراض الناس كلهم، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة، وإن لم تكن بواسطة، لا تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي، في سراج المريدين، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة، قال:
لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. هـ. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال: لا قاطع في ذلك، وإنما فيه ظواهر، والظواهر لا تفيد اليقين. ثم قال: وأمّا قوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ:
فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها، تقول العرب: كلمت فلاناً مشافهة، بالكلام، وتارة بالبعث. هـ. قلت: الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب، كلامَ عتابٍ وإهانة، كما يوبخ الكفار يوم القيامة، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين، وإن وُجِدَتْ، صُورَةً.
ثم قال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي: بسبب إغوائك لي، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وقيل: الباء للقسم، أي:
بقدرتك على إغوائي، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية: قوله:
رَبِّ: مع كفره، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال، على قوله: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ: ليس هذا موضع كفره عند الحذاق لأن إبايته إنما هي معصية فقط، أي: وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه، فرأى أن ذلك جور، فقاس وأخطأ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. هـ. مختصراً. وقال المازري: أما كفر إبليس فمقطوع به لقوله: اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «1» ثم قال: ويؤكده قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي، وقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ... الآية «2» ، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.
__________
(1) من آية 34 من سورة البقرة.
(2) الآية 85 من سورة (ص) .(3/88)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
وأما: هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق، أو لم يزل كافراً منذ كان؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن، أو خبر متواتر، أو إجماع أمة، وهي المحصلة للعلم، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. هـ. قلت: والظاهر أنَّ كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم، وإنما سبق به العلم القديم، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم.
وقوله: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ لأحملنهم على الغواية أجمعين، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من الشهوات، فلا يعمل فيهم كيدي. ومن قرأ بالكسر فمعناه: الذين أخلصوا دينهم لله، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. قالَ تعالى: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، الإشارة إلى نجاة المخلصين، أو إلى العبادة والإخلاص، أي: هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ، وموصل إلى جواري، لا سبيل لك على أهله لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل: الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، أي: هذا أمر إليَّ مصيره، والنظر فيه لي، عليَّ أن أراعيه وأبينه، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي، وغيرهم: «عَلِيٌّ» بكسر اللام والتنوين، من العلو والشرف، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص، أي: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس.
الإشارة: إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه، في حق من يغلب حسه على معناه، وفرقُه على جمعه، وأما من غلب معناه على حسه، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني، أي: لمعاني أسرار الربوبية، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء لأنه يراها قائمة بالله، ولا وجود لها مع الله، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله، فالملائكة- عليهم السلام- نفذت بصيرتهم، فرأوا آدم عليه السلام قبلة للحضرة القدسية، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني، فخضعوا لآدم صورةً، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس، وحجب بالفرق عن الجمع، فلم ير إلا حس آدم دون معناه، فامتنع عن السجود. وفي الحِكَم العطائية: «فمن رأى الكون، ولم يشهد الحق فيه، أو عنده، أو قبله، أو بعده، أو معه، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار» . ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح لغلبة الفرق على الناس، إلا مَن سبقت له العناية، فإنه يخضع مع الفرق محبة لله، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا، والسير على منهاجه- أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله- هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله: (هذا صراط عَلَيَّ مستقيم) . والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من لا تسلط للشيطان عليه، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 42 الى 48]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)(3/89)
قلت: (إلا من اتبعك) : يحتمل ان يكون منقطعاً، ويريد بالعباد: الخصوص من أهل الإيمان والإخلاص، أي:
إن عبادي المخلَصين لا تسلط لك عليهم، لكن من اتبعك من الغاوين فهو من حزبك. ويحتمل الاتصال، ويريد بالعباد جميع الناس، أي: إن عبادي كلهم لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، إلا من اتبعك من أهل الغواية، فإنك تتسلط عليه بالوسوسة والتزيين والتحريض فقط، فيتبعك لقوله يوم القيامة: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «1» . وعلى الاتصال يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى، وإلا تناقض مع قوله:
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قال أبو المعالي: كون المستثنى أكثر من المستثنى منه ليس معروفاً في كلام العرب. انظر ابن عطية والبيضاوي.
ومِنْهُمُ: حال من جزء مقدم، أي: لكل باب جزء حاصلٌ منهم مقسوم، أو من المستكن في الظرف لا من مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها. وإِخْواناً: حال من الضمير المضاف إليه لأنه جزء ما أضيف إليه، والعامل فيه: الاستقرار، أو معنى الإضافة، وكذا: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ، ويجوز أن يكونا صفتين لإخوان، أو حالين من ضميره.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ عِبادِي المتحققين بالعبودية لي، المخلصين في أعمالهم، لَيْسَ لَكَ يا إبليس عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: غلبة وتسلط بالغواية والإضلال، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الذين سبقت لهم الغواية، وتنكبتهم العناية. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ: لموضع إبعاد الغاوين أو المتبعين لك أَجْمَعِينَ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون فيها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وفي كل طبقة باب يسلك منه إليها، فأعلاها: جهنم، وهي للمذنبين من الموحدين، ثم لظى لليهود، ثم الحُطمة للنصارى، ثم السعير للصابئين، ثم سقر للمجوس، ثم الجحيم للمشركين، وكبيرهم أبو جهل، ثم الهاوية، وهي الدرك الأسفل، للمنافقين،
__________
(1) من الآية 22 من سورة إبراهيم.(3/90)
وعبَّر في الآية عن النار جملة، بجهنم إذ هي أشهر منازلها وأولها، وهو موضع العصاة الذين لا يخلدون، ولهذا رُوي أن جهنم تخرب وتبلى، يعني: حين يخرج العصاة منها. وقيل: أبواب الطبقات السبع كلها من جهنم، ثم ينزل من كل باب إلى طبقته التي تفضى إليه. قاله ابن عطية.
قال البيضاوي: ولعل تخصيص العدد بالسبعة، لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات، ومتابعة القوة الشهوية والغضبية. هـ. فالقوة الشهوية محلها ست وهي: السمع والبصر والشم واللسان والبطن والفرج. والقوة الغضبية في البطش باليد والرجل، فالمعاصي المهلكات جلها من هذه السبع، ومَلِكها القلب، إذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت. كما في الحديث. ثم قال البيضاوي: أو لأن أهلها فرق سبع. هـ. يعنى: الفرق التي تقدمت للطبقات، قال تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي: من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ أفرد له، لا يدخل إلا منه، ولا يسكن إلا في طبقته. وقد تقدم أهل كل طبقة، من عصاة الموحدين إلى المنافقين.
ثم شفع بضدهم، على عادته سبحانه وتعالى في كتابه، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ للكفر والفواحش، أو لمتابعة إبليس، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، لكل واحد جنة وعين، أو لكل واحد جنات وعيون، يقال لهم عند دخولهم:
ادْخُلُوها، وقرأ رويس عن يعقوب: «أدخلُوها» بضم الهمزة وكسر الخاء، على البناء للمفعول، فلا يكسر حينئذٍ التنوين، أي: تقول الملائكة لهم: ادخلوها، أو قد أدخلهم الله إياها. بِسَلامٍ أي: سالمين من المكاره والآلام، أو مسلماً عليكم بالتحية والإكرام، آمِنِينَ من الآفة والزوال.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي: من حقد وعداوة كانت في الدنيا، وعن على رضي الله عنه: (أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم) ، أو من التحاسد على درجات ومراتبِ القُرْبِ.
قلت: أما التحاسد على مراتب القرب فلا يكون لاستغناء كل أحد بما لديه، وأما التأسف والندم على فوات ذلك بالتفريط في الدنيا فيحصل، ففي الحديث: «ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلاَّ على سَاعَةٍ مَرَّتْ لهم لَمْ يَذْكُرُوا الله فيهَا» «1» . ولا يحصل التحسر حتى يرى ما فاته باعتبار وقوفه. قال ابن عطية: ذكر هنا نزع الغل من قلوب أهل الجنة، ولم يذكر له موطناً، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها: أن ذلك على أبواب الجنة، وفي بعضها: ان الغل يبقى على أبوابها كمعاطن الإبل. ثم قال: وجاء في بعض الأحاديث: أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة. والذي يقال في هذا: أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين. هـ.
__________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى محبة الله عزّ وجل 512) من حديث معاذ بن جبل، وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (2/ 471) للطبرانى والبيهقي فى الشعب، ورمز له بالحسن.(3/91)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قلت: والذي جاء في الأحاديث الواردة في أخبار الآخرة: ان أهل الجنة، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين، فيغتسلون في إحداهما، فتنقلب إجسادهم على صورة آدم عليه السلام، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد، وسائر الأمراض، وهو الشراب الطهور. قال القشيري في قوله تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1» : يقال: يُطَهَّرُهم من محبة الأغيار، ويقالُ: ويُطَهَّرُهم من الغلِّ والغِشِّ والدَّعوى ... الخ ما يأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وسترى وتعلم.
ثم قال تعالى: إِخْواناً، أي: لما نزعنا ما في صدورهم من الغل صاروا إخواناً متوددين، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يُقابل بعضهم بعضاً على الأسرة، لا ينظر أحد في فناء صاحبه. وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: المتجه أن المقابلة معنوية، وهي عدم إضمار الغل والإعراض، سواء اتفق ذلك حسّاً أم لا، ومن أضمر لأخيه غلاً فليس بمقابله، ولو كان وجهه إلى وجهه، بل ذلك أخلاقُ نفاقٍ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه. هـ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي: تعب، وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها. أكرمنا الله بتمام نعمته، ودوام النظر إلى وجهه. آمين.
الإشارة: لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان، حين يكون عبداً خالصاً لله، حرا مما سواه، وذلك حين ينخرط في سلك القوم، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، وذلك بتحقيق مقام الفناء، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله، ويصير نوراً من أنواره، يحترق به الباطل ويدمغ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم: نحن قوم لا نعرف الشيطان، فقال له القائل: فكيف، وهو مذكور في كتاب الله تعالى، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «2» ؟. فقال: نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط في سلك قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.. الآية، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور، حتى يوصلوه إلى نور النور، فيصير قطعة من نور، غريقاً في بحر النور. ومع هذا لا ينقطع عنه الخوف والرجاء، لقوله تعالى:
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
__________
(1) من الآية 21 من سورة الإنسان.
(2) من الآية 6 من سورة فاطر.(3/92)
يقول الحق جلّ جلاله: نَبِّئْ: أخبر، عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لمن آمن بي، وصدق رسلي، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لمن كفر بي، وجحد رسلي، أو بعضهم. قال البيضاوي: هي فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد، وتقرير له، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين متقى الذنوب بأسرها، كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب- أي: لم يقل وأنا المعذب المؤلم- ترجيح الوعد. هـ.
وذكر ابن عطية ان سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه، عند باب بني شَيْبَةَ في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم، ثم ولى، فجاءه جبريل عن الله، فقال: يا محمد أتُقَنِّط عبادي؟ وتلى عليه الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم «1» . هـ. ثم قال: ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. هـ.
قيل: وهذه الآية أبلغ ما في القرآن في إثارة الخوف والرجاء، من الآي التي لا تشبهها في الإجمال لما فيها من التصريح، ثم الرجاء فيها أغلب لأجل التقديم، مع ذكره في آية الرجاء، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه، وهو مذهب الصوفية في حال الحياة والممات.
الإشارة: الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان، فتاره يغلب عليه الخوف، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال، قال في التنبيه: أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة، ناظرون إلى ربهم، فانون عن أنفسهم، فإذا وقعوا في ذلة، أو أصابتهم غفلة، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة، أو لاح منهم لائح من يقظة، لم يشهدوا في ذلك أنفسهم، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره، وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره، ولا فرق عندهم بين الحالين لأنهم غرقى في بحار التوحيد، قد استوى خوفهم ورجاؤهم، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان، ولا يزيد في رجائهم ما يأتون من الإحسان. هـ. قلت: بل طرق الرجاء عندهم أرجح، كما تقدم لأن الرجاء ناشئ عن غلبة المحبة، وهي غالبة.
والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه بنحوه الطبري فى تفسيره (14/ 102) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره الواحدي فى أسباب النزول (283) بدون سند.(3/93)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
ثم ذكر قصة إبراهيم مع أضيافه لاشتمالها على الرحمة، وهى البشارة بالولد، وعلى النقمة، وهى الإعلام بتعذيب قوم لوط، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 60]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
قلت: سَلاماً: مفعول بمحذوف، أي: سلمنا سلاماً، أو نسلم عليكم سلاماً. والضيف يطلق على الواحد والجماعة، والمراد هنا: جماعة من الملائكة. و (تُبشرون) : قرئ بشد النون بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وبالتخفيف بحذف إحدى النونين، وبالفتح، على أنها نون الرفع. و (يقنط) : بالفتح والكسر، يقال: قنط كضرِب وعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنَبِّئْهُمْ أي: وأخبر عبادي عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ حين بشروه بالولد، وأعلموه بعذاب قوم لوط، لعلهم يعتبرون فيرجون رحمته ويخافون عذابه. أو: ونبئهم أن من اعتمد منهم على كفره وغوايته، فالعذاب لاحق به في الدنيا، كحال قوم لوط. ثم ذكر قصتهم من أولها فقال: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، وذلك حين دَخَلُوا عَلَيْهِ، وهم أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فَقالُوا سَلاماً أي: نُسلم عليكم سلاماً، قال: سلام، ثم أتاهم بعجل حنيذ، فلما قربه إليهم، قالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن، فقال إبراهيم: إن له ثمناً، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا ان يتخذه ربه خليلاً، فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم. ومن طريق آخر: أن جبريل مسح بجناحه العجْل، فقام يدرج حتى لحق بأمه فى الدار. هـ. هكذا ذكر القصة المحشي الفاسي عن ابن حجر.
فلما أحس إبراهيم عليه السلام بالخوف منهم قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ: خائفون إما لامتناعهم من أكل طعامه، أو لأنهم دخلوا بغير إذن، أو في غير وقت الدخول. والوجل: اضطراب النفس لتوقع مكروه. قالُوا لا تَوْجَلْ:(3/94)
لا تخف، ثم عللوا نهيه عن الخوف فقالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ وهو إسحاق، لقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ «1» ، عَلِيمٍ إذا بلغ أوان العلم. قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي: أبشرتموني بالولد مع أني قد كبر سني، وكان حينئذٍ من مائة سنة وأكثر، فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ أي: فبأي أعجوبة تبشرون؟ أو فبأي شيء تبشرون؟
فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء. قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كِبَرهِ.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ: باليقين الثابت الذي لا محالة في وقوعه، فلا تستبعده، ولا تشك فيه، فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ: من الآيسين، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوز عاقرٍ. وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ولذلك قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ أي: لا ييأس من رحمة ربه إِلَّا الضَّالُّونَ: المخطئون طريق المعرفة، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى، وكمال قدرته. قال القشيري: أي: من الذي يقنط من رحمة الله إلا من كان ضالاً، فكيف أخطأ ظنكم بي، فتوهمتم أني أقنط من رحمة ربي؟. هـ. وفيه دليل على تحريم القنوط قال تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «2» .
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي: ما شانكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ ولعله علم ان كمال المقصود ليس هو البشارة فقط، لأنهم كانوا عدداً، والبشارة لا تحتاج إلى عدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم. أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لأزالة الوجل، ولو كانت تمام المقصود لابتدروه بها. ثم أجابوه: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني: قوم لوط لأن شأنهم الإجرام بفعل الفاحشة، إِلَّا آلَ لُوطٍ أي: لكن آل لوط لم نُرْسَل إلى عذابهم إذ ليسوا مجرمين. أو أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم، إلا آل لوط، لنهلك المجرمين وننجي آل لوط، ويدل عليه قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ من العذاب الذي يهلك به قوم لوط.
قال ابن جزي: قوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ: يحتمل أن يكون استثناء من قومه، فيكون منقطعاً لوصف القوم بالإجرام، ولم يكن آل لوط مجرمين. ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في مُجْرِمِينَ فيكون متصلاً، كأنه قال: إلى قوم أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا، وقوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آل لوط، فهو استثناء من استثناء. قيل: وفيه دليل على أنَّ الأزواج من الآل لأنه استثنى امرأته من آله. وقال الزمخشري: إنما هو
__________
(1) من الآية 71 من سورة هود. [.....]
(2) من الآية 87 من سورة يوسف.(3/95)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
استثناء من الضمير المجرور في قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ، وذلك هو الذي يقتضيه المعنى. هـ. أي: إنا لمنجوهم من العذاب إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب مع الكفرة لتهلك معهم، وقرأ أبو بكر عن عاصم: «قدرنا» بالتخفيف، وهما لغتان، يقال: قدّر الله كذا وقدره. قال البيضاوي: وإنما علق، والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم، ويجوز أن يكون (قدرنا) : أجرى مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأصله: جعل الشيء على مقدار غيره، وإسناد التقدير إلى إنفسهم، وهو فعل الله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص. هـ.
قلت: وفيه إشارة إلى حذف الوسائط، كما هو توحيد المحققين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية، فالوجل والخوف والفرح والحزن والتعجب والاستعظام للأشياء الغريبة، كل ذلك من وصف البشر، يقع من الخصوص وغيرهم، لكن فرق بين خاطر وساكن فالخصوص تهجم عليهم ولا تثبت، بخلاف العموم.
ويؤخذ من الآية: أن صحبة الخصوص لا تنفع إلا مع الاعتقاد والتعظيم، فإنَّ امرأة نبي الله لوط كانت متصلة به حساً، ومصاحبة له، ولم ينفعها ذلك، حيث لم يكن لها فيه اعتقاد ولا تعظيم. وكذلك صحبة الأولياء: لا تنفع إلا مع الصدق والتعظيم. وقول ابن عطاء الله: «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه.
ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» : مقيد بوصول التعظيم والاعتقاد، والاستماع والاتباع. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هلاك قوم لوط، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 77]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)(3/96)
قلت: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، القضاء هنا بمعنى القدر السابق، وضمَّنه معنى أوحينا، فعداه بإلى. و (أنَّ دابر) : بدل من الأمر، وفي ذلك تفخيم الأمر وتعظيم له، ومُصْبِحِينَ: حال من «هؤلاء» ، أو من ضمير مقطوع، وجمعه للحمل على المعنى لأن دابر بمعنى دوابر، أي: قطعنا دوابرهم حال كونهم داخلين في وقت الصباح.
ولَعَمْرُكَ: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: قسمي، قال ابن عزيز: عَمْرٌ وعُمْرٌ واحد، ولا يقال في القسم إلا مفتوحاً، وإنما فتح في القسم فقط لكثرة الاستعمال.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، وهم أضياف إبراهيم، فلما دخلوا عليه ولم يعرفهم، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا نعرفكم. أو تنكركم نفسي مخافة أن تطرقوني بشيء، قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما يسرك، وهو: قطع الفاحشة من بلدك، وإتيان العذاب لعدوك الذي توعدناهم، فكانوا يمترون فيه ويشكون في إتيانه، وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين الثابت، وهو إتيان العذاب لا محالة، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ: فاذهب بهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي: فاخرج بهم في طائفة من الليل، قيل: آخره، وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي: كن خلفهم في ساقتهم، حتى لا يبقى منهم أحد، أو: أمره بالتأخر عنهم ليكونوا قدامه، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا خلفه لخوفه عليهم، أي: ليسرع بهم، ويطلع على أحوالهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ خلفه، لينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو: ولا ينصرف أحد منكم، ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما أصابهم. وقيل: نهوا عن الالتفات ليوطنوا أنفسهم على الهجرة. وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي: إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، وقال بعضهم: «ما من نبي هلك إلا لحق بمكة، وجاور بها حتى مات» .
وَقَضَيْنا: أوحينا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، وهو هلاك قومه، ذكره مبهماً ثمَّ فسره بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وهو كناية عن استئصالهم، والمعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد، حال كونهم وقت العذاب مُصْبِحِينَ: داخلين في الصباح.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وهي سدوم، يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط طمعاً فيهم في فعل الفاحشة، والظاهر:
أن هذا المجيء إليه، وما جرى له معهم من المحاورة، كان قبل الإعلام بهلاكهم، كما تقدم في هود. وانظر ابن عطية. فلما جاءوه يراودونه عن ضيفه قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بهتك حرمة ضيفي، فإنَّ(3/97)
من فُضح ضيفه فقد فُضح هو، ومن أًسِيء إلى ضيفه فقد أُسيء إليه، وَاتَّقُوا اللَّهَ في ركوب الفاحشة، وَلا تُخْزُونِ: ولا تهينوني بإهانتهم. والخزي هو الهوان، أو: ولا تخجلون فيهم، من الخزاية وهو الحياء.
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير منهم أحداً، أو تحول بيننا وبينهم، وكانوا يتعرضون لكل أحد، وكان لوط عليه السلام يمنعهم ويزجرهم عنه بقدر وسعه. وذكر السدي: إنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة بالغرباء، ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق. هـ. أو: أَوْ لم ننهك عن ضيافة العالمين وإنزالهم؟ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي تُزَوِّجُوهُنَّ إياكم، وقد كان يمنعهم قبل ذلك لكفرهم، فأراد أن يقي أضيافه بهن. ولعله لم يكن حراماً في شريعته. أو يريد بالبنات نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر، أو: ما أقولُ لكم من التزويج، فابوا، ولجوا في عملهم.
قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لَعَمْرُكَ: لحياتك يا محمد، أقسم بحياته- عليه الصلاة والسلام- لشرف منزلته عنده. قال ابن عباس- رضى الله عنهما: «ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته، فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال القرطبي: وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم: ينعقد به يمينه، وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكون النبي صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة. قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: هذا إذ استدل من جوّز الحلف به عليه الصلاة والسلام، بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا جاء صاحبه قال له: احلف لي بما حوى هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. هـ «1» .
قلت: ومذهب مالك أنه لا ينعقد يمين بغير الله، وصفاته، وأسمائه. وقيل: إن قوله تعالى: لَعَمْرُكَ: هو من قول الملائكة للوط، أو لحياتك يا لوط، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ: أي: لفي غوايتهم، أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب، يتحيرون. والغلمة: شهوة الوقاع. والعمه: الحيرة، أي: إنهم لفي عماهم يتحيرون، فكيف يسمعون نصح من نصحهم؟ والضمائر لقوم لوط، وقيل: لقريش، والجملة: اعتراض.
قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، يعني: صيحة هائلة مهلكة. قال ابن عطية: هذه الصيحة صيحة الرجعة، وليست كصيحة ثمود. هـ. وقيل: صاح بهم جبريل فأهلكتهم الصيحة، مُشْرِقِينَ: داخلين في وقت شروق الشمس فابتدئ هلاكهم بعد الفجر مصبحين، واستوفى هلاكهم مشرقين. فَجَعَلْنا عالِيَها أي: عالي المدينة، أو قراها، سافِلَها، فصارت منقلبة بهم.
__________
(1) ملخّصا.(3/98)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
رُوي أن جبريل عليه السلام اقتلعَ المدينة بجناحيه ورفعها، حتى سمعت الملائكة صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها وأرسل الكل، فمن كان داخل المدينة أو القرى مات، ومن كان خارجاً عنها أرسلت عليه الحجارة، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ: من طين متحجر مطبوخ بالنار. وقد تقدّم في سورة هود «1» مزيد بيان لهذا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ: المتفكرين المعتبرين المتفرسين في الأمور، الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته، وَإِنَّها أي: المدينة أو القرى، لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ: لفي طريق ثابت يسلكه الناس، ويمرون به، ويرون آثارها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً: لعبرة لِلْمُؤْمِنِينَ بالله ورسله فإنهم هم المهتدون للتفكر والاعتبار، دون من غلبت عليه الغفلة والاغترار، كحال الكفار والفجار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما بعث الله داعياً يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه، بعد الإيمان، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها، وعدم الخروج عنها، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها.
وكذلك في طريق الخصوصية: ما بعث الله ولياً مربياً إلا وكان أول ما يأمر: بخرق، العوائد لاكتساب الفوائد، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها. وفي الحِكَم: «كيف تخرق لك العوائد، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد» . فمن تربى في الرئاسة والجاه فلا مطمع له في الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها، وكذلك سائر العوائد النفسانية، والحظوظ الجسمانية، فمن جاور قوماً منهمكين فيها، ولم يجد من يساعده على خرقها، فليهاجر منها، ويقال له: فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع، إلا بعد الرسوخ والتمكين في معرفة الحق تعالى، وليمض حيث يجد من ينهض معه إلى الله في نقل عوائدها وعوائقها.
وقوله تعالى: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ: هذه عادة أهل الغفلة، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم، هرعوا إليه مستبشرين، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه، ومقتوه، وربما أخرجوه من بلدهم، قال تعالى في أمثالهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) . وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة شعيب عليه السلام، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
قلت: «إن» : مخففة، واللام فارقة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ، وهم قوم شعيب، كانوا يسكنون غيضة، وهي الأيكة. والأيكة: الشجر الملتف، قيل: كانت من الدوح، وقيل: من السدر، فكانوا يسكنون فيها، ويرتفقون بها
__________
(1) راجع تفسير الآيات 81- 83.(3/99)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
فى معايشهم، فبعث الله لهم شعيباً عليه السلام فكفروا به، فسلط الله عليهم الحر سبعة أيام، ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها، فاضطرمت عليهم ناراً، فاحترقوا. قال تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالهلاك بالحر، وَإِنَّهُما، يعني: سدوم مدينة قوم لوط، والأيكة قرية شعيب. وقيل: الأيكة ومدين لأن شعيباً عليه السلام كان مبعوثاً إليهما، وكان ذكر أحدهما مغن عن الآخر، لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: لبطريق واضح يسلك منه إلى الشام، فيعتبر كل من وقف بآثارهم. والإمام: ما يؤتم به، ويوصل إلى المقصود من طريق أو غيره. وقيل: وَإِنَّهُما أي: لوط وشعيب، على طريق من الشرع واضح. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أهلكَ اللهُ قَوماً إلا كانوا عبرة لمن بعدهم، فالعاقل يبحث عن سبب هلاكهم، فيعمل جهده في التحرز منه، والغافل منهمك في غفلته، لا يلقى لذلك بالاً، حتى يأتيه ما يوعد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
قلت: (بيوتاً) : مفعول (ينحتون) ، بمعنى يتخذون، أو يصنعون. و (آمنين) : حال من فاعل (ينحتون) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ هم قوم ثمود، والحِجْر: واديهم الذي يسكنونه، وهو بين المدينة والشام. كذبوا صالحاً عليه السلام، ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذّب الجميع لأنهم جاءوا بأمر متفق عليه، وهو التوحيد، أو يراد به الجنس، كما تقول: فلان يركب الخيل، وإنما يركب فرساً واحداً، أو يراد به صالح ومَن معه من المؤمنين لموافقتهم له فيما يدعو إليه. وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعني: الناقة، وما كان فيها من العجائب، كسقيها وشربها ودرها، أو ما نزل على نبيهم من الكتب، أو ما نصب لهم من الأدلة. فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ: لم ينظروا فيها، ولم يعتنوا بأمرها.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ: يصنعون، والنحت: النقر بالمعاول في الحجر والعود وشبهه، فكانوا يتخذون مِنَ الْجِبالِ بالنقر فيها، بُيُوتاً يسكنونها آمِنِينَ من الانهدام، ونقب اللصوص، وتخريب الأعداء لوثوقها.
أو من العذاب لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ: داخلين في وقت الصباح، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة، واستكثار الأموال والعدد.(3/100)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
الإشارة: من علامة الغفلة عن الله: الإنكار على أولياء الله، والإعراض عما خصهم الله تعالى به من الآيات وخوارق العادات، كالعلوم اللدنية والمواهب القدسية، وكمال المعرفة، والرسوخ في اليقين، وشهود رب العالمين، مع الاشتغال بعمارة هذه الدار، ونسيان دار القرار كأنه أمن من الموت من شدة الاغترار. وسبب ذلك: عدم التفكر والاعتبار. ولذلك قال تعالى بإثر قصص من أهلكهم من الأمم الغافلة:
[سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الكائنات إِلَّا بِالْحَقِّ أي:
إلا خلقاً ملتبساً بالحق، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا، فمن كمال القدرة: إهلاك أهل الفساد، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم. فالحكمة رداء للقدرة، القدرة تبرز، والحكمة تستر، فإظهار الكائنات يدل على كمال القدرة، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة. ومن مقتضيات الحكمة: ترتيب الجزاء على العمل، بحيث لا يهمل عملاً، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح، واعتقادهم الصحيح، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة. وأهل الانتقام يترتب الانتقام منهم على عملهم الفاسد، واعتقادهم الباطل، وعلى ما قالوا في الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، من الدعة والحظوظ الفانية، ولذلك رتَّب عليه قوله:
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فيجازي فيها من يستحق الإكرام، ويعاقب من يستحق الانتقام، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك، فَاصْفَحِ اليوم الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ولا تعجل بالانتقام، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وكان هذا قبل الأمر بالقتال. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الذي خلقك وخلقهم، وبيده أمرك وأمرهم، الْعَلِيمُ بحالك وبحالهم، فهو الحقيق بأن تتكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم. أو: هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم، العليم بما هو الأصلح لكم في الوقت، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة.
الإشارة: ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع. وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار، وإنما جعلها قنطرة ومعبراً لدار القرار. إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية. وإن الساعة لآتية، فاصبر في هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان، وجفوة الإخوان، واصفح الصفح الجميل،(3/101)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
حتى ترد النعيم الباقي، والجزاء الجزيل. وتخلق بأخلاق الحليم الكريم، إن ربك هو الخلاق العليم، فلا قدرة لك على شيء إلا بقدرة السميع العليم.
ثم أمر نبيه بالغنى بالله وبكلامه، عن التطلع إلى زهرة الدنيا، والمراد: الأمر بدوامه على ما كان عليه، فقال:
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قلت: السبع المثاني: هي الفاتحة عند الجمهور، و (من المثاني) : للبيان، وعطفُ القرآن عليها من عطف العام على الخاص. و (أنزلنا) : نعت لمفعول النذير، أي: أنا النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقيل:
صفة لمصدر محذوف يدل عليه: (ولقد آتيناك) فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، وهم، على هذا، أهل الكتاب. و (عِضِين) : جمع عضة. وأصله: عِضْوة، من عَضَوْتَ الشيء: فَرَّقْته، حُذفت لامه، وعوض منها هاء التأنيث، فجمع على عضين، كعزَةٍ وعزين. وقيل: أصله: عضة من عضهته: رميته بالبهتان، قال في الصحاح: عَضَهَهُ عَضْهاَ: رماه بالبهتان. وقد أعْضَهْتَ، أي: جئت بالبهتان. فهما قولان في أصل عِضة.
هل هو واوي أو هائي. والموصول مع صلته نعت للمقتسمين.
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، وهي فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات، وتثنى- أي: تكرر- في كل صلاة، فالمثاني من التثنية، وقيل: من الثناء لأن فيها الثناء على الله تعالى، وقيل: السبع المثاني هي السبع الطوال، وهي البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال مع براءة. ولذلك تركت البسملة بينهما. وكونها مثاني لتثنية قصصها، أو ألفاظها، وقيل:
هى الحواميم السبع. وَآتيناك الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، ففيه الغنية والكفاية عن كل شيء.(3/102)
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ: لا تطمح ببصرك طموح راغب إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي: أصنافا من الكفار، من زهرة الحياة الدنيا، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفي حديث أبي بكر: «من أوتي القرآن، فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً» . «1» قال ابن جزي: أي: لا تنظر إلى ما متعناهم به في الدنيا، ومعنى الآية: تزهيد في الدنيا، كأنه يقول: قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم فلا تنظر إلى الدنيا، فإن الذي أعطيناك أعظم منها. هـ.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم وافى مع أصحابه أذْرِعَات، فرأى سبع قوافل ليهود بني قُرَيْظَة والنَّضير، فيها أنواع البُرِّ، والطيب والجواهر، وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «قد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل» . «2» .
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ: لا تتأسف على كفرهم حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا. أو: حيث متعناهم بالدنيا فلم ينتفعوا بها، ولم يصرفوها في مرضاة الله، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: تواضع وألن جانبك للمؤمنين، وارفق بهم. والجناح، هنا، استعارة. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ: البين الإنذار، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا، وفي الحديث: «أنا النذير، والموت مغير، والقيامة الموعد» . أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث آخر: «أنا النَّذير العُريَانُ» . وكانت العرب، إذا رأى أحْدهم جيشاً يقصدهم، تجرد من ثيابه، ثم أنذر قومه ليصدقوه، أي: وقل: إني أنذرتكم ان ينزل بكم عذابه.
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، أي: مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين، وهم أهل الكتاب، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض، فاقتسموا قسمين. والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية، أو تسليط عدوهم عليهم. وقيل: هم كفار قريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم، فوقف كل واحد منهم على باب، وكانوا اثني عشر رجلاً، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، يقول أحدهم: هو ساحر، والآخر: هو شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر. وقيل: هم الرهط الذين اقتسموا، أي: تقاسموا ليُبيتوا صالحاً، فأسقط الله عليهم الغار الذي كمنوا فيه، فشدخهم.
أو: آتيناك القرآن، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين، وهم اليهود، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي: أجزاء متفرقة، وقالوا فيه أقوالاً مختلفة، فقالوا عناداً وكفراً: بعضه موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه
__________
(1) قال الولي العراقي: لم أقف عليه، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: لم أجده من حديث أبى بكر.
وأخرجه ابن عدى فى الكامل (2/ 787) ، ولفظه: (من تعلم القرآن وظن أن أحدا ... ) فذكره من حديث ابن مسعود مرفوعا..
وراجع الفتح السماوي (2/ 750) .
(2) قال المناوى فى الفتح السماوي: لم أقف عليه. وذكره الواحدي فى الأسباب (283) عن الحسين بن الفضل مرسلا.(3/103)
باطل مخالف لهما. وإذا قلنا المقتسمين: هم كفار قريش، حيث اقتسموا أبواب مكة، فقد جعلوا القرآن عضين إجزاء متفرقة، فقد قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، أو جعلوه بهتاناً متعدداً، على تفسير العضة بالبهت.
وفي الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة» »
أي: الباهتة، والمستبهتة: الطالبة له.
قال تعالى في وعيد المقتسمين: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم والتكذيب، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي، وفي البخاري: «لنسألنهم عن لا إله إلا الله» . فإن قيل: كيف يجمع بين هذا وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ؟ «2» فالجواب: أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض لأن الله تعالى يعلم الأعمال، فلا يحتاج إلى سؤال. وقيل: في القيامة مواطن وخوارق، فموطن يقع فيه السؤال، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ: فاجهر، وصرح به، وأنْفِذْه، من صدع بالحجة:
إذا تكلم بها جهاراً. أو: فَرِّقْ، بما تؤمر به، بين الحق والباطل، وأصله: الشق والإبانة، وما: مصدرية، أو موصولة، والعائد محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تلتفت إلى ما يقولون، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحي والصدع به وإظهاره.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك، وبما أنزلنا إليك بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه، من غير سعى من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وكانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن يغوث، كانوا يبالغون فى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به، فقال جبريلُ للنبى صلى الله عليه وسلم:
«أمرتُ بأن أكفيكهم» فأومأ إلى ساق الوليد فمرَّ بنبَّالٍ فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف لأخذه، تعظماً، فأصاب عرقاً في عقبه فمات. وقيل: خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة. وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيها شوكة، فانتفخت حتى صارت كالرحى، فمات. وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحاً فمات. وأومأ إلى الأسود ابن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. وقيل:
استسقى بطنه فمات، ولعله جمع بينهما. وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي. وفي السيرة، بدل عدي بن قيس، الحارث بن الطلاطلة، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله «3» .
__________
(1) عزاه فى الفتح السماوي (2/ 752) لابن عدى فى الكامل من حديث ابن عباس، وفى إسناده ضعف.
وقوله: العاضهة والمستعضهة: أي: الساحرة والمستسحرة ... انظر النهاية (3/ 255) .
(2) الآية 39 من سورة الرحمن.
(3) أخرجه الطبراني فى الأوسط، كما فى المجمع (7/ 46) ، وأبو نعيم فى الدلائل، (باب قوله: فاصدع بما تؤمر 2/ 316) والبيهقي فى الدلائل (باب المستهزءون وأسماؤهم) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(3/104)
وقيل: هم الذين قُتلوا ببدر كأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط. والأول أرجح لأن الله تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة. إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل لتحققه، أي: إنا سنكفيك المستهزئين الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعبدونه من دون الله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين.
ثم سلَّى نبيه عن أذاهم فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ في جانبنا من الشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بك، فلا تعبأ بهم، ولا تلتفت إليهم. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: فنزه أنت ذاتنا وصفتنا، مكان مقالتهم فينا فإن مثلك منزهنا لا غير، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي: المصلين، أو: فافزع إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد. وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلين، يكفك، ويكشف الغم عنك، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «1» أو: فنزهه عما يقولون، حامداً له على أن هداك للحق، وكن من الساجدين له شكراً.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي: الموت، فإنه متيقن لحاقه، وليس اليقين من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين، لا يمتري فيه، فسمي يقيناً تجوزاً. أو: لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيباً سمي يقيناً. والمعنى:
فاعبده ما دمت حياً، ولا تُخِلّ بالعبادة لحظة. وفي بعض الأحاديث عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إِنَّ اللهَ لم يُوح إليَّ أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، وإنما أوحى إليَّ أن: سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» «2» . أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الإشارة: يقال للعابد، أو الزاهد: ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، تتمتع بحلاوته، وبالتهجد بتلاوته، ففيه كفايتك وغناك، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الدنيا، الراغبين فيها، المشتغلين بها عن عبادة خالقها. قيل: لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والنظر في أبناء الدنيا، فإنه يقسي القلب ويورث حب الدنيا، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة، فتميلوا لزينة الدنيا فو الله لو كانت الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ مَا سَقَى الكافرَ منها جرعة ماء» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغني لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة، وذهب ثلثا دينه» . هذا إن تواضع بجسمه فقط، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله.
ويقال للعارف: ولقد آتيناك شهود المعاني، وغيبناك عن حس الأواني، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني، فسمعت القرآن من مُنزله دون واسطة. وذلك بالفناء، عن الوسائط، في شهود الموسوط، حتى يفنى عن نفسه في حال قراءته.
__________
(1) أخرجه بنحوه أبو داود فى (الصلاة، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل) عن حذيفة، وأخرجه الإمام أحمد (5/ 388) فى قصة الخندق مطولا.
(2) أخرجه ابن عدى فى الكامل (5/ 1897) والواحدي: فى الوسيط (3/ 54) والبغوي فى تفسيره (4/ 397) عن جبير بن نفيل، مرسلا..(3/105)
ويقال له: لا تمدن عينيك إلى شهود الحس، ولا إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الحس، الواقفين مع شهود الحس فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأواني، بل المفنية للأواني عند سطوع المعاني. ولا تحزن عليهم حيث رايتهم منهمكين في الحس فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك، وقل: إني أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة، والغفلة، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين إجزاء متفرقة فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها، والانقطاع إلى الله عنها، والتجريد عن أسبابها، رفضوه. فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون.
فاصدع، أيها العارف الواعظ، بما تُؤمر من الأمر بالزهد، والانقطاع إلى الله، ولرفض كل ما يشغل عن الله، ولا تراقب أحداً في ذات الله، وأعرض عن المشركين، الذين أشركوا في محبة الله سواه، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله، وهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فلا وجود لها في الحقيقة مع الله. فإن استهزءوا بك، وصغروا أمرك، فسيكفيكهم الله. فاشتغل بالله عنهم، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون، (فسبح بحمد ربك) أي: نزِّهه عن شهود السِّوى معه، حامداً الله على ما أولاك من نعمة توحيده، (وكن من الساجدين) لله شكراً، وقياماً برسم العبودية، أو: كن من الساجدين بقلبك في حضرة القدس، حتى يأتيك اليقين «1» .
وفي الورتجبي، في قوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَكَ يضيقُ صدرك) ، قال: واسى الحقُّ حبيبَه بما سمع من أعدائه، وقال له: أنت بمرأىً منا، يضيق صدرك من لطافتك، بما يقول الجاهلون بنا في حقنا، مما لا يليق بتنزيهنا، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا، فإن مثلك منزهنا لا غير، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم. هـ.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
__________
(1) اليقين- هنا- هو الموت. أي: اعبد ربك إلى آخر لحظة من عمرك.(3/106)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
سورة النّحل
مكية، إلا قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ... الآية، نزلت فى غزوة أحد. وهى مائة وثمان وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» وهو الموت وما بعده من البعث والحساب، وهو أمر الله الذي أشار إليه بقوله:
[سورة النحل (16) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
يقول الحق جلّ جلاله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي: البعث والحساب. وعبّر بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو: ثبت أمره وقضاؤه، وقد جفّ القلم بما يكون، لا عن سؤال واستعجال، وتدبير من الخلق، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه، ولذلك نزّه نفسه بقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. أو: إهلاك الله إياهم يوم بدر، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة، وإهلاكهم ونصره عليهم، استهزاء وتكذيباً ولذلك قال:
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، والمعنى: أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي، لتحقّق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع فلا تستعجلوا وقوعه، فإنه لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه.
ورُوِيَ لمّا نزل قوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، وثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ورفع الناس رؤوسهم، فلما قال: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، سكن. وكان المشركون يقولون: إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا، فقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزه وجلَّ عن أن يكون له شريك، فيدفع ما أراد بهم. هـ.
وقرأ الأخوان بالخطاب، على وفق قوله: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، والباقون بالغيب، على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أي: أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون. أو: لهم ولغيرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا أشرق نورُ اليقين في صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد الله به من أمر الغيوب، فصار الماضي آتياً، والمستقبل واقعًا. وفي الحكم: «لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها» . وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع، واجبة الحصول، ينتظرون وقوعها في مواقيتها، شيئًا فشيئًا، ويتلقونها بالمعرفة والأدب فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر، هكذا نظرهم دائمًا إلى ما يبرُز من عنصر القدرة، ليس لهم
__________
(1) من الآية الأخيرة من سورة الحجر.(3/107)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
وقت دون ما هم فيه، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره، ولا يشركون مع الله في تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين، فهم، في عموم أوقاتهم، مستغرقون في شهود المحبوب، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب، سوى شهود وجه المحبوب، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.
وسبب وجود هذا فى قلوبهم حياة روحهم بالإيمان التام، والمعرفة الكاملة، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة النحل (16) : آية 2]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قلت: (أن أنذروا) : مفسرة، بمعنى أي لأن الوحي فيه معنى القول. أو مصدرية في موضع الجر، بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة. وقوله: (لا إله إلا أنا) : جرى على المعنى، ولم يجر على اللفظ، وإلا لقال: لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسي: وسر ذلك هنا: التصريح بالمقصود، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره، كما قيل في قوله: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» ، أي: ولم يقل: فإياه فارهبوا، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب، وتصريحا بالمقصود، كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غير. هـ.
قلت: وكأنه قال هنا: يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد، وأنا ذلك الواحد.
يقول الحق جلّ جلاله، تحقيقًا لِمَا وعدهم به، وأن ذلك الوعد، مع دنوه وقربه بالوحي، فلا خلف فيه، فقال:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي: جبريل، جمعه تعظيمًا، أو: لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة، فيحضرون الوحي حُرّسا له. أو: لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة، كما في صحيح مسلم: «إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك» «2» . وقال عليه الصلاة والسلام: «إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت» . ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار، وكان بعد عيسى عليه السلام، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا، ثم مات، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك، يقال له: رفائيل، فكان يلقي إليه الوحي، ويطوي له الأرض. هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب، فانظره.
__________
(1) من الآية 51 من سورة النحل.
(2) أخرجه بطوله مسلم فى (صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة) عن ابن عباس رضي الله عنه. [.....](3/108)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
وقوله: بِالرُّوحِ أي: بالوحي، أو القرآن فإنه سبب حياة القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والحجاب، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد. يُنزل ذلك مِنْ أَمْرِهِ أي: من أجل أمره وبيان شأنه، أو بأمره وإذنه، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أن يصطفيه للرسالة، قائلاً لهم:
أَنْ أَنْذِرُوا: خوفوا أهل الشرك، أو أعْلِموا عبادي أَنَّهُ أي: الأمر والشأن، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ بترك الكفر والمعاصي، أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بأن تُوحدوه، وتطيعوه فيما أمر به.
قال البيضاوي: والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأن حاصله: التنبيه على التوحيد، الذي هو القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية. وأن النبوة عطائية- أي: لا كسبية-، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه، على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك، فيلزم التمانع. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: بِالرُّوحِ: قال الورتجبي: الروح: الوحي الإلهي، سماه بالروح لأنه كلامه صدر من ذاته، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. هـ.
وقال القشيري في قوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ: على الأنبياء بالوحي والرسالة، وعلى أسرار أرباب التوحيد، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر، أي: الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق. هـ.
قلت: وكأنه ينظر إلى قوله- عليه الصلاة والسلام-: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم. والله تعالى أعلم.
ثم عرّف بنفسه، بما أظهر من تجلياته العلوية والسفلية، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 9]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)(3/109)
قلت: (وَالْأَنْعامَ) : منصوب بمحذوف، يفسره: (خَلَقَها) ، أو معطوف على «الإنسان» ، و (خَلَقَها لَكُمْ) : بيان لما خُلقتُ لأجله، وما بعده تفصيل له. و (مِنْها تَأْكُلُونَ) : إنما قدَّم المعمول للمحافظة على رؤوس الآي، أو: لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه. قاله البيضاوي. قلت: ولعله، عند مالك، للاختصاص، أي: منها تأكلون لا من غيرها إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
وقوله: (لَكُمْ) : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. (إِلَّا بِشِقِّ) : فيه لغتان:
الكسر والفتح، بمعنى التعب والكلفة، وقيل: المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه، أي: صَعُبَ، والمكسور بمعنى: النصف، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب. (وَالْخَيْلَ) : عطف على «الْأَنْعامَ» . و (زِينَةً) : مفعول من أجله، عطف على موضع «لِتَرْكَبُوها» : أي: للركوب والزينة، أو مفعول مطلق، أي: لتتزينوا بها زينة.
يقول الحق جلّ جلاله: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: أوجدهما بِالْحَقِّ أي: ملتبسًا بالحق لتدل على وحدانية الحق، وكمال قدرته وباهر حكمته، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص، وشكل بديع، وأوضاع مختلفة، وهيئات متعددة. أو: خلقهما بقضائه وتدبيره الحق، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير، ولذلك نزه نفسه بقوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، كما نزه نفسه، ابتداءً، لَمَّا نفَى الاستعجال لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم، وفي معناه: تنزيل الوحي على ما يشاء، لا على ما يشاء غيره لانفراده أيضًا في ملكه. وفي إبرازه ذلك، على ما يخالف آراء الخلق، أدل دليل على وحدانيته في ملكه، وإنما وضع كل شيء ودبره دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
ثم شفع بخلق الإنسان فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ أي: جنسه مِنْ نُطْفَةٍ: من ماء مهين يخرج من مكان مهين، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: مجادل، كثير الجدل والخصام، مبين لحجته، أو: خصيم: مكافح لخالقه، قائل:
(مَن يحيي العظامَ وهي رميم) . رُوي أنَّ أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم، فقال: يا محمد، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ؟ فقال: «نعم» . فنزلت. فعلى الأول: تكون الآية عامة لكل إنسان، وعلى الثاني: خاصة بالكافر. والأول أظهر.
ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد، فقال: وَالْأَنْعامَ وهي: الإبل والبقر والغنم، خَلَقَها: أوجدها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ما يُدْفأُ به فيقي البرد، يعني: ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، وَلكم(3/110)
فيها أيضًا مَنافِعُ أُخر كنسلها وظهورها. وإنما عبَّر بالمنافع ليتناول عِوضها. وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي:
تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي: زينة وبهجة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي، وَحِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها إلى المرعى بالغداة فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها. وقدَّم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ: أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها إِلى بَلَدٍ بعيد، لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ عليها، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم، إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إلا بكلفة ومشقة فديحة، أو: إلا بذهاب شِقها، أي:
نصف قوتها من التعب. إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل، والركوب عليها، وأنعم عليكم بالأكل من لحومها وألبانها.
وَخلق لكم الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها، وَتتزينوا بها زِينَةً، أو للركوب والزينة.
قال البيضاوي: وتغيير النظم- أي: حيث لم يقل: وللزينة- لأن الزينة بفعل الخالق، والركوب من فعل المخلوق- أي: باعتبار الحكمة-، ولأن المقصود خلقها للركوب، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ. وقرئ بغير واو، فيحتمل أن يكون علة لركوبها، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير، أي: متزينين، أو متزينًا بها. واستُدِلَّ به على حرمة لحومها، ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه، غالبًا، ألا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. هـ. وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ مما لا يُحيط البشرُ بعلمها من عجائب المخلوقات، وضروب المصنوعات، مما يؤكل ومما لا يؤكل، وما خلق في الجنة والنار، مما لا يخطر على قلب بشر.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: وعلى الله بيان السبيل القصد، أي: الطريق الموصل إلى المقصود. أو: على الله تقويم طريق الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: السبيل القصد، أي: القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليه القصد، وقال: وَمِنْها جائِرٌ عن القصد، أو عن الله، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق، يُذكر ويؤنث، وأُنِّثَ هنا. وتغيير الأسلوب- أي: حيث لم يقل: قصد السبيل والجائر- لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة، ولأن المقصود، بالأصالة، بيان سبيله، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي: ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.(3/111)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
الإشارة: هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها خليفة عن الله في ملكه. فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال: «يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أجلك، وخلقتك من أجلي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله» . والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص: ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر قال تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1» . فالرضوان على قسمين:
قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
ثم ذكر بقية التجليات، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
__________
(1) من الآية 72 من سورة التوبة.(3/112)
قلت: (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) : يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر (شَرابٌ) ، أو صفة لماء و (مَواخِرَ) :
جمع ماخرة، يقال: مخرت السفينة الماء مخرًا: شقّته، وقيل: المخر: صوت جَرْىِ الفلك في البحر من هبوب الريح.
وقيل: معناه: تجيىء وتذهب بريح واحدة. و (لِتَبْتَغُوا) : عطف على «لِتَأْكُلُوا» ، و (أَنْ تَمِيدَ) : مفعول من أجله، أي:
كراهة أن تميد بكم. و (أَنْهاراً وَسُبُلًا) : مفعول بمحذوف، أي: وخلق أو وجعل أنهارًا، وقيل: معطوف على «رَواسِيَ» لأن ألقى، فيه معنى الجعل، و (عَلاماتٍ) : عطف على (أَنْهاراً وَسُبُلًا) ، أو نصب على المصدر، أي: ألقى ذلك لعلكم تعتبرون، وعلامات دالة على وحدانيته.
يقول الحق جلّ جلاله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي: السحاب، أو جانب السماء، ماء: مطراً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربونه بلا واسطة، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار لأنه يُحبس فيها، ثم يشرب منها، لقوله: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ «1» ، وقوله: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «2» ، وَمِنْهُ شَجَرٌ أي: ومنه يكون شجر، يعني: الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل: كل ما نبت على الأرض فهو شجر، فِيهِ تُسِيمُونَ:
ترعون مواشيكم، من أسام الماشية: رعاها، وأصلها: السومة، التي هي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات.
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ، وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم، وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: ومن بعض كل الثمرات إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي: ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية- يعني اللحم-، ومن هذا: تقديم الزرع، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. هـ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجر، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع، مع اتحاد المواد، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد، ولعل وصل الآية به لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
__________
(1) من الآية 21 من سورة الزمر.
(2) من الآية 18 من سورة المؤمنون.(3/113)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ «1» بأن هيأها لمنافعكم، مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ، أي: مذللات لما يريد منها، وهو حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخرات لله، منقادة لحكمه، أو لما خلقن له، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي: لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات، وإنما جمع هنا، دون ما قبله وما بعده لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر، وهو متحد، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض، وهو متحد في الجنس والهيئة، بخلاف العوالم العلوية، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة. وقال البيضاوي: جمع الآية وذكر العقل لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات. هـ.
وَما ذَرَأَ أي: وسخر لكم ما ذرأ، فهو عطف على الليل، أي: سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات، مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أبيض وأسود، أحمر وأصفر، مع اتحاد المادة، فالماء واحد والزهر ألوان، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع، والهيئات والمناظر، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ: ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به بالركوب فيه، والاصطياد، والغوص، لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك، ووصفة بالطراوة لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله طريًّا، ولإظهار قدرته في خلقه عذبًا طريًّا في ماء زُعاق «2» أُجاج، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط للحنث فالحنث يقع بأدنى شيء، بخلاف البِر، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان، تَلْبَسُونَها يلبسها نساؤكم، وأسند اللباس إليهم لأن لباس النساء تزين للرجال «3» ، فكأنه مقصودٌ لهم، وَتَرَى الْفُلْكَ: السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري فيه تمخر الماء، أي: تشقه، أو تُصوت من هبوب الريح، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ: من سعة رزقه بركوبه للتجارة، أو: وترى الفلك جواري فيه لتركبوها، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية: فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. هـ. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الإنعام من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
__________
(1) قرأ حفص وابن عامر: (والنجوم مسخرات) بالرفع على الابتداء، وقرأ الباقون بالنصب.. انظر الإتحاف (2/ 181) .
(2) الزّعاق من الماء: المرّ الغليظ، لا يطاق شربه ... انظر: لسان العرب (زعق) .
(3) هذا فى المنزل، وللأزواج فقط، وأما ما سوى ذلك فهو- أي: اللباس- للتستر والاحتشام، تعبدا لله، وطاعة لأمره، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ... الآية.(3/114)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالاً رواسي أرست الأرض كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تميل وتضطرب لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل: لما خلق الله الأرض جعلت تمور- أي: تتحرك- فقالت الملائكة: ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال.
وَأَنْهاراً أي: وجعل فيها أنهارًا تطرد لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال لأن الغالب انفجارها منها، وَسُبُلًا أي: وجعل فيها طُرقًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها.
وَجعل فيها عَلاماتٍ: معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم: الجنس، بدليل قراءة: «وبالنُّجُمِ» بضمتين على الجمع. وقيل: المراد: الثريا، والفرقدان وبنات نعش «1» ، والجَدْي. والضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني: قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. هـ. وأصله للزمخشري.
الإشارة: هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي: علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، أي: خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي: في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله:
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ ... وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم: «ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار» .
وقال الششتري:
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما ... تبعد «2» من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا.
__________
(1) الفرقدان: نجمان فى السماء لا يغربان، انظر اللسان (فرقد) . وبنات نعش: سبعة كواكب، تشاهد جهة القطب الشمالي. انظر (المعجم الوسيط/ نعش) .
(2) فى ديوان الششترى: تقيّد.(3/115)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط لتسكنوا فيه لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذأر لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني لتأكلوا منه لحمًا طريًا علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي: سفن الفكرة، فيه مواخر عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجبروت لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.
ولما ذكر دلائل التوحيد، أنكر على من أشرك بعد هذا البيان، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قلت: (وما يشعرون أيان يبعثون) ، الضمير الأول للأصنام، والثاني للكفار الذين عبدوهم، وقيل: للأصنام فيهما، وقيل: للكفار فيهما، و (لا جرم) : إما أن يكون بمعنى لا شك، أو لا بدّ، أو تكون «لا» نفيًا لِمَا تقدم. و «جَرَم» :
فعل، بمعنى وجب، أو حق، و (أن الله) : فاعل بجَرَم.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كل شيء، ويَقدر على كل شيء، كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئًا، ولا يقدر على شيء، بل هو أعجز من كل شيء؟ وهو إنكار على مَنْ أشرك مع الله غيره، بعد إقامة الدلائل(3/116)
المتكاثرة على كمال قدرته، وباهر حكمته، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات، وكان حق الكلام: أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس تنبيهًا على أنهم، بالإشراك بالله، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة، شبيهًا بها. والمراد بمن لا يخلق، كل ما عُبد من دون الله، وغلب أولي العلم منهم، فعبَّر بمن، أو يريد الأصنام، وأجراها مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفوا فساد ذلك فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته- وفي ضمنها: تعداد النِعَم على خلقه- أعقبها بقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي: لا تطيقوا عدها، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره، سرًا أو علانية، ثم قال تعالى: والذين تدعون «1» أي: والأصنام الذين تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً لظهور عجزهم. لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا ليتحقق نفي الألوهية عنها ضرورةً. ثم علل عجزها، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق، والإله لا بد أن يكون واجب الوجود.
وهم، أيضًا، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي: لم تكن لهم حياة قط، ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة، ثم مات. والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: لا يعلمون وقت بعثهم، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب، قادرًا على الجزاء لمن عبده؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي: نفى عن الأصنام صفة الربوبية، وأثبت لهم أضدادها وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين وقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم، أثبت الربوبية لله وحده، فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. هـ. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
__________
(1) قرأ عاصم ويعقوب: «يدعون» : بالياء. على الالتفات. وقرأ الباقون «تدعون» بتاء الخطاب انظر الإتحاف (2/ 182) .(3/117)
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر- وهو إنكار البعث والتكبر- فقال: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي: فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاءوا به، والخضوع لهم لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل، متأملا فيما يسمع، فينتفع به، خاضعًا للحق، متبعًا لمن جاء به، بخلاف الكافر، يكون حاله بالعكس منهمكًا في الغفلة، متبعًا للهوى، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان «1» ، اتّباعًا للأسلاف، وتقليدًا لهم، وركونًا إلى المالوف.
قال تعالى تهديدًا لمن هذا وصفه: لا جَرَمَ: لا بدّ، أو لا شك، أو حَقٌّ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، فيجازيهم عليه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ مطلقًا، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله. ومفهومه: أنه يحب المتواضعين الخاضعيين للحق، ولمن جاء به، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد: الأولى: رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ (أفمن يَخلُق كمَن لا يَخلُق أفلا تذكرون) ، (والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء) . وأنشدوا في هذا المعنى:
حَرَامٌ على من وحد الله رَبَّهُ ... وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدا رفدا
فيا صاحبي قف بي على الحق وقفة ... أموت بها وجدا، وأحيا بها وجدا
وقل لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها ... فذا الملك ملك لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية: تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى: (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) .
__________
(1) هذا من سمات المؤمنين، وليس الكافرين، فالكافرون: لا برهان لهم (.. لا برهان له به..) ، (قل هاتوا برهانكم..) .. (قل هل عندكم من علم..) (لولا يأتون عليهم بسلطان) .
ويرحم الله أسلافنا، علمونا ذلك، فنقلنا عنهم هذه القاعدة: (إن كنت ناقلا- فالصحة، وإن كنت مدّعيا: فالدليل) ، والله- تقدس وتعالى- أمرنا ألا نتبع إلا ما قام عليه الدليل، (وَلآ تَقْفُ مَا لَيْسَ لك له علم) ، والعلم هو ما قام عليه البرهان الجلي.(3/118)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الخصلة الثالثة: التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله قال صلى الله عليه وسلم: «مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله» . وقال أيضًا: «مَن تواضعَ دُون قَدْره، رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره» . بخلاف المتكبر فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله قال تعالى: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) . وفي الحديث: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ» «1» ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والتكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس، أي: جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وصف المتكبرين، ووبال تكبرهم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
قلت: (ماذا) ، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا ب (أَنْزَلَ) ، وأن تكون (ما) : استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و (ذا) : بمعنى «الذي» : خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي: ما الذي أنزله ربكم؟ واللام في (لِيَحْمِلُوا) :
لام العاقبة والصيرورة، أي: قالوا: هو أساطير الأولين فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل: لام الأمر، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول في (يُضِلُّونَهُمْ) ، أو من الفاعل، و (تُشَاقُّونَ) : من قرأه بالكسر فالمفعول:
ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح فالمفعول محذوف، أي: تشاقون المؤمنين من أجلهم. و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : حال من ضمير المفعول فى: «تتوفاهم» .
__________
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه.(3/119)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي: كفار قريش: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على رسوله محمد- عليه الصلاة والسلام-؟ قالُوا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول: إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه.
والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي: على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل.
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: قالوا ذلك ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ: وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم- وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال- حال كونهم بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أنَّ الجاهل في العقائد غير معذور إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه «1» .
قال البيضاوي: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها: الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل. هـ. وقال المحشي: ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. هـ. قلت: ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي: يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ، أي: بئس شيئًا يَزِرُونَهُ فعلهم هذا.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي:
قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل. وقال ابن عباس وغيره: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل: أن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف «2» من أسفله.
__________
(1) ما ذكر الشيخ هو كلام المعتزلة- عموما- أما كلام أهل السنة- فيما يختص بمن ثبت له عقد الإسلام- فهو إعذاره بالجهل، وتبليغه الحجة حتى يتبين له الحق بيانا لا يغيب على مثله، وحتى يعرف الحق ويميزه، كما يميز الشمس.. فإن أصر على فعل الشرك أو الكفر بعد هذا فهو كافر، لا عذر له، يقول الشوكانى تعليقا على حديث سجود معاذ للنبى صلى الله عليه وسلم: «وفى هذا الحديث دليل على أن من سجد- جاهلا- لغير الله، لم يكفر» وقال فى السيل الجرار: «فلا بد من شرح الصدر بالكفر، فلا اعتبار بما يقع من طوارئ عقائد الشرك، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لعقائد الإسلام، إلى غير ذلك مما قرره ابن العربي، والقاسمى، وابن القيم وغيرهم، فى هذه المسائل. فتأملها لأنها خطيرة جدا، فعدم إحكام هذه الأصول يوقعنا فى جحيم تكفير جهلة المسلمين. والأمر لله.
(2) يقال: جعفه جعفا: قلبه وقلعه. فانجعف. انظر اللسان: (جعف) .(3/120)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ: يذلهم ويعذبهم بالنار، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ، أضافها إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا زيادةً في توبيخهم، أي: أين الشركاء الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ:
تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ: الذلة والعذاب عَلَى الْكافِرِينَ. وفائدة قولهم ذلك لهم: إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي: إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. هـ. أي: فيقولونه اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا: الحمد الله الذي هدانا لهذه الهداية.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تَقبِضُ أرواحهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بأن عرضوها للعذاب المخلد، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي: استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ: من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب اعتصامًا به، كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن: هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
«2» ، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم: بَلى قد كنتم تعملون السوء والعدوان، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه. وقيل: إن قوله: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله: (بلى) ، هو الله تعالى، أو: أولوا العلم، ويُقوي هذا قوله بعده: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ لأن دخولها لا يكون إلاَّ بعد البعث والحساب، لا بعد الموت إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي: التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى أي: مقام الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم.
الإشارة: وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار: ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم من المواهب وأسرار الخصوصية؟ قالوا: أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم
__________
(1) كما حكى عنهم الله تعالى فى الآية 23 من سورة الأنعام. [.....]
(2) من الآية 130 من سورة الأنعام.(3/121)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
كاملة يوم القيامة حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون. ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت: الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف: علماء السوء، وفقراء السوء- وهم أهل الزوايا والنسبة-، وقراء السوء لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم قال تعالى: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) .. الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم: (بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قلت: (خَيْراً) : منصوب بفعل محذوف، أي: أنزل خيرًا، فهو مطابق للسؤال لأن المؤمنين معترفون بالإنزال، بخلاف قوله: (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فهو مرفوع على الخبر لأنهم لا يُقرون بالإنزال، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال لإنكارهم له، وقالوا: هو أساطير الأولين ولم ينزله الله. و (لِلَّذِينَ) : خبر، و (حَسَنَةٌ) :
مبتدأ، والجملة: بدل من (خَيْراً) ، أو تفسير الخير الذي قالوه، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) :
يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح، فيكون مبتدأ، وخبره فيما قبله، أو خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ، وخبره:
(يَدْخُلُونَها) ، أو محذوف، أي: لهم جنات عدن. و (طَيِّبِينَ) : حال من مفعول «توفاهم» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، وهم المؤمنون: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً، أي: أنزل خيرًا، مقرين بالإنزال، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه، على خلاف الكفرة لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا: أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب، رُوِي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد، وسأل المقتسمين من الكفار، قالوا له: أساطير الأولين، وإذا سال المؤمنين: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا. فنزلت الآية في شأن الفريقين.(3/122)
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا بالإِيمان والطاعة، حَسَنَةٌ أي: حالة حسنة من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أي:
ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثاب عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة» «1» . وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها على الأبد، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله: (فِيها) تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ: طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل: فرحين لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية.
قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: (طَيِّبِينَ) : عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة: (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها «2» . هـ.
وقال الترمذي الحكيم: (طَيِّبِينَ) أي: مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم: ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له: ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. هـ. وهذا معنى قوله: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث: «لَن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعَمَلِهِ، قالوا: ولا أَنْتَ؟ قَالَ: ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه» ؟ فالجواب: أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث: نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة فى
__________
(1) أخرجه مسلم بنحوه فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب: جزاء المؤمن بحسناته فى الدنيا والآخرة) . من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) من الآية 73 من سورة الزمر.(3/123)
نسبة العمل للعبد فضلاً ونعمة «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك» . والحديث سلك مسلك الحقيقة لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة: ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا: خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًّا كان أو جماليًّا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون: إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي، فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر:
إن شكوت الهوى فما أنت منا ... احمل الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو ... أين دَعْوَاك في الهَوَى، قَل لِيَ: أيْنَا؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا ... لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى.
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم: خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح «1» .
وفي الخبر: «إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» . وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» «2» ، وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلاَّ كفّر له من سيئاته» «3» ، وقال أيضاً:
صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . «4» . ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول: لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل: ماذا أنزل ربكم؟ قال: خيرا.
__________
(1) ليس هذا مفيدا لتقليل شأن الصلاة والصوم.. إلخ، وإنما يريدك الشيخ أن تجعل عمل القلب مع عمل الجارحة.
(2) رواه مسلم فى (الزهد، باب المؤمن أمره كله خير) ، عن صهيب رضى الله عنه.
(3) رواه البخاري فى (المرض، باب ما جاء فى كفارة المرض) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه) ، عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري فى (المرض، باب قول المريض: إنى وجع) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض..) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه.(3/124)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا أي: بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا حَسَنَةٌ: حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
ثم قال: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ لكل ما يشغل عن الله الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام: سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد أضدادهم، الذين قالوا فيما أنزل لهم: (أساطير الأولين) ، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 37]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
يقول الحق جلّ جلاله: لْ يَنْظُرُونَ
أي: ما ينظر هؤلاء الكفرة، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي: هو أساطير الأولين، لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم، وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
: قيام الساعة، أو العذاب المستأصِل لهم فى الدنيا، ذلِكَ
أي: مثل ذلك التكذيب والشرك، عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
، فأصابهم ما أصابهم، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم، لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لكفرهم ومعاصيهم، المؤدية إلى عذابهم.(3/125)
فَأَصابَهُمْ جزاء سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا من الكفر والمعاصي، وهو العذاب، وَحاقَ أي: وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به. والحيْق لا يكون إلا في الشر.
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة، والاحتجاج على صحة فعلهم، أي: إنَّ فِعْلَنَا هو بمشيئة الله، فهو صواب، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه. والجواب: أن الاحتجاج بالقدر لا يصح في دار التكليف، وقد بعث الله الرسل بالنهي عن الشرك، وتحريم ما أحل الله، ونحن مكلفون باتباع الشريعة، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة فإنه زندقة فالشريعة رداء الحقيقة، فمن خرق رداء الشريعة، وتمسك بالحقيقة وحدها، فقد استحق العقاب، ولذلك قال تعالى: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأشركوا بالله، وحرموا ما أحل الله، وردوا رسله.
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: الإبلاغ الموضح للحق فمن تمسك بما جاءوا به فهو على صواب، ومن أعرض عنه فهو على ضلال، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هي أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، طاعة كان أو معصية، كفرًا أو إيمانًا، لكن الأمر غير تابع للإرادة، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
ثم بيَّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم الماضية، جعلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغذاء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي- أي: المعتدل- ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويعييه، فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا قائلاً: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي: يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يوفقهم، ولم يُرد إرشادهم فليس كل من تمسك بشيء وأمْهل فيه يدل أنه على صواب، كما ظن المشركون، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك.
ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل، فقال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يا معشر قريش، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ كعاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون.
ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال: إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي: من يريد إضلاله وقضى بشقائه وهو الذي حقت عليه الضلالة، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول «1» ، وهو أبلغ، أي: فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي من يضله، أي: لا يهدي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ليس لهم من ينصرهم يدفع العذاب عنهم.
__________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: «يهدى» بفتح الياء وكسر الدال، على البناء للفاعل، أي: لا يهدى الله من يضله. وقرأ الباقون: «يهدى» بضم الياء وفتح الدال، على البناء للمفعول، يعنى: من أضله الله فلا هاديَ له. انظر الإتحاف (2/ 184) والبحر المحيط (5/ 47) .(3/126)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
الإشارة: هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلّت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه من الحظوظ وزهرة الدنيا: لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء: (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي من يضل) .. الآية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى لأهل الشرك، وهو إنكار البعث، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قلت: (وَأَقْسَمُوا) : عطف على (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إيذانًا بأنهم، كما أنكروا التوحيد، أنكروا البعث، مقسمين عليه زيادةً في القطع على فساده، فرد الله عليهم بأبلغ رد، فقال: (بلى) . قاله البيضاوي. وتقدم الكلام على «بلى» ، في البقرة والأعراف «1» ، و (وَعْداً) : مصدر مؤكد لنفسه، وهو ما دل عليه «بلى» فإن «يبعث» وعد، أي: بلى، وعدهم ذلك وعدًا حقًا، ونصب ابن عامر، فيكون عطفًا على «نقول» ، أو جوابًا للأمر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَقْسَمُوا أي: المشركون، بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي: أبلغها وأوكدها، لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، فرد الله عليهم بأبلغ رد، فقال: بَلى يبعثهم وَعْداً عَلَيْهِ إنجازه
__________
(1) راجع تفسير الآية 81 من سورة البقرة، والآية 172 من سورة الأعراف.(3/127)
حَقًّا، لا يخلف لامتناع الخلف في وعده، أو: لأن البعث مقتضى حكمته لتنزيه فعله عن العبث، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يُبعثون، إما لعدم علمهم بأنه من موجبات الحكمة، التي جرت عادته بمراعاتها، وإما لقصور نظرهم باعتبار المألوف، ووقوفهم مع العوائد، فتوهموا امتناعه، وقالوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ «1» ، ولم ينظروا إلى قدرة الله التي لا يعجزها شيء.
ثم بيَّن حكمة البعث، فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي: يبعثهم ليبين لهم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو الحق من الباطل فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم فيبعثهم الله ليُبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه، فيظهر من كان على الحق ممن كان على الباطل، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ فيما كانوا يزعمون من عدم البعث، وتمسكهم بالحق، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث، المقتضي له من حيث الحكمة، وهو التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل.
ثم بيَّن كمال قدرته الموجبة للبعث وغيره فقال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فأمره بين الكاف والنون، فإذا كان إيجاد الأشياء من العدم بلفظ «كن» ، فأولى إعادتها. وكون أمره بين الكاف والنون كناية عن السرعة، وإلاَّ فلا يحتاج إلى لفظ «كن» ، بل مهما أراد شيئًا، أظهره أقرب من لحظ العيون، وإنما جاءت العبارة على قدر ما تفهم العقول، وعلى هذا فلا يحتاج إلى ما تَعَسَّفَهُ ابن عطية وغيره من كون القول في الأزل، وإظهاره فيما لا يزال- يعني: في وقت إظهاره- فإن الكلام إنما خرج مخرج الاستعارة أو المجاز، فلا يتوقف إيجاد الأشياء على «كن» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: ترى بعضَ الجهال يقسمون بالله جَهدَ أيمانهم: أن الله لا يفتح على فلان، لِمَا يرون فيه من الجهل والغباوة، أو من الطغيان والمعاصي، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها، وتلفها في عالم الحس، مع أن القدرة صالحة قال في الحكم: «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وَكَانَ الله على كُلِّ شيء مقتدرًا» . فإن سبقت له العناية يَقُلِ الحقُّ تعالى في شأنه: بلى، يبعثه، ويحيي روحه بالمعرفة واليقين، وعدًا عليه حقًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبي يخرج منه عالِمَ ولي، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يشاء. يبعثهم ليبين لهم الذي يختلفون فيه من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
__________
(1) من الآية 5 من سورة الرعد.(3/128)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
ثم ذكر الطريق الموصلة إلى إحياء الأرواح، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
قلت: (الَّذِينَ صَبَرُوا) : نعت للذين هاجروا، أو على تقدير: (هم) ، أو نصب على المدح.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي: طلب رضا الله، أو: في نصر دينه، أو: طلب معرفته، مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من بعد ما ظلمهم الكفار بالإيذاء والتضييق، وهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون. ظلمهم قريش وضيقوا عليهم، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وبعضهم إلى المدينة. قال ابن عطية: الجمهور أنها نزلت في الذين هاجروا إلى أرض الحبشة لأن الآية مكية، وهجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية. هـ. قلت:
والمختار: العموم، ويكون من جملة الإخبار بما سيقع، أو: هم المحبوسون المعذبون بمكة، بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال، وصُهَيب، وعمَّار، وخَبَّاب، وأبو جَنْدَل بن سُهَيل «1» ، أو: كل من هاجر من بلده لإقامة دينه.
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي: لننزلنهم في الدنيا بقعة حسنة، وهي المدينة، أو منزلة حسنة، وهي العز والتمكين في البلاد، وكل أمل بَلَغَهُ المهاجرون، أو حياة حسنة، وهي الاستقامة والمعرفة. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما يُعجل لهم في الدنيا من سعة الأموال، وتعظيم الشأن والحال، وهو النعيم الدائم. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان، إذا أَعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه من قسمْ الغنائم، يقول له: (خذ، بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل) «2» . والضمير في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لكفار قريش، أي: لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين، أي: لو علموا أن أجر الآخرة خير مما عجل لهم لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
ثم وصفهم بالصبر والتوكل فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد، كأذى الكفرة، ومفارقة الوطن، ونزول الفاقة، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما نزل بهم، منقطعين إلى الله، مفوضين إليه الأمر كله، فآواهم إليه، وكفاهم كل مؤونة، ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
الإشارة: والذين هاجروا حظوظهم وهواهم، وكل ما نهى الله عنه ابتغاء مرضات الله، أو فارقوا أوطانهم
__________
(1) فى الأصول: وأبو جندل وسهيل.
(2) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 20) .(3/129)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وديارهم في طلب معرفة الله، كما فعل كثير من الصوفية، فقلَّ أن تجد وليًّا إلاَّ وهاجر من بلده لإقامة دينه وجبر قلبه، وإفراغ سره لربه، من بعد ما ظُلموا بإيذاء الخلق- كما هو سنة الله في خواصه- لنبوئنهم في الدنيا حسنة، وهي معرفة الشهود والعيان في الباطن، واستقامة الدين والعافية في الظاهر. هذا في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر إذ فيه مالا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس، وحط الرءوس، ودفع الفلوس، أو على ضروب الفاقات، ونزول البليات، وركوب الأهوال والآفات، إذ لا يأتي الجمال إلا بعد الجلال، ولا تأتي الحلاوة إلا بعد المرارة.
لا تَحْسَب المجْد تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصبْرا «1»
وعلى ربهم يتوكلون، أي: مفوضين في أمورهم كلها لله، ليس لهم مع الله اختيار، ولا لهم عن أنفسهم إخبار، بل هم كالميت بين يدي الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر.. آمين.
ولا بد من الواسطة فى الوصول إلى هذا، إما رسول أو خليفته، كما قال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قلت: (بِالْبَيِّناتِ) : يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية، على التقديم والتأخير، أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فاسألوا أهل الذكر، أو بأرسلنا مضمرًا، وكأنه جواب سائل قال: بم أُرسلوا به؟ فقال: بالبينات، أو: صفة لرجال، أي:
رجالاً ملتبسين بالبينات، أو: بيوحى. انظر البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله، في الرد على قريش، حيث قالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إِلَّا رِجالًا بشرا، نُوحِي إِلَيْهِمْ «2» كما يُوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشراً، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحى إليه على ألسنة الملائكة إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ: أهل الكتاب، أو علماءهم الأحبار، أي:
الذين لم يسلموا، لأنهم لا يتهمون في شهادتهم، من حيث إنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم إلى
__________
(1) من قصيدة لأبى الطيب أحمد بن الحسين، المعروف بالمتنبي.
(2) قرأ الجمهور: (يوحى) بالياء وفتح الحاء، وقرأ حفص (نوحى) بالنون وكسر الحاء.. انظر الإتحاف (2/ 184) . [.....](3/130)
تصديق من لم يؤمن من أهل الكتاب أقرب من تصديقكم المؤمنين منهم، فاسألوهم ليخبروكم: هل كانت الرسل ملائكة أو بشرًا، إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك.
قال البيضاوي: وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكًا للدعوة العامة. وأما قوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1» فمعناه: رسلاً إلى الأنبياء. وقيل: لم يُبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. ورُدَّ بما رُوي أنه عليه صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم. هـ. ومفهوم قوله: «الدعوة العامة» : أن الدعوة الخاصة كالأنبياء- عليهم السلام-، فإن الله يبعث إليهم الملك ليعلمهم أمر دينهم.
ثم قال تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي: أرسلناهم بالمعجزات والكتب. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي: القرآن لأنه تذكير ووعظ، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الأحكام، مما أمروا به ونهوا عنه، ومما تشابه عليهم منه.
والتبيين أعم من أن ينص على المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه، كالقياس ودليل العقل. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: يحتمل أن يريد: لتبين القرآن بسردك نَصَّهُ وتعليمِهِ، أو لتُبين معانيه بتفسير مُشكله، فيدخل في هذا ما سنته السنة من الشريعة. هـ. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في عجائبه وأسراره، فيخوضون بسفن أفكارهم في تيار بحر معانيه وأنواره، فينتبهون للحقائق والشرائع.
الإشارة: كما لم يبعث الله في الدعوة العامة- وهي دعوة الرسالة- إلا رجالاً من البشر، كذلك لم يبعث الله في الدعوة الخاصة- وهي دعوة الولاية إلى سر الخصوصية- إلا رجالاً من البشر أحياء، يُربون التربية النبوية العرفية، فلا يصلح للتربية النساء لقلة عقلهن «2» ، ولا الجن لانحرافه عن الاعتدال الذي في البشر، ولا الميت لعدم وجود بشريته فإنَّ بشرية الحي تمد البشرية، والروحانية تمد الروحانية. فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ. ولذلك قالوا: الثدي الميتة لا تُرضع. وقولنا: «التربية العرفية» أعني: بالصحبة العرفية، وأما التربية الغيبية، على وجه خَرْق العادة، كطيران الشيخ إلى المريد، أو المريد إلى الشيخ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفًا لإحدى الجهتين، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة، بخلاف التربية العرفية، فلا يكون صاحبها، في الغالب، إلا معتدلاً كاملا.
__________
(1) من الآية الأولى من سورة فاطر.
(2) هذا رأى الشيخ المفسر، لكن تاريخ المسلمين لا يمنع من هذا، وسير الصالحات الزاهدات تبرهن على عكس ذلك، اقرأ مثلا كتاب ذكر النسوة التعبدات الصوفيات، لأبى عبد الرحمن السلمى، وتراجم الصالحات فى سير أعلام النبلاء، وفى حلية الأولياء وفى صفة الصفوة. وعلى أية حال: من يقوم بتربية الأولاد فى بيوت المسلمين الصالحين؟ ورب امرأة صالحة تربى رجلا، بل رجالا.(3/131)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
وقوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) هم العارفون بالله، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب كأسرار التوحيد، وأمر الخواطر، رجعنا إليهم لأنهم أهل الذوق والكشف، يُجيبون سائلهم بالهمة والحال، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل، إن أتاهم متعطشًا لهفانًا، وكذا ما أشكل في أمر الدنيا، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه، فينبغي الرجوع إليهم لأنهم ينظرون بنور الله، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر. وأمّا أمور الدين، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه، وإن لم يكن له علم بالظاهر، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
وقوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يُفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقي، فلا يحتاج إلى سؤالهم، حيث صفت مرآة قلبه، وقد يكون الولي ذاكرًا، باعتبار قوم، وغير ذاكر، باعتبار آخرين، الذين هم أنهض منه حالاً، وأصوب مقالاً. والله تعالى أعلم.
ثم هدد أهل المكر بأهل الخصوصية، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
قلت: (مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) : صفة لمحذوف، أي: المكرات السيئات، والتخوّف، قيل: معناه: التنقص، وهو أن تنقصهم شيئًا فشيئًا. رُوي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم توقف في معناها، فقال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوف: التنقص. فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟
فقال: نعم. قال شاعرنا أبو كثير يصف ناقته:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَاً ... كَمَا تَخوَّفَ عُودَ النَّبَْعةِ السفَنُ «1»
فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا المكرات السيئات برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، حيث قصدوا ردّ دينه، وصدوا الناس عن طريقه، أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: بغتة من حيث لا يظنون، كما فعل بقوم لوط، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
__________
(1) اختلف فى نسبة البيت، فنسبه الزمخشرى فى تفسيره لزهير، وأبو حيان لأبى كثير الهذلى، ونسبه ابن منظور لابن مقبل، مرة، ولذى الرمة، أخرى، وقوله: تامكا قردا، أى: سناما مرتفعا، والنبعة: واحدة النبع، وهو من شجر الجبال، والسفن: المبرد.(3/132)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
في متاجرهم ومسايرهم في طلب معاشهم، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين قدرتنا حتى نعجز عن أخذهم، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ: على تنقص، بأن ينقص أموالهم وأنفسهم، شيئًا فشيئًا، حتى يهلكوا جميعًا، من غير أن يهلكهم جملة واحدة. وعليه يترتب قوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يهلكهم دفعة واحدة، أو: على تخوف: على مخافة بأن يهلك قومًا قبلهم، فيتخوفوا، فيأتيهم العذاب وهم متخوفون.
وهو قسيم قوله: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل، يُخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين، وقد تقدّم هذا مراراً.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار لأنه سبب النجاة من الاغترار، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قلت: الاستفهام للإنكار، و (مِنْ شَيْءٍ) : بيان ل «ما» . والضمير في (ظِلالُهُ) يعود على (ما) ، أو على (شَيْءٍ) .
و (سُجَّداً) : حال من الظلال، وكذا جملة: (وَهُمْ داخِرُونَ) ، وجمعه بالواو لأنه من صفة العقلاء. وقال الزمخشري:
هما حالان من الضمير في (ظِلالُهُ) إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله: (مِنْ شَيْءٍ) ، فعلى الأول يكون السجود من صفة الضلال، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام. و (مِنْ دابَّةٍ) : يحتمل أن يكون بيانًا ل (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معًا لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب، ويحتمل أن يكون بيانًا ل (ما فِي الْأَرْضِ) خاصة، فعلى الأولى: يكون عطف الملائكة عليه، من عطف الخاص على العام تشريفًا لهم، وعلى الثاني: من عطف المباين.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أهل المكر والخدع بالرسل والمؤمنين، إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ من الأجرام والأشكال كالجبال والأشجار والبحار ليظهر لهم كمال قدرته وقهره، فيخافوا سطوته وبطشه، حتى لا يمكروا بخواصه. حال كون ما خلق من الأجرام يَتَفَيَّؤُا أي: يميل ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أي: يرجع الظل من جانب إلى جانب، أي: يميل عن الأيمان والشمائل، وذلك أن الظل من وقت(3/133)
طلوع الشمس إلى الزوال يكون إلى جهة، ومن الزوال إلى الغروب يكون إلى جهة أخرى. ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس. والتفيؤ: من الفيء، وهو: الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة. وقال رُؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال: ظل وفيءٌ، ولا يقال قبله إلا ظل. ففى لفظ «يَتَفَيَّؤُا» ، هنا، تجوز.
وقال في سلوة الأحزان: فاء الظل: معناه: رجع بعكس ما كان من بكرة إلى الزوال وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى الزوال، إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت، ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس فيعم. والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله تعالى فيها فيئًا لأنه لا مُذهِبَ له، ولا تكون الفيئة إلا بعد ذهاب الظل، ولا ذهاب لظل الجنة، فلا يتعقل له فيأة. هـ. واستعمال اليمين والشمال، في غير الإنسان، تجوز فإنهما في الحقيقة خاص بالإنسان. هـ.
حال كون تلك الأجرام، أو الظلال سُجَّداً لِلَّهِ، قيل: حقيقة. قال الضحاك: إذا زالت الشمس سَجد كل شيء قبلَ القبلة، من نباتٍ أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. وقال مجاهد: إنما تسجد الظلال، لا الأشخاص. وقيل: هو عبارة عن الخضوع والطاعة، وميلان الظلال ودورانها بالسجود، كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض، على جهة الخضوع: ساجدًا، ثم استشهد لذلك. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: والمتَّجَهُ: أنه خضوع وطاعة للمشيئة وانقياد، لا حقيقة لأنه لا يقال فيه، كذلك: أو لم يروا، وإنما يُرَى الانقياد. وخص الظل لأنه مشهود ذلك فيه، ولو حاول صاحبه عدمه أو ضده، لم يستطع، بخلاف الأفعال الاختيارية، فإن الجبر فيها غير محسوس، فظهر سر الإشارة للظلال. والله أعلم. هـ.
قال البيضاوي: المراد من السجود: الاستسلام، سواء كان بالطبع أو الاختيار، يقال: سجدت النخلة، إذا مالت لكثرة الحمل، وسجد البعير، إذا طأطأ رأسه ليركب. أو سُجَّداً
: حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ: حال من الضمير، والمعنى: ترجع الظلال، بارتفاع الشمس وانحدارها، بتقدير الله تعالى، من جانب إلى جانب، منقادة إلى ما قُدِّر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض، ملتصقة بها، على هيئة الساجد، والأجرام في أنفسها أيضًا داخرة، أي: صاغرة منقادة لأفعال الله. هـ.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: ينقاد لإرادته، وتأثير قدرته طبعًا، ولتكليفه وأمره طوعًا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض. وقوله: مِنْ دابَّةٍ: بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية، سواء كان في أرض أو سماء، وَالْمَلائِكَةُ عطف على المبين به، عطف خاص على عام،(3/134)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
أو عطف المجردات على الجسمانيات، وبه احتج من قال: إن الملائكة أرواح مجردة. قاله البيضاوي. قلت: وهو خلاف الجمهور. بل الملائكة: أجسام لطيفة نورانية متحيزة، لها مادة نورانية وتشكيل مخصوص، غير أن الله تعالى أعطاها قوة التشكيل لأنها قريبة من أسرار المعاني الأزلية. وعبَّر الحق تعالى ب «ما» ليشمل العقلاء وغيرهم.
ثم قال تعالى في وصف الملائكة: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هو تقرير، وبيان لنفي الاستكبار عنهم، أي: يخافون عظمة ربهم من فوقهم إذ هم محاطون بأفلاك أسرار الجبروت، مقهورون تحت القدرة والمشيئة، أو: يخافون عذاب ربهم أن يُرْسَل عليهم من فوقهم، أو: يخافون ربهم وهو من فوقهم بالقهر والغلبة. والجملة: حال من الضمير في (يَسْتَكْبِرُونَ) ، أو بيان له وتقرير لأن من خاف ربه لم يستكبر عن عبادته، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من الطاعة وتدبير الأمور التي أمرهم بتدبيرها. وفيه دليل على أنَّ الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء. قاله البيضاوي.
الإشارة: كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية، وأحاطت به القهرية، فلا بدّ من الخضوع لأحكام الواحد القهار، تكليفية كانت أو تعريفية، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان، قيد بسلاسل الامتحان. وبهذا امتاز الخصوص من العموم، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار في عنقهم، تجرهم إلى مراد ربهم، فاستسلموا لها، وانقادوا، وخضعوا، وتأدبوا لها، فاستحقوا التقريب والاصطفائية. والعموم جهلوا هذه السلسلة، أو علموها، ولم يقدروا على الاستسلام لها فاستحقوا البُعد من حضرة الحق إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب. وبالله التوفيق.
ثم نهى عن الشرك الجلى والخفي، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قلت: (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ، إلهين: مفعول أول، واثنين: تأكيد، والثاني: محذوف، أي: معبودين لكم، وفائدة التأكيد:
التنبيه على أن المقصود هو النهي عن الإثنينية تنبيهًا على أن الإثنينية تنافي الألوهية، كما ذكر الواحد في قوله:
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ إثبات الوحدانية دون الإلهية. قاله البيضاوي. وعبارة صاحب المطول: لفظ إلهين حامل لمعنى الجنسية- أعني: الإلهية- ومعنى العدد- أعني: الإثنينية- وكذا لفظ «الله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة،(3/135)
والغرض المسوق له الكلام في الأول: النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله لا إثبات جنسه، فَوَصَفَ الإلهين باثنين وإله بواحد إيضاحًا لهذا الغرض وتفسيرًا له. هـ. ويحتمل أن يكون «اثْنَيْنِ» مفعولاً أولاً، و «إِلهَيْنِ» مفعولاً ثانيًا.
وقوله: (فَإِيَّايَ) : مفعول بفعل محذوف، أي: ارهبوا، ولا يعمل فيه (ارهبون) لأنه أخذ مفعوله، وهو: ياء المتكلم، و (واصِباً) : حال من (الدِّينُ) . و (ما بِكُمْ) : إما شرطية، أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول فإن استقرار النعمة بهم يكون سببًا للإخبار بأنها من الله، لا سببًا لحصولها منه لأن جواب الشرط يكون مسببًا عن فعله، واستقرار النعمة بهم ليس سببًا في حصولها من الله، وإنما هو سبب في الإخبار بأنها من الله. فتأمله. وأصله للبيضاوي، والجملة: يحتمل أن تكون استئنافية، أو حالية، فيتصل الكلام بما قبله، أي: كيف تتقون غير الله، والحال أن ما بكم من نعمة فمنه وحده؟ واللام في (لِيَكْفُرُوا) : لام الأمر على وجه التهديد، كقوله بعدُ: (فَتَمَتَّعُوا) ، فعلى هذا يبتدأ بها، وقيل: هي لام العاقبة، فعلى هذا توصل بما قبلها لأنها في الأصل لام كي، وهو بعيد.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، بأن تعبدوا الله تعالى، وتعبدوا معه الأصنام، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له ولا ظهير، ولا معين ولا وزير، فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، عَدَلَ من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب، وتصريحًا بالمقصود، كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون، لا غيري، وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقًا وملكًا وعبيدًا، وَلَهُ الدِّينُ أي: الطاعة والانقياد واصِباً: لازماً، أو: واجباً وثابتاً لما تقرر أنه الإله وحده، والحقيق بأن يرهَبَ منه، فلا يُدَان لأحد إلا هو. وقيل: وَلَهُ الدِّينُ أي: الجزاء واصِباً أي: دائمًا، فلا ينقطع ثوابه لمن آمن، ولا عقابه لمن كفر.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ مع أنه ليس بيد غيره نفع ولا ضر؟! كما قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أيْ: وأيّ شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله وحده، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي: فلا تتضرعون عند الشدة إلا إليه، ولا تستغيثون إلا به. والجؤار: رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة، ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ وهم: كفاركم، ففي وقت الشدة ينسون أصنامهم، وفي الرخاء يرجعون إليها. فعلوا ذلك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة، أو يكون تهديدًا، أي: ليكفروا ما شاءوا فسوف يعلمون، كقوله: فَتَمَتَّعُوا بكفركم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم.(3/136)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
الإشارة: قال في التنوير: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله لما حققهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته، لم يشهد مع الحق سواه إذ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهُّم موجود معه» . فمن غاب عن ثنوية نفسه غاب عن ثنوية الأكوان، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جهالة أهل الشرك وسفاهة رأيهم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 60]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قلت: الضمير في (يَجْعَلُونَ) للكفار، وفى (يَعْلَمُونَ) لهم، أو للأصنام. و (لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) : يجوز أن يكون (ما يَشْتَهُونَ) مبتدأ، وخبره: (لَهُمْ) ، وأن يكون مفعولاً بفعل مضمر، أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن يكون معطوفًا على البنات، وهذا منعه البصريون لاتحاد الفاعل والمفعول، وهو الواو، وضمير لهم في الغيبة، فلا يقال:
زيد ضربه، وإنما يقال: ضرب نفسه، ولا يقال: أنا ضربتني، ويجوز ذلك في أفعال القلوب. وقال البيضاوي:
ولا يبعد تجويزه في المعطوف، كما في الآية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَجْعَلُونَ أي: كفار العرب لِما لا يَعْلَمُونَ إلاهيتهم ببرهان ولا حجة، وهم الأصنام. أو: لِمَا لا علم لهم من الجمادات التي يعبدونها، نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الزرع والأنعام، بقولهم:
هذا لله وهذا لشركائنا، تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ وعتاب عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من أنها آلهة بالتقرب إليها، أو عما كنتم تفترون على الله من أنه أَمَرَكم بذلك.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ من قولهم: الملائكة بنات الله، وكانت خزاعة وكنانة يقولون ذلك. سُبْحانَهُ تنزيهًا له عن ذلك، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وهم البنون، والمعنى: أنهم يجعلون لله البنات التي يكرهونها- وهو منزه عن الولد-، ويختارون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى(3/137)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
أي: أُخبر بولادتها عنده، ظَلَّ أي: صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا: متغيرًا تغير مغتم من الكآبة والحياء من الناس، وَهُوَ كَظِيمٌ: ممتلئ غيظًا، يَتَوارى يختفي مِنَ الْقَوْمِ أي: من قومه حياء منهم، مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من قُبِح المبشر به، متفكرًا في نفسه، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي: يتركه، عنده على ذل وهوان، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي: يخفيه فيه ويئده، وهي: الموءودة، وتذكير الضمير للفظ «ما» ، أَلا ساءَ: بئس ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا حيث نسبوا لله تعالى البنات، التي هي عندهم بهذا المحل.
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أي: صفة السوء، وهي: الحاجة إلى الولد المنادية بالموت، واستبقاء الذكور استظهارًا بهم، وكراهة البنات ووأدهن خشية الإملاق، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي: الصفة العليا، وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق، والجود الفائق، والنزاهة عن صفات المخلوقين، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال. وقال الأزهري: المثل الأعلى، أي: التوحيد والخلق والأمر، ونفى كل إله سواه. ويتَرجم عن هذا كله بقول: «لا إله إلا الله» . هـ. وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه، الْحَكِيمُ في صنعه، أي: المنفرد بكمال القدرة والحكمة، فالقدرة مُظهرة للأشياء في أوقاتها، والحكمة تسترها برداء أسبابها وشروطها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لأهل التوحيد الكامل أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد إذ لا فاعل سواه. وقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ... الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث: «مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار» . «1» إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكمة إمهاله تعالى للكفار، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 61]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب فضل الإحسان إلى البنات) عن السيدة عائشة- رضى الله عنها.(3/138)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي: بكفرهم ومعاصيهم الصادرة من بعضهم، ما تَرَكَ عَلَيْها أي: على الأرض مِنْ دَابَّةٍ: نسمة تدب عليها، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود: (كاد الجُعَل «1» يهلك في جُحره بذنب ابن آدم) . وقيل: لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه لأعمارهم، أو لعذابهم، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، بل يهلكون، أو يُعذبون حينئذ لا محالة، فالحكمة في إمهال أهل الكفر والمعاصي لئلا يعم العذاب، كقوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «2» ، و (لعل الله تعالى يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله) . والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابًا لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور، فإذا رأى حِلَق الذكر ومجالس العلم رفع عنهم العذاب. وفي بعض الأخبار: «لَوْلاَ شُيوخٌ ركع، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وبَهَائمُ رُتَّعٌ، لصبَّ عَليكُمُ العَذَابُ صبّاً» . «3» .
ثم ذكر وعيد الكفار، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قلت: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) : بدل من (الْكَذِبَ) ، ومن قرأ (مُفْرَطُونَ) بالكسر، فاسم فاعل من الإفراط، وهو: تجاوز الحد، ومن قرأها بالفتح فاسم مفعول، من أفرط في طلب الماء، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد فمن التفريط.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من البنات، والشركاء في الرئاسة وأراذل الأموال، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك، وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى عند الله، وهي الجنة. وهذا كقوله:
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «4» . قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ أي: لا شك، أو حقاً أن لهم النار، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ مقدّمون إليها، أو متركون فيها، أو مفرطون في المعاصي والظلم، متجاوزون الحد في ذلك. أو مفرطون في الطاعة من التفريط.
__________
(1) الجعل: حيوان كالخنفساء ... انظر: النهاية (جعل، 1/ 277) .
(2) من الآية 25 من سورة الأنفال.
(3) أخرجه البيهقي فى الكبرى (صلاة الاستسقاء، باب استحباب الخروج بالضعفاء والصبيان 3/ 345) والطبراني فى الأوسط (ح 6539) ، وابن عدى فى الكامل (4/ 1622) عن مالك بن عبيدة الديلي، عن أبيه، عن جده.
(4) من الآية 50 من سورة فصلت.(3/139)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
الإشارة: الواجب في حق الأدب أن ما كان من الكمالات ينسب إلى الله تعالى، كائنًا ما كان، وما كان من النقائص ينسب إلى العبد، وإن كان، في الإيجاد والاختراع، كل من عند الله، وهو بهذا الاعتبار في غاية الحسن.
كما قال صاحب العينية رضي الله عنه:
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ ... أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ ... فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
ثم سلّى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
[سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قلت: (وَهُدىً وَرَحْمَةً) : معطوفتان على «لِتُبَيِّنَ» ، وانتصبا على المفعولية من أجله، أي: لأجل البيان والهدى والرحمة.
يقول الحق جلّ جلاله: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلاً إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ السوء، فرأوها حسنة، فأصروا على قبائحها، وكذبوا الرسل، فصبروا حتى نُصروا. فاصبر كما صبروا، حتى تنصر كما انتصروا. فكان عاقبة من اتبع الشيطان الهلاك والوقوع في العذاب، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي:
متولي أمورهم الْيَوْمَ في الدنيا، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، أو: فهو وليهم يوم القيامة، على أنه حكاية حال آتية، أي: لا ولي لهم غيره في ذلك اليوم، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصر غيره؟
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ: القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ: للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد، والقَدَر، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به، فإنهم المنتفعون بإنزاله.
الإشارة: كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق، فهو مُزين له في عمله، مُستدرج به وهو لا يشعر، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفي ذلك يقول أبو المواهب «1» :
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ ... ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ
__________
(1) التونسى، صاحب «قوانين حكم الإشراق» .(3/140)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ونَاظِرٌ في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه ... يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ
والسَّمْعُ إنْ جَالَ فِيهِ مَنْ يُحَدِّثهُ ... سِوَى حدَيثِك أَمْسَى وَقرَهُ الصَّمَمُ
فهذه علامات الوصول إلى الحق، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق، ويصرف نظره في معاني أسرار التوحيد، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد، ومَن لم يبلغ هذا المقام، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان، فيُزين له عمله، فيقف معه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل توحيده وباهر قدرته، وفى معرفتهما معرفة ذاته، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 65]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء مطرًا فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها، فكانت هامدة غبْراءٍ، غير منبتة، شبيهة بالميت، فصارت، بعد إنزال المطر، مخضرة مهتزة رابية شبيهة بالحي. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر وإنصاف فإن هذه الآية ظاهرة، تُدرك بأدنى تنبيه وسماع، غير محتاجة إلى كثرة تفكر واعتبار.
الإشارة: والله أنزل من سماء الغيوب ماء العلوم النافعة، فأحيا به أرض النفوس الميتة بالغفلة والجهل، فصارت مبتهجة بأنوار التوحيد وأسرار التفريد، وفي ذلك يقول الشاعر:
إنَّ عرفَان ذي الجلال لعزٌ ... وضياءٌ وبهجة وسُرور
وعلى العارفين أيضاً بَهَاءٌ ... وعليهمْ من المحبَّة نُور
فَهنيئًا لمن عرفك، إلهي ... هو، والله، دهره، مسرور
ثم ذكر دليلاً آخر، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 66 الى 67]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قلت: سقى وأسقى: لغتان، على المشهور. والضمير في (بُطُونِهِ) : للأنعام، وذكِّره باعتبار ما ذكر «1» ، كقوله:
كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «2» ، أو: باعتبار الجنس، وعَدَّه سيبويه في المفردات المبنية على: أفعال،
__________
(1) أي: مما فى بطون ما ذكرناه.
(2) الآيتان: 11- 12 من سورة عبس.(3/141)
كأخلاق وأكباش، فهو، عنده، اسم جمع، كقوم ورهط، فلفظه مفرد ومعناه جمع، فذكَّره هنا مراعاة للفظه، وأنثه، في سورة المؤمنين مراعاة لمعناه. ومن قال: إنه جمع «نعَم» ، جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها.
و (مِن) في قوله: «مِمَّا» للتبعيض، و «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ» لابتداء الغاية، و (مِنْ ثَمَراتِ) : يتعلق بمحذوف، أي:
ونسقيكم من ثمرات النخيل، يدل عليه (نُسْقِيكُمْ) الأول. و (تَتَّخِذُونَ) : استئناف لبيان الإسقاء، أو يكون (ثَمَراتِ) :
عطفًا على (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، أو يتعلق (مِنْ ثَمَراتِ) بتتخذون، أي: تتخذون من ثمرات النخيل سَكَرًا. وكرر (مِنْهُ) للتأكيد، أو يكون (تَتَّخِذُونَ) : صفة لمحذوف، أي: شيء تتخذون منه سكرًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ لَكُمْ أيها الناس، فِي الْأَنْعامِ وهي: الإبل والبقر والغنم، لَعِبْرَةً ظاهرة تدل على كمال قدرته، وعجائب حكمته، وهي أنا نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي: بعض ما استقر في بطونه من الغذاء، مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش من القذر، وَدَمٍ وهو ما تولد من لباب الغذاء، لَبَناً خالِصاً من روائح الفرث، صافيًا من لون الدم. والمعنى: أن الله يخلق اللبن متوسطًا بين الفرث والدم يكتنِفَانِه، ومع ذلك فلا يُغير له لونًا ولا طعمًا ولا رائحة. وعن ابن عباس: (أن البهيمة إذا اعتلفت، وانطبخ العلف في كرشها، كان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا) . ثم وصفه بقوله: سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم، حتى قيل: لم يغصَّ أحدٌ قَط من اللبن. ورُوِيَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم «1» .
وَنسقيكم، أيضًا، مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي: من عصيرهما. ثم بيَّن كيفية الإسقاء فقال:
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي: مما ذكر سَكَراً يعني: الخمر، سميت بالمصدر، ونزل قبل تحريم الخمر، فهي منسوخة بالتحريم. وقيل: هي على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر، ولا تعرُّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم، وهذا هو الصحيح. وفي دعوى النسخ نظر لأن النسخ إنما يكون في الأحكام المشروعة المقررة، وهنا ليس كذلك، إنما فيه امتنان واعتبار فقط. وَتتخذون من ثمراتها رِزْقاً حَسَناً كالتمر، والزبيب، والدبْس- وهو ما يسيل من الرطب-، والخلُّ، والربُّ «2» ، وقيل: السَّكَرُ: المائع من هاتين الشجرتين كالخل، والرُّب، والرزق الحسن: العنب والتمر. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دالة على كمال قدرته تعالى، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالتأمل، والنظر فى الآيات.
__________
(1) روى ذلك بلفظ: «ما شرب أحد لبنا فيشرق» ، عزاه السيوطي، فى الدر (4/ 28) ، لابن مردويه عن يحيى بن أبى كبشة عن أبيه عن جده مرفوعا.
(2) الرّبّ: ما يطبخ من التمر ... انظر: النهاية (ربب 2/ 181) .(3/142)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الإشارة: كما استخرج الحق، جل جلاله، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، استخرج مذهب أهل السنة، القائلين بالكسب، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة، بين قوم أفرطوا، وقوم فرطوا. واستخرج أيضًا مذهب الصوفية- أعني: المحققين منهم- من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة، بين قوم تفسقوا وقوم تزندقوا، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة، وهو، إن لم يكن عن غلبة سُكْرٍ، كُفْرٌ. واستخرج، أيضًا، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض، فاهل السلوك المحض محجوبون عن الله، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله، وأهل التربية برزخ بين بحرين، الجذب في بواطنهم، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق، سَكَرًا في قلوبهم، بشهود محبوبهم، ورزقًا حسنًا معرفة في أسرارهم، وعبودية في ظواهرهم، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع، كل واحد في محله. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دليلا آخر، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
قلت: (أَنِ اتَّخِذِي) : مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل، أو مصدرية، أي: بأن اتخذي. و (مِنَ) : للتبعيض في الثلاثة مواضع، (ثُمَّ كُلِي) : عطف على (اتَّخِذِي) . و (مِنْ) : للتبعيض لأنها لا تأكل من جميع الشجر، وقيل:
من كل الثمرات التي تشتهيها، فتكون للبيان. و (ذُلُلًا) : حال من السبل، أو من الضمير في (فَاسْلُكِي) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي: ألهمها، وقذف في قلوبها ذلك. والوحي على ثلاثة أقسام: وحْيُ إلهام، ووحيُ منام، ووحْيُ أحكام. وقال الراغب: أصل الوحي: الإشارة السريعة، إما بالكلام رمزًا، وإما بصوت مجرد عن التركيب، أو بإشارة ببعض الجوارح، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء: وحي، وذلك أضْرُبٌ إما برسول مشاهَد، وإما بسماع كلام من غير معاينة، كسماع موسى كلام الله، وإما بإلقاءٍ في الروع، وإما بإلهام، نحو: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى «1» ، وإما تسخير، كقوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ، أو بمنام، كقوله صلى الله عليه وسلم: «انقطع الوحي، وبقي المبشرات رؤيا المؤمن» «2» .
__________
(1) من الآية 7 من سورة القصص. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (التعبير، باب المبشرات) ، بلفظ: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة» من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(3/143)
ثم بيَّن ما أوحي إليها فقال: أَنِ اتَّخِذِي، أو بأن اتخذي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها، كالكهوف ونحوها، وَمِنَ الشَّجَرِ بيوتًا، كالأجْبَاح «1» ونحوها، وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي: يهيئون، أو يبنون لك الناس من الأماكن، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض لأنها لا تُبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش من كرْم أو سقف، ولا في كل مكان منها. وإنما سمي ما تبنيه، لتتعسل فيه، بيتًا تشبيهًا ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسْمة، التي لا يقوى عليها حُذَّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره: للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت: وليس للنحل فعل في الحقيقة، وإنما هو صنع العليم الحكيم في مظاهر النحل.
ثم قال لها: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي تشتهيها، حلوها ومرها. قيل: إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة «2» . فَاسْلُكِي أي: ادخلي سُبُلَ رَبِّكِ طُرقه في طلب المرعى، أو: فاسلكي راجعة إلى بيوتك، سبلَ ربك، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه لأنها خلقه وملْكه. ذُلُلًا: مطيعة منقادة لما يراد منك، أو اسلكي طرقَه مذللة مسخرة لكِ، فلا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضل عن العْود منها وإن بَعُدت. قال مجاهد: لم يتوعَّر على النحل قط طريق.
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو العسل، عَدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس: لأنه محل الإنعام عليهم، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم. وسماه شرابًا لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل، وهو ظاهر كلام سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في تحقيره للدنيا، قال: (أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة- أو قيء نحلة-، وأشرف لذة فيها مَبَال في مبال) . وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل. قاله ابن عطية. قلت: والذي ألفيناه، ممن يتعاطاهم، أنه يخرج من دبرهم.
وقوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي: أبيض، وأحمر، وأسود، وأصفر، بحسب اختلاف سن النحل، ومراعيها. وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه. ومنه قول عائشة للنبى- عليه الصلاة والسلام: (جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ) «3» وهو نبت مُنتن الرائحة، شُبهت رائحته برائحة المغافير «4» .
ثم قال تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إما بنفسه، كما في الأمراض البلغمية، أو مع غيره، كما في سائر الأمراض، إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه. قاله البيضاوي. قال السيوطي: قيل: لبعضها، كما دل
__________
(1) الجبح: هى مواضع النحل فى الجبل، وفيها تعسل، وقيل: الأجباح: حجارة الجبل.. انظر اللسان- جبح.
(2) الدفلة: نبت مرّ، أخضر، حسن المنظر انظر.. اللسان (دخل، 2/ 1397) .
(3) جاء ذلك فى حديث شرب النبي صلى الله عليه وسلم العسل. وأخرجه البخاري فى (الطلاق، باب لم تحرم ما أحل الله لك) . والعرفط- بالضم-:
شجر الطّلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحلة حصل فى عسلها من ريحه. انظر النهاية (عرفط) .
(4) المغافير: جمع مغفور ومغفار، وهو صمغ حلو، له رائحة كريهة، يسيل من شجر العرفط، يؤكل، أو يوضع فى ثوب، ثم ينضح بالماء، فيشرب. انظر اللسان (غفرة 5/ 3275) .(3/144)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
عليه تنكير شفاء، أو لكلها بضميمةٍ إلى غيره- أقول: وبدونها، بنية- وقد أمر به صلى الله عليه وسلم من استطلق بطنه، رواه الشيخان. هـ. قال ابن جُزي: لأنَّ أكثر الأدوية مستعملة من العسل كالمعاجن، والأشربة النافعة من الأمراض.
وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء، فكأنه أخذه من العموم. وعلى ذلك يدل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً جاء إليه فقال: أَخي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فقال: اسْقِهِ عَسَلاً، فَذَهَب ثُمَ رَجَع، فقال: قَدْ سَقَيْتُهُ فَما نَفعَ، قال: فاذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلاً، فَقَدً صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، فَسَقَاهُ، فشفاه الله عزّ وجل» «1» .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر، عَلِمَ، قطعًا، أنه لا بد له من قادر مدبر حكيم، يلهمها ذلك ويحملها عليه، وهو الحق تعالى.
الإشارة: إنما كان العسل فيه شفاء للناس لأن النحل ترعى من جميع العشب، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، فإذا كان بهذه المنزلة، كان فيه شفاء للقلوب، كل من صحبه، بصدق ومحبة، شفاه الله، وكل من رآه، بتعظيم وصدق، أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف: هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيبَ منه شيئًا، يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صفوه شيء، قد شغله واحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء.. إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي:
قال أبو بكر الوراق: النحلة لَمَّا تبعت الأمر، وسلكت سبيلها على ما أمرت به، جعل لعابها شفاء للناس، كذلك المؤمن، إذا اتبع الأمر، وحفظ السر، وأقبل على مولاه، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق، ومن نظر إليه اعتبر، ومن سمع كلامه اتعظ، ومن جالسه سعد. هـ.
ثم ذكر دلالة أخرى على قدرته، وهى الإحياء والإماتة، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 70]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ: أظهركم إلى عالم الشهادة، ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ: يردكم إلى عالم الغيب عند انتهاء آجالكم، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي: أخسه، يعني: الهِرَم والخرف، الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل. وقيل: هو خمس وتسعون سنة، وقيل: خمس وسبعون سنة، والتحقيق: أن ذلك لا ينضبط بسن. لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية، في نقصان العقل والنسيان وسوء الفهم. وليس المراد نفي العلم بالكلية، بل عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان. وقيل: المعنى: لئلا يعلم زيادة على علمه شيئًا. قال عكرمة: (من قرأ القرآن لم يصر بهذه المنزلة) .
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الطب، باب الدواء بالعسل) ، ومسلم فى (السلام، باب التداوى بسقى العسل) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(3/145)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قلت: جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي تخصيص القارئ للقرآن بالمتبع له، وأنه الذي يُمتعه الله بعقله حتى يموت، وهو الذي يشهد له الحس، أي: الوجود في الخارج، بالصدق، لوجود الخرف في كثير ممن يحفظه.
قاله في الحاشية.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي: عليم بمقادير الأشياء وأوقاتها، قدير على إيجاد الأشياء وإعدامها، عند انتهاء آجالها، فيميت الشاب النشط عند تمام أجله، ويبقى الهرم الفاني إلى انقضاء أجله. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن تفاوت أعمار الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم، وعدل أمزجتهم، على قدر معلوم، ولو كان ذلك بمقتضى الطبائع لم يقع التفاوت إلى هذا المبلغ. هـ.
الإشارة: الخلق والتوفي هو من جملة الظهور والبطون، عند أهل التوحيد الخاص، والرد إلى أرذل العمر لا يلحق العارفين بالله. وقد قيل، في استثناء قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» من الرد إلى أسفل سافلين: إن الصالح لا يدركه الخَرف وإن أدركه الهرم. وذلك دليل على سعادته، وعدم تشويه صورته في الآخرة، والله تعالى قادر على وقاية أوليائه مما يشين به أعداءه عاجلاً. وفي الحديث: «إذا قرأ الرجلُ القرآنَ، واحتْشَى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: امتلأ- وكانتْ هناك غزيرةٌ- يعني: فقه نفس ومعرفة-، كان خليفةً من خلفاء الأنبياء» «2» .
ثم سفه رأى من أشرك بعد هذه الدلائل، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 71]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، فمنكم غني ومنكم فقير، ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم، فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا وهم الموالي، أي:
السادات، بِرَادِّي رِزْقِهِمْ: بمعطي رزقهم عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ: على مماليكهم، أي: ليس الموالي بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها، شركة بينهم وبين مماليكهم، فَهُمْ أي: المماليك فِيهِ سَواءٌ مع
__________
(1) من الآية 6 من سورة البلد.
(2) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (794) للرافعى فى تاريخه، عن أبى أمامة، وضعّفه. وانظر: فيض القدير، للمناوى (1/ 416) .(3/146)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
ساداتهم. وهو احتجاج على وحدانيته تعالى، وإنكارٌ ورد على المشركين، فكأنه يقول: أنتم لا تسَوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، بل تأنفون من ذلك، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي في ألوهيتي؟! وهذا كقوله: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1» . ويحتمل أن يكون ذمًا وعتابًا لمن لا يحسن إلى مملوكه، حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما في الحديث: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» «2» .
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، حيث يجعلون له شركاء، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا هذه الحجج، بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، أو حيث بخسوا مماليكهم مما يجب لهم من الإنفاق. على التفسير الثاني.
الإشارة: والله فضَّل بعضكم على بعض في أرزاق العلوم، والأسرار والمواهب، فمنكم غني بالله، ومنكم فقير منه في قلبه، ومنكم عالم به ومنكم جاهل، ومنكم قوي اليقين ومنكم ضعيف، فما الذين فُضِّلوا بالعلوم اللدنية والأسرار الربانية برادِّي تلك العلوم على الجهلة وضعفاء اليقين، بأن يُطلعوهم على أسرار الربوبية قبل استحقاقها- فإن ذلك بخس بحقها- حتى يرونهم أهلاً لها بأن يبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، ويملكون لهم رقابهم يتصرفون فيها تصرُّف المالك في مملوكه، فحينئذ يشاركونهم فيما منحهم اللهُ من أرزاق العلوم وأسرار الفهوم، وقد قيل: لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
سَأَكْتُم عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي ... وَلاَ أَنْثُرُ الدُّر النَّفيس على الْبَهَمْ
فإنْ قَدَّرَ اللَّهُ الكريمُ بلطفه ... ولا قيت أَهلاً للعُلُوم وللحِكَمْ
بَذَلْتُ عُلُومِي واستَفَدْتُ عُلُومَهُم ... وإِلاّ فمخزونٌ لديَّ ومُكْتَتمْ
فمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... ومَنْ مَنَعَ المستوجِبين فَقَد ظلم
ثم ذكّرهم بالنعم التي لا قدرة لأحد عليها، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
__________
(1) من الآية 28 من سورة الروم.
(2) أخرجه مسلم فى (الزهد، باب حديث جابر الطويل) ، من حديث أبى اليسر.(3/147)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
قلت: الحفدة: جمع حافد، وهو الخديم المسرع في الخدمة، والحفْد في اللغة: الخدمة، ومنه في القنوت: «وإليك نسعى ونحفد» ، أي: نسرع في خدمتك. وسموا أولاد الأولاد حفدة لأنهم يُسرعون في خدمة جدهم، حين كبر ولزم الدار، وقيل: هم البنات لأنهن يخدمن الدار.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً حيث خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطفة الرجال، والنساء خلقهن لكم، لتتأنسوا بهن، ولتتمتعوا بهن في الحلال، وليكون أولادكم مثلكم.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ من صلبكم وَحَفَدَةً أولاد أولادكم أو بناتكم فإن البنات يخدمن في البيوت أشد الخدمة، أو الأصهار من قِبل النساء، أو الخدَم، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ والمشتهيات كأنواع الثمار والحبوب والفواكه، والحيوان أكلاً وركوبًا وزينة، أو الحلالات، و «مِنْ» : للتبعيض فإن طيبات الدنيا أنموذج من نعيم الآخرة. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو أن الأصنام تنفعهم لأن الأصنام باطلة لا حقيقة لوجودها، وإضافة النفع لها: كفرٌ بنعمة الله، ولذلك قال: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ حيث أضافوها إلى أصنامهم، أو حيث حَرَّموا منها ما أحله الله لهم كالبحائر والسوائب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والله جعل لكم من أنفسكم المطهرة أصنافًا من العلوم اللدنية. قال أبو سليمان الداراني: (إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدي إليها عالم علمًا) . وجعل لكم من تلك العلوم بنين روحانيين، وهو التلامذة، يحملون تلك العلوم، وحفدة: من ينقل ذلك عنهم إلى يوم القيامة، ورزقكم من الطيبات، وهي حلاوة المعرفة عند العارفين، وحلاوة الطاعات عند المجتهدين.
أفبالباطل- وهو ما سوى الله- يؤمنون، فيقفون مع الوسائط والأسباب، ويغيبون عن مسبب الأسباب، وبنعمة الله- التي هي شهود الحق بلا وسائط- هم يكفرون.
ثم عاب على من وقف مع غير الله، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 74]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
قلت: رِزْقاً: مفعول بيملك، فيحتمل أن يكون مصدرًا، أو اسمًا لما يرزق، فإن كان مصدرًا، فشيئًا مفعول به لأن المصدر ينصب المفعول، وإن كان اسمًا، فشيئًا بدل منه. وجمع الضمير في يَسْتَطِيعُونَ، وأفرده في يَمْلِكُ لأن (ما) مفردة لفظًا، واقعة على الآلهة، فراعى أولاً اللفظ، وفي الثاني المعنى.(3/148)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: غيره ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات، فلا يرزقونهم من ذلك شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ: لا يقدرون على شيءٍ من ذلك لعجزهم، وهم الأصنام، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تجعلوا له أشباهًا تشركونهم به، أو تقيسونهم عليه، فإنَّ ضرب المثل تشبيه حال بحال، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ألاَّ مِثلَ لَه، أو فساد ما يقولون عليه من القياس، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، ولو علمتموه لما تجرأتم عليه، فهو تعليل للنهي، أي: إنه يعلم كنه الأشياء، وأنتم لا تعلمون، فدعوا رأيكم، وقفوا عند ما ما حد لكم.
الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء دون الحق تعالى، أو اعتمد عليه في إيصال المنافع أو دفع المضار، تصدق عليه الآية، وتجر ذيلها عليه، فلا تجعلوا لله أمثالاً تعتمدون عليهم وتركنون إليهم، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو تعلمون ولا تعملون، ولقد قال من عَلِمَ ذلك وتحقق به:
حَرَامٌ على من وحد الله ربه ... وأفرده أن يجتدي أحدا رفدا
فيا صاحبي، قف بي على الحق وقفة ... أموت بها وجدا، وأحيا بها وجدا
وقل لملوكِ الأرْضِ تَجْهدَ ... فَذَا الملك ملك لا يباع ولا يُهْدَى
قال سهل رضي الله عنه: «ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار، فايما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غَيْرِهِ، سلط عليه إبليس» . وقال الأستاذ أبو على الدقاق رضي الله عنه: من علامة المعرفة: ألا تسأل حوائجك، قلَّتْ أو كثُرت، إلا من الله سبحانه، مثل موسى عليه السلام اشتاق إلى الرؤية، فقال: رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير. هـ. وقال في التنوير: اعلم، رحمك الله، أن رفع الهمة عن المخلوقين، وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحليّ للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس ... إلخ كلامه رضي الله عنه.
ثم ضرب مثلا لنفسه، ولمن يعبد معه، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 76]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(3/149)
قلت: «عَبْداً» : بدل من «مَثَلًا» ، و «مَنْ» : نكرة موصوفة، أي: عبدًا مملوكًا، وحرا رزقناه منا رزقا حسنًا، وقيل:
موصولة. و «سِرًّا وَجَهْراً» : على إسقاط الخافض، وجمع الضمير في «يَسْتَوُونَ» لأنه للجنسين، و «رَجُلَيْنِ» : بدل من:
«مَثَلًا» .
يقول الحق جلّ جلاله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لضعف العبودية، وعظمة الربوبية، ثم بيَّنه فقال: عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وهذا مثال للعبد، وَمَنْ رَزَقْناهُ أي: وحرًا رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً، فَهُوَ يتصرف فيه كيف يشاء، يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، وهذا: مثال للرب تبارك وتعالى، مَثَّلَ ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسًا، ومَثَّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
وقيل: هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك للتمييز من الحر فإنه أيضًا عبدٌ لله. وبسلْب القدرة عن المكاتب والمأذون في التصرف، فإن الأصنام إنما تشبه العبد الْقِنّ «1» الذي لا شوب حرية فيه، بل هي أعجز منه بكثير، فكيف تضاهي الواحد القهار، الذي لا يعجزه مقدور؟ ولذلك قال: هَلْ يَسْتَوُونَ؟ أي: العبيد العجزة، والمتصرف بالإطلاق. الْحَمْدُ لِلَّهِ على بيان الحق ووضوحه لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره، فضلاً عن العبادة لأنه مولى النعم كلها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: لا علم لهم:
فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، ثم بيًّنه بقوله: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ وُلد أخرس، لا يَفهم ولا يُفهم، لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع والتدابير لنقصان عقله، وَهُوَ كَلٌّ أي: ثقيل عيال عَلى مَوْلاهُ الذي يلي أمره، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ: يُرسله في حاجة أو أمر لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي: الأبكم المذكور، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو مِنطيقٌ متكلم بحوائجه، ذو كفاية ورشد، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: وهو في نفسه على طريق مستقيم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعْي؟
وهذا مثال للحق تعالى، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام، وقيل: للكافر والمؤمن.
والأصوب: كون المَثَليْن معًا في الله مع الأصنام لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها في تبيين أمر الله، والرد على أمر الأصنام. والله تعالى أعلم.
__________
(1) العبد القنّ: الذي ملك هو وأبواه، ويقابله: عبد المملكة، الذي ملك هو دون أبويه. انظر: النهاية (قنن) .(3/150)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
الإشارة: الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية، منعوت بعظمة الألوهية، وعبيده موسومون بنقائص العبودية، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله في باطنه بكمالات الربوبية من قوة وعلم، وغنى وعز، ونصر وملك، فليتحقق في ظاهره بنقائص العبودية من ذل، وفقر، وضعف، وعجز، وجهل. فبقدر ما تجعل في ظاهرك من نقائص العبودية يمدك في باطنك بكمالات الربوبية «تحقق بوصفك يُمدك بوصفه» ، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرًا بين خلقه، لا منفردًا وحده إذ ليس فيه كبير مجاهدة إذ كل الناس يقدرون عليه، وإنما التحقق بالوصف- الذي هو ضامن للمدد الإلهي- هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.
ثم بيّن كمال علمه وقدرته، بعد أن ذكر كمالات ذاته، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 78]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قلت: أمهات: جمع أم، زيدت فيه الهاء فرقًا بين من يعقل ومن لا يعقل، قاله ابن جزي. والذي لغيره حتى ابن عطية: إنما زيدت للمبالغة والتأكيد. وقرئ بضم الهمزة، وبكسرها اتباعًا للكسرة قبلها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يعلم ما غاب فيهما، كان محسوسًا أو غير محسوس قد اختص به علمه، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ أي: قيام القيامة، في سرعته وسهولته، إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ: أو أمرها أقرب منه بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل أقل لأن الحق تعالى يحيي الخلائق دفعة واحدة، في أقل من رمشة عين، و «أَوْ» للتخيير، أو بمعنى بل. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على أن يُحيي الخلائق دفعة، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
ثم دلَّ على قدرته فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً جهالاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ أي: الأسماع وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي: القلوب، فتكتسبون، بما تُدركون من المحسوسات، العلوم البديهية، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار، ثم تُدركون معرفة الخالق لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أظهركم أولاً من العدم، ثم أمدكم ثانيًا بضروب النعم، طورًا بعد طور، حتى قدمتم عليه.(3/151)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
وقدَّم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر لأنه أنفع للقلب من البصر، وأشد تأثيرًا فيه، وأعم نفعًا منه في الدين إذ لو كانت الناس كلهم صمًا، ثم بُعِثت الرسل، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام. وإنما أفرده، وجمع الأبصار والأفئدة لأن متعلق السمع جنس واحد، وهي الأصوات، بخلاف متعلق البصر، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان، والأنوار والظلمات، وسائر المحسوسات، وكذلك متعلق القلوب معاني ومحسوسات، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما غاب في سماوات الأرواح من علوم أسْرار الربوبية، وفي أرض النفوس من علوم أحكام العبودية، هو في خزائن الله، يفتح منهما ما شاء على من يشاء إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده، بأن يميته عن نفسه، ثم يُحييه بشهود طلعة ذاته، إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج، فيُخرجه إلى هذا العالم جاهلاً، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ، وبصره للنظر والاعتبار، وقلبه للشهود والاستبصار، حتى يصير عالمًا عارفًا بربه، من الشاكرين الذين يعبدون الله، شكرًا وقيامًا برسم العبودية. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على التفكير، الذي هو سبب المعرفة وشبكة العلوم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 79 الى 83]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
قلت: مُسَخَّراتٍ: حال من الطَّيْرِ، وسَكَناً: مصدر وُصف به، أي: شيئًا سكنًا، أو: فَعَلٌ بمعنى مفعول.
وأَثاثاً: مفعول بمحذوف، أي: وجعل من أوبارها أثاثًا.(3/152)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ يَرَوْا، وفي قراءة: ألم تروا «1» بتوجيه الخطاب لعامة الناس، إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ: مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية، فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد من الأرض. ما يُمْسِكُهُنَّ فيه إِلَّا اللَّهُ فإن ثِقلَ جسدها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها، إِنَّ فِي تسخيره ذلِكَ لها لَآياتٍ لعبرًا ودلالة على قدرته تعالى إذ لا فاعل سواه فإنَّ إمساك الطيران في الهواء هو على خلاف طباعها، لولا أن القدرة تحملها، ففيه آيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون بها.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدَر. و «مِنْ» للبيان، أي: جعل لكم سكنًا، أي: موضعًا تسكنونه، وهو بيوتكم، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً، هي القباب المتخذة من الأدم، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبَر والصوف والشعر، فإنها، من حيث إنها نابتة على جلودها، كأنها من جلودها، تَسْتَخِفُّونَها أي: تجدونها خفيفة، يخف عليكم حملها وثقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي: سفركم، وفيه لغتان: الفتح والسكون «2» ، وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ: حضوركم، أو نزولكم، وَجعل مِنْ أَصْوافِها أي: الغنم، وَأَوْبارِها أي: الإبل، وَأَشْعارِها أي: المعز، أَثاثاً:
متاعًا لبيوتكم كالبسُط والأكسية، وَمَتاعاً تمتعون به إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإنها، لصلابتها، تبقى مدة مديدة، أو: إلى مماتكم، أو: إلى أن تقضوا منها أوطاركم، أو: إلى أن تبلى.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر والجبال والأبنية، وغيرها، ظِلالًا تتقون بها حر الشمس، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع: كَن، ما تكنون، أي: تستترون به من الحر والبرد، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع: سربال ثيابًا من الصوف والكتان والقطن وغيرها، تَقِيكُمُ الْحَرَّ والبرد، وخص الحر بالذكر، اكتفاء بأحد الضدين، أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم.
وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ: حربكم، كالطعن والضرب. وهي: الدروع، وتسمى: الجواشن، جمع جَوشن، وهو الدرع، كَذلِكَ كإتمام هذه النعم بخلق هذه الأشياء المتقدمة، يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدنيا بخلق ما تحتاجون إليه، لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة تُسْلِمُونَ أي: تنظرون في نعمه، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه.
وفي قراءة: بفتح التاء، أي: تسلمون من العذاب بالإيمان، أو تنظرون فيها، فتوحدون، وتَسلمون من الشرك، أو من الجراح بلبس الدروع.
__________
(1) وهى قراءة ابن عامر وحمزة ويعقوب. وقرأ الباقون: (يَرَوْا) بالغيب لقوله «يَعْبُدُونَ» . انظر الإتحاف (2/ 187) .
(2) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بإسكان العين، والباقون بفتحها.(3/153)
فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا، ولم يقبلوا منك، أو لم يُسلموا. فَإِنَّما عَلَيْكَ يا محمد الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي:
الإبلاغ البين، فلا يضرك إعْراضهم حيث بلَّغْتَهُمْ.
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي: يُقرون بأنها من عنده، ثُمَّ يُنْكِرُونَها بإشراكهم وعبادتهم غيرَ المنعِم بها، وبقولهم: إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب كذا، أو بإعراضهم عن حقوقها. وقيل: نعمة الله: نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوها بالمعجزات، ثم أنكروها عنادًا. وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الجاحدون عنادًا. وذكر الأكثر إمَّا لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتفريطه في النظر، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو كان فيهم من داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك. وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل، كقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1» . قال بعضه البيضاوي.
الإشارة: قال الورتجبي: بين الحق تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى- أي: تتلاشى- في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا- وهي العبودية-، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله حقيقة هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم:
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ ... وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ ... إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ ... وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل «2»
__________
(1) من الآية 75 من سورة النحل. [.....]
(2) هذا شعر عامى، أو زجل، وهو جيد المعنى، ويعبر عن همة عالية عند قائله. وقوله: إذا حمت القوائل، يعنى: إذا اشتد الحر فى أوقات الظهيرة. وبقية الزجل واضح المعنى.(3/154)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
والمراد بعمامة الماء: كناية عن الحقيقة لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها: كناية عن قوتها، وتكبيرها على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج: برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح: هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة- التي هي سِراج القلب-، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر:
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ ... غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وجهك المحمود حجتنا ... يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب: وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم، التي هى دلائل قدرته، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قلت: «تِبْياناً» : حال من الكتاب، وهو مصدر، قال في القاموس: والتبيان: مصدر شاذ. وفي ابن عطية:
والتبيان: اسم، لا مصدر. والمصادر في مثله مفتوحة، كالترداد والتكرار. هـ. وقال فى الصحاح: لم يجئ على الكسر إلا هذا، والتِّلقاء. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً أي: رسولاً يشهد لها أو عليها، بالإيمان أو بالكفر، وهو يوم القيامة، ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار إذ لا عذر لهم. «1»
__________
(1) فى باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا، حكى القشيري فى الرسالة، عن أبى محمد الهروي «أنه قال: ومكثت عند الشبلي، الليلة التي مات فيها، فكان يقول- طول ليله-: هذين البيتين:
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ ... غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج(3/155)
أو: في الرجوع إلى الدنيا. وعبَّر بثم لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع من الاعتذار، مع ما فيه من الإقناط الكلي. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ: لا يطلب منهم العتبى، أي: الرجوع إلى ما يرضي الله. والمعنى: أنهم لا يُؤذَنُ لهم في الاعتذار عما فرطوا فيه مما يرضي الله، ولا يطلب منهم الرجوع إلى تحصيله. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا:
كفروا الْعَذابَ: جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يُمهلون عنه إذا رأوه.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ: أوثانهم التي دعوها شركاء لله، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
أي: نعبدهم ونطيعهم من دونك. وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك. فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ قالوا لهم: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي:
أجابوا بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم كقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ «1» ، وقوله: مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «2» ، أو لأنهم، لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن لهم. وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي: الاستسلام، أي: استسلموا لحكمه (يَوْمَئِذٍ) ، بعد أن تكبروا عنه في الدنيا، ولا ينفع يومئذ، وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: غاب وضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تنصرهم وتشفع لهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالمنع من الإسلام، والحمل على الكفر، زِدْناهُمْ عَذاباً بصدهم، فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم. قال ابن مسعود: «عقارب، أنيابها كالنخل الطوال، تلسعهم» . وعن عبيد بن عمير: عقارب كالبغال الدُّلْم- أي: السود جدًا، والأدلم: الشديد السواد. وذلك العذاب بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي: بكونهم مفسدين بصدهم عما فيه صلاح العالم.
وَاذكر أيضًا: يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: نبيهم فإن نبي كل أمة بعث منها. وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك، أو على هؤلاء الشهداء، وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ: القرآن تِبْياناً بيانًا بليغًا لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين على التفصيل، أو الإجمال بالإحالة على السنة أو القياس. وَهُدىً من الضلالة، وَرَحْمَةً بنور الهداية لجميع الخلق. وإنما حُرم المحروم لتفريطه، وَبُشْرى بالجنة، وغيرها، لِلْمُسْلِمِينَ الموحدين خاصة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان: صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم: العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في
__________
(1) من الآية 82 من سورة مريم.
(2) من الآية 3 من سورة القصص.(3/156)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
أسرار الحقيقة، وهم: الأولياء الكبراء، أعني: العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أن القرآن فيه تبيان كل شىء، ذكر آية تضمنت أصول الأحكام، فيها تبيان كل شىء إجمالا، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي: التوحيد، أو الإنصاف، أو فعل الفرائض، وَالْإِحْسانِ، وهو: فعل المندوبات. وذلك في حقوق الله تعالى، وفي حق عباده، أو العدل في الأحكام، كل واحد فيما ولي فيه «كلكم راع» . والإحسان إلى عباد الله بَرهم وفَاجرهم. قال ابن عطية: العدل: هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو: فعل كل مندوب إليه.
وقال البيضاوي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: بالتوسط في الأمور اعتقادًا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب، المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً، كالتعبد بأداء الواجبات، المتوسط بين البطالة والترهب، وخُلُقًا، كالجود المتوسط بين البخل والتبذير، والإحسان: إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية، كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما قال- عليه الصلاة والسلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تَراه، فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك» . وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى: وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة.
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ: عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية، كالزنى فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها، وَالْمُنْكَرِ: ما ينكر على متعاطيه في إيثاره القوة الغضبية، وَالْبَغْيِ: الاستعلاء والاستيلاء على الناس، والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هي أجمع آية في القرآن للخير والشر» . وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون، فلو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقب قوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ للتنبيه عليه. هـ.
وفي القوت: هي قطب القرآن. هـ. وعن عثمان بن مظعون: أنه قال: لَمَّا نزلت هذه الآية قرأتُها على أبي طالب، فعجب، وقال: آلَ غالبٍ، اتبعوه تفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق. هـ. قال ابن عطية:(3/157)
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى: لفظ يقتضي صلة الرحم، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، وتركه مبهمًا أبلغ لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية- وإن علت- يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب ذي القربى داخل تحت العدل والإحسان، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتمامًا به وحضًا عليه. هـ.
يَعِظُكُمْ بما ذكر من التمييز بين الأمر والنهي، والخير والشر، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ: تتعظون فتنهضون إلى ما أمرتكم به وندبتكم إليه، وتنكفوا عما نهيتكم عنه وحذرتكم منه.
الإشارة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بالتوسط في الأمور كلها، كالتوسط في السير والمجاهدة فإن الإسراف يوقع فى الملل، قال- عليه الصلاة والسلام-: «لا يكن أحدكم كالمنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى» . وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «إنَّ اللهَ لا يملَ حتى تَملوا» . والله ما رأيت أحداً أسرف في الأحوال فوصل إلى ما قصد، إلا النادر، وخير الأمور أوسطها. ويأمر بالإحسان، وهو: مقام الشهود والعيان. (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) قرابة الدين، وهم: الإخوان في الله، ما يستحقونه من النصح والإرشاد، (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) : الركون لغير الله، (وَالْمُنْكَرِ) : التكبر على عباد الله، (وَالْبَغْيِ) : ظلم أحد من خلق الله، من الفيل إلى الذرة.
وقال في الإحياء: بين التبذير والإقتار المذمومين وسط، وهو المحمود المأمور به، والواجب منه شيئان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحدًا منهما فهو بخيل، كالذي يمنع أداء الزكاة، ويمنع أهله وعياله النفقة، أو يؤديها لا بطيب نفسه، بل بتكلف ومشقة. وكالذي يتيمم الخبيث من ماله، ولا يعطي من أطيبه وأوسطه، فهذا كله بُخل. وأما واجب المروءة فهو: ترك المضايفة والاستقصاء في المحقرات، وذلك يختلف فيستقبح من الغني ما لا يستقبح من الفقير، ويستقبح من الرجل مع أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب، وكذلك الجار والمماليك والضيف. هـ.
وقال الورتجبي: إنَّ الله تعالى دعا عباده إلى الاتّصاف بصفته، منها: العدل والإحسان والشفقة والرحمة، والقدس، والطهارة عما لا يليق به. فهو العادل والمحسن، والرحمن الرحيم، غير ظالم جائر، وهو مُنزه عن جميع العلل، فمن كُسِي أنوار هذه الصفات، بنعت الذوق والمباشرة، واستحلى تربيتها يخرج عادلاً محسنًا، رؤوفًا رحيمًا، طاهرًا مطهرًا، صادقًا مصدقًا، وليًا، حبيبًا محبوبًا، مريدًا مرادًا، مُراعَى محفوظًا، يعدل بنفسه فيدفعها عن الشك والشرك، ورؤية الغير وطلب العوض في العبودية، ويأخذ منها الإنصاف بينها وبين عباد الله، ويحسن إلى من أساء إليه، ويعبد الله بوصف الرؤية وشهود غيبه، ويراعي ذوي القرابة، في المعرفة والمحبة من المريدين والصادقين، ويرحم الجهال من المسلمين، وينهى نفسه عن مباشرة فواحش الأنانية، ومباشرة الهوى والشهوة،(3/158)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
ويدفعها عن الظلم باستكباره عن العبودية، ويأمرها بإذعانها عند تراب أقدام أولياء الله لتكون مطمئنة في عبودية الحق، ذاكرة لسلطان ربوبيته، وقهر جبروته وملكوته وإحاطته بكل ذرة، وفناء الخليقة في حقيقته. هـ.
ومن مكارم الأخلاق الداخلة تحت العدل: الوفاء بالعهد، كما قال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 96]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قلت: وَقَدْ جَعَلْتُمُ: حال، وأَنْكاثاً: حال من الغزل، وهو: جمع نِكْث- بالكسر- بمعنى منكوث، أي:
منقوض. وأَنْ تَكُونَ: مفعول من أجله، وتَتَّخِذُونَ: جملة حالية من ضمير «تَكُونُوا» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ كالبيعة للرسول- عليه الصلاة والسلام- وللأمراء، والأيمان، والنذور، وغيرها، إِذا عاهَدْتُمْ الله على شيء من ذلك، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان، بَعْدَ تَوْكِيدِها بعد توثيقها بذكر الله، أو صفته، أو أسمائه، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدًا ورقيبًا، بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ في نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في الحديث.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها: أفسدته مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي: إبرام وإحكام أَنْكاثاً أي:
طاقات، أي: صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد:(3/159)
تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل: هي «ريطة بنت سعد القرشية» فإنها كانت خرقاء- أي: حمقاء- تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب بها المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي: لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل: ما يدخل الشيء، ولم يكن منه، يقال: فيه الدخل والدغل، وهو قصد الخديعة.
تفعلون ذلك النقض لأجل أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ: بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً، من جماعة أخرى، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية لكثرتها. نزلت في العرب، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها، غدرت الأولى، وحالفت الثانية. وقيل: الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ: يختبركم اللَّهُ بِهِ بما أمر من الوفاء بالعهد لينظر المطيع منكم والعاصي. أو: بكون أمة هي أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أهل دين واحد متفقين على الإسلام، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بعدله، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بفضله، وَلَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة سؤال تبكيت ومجازاة، عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا لتُجازوا عليه.
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، كرره تأكيدًا مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود، فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الإسلام بَعْدَ ثُبُوتِها: استقامتها عليه، والمراد: أقدامهم، وإنما وُحد ونُكِّر للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وَتَذُوقُوا السُّوءَ: العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: بصدكم عن الوفاء بعهد الله، أو بصدكم غيركم عنه فإن من نقض البيعة، وارتد، جعل ذلك سُنَّة لغيره، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ أي: لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم ثَمَناً قَلِيلًا: عرضًا يسيرًا من الدنيا، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل: هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد، إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من النصر والعز، وأخذ الغنائم في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما يعدونكم، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك فلا تنقضوا، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.(3/160)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
ما عِنْدَكُمْ من أعْرَاضِ الدنيا يَنْفَدُ ينقضي ويفنى، وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته، وجزيل نعمته باقٍ لا يفنى، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد طمعًا فى العرض الفاني، وَلَنَجْزِيَنَّ «1» الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهود، أو على الفاقات وأذى الكفار، أو مشاق التكاليف، أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بما يرجح فعله من أعمالهم، كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار.
وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين: فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «2» ، فهم يتلونون مع الشئون البارزة من السر المكنون فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال «3» لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
وهذه الحالة التي أقامهم الحق تعالى فيها هى الحياة الطيبة، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله:
[سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً بأن صحبه الإخلاص، وتوفرت فيه شروط القبول، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي: يعيش عيشًا طيبًا، فإنه، إن كان موسرًا، فظاهر، وإن كان معسرًا يطيبُ عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم، بخلاف الكافر، فإنه، إن كان معسرًا، فظاهر، وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه، وقيل: في الآخرة، أي: في الجنة. هـ. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعة، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
__________
(1) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو جعفر: (ولنجزين) بالنون، وقرأ الباقون بالياء على الغيب.
(2) من الآية 29 من سورة الرحمن.
(3) العارف الحق هو الذي يلتزم أمر الله ويجتنب مناهيه، وهو شاهد بقلبه مولاه، فان عما سواه.(3/161)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
الإشارة: الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر، والعلائق في الباطن، فاطمأنت قلوبهم بالله، وسكنت أرواحهم في حضرة الله، وتحققت أسرارهم بشهود الله، فدام سرورهم، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية، كما قال ابن الفارض في مدحها:
وإِنْ خَطَرَتْ يوما علَى خاطِر امْرِئ ... أقَامَتْ بِهِ الأفراحُ، وارتحلَ الهمّ
هذا في الخطور، فما بالك بالسكون ودوام الحضور؟ وقال أيضًا في شأنها:
فما سكَنتْ والهمَ، يوماً، بموضع ... كذلك لا يسكُنْ مع النغَم الغَمُّ
وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان، وسكونهم في جنة العرفان، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل: أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان، فيقلبون الشرِّيات خيريات، والمعاصي طاعات، والإساءة إحسانًا، والجلال جمالاً.. وهكذا، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ؟
وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ، وهم في حضرة الكريم الغفار؟ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا فى سلكهم، آمين.
ومن جملة الحياة الطيبة: التنعم بحلاوة القرآن، ولا يتحقق ذلك إلا بالبعد والحفظ من خوض الشيطان، ولذلك أمر بالتعوذ منه عند قراءته، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أردت قراءته، كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي: فسل الله أن يعيذك من وسواسه لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحب عند التلاوة، وعن عطاء: أنه واجب. ومذهب مالك: أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة: يتعوذ في كل ركعة تمسكا بظاهر
__________
(1) من الآية 6 من سورة المائدة.(3/162)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
الآية لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة.
وهو تابع للقراءة في السر والجهر، وعن ابن مسعود: قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال: «قل: أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرجيم» «1» .
ثم قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي: تسلط وولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي:
لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون أوامره، ولا يصغون إلى وساوسه، إلا فيما يحتقر، على ندور وغفلة. إِنَّما سُلْطانُهُ أي: تَسَلُّطُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ: يحبونه ويطيعونه، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي: بالله، أو: بسبب الشيطان، مُشْرِكُونَ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
الإشارة: الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي: الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ «2» . فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. هـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك ليوحشك إليه. وفي الحِكَم: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده» . فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ.. «3» الآية. وبالله التوفيق.
ومن أقبح وسوسة الشيطان: الطعن فى القرآن، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 103]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
__________
(1) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 758) للثعلبى.
(2) من الآية 50 من سورة الذاريات.
(3) من الآية 6 من سورة فاطر.(3/163)
قلت: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ: معترض بين الشرط، وهو: إِذا وجوابه، وهو: قالُوا لتوبيخ الكفار، والتنبيه على فساد سندهم. وهُدىً وَبُشْرى: عطف على: «لِيُثَبِّتَ» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بأن نسخنا الأولى لفظًا أو حكمًا، وجعلنا الثانية مكانها، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح، فلعل ما يكون في وقت، يصير مفسدة بعده، فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ، يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه. فإذا نسخ، لهذا المصلحة، قالُوا أي: الكفرة:
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ: كذاب مُتَقوِّل على الله، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، قال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن، ولا يميزون الخطأ من الصواب.
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعني: جبريل. والقدس: الطهر والتنزيه لأنه روح مُنزه عن لوث البشرية. نزله مِنْ رَبِّكَ ملتبسًا بِالْحَقِّ: بالحكمة الباهرة، أو مع الحق في أمره ونهيه وإخباره، أو أنزله حقًا، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان لأنه كلام الله، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. وَأنزله هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه، أي: نزله تثبيتًا وهداية وبشارة للمسلمين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يعنون: غلامًا نصرانيًا اسمه: جبَر، وقيل: يعيش. قيل: كانا غلامين، اسم أحدهما: جبَر، والآخر يَسارٌ، وكانا يصنعان السيوف، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما، ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش: هذان هما اللذان يعلمان محمدًا ما يقول. قال تعالى في الرد عليهم: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ أي: لغة الرجل الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة إليه، وينسبون إليه تعليم القرآن، أعجمي، وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي:
والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون، - أي: القرآن- ما تلقفه منه؟ وثانيهما: هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن، كما هو معجز باعتبار المعنى، معجز باعتبار اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سُوقي، سمع منه، بعض أوقات، كليمات عجمية، لعله لم يعرف معناها؟! فطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. هـ.
الإشارة: كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أو يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى أعلم.(3/164)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
ثم ذكر وبال مَن طعن فى كلام الله، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 104 الى 109]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
قلت: «مَنْ كَفَرَ» : شرطية مبتدأ، وكذلك مَنْ شَرَحَ. وفَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ: جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحد، ويكون جوابًا للثانية، وجواب الأولى: محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل: مَنْ كَفَرَ: بدل من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، أو من المبتدأ في قوله: أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ، أو من الخبر. وإِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: استئناف من قوله: مَنْ كَفَرَ.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لا يُصدِّقون بِآياتِ اللَّهِ، ويقولون: هي من عند غيره، لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى سبيل النجاة، أو إلى اتباع الحق، أو إلى الجنة. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وهذا في قوم عَلِمَ أَنهم لا يؤمنون، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ «1» .
وقال ابن عطية: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله. ولكنه قدَّم وأخر تهممًا بتقبيح أفعالهم. هـ.
قال البيضاوي: هددهم على كفرهم، بعد ما أماط شبهتهم، ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم، فقال:
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لأنهم لا يخافون عذابًا يردعهم عنه، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله، والطعن فيها، بهذه الخرافات أعظم الكذب. وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة. أو الكاذبون في قولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ، إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. هـ. والكلام كله مع كفار قريش.
__________
(1) من الآية 96 من سورة يونس.(3/165)
ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان طوعًا أو كرهًا، فقال: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ فعليهم غضب من الله، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على التلفظ بالكفر، أو على الافتراء على الله، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغير عقيدته، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي: فتحه ووسعه، فاعتقده، وطابت به نفسه، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إذ لا أعظم من جرمه.
رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه- وهما ياسر وسمية- على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين، وطعنوها بحربة في قلبها، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال، فماتت- رحمة الله عليها- وقتلوا ياسرًا زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مُكرهًا، فقيل: يا رسول الله إن عمارًا كفر، فقال: «كَلا، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ» . فَأَتَى عمَّار رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْكي، فَجَعَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَيْنَيْه، ويقول: «مَا لك، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ» «1» .
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه، إعزازًا للدين، كما فعل أبواه.
لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. وقال: ما تقول فيَّ؟ فقال:
أنت أيضًا، فخلى سبيله، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله، فقال: ما تقول فيَّ؟ فقال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الآخر فقد صدع بالحق، فهنيئًا له «2» . هـ. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي: وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر، وأما الإكراه على فعل وهو كفر، كالسجود للصنم، فاختلف هل يجوز الإجابة إليه أو لا؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز له الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله. هـ. وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها، فذكر عن مالك: أن القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف للدرء عن ماله، لظالم، بخلاف الدرء عن النفس والبدن، فإنه لا يحنث، قولاً واحدًا، إلا إذا تبرع باليمين، ففي لزومه خلاف. وانظر المختصر فى الطلاق.
__________
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (228) عن ابن عباس. وأخرجه بنحوه الحاكم فى المستدرك (2/ 357) من حديث محمد بن عمار بن ياسر، وصححه، ووافقه الذهبي. وانظر تفسير الطبري (14/ 180) .
(2) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 250) لابن أبى شيبة عن الحسن مرسلا. [.....](3/166)
ثم علل نزول العذاب بهم، فقال: ذلِكَ الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي: بسبب أنهم آثروها عليها، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ، الذين سبق لهم الشقاء، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان في قلوبهم، ولا يعصمهم من الزيغ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه، وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل في العواقب. لا جَرَمَ: لا شك أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث ضيعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.
الإشارة: مَن سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق:
ماثمّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، أي: بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري: إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ. قلت: هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً: من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه: وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد: فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه فرارًا، وإلى ربه اضطرارًا. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ. هـ.(3/167)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
ثم رغب فى التوبة، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قلت: إِنَّ الثانية: تأكيد، والخبر للأول.
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من دار الكفر إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي: عُذبوا على الإسلام كعمار بن ياسر، وأشباهه من المعذبين على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر: «فُتِنُوا» بفتح التاء، أي: فتنوا المسلمين وعذبوهم، فتكون فيمن عذب المسلمين، ثم أسلم وهاجر وجاهد، كعامر ابن الحضرمي، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الهجرة والجهاد والصبر، لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لغفور لما مضى قبلُ، رحيم يجازيهم على ما صنعوا بعدُ.
الإشارة: من نزلت به قهرية، أو حصلت له فترة، حتى رجع عن طريق القوم، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه، وجاهد نفسه في ترك شواغل دنياه، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر له ما مضى من فترته، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر يوم الجزاء لمن صبر وهاجر، أو الخسران لمن جحد وكفر، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 111]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
قلت: يَوْمَ: منصوب باذكر، أو بغفور رحيم.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها عن ذاتها، وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «1» ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ على التمام، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ: لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة.
الإشارة: النفس التي تجادل عن نفسها، وتوفى مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أو شر، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة.
وأما النفس المطمئنة بالله، الفانية في شهود ذات الله، لا ترى وجودًا مع الله فلا يتوجه عليها عتاب، ولا يترتب عليها حساب إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب، بل هي في عداد
__________
(1) الآيات: 34- 36 من سورة عبس.(3/168)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم المتوكلون. أو تقول: هي في عداد من يلقى الله بالله، فليس لها شيء سوى الله، فحجته، ايوم تجادل النفوس، هو الله. كما قال الشاعر:
وجهك المحمود حجتنا ... يوم يأتي الناسُ بالحُجج
وبالله التوفيق.
ثم ضرب مثلا لمن كفر النعم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
قلت: قَرْيَةً: بدل من: مَثَلًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، ثم فسره بقوله: قَرْيَةً: مكة، وقيل: غيرها.
كانَتْ آمِنَةً من الغارات، لا تُهَاجُ، مُطْمَئِنَّةً لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف، يَأْتِيها رِزْقُها: أقواتها رَغَداً: واسعًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ بطرت بها، أو بنبي الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره يقول الشاعر:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا ... غَلِقَتْ لِضحكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
فقد استعار الرداء للمعروف، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه، والمعنى: أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به، فإن كانت مكة، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم، وإن كان غيرها، فمن كل عدو، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ، يعنى: محمدا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ: الجوع والقحط، ووقعة بدر، وَهُمْ ظالِمُونَ ملتبسون بالظلم، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم.(3/169)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
الإشارة: ضرب الله مثلاً قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالشكر، الذي هو قيد النعم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 118]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
قلت: الْكَذِبَ: مفعول بتقولوا، وهذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ: بدل منه، أي: لا تقولوا الكذب، وهو قولكم: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، ولِما في قوله: لِما تَصِفُ موصولة، ويجوز أن ينتصب الكذب ب تَصِفُ، ويكون «ما» مصدرية. ويكون قوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ معمولاً لتقولوا، أي: لا تقولوا: هذا كذا وهذا كذا لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
يقول الحق جلّ جلاله: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً، أمرهم بأكل ما أحل لهم، وشُكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي. وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ لتدوم لكم إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فلا تنسبوا نعمه إلى غيره، كشفاعة الأصنام وغيرها. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، تقدم تفسيرها في البقرة(3/170)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
والمائدة «1» . قال البيضاوي: أمرهم بتناول ما أحل لهم، وعدد عليهم محرماته، ليعلم أن ما عداها حل لهم. ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لما لم يحله الله ولم يحرمه، كما قالوا: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ... «2» الآية. هـ.
تقولون ذلك لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة ذلك إليه. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ أبدًا لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم، فحُرموا فلاح الآخرة، ولذلك قال: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: لهم تمتع في الدنيا قليل، يفنى ويزول. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ في سورة الأنعام بقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.. «3» الآية، وَما ظَلَمْناهُمْ بالتحريم، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين، وما حرم على اليهود ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق- جلّ جلاله-، لمن بقي على العهد من شكر النعم بالإقرار بفضل الواسطة: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من قوت اليقين وفواكه العلوم، وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قُصد به غيرُ وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.
ثم حضّ على التوبة لمن وقع فى شىء من هذا، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 119]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ كالشرك، والافتراء على الله، وغير ذلك، بِجَهالَةٍ أي: ملتبسين في حال العمل بجهالة، كالجهل بالله وبعقابه، وعدم التدبر في عواقبه لغلبة الشهوة عليه، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا عملهم، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي: التوبة، أو الجهالة، لَغَفُورٌ لذلك السوء، رَحِيمٌ بهم يثيبهم على الإنابة.
__________
(1) راجع تفسير الآية 173 من سورة البقرة، والآية 3 من سورة المائدة.
(2) من الآية 139 من سورة الأنعام.
(3) من الآية 136 من سورة الأنعام.(3/171)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
الإشارة: كل مَن أساء الأدب، ثم تاب وأناب، التحق بالأحباب. قال بعضهم: «كل سوء أدب يُثمر أدبًا فهو أدب» . والتوبة تتبع المقامات فتوبة العوام: من الهفوات، وتوبة الخواص: من الغفلات، وتوبة خواص الخواص:
من الفترات عن شهود الحضرات. وبالله التوفيق.
ولما رغَّب فى الشكر ذكر أنه من ملة خليله إبراهيم عليه السلام، ودين حبيبه- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- تحريضا عليه، فقال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 123]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي: إمامًا قدوة قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «1» ، قال ابن مسعود: «الأُمة: معلّم الناس الخيرَ» ، أو أمة وحده، اجتمع فيه ما افترق في غيره، فكان وحده أمة من الأمم لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا في أشخاص كثيرة، كقول الشاعر:
ولَيْسَ عَلَى الله بمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِد «2»
وهو رئيس الموحدين، وقدوة المحققين، جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة.
ولذلك عقَّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين. أو: لأنه كان وحده مؤمنًا وسائر الناس كفارًا. قاله البيضاوي. وكان قانِتاً لِلَّهِ مطيعًا قائمًا بأوامره، حَنِيفاً مائلاً عن الباطل، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه، وأنتم مشركون.
وكان شاكِراً لِأَنْعُمِهِ، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير. ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة، اجْتَباهُ:
اختاره للنبوة والرسالة والخلة. وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ التي توصل إلى حضرة النعيم، ودعا إليها، وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حببناه إلى كافة الخلق، ورزقناه الثناء الحسن في الملل كلها، حتى إنّ أرباب
__________
(1) من الآية 124 من سورة البقرة.
(2) البيت للحسن بن هانئ، هو لمعروف بأبى نواس.(3/172)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه. ورزقناه أولادًا طيبة، وعمرًا طويلاً في الطاعة والمعرفة، ومالاً حلالاً.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا، المقربين عندنا، اللذين لهم الدرجات العلا كما سأله ذلك بقوله:
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1» .
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ دينه ومنهاجه في التوحيد، والدعوة إليه بالرفق، والمجادلة بالتي هي أحسن، كل واحد بحسب فهمه. وكان حَنِيفاً مائلاً عما سوى الله، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بل كان قدوة الموحدين. كرره ردًا على اليهود والنصارى والمشركين في زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم: كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ولما ادّعت اليهود أنها على ملة إبراهيم دون غيرها، رد الله عليهم بأن السبت ليس من ملته، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي: فُرض تعظيمه وإفراده للعبادة، عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ على نبيهم، وهم: اليهود أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا وقالوا: نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فألزمهم الله السبت، وشدَّد عليهم فيه. وقيل: لما أمرهم بيوم الجمعة، قَبِلَ بعضهم، وأبى أكثرهم، فاختلفوا فيه. وقيل: اختلافهم: هو أن منهم من حرَّم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ. والتقدير على هذا: إنما جعل وبال السبت- وهو المسخ، (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) فأحلوا فيه الصيد تارة، وحرموه أخرى، أو أحله بعضهم، وحرمه بعضهم، وذكرهم هنا تهديدًا للمشركين، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيجازي كل فريق بما يستحقه، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي.
الإشارة: الاختلاف على الأكابر كالشيوخ والعلماء، والتقدم بين أيديهم بالرأي والكلام، من أقبح المساويء، وسو الأدب يوجب لصاحبه العطب كالقطع عن الله، والبعد من ساحة حضرته. قال بعضهم: إذا جالست الكبراء فدع ما تعلم لما لا تعلم لتفوز بالسر المكنون. والله تعالى أعلم.
__________
(1) مِنْ الآية 83 من سورة الشعراء.(3/173)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
ثم أمر نبيه بالدعوة إلى الله، فقال:
[سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
يقول الحق جلّ جلاله: ادْعُ يا محمد الناسَ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى طريقه الموصل إليه، وهو:
الإسلام والإيمان، والإحسان لمن قدر عليه، بِالْحِكْمَةِ بسياسة النبوة، أو بالمقالة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ مواعظ القرآن ورقائقه، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة، وَجادِلْهُمْ أي: جادل معاندتهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطرق التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تليين لهبهم، وتبيين شغبهم، فالأولى:
لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية: لدعوة عوامهم، والثالثة: لدعوة معاندهم.
قال ابن جزي: الحكمة هي: الكلام الذي يظهر جوابه، والموعظة: هي: الترغيب والترهيب. والجدال هو: الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل، وهذه الآية تقتضي مهادنة نُسخت بالسيف. وقيل: إن الدعاء بهذه الطريقة، من التلطف والرفق، غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار، وأما العصاة فهي في حقهم مُحكمة إلى يوم القيامة باتفاق. هـ.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي للجميع.
الإشارة: الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال، يكون من أهل الحق والتحقيق لأهل الصدق والتصديق.
والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق، يكون لأهل التردد في سلوك الطريق.
والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذِكْرُ بيانِ الطريق، وفضيلة علم التحقيق، يكون لأهل الإنكار إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل: أن الدعاء بالحكمة: لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة:
لأهل التردد في الطريق. والدعاء بالمجادلة: لأهل الإنكار حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت: الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع في واحد إن جمع بين الظاهر والباطن. والله تعالى أعلم.(3/174)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ من آذَاكُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي: إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله، ولا تزيدوا عليه. والعقوبة، في الحقيقة، إنما هي في الثانية. وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ. وقال الجمهور: أن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب، لما بَقَر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن أظْفَرَنِي اللهُ بِهمْ لأُمَثِّلَنَّ بسِبْعِينَ منهم» . فنزلت الآية «1» ، فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وترك ما أراد من المُثْلَةِ. ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت أحاديث بذلك. ومقتضى هذا: أن الآية مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال. وتكون، على هذا، مكية كسائر السورة.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال، ثم ائتمن عليه، هل يجوز خيانته، في القدر الذي ظلمه فيه؟ فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية، ومنعه مالك لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» «2» . قاله ابن جزي.
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ، ولم تعاقبوا من أساء إليكم، لَهُوَ أي: الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فإن العقوبة مباحة، والصبر أفضل من الانتقام، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يريد المخاطبين، كأنه قال: فهو خير لكم.
ثم صرح بالأمر لرسوله به لأنه أولى الناس به لزيادة علمه بالله، فقال: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلا بتوفيقه وتثبيته. روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟» قالوا: نصبر كما ندبنا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين حيث لم يؤمنوا حِرْصًا عليهم. أو على المؤمنين لأجل ما فعل بهم. وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي: لا يضيق صدرك بمكرهم، ولا تهتم بشأنهم، فأنا ناصرك عليهم.
والضيق- بفتح الضاد مُخَفَّفًا- من ضَيِّقٍ كَمَيْتِ ومَيِّتٍ. وقرئ بالكسر، وهو مصدر. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين، معا، لضاق.
__________
(1) أخرجه الواحدي فى أسباب النزول (ص 291) عن ابن عباس. وأخرجه البزار (كشف الأستار، 2/ 327) فى سياق أطول، عن أبى هريرة، وراجع طبقات ابن سعد (3/ 12- 13) وتفسير ابن كثير (2/ 592) .
(2) أخرجه أبو داود فى (البيوع والإجارات، باب فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده) ، والترمذي فى (البيوع، ح 1264) عن أبى هريرة رضي الله عنه.(3/175)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» .
فهو معهم بالمحبة والوداد «فإذا أحببته كنت له» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: من شأن الصوفية: الأخذ بالعزائم، والتمسك بالأحسن فى كل شىء، ممتثلين لقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1» . ولذلك قالوا: الصوفي: دمه هدر، وماله مباح لأنه لا ينتصر لنفسه، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة. فالصبر دأبهم، والرضى والتسليم خُلقهم.
وحقيقة الصبر هي: حبس القلب على حكم الرب، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة: الطاعة، والمعصية، والنعمة، والبلية. فالصبر على الطاعة: بالمبادرة إليها، وعن المعصية: بتركها، وعلى النعمة: بشكرها، وأداء حق الله فيها، وعلى البلية: بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة: صبر في الله، وصبر لله، وصبر مع الله، وصبر بالله، وصبر على الله، وصبر عن الله.
أما الصبر في الله: فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله: فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله: فهو الصبر على حضور القلب مع الله، على سبيل الدوام مراقبة أو مشاهدة. فالأول: صبر المحبين، والثاني: صبر المحبوبين.
وأما الصبر بالله: فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير، لكنه بالله لا بنفسه، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله: فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله: فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس، مشاهدًا لأسرار المعاني، ثم فقد ذلك من قلبه، وأحس بالبعد والطرد- والعياذ بالله- فليصبر، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب، ولا يتزلزل، ولا يتضعضع، ولا يبرح عن مكانه، مبتهلاً، داعيًا إلى الله، راجيًا كرم مولاه، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر قيامًا بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون، الذين كملت عبوديتهم، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات، قَرَّبهم أو أبعدهم.
رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه، فقال: أي صبر أشد على الصابر؟ فقال له الشبلي: الصبر في الله، قال:
__________
(1) من الآية 18 من سورة الزمر.(3/176)
لا، قال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، فقال له: وأي شيء هو؟ فقال: الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة، كادت تتلف فيها روحه. هـ. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب، كما قال الشاعر:
إن شكوت الهوى، فما أنت منا ... احمل الصَّدَ والجفا، يا مُعَنَّا
وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه: كنت على بساط الأنس، وفتح على طريق البسط، فزللتُ زَلَّة، فحُجِبْتُ عن مقامي، فكيف السبيل إليه؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال: يا أخي، الكل في قهر هذه الخطة، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم، فأنشأ يقول:
قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفتُ بربعها مستخبرا ... عن أهله، أو سائلاً، أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول: لبيك. فيقول له الهاتف: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. فقيل له في ذلك، فقال: هذه بابه، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها؟ فقبله الحق تعالى، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له، من قِبَلِ الوحي: إنك من أهل النار فزاد في العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته، وتحقق بمقام الفناء، فحينئذ قد يسهل عليه أمره لكمال عبوديته، كما قال القائل:
وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ ... فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ
تيقنت أَنَّ العَبْدَ لا طَلَبٌ لَهُ ... فَإِنْ قَرُبُوا: فَضْلٌ، وإِنْ بَعُدُوا: عَدْلُ
وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ ... وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وأما من لم تكمل معرفته، فقد ينكره ويذمه، كالعباد والزهاد والعشاق، فإنهم لا يطيقونه، فإما أن يختل عقلهم، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة. والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(3/177)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سورة الإسراء
مكية، إلا قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... الآيات الثمان. وهى: مائة وعشر آيات. وكأنّ وجه المناسبة لما قبله قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» ، إشارة إلى أنَّ مَن اتقى الله، وحصّل مقام الإحسان، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه، لئلا يتوهم الجهال أنه- عليه الصلاة والسلام- عرج به للقاء الحق تعالى فى جهة مخصوصة، فنزه الحقّ تعالى نفسه، فى افتتاح سورة الإسراء دفعا لهذا الإيهام، فقال:
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قلت: «سُبْحانَ» : مصدر غير متصرف، منصوب بفعل واجب الحذف، أي: أسبحُ سبحان. وهو بمعنى التسبيح، أي: التنزيه، وقد يستعمل عَلَمًا له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف، كقول الشاعر:
قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ «2»
و «لَيْلًا» : منصوب على الظرفية لأسرى. وفائدة ذكره، مع أن السرى هو السير بالليل، ليفيد التقليل، ولذلك نكّره، كأنه قال: أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة في بعض الليل، وذلك ابلغ في المعجزة. ويقال: أسرى وسرى، رباعيًا وثلاثيًا.
يقول الحق جلّ جلاله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وهو: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: تنزيهاً له عن الأماكن والحدود والجهات، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء. وإنما وقع الإسراء برسوله- عليه الصلاة والسلام- ليقتبس أهلُ العالم العلوي، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي، فأسرى به لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعينه لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر، عِنْدَ البَيْتِ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبراق» «3» .
__________
(1) من الآية 128 من سورة النحل.
(2) البيت للأعشى. انظر ديوانه، ص 93، ولسان العرب (سبح) .
(3) أخرجه بطوله البخاري فى مواضع، منها: (مناقب الأنصار، باب المعراج) ، ومسلم فى (الإيمان، باب الإسراء) ، من حديث أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة.(3/179)
أو: من الحرم لِمَا رُوي أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء، فأُسْرِيَ به، وسماه مسجدًا لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت: والظاهر أنه وقع مرتين: مرة بجسده من البيت، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. والله تعالى أعلم بما كان.
قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره: قيل: كان رؤيا صادقة، وقيل: أسرى بروحه، وهو خلاف القرآن، وإن أسند إلى عائشة- رضى الله عنها-، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة، دخل كلام بعضهم في بعض، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها مد بصرها، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج، وهو أحسن ما رأيت، فعرج بي، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً، فقيل: هذا أبوك آدم، وفي السماء الثانية شابيْن، فقيل: هما يحيى وعيسى، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا، فقيل: أخوك يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم- صلوات الله على جميعهم.
فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ، كأنهم جراد من ذهب، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة- أي: عصفور- فتخلف، وقال: وما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابًا، ثم احتملني الرفرف إلى العرش، فنُوديتُ: حَيِّ ربك. فقلت: لا أُحصي ثناء عليك، أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نفسك» «1» . فلما أخبر بما رأى كذَّبه أهل مكة، ولو كان في النوم ما أنكره المشركون. وقيل: كانا معراجين، بمكة والمدينة، في النوم واليقظة. هـ.
قلت: وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوي: مرْتَبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العَلِية خاصة بنبينا، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدَّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزي: وحجة الجمهور: أنه لو كان منامًا، لم تُنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يُكَذَّبُ، ألا ترى أن أُم هانئ قالت له- عليه الصلاة والسلام:
(لا تُخبر بذلك أحدًا) . وحجة من قال إنه كان منامًا: قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ «2» ، وإنما يقال: الرؤيا، في المنام، ويقال، فيما يرى بالعين: رؤية، وقوله، في آخر حديث الإسراء: «فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام» ، ثم قال: وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين «3» . هـ.
وقوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو: بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا
__________
(1) أخرج حديث الإسراء والمعراج، برواياته المتعددة، وطرقه البخاري فى (الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة فى الإسراء) ، و (بدء الخلق، باب ذكر الملائكة) ، و (مناقب الأنصار، باب المعراج) . ومسلم فى (الإيمان، باب الإسراء) . [.....]
(2) من الآية 60 من سورة الإسراء.
(3) وهذا هو الصواب.(3/180)
به لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا الدالة على عجائب قدرتنا، ونكشفَ له عن أسرار ذاتنا، فأَطْلعه الله على عجائب الملكوت، وأراه سَنَا الجبروت. رَوَى عكرمةُ عن ابن عباس: أنه قال: قد رأى محمدٌ ربه، قلت: أليس الله يقول: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «1» ، قال: ويحك، ذلك إذا تجلّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. هـ.
قلت: معنى كلامه: أنه إذا تجلى بنوره الأصلي، من غير واسطة، لا يمكن إدراكه، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يُمكن إدراكه، والحاصل: أنّ الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي، لا على قدره إذ لا يطيقه أحد. وسيأتي، في الإشارة، بقية الكلام عليه، إن شاء الله. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي: السميع لأقوال حبيبه في حال مناجاته، البصيرُ بأحواله، فيكرمه ويُقربه على حسب ذلك.
الإشارة: قال بعض الصوفية: إنما قال تعالى: بِعَبْدِهِ، ولم يقل: بنبيه: ولا برسوله ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء. غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به- عليه الصلاة والسلام-، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء على قدر تصفية الروح، وغيبتها عن هذا العالم الحسي، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش، وتخوض في بحار الجبروت، وأنوار الملكوت، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته. وإنما خص الإسراء بالليل لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل في هذه السورة. قاله المحشي.
وقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى، قال الورتجبي: أي: تنزه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية، وما يتوهم الخلق من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء، أنه كان في مكان، أي: لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السموات، أنه رفع إلى مكان، أو هو في مكان، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته، أي:
في بحر عظمته ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «الكونُ في يمين الرحمن أقل من خردلة» . والعندية والفوقية منه، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان، أي: سبحان من تنزه عن هذه التهمة. هـ. وقال القشيري: أرسله الحق تعالى ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ- عليهم السلام- آدابَ العبادة، قال تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» ، وما التَفَتَ يمينًا ولا شمالاً، ما طمع في مقام، ولا في إكرام، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ، تلك الليلة. هـ.
__________
(1) من الآية 103 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 17 من سورة النجم.(3/181)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قلت: ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية، التي مُنِعَ منها نبيه موسى عليه السلام، حيث وقع منه الطلب «ربما دلهم الأدب على ترك الطلب» ، وقال الورتجبي: أسرى به عن رؤية فعله وآياته، إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته، وأشهده مَشاهد جماله، فرأى الحق بالحق، وصار هنالك موصوفًا بوصف الحق، فكان صورتُه روحَه، وروحُه عقلَه، وعقلُه قلبَه، وقلبُه سره، فرأى الحق بجميع وجوده لأن وجوده فانٍ بجميعه، فصار عينًا من عيون الحق، فرأى الحق بجميع العيون، وسمع خطابه بجميع الأسماع، وعرف الحق بجميع القلوب. هـ.
وقال، في قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى، لأن هناك الآية الكبرى من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سيناء، وطور زيتا، والمصيصة، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى، وفي تلك الجبال مواضع كشوف الحق، ولذلك قال: (بارَكْنا حَوْلَهُ) ، انظر تمامه.
ولمّا كان لسيدنا موسى عليه السلام مزيد كلام ومراجعة مع نبينا- عليه الصلاة والسلام- فى قضية الإسراء، ذكره بإثره، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
قلت: (ذُرِّيَّةَ) : منادى، أي: يا ذرية من حملنا مع نوح، والمراد: بني إسرائيل. وفي ندائهم بذلك: تلطف وتذكير بالنعم، وقيل: مفعول أول بتتخذوا، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، فتكون كقوله:
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «1» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة وَجَعَلْناهُ أي: التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وقلنا: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا تُفوضون إليه أموركم، وتُطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله، واقصدوا بطاعتكم وجه الله، يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح، إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً يحمد الله ويشكره في جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو، إفراد الوجهة إلى الحق، ورفعُ الهمة عن الخلق، حتى لا يبقى الركون إلا إليه، ولا الاعتماد إلا عليه، وهو مقتضى التوحيد. قال تعالى: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا «2» . وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 80 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 9 من سورة المزمل.(3/182)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
ثم ذكر ما أحدث بنو إسرائيل، وما جرى عليهم في القضاء السابق، فقال: -
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أخبرناهم وأوحينا إليهم فِي الْكِتابِ التوراة، وقلنا: والله لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الخ. أو: قضينا عليهم فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ، لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي: إفسادتين، أُولاهُمَا: مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل: أرمياء. وثانيتهما: قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أي: أول مرتي الإفساد بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا بختنصر وجنوده أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، فَجاسُوا فترددوا لطلبكم خِلالَ الدِّيارِ وسطه، للقتل أو الغارة، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد. وفي التذكرة للقرطبي: أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر، فسباهم، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة، وبقوا في يده مائة سنة. ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده، على يد ملك من ملوك فارس، ثم عصوا، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. هـ. قال تعالى: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل.
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي: الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ أي: على الذين بُعثوا عليكم، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل، واستنقذوا أسراهم، فقيل: على يد «بهْمَن بن إسفنديار» ملك فارس، فاستنقذهم، ورد أسراهم إلى الشام، وملَّكَ دَانْيال عليهم، فاستولوا على مَن كان فيها من أتباع بختنصر، وقيل: على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت.
قال تعالى: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: عددًا مما كنتم. والنفير: من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نَفر، وهم: المجتمعون للذهاب إلى الغزو.(3/183)
ثم قال تعالى لهم: إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعة والعمل الصالح، أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليُهلكوا ما عَلَوْا عليه تَتْبِيراً إهلاكًا، أو مدة علوهم. قال البيضاوي: وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه «حَرْدُون» ، وقيل: «حَرْدوس» ، قيل: دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا: دم قربان لم يُقبل منا. فقال: ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا: دم يحيى، فقال: لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. هـ.
وقال السهيلي في كتاب «التعريف والإعلام» : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم «بختنصر» ، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة: فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل: بختنصر، وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. هـ. وقول الجلال السيوطي: وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ منهم ومن غيرهم حَصِيراً محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد. وقيل: بساطًا كبسط الحصير، كقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ «2» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نَفَسٍ تُبديه إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها،
__________
(1) من الآية 27 من سورة الملك.
(2) من الآية 411 من سورة الأعراف.(3/184)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وأبهم على عباده أمرَها، فلو ظهرت لبطل سر التكليف. ولذلك لما سُئل عنه سيدنا علي- كرّم الله وجهه- قال للسائل:
(بحر عميق لا تطيقه) ، فأعاد عليه السؤال، فقال: (طريق مظلم لا تسلكه) لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء، وفرَّق بين القدرة والحكمة، وبين العبودية والربوبية، فإذا تحقق العارف بالوحدة، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام، وأبهم الأمر عليهم، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم، وكلفهم لتقوم الحجة عليهم، وتظهر صورة العدل فيهم. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً. فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان، وللشقاوة علامات كالخذلان والكفران. نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.
ومن علامة السعادة: التمسك بما جاء به القرآن العظيم، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قلت: «وَأَنَّ الَّذِينَ» : إما عطف على «إِنَّ» الأولى، أو على «وَيُبَشِّرُ» بإضمار يخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي للطريق التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق وأعدلها، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وهو: الخلود في النعيم المقيم، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم. وَيخبر أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا أي: أعددنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، أو: ويُبشر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم، وعقاب أعدائهم.
الإشارة: لا شك أن القرآن يهدي إلى طريق الحق إما إلى طريق تُوصل إلى نِعم جنانه، أو إلى طريق تُوصل إلى شهوده ودوام رضوانه، فالأولى طريق الشرائع والأحكام، والثانية طريق الحقائق والإلهام، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم، ولذلك أمر شيوخُ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد، حتى يُشرق قلبه بأنوار المعارف، ويرجع من الفناء إلى البقاء، ثم بعد ذلك يُمر بالتلاوة، ليذوق حلاوة القرآن، ويتمتع بأنواره وأسراره، وقد أنكر بعضُ من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر- أعني: ترك التلاوة في بدايتهم- محتجًا بهذه الآية، ولا دليل فيها عليم لأن كون القرآن يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ يعني: التمسك والتدبر في معانيه، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب، كما هو مجرب، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له في علوم القوم، وربما يُذكر وجود التربية من أصلها، ويسد البابَ في وجوه الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(3/185)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
فإذا اتصل العبد بأهل هذا الطريق، ثم تأخر الفتح عنه، فلا يقنط ولا يستعجل، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 11 الى 14]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
قلت: (دُعاءَهُ) : مفعول مطلق. والإضافة في قوله: (آيَةَ اللَّيْلِ) و (آيَةَ النَّهارِ) : بيانية، أي: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين الشمس والقمر تكون للتخصيص، أي: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين.. الخ، و (كُلَّ شَيْءٍ) : منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، وكذا: (وَكُلَّ إِنسانٍ) و (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) : صفتان لكتاب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ على نفسه وولده وماله بِالشَّرِّ عند الغضب والقنط.
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك، وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يُسارع إلى كل ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء، كقول النضر بن الحارث: اللهم انصر خير الحزبين اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هّذاَ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ.. الآية «1» . وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام، فإنه لما انتهى الروح إلى سُرَّته ذهب ليقوم، فسقط، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل، فإنَّ وقت الفرج محدود، فالليل والنهار مطيتان، يُقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دالتين على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، يتعاقبان على الإنسان، يُقربان له كل بعيد، ويأتيان له بكل موعود. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي: فمحونا الآية التي هي الليل بأن جعلناها مظلمة، لتسكنوا فيه، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي: مضيئة مشرقة لتبتغوا من فضله، أو: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وهما: الشمس والقمر، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وهو القمر بأن جعلناه أطلس، لا نور فيه من ذاته، بل نوره مستمد من نور الشمس، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ، وهي الشمس مُبْصِرَةً للناس، أو مبصرًا فيها بالضوء الذاتي، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، وَلِتَعْلَمُوا
__________
(1) الآية 32 من سورة الأنفال.(3/186)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
باختلافهما وبحركتهما، عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام، في معاملتكم وتصرفاتكم، وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيَّناه تبيينًا لا لبس فيه، أو: وكل شيء يظهر في الوجود، فصّلناه وقدّرناه في اللوح المحفوظ تفصيلاً، فلا يظهر في عالم الشهادة إلا ما فُصل في عالم الغيب.
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي: حظه وما قُدر له من خير وشر، فهو لازم فِي عُنُقِهِ لا ينفك عنه.
ويقال لكل ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدَّر في الأزل من الخير والشر: طائر لقول العرب:
جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم، لا محيد لهم عنه، كالسلسلة اللازمة للعنق، يُجر بها إلى ما يُراد منه. ومثله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ «1» ، وقال مجاهد: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقي أو سعيد» . أو: وكل إنسان ألزمناه عمله يحمله في عنقه، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً مكتوب فيه عمله، وهو صحيفته. يَلْقاهُ مَنْشُوراً، ويقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبًا، لا تحاسبك إلا نفسك، أو: رقيبًا وشهيدًا على عملك، أو: لا يَعُد عليك أعمالك إلا نفسك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للإنسان أن يكون داعيًا بلسانه، مفوضًا لله في قلبه، لا يعقد على شيء من الحظوظ والمآرب، فقد يدعو بالخير في زعمه، وهو شر في نفس الأمر في حقه، وقد يدعو بالشر وهو خير. وقد تأْتيه المضار من حيث يرتقب المسار، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فالتأني والسكون من علامة العقل، والشَّرَّةُ والعَجَلَة من علامة الحمق. فما كان من قسمتك لا بدّ يأتيك في وقته المقدّر له، وما ليس من قسمتك لا يأتيك، ولو حرصت كل الحرص. فكل شيء سبق تفصيله وتقديره، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 15 الى 17]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
__________
(1) من الآية 131 من سورة الأعراف.(3/187)
يقول الحق جلّ جلاله: مَنِ اهْتَدى وآمن بالله وبما جاءت به الرسل فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن ثواب اهتدائه له، لا يُنجي اهتداؤه غيره، وَمَنْ ضَلَّ عن طريق الله فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن إثم إضلاله على نفسه، لا يضر به غيره في الآخرة، وَلا تَزِرُ أي: لا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة وِزْرَ نفس أُخْرى أي: ذنوب نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها، إلا من كان إمامًا في الضلالة، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه، على ما يأتي في آية أخرى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» .
ومن كمال عدله تعالى: أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل، كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أحدا في الدنيا ولا في الآخرة حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يُبين الحجج، ويمهد الشرائع، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أنَّ لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، فمن بلغته دعوته، وخالف أمره، واستكبر عن أتباعه، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام- عليهم السلام- في جميع الأمم، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا «2» ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «3» ، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت، وعمت الأقطار، واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام: مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ «4» فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى، فمن بلغته دعوة أحد منهم، بوجه من الوجوه، فقصَّر، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم، الذين مضوا في الجاهلية، في النار، وأن ما يدحرج من الجُعَل «5» خير منهم، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي- أحد أجلاء الشافعية، وعظماء أئمة الإسلام- في أول منهاجه، في باب: «من لم تبلغه الدعوة» : وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر لأنه، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف، كما
__________
(1) من الآية 12 من سورة العنكبوت.
(2) من الآية 26 من سورة النحل.
(3) من الآية 24 من سورة فاطر.
(4) من الآية 7 من سورة ص. [.....]
(5) الجعل: حيوان معروف كالخنفساء ... انظر: النهاية فى غريب الحديث (جعل) .(3/188)
يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك أن يستدل بعقله، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر، والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين، ولا بدعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا، وما نرى أن ذلك يكون، فأمره على الاختلاف، يعني: عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل. هـ.
وقال الزركشي، في آخر باب النيات، من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة، حيث قال: وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري: وقال الشافعي:
ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه.
ثم قال تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أي: تعلقت إرادتنا بإهلاكها لإنفاذ قضائنا السابق، ودنا وقتُ إهلاكها، أَمَرْنا مُتْرَفِيها
منعميها، بمعنى رؤسائها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة، لقوله: فَفَسَقُوا فِيها
خرجوا عن أمرنا. وقيل: أمرناهم:
ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه، أو: جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم، وأفضى بهم إلى الفسوق، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله، أو بظهور معاصيهم.
فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. وَكَمْ أَهْلَكْنا أي: كثيرًا أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ أي: الأمم مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالمًا ببواطنها وظواهرها، فيعاقب عليها أو يعفو. وبالله التوفيق.
الإشارة: من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان في رفقة السائرين، ثم غلبه القضاء، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه، وما كنا معذبين أحدا بإسدال الحجاب بيننا وبينه، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب: حجاب الوهم بإثبات حس الكائنات، فلو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان.
وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة، فحق عليها القول بغم الحجاب، فدمرناها تدميرًا، أي: تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك، فتلفت وهلكت، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.(3/189)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
وسبب الهلاك هو حب الدنيا، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 22]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
قلت: (لِمَنْ نُرِيدُ) : بدل من ضمير (لَهُ) بدل بعض من كل. و (كُلًّا) : مفعول (نُمِدُّ) ، و (هؤُلاءِ) : بدل منه.
و (كَيْفَ) : حال، و (دَرَجاتٍ) و (تَفْضِيلًا) : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الدنيا الْعاجِلَةَ، مقصورًا عليها همه، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ التعجيل له. قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واحد جميع ما يهواه. قاله البيضاوي. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها يدخلها ويحترق بها، حال كونه مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودًا من رحمة الله. والآية في الكفار، وقيل: في المنافقين، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم. والأصح: أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها عمل لها عملها اللائق بها، وهو: الإتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام في قوله: «لَها» : اعتبار النية والإخلاص. والحال أن العامل مُؤْمِنٌ إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب، فإنه العمدة، فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند الله، مقبولاً مثابًا عليه فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة.
كُلًّا نُمِدُّ أي: كل واحد من الفريقين نُمد بالعطاء مرة بعد أخرى، هؤُلاءِ المريدين للدنيا، وَهَؤُلاءِ المريدين للآخرة، نُمد كلا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ في الدنيا، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها مَحْظُوراً ممنوعًا من أحد، لا يمنعه في الدنيا مؤمن ولا كافر، تفضلاً منه تعالى. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والجاه، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا، فينبغي الاعتناء بها دونها، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار.(3/190)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وسبب التفاوت: زيادة اليقين، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران. ولذلك قال تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ تعبده. والخطاب لكل سامع، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، فَتَقْعُدَ فتصير حينئذ مَذْمُوماً مَخْذُولًا جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين، والخذلان من الله. ومفهومه: أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين.
الإشارة: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ. ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وهي صاغرة» «1» ، واعلم أن الناس على قسمين قوم أقامهم الحق لخدمته، وهم: العباد والزهاد، وقوم اختصهم بمحبته، وهم: العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الكرامات والأنوار، وفي المعارف والأسرار. وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب، هذا في الدنيا، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين. وقال القشيري في تفسير الآية: منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة، ثم يجتمعون في الرؤية، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ. وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا:
لو يَسْمَعُون- كما سمعتُ- حديثها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا «2»
وقال الورتجبي: فضَّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات، وفضَّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات، فالعباد في الآخرة في درجات الجنان متفاوتون، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون. وقال القشيري أيضًا: من كانت مشاهدته اليوم على الدوام، كانت رؤيته غدًا على الدوام، ومن لا فلا. هـ.
وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا، عند قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «3» . والله تعالى أعلم.
ثم بيّن السعى للآخرة، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 25]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (5/ 183) ، وابن ماجة فى (كتاب الزهد، باب الهم فى الدنيا) من حديث زيد بن ثابت، وأخرجه الترمذي فى (القيامة، باب 30) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) البيت لكثير عزة. انظر ديوانه (442) ، وتزيين الأسواق (1/ 41) .
(3) الآية 103 من سورة الأنعام.(3/191)
قلت: (قَضى) ، هنا، بمعنى حكم وأوجب وأمر، لا بمعنى القضاء إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله. وفي مصحف ابن مسعود: «ووصى ربك ألا تعبدوا» . و (أن) : مفسرة، أو مصدرية، أي: بأن لا تعبدوا، و (إِمَّا) : إن الشرطية دخلت عليها «ما» المؤكدة. و (فَلا تَقُلْ) : جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب في (عِنْدَكَ) ، وفيما سبق- مع أن ما سبق ضمير الجمع- للاحتراز عن التباس المراد، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما.
ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام.
و «أُفٍّ» : اسم فعل، معناها: قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي: أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل: أُفّ لَهُ. وقال في القاموس: أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ: تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر.
وأُفّ: كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها «1» ، ولغتها أربعون، ثم ذكرها. وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَضى رَبُّكَ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، ب أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» .
ثم أمر ببرهما، فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما أي: مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي: فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسًا بطريق الأحرى. وقال في الإحياء: الأُفّ: وسخ الظفر، والتف: وسخ الأذن، أي: لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل: لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. هـ.
وَلا تَنْهَرْهُما ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً جميلاً لينًا لا غلظ فيه، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه مبالغة فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك مِنَ الرَّحْمَةِ أي: من إفراط الرحمة
__________
(1) أي: قال كلمة «أف» .(3/192)
لهما والرقة والشفقة عليهما. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما أي: وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام، فقل: اللهم ارحمهما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي: رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل: رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1» .
ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رِضَا اللهِ فى رضا الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا» «2» . ورُوي: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: «لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» . ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال: إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال:
غَذَوْتُك مَوْلُودًا، ومُنْتُك يَافعًا، ... تُعلُّ بما أُجْرِي عليك، وتَنْهَلُ
إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ ... لسُقْمِكَ، إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ
كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي ... طُرِقتَ به دونى، وعينى تهمل
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي ... إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً ... كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ، إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي، ... فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاور يفعل «3»
__________
(1) من الآية 198 من سورة البقرة.
(2) أخرجه الترمذي فى (البر، باب الفضل فى رضا الوالدين) ، وابن حبان (الإحسان- البر والصلة ح 430) ، وصححه الحاكم فى المستدرك (4/ 152) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) أخرجه بنحوه البيهقي فى الدلائل (6/ 304) ، والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله. وفى آخره: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك» .(3/193)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
ومن تمام برهما: زيارتهما بعد موتهما، والدعاء لهما، والتصدق عليهما، ففي الحديث: «إنما الميت في قبره كالغريق، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها» . وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: (كان يقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وأشار بيده نحو السماء) ، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من طريق أبي هريرة قال: «إن الله ليرفع العبد الدرجة، فيقول: يا رب، أنَّى لي بها؟! فيقول: باستغفار ابنك لك» «1» ، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به، بعد موتهما؟ فقال: «نعم.. الصلاة عليهما- أي: الترحم والاستغفار لهما-، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» «2» .
قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح، أو طائعين لله، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ: التوابين، أو الرجّاعين إلى طاعته، غَفُوراً لما فرط منهم عند حرج الصدر من إذاية ظاهرة أو باطنة، أو تقصير في حقهما. ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية، يجري مثله في والد الروحانية، وهو الشيخ، ويزيد لأنه أوكد منه لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا، معرضًا للعطب أو السلامة، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدّم في سورة النساء تمام هذه الإشارة «3» . والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالإحسان إلى القرابة لقربهما من الوالدين، تعظيما لهما، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 30]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 509) ، وابن ماجة فى (الأدب، باب بر الوالدين) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب فى بر الوالدين) وابن ماجة فى (الأدب، باب صل من كان أبوك يصل) والحاكم فى المستدرك (2/ 3066) ، وصححه ووافقه الذهبي من حديث مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري.
(3) راجع إشارة الآية 36 من سورة النساء.(3/194)
يقول الحق جلّ جلاله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي: أعط ذا القربة حقه من البر، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة: إذا كانوا محاويج فقراء: أن ينفق عليهم. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يُؤتى قرابته من بيت المال، وَآت الْمِسْكِينَ حقه وَابْنَ السَّبِيلِ الغريب، من برهما والإحسان إليهما، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز: التبذير في النفقة: الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله. هـ. وأصل التبذير: التفريق. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد، وهو يتوضأ:
«مَا هذَا السَّرَفُ؟ فقال: أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ؟ فقال: نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» «1» .
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي: أمثالهم في الشر فإن التضييع والإتلاف شر. أو: على طريقتهم، أو: أصدقاؤهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها- أي: يتقامرون- من الميسر، وهو القمار- ويُبذرون أموالهم في السمعة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بالإنفاق في القرابات. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغاً في الكفر، فينبغي ألا يطاع.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي: وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد، حيث لم تجد ما تُعطيهم، ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي: لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فقل لهم قولاً لينًا سهلاً، بأن تعدهم بالعطاء عند مجئ الرزق، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد، ولم يجد ما يعطيه، أعرض عنه، حياء منه. فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك، مثل: رزقنا الله وإياكم، والله يُغنيكم من فضله، وشبه ذلك.
ثم أمره بالتوسط في العطاء، فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، وهو استعارة لغاية الجود، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين، وأمر بالتوسط فيهما، كقوله: إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ... «2» الآية. فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً أي: فتصير، إذا أسرفت، ملومًا عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التبذير، محسورًا: منقطعًا بك، لا شيء عندك. وهو من قولهم: حسر السفر بالبعير: إذا أتعبه، ولم يُبْقِ له قوة. وعن جابر رضي الله عنه: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، أتاه صبى،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 221) ، وابن ماجة فى (الطهارة، باب ما جاء فى القصد فى الوضوء) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) من الآية 67 من سورة الفرقان.(3/195)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
فقال له: إن أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الذي عَليْكَ، فَدَخَلَ دَارَهُ ونَزَعَ قَمِيصَهُ وأعْطَاهُ، وقَعَدَ عُرْيَانًا، وأذَّن بلالٌ، وانتظره للصلاة، فلم يخرُجْ، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ ... الآية «1» .
ثم سلاَّه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يُضيقه على مَن يشاء. فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرهم وعلانيتهم، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم فيرزقهم على حسب مصالحهم، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل: أنه يعطي كل واحد ما يَصلح به، والله أعلم.
الإشارة: أمر الحق- جل جلاله- رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه ممن كان على قدمه، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب، والمساكين والغرباء، من البر والإحسان حسًا ومعنى كتعظيم ملاقاته، م وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم، والإنفاق عليهم، من أحسن ما يجد، حسًا ومعنى، وخصوصًا الإخوان في الله. فكل ما يُنفق عليهم فهو قليل في حقهم، ولا يُعد سرفًا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا. قال في القوت: دعا إبراهيمُ بن أدهم الثوريَّ وأصحابَه إلى طعام، فأكثر منه، فقال له سفيانُ: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا سرفًا؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف. هـ. قلت: هذا إن قدَّمه إلى الإخوان الذاكرين الله قاصدًا وجه الله، وأما إن قدمه مفاخرة ومباهاة دخله السرف. قاله في الحاشية الفاسية، ومثله في تفسير القشيري، وأنه لا سَرف فيما كان لله، ولو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعي النفس ولو فلسًا. هـ. وأما الخروج عن المال كله فمذموم، إلا من قوي يقينه، كالصدِّيق، ومن كان على قدمه. وكذلك الاستقراض على الله، واشتراؤه بالدَّين من غير مادة معلومة، إن كان قوي اليقين، وجرّب معاملته مع الحق، فلا بأس بفعل ذلك وإلاَّ فليكف لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه الله. وبالله التوفيق.
ولما أمر بما يقربنا إليه نهى عما يبعدنا عنه، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 35]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
__________
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 90) ، والواحدي فى أسباب النزول ص 94) . وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: لم أجده. [.....](3/196)
قلت: (خَشْيَةَ) : مفعول من أجله لأن الخشية قلبية، بخلاف الإملاق، فإنه حسي فَجُرَّ بمن في سورة الأنعام. «1» وهذه الآية في أغنياء العرب، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر، وما في «الأنعام» نزلت في فقرائهم، الذين كان الفقر واقعًا بهم، ولذلك قدَّم هناك كاف الخطاب، وأخَّره هنا، فتأمله. و «خِطْأً» يقال: خطئ خطأ، كأثم إثمًا. وقرأ ابن عامر: «خِطْأً» ، بفتحتين، فهو إما اسم مصدر أخطأ، أو لغة في خطئ، كمِثل ومَثل، وحِذر وحَذر. وقرأ ابن كثير:
«خِطاء» بالمد، إما لغة، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مخافة الفاقة المستقبلة، وقد كانوا يقتلون البنات- وهو الوأد- مخافة الفقر، فنهاهم عن ذلك، وضمن لهم أرزاقهم، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً إثمًا كَبِيراً لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، نهى عن مقاربته بالمقدمات. كالعزم، والنظر وشبهه، فأحرى مباشرته، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي: فعلة ظاهرًا فُحشها وقُبحها، وَساءَ سَبِيلًا قبح طريقًا طريقُهُ، وهو غصب الأبْضاع لما فيه من اختلاط الأنساب وهتك محارم الناس، وتهييج الفتن.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدًا، كما في الحديث «2» . ويلحق بها أشياء في معناها: كالحِرَابَةِ، وترك الصلاة، ومنع الزكاة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي: غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي: الذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث، سُلْطاناً تسلطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية، أو القصاص، وقوله: مَظْلُوماً: يدل على أن القتل عمد لأن الخطأ لا يُسمى ظلمًا. أو: جعلنا له حجة غالبة، فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يحق قتله، أو بالمثلة، أو قتل غير القاتل، إِنَّهُ أي: الولي كانَ مَنْصُوراً حيث وجب القصاص له، وأمر الولاة بمعونته. أو: إنه، أي: المقتول، كان منصورًا في الدنيا بثبوت القصاص ممن قتله، وفي الآخرة بالثواب.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلاً عن أن تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالطريقة التي هي أحسن، كالحفظ والتنمية، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ حتى يتم رشده، ثم يدفع له، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إذا عاهدتم الله أو الناس، إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي: مطلوبا الوفاء
__________
(1) فى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآية 151.
(2) أخرجه البخاري فى (الديات، باب قول الله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» ... إلخ) ، ومسلم فى (القسامة، باب ما يباح به دم المسلم) عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .(3/197)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
به، فيطلب من المعاهد ألا يضيعه، أو: مسئولا عنه، فيُسأل عنه الناكث ويُعاتب عليه، أو: يُسأل العهد نفسُه لِمَ نكثْتَ، تبكيتًا للناكث، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ولا تبخسوا فيه، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السّوي. والقسطاس: لغة رومية، ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأن غير العربي، إذا استعملته العرب، فأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير، صار عربيًا. قاله البيضاوي. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي:
أحسن عاقبة ومآلاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ولا تقتلوا ما أنتجته الأفكار الصافية من العلوم بإهمال القلوب في طلب رزق الأشباح، خشية لحوق الفقر، فإنَّ الله ضامن لرزق الأشباح والأرواح. ولا تميلوا إلى الحظوظ، التي تُخرجكم عن حضرة الحق فإن ذلك من أقبح الفواحش. ولا تقتلوا النفس بتوالي الغفلة والجهل، التي حرَّم الله قتلها وإهمالها، وأمر بإحيائها بالذكر والعلم، ومن قُتل بذلك مظلومًا بحيث غلبته نفسه، ولم تساعده الأقدار، فقد جعلنا لعقله سلطانًا، أي: تسلطًا عليها بمجاهدتها وقتلها وردها إلى مولاها، فلا يُسرف في قتلها، بل بسياسة وحيلة، كما قال القائل:
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فَرُبَّ حِيله ... أنفعُ في النُّصْرة مِن قَبِيلهْ
إنه كان منصورًا، إن انتصر بمولاه، وآوى بها إلى شيخ كامل، قد فرغ من تأديب نفسه وهواه. وقد تقدم باقي الإشارة في سورة الأنعام «1» وغيرها. وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 36 الى 40]
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
__________
(1) راجع إشارة الآيتين: 151- 152 من سورة الأنعام.(3/198)
قلت: قفا الشيء يقفوه: تبعه. والضمير في «عَنْهُ» : يجوز أن يعود لمصدر «لا تَقْفُ» ، أو لصاحب السمع والبصر.
وقيل: إن «مَسْؤُلًا» مسند إلى «عَنْهُ» كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «1» ، والمعنى: يسأل صاحبه عنه، وهو خطأ لأن الفاعل وما يَقوم مقامه لا يتقدم. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي: الإشارة في «أُولئِكَ» : إلى السمع والبصر والفؤاد، وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك لأنها حواس لها إدراك، والضمير في «عَنْهُ» : يعود على «كُلُّ» ، ويتعلق «عَنْهُ» بمسئولا. هـ. وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من «مَسْؤُلًا» . و (مَرَحاً) : مصدر في موضع الحال. و (مَكْرُوهاً) : نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَقْفُ تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فلا تقل ما لا تحقيق لك به من ذم الناس ورميهم بالغيب. فإذا قلت: سمعتُ كذا، أو رأيت كذا، أو تحقق عندي كذا، مما فيه نقص لأحد، فإنك تُسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه. وهذا معنى قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. قال البيضاوي: ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به تقليدًا، أو رجمًا بالغيب. واحتج به من منع اتباع الظن، وجوابه: أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعيًا أو ظنيًا إذ استعماله بهذا المعنى شائع. وقيل: إنه مخصوص بالعقائد. وقيل: بالرمي وشهادة الزور، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «من قَفَا مُؤْمنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ «2» ، حَتَّى يَأتِيَ بِالمَخْرَجِ» «3» . إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي: كل هذا الأعضاء الثلاثة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل واحد منها مسئول عن نفسه، يعني: عما فعل به صاحبه. هـ مختصرًا.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: ذا مرح، وهو: التكبر والاختيال، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقًا لشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا تتطاول عليها عزّا وعلوا، وهو تهكم بالمختال، وتعليل للنهي، أي: إذا كنت لا تقدر على هذا، فلا يناسبك إلا التواضع والتذلل بين يدي خالقك، كُلُّ ذلِكَ المذكور، من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هنا، وهي: خَمْسٌ وعشرون خصلة، قال ابن عباس: (إنها المكتوبة في ألواح موسى) ، فكل ما ذكر كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ «4» أي: خصلة قبيحة مَكْرُوهاً أي: مذمومًا مبغوضًا.
والمراد بما ذكر: من المنهيات دون المأمورات.
__________
(1) من الآية 7 من سورة الفاتحة.
(2) قال ابن الأثير: وردغة الخبال، جاء فى الحديث أنها عصارة أهل النار ... انظر النهاية (خبل- ردغ) .
(3) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 70) وأبو داود فى (الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها) ، من حديث ابن عمر، بلفظ: «من قال فى مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال» .
(4) قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «سيئه» بضم الهمز والهاء مضافا لهاء المذكر الغائب. اسم كان، وقرأ الباقون «سيئة» بفتح الهمزة ونصب تاء التأنيث مع التنوين على التوحيد خبر كان ... انظر الإتحاف (2/ 197) والبحر المحيط (6/ 35) .(3/199)
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي علم الشرائع، أو معرفة الحق لذاته، والعلم للعمل به.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، كرره، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، وأنه رأس الحكمة وملاكها، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه، ولو جمع أساطير الحكماء، ولو بلغت عنان السماء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد: غيره ممن يتصور منه ذلك. ورتب عليه، أولاً: ما هو عاقبة الشرك في الدنيا، وهو: الذم والخذلان، وثانيًا:
ما هو نتيجته في العقبى. فقال: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك، وتلومك الملائكة والناس، مَدْحُوراً مطرودًا من رحمة الله.
ثم قبَّح رأيهم في الشرك، فقال: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ، وهو خطاب لمن قال: الملائكة بنات الله.
والهمزة للإنكار، أي: أفخصَّكم ربكُم بأفضل الأولاد، وهم البنون، وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بناتٍ لنفسه، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي: عظيم النكر والشناعة، لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ في إيجاب العقوبة لخرمه لقضايا العقول، بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه، وتُفضلون عليه أنفسكم بالبنين، ثم جعلتم الملائكة، الذين هم أشرف الخلق، أدونهم، تعالى الله عن قولكم علوًا كبيرًا.
الإشارة: ينبغي للإنسان الكامل أن يكون في أموره كلها على بينة من ربه، فَيُحَكِّمُ على ظاهره الشريعة المحمدية، وعلى باطنه الحقيقة القدسية، فإذا تجلى في باطنه شيء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسُنَّة، فإن قبلاه أظهره وفعله، وإلاَّ رده وكتمه، كان ذلك الأمر قوليًا أو فعليًا، أو تركًا او عقدًا فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئٍ مسلم أن يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وإليه الإشارة بقوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فإن لم يجد نصًا في الكتاب أو السنة فليستفت قلبه، إن صفا من خوض الحس، وإن لم يَصْفُ فليرجع إلى أهل الصفاء، وهم أهل الذكر. قال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1» ، ولا يستفت أهل الظنون، وهم أهل الظاهر، قال تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «2» .
وقال القشيري في تفسير الآية هنا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجع إلى الله،
__________
(1) من الآية 43 من سورة النحل، ومن الآية 7 من سورة الأنبياء.
(2) من الآية 36 من سورة يونس.(3/200)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال: الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق: أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت: وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله: الحقائق تَرِدُ في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ.
قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية: أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالرجوع إلى كتابه، فقال:
[سورة الإسراء (17) : آية 41]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا بيَّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والعبر، والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا ليتعظوا به، وَما يَزِيدُهُمْ ذلك إِلَّا نُفُوراً عن الحق وعنادًا له.
الإشارة: من شأن القلوب الصافية: إذا سمعت كلام الحبيب فرحت واهْتَزت، أو خشعت واقشعرت من هيبة المتكلم، كلٌّ على ما يليق بمقامه، ومن شأن القلوب الخبيثة المكدرة: نفورها من كلام الحق إذ الباطل لا يُقاوم الحق، ولا يطيق مواجهته. والله تعالى أعلم.
ثم أبطل مذاهب أهل الشرك، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 44]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: لَوْ كانَ مَعَهُ في الوجود آلِهَةٌ تستحق أن تُعبد، كَما يَقُولُونَ «1» أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، إِذاً لَابْتَغَوْا لطلبوا
__________
(1) قرأ حفص وابن كثير: (يقولون) بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء،، انظر الإتحاف (2/ 199) .(3/201)
إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا طريقًا يقاتلونه. وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. والمعنى: لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. وهذا كقوله: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ «1» . وقيل: لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة لعلمهم بقدرته، وتحققهم بعجزهم، كقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «2» . ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال: سُبْحانَهُ تنزيهًا له وَتَعالى ترافع عَمَّا يَقُولُونَ من الشركاء، عُلُوًّا تعاليًا كَبِيراً لا غاية وراءه. كيف لا وهو تعالى في أقصى غاية الوجود! وهو الوجوب الذاتي، وما يقولونه من أنَّ له تعالى شركاء وأولادًا، في أبعد مراتب العدم، أعني: الامتناع لأنه من خواص المحدثات الفانية.
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ «3» أي: تنزهه، وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان، وتوابع الحدوث، بلسان الحال، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. وظاهره: أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي، والراجح أنه مقالي. ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص، كما قال الجلال السيوطي، أي:
تقول: سبحان الله وبحمده. بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله. وإلى هذا يرشد كلام أهل الكشف، حتى ذكر الحاتمي: أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه. وورد في الحديث:
«ما اصطيد حوت في البحر، ولا طائر يطير، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى» «4» . وفي الحديث أيضًا: «ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله، ألا يسبح الله بحمده، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم» . «5»
ومذهب أهل السنة: عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة، فيصح الخشوع من الجماد، والخشية لله والتسبيح منه له.
وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع: فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن يحمل قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره. هـ.
وقال ابن عطية: اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح فقالت فرقة: هو تجوز، ومعناه: أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة: قوله: مِنْ شَيْءٍ: لفظه عموم،
__________
(1) من الآية 91 من سورة المؤمنون.
(2) من الآية 57 من سورة الإسراء.
(3) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب: (تسبح) بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، انظر: الاتحاف 2/ 199.
(4) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 333) لأبى الشيخ عن مرثد بن أبى مرثد. [.....]
(5) ذكره السيوطي بنحوه فى الدر (4/ 332) وعزاه لابن مردويه، عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/202)
ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات الميتة. فمن هذا قول عكرمة: الشجرة تُسبح، والاسطوانة لا تُسبح. قال يزيد الرقاشي للحسن- وهما في طعام، وقد قدّم الخِوان-: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟
فقال: قد كان يُسبح مدة. يريد أن الشجرة، في زمان نموها واغتذائها، تُسَبح. وقد صارت خوانًا أو نحوه، أي: صارت جمادًا. وقالت فرقة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء، على العموم، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة، لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأنه لا يُفقه، وينفصل عنه بأن يريد بقوله: لا تَفْقَهُونَ: الكفار والغفلة، أي: أنهم يُعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء. هـ.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: وربما يدل للعموم تسبيح الحصى فى يده- عليه الصلاة والسلام-، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات من نبات غير يابس، وحجر متصل بموضعه، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة، ولا ينتفي مطلق الاستمداد لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله، فهو عام، وقد قال تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «1» ، وتدبر حنين الجذع. هـ. وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه، وقال البيضاوي أيضًا في قوله: وَلكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ، وإلى ما لا يتصور منه، وعليهما، أي: ويحمل- عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. هـ.
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة، مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة، الدالة على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراك، غَفُوراً لمن تاب منكم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش، أو ما قُدر وجوده من غيرهما كله قائم بين حس ومعنى، بين عبودية وربوبية، بين قدرة وحكمة. فالحس محل العبودية، فيه تظهر قهرية الربوبية، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها، وتقول: سبحانه ما أعظم شأنه، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد، وغاص في أسرار التفريد.
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة: «وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس فى دار
__________
(1) من الآية 10 من سورة سبأ.(3/203)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكوِّن. وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل:
إذَا لَمْ تَرَ الهلالَ فسَلِّم ... لأناس رأوه بِالأبْصارِ
والله تعالى أعلم.
وسبب عدم فقه تسبيح الأشياء: غفلة القلوب، وطبع الأكنّة عليها، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 49]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)
قلت: (أَنْ يَفْقَهُوهُ) : مفعول من أجله، أي: كراهة أن يفقهوه، و (نُفُوراً) : مصدر في موضع الحال. والضمير في (بِهِ) : يعود على «ما» ، أي: نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتنزيه والتسبيح، ودعوتهم إلى العمل بما فيه من التوحيد، ورفض الشرك، وغير ذلك من الشرائع، جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث، أي: جعلنا بينك وبينهم حِجاباً يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه، مَسْتُوراً عن الحس، خفيًا، معنويًا، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر، والانهماك في الغفلة. أو: ذا ستر، كقوله: وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «1» ، أي: آتيًا، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
__________
(1) من الآية 61 من سورة مريم.(3/204)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
نَفَى عنهم فقه الآيات، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة في الأشياء بيانًا لكونهم مطبوعين على الضلالة، كما صرح به في قوله: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية تكنها، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله. فعلنا ذلك بهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلاً وصممًا يمنعهم من استماعه. ولمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. قاله البيضاوي.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي: واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى: وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك لِمَا في ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي: بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي: ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ، وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي: إذ يقولون: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، مثلوك بالساحر، والشاعر، والكاهن، والمجنون، فَضَلُّوا عن الحق في جميع ذلك، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه فهم يتهافتون، ويخبطون، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل. ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، أنكروا البعث، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا. والرفات: الذي بلي، حتى صار غبارًا وفتاتا. و «أَإِذا» : ظرف، والعامل فيه: ما دلّ عليه قوله:
(لَمَبْعُوثُونَ) ، لا نفسه لأن ما بعد «إن» والهمزة، لا يعمل فيما قبله، أي: أنُبعث إذا كنا عظامًا.. الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم في سورة «الأنعام» «1» تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه، والتي تمنع من الشهود والعيان، فراجعه، إن شئت. وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالجواب عما أنكروه من البعث، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 52]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
__________
(1) راجع إشارة الآية 25 من سورة الأنعام.(3/205)
قلت: (قَرِيباً) : خبر كان، أو ظرف له على أن «كان» تامة، أي: عسى أن يقع في زمن قريب. و (أَنْ يَكُونَ) :
إما: اسم «عَسى» وهي تامة، أو خبرها، والاسم مضمر، أي: عسى أن يكون البعث قريبًا، أو: عسى أن يقع فى زمن قريب. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : منصوب بمحذوف اذكروا يوم يدعوكم. أو: بدل من «قريب» على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و (بِحَمْدِهِ) : حال من ضمير (فَتَسْتَجِيبُونَ) ، أي: منقادين له، حامدين له لما فعل بكم.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد لمن أنكر البعث: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ أي: يعظم فِي صُدُورِكُمْ عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم إذ القدرة صالحة لكل ممكن.
ومعنى الأمر هنا: التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئًا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، فَسَيُنْغِضُونَ يحركون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تعجبًا واستهزاءً، وَيَقُولُونَ استهزاء: مَتى هُوَ أي: البعث، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
واذكروا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، فَتَسْتَجِيبُونَ أي: فتبعثون من القبور بِحَمْدِهِ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل: إنهم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ما لبثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود جهالته وغفلته، فقُل لهم: كونوا حجارة أو حديدًا، أو خلقًا أكبر من ذلك، فإنَّ الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته، ويُلينها بعد القساوة، بسبب شرب خمرته. فسيقولون: من يعيدنا إلى هذه الحالة؟ قل: الذي فطركم على توحيده أول مرة، حين أقررتم بربوبيته، يوم أخذ الميثاق. فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم تعجبًا واستغرابًا، ويقولون:
متى هو هذا الفتح؟! قل: عسى أن يكون قريبًا يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق، أو خوف مزعج، بواسطة شيخ عارف، أو بغير واسطة، فتستجيبون بحمده ومنته، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً فتلين قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتحسن أخلاقكم، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هى أحسن، كما قال تعالى:(3/206)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلْ لِعِبادِي المؤمنين: يَقُولُوا للمشركين الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ولا تخاشنوهم، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يهيج بينهم الجدال والشر، فلعل المخاشنة لهم تُفضي إلى العناد وازدياد الفساد. وكان هذا بمكة، قبل الأمر بالقتال، ثم نُسخ «1» . وقيل: في الخطاب من المؤمنين بعضهم لبعض، أمرهم أن يقولوا، فيما بينهم، كلامًا لينًا حسنًا. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ العداوة والبغضاء إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.
يقولون لهم في المخاطبة الحسنة: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة والإيمان، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالموت على الكفر. وهذا تفسير للكلمة التي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي: قولوا هذه الكلمة ونحوها، ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه يثير الشر، مع أن ختام أمرهم غيب. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولاً إليك أمرهم، فتجبرهم على الإيمان، وإنما أَرْسلْنَاكَ مبشرًا ونذيرًا، فَدارهِم، ومُر أصحابك باحتمال الأذى منهم. رُوي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل: شتم رجل عمر رضي الله عنه، فهمَّ به، فأمره الله بالعفو.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم، فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء. وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيًا، وأن يكون العُراة الجياع أصحابه. وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية، والتفرغ من العلائق الجسمانية، لا بكثرة الأموال والأتباع، حتى يستبعدوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لقلة ماله، وضعف أصحابه فإن سيدنا داود عليه السلام كان مثله في قلة ماله وأتباعه، ثم قواه بالملك والنبوة. ولذا قال: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وقيل: هو إشارة إلى تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مذكور في الزبور، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأمته خير الأمم، وأنهم يرثون الأرض بالفتح عليهم قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «2» . والله تعالى أعلم.
__________
(1) دعوى النسخ هنا، لا برهان عليها، ولا مجال لها فالأخلاق لا تنسخ.
(2) الآية 105 من سورة الأنبياء.(3/207)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
الإشارة: من أوصاف الصوفية- رضى الله عنهم- أنهم هينون لينون كلَّفة حرير، لا ينطقون إلا بالكلام الحسن، ولا يفعلون إلا ما هو حسن، ويفرحون ولا يحزنون، وينبسطون ولا ينقبضون. من رأوه مقبوضًا بسطوه، ومن رأوه حزينًا فرّحوه، ومن رأوه جاهلاً أرشدوه بالتي هي أحسن. وهم متفاوتون في هذا الأمر، مفضل بعضهم على بعض في الأخلاق والولاية، فكل من زاد في الأخلاق الحسنة زاد تفضيله عند الله. وفي الحديث: «إنَّ الرَّجلُ لَيُدرِكُ بحُسْن الخلُق، دَرَجََة الصَائِم النهار، القَائِمِ اللَّيْل» «1» . وبالله التوفيق.
ثم رجع إلى الكلام مع المشركين والرد عليهم، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
قلت: (أُولئِكَ) : مبتدأ، و (الَّذِينَ يَدْعُونَ) : صفته، و (يَبْتَغُونَ) : خبره. وضمير «تَحْوِيلًا» : للكفار، وفى «يَدْعُونَ» :
للآلهة المعْبُودين. وقيل: الضمير في «يَدْعُونَ» و «يَبْتَغُونَ» : للأنبياء المذكورين قبلُ في قوله: فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ، والوسيلة: ما يتوسل به ويتقرب إلى الله، و (أَيُّهُمْ) : بدل من فاعل (يَبْتَغُونَ) ، و «أيّ» : موصولة، أي:
يبتغي من هو أقرب إليه تعالى- الوسيلة، فكيف بمن دونه؟ أو ضمَّنَ معنى يبتغون: يحرصون، أي: يحرصون أيهم يكون إليه تعالى أقرب؟
يقول الحق جلّ جلاله: قُلِ لهم: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة تعبدونهم مِنْ دُونِهِ كالملائكة والمسيح وعُزير، أو كالأصنام والأوثان، فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ، كالمرض والفقر والقحطِ، وَلا تَحْوِيلًا لذلك عنكم إلى غيركم، قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أنهم آلهة، هم في غاية الافتقار إلى الله والتوسل إليه، كلهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي: التقرب بالطاعة، ويحرصون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إلى الله من غيره، فكيف يكونون آلهة؟ أو: أولئك الذين يدعونهم آلهة، يطلبون إلى ربهم الوسيلة
__________
(1) أخرجه، بنحوه، أحمد فى المسند (6/ 133) وأبو داود فى (الأدب، باب فى حسن الخلق) عن عائشة رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 60) عن أبى هريرة، وصححه، ووافقه الذهبي.(3/208)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
بالطاعة، يطلبها أيهم أقرب، أي: الذي هو أقرب، فكيف بغير الأقرب؟ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً مخوفًا، أي: حقيقًا بأن يحذره كل أحد، حتى الرسل والملائكة. أعاذنا الله من جميعه. آمين.
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين لزمته القهرية والعبودية، فهو عاجز عن إصلاح نفسه، فكيف يصلح غيره؟
ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فكيف يدفع عن غيره؟ فارفع همتك، أيها العبد، إلى مولاك، وأنزل حوائجك كلها به دون أحد سواه، فكل ما سواه مفتقر إليه، والفقير المضطر لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ والله يتولى هداك.
ثم بيّن قهريته تعالى، فقال:
[سورة الإسراء (17) : آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: أهلها، إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت والاستئصال، أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبًا. وقال في المستخرج: وإن من قرية إلا نحن مهلكوها الصالحة بالإفناء، والطالحةُ بالبلاء، أو معذبوها بالسيف إذا ظهر فيهم الزنى والربا. هـ. قال ابن جزي: رُوي أن هلاك مكة بالحبشة، والمدينة بالجوع، والكوفة بالترك، والأندلس بالخيل. ثم قال: وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطُليطلة وغيرها، فبأخذ الروم لها.
هـ. قلت: قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها. أعاد الله عمارتها بالإسلام. آمين.
وقال في حُسْن المحاضرة: وأخرج الحاكم في المستدرك عن كعب قال: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية- والجزيرة أرض بالبصرة، وموضع باليمامة، لا جزيرة الأندلس- ثم قال: ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة: والكوفة آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تُفتح مدينة الكفر. قال: وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، وأورده القرطبي في التذكرة من حديث حذيفة مرفوعًا: يبدو الخراب في أطراف الأرض، حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد، وخراب الأُبُلَّةِ من الحِصار، وخراب فارس من الصعاليك، وخراب الترك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخَرز، وخراب(3/209)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
الخرز من الترك، وخراب الترك من الصواعق، وخراب السند من الهند، وخراب الهند من الصين، وخراب الصين من الرمل، وخراب الحبشة من الرجفة، وخراب العراق من القحط. هـ.
قلت: وسكت عن المغرب، ولعله المعنىّ بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله» «1» . زاد في رواية: وهم أهل المغرب، ورجحه صاحب المدخل «2» ، قال: لأنهم متمسكُون بالسنة أكثر من المشرق «3» . والله تعالى أعلم بغيبه.
الإشارة: القرية محل تقرر السر، وهو القلب، فإما أن يُهلكه الله بالتلف والضلال، وإما أن يُعذبه عذابًا شديدًا بالمجاهدات والمكابدات، ثم ينعمه نعيمًا كبيرًا بالمشاهدات والمناجاة. كان ذلك في الكتاب مسطورًا، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أجاب عن تأخر الآيات بعد اقتراحها، فقال:
[سورة الإسراء (17) : آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
قلت: (أَنْ نُرْسِلَ) : مفعول «منعنا» ، و (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ) : فاعل.
يقول الحق جلّ جلاله: وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم: اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا، إلا تكذيب الأولين بها، فهلكوا، وهم أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها، فيهلكوا أمثالهم، كما مضت به سنتُنا، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم لأن فيهم من يُؤمن، أو يلد من يؤمن.
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسبب سؤالهم، مُبْصِرَةً بينة ذات إبصار، أو بصائر واضحة الدلالة، يُدركها كلُّ من يبصرها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها، أو: فظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فهلكوا، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المستأصِلِ، فإن لم يخافوا نزل بهم، أو: وما نرسل بالآيات غير المقترحة، كالمعجزات وآيات القرآن، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (المناقب. باب 28) ومسلم فى (الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» من حديث معاوية رضي الله عنه.
(2) هو ابن الحاج العبدري صاحب «المدخل إلى الشرع الشريف» .
(3) فى تعيين هذه الطائفة يقول الإمام النووي: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. هـ.(3/210)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قال في الحاشية: ومقتضى حديث الكسوف، وقوله فيه: «ذلك يُخوف بهما عبادة» : أن التخويف لا يختص بالخوارق، بل يعم غيرها، مما هو معتاد نفيه، ويأتي غِبا. وفي الوجيز: (بِالْآياتِ) أي: العبر والدلالات. وفي الورتجبي: الآيات هي: الشباب والكهولة والشيبة، وتقلب الأحوال بك، لعلك تعتبر بحال، أو تتعظ بوقت. هـ.
الإشارة: إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي: رحمة واعتناء به، فلعله حين تظهر له، يقف معها ويستحسن حاله، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب، فيقف عن السير، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال، وفي الحكم: «ما أرادت همة سالك أن تقف عند ما كشف لها، إلاّ نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك» . وقال الششترى رضي الله عنه:
ومهما ترى كل المراتب تجتلي ... عليك، فحل عنها، فعن مثلها حلنا
وقل: ليس لي في غير ذاتك مطلب ... فلا صورة تُجْلى، ولا طُرْفَةٌ تُجْنى
ولما نزّه تعالى نفسه في أول السورة عن الجهة، التي تُوهمها قضيةُ الإسراء، صَرَّحَ هنا بأنه محيط بكل مكان وزمان، لا يختص بمكان دون مكان، فقال:
[سورة الإسراء (17) : آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ فيما أوحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ علماً وقدرة، وأسرار وأنواراً، كما يليق بجلاله وتجليه، فلا يختص بمكان ولا زمان، بل هو مظهر الزمان والمكان، وقد كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ في قضية الإسراء، قال ابن عباس: «هي رؤيا عين» حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ اختباراً لهم، من يصدق بذلك ولا يكيف، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره، فيقع في التجسيم والتحييز، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء.
وإنما خصّ الحق تعالى إحاطته بالناس، مع أنه محيط بكل شيء، كما في الآية الأخرى: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ «1» لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شىء.
__________
(1) من الآية 54 من سورة فصلت.(3/211)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
ثم قال تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وهي: شجرة الزقوم، أي: ما جعلناها إلا فتنة للناس. وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة الزقوم، سخروا من ذلك، فافتتنوا بها، حيث أنكروها، وكفروا بالقرآن، وقالوا: كيف تكون شجرة في النار، والنار تحرق الشجر؟! وقفوا مع الإلف والعادة، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة. ومن قدر على حفظ وبر السَّمَنْدَل «1» منها، وهو يمشي فيها، قدر على أن يخلق في النار شجرة، ولم تحرقها. وقال أبو جهل: ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد. فإن قيل: أين لُعِنت شجرة الزقوم في القرآن؟ فالجواب:
أن المراد لعنة آكلها، وقيل: إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد، وهي في أصل الجحيم.
قال تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ بأنواع التخويف، أو بالزقوم، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً عتوا مجاوزاً للحد.
الإشارة: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه» ، من قامت به الأشياء، وهو وجودها ونور ذاتها، ومحيط بها، كيف تحصره، أو تحيزه، أو تحول بينه وبين موجوداته؟ قيل لسيدنا علي- كَرّم الله وجهه-: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أين كان ربنا قبل خلق الأشياء؟ فتغير وجهه، وسكت، ثم قال: قولكم: أين؟ يقتضي المكان، وكان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان. هـ.
وقال الشيخ الشاذلي: (قيل لي: يا عليّ بي قُلْ، وعليّ دُل، وأنا الكل) . وفي الحديث: «لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار» ، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلِّم تسلم، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن عداوة إبليس المتقدمة فى قوله: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 64]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
__________
(1) السّمندل: طائر، إذا انقطع نسله، وهرم، ألقى نفسه فى الجمر، فيعود إلى شبابه. وقيل: هو دابة، يدخل النار فلا تحرقه.. انظر اللسان (سمندل 3/ 2105) .(3/212)
قلت: (طِيناً) : منصوب على إسقاط الخافض، أو: حال من الراجع إلى الموصول، و (أَرَأَيْتَكَ) : الكاف للخطاب، لا موضع لها. وتقدم الكلام عليه في سورة الأنعام «1» . و (هذَا)
: مفعول «أرأيت» ، و (جزاء) : مصدر، والعامل فيه:
«جَزاؤُكُمْ» ، فإنَّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه، وقيل: حال موطئة لقوله: «مَوْفُوراً» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ امتنع، وقالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي: من طين فهو أصله من الطين، وأنا أصلي من النار، فكيف أسجد له وأنا خير منه؟! ثم قالَ إبليس: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي: أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ بأمري بالسجود له، لِمَ كرمتَه عليّ؟ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أي: والله لئن أخرتنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلن من احتنكت السَّنةُ أموالَهم أي: استأصلتها. أي: لأهلكن ذُرِّيَّتَهُ بالإغواء والإضلال، إِلَّا قَلِيلًا أو: لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي:
لأقودنهم إلى عصيانك، إلا قليلاً، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم لمَا سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية: وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله. هـ. قلت: إنما يحتاج إلى هذا: من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني: فلا.
قالَ تعالى: اذْهَبْ امض لما قصدته، وهو: طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ التفت إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: جزاؤهم، بضمير الغيبة ليرجع إلى فَمَنْ تَبِعَكَ، لكنه غلب المخاطب ليدخل إبليس معهم، فتُجازون على ما فعلتم جَزاءً مَوْفُوراً وافرًا مكملاً، لا نقص فيه. وَاسْتَفْزِزْ استخفف، أو اخدع مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أن تستفز بِصَوْتِكَ بدعائك إلى الفساد، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي: صِحْ عليهم، من الجلبة، وهي: الصياح، بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي: بأعوانك من راكب وراجل، قيل: هو مجاز، أي: افعل بهم جهدك. وقيل: إن له من الشياطين خيلاً ورجالاً. وقيل: المراد: بيان الراكبين في طلب المعاصي، والماشين إليها بأرجلهم. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام، والتصرف فيها على ما لا ينبغي، كإنفاقها في المعاصي، وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العزى.
__________
(1) راجع تفسير الآية 40 من سورة الأنعام.(3/213)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
وقال في الإحياء: قال يونس بن زيد: بلغنا أنه يُولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن، ثم ينشأون معهم. قال ابن عطية: وما أدخله النّقَّاشُ من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس، فضعيف كله. هـ. قال في الحاشية:
وضَعْفُهُ ظاهر، والآية مشيرة لرده لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد، لا في الإيلاء، فإنه لم يرد، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائري فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك، فالله أعلم. وأما عكس ذلك إيلاء الإنسي الجنية، فأمر لا يحيله العقل، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس «1» . قاله المحشي الفاسي.
وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا حساب، أو المواعد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة، وطول الأمل، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وباطلاً. والغرور: تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
الإشارة: ينبغي لك أيها الإنسان أن تكون مضادًا للشيطان، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم بالتواضع واللين، وإذا كان هو مجتهدًا في إغواء بني آدم بما يقدر عليه، فاجتهد أنت في نصحهم وإرشادهم، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم، بقدر ما يمكنك، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك، حتى تنقذهم من غروره وكيده. وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلي والخفي، في أموالهم وأولادهم، فدُلَّهم أنت على التوحيد، والإخلاص، في اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم. وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة كحسن الظن بالله، إن صحبه العمل بما يرضيه. فإن فعلت هذا كنت من عباد الله الذين ليس له عليهم سلطان، كما أشار إليهم بقوله:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 65 الى 69]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
قلت: (أَفَأَمِنْتُمْ) : الهمزة للتوبيخ، والفاء للعطف على محذوف، أي: أنجوتم من البحر فأمنتم.
__________
(1) قصة سيدنا سليمان من أكثر القصص امتلاء بالإسرائيليات، فعليك بما هو فى القرآن، وما صح من حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. [.....](3/214)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ عِبادِي المخلصين، الذين يتوكلون عليَّ في جميع أمورهم، لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: تسلط وقدرة على إغوائهم حيث التجئوا إليَّ، واتخذوني وكيلاً وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا حافظاً لمن توكل عليه، فيحفظهم منك ومن أتباعك.
ثم ذكر ما يحث على التعلق به، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية، فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجري لَكُمُ الْفُلْكَ ويسيرها فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والربح، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في تسخيرها لكم حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعني: خوف الغرق، ضَلَّ غاب عنكم مَنْ تَدْعُونَ من تعبدون من الآلهة. أو: من تستغيثون به في حوادثكم، إِلَّا إِيَّاهُ وحده، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه، ولا تدعون، لكشفه، إلا إياه، فكيف تعبدون غيره، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه؟ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد، أو عن شكر النعمة، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً بالنعم، جحودًا لها، إلا القليل، وهو كالتعليل للإعراض.
أَفَأَمِنْتُمْ أي: أنجوتم من البحر، وأمنتم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه، أو يخسف بكم في جوفه، كما فعل بقارون، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي: ريحًا حاصبًا، يرميكم بحصباء كقوم لوط، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا حافظاً لكم منه، فإنه لا رادّ لفعله. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي: ريحًا شديدة، لا تمر بشيء إلا قصفته، أي: كسرته، فَيُغْرِقَكُمْ، وعن يعقوب: «فتغرقكم» على إسناده إلى ضمير الريح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بنون التكلم في الخمسة. يفعل ذلك بكم بِما كَفَرْتُمْ بكفركم، أي: بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبًا يتبعنا بثأركم، كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها «1» ، أو: لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم الذين أضافهم إلى نفسه بأن اصطفاهم لحضرة قدسه، وشغلهم بذكره وأُنسه، لم يركنوا إلى شيء سواه، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه. فلا جرم أنه يحفظهم برعايته، ويكلؤهم بسابق عنايته. فظواهرهم قائمة بآداب العبودية، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية. فلمَّا قاموا بخدمة الرحمن، حال بينهم وبين كيد الشيطان، وقال لهم: ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة لتبتغوا
__________
(1) الآية 15 من سورة الشمس.(3/215)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
الوصول إلى حضرة الأحدية، إنه كان بكم رحيما. ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمن، يُقلبها كيف شاء فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً: وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر كرامة بنى آدم، وتفضيلهم ردّا لقول الشيطان «أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليّ» ، فقال:
[سورة الإسراء (17) : آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قاطبة، برهم وفاجرهم، أي: كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله لأنه يطأ بها القاذورات فسقطت حرمتها.
وَحَمَلْناهُمْ أي: بني آدم، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على الدواب والسفن فيمشون محمولين في البر والبحر.
يقال: حملته حملاً: إذا جعلت له ما يركب. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، وَفَضَّلْناهُمْ بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا وهم: من عدا الملائكة- عليهم السلام-. تَفْضِيلًا عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة- كالمقربين مثلاً- أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم.(3/216)
الإشارة: قد كرَّم الله هذا الآدمي، وشرفه على خلقه بخصائص جعلها فيه، منها: أنه جعله نسخة من الوجود، فيه ما في الوجود، وزيادة، قد انطوت فيه العوالم بأسرها، من عرشها إلى فرشها، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا، في مباحثه، حيث قال:
يا سابقًا فى موكب الإبداع ... ولا حقا في جَيْش الاخْتِراع
اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود ... ِلله ما أعلاَك مِن مَوْجُود
أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ ... والعَالَمُ العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ
ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ ... وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ
وقال آخر:
إذا كنتَ كُرْسِيًّا، وعَرْشًا، وَجنَّةً، ... وَنارًا، وأَفْلاَكًا تدَوُر، وأَمْلاَكا
وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة ... وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا
فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تُثَبُّطًا ... مُقِيمًا معَ الأسْرَى، أمَا آن إِسْرَاكَا؟!
ومنها: أنه جعله خليفة في ملكه، وجعل الوجود بأسره خادمًا له، ومنتفعًا به، الأرض تُقله، والسماء تُظله، والجهات تكتنفه، والحيوانات تخدمه، والملائكة تستغفر له، إلى غير ذلك مما لا يعلمه الخلق. قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «1» .
ومنها: أن جعل ذاته مشتملة على الضدين: النور والظلمة، الكثافة واللطافة، الروحانية والبشرية، الحس والمعنى، القدرة والحكمة، العبودية وأسرار الربوبية، إلى غير ذلك. ولذلك خصه بحمل الأمانة.
ومنها: أنه جعله قلب الوجود، هو المنظور إليه من هذا العالم، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون، فهو المنعَّم دون غيره، إن أطاع الله، ألا ترى قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «2» ، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان، أو: من التحق به من مؤمني الجان. وقال الورتجبي: كرامة الله تعالى لبني آدم سابقة
__________
(1) من الآية 13 من سورة الجاثية.
(2) من الآية 75 من سورة الزمر.(3/217)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
على كون الخلق جميعًا لأنها من صفاته، واختياره، ومشيئته الأولية. أوجد الخلق برحمته، وخلق آدم وذريته بكرامته، الخلق كلهم في حيزِ الرحمة، وآدم وذريته في حيز الكرامة. الرحمة للعموم، والكرامة للخصوص. خلق الكلَّ لآدم وذريته، وخلق آدم وذريته لنفسه، ولذلك قال: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي «1» ، جعل آدم خليفته، وجعل ذريته خلفاء أبيهم، الملائكة والجن في خدمتهم، والأمر والنهي والخطاب معهم، والكتاب أُنزل إليهم، والجنة والنار والسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وجميع الآيات، خُلِقَ لهم. والخلق كلهم طُفيل لهم، ألا ترى الله يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم: «لولاك ما خلقت الكون» ؟ ولهم كرامة الظاهر، وهي: تسوية خلقهم، وظرافة صورهم، وحسن نظرتهم، وجمال وجوههم، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة، واستواء القامة، وحسن المشي، والبطش، وإسماع الكلام، والتكلم باللسان، والنظر بالبصر، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم، التي صدرت من حسن اصطناع صورته. الذي قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «2» ، فنور وجوههم من معادن نور الصفة، وأنوار الصفات نوَّرت آدم وذريته، فتكون نورًا من حيث الصفات والهيئات، والحسن والجمال، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: «خلَقَ آدَم على صُورَتِهِ» من حيث التخلق لا من حيث التشبيه. انظر تمامه.
والحاصل أنه فضلهم بالخلْق والخلُق، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. هـ. قاله المحشي الفاسي.
ثم ذكر محل ظهور كرامة بنى آدم، وهو يوم القيامة، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
قلت: يجوز في (أَعْمى) - الثاني-: أن يكون وصفًا كالأول، وأن يكون من أفعل التفضيل، وهو أرجح لعطف «وَأَضَلُّ» عليه، الذي هو للتفضيل. وقال سيبويه: لا يجوز أن يقال: هو أعمى من كذا، وإنما يقال: هو أشد عمى، لكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر، لا في عمى القلب. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ بنبيهم. فيقال: يا أُمَّةَ فلان، يا أمة فلان، احضروا للحساب. أو: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا صاحب الخير ويا صاحب الشر، فهو مناسب لقوله: (فَمَنْ أُوتِيَ ... ) إلخ.
__________
(1) من الآية 41 من سورة طه.
(2) من الآية 75 من سورة ص.(3/218)
وقال محمد بن كعب القرظي: بأسماء أمهاتهم، فيكون جمع «أم» ، كخف وخفاف، لكن في الحديث: «إِنكُم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسمَائِكُمْ وأسمَاءِ آبَائِكًمْ» «1» ، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا. وفي البيضاوي:
قيل: بأمهاتهم، والحكمة في ذلك: إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين، وألا يُفتضح أولاد الزنى. هـ.
وقال أبو الحسن الصغير: قيل لأبي عمران: هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم؟ قال: قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا. وفي البخاري- باب يدعى الناس بآبائهم، وساق حديث ابن عمر:
«يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن» «2» ، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم، وهو الراجح، إلا فيمن لا أب له. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي: فمن أوتي صحيفة أعماله، يومئذ، من أولئك المدعوين بيمينه إظهارًا لخطر الكتاب، وتشريفًا لصاحبه، وتبشيرًا له من أول الأمر، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ المؤتى لهم. والإشارة إلى «مَن» : باعتبار معناها لأنها واقعة على الجمع إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع، لا على وجه الانفراد كما في حال الدنيا. وأتى بإشارة البعيد إشعارًا برفع درجاتهم، أي: أولئك المختصون بتلك الكرامة، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور، يقرأون كتابهم وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء، فإن الفتيل- وهو:
قشر النواة- مَثلٌ في القلة والحقارة.
ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل، أَعْمى فاقد البصيرة، لا يهتدي إلى رشده، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعنا فيه من العقل والقوى، فيما خلق له من العلوم والمعارف، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى كذلك، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا، ومعرفة الحق، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه، وَأَضَلُّ سَبِيلًا عنه لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة. وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 194) ، وأبو داود فى (الأدب، باب فى تغيير الأسماء) عن أبى الدرداء، وصححه الهيثمي فى المجمع (3/ 69) .
(2) أخرجه البخاري فى (كتاب الأدب، باب يدعى الناس بآبائهم) .(3/219)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
بشماله، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان للإشعار بالعلة الموجبة له، فإنَّ العمى عن الحق والضلال هو السبب في الأخذ بالشمال، وهذا كقوله في الواقعة: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ «1» ، بعد قوله: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ «2» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: يدعو الحق تعالى، يوم القيامة، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها، ثم يدعوهم، ثانيًا، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهَدْي المحمدي. فيقال: يا أصحاب فلان، ويا أصاحب فلان، اذهبوا إلى الجنة، لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. وهذا في حق أهل الحق والتحقيق، الدالين على سلوك الشريعة، والتمسك بأنوار الحقيقة ذوقًا وكشفًا، فكل من تبعهم، وسلك منهاجهم، كان من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم: أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من لم يكن من حزبهم، ولم يدخل تحت تربيتهم، فإن استعمل عقله وقُواه فيما يُنجيه يوم القيامة كان من الذين يُؤتون كتابهم بيمينهم، ولا يظلمون فتيلا. ومن أهل عقله واستعمل قواه في البطالة والهوى، كان من القبيل الذي عاش في الدنيا أعمى، ويكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، والعياذ بالله.
ثم ذكر نوعا من هذا القبيل، الذي أعمى الله بصيرته، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
قلت: «وَإِنْ» : مخففة من الثقيلة في الموضعين، واسمها: ضمير الشأن، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي: إن الشأن قاربوا أن يفتنوك. و (سُنَّةَ) : مفعول مطلق، أي: سنَّ اللهُ ذلك سنة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كادُوا أي: كفار العرب، لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتقول ما لم أقل لك، مما اقترحوا عليك. نزلت في ثقيف،
__________
(1) الآية 92 من سورة الواقعة.
(2) الآية 90 من نفس السورة.(3/220)
إذ قالوا للنّبى صلى الله عليه وسلم: لا نَدْخُلُ في أَمْركَ حتى تُعْطِينَا خِصَالاً نَفْتَخِرُ بها على العَرَبِ: لا نُعشَّرُ، وَلا نُحشَّرُ، وَلاَ نَحْنِي في صَلاَتِنَا، وكُلُّ رِبًا لنَا فهُو لنَا، وكلُّ رِبًا عَلَيْنَا فهو مَوْضُوعٌ، وأنْ تُمَتِّعنا باللات سَنَةً، وأن تُحَرِّمَ وَادِيَنا كما حرمت مكة، فإذا قالت العَرَبُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ فقُل: الله أَمَرَنِي بذلك. فأبى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «1» ، وخيب سعيهم. فالآية، على هذا، مدنية. وقيل: في قريش، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: لا نُمكنك من استلام الحجر، حتى تلمّ بآلهتنا، وتمسّها بيدك «2» . وقيل: قالوا: اقبل بعض أمرنا، نقبل بعض أمرك، والآية، حينئذ، مكية كجميع السورة.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: لو فعلت ما أرادوا منك لصرت لهم وليًا وحبيبًا، ولخرجت من ولايتي، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون، الذي هو أدنى ميل، أي: لولا أن عصمناك، لقاربت أن تميل إليهم لقوة خدعهم، وشدة احتيالهم. لكن عصمتنا منعتك من المقاربة. وهو صريح في أنه- عليه الصلاة والسلام- ما هَمَّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها، ولا قارب ذلك. وهو دليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه. قاله البيضاوي. وفيه رد على ابن عطية، حيث قال:
قيل: إنه هَمَّ بموافقتهم، لكن كان ذلك خطرة، والصواب: عدم ذلك لأن التثبيت والعصمة مانعٌ من ذلك.
وقد أجاد القشيري في ذلك، ونصه: ضربنا عليكَ سرادقات العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباع هواك، فالزَّلَلُ منك محال، والافتراءُ في نعتك غير موهوم، ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى جانب الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ شدائدُ البلاء لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك فإنَّ كل مَنْ هو أعلى درجةً فَذَنْبُه- لو حصل- أشدُّ تأثيرًا.
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ... الآية: لو وكلناك ونَفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة، لقاربت الإمام بشيء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكِنَّا أفردناك بالحفظ، بما لا تتقاصر عنكَ آثاره، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنواره. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، هبوط الأكابر على قدر صعودهم. هـ.
إِذاً أي: لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ عذاب الْحَياةِ، وَضِعْفَ عذاب الْمَماتِ، أي: مِثْلِيْ ما يُعَذِّبُ غيرك في الدنيا والآخرة لأن خطأ الخطير أخطر. وكأن أصل الكلام: عذابًا ضعفًا في الحياة، وعذابًا ضعفًا في الممات، أي: مضاعفًا، ثم حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: «لم أجده، وذكره الثعلبي عن ابن عباس من غير سند» . وذكره الواحدي فى الأسباب (ص 297) بدون سند أيضا.
(2) أخرجه الطبري (15/ 130) عن سعيد بن جبير، بسند ضعيف.(3/221)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
إضافة موصوفها. وقيل: الضعف من أسماء العذاب. وقيل: المراد بضعف الحياة: عذاب الآخرة لأن حياته دائمة، وبضعف الممات: عذاب القبر. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع عنك العذاب.
وَإِنْ كادُوا أي: كاد أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ التي أنت فيها. وهي: أرض مكة، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا إلا زمنًا قليلاً. وقد كان كذلك، فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في اليهود فإنهم حَسَدوا مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا:
الشام مقام الأنبياء، فإن كنت نبيًا فالحَقْ بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم، فخرج مرحلة، فنزلت «1» ، فرجع صلى الله عليه وسلم، ثم قتل منهم بني قريظة، وأجلى بني النضير بقليل، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي:
عادته تعالى: أن يُهلك من أُخْرِجَتْ رسلهم من بين أظهرهم، فقد سنَّ ذلك في خلقه، وأضافها إلى الرسل لأنها سُنت لأجلهم. وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي: تغييرًا وتبديلاً.
الإشارة: من شأن العارف الكامل أن يأخذ بالعزائم، ويأمر بما يقتل النفوس، ويوصل إلى حضرة القدوس، وهو كل ما يثقل على النفوس، فإن أتاه من يفتنه ويرده إلى الهوى، حفظته العناية، واكتنفته الرعاية، فيقال له:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك وحي إلهام، لتفتري علينا غيره، فتأمر بالنزول إلى الرخص والتأويلات، وإذا لا تخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك بالحفظ والرعاية، لقد كدت تركنُ إليهم شيئًا قليلاً، وهي:
خواطر تخطر ولا تثبت. إذًا لأذقناك ضعف الحياة، وهو: الذل والحرص والطمع. وضعف الممات، وهو: السقوط عن مقام المقربين، أهل الرَّوح والريحان. وإن كادوا ليستفزونك من أرض العبودية، ليخرجوك منها إلى إظهار الحرية، من العز والجاه، وإذًا لا يلبثون خلافك ممن اتبعك إلا قليلاً لأن من رجع إلى مباشرة الدنيا والحس قلَّ مدده، فيقل انتفاعه، فلا يتبعه إلا القليل. هذه سُنة الله في أوليائه، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
ثم أمر بمراسم الشريعة، التي هى عنوان العناية، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 79]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
__________
(1) أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره (7/ 2341) والبيهقي فى الدلائل (باب ماروى فى سبب خروج النبي صلى الله عليه وسلم) إلى تبوك عن عبد الرحمن بن غنم، وضعف الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 53) هذا القول لأن هذه الآية مكية. وسكنى المدنية بعد ذلك.(3/222)
قلت: الدلوك: الميل. واشتقاقه من الدَّلْك لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه. واللام للتأقيت بمعنى: عند.
و (قُرْآنَ) : عطف على (الصَّلاةَ) ، أو منصوب بفعل مضمر، أي: اقرأ قرآن الفجر، أو على الإغراء.
يقول الحق جلّ جلاله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ أي: عند زوال الشَّمْسِ، وهو إشارة إلى إقامة الصلوات الخمس، فدلوك الشمس: زوالها وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغسق الليل: ظلمته، وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح، وإنما عبَّر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر لأن القرآن يُقرأ فيها أكثر من غيرها لأنها تُصلي بسورتين طويلتين، ثم مدحها بقوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكةُ الليل وملائكة النهار، أو: يشهده الجم الغفير من المصلين، أو فيه شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء، والنوم، الذي هو أخو الموت، بالانتباه.
ثم أمر بقيام الليل فقال: وَمِنَ اللَّيْلِ أي: بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ أي: اترك الهجود، الذي هو النوم فيه، للصلاة بالقرآن، نافِلَةً لَكَ أي: فريضة زائدة لك على الصلوات الخمس، أو فريضة زائدة لك لاختصاص وجوبها بك، أو نافلة زائدة لك على الفرائض غير واجبة. وكأنه، لما أمر بالفرائض، أمر بعدها بالنوافل. وتطوعه- عليه الصلاة والسلام لزيادة الدرجات، لا لجبر خلل أو تكفير ذنب لأنه مغفور له ما تقدّم وما تأخّر. و «مِنَ» : للتبعيض، والضمير في «بِهِ» : للقرآن. والتهجد: السهر، وهو: ترك الهجود، أي: النوم. فالتفعل هنا للإزالة كالتأثم والتحرج، لإزالة الإثم والحرج.
ثم ذكر ثوابه فى حقه- عليه الصلاة والسلام- فقال: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً عندك وعند جميع الناس، وهي: الشفاعة العظمى. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«المَقَام المحمُود هُوَ المَقَامُ الذي أَشْفَعُ فِيهِ لأمَّتِي «1» » . وقال ابن عباس رضي الله عنه: مقامًا محمودًا يحمده فيه الأولون والآخرون، ويشرف فيه على جميع الخلائق، يسأل فيُعطى، ويشفع فيُشَفَّع. وعن حذيفة: يُجْمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه، فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: «لبيك وسعديك. والشر ليس إليك، والمَهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» .
ثم يأذن له في الشفاعة. والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربي المعافري في أحكامه: واخْتُلِفَ في وجه كون قيام الليل سببًا للمقام المحمود على قولين، فقيل:
إن البارئ تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببًا لفضله، من غير معرفة منا بوجه الحكمة. وقيل: إن قيام الليل فيه
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 441) ، والترمذي وحسّنه فى (التفسير، سورة الإسراء) ، والبيهقي فى الدلائل (5/ 484) ، وأصل الحديث عند البخاري ومسلم.(3/223)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
الخلوة به تعالى، والمناجاة معه دون الناس، فيعطي الخلوة به والمناجاة في القيامة، فيكون مقامًا محمودًا، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم. وأجلُّهم فيه درجةً: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامد ما لم يُعط قبل، ويُشَفَّع فيَشْفَع. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وقد يقال: إن ذلك مرتب على قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ..) الآية، ولا يخص بقيام الليل، والصلاةُ، مطلقًا مفاتحةٌ للدخول على الله ومناجاةٌ له، ولذلك جاء في حديث الشفاعة افتتاحه بأن «يخر ساجدًا حامدًا، فيؤذن حينئذ بالشفاعة» . ومن تواضع رفعه الله. هـ.
الإشارة: قوم اعتنوا بإقامة صلاة الجوارح، وهم: الصالحون الأبرار، وقوم اعتنوا بإقامة صلاة القلوب، التي هي الصلاة الدائمة، وهم العارفون الكبار، وقوم اعتنوا بسهر الليل في الركوع والسجود، وهم العباد والزهاد والصالحون، أولوا الجد والاجتهاد. وقوم اعتنوا بسهره في فكرة العيان والشهود، وهم المقربون عند الملك الودود.
الأولون يُوفون أجرهم على التمام بالحور والولدان، والآخرون يُكشف لهم الحجاب ويتمتعون بالنظر على الدوام، الأولون محبون، والآخرون محبوبون، الأولون يشفعون في أقاربهم ومن تعلق بهم، والآخرون قد يشفع واحد منهم في أهل عصره. وما ذلك على الله بعزيز.
ولما أمره بالقيام بوظائف العبودية، أمره بالتعلق فى أموره كلها بالربوبية، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 80 الى 81]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلْ يا محمد: رَبِّ أَدْخِلْنِي في الأمور كلها مُدْخَلَ صِدْقٍ بأن أدخل فيها بك لا بنفسي، وَأَخْرِجْنِي منها مُخْرَجَ صِدْقٍ كذلك، مصحوبًا بالفهم عنك، والإذن منك في إدخالي وإخراجي. وقيل: أدخلني قبري مدخل صدق راضيًا مرضيًا، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، أي: إخراجًا مرضيًا مُلقى بالكرامة. فيكون تلقينًا للدعاء بما وعده من البعث، المقرون بالإقامة للمقام المحمود، التي لا كرامة فوقها. وقيل: المراد: إدخال المدينة، والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله- عليه الصلاة والسلام- مكة ظاهرًا عليها، وإخراجه منها آمنًا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار، وإخراجه منه سالمًا. وقيل: إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة، وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل: إدخاله في كل ما يلائمه من مكان أو أمر، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية، بحيث يدخل بالله ويخرج بالله. وهو الراجح كما قدمناه.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من مستبْطَن أمورك، سُلْطاناً نَصِيراً أي: حجة ظاهرة، تنصرني على من يخالفني ويعاديني، أو: عزًا ناصرًا للإسلام، مظهرًا له على الكفر. فأجيبتْ دعوته- عليه الصلاة والسلام-(3/224)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
بقوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «2» ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... «3» الآية، وبقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ... «4» الآية. وذلك حين يظهر الحق، ويزهق الباطل، كما قال: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي: الإسلام أو الوحي، وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب، وهلك الكفر والشرك، وتسويلات الشيطان إِنَّ الْباطِلَ كائنًا ما كانَ زَهُوقاً أي: شأنه أن يكون مضمحلاً غير ثابت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح، وحَوْلَ البَيْتِ ثَلاثُمِائةٍ وَسِتُّون صَنَمًا، فَجَعَل يَطْعَنُ بمخْصَرةٍ «5» كانت بيَده في عين كُل واحد، ويقول: جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ، فَيَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ، حَتَّى أَلْقَى جمِيعها، وَبَقِيَ صَنَمُ خُزَاعَة فوْقَ الكَعْبَةِ، وكَانَ من صُفْرٍ، «6» فقال:
يا عَلِيُّ، ارْمِ بِهِ فصعَدَ إليه، ورَمَى به، فَكَسَرَهُ «7» . هـ.
الإشارة: إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس، وصارت معشش قلوبهم كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة، بل دخلوا في ذلك بالله ولله، ومن الله وإلى الله، كما في الحكم. ثم قال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني، وانقيادي إليك إذا أخرجتني. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ينصرني ولا ينصر عليّ، ينصرني على شهود نفسي، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها، ويفنيني عن دائرة حسي، حتى تتسع عليّ دائرة المعاني عندي، وأفضي إلى فضاء الشهود والعيان، فحينئذ يَزهق الباطل، وهو ما سوى الله، ويجيء الحق، وهو وجود الحق وحده، فأقول حينئذ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، وإنما أثبته الوهم والجهل، وإلا فلا ثبوت له ابتداء وانتهاء.
وثبوت الوهم والجهل فى القلب: مرض من الأمراض، وشفاؤه فى التمسك بما جاء به القرآن العظيم، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
__________
(1) من الآية 56 من سورة المائدة. [.....]
(2) من الآية 33 من سورة التوبة.
(3) من الآية 55 من سورة النور.
(4) الآيتان: 171- 172 من سورة الصافات.
(5) المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده، فيمسكه من عصا ونحوها ... انظر: مختار الصحاح، (خصر) .
(6) أي: من نحاس.
(7) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الإسراء) ، ومسلم فى (الجهاد، باب فتح مكة) .(3/225)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قلت: (مِنَ) : للبيان، قدمت على المُبيّن اعتناء، فالقرآن كله شفاء. وقيل: للتبيعض، والمعنى: أن منه ما يشفي من المرض الحسي، كالفاتحة وآية الشفاء، ومن المرض المعنوي، كآيات كثيرة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ لما في الصدور، ومن سقام الريب والجهل، وأدواء الأوهام والشكوك، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ به، العالِمين بما احتوى عليه من عجائب الأسرار وغرائب العلوم، المستعملين أفكارهم وقرائحهم في الغوص على درره ويواقيته، أي: وننزل ما هو تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم، ورفع الأوهام والشكوك عنهم، كالدواء الشافي للمرض، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن لا شفاه الله» «1» . وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الكافرين المكذبين، الواضعين الأشياء في غير محلها، مع كونه في نفسه شفاء من الأسقام، إِلَّا خَساراً إلا هلاكًا بكفرهم وتكذيبهم به. ولا يفسر الخسران هنا بالنقصان فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يُعبّر عنه بالهلاك، لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام، فهم في الزيادة في مراتب الهلاك، من حيث إنهم، كلما جدّدوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة ازدادوا بذلك هلاكًا.
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد، بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك، وإسناد زيادة الخسران إلى القرآن، مع أنهم هم المزدادون في ذلك بسوء صنيعهم باعتبار كونه سببًا لذلك، حيث كذَّبوا به، وفيه تعجيب من أمره حيث جعله مدار الشفاء والهلاك. قاله أبو السعود.
الإشارة: لا يحصل الاستشفاء بالقرآن إلا بعد التصفية والتطهير للقلب، بالتخلية والتحلية، على يد شيخ كامل، عارف بأدواء النفوس، حتى يتفرغ القلب من الأغيار والأكدار، ويذهب عنه وساوس النفوس وخواطر القلوب ليتفرغ لسماع القرآن والتدبر في معانيه. وأما إن كان القلب محشوًا بصور الأكوان، مصروفًا إلى الخواطر والأغيار، لا يذوق له حلاوة، ولا يدري ما يقول، فلا يهتدي لما فيه من الشفاء، إذ لا يستشفي بالقرآن إلا من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولأجل ذلك كان من شأن شيوخ التربية أن يأمروا المريد بالذكر المجرد، حتى تُشرق عليه أنواره، وتذهب به عنه أغياره. وحينئذ يأمره بتلاوة القرآن ليذوق حلاوته، فإذا كمل تطهيره، تمتع بحلاوة شهود المتكلم، فيسمعه من الحق بلا واسطة، وهو المراد بالرحمة المذكورة بعد الشفاء. والله تعالى أعلم.
وَإِذَا أدرك العبد هذه النعمة العظمى، وجب عليه دوام الشكر، كما نبّه عليه تعالى بذكر ضدها، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 84]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
__________
(1) عزاه فى الكنز (281106) للدارقطني فى الأفراد، عن أبى هريرة رضي الله عنه.(3/226)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والعافية والنعمة، أَعْرَضَ عن ذكرنا، فضلاً عن القيام بالشكر، وَنَأى أي: تباعد بِجانِبِهِ لوى عطفه وبعد بنفسه. فالنأي بالجانب: أن يلوي عن الشيء عِطفَه ويوليه عُرض وجهه، فهو تأكيد للإعراض. أو عبارة عن التكبر لأنه من ديدن المستكبرين، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من فقر، أو مرض، أو نازلة من النوازل، كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روحنا وفرجنا. وفي إسناد المسِّ إلى الشر، بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة إيذان بأن الخير مراد بالذات، والشر ليس كذلك. وهذا الوصف المذكور هنا هو وصف للإنسان باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذا الوصف، ولا ينافيه قوله تعالى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «1» ، ونظائره فإن ذلك في نوع آخر من جنس الإنسان. وقيل: أريد به الوليد بن المغيرة.
قال تعالى: قُلْ كُلٌّ أي: كل واحد منكم وممن هو على خلافكم يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على طريقته التي تُشاكل حاله من الهُدى والضلالة، فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي: فربكم، الذي يراكم على هذه الأحوال والطرق، أعلم بمن هو أسَدْ طريقًا وأبين منهاجًا. وقد فسرت الشاكلة أيضًا بالطبيعة والعادة والدين والنية.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يمعن النظر في كلام سيده، فإذا وجده مدَحَ قومًا بعمل، بادر إلى فعله، أو بوصف، بادر إلى التخلق به، وإذا وجده ذم قومًا، بسبب عمل، تباعد عنه جهده، أو بوصف تطهر منه بالكلية. وقد ذم الحق تعالى هنا من بطر بالنعمة وغفل عن القيام بشكرها، ومن جزع عند المصيبة وأيس من ذهابها، فليكن المؤمن على عكس هذا، فإذا أصابته مصيبة أو بلية تضرع إلى مولاه، ورجى فضله ونواله، وإذا أصابته نعمة دنيوية أو دينية أكثر من شكرها، وشهد المنعم بها في أخذها وصرفها، ولا سيما نعمة الإيمان والمعرفة، وتصفية الروح من غبش الحس والوهم، حتى ترجع لأصلها، الذي هو سر من أسرار الله، الذي أشار إليه بقوله تعالى:
[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ أي: عن حقيقة الروح، الذي هو مدبر البدن الإنساني، ومبدأ حياته. رُوي أن اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح،
__________
(1) من الآية 51 من سورة فصلت.(3/227)
فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي. فبيَّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة، فقال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، أظهر في مقام الإضمار إظهارًا لكمال الاعتناء بشرفه، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية، التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب، قال عليه الصلاة والسلام: «بل نحن وأنتم» . فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «1» ، وتارة تقول هذا، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «2» الآية. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... «3» الآية.
وهذا من ركاكة عقولهم فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية، بل ما نيط به المعاش والمعاد، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه، قليل ينال به خير: كثير في نفسه.
وقال ابن حجر: أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد وإنما الروح من الله؟. هـ. قلت: يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري: أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ «الرُّوحِ» يدخل تحت قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، ثم قال: وفي الجملة: الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل: إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، وضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق. هـ. وقيل: المراد بالروح: خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة، وقيل: جبريل عليه السلام، وقيل:
القرآن. ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من وحيه وكلامه، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.
الإشارة: قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا، فتكلم على قدر فهمه. فقال بعضهم: حقيقة الروح: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربّه» : قد ظهر
__________
(1) من الآية 269 من سورة البقرة.
(2) من الآية 109 من سورة الكهف.
(3) من الآية 27 من سورة لقمان، وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف للثعلبى فى التفسير، بغير سند ولا راو.(3/228)
لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه، وهو: أن الله، سبحانه، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية، لطيفة لاهوتية، في كثيفة ناسوتية، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه: الأول: أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني: لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» ، الثالث: لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته.
الرابع: لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. الخامس: لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة لأنه منزه عن ذلك. السادس: لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال. السابع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية.
الثامن: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية، بل الروح موجود في سائر الجسد، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان، وتنزه عن المكان والزمان. التاسع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر، ولا يمثل بالصور، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصارُ، ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» . هـ. وحديث «من عرف نفسه ... »
الخ، قال النووي: غير ثابت، وقال السمعاني: هو من كلام يحيى ابن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي؟ قال: نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت: «بلى» .
قلت: لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي: الروح: شعاع الحقيقة، يختلف آثارها في الأجساد. قال: ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن، وكل صوت طيب، وكل رائحة طيبة لحسن جوهرها وروح وجودها، ظاهرها غيب الله، وباطنها سر الله، مصورة بصورة آدم، فإذا أراد الله
__________
(1) من الآية 22 من سورة الأنبياء.
(2) من الآية 11 من سورة الشورى.(3/229)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
خلق آدمي أحضر روحه، فصور صورته بصورة الروح فلذلك قال عليه الصلاة والسلام إشارة وإبهامًا: «خلق الله آدم على صورته» . هـ. قلت: يعني: أن إظهار الروح من بحر الجبروت، في التجلي الأول، كان على صورة آدم، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم، وهو التجلي الأول من بحر المعاني، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن، فقال في حديث آخر: «إنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن» . والله تعالى أعلم. وقيل: الصوت الطيب روحاني، ولتشاكله مع الروح، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها، إذا كان صاحبها له ذوق سليم، يسمع من صوت طيب كريم. سمع أبو يزيد نغمة، فقال: أجد النغم نداء منه تعالى. وقيل: إن الروح لم تدخل في جسد آدم إلا بالسماع، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن قوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
قلت: قال ابن جزي: هذه الآية متصلة المعنى بقوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي: في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم. هـ. (إلا رحمة) : يحتمل أن يكون متصلاً، أي: لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك. أو منقطعًا، أي: لو شئنا لذهبنا بالقرآن، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب، و (لا يأتون) : جواب القسم الدال عليه اللام الموطئة، وسد مسد جواب الشرط. ولولا اللام لكان جوابًا للشرط، ولم يُجزَمْ لكون الشرط ماضيًا، كقول زهير:
فإن أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسألَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لي وَلاَ حَرَمُ «1»
و (إلا كفورًا) : استثناء مفرغ منصوب بأَبَى لأنه في معنى النفي، أي: ما رضي أكثرهم إلا الكفر به.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أُوتيتموها، ومقتبس الأنوار، فلا يبقى عندكم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. والمراد بالإذهاب: المحو من المصاحف
__________
(1) انظر ديوانه/ 91. [.....](3/230)
والصدور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (أول ما تفقدون من دينكم: الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ولا دين لهم. وإن هذا القرآن تصبحون يومًا وما فيكم منه شيء. فقال رجل: كيف ذلك، وقد أثبتناه في قلوبنا، ودونّاه في مصاحفنا، وعلمناه أبناءنا، وأبناؤنا يعلمه أبناءهم؟! فقال: يسري عليه، ليلاً، فيُصبح الناس منه فقراء، ترفع المصاحف، وينزع ما في القلوب) «1» . ثُمَّ إن رفعناه لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي: القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا أي: من يتوكل علينا استرداده مسطورًا محفوظًا، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فإنها إن تأتك لعلها تسترده، أو: لكن رحمة من ربك أمسكته فلم يذهب. إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً، كإرْسالك للناس كافة، وإنزال الكتاب عليك، وإنعامه في حفظك، وغير ذلك مما لا يحصى.
ثم نوّه بقدر الكتاب الذي أنزله فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، واتفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة، وحسن النظم، وكمال المعنى، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أبدًا لما تضمنه من العلوم الإلهية، والبراهين الواضحة، والمعاني العجيبة، التي لم يكن لأحد بها علم، ثم جاءت فيه على الكمال، ولذلك عجزوا عن معارضته. وقال أكثر الناس: إنما عجزوا عنه لفصاحته، وبراعته، وحسن نظمه. ووجوه إعجازه كثيرة. وإنما خص الثقلين بالذكر لأن المنكر كونه من عند الله منهما، لا لأنَّ غيرهما قادر على المعارضة. وإنما أظهر في محل الإضمار، ولم يقل: لا يأتون به لئلا يتوهم أن له مثلاً معينًا، وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثَلٍ مَّا، أي: لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة، وفيهم العرب العاربة، أرباب البراعة والبيان. فلا يقدرون على الإتيان بمثله وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي: ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا. وهو عطف على مقدّر، أي: لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض، ولو كان.. الخ. ومحله النصب على الحالية، أي: لا يأتون بمثله على كل حال مفروض، ولو على هذه الحالة.
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي: كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة، توجب زيادة تقرير وبيان، ووكادة رسوخ واطمئنان، لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى بديع، هو، في الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس، كالمثل ليتلقوه بالقبول، أو بيَّنَّا لهم كل شيء محتاجون إليه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من
__________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الأمانات../ 5273) ببعض الاختصار موقوفا.(3/231)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
المعاني والعلوم، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلا جحودًا وامتناعًا من قبوله. وفيه من المبالغة ما ليس في نفي مطلق الإيمان لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود، وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية، فإنّ القلوب بيد الله، يُقلبها كيف يشاء. والخصوصية أمانة مودعة في القلوب، فإذا شاء رفعها رفَعها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره. وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء، ويشدون أيديهم على الأدب لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية، والعياذ بالله.
قال القشيري: سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال: والمرادُ والمقصودُ: إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
ثم أظهر الحق تعالى جحودهم وعتوهم، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 96]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)(3/232)
قلت: من قرأ «كِسَفاً» بالتحريك: فهو جمع. ومن قرأ بالسكون: فمفرد. و (قَبِيلًا) : حال من «الله» . وحذف حال الملائكة لدلالة الأول عليه. و (أَنْ يُؤْمِنُوا) : مفعول ثان لمنَع. و (إِلَّا أَنْ قالُوا) : فاعل «مَنَعَ» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش، عند ظهور عجزهم، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي، وغيره من المعجزات الباهرة، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده، ولا تقتضي الحكمة وقوعه، من الأمور الخارقة للعادة، كما هو ديدن المبهوت المحجوج، قالوا للنبى- عليه الصلاة والسلام- في جمع من أشرافهم:
إن مكة قليلة الماء، ففجر لنا فيها عينًا من ماء، وهو معنى قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة يَنْبُوعاً عينًا لا ينشف ماؤها. وينبوع: يفعول، من نبع الماء إذا خرج.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي: بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة، مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي: تجريها بقوة، خِلالَها في وسطها تَفْجِيراً كثيرًا، والمراد: إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها، أو إدامة إجرائها، كما ينبىء عنه «الفاء» ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» قطعًا متعددة، أو قطعًا واحدًا، و (كَما زَعَمْتَ) : يعنون بذلك قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «2» ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي: مقابلاً نُعاينه جهرًا، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي: ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة: الزينة، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي: في معارجها فحذف المضاف. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي: لأجل رُقيك فيها وحده حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً فيه تصديقك، نَقْرَؤُهُ نحن، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه: قال عبد الله بن أميّة لرسول صلى الله عليه وسلم- وكان ابن عمته-: لن أؤمن لكَ حَتَّى تتَّخذَ إلى السماء سُلَّمًا، ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتَّى تأتيها، وتأتي معك بصك منشور، معه أربعة من الملائِكَةِ يَشْهَدُونَ أنك كما تقول. هـ. ثم أسلم عبد الله بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد كان يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات، التي تخرّ لها صُم الجبال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام-: قُلْ تعجبًا من شدة شكيمتهم. وفي رواية «قال» : سُبْحانَ رَبِّي تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته. أو تنزيهًا لساحته- سبحانه- عما لا يليق بها، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة، التي تكاد السموات يتفطرن منها، أو عن طلب ذلك، تنبيهًا على بطلان ما قالوه، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً لا مَلَكًا، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه، رَسُولًا مأمورًا من قِبل ربى
__________
(1) قرأ نافع وابن عامر وعاصم: (كسفا) بفتح السين، أي: قطعاً، جمع كِسْفة، وقرأ الباقون: بسكون السين على التوحيد، جمع «كسفة» كسدرة وسدر. انظر: شرح الهداية (2/ 390) ، والإتحاف (2/ 205) .
(2) من الآية 9 من سورة سبأ.(3/233)
بتبيلغ الرسالة، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم، حسبما يلائم حال قومهم، ولم يكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي: الذين حكِيتْ أباطيلهم، أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي: الوحي، وهو ظرف لمنع، أو يؤمنوا، أي: وما منعهم وقت مجيئ الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك، إِلَّا أَنْ قالُوا أي: إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم فمنع بعضًا آخر منهم، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر، مع أن لهم موانع شتى، إما لأنه معظمها، أو لأنه المانع بحسب الحال، أعني: عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
قُلْ لهم من قِبَلنا تثبيتًا للحكمة، وتحقيقًا للحق المزيح للريب: لَوْ كانَ أي: لو وُجد واستقر فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ قارين ساكنين فيها، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يهديهم إلى الحق لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيدة بالقوة القدسية، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وكفى به شهيدًا، ولم يقل: بيننا تحقيقًا للمفارقة، وإبانة للمباينة، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ من الرسل والمرسل إليهم، خَبِيراً بَصِيراً محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها، فيجازيهم على ذلك. وهو تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول- عليه الصلاة والسلام- وتهديد للكفار، والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية، وسوء الظن بهم، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا، فلا كرامة أعظم من(3/234)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
هذه؟ وكلامنا مع العارفين، وأما الصالحون والعباد والزهاد فهم محتاجون إلى الكرامة ليزداد إيقانهم، وتطمئن نفوسهم إذ لم يرتفع عنهم الحجاب، ولم تنقشع عنهم سحابة الأثر.
والهداية بيد الله، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 98]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
قلت: (عَلى وُجُوهِهِمْ) : حال من ضمير «نحشرهم» . و (عُمْياً..) الخ: حال أيضًا من ضمير «وُجُوهِهِمْ» .
و (مَأْواهُمْ) : استئناف، وكذا: (كُلَّما..) الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدي الرسل، فَهُوَ الْمُهْتَدِ إليه، وإلى ما يؤدي إليه من الثواب، أو فهو المهتدي إلى كل مطلوب، وَمَنْ يُضْلِلْ أي: يخلق فيه الضلال، كهؤلاء المعاندين، فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ينصرونهم من عذابه، أو يُهدونهم إلى طريقه، ويُوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولاً في قوله: (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) : مراعاة للفظ «من» ، وجمع ثانيًا في (لَهُمْ) مراعاة لمعناها تلويحًا بوحدة طريق الحق، وتعدد طرق الضلال.
وَنَحْشُرُهُمْ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إيذانًا بكمال الاعتناء بأمر الحشر، أي: ونسوقهم يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي: كابين عليها سَحْبًا، كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» ، أو: مشيًا إلى المحشر بعد القيام، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «الذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» «2» . حال كونهم عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا لا يُبصرون ما يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يُقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، لمَّا كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يُحشروا، بعد الحساب، من الموقف إلى النار، مَؤُوفي «3» القوى والحواس. وأن يُحشروا كذلك، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم، فإنَّ إدراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه.
__________
(1) من الآية 48 من سورة القمر.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 3554) ، والترمذي وحسنه فى (التفسير- سورة الإسراء) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(3) مؤوفى: صيغة جمع مضافة، من الآفة، وهى العاهة. وأيف الزرع: أصابته آفة، فهو مؤوف على وزن: معوف. انظر مختار الصحاح (أوف) .(3/235)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ هي مسكنهم، كُلَّما خَبَتْ خمدت زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدًا، أي: كلما سكن لهبها، وأكلت جلودهم ولحومهم، ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه، زدناهم توقدًا بأن بدلناهم جلودًا غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة. ولعل ذلك عقوبة على إنكارهم البعث مرة بعد مرة، ليروها عيانًا، حيث لم يعلموها برهانًا، كما يُفصح عنه قوله: ذلِكَ أي: ذلك العذاب جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا العقلية والنقلية، الدالة على وقوع الإعادة دلالة واضحة. وَقالُوا منكرين البعث أشد الإنكار: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي: أنوجدُ خلقاً جديداً بعد أن صِرنا ترابًا؟ و «خَلْقاً» : إما مصدر مؤكد من غير لفظه، أي: لمبعوثون مبعثًا جديدًا، أو حال، أي: مخلوقين مستأنفين.
الإشارة: من يهده الله إلى صريح المعرفة وسر الخصوصية فهو المهتد إليها، يهديه أولاً إلى صحبة أهلها، فإذا تربى وتهذب أشرقت عليه أنوارها. ومن يُضلله عنها، فلا ينظر ولا يهتدي إلى صحبة أهلها، فيُحشر يوم القيامة محجوبًا عن الله، كما عاش محجوبًا. يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، لا يُبصر أسرار الذات في مظاهر النعيم، ولا ينطق بالمكالمة مع الرحمن الرحيم، ولا يسمع مكالمة الحق مع المقربين وذلك بسبب إنكاره لأهل التربية في زمانه، وقال: لا يمكن أن يبعث الله من يحيي الأرواح الميتة بالجهل بالمعرفة الكاملة.
وفيه إنكار لعموم القدرة الأزلية، وتحجير على الحق. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل عموم قدرته، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 99 الى 100]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
قلت: (وَجَعَلَ) : عطف على «قادِرٌ» لأنه في قوة قدر، أو استئناف. و (لَوْ أَنْتُمْ) : الضمير: فاعل بفعل يُفسره ما بعده، كقول حاتم:
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْني «1» .
وفائدة ذلك الحذف والتفسير للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل في إعرابه غير هذا.
__________
(1) مثل لحاتم الطائي، انظر ديوانه (26) .(3/236)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أوَ لم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من غير مادة، مع عِظمها، قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصِّغر والحقارة. على أن المثل مقحم، أي: على أن يخلقهم خلقًا جديدًا فإنهم ليسوا أشد خلقًا منهم، ولا الإعادة بأصعب من الإبداء، وَجَعَلَ لَهُمْ أي: لموتهم وبعثهم أَجَلًا محققاً لا رَيْبَ فِيهِ وهو: القيامة. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا، وضع الظاهرَ موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه.
قُلْ لهم: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم، خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مخافة النفاد بالإِنفاق، إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه، ولو آثر غيره بشيء فإنما يُؤثره لغرض يفوقه، فهو إذًا بخيل بالإضافة إلى جود الله سبحانه، إلا من تخلق بخلق الرحمن من الأنبياء وأكابر الصوفية. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغًا في البخل لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعني: أن طبع الإنسان ومنتهى نظره: أن الأشياء تتناهى وتفنى، وهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو يخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الأرزاق ما يريد، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
قلت: ويمكن أن تتصل في المعنى بقوله: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا) ، فكأن الحق تعالى يقول لهم: لو كانت بيدكم خزائن رحمته، لخصصتم بالنبوة من تريدون، لكن ليست بيدكم، ولو كانت بيدكم تقديرًا، لأمسكتم خشية الإنفاق لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر، فهو كقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ «1» ، بعد قوله: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ «2» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالمَ في لحظة، وأن يفنى ألف عالم في لحظة، فلا يعجزه شيء من الممكنات. وكما قدر أن يحيي الإنسان بعد موته الحسي هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة، على حسب ما سَبق له في المشيئة، وجعل لذلك أجلاً لا ريب فيه، فلا يجحد هذا إلا مَن كان ظالماً كفورًا.
قل لمن يخصص الولاية بنفسه، أو بأسلافه، ويُنكر أن يفتح الله على قوم كانوا جُهالاً: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم الخصوصية عندكم خشية أن ينفد ما عندكم، وكان الإنسان قتورًا، لا يُحب الخير إلا لنفسه.
__________
(1) الآية 9 من سورة ص.
(2) الآية 4 من سورة ص.(3/237)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلم عما اقترحوا عليه من الآيات تشغيبا وعنادا، بما جرى لموسى عليه السّلام مع قومه، بعد ظهور الآيات، فلم تنفعهم شيئا، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
قلت: قال في الأساس: ثبره الله: أهلكه هلاكًا دائمًا، لا ينتعش بعده، ومن ثَم يدعو أهلُ النار: وا ثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك: ما ثبطك عنها. وهذا مثبَرُ فلانة: لمكان ولادتها، حيث يثبرها النفاس. وفي القاموس: الثبر:
الحبْسُ والمنع، كالتثبير والصرف عن الأمر وعن الحبيب، واللعن والطرد. والثبور: الهلاك والويل والإهلاك. هـ.
و (إِذا جاءَهُمْ) : إما متعلق بآياتنا، أو بقلنا محذوف.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله. وهي: العصا، واليد، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطوفان، والسنون، ونقص الثمرات. وقيل: انفجار الماء من الحجر، ونتق الطور، وانفلاق البحر، بدل الثلاث. وفيه نظر فإن هذه الثلاث لم تكن لفرعون، وإنما كانت بعد خروج سيدنا موسى عليه السلام. وعن صفوان بْن عسال: أن يهوديًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «ألاَّ تُشركوا به شَيْئًا، ولا تَسْرقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحَقِّ، ولا تَسْحُروا، ولا تأكُلُوا الرِّبَا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سُلْطَانٍ ليَقْتُلَهُ، ولا تَقذفُوا المُحْصَنَة، ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وعليكم، خاصَّة اليهود، ألاَّ تَعْدُوا في السَّبْتِ» . فقبَّل اليهوديُ يَدَه ورجْلَه- عليه الصلاة والسلام «1» .
قلت: ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعًا، وكلفهم بتسع، شكرًا لما أظهر لهم، فأخبر- عليه الصلاة والسلام- السائل عما كلفهم به لأنه أهم، وسكت عما أظهر لهم لأنه معلوم. وإنما قبَّل السائلُ يده لموافقته لما في التوراة، وقد علم أنه ما عَلِمَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا بالوحى، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وعليكم، خاصة اليهود، ألا تعدوا» ، حكم مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غيَّر فيه سياق الكلام.
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (الاستئذان، باب ما جاء فى قبلة اليد والرجل) ، وقال: حسن صحيح. والنسائي فى (تحريم الدم، باب السحر) ، والإمام أحمد (4/ 239) والحاكم وصححه فى (الإيمان 1/ 9) .(3/238)
قال تعالى: فَسْئَلْ «1» بَنِي إِسْرائِيلَ أي: سل، يا محمد، بني إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى لتزداد يقينا وطمأنينة، أو: ليظهر صدقك لعامة الناس، أو: قلنا لموسى: سل بني إسرائيل مِن فرعون، أي: اطلبهم منه ليرسلَهم معك، أو سل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم «فسل» على صيغة الماضي، بغير همز، وهي لغة قريش. إِذْ جاءَهُمْ أي: آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة، أو قلنا له: سل بني إسرائيل حين جاءهم بالوحي. فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ حين أظهر له ما آتيناه من الآيات، وبلغة ما أرسل به: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي: سُحرت فتخبط عقلك.
قالَ له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون، ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التي ظهرت على يدي إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومدبرهما، ولا يقدر عليها غيره، حال كونها بَصائِرَ بينات تبصرك صدقي، ولكنك تعاند وتكابر، وقد استيقنتها أنفسكم، فجحدتم ظلمًا وعلوًا، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي: مهلكًا مقطوعًا دابرك، أو مغلوبًا مقهورًا، أو مصروفًا عن الخير. قابل موسى عليه السلام قول فرعون:
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً بقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً وشتان ما بين الظنين ظنُّ فرعون إفك مبين، وظن موسى حق اليقين لأنه بوحي من رب العالمين، أو من تظاهر أماراته.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي: يستخفهم ويزعجهم مِنَ الْأَرْضِ أرض مصر، فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فعكسنا عليه علمه ومكره، فاستفززناه وقومه من بلده بالإغراق. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم هو منها. أو أرض الشام. وهو الأظهر، إذ لم يصح أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بالسكنى. وانظر عند قوله: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «2» فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: الحياة الآخرة، أو الدار الآخرة، أي: قيام الآخرة، جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً مختلطين إياكم وإياهم، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم. واللفيف: الجماعات من قبائل شتى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينفع في أهل الحسد والعناد ظهور معجزة ولا آية، ولا يتوقف عليها مَن سبقت له العناية، لكنها تزيد تأييدًا، وطمأنينة لأهل اليقين، وتزيد نفورًا وعنادًا، لأهل الحسد من المعاندين. وبالله التوفيق.
__________
(1) قرأ ابن كثير والكسائي: «فسل» بنقل حركة الهمزة إلى السين. وقرأ الباقون: (فَسْئَلْ) . انظر الإتحاف 2/ 206.
(2) الآية 59 من سورة الشعراء.(3/239)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
ولما ذكر آية موسى عليه السّلام ذكر آية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قلت: تقديم المعمول، وهو (بِالْحَقِّ) : يُؤذن بالحصر. و (قُرْآناً) : مفعول بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحق جلّ جلاله في شأن القرآن: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي: ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسًا بالحق، المقتضي لإنزاله، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهي، والمعنى: أنزلناه حقًا مشتملاً على الحق. أو: ما أنزلناه من السماء إلا محفوظًا بالرصَد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظًا من تخليط الشياطين. ولعل المراد: عدم اعتراء البطلان له أولاً وآخرًا. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيعين بالثواب، وَنَذِيراً للعاصين بالعقاب، وهو تحقيق لحقية بعثه- عليه الصلاة والسلام- إثر تحقيق حقية إنزال القرآن.
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي: أنزلناه مفرقًا مُنَجّماً في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين. قال القشيري: فرَق القرآن ليهون حفظه، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه، وليكون نزوله في كل وقت، وفي كل حادثة وواقعة دليلاً على أنه ليس مما أعانه عليه غيره. هـ. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ على مهلٍ وتؤدة وتثبتٍ فإنه أيسر للحفظ، وأعون على الفهم، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والحوادث الواقعة.
قُلْ للذين كفروا: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، فإنَّ إيمانكم لا يزيده كمالاً، وامتناعكم منه لا يزيده نقصانًا. أو: أُمِرَ باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم، كأنه يقول: سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا لأنكم لستم بحجة، وإنما الحجة لأهل العلم، وهم: المؤمنون من أهل الكتاب، الذين أشار إليهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي: العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي: يسقطون على وجوههم سُجَّداً تعظيمًا لأمر لله، أو شكرًا لإنجازه ما وعد في تلك الكتب من نعتك، وإظهارك، وإنزال القرآن عليك.
والأذقان: جمع ذقن، وهو: أسفل الوجه حيث اللحية. وخصها بالذكر لأنها أول ما تلقى في الأرض من وجه الساجد. والجملة: تعليل لما قبلها من قوله: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة. والمعنى: إن لم تؤمنوا(3/240)
فقد آمن منْ هو أعلى منكم وأحسن إيمانًا منكم. ويجوز أن يكون تعليلاً لقُل، على سبيل التسلية للرسول- عليه الصلاة السلام، كأنه يقول: تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة، ولا تكثرت بإيمانهم وإعراضهم.
وَيَقُولُونَ في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا عن خلْف وعده إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي: إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولاً لا محالة، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كرره لاختلاف السبب، فإن الأول: لتعظيم الله وشكر إنجاز وعده. والثاني: لِمَا أثر فيهم من مواعظ القرآن، يَبْكُونَ: حال، أي: حال كونهم باكين من خشية الله، وَيَزِيدُهُمْ القرآنُ خُشُوعاً، كما يزيدهم علمًا بالله تعالى.
الإشارة: وبالحق أنزلناه، أي بالتعريف بأسرار الربوبية، وبالحق نزل لتعليم آداب العبودية. أو: بالحق أنزلناه، يعني: علم الحقيقة، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة. وما أرسلناك إلا مبشرا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص، ونذيرًا لأهل الخوض بالطرد والبعد. وقرآنا فرقناه، لتقرأه نيابة عنا، كي يسمعوه منا بلا واسطة، عند فناء الرسوم والأشكال، ونزّلناه، للتعريف بنا تنزيلاً، قل آمنوا به لتدخلوا حضرتنا، أو لا تؤمنوا، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه، خاشعون عند تلاوته، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان القرآن مشتملاً على أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه:
«يا الله، يا رحمن» ، قالوا: إنه ينهانا عن عبادة إلهين، وهو يدعو إلهًا آخر. وقالت اليهود: إنك لتُقل ذكر الرحمن، وقد أكثر الله تعالى ذكره في التوراة، فأنزل الله ردًا على الفريقين:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ...
قلت: «أي» : شرطية، و (ما) : زائدة تأكيدًا لما في «أيًّا» من الإبهام، وتقدير المضاف: أيَّ الأسماء تدعو به فأنت مُصيب.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلِ يا محمد للمؤمنين: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ نادوه بأيهما شئتم، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد: إما التسوية بين اللفظين فإنهما عبارتان عن ذاتِ واحد، وإن اختلف الاعتبار، والتوحيد إنما هو للذات، الذي هو المعبود بالحق، وإما أنهما سيان في حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود، فلذلك قال: أَيًّا ما تَدْعُوا أىّ اسم تدعوا به تصب، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فيكون الجواب محذوفًا، دلَّ عليه الكلام. وقيل: التقدير أياما تدعو به فهو حسن، فوضع موضعه: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع الأسماء يستدعي حسن ذَيْنِك الاسمين، وكونها حسنى لدلاتها على صفات الكمال من الجلال والجمال إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها، وكمالها جمالاً وجلالاً.(3/241)
قال في شرح المواقف: ورد في الصحيحين: «إنَّ للهِ تِسعَةً وتِسعِينَ اسْمًا، مائَةً إلاَ وَاحِدًا، مَن أحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» «1» ، وليس فيها تعيين تلك الأسماء. لكن الترمذي والبيهقي عيَّناها. وهي الطريقة المشهورة، ورواية الترمذي: «اللهَ الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ المصور، الغفار القهار، الوهاب الرزاق، الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب، المجيب، الواسع الحكيم، الودود المجيد، الباعث الشهيد، الحق الوكيل، القوي المتين، الولي الحميد، المحصي المبدئ المعيد، المحيي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد، الأحد الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعالي، البر التواب، المنتقم العفو الرؤوف، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني المغني المانع، الضار النافع، النور الهادي، البديع الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» «2» .
وقد ورد التوقيف بغيرها، أمَّا في القرآن فكالمولى، والنصير والغالب، والقاهر والقريب، والرب والأعلى، والناصر والأكرم، وأحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وذي الطول، وذي القوة، وذي المعارج، وغير ذلك. وأما في الحديث، فكالمنان، والحنان، وقد ورد في رواية ابن ماجة «3» أسماء ليست في الرواية المشهورة كالقائم، والقديم، والوتر، والشديد، والكافي، وغيرها.
وإحصاؤها: إما حفظها لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارًا، وإما ضبطها حصرًا وعلمًا وإيمانًا وقيامًا بحقوقها، وإما تعلقًا وتخلقًا وتحققًا. وقد ذكرنا في شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلُّق والتخلق والتحقق بها.
وفي ابن حجر: أن أسماء الله مائة، استأثر الله بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يُطلع عليه أحدًا، فكأنه قيل: مائة لكن واحد منها عند الله. وقال غيره: ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيًا، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي، فقال: الأسماء الحسنى مائة، على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة: «الله» ، ويؤيده قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «4» . فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. هـ.
__________
(1) أخرجه البخاري (الدعوات، باب لله مائة اسم غير واحد) ، ومسلم فى (الذكر، باب فى أسماء الله تعالى ... ) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الترمذي فى (الدعوات، باب 83) . وأخرج البيهقي روايته فى (السنن الكبرى، كتاب الإيمان، باب أسماء الله عز وجل ثناؤه) من حديث أبى هريرة. [.....]
(3) أخرجها فى (الدعاء، باب أسماء الله عزّ وجل) .
(4) من الآية 180 من سورة الأعراف.(3/242)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قلت: ولعله ذكر اسمًا آخر يكمل التسعة والتسعين. وإلا فهو مذكور في الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ، قال الورتجبي: إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين، اللذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات، والنعوت والأفعال فالله اسمُهُ، وهو اسمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمعِ، والرحمن اسم عين الجمع فالرحمن مندرج تحت اسمه: «الله» لأَنه عين الكل، وإذا قلت: الله ذكرت عين الكل. ثم قال: وإذا قال «الله» يفنى الكل، وإذا قال: «الرحمن» يبقى الكل، من حيث الاتصاف والاتحاد، فالاتصاف بالرحمانية يكون، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال: عن الأستاذ: من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه: أنه يُنزههم بأسرارهم في رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى، فيتنقلون من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس، ويقال:
الأغنياء تنزههم في بساتينهم، وتنزههم في منابت رياحِينهم. والفقراء تنزههم في مشاهد تسبيحهم، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. هـ. قلت: والعارفون تنزههم في مشاهدة أسرار محبوبهم، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وبالله التوفيق.
ثم أمره بإخفاء قراءته عن المشركين لئلا يسبوا القرآن ومن جاء به، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَجْهَرْ بقراءة صلاتك، بحيث تُسمع المشركين، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها، وَلا تُخافِتْ أي: تُسر بِها حتى لا تُسمع من خلفك من المؤمنين، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا واطلب بين المخافتة والإجهار طريقًا قصدًا، فإنَّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. رُوي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت، ويقول: أُنَاجِي ربِّي، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي. وعمر رضي الله عنه كان يجهر، ويقول: أطردُ الشَّيْطَانَ وأُوقِظُ الوَسْنَانَ. فلما نزلت، أَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ أَنْ يَجْهَر قليلاً، وعمر أن يَخْفِض قليلاً «1» .
وقيل: المعنى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كلها، وَلا تُخافِتْ بِها بأسرها، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا بالمخافتة نهارًا والجهر ليلاً. وقيل: (بِصَلاتِكَ) بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة لزوال علة السب واللغو
__________
(1) أخرجه بنحوه أبو داود فى (التطوع، باب فى رفع الصوت بالقراءة فى صلاة الليل) ، والترمذي فى (المواقيت، باب ما جاء فى قراءة الليل) عن أبى قتادة.(3/243)
بإظهار الدين وإخفاء الشرك وبطلانه فالحمد لله على ذلك كما قال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مدلج حيث قالوا: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله. تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهية كما تقول الثنوية القائلون بتعدد الآلهة.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي: لم يكن له ناصر ينصره (مِنَ الذُّلِّ) أي: لم يذل فيحتاج إلى ولي يُواليه ليدفع ذلك عنه. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته، دون غيره إذ بذلك يتم الكمال، وما عداه ناقص حقير، ولذلك عطف عليه: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظيمًا، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك. رُوِي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علَّمه هذه الآية: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ... ) الخ «1» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإجهار بالذكر والقراءة والدعاء، مباح لأهل البدايات، لمن وجد قلبه في ذلك، وأما النهي الذي في الآية فمنسوخ لأن الصحابة، حين هاجروا من مكة، رفعوا أصواتهم بالقراءة والتكبير. لكن المداومة عليه من شأن أهل البُعد عن الحضرة، وأما أهل القُرب فالغالب عليهم السكوت أو المخافتة قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «2» . وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبى بكر رضي الله عنه بالإجهار قليلاً، وعمر بالخفض قليلاً فإخراج لهم عن مرادهم تربيةً لهم. وختم السورة بآية العز إشارة إلى أنَّ مَن أسرى بروحه، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة في الدارين.
__________
(1) أخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يلقن الصبى إذا أفصح بالكلام) ، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
(2) من الآية 108 من سورة طه.(3/244)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
سورة الكهف
مكية. وهى مائة وإحدى عشرة آية، أو خمس عشرة. ووجه المناسبة لما قبلها: أنه لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحمد لله على كمال تنزيهه، أخبر أنه يستحق ذلك لإنعامه بأجلّ النعم، وهو إنزال الكتاب العزيز، الذي هو سبب الهداية الموصلة إلى النعيم المقيم. أو تكون تتميما لقوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ... «1» إلخ.
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
قلت: (قَيِّماً) : حال من الكتاب، والعامل فيه: «أَنْزَلَ» ، ومنعه الزمخشري للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه مضمر، تقديره: جعله قيّمًا، و «لِيُنْذِرَ» : يتعلق بأنزل، أو بقيّمًا. والفاعل: ضمير الكتاب، أو النبي صلى الله عليه وسلم، و «بَأْساً» : مفعول ثان، وحذف الأول، أي: لينذر الناس بأسًا، كما حذف الثاني من قوله: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ... ) الخ لدلالة هذا عليه، و (مِنْ عِلْمٍ) : مبتدأ مجرور بحرف زائد، أو فاعل بالمجرور لاعتماده على النفي، و «كَلِمَةً» : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: الثناء الجميل حاصل لله، والمراد: الإعلام بذلك للإيمان به، أو الثناء على نفسه، أو هما معًا. ثم ذكر وجه استحقاقه له، فقال: الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أي: الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب، وهو جميع القرآن. رتَّب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهًا على أنه أعظم نعمائه، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.
وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد، مضافًا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال، حيث كان فانيًا عن حظوظه، قائمًا بحقوقه، خالصًا فى عبوديته لربه.
__________
(1) الآية 106 من سورة الإسراء.(3/245)
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي: للكتاب عِوَجاً شيئًا من العوج، باختلافٍ في اللفظ، وتناقض في المعنى، وانحراف في الدعوة. قال القشيري: صانه عن التناقض والتعارض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز، ينزل على عَبْدٍ عزيز.
قَيِّماً: مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية، حسبما تُنبئ عنه الصيغة. أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير، فيكون وصفًا له بالتكميل، بعد وصفه بالكمال، أو: قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها. لِيُنْذِرَ: ليُخوّف اللهُ تعالى به، أو الكتاب، والأول أوْلى لتناسب المعطوفين بعده، أي: أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا بَأْساً: عذابًا شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي:
صادرًا من عنده، نازلاً من قِبَله، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
وَيُبَشِّرَ- بالتشديد والتخفيف، الْمُؤْمِنِينَ: المصدقين به، الَّذِينَ يَعْمَلُونَ أي: العُمال الصَّالِحاتِ التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه أَنَّ لَهُمْ أي: بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم أَجْراً حَسَناً، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى، ماكِثِينَ فِيهِ أي: في ذلك الأجر أَبَداً على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع في الصلة- أعني: الذين يعملون- للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً: متعلق بفرقة خاصة، ممن عمَّهُ الإنذار السابق، من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم، أي:
وينذر، من بين سائر الكفرة، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة، وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود القائلون: عزير ابن الله، والنصارى القائلون: المسيح ابن الله.
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي: ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً لضلالهم وإضلالهم، وَلا لِآبائِهِمْ الذين قلدوهم، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة، أو: ما لهم علم بما قالوا، أصواب أم خطأ، بل إنما قالوه رميًا بقولٍ عن عمى وجهالة، من غير فكر ولا روية، كقوله تعالى: خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» . أو: ما لهم علم بحقيقة ما قالوا، وبعِظَم رتبته في الشناعة، كقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «2» ، وهو الأنسب لقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً أي: عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه لما فيه من التشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: يتفوهون
__________
(1) الآية 100 من سورة الأنعام.
(2) الآيات: 88- 90 من سورة مريم.(3/246)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً: ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً.
الإشارة: من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمن، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
ولمّا كانت قريش تتفوه بشىء من هذه الكلمات، التي شنّع الله على من تفوه بها، وكان عليه الصلاة والسلام يتأسف من ذلك، خفف عنه ذلك، وأمره بالتسلى عنهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 6 الى 8]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
قلت: (أسفًا) : مفعول من أجله لباخع، أو حال، أي: متأسفًا، وجواب «إنْ» : محذوف، أي: إن لم يؤمنوا فلعلك باخع نفسك.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَعَلَّكَ يا محمد باخِعٌ: مهلك نَفْسَكَ وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك، عَلى آثارِهِمْ إذا تولوا عنك، عند ما تدعوهم إلى الله. شبهه، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم، بمن فارقته أعزته، وهو يتحسر على آثارهم، ويبخع نفسه وجدًا عليهم. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي: القرآن الذي عبّر عنه في صدر السورة بالكتاب، صدر ذلك منك أَسَفاً أي:
بفرط الحزن والتأسف عليهم.
ثم علّل وجه إدبارهم عن الإيمان، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا، فقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأشجار والأزهار والثمار، وما اشتملت عليه من المعادن، وأنواع الملابس والمطاعم، والمراكب والمناكح، زِينَةً لَها أي: مبهجة لها، يستمتع بها الناظرون، وينتفعون بها مأكلاً وملبسًا، ونظرًا واعتبارًا، حتى إن الحيّات والعقارب من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة، من قبيل المنافع، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيثُ دلالته على الصانع، وكذلك الأزواج والأولاد، بل هم من أعظم زينتها، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك لِنَبْلُوَهُمْ:(3/247)
لنختبرهم، حتى يظهر ذلك للعيان، أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أيهم أزهد فيها، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح إذ لا عمل أحسن من الزهد في الدنيا إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة، بدنية وقلبية.
قال أبو السعود: وحسن العمل: الزهد فيها، وعدم الاكتراث بها، والقناعة باليسير منها، وصرفها على ما ينبغي، والتأمل في شأنها، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها، والتمتع بها حسبما أذن الشرع، وأداء حقوقها، والشكر على نعمها، لا جعْلها وسيلة إلى الشهوات، والأغراض الفاسدة، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء.. انظر بقية كلامه.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها عند تناهي الدنيا، صَعِيداً جُرُزاً أي: ترابًا يابسًا، لا نبات فيه، بعد ما كان يَتَعجب من بهجته النظارُ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له، فلا تستغرب إدبارهم، إذ لا عقل لهم.
ويحتمل أن يكون تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق، فيسلو، بذلك، عن إعراضهم لغيبته في المصور المدبر عن الصور، وعن الزينة في المُزَيِّن، فالكون مظهر الصفات ومرآتها، ويغيب في الذات- التي هي معدنها- بإفناء الظاهر، وإفناء الأفعال، كما نبّه عليه بقوله: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ... الخ.
الإشارة: الخصوصية- من حيث هي- لها بداية ونهاية، فمن شأن أهل بدايتها: الحرص على الخير لهم ولعباد الله، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم، زيادة في الهداية لعباد الله، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها، وحصل لهم الفناء الأكبر، لم يحرصوا على شيء، ولم يتأسفوا من فوات شيء، لهم ولغيرهم. وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم تكميلاً لهم، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ... الخ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها، فاتته الخصوصية، وبقي من عوام الناس، ومن أعرض عنها وعن بهجتها، وتوجه بقلبه إلى الله، كان من المخصوصين بها، المقربين عند الله.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وفي الحديث: «الدنيا مال مَن لا مَالَ لَهُ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ. وعلَيها يُعَادى مَن لا عِلم عِنده» «1» . وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف، وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (6/ 71) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الزهد/ 10637) عن السيدة عائشة.
رضى الله عنها، بدون العبارة الأخيرة.(3/248)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
ثم شرع فى قصة أهل الكهف المقصودة بالذات، فقال
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
قلت: (أَمْ) : منقطعة مقدرة ببل، التي هي للانتقال من حديث إلى حديث، لا للإبطال، والهمزة: للاستفهام عند الجمهور، وبمعنى «بل» ، فقط، عند غيرهم، و (عَجَباً) : خبر كان، و (مِنْ آياتِنا) : حال منه، و (إِذْ أَوَى) : ظرف لعجبًا، لا لحَسِبَْتَ، أو مفعول اذكر، أي: اذكر هذا الوقت العجيب، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف، و (لَنا) و (مِنْ أَمْرِنا) : يتعلق ب (هَيِّئْ) ، و (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) : معلق لنعلم عن المفعولين لما فيه من معنى الاستفهام، وهو مبتدأ، و «أَحْصى» : خبره، وهو فعل ماضٍ، و (أَمَداً) : مفعوله.
و (لِما لَبِثُوا) : حال منه، أو مفعول «أَحْصى» ، واللام زائدة، و (لِما) : موصولة، و (أَمَداً) : تمييز، وقيل: (أَحْصى) :
اسم تفضيل، من الإحصاء بحذف الزوائد، و (أَمَداً) : منصوب بفعل دل عليه أحصى، أي: يحصى كقوله:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
«1» لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، إجماعًا، ويجوز أن يكون تمييزًا بعد اسم التفضيل.
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ حَسِبْتَ أي: ظننت يا محمد، والمراد: حسبان أمته أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ، وهو الغار الواسع في الجبل. واختُلف في موضعه فقيل: بقرب فلسطين، وقيل: بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم، وفيه موتى، ومعهم كلبهم، وعليهم مسجد، وقريب منه بناء يقال له الرَّقِيم، قد بقي موضع جدرانه، وفي تلك الجهة آثار يقال لها: مدينة «دقيوس» ، والله أعلم. وقال ابن جزي: ومما يُبعد ذلك ما رُوي أن معاوية مرَّ عليهم، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل، هيبةً، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط، وأيضًأ: فإن الموتى في لَوْشة يراهم الناس، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر الله في أهل الكهف. هـ.
__________
(1) هذا عجز: صدره:
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم
... وهو للعباس بن مرداس ... وقوله: القوانسا: جمع قونس، وهو أعلى بيضة الرأس.
انظر: اللسان (قنس 5/ 3751) ، والمغني لابن هشام (2/ 709) .(3/249)
والمشهور: أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم، وكان جُعِل ذلك الكتاب في خزانة الملك، وهو لوح من رصاص أو حجر، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومُهم فقْدَهم. وقيل: اسم كلبهم.
أي: أظننت أنهم كانُوا في قصتهم مِنْ بين آياتِنا عَجَباً أي: كانوا عجبًا دون باقي آياتنا، ليس الأمر كذلك. والمعنى: أن قصتهم، وإن كانت خارقة للعادة، ليست بعجيبة، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر مِن خلق الله تعالى على الأرض، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة، بل هي عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري: أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم، بما أضاف إلى نفسه بقوله: (مِنْ آياتِنا) ، وقَلْبُ العادةِ مِنْ قِبَلِ اللهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ ولا مُبْتَدَعٍ. هـ.
ثم ذكر أول قصتهم، فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ: جمع فتى، وهو الشاب الكامل، أي: اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف، هاربين بدينهم، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم، ورأسهم «دقيانوس» ، على ما يأتي في قصتهم.
فَقالُوا حين دخلوا الغار: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات، رَحْمَةً خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء، وَهَيِّئْ: أصلح لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم، رَشَداً: هداية نصير بها راشدين مهتدين، أو: اجعل أمرنا كله رشدًا وصوابًا، كقولك: لقيت منك أسدًا، فتكون من باب التجريد، أو: إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي: أَنَمْنَاهُمْ، شبَّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحَجْب عن الشعور عند النوم لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر، إذ هي الطريقة للتيقظ غالبًا. والفاء في (فَضَرَبْنا) : مثلها في قوله: فَاسْتَجَبْنا لَهُ «1» ، بعد قوله: إِذْ نادى، فإنَّ الضرب المذكور، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال، والبعث، وغير ذلك، إيتاءُ رحمةٍ لَدُنِّيَّةٍ خفيةٍ عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية استجابة لدعوتهم، أي: فاستجبنا لهم وأَنَمْناهم، فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي: ذوات عدد، أو تُعَدُّ عددًا، أو معدودة، ووصْف السنين بذلك: إمَّا للتكثير، وهو الأنسب بكمال القدرة، أو التقليل، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبًا من سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
__________
(1) من الآية 90 من سورة الأنبياء.(3/250)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت، لِنَعْلَمَ علم مشاهدة، أي: ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًّا كتعلقة أولاً تعلقًا استقباليًّا، أَيُّ الْحِزْبَيْنِ: الفريقين المختلفين في مدة لبثهم المذكور في قوله: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً ... الخ، أَحْصى أي: أضبط لِما لَبِثُوا: للبثهم، أَمَداً أي: غاية، فيظهر بذلك عجزهم، ويُفوضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، من حفظ أبدانهم وأديانهم، فيزدادوا يقينًا بكمال قدرته وعلمه، وليتيقنوا به أمر البعث، ويكون ذلك لطفًا بمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفارهم، وعبرةً لمن يأتي بعدهم، فهذه حِكَمُ إيقاظهم بعد نومهم، والله عليم حكيم.
الإشارة: عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وآيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.
ثم تمّم قصتهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 16]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
قلت: (بِالْحَقِّ) : إما صفة لمصدر محذوف، أو حال من ضمير «نَقُصُّ» ، أو من «نَبَأَهُمْ» ، أو صفة له، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته، أي: نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق، أو نقصه متلبسين بالحق، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق. وإِذْ قامُوا: ظرف لربطنا، وشَطَطاً: صفة لمحذوف، أي:
قولاً شططًا، أي: ذا شطط، وُصِف به للمبالغة. و (هؤُلاءِ) : مبتدأ، وفي اسم الإشارة: تحقير لهم، و (قَوْمُنَا) : عَطْفُ بيانٍ له. و (اتَّخَذُوا) : خبر، و (ما يَعْبُدُونَ) : موصول، عطف على الضمير المنصوب، أو مصدرية، أي: وإذ(3/251)
اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله، أو عبادتهم إلا عبادة الله، وعلى التقديرين: فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام. ومنقطع على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان، ويجوز أن تكون (ما) نافية على أنه إخبار من الله- تعالى- عن الفتية بالتوحيد، معترض بين «إِذِ» وجوابه العامل فيها.
يقول الحق جلّ جلاله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر، قصصًا ملتبسًا بِالْحَقِّ: بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
وخبرهم، حسبما ذكر محمد بن إسحاق: أنه قد مرج أهل الإنجيل، وظهرت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا: «دقيانوس» فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا، فجاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية: تبعه وصنع ما يصنع، ومن آثر عليها الحياة الأبدية: قتله وقطع آرابه «1» ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتيةُ ذلك، وكانوا عظماء مدينتهم، وكانوا بني الملوك، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى، واشتغلوا بالصلاة والدعاء، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار، فأحضروهم بين يديه، فقال لهم ما قال، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فقالوا: إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا، لن ندعو من دونه أحدًا، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا، فاقض ما أنت قاض، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة، وأخرجهم من عنده. زاد في رواية: وضمنهم أهلهم، وخرج إلى مدينة (نينوى) لبعض شأنه، وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم، وإلاَّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا، فتصدقوا ببعضه، وتزودوا بالباقي، فأَوَوْا إلى الكهف. وفي رواية: أنهم مروا بكلب فتبعهم، على ما يأتي في شأنه، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار، ويبتهلون إلى الله- سبحانه- بالأنين والجُؤَار، ففوضوا أمر نفقتهم إلى «يمليخا» ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان، ويلبس ثياب المساكين، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم، ويتحسس ما فيها من الأخبار، ويعود إلى أصحابه، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم، وأحضر آباءهم، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم، وبذروها في الأسواق، وفروا إلى الجبل.
فلما رأى «يمليخا» ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي، ومعه قليل من الزاد، فأخبرهم بما شهد من الهول، ففزعوا إلى الله- عزَّ وجَلَّ- وخروا له سُجدًا، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم، فبينما هم كذلك
__________
(1) أي أعضاءه. واحده: إرب.. انظر اللسان (أرب 1/ 55) .(3/252)
إذ ضرب الله على آذانهم فناموا، ونفقتُهم عند رؤوسهم. فخرج «دقيانوس» في طلبهم بخيله ورَجله، فوجدهم قد دخلوا الكهف، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله، فلما ضاق بهم ذرعًا، قال قائل منهم: أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا جُوعًا وعَطَشًا، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى، إذ قال:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ، استئناف بياني، كأن سائلاً سأل عن حالهم، فقال: إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم، وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنهم، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: قويناهم، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان، والنعيم والإخوان، واجترءوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر، والرد على دقيانوس الجبار إِذْ قامُوا أي: انتصبوا لإظهار شعار الدين، قال مجاهد: خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم: إني لأجد في نفسي شيئًا، إن ربى هو ربُّ السمواتِ والأرضِ، فقالوا: نحن أيضًا كذلك، فقاموا جميعًا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل: قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى: (هؤُلاءِ ... ) الخ: منقطعًا صادرًا عنهم، بعد خروجهم من عنده.
ثم قالوا: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لا استقلالاً ولا اشتراكاً، ولم يقولوا: ربًا للتصميم على الرد على المخالفين، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: قولاً ذا شطط، وهو الجور والتعدي، أي: لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، فيه معنى الإنكار، لَوْلا: هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ:
على ألوهيتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ: بحجة ظاهرة، فَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه فإنه أظلم من كل ظالم.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أي: فارقتموهم وَفارقتم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: فالتجئوا إليه، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ: يبسط لكم ويوسع عليكم مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين، مِرفَقاً: ما ترتفقون به، أي: تنتفعون، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.(3/253)
الإشارة: قد وصف الله- تعالى- أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً: أي: زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله: إِذْ قامُوا: قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي: الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
قلت: الحاصل: أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب: قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله- تعالى- وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله- عزّ وجلّ- في أصحاب الكهف: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وإن كانت الآية لها محامل أخر سوى هذا. هـ. قلت: وقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «1» : صريح في الجواز.
وقال في القوت: وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه: أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا؟ فقال: «لا، بل أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» «2» ، وقال لآخر: أظهر صوته بالآية: «أِسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع» ، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله: (لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا) لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. هـ.
__________
(1) من الآية 151 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (4/ 159) ، والطبراني فى الكبير (17/ 295) ، عن عقبة بن عامر، وحسّنه الهيثمي فى المجمع (9/ 372) . [.....](3/254)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
ثم ذكر حالهم فى الكهف، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 18]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
قلت: (تزاور) أصله: تتزاور، فأُدغمت التاء في الزاي. وقرأ الكوفيون بحذفها، وابن عامر ويعقوب: «تَزَوَّرُ» كتَمرد، كلها من الزَّوْر بمعنى الميل. و (ذات اليمين) : ظرف بمعنى الجهة. وجملة: (وهم في فجوة) : حال، و (ذراعيه) : مفعول «باسط» لأنه حكاية حال، أي: يبسط، و (فرارًا) : مصدر لأنه عبارة عن معنى التولية، أو حال، أي: لوليت فارا، ورُعْباً: مفعول ثان لملئت، أو تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله، في بيان حالهم بعد ما أووا إلى الكهف: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ أي:
تنتحي وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي أووا إليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم ذاتَ الْيَمِينِ أي: جهة ذات يمين الكهف، عند الداخل إلى قعره، وَإِذا غَرَبَتْ أي: وتراها إذا غربت تَقْرِضُهُمْ أي: تقطعهم وتتعدى عنهم ذاتَ الشِّمالِ أي: جهته وجانبه الذي يلي المشرق. وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة كرامة لهم. وقيل: كان باب الكهف شماليًا يستقبل بنات نعش «1» ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ: في موضع واسع منه، وذلك موقع لإصابة الشمس، ومع ذلك يُنحيها الله عنهم.
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي: ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم: هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف، قلت: كان قبل السد وبعد هدم السد لأنه هُدم بعدُ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدومًا. وظاهر الآية يُرجح من قال: إنه من باب خرق العادة.
__________
(1) بنات نعش: سبعة كواكب تشاهد جهة القطب الشمالي.. انظر المعجم الوسيط (نعش) .(3/255)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي أصاب الفلاح. والمراد: إما الثناء عليهم، والشهادة بإصابة المطلوب، والإخبار بتحقيق ما أمَّلُوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة، ولكن المنتفع بها هو مَنْ وفقه الله وهداه للاستبصار بها، وَمَنْ يُضْلِلْ أي: يخلق فيه الضلال بصرف اختياره إليه، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ، ولو بالغت في التتبع والاستقصاء، وَلِيًّا: ناصرًا مُرْشِداً، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح.
والجملة معترضة بين أجزاء القصة.
ثم قال: وَتَحْسَبُهُمْ بالفتح والكسر، أي: تظنهم أَيْقاظاً، لانفتاح أعينهم، أو لكثرة تقلبهم، وهو جمع «يقظ» بضم القاف وكسرها، وَهُمْ رُقُودٌ أي: نيام، وَنُقَلِّبُهُمْ في رقودهم ذاتَ الْيَمِينِ أي: جهة تلي أيمانهم، وَذاتَ الشِّمالِ أي: جهة تلي شمائلهم لكي لا تأكل الأرضُ ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنه: لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض. قيل: كانوا يتقلبون مرتين في السنة. وقيل: مرة يوم عاشوراء. وقيل: في تسع سنين.
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ، حكاية حال ماضية أي: يبسط ذراعيه، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع.
بِالْوَصِيدِ أي: بموضع من الكهف، وقيل: بالفِناء من الكهف، وقيل: العَتَبة. وهذا الكلب، قيل: هو كلبٌ مَروا به فتبعهم، فطردوه مرارًا، فلم يرجع، فأنطقه الله، فقال: يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي فإني أُحب أحباء الله، فناموا حتى أحرُسَكم. وقيل: هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم «1» على دينهم، ومر معه كلبه، ويؤيده قراءة: (وَكَالِبُهُمْ) أي: وصاحب كلبهم، وقيل: هو كلب صيد لهم أو زرع، واختُلف في لونه قيل أحمر، وقيل: أصفر، وقيل: أصهب «2» .
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي: لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع: الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً: هربًا بما شاهدت منهم، وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً، أي: خوفًا يملأ الصدور برُعبه، لِمَا ألبسهم الله من الرهبة، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية: أنه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال: لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك ذلك قد منع الله تعالى مَنْ هو خير منك، حيث قال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ... الآية، فلم يسمع، وقال: ما أنتهي حتى أعْلَم علمهم، فبعث ناسًا، وقال: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا بعث الله ريحًا فأحرقتهم. هـ «3» .
الإشارة: للصوفية- رضى الله عنهم- تشبه قويّ بأهل الكهف، في الانقطاع إلى الله، والتجرد عن كل ما سواه، والانحياش إلى الله، والفرار من كل ما يشغل عن الله، والتماس الرحمة الخاصة من الله، وطلب التهيئة لكل رشد
__________
(1) أي الراعي.
(2) الأصهب: الأشقر. وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (3/ 76) : واختلفوا فى لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها، ولا دليل ولا حاجة إليها، بل هى مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب.
(3) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (2/ 792) لابن أبى حاتم، وعبد بن حميد، وابن أبى شيبة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: وإسناده صحيح.(3/256)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
وصواب، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به، حين أووا إلى كهف الإيواء تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله- أي: الصوفية- ممن رام أذاهم، وغيّبهم عن حس أنفسهم، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته، ومن تمام التشبه بهم: أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعثهم من نومهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا، بَعَثْناهُمْ من النوم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي: ليسأل بعضُهم بعضًا، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة، أو: ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله، ويستبصروا أمر البعث، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو رئيسهم، واسمه: «مكْسلَيمنيا» : كَمْ لَبِثْتُمْ في منامكم؟ لعله قال ذلك لِمَا رأى من مخالفة حالهم، لِمَا هو المعتاد في الجملة، قالُوا أي: بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قيل: إنما قالوا ذلك لأنهم دخلوا الكهف غُدوة، وكان انتباههم آخر النهار، فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب.
قالُوا أي: بعضٌ آخر منهم، بما سنح له من الأدلة، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي: أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله- سبحانه-، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ «1» هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أعرضوا عن البحث عن المدة، وأقبلوا على
__________
(1) قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر: بورقكم- ساكنة الراء- والباقون بكسرها. راجع الإتحاف 2/ 212.(3/257)
ما يهم في الوقت، والورق: الفضة، مضروبة أو غير مضروبة، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي: أيُّ أهلها أَزْكى طَعاماً أي: أحل وأطيب، أو أكثر وأرخص، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي: من ذلك الأزكى طعامًا، وَلْيَتَلَطَّفْ: وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام، لئلا يُعرف، وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة، أو: لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك.
ثم علل النهي بقوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ: يطلعوا عليكم، أو يظفروا بكم، والضمير: للأهل المقدر في «أيها» أي: إنَّ أهل المدينة إن يظفروا بكم يَرْجُمُوكُمْ إن ثبتم على ما أنتم عليه، أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي: يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها كرهًا، كقوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «1» ، وقيل: كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً إن دخلتم فيها، ولو بالكره والجبر، أَبَداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
الإشارة: وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة، استصغروا أيام البطالة لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها، وإن كثرت آمادها، وفي الحِكَم: «رُبّ عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده» ، بخلاف زمان اليقظة، فإنه كثيرة أمداده، وإن قلّتْ آماده، فهو طويل معنىً، وإن قلَّ حسًا، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا: «ورُبّ عمر قليلةٌ آماده، كثيرةٌ أمداده» . وقال أيضاً: «مَن بورك له في عمره: أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة» .
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه، غير من هو أهلٌ له لأنهم، إن أظهروه لغيرهم، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم، ولن يفلحوا إذًا أبدًا. وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 13 من سورة إبراهيم.(3/258)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
ثم ذكر اطلاع قوم أهل الكهف عليهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : آية 21]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
قلت: إِذْ يَتَنازَعُونَ: ظرف لقوله: (أَعْثَرْنا) ، لا ليعلموا، أي: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم ... الخ، و (رَجْماً) : حال، أي: راجمين بالغيب، أو مفعول مُطلق، أي: يرجمون رجمًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ:
أطلعنا الناس عليهم لِيَعْلَمُوا أي: ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي: وعده بالبعث والثواب والعقاب حَقٌّ صادق لا خُلْف فيه، أو: ثابت لا مرد له لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يُبعث، وَأَنَّ السَّاعَةَ أي: القيامة، التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا للحساب والجزاء، لا رَيْبَ فِيها: لا شك في قيامها، فإنَّ مَنْ شاهد أنه جلّ وعلا تَوفَّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر، حافظًا لأبدانها من التحلل والفساد، ثم أرسلها كما كانت، لا يبقى معه ريب، ولا يختلجه شك، في أن وعده تعالى حق، وأنه يبعث مَنْ في القبور، ويجازيهم بأعمالهم.
وكان ذلك الإعثار إِذْ يَتَنازَعُونَ: حين كانوا يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، في أمر البعث مختلفين فيه ففرقة أقرّت، وفرقة جَحَدّتْ، وقائل يقول: تُبعث الأرواح فقط، وآخر يقول: تُبعث جميعُ الأجسام بالأرواح، قيل:
كان ملك المدينة حينئذ رجلاً صالحًا، ملَكها ثمانيًا وعشرين سنة، ثم اختلف أهلُ مملكته في البعث كما تقدم، فدخل الملِكُ بيته وغلق الباب، ولبس مسحًا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يظهر الحق، فألقى الله- عزّ وجل- في نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف، أن يهدم بنيان فم الكهف، فهدم ما سدَّ به «دقيانوس» بابَ الكهفِ ليتخذه حظيرة لغنمه، فعند ذلك بعثهم الله- تعالى- فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
رُوِيَ أنَّ المبعوث لمَّا دخل المدينة ليشتري الطعام، أخرج دراهمه، وكانت على ضرب (دقيانوس) ، فاتهموه أنه وجد كنزاً، فذهبوا به إلى الملك، فقص عليه القصة، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من(3/259)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
(دقيانوس) ، فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة من مسلم وكافر، فدخلوا عليهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك:
نُودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن، ثم رجعوا إلى مضاجعهم، فماتوا، فألقى المَلِكُ عليهم ثيابه، وجعل لكل منهم تابوتًا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدًا. وقيل: لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانَكَم حتى أدخل أولاً لئلا يفزعوا، فدخل، فَعُمِّي عليهم المدخل، فبنوا ثَمَّةَ مسجدًا.
وقيل: المتنازَع فيه: أمر الفتية قبل بعثهم، أي: أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال. وعلى التقديرين: فالفاء في قوله:
فَقالُوا ابْنُوا فصيحة، أي: أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا، ثم ماتوا، فقال بعضهم: ابْنُوا عَلَيْهِمْ: على باب كهفهم بُنْياناً لئلا يتطرق إليهم الناس، ففعلوا ذلك ضنًا بمقامهم ومحافظة عليهم.
ثم قالوا: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم من حيث النسبة، ومن حيث العدد، ومن حيث بُعد اللبث في الكهف، قالوا ذلك تفويضًا إلى علام الغيوب. أو: يكون من كلامه سبحانه ردًا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ، وهو الملك والمسلمون، وكانوا غالبين في ذلك الوقت:
لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، فذكر في القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدًا يصلي فيه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 22 الى 26]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
ثم وقع الخوض في عهد نبينا- عليه الصلاة والسلام- بين نصارى نجران حين قدموا المدينة، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين في عددهم، كما قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وهو قول اليعقوبية من النصارى، وكبيرهم السيد، وقيل: قالته اليهود، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، هو قول النسطورية منهم، وكبيرهم العاقب، رَجْماً بِالْغَيْبِ: رميًا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر، أو ظنًا بالغيب من غير تحقيق، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي، وعدم نظمه في سلك الرجم بالغيب، وتغيير سبكه بزيادة الواو المفيدة لزيادةِ تأكيد النسبة فيما بين طرفيها، يَقضي بصحته.
قال تعالى: قُلْ يا محمد تحقيقًا للحق، وردًا على الأولين: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أي: ربي أقوى علمًا بعدتهم، ما يَعْلَمُهُمْ أي: ما يعلم عددهم إِلَّا قَلِيلٌ من الناس، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي الله عنه: «أنا من ذلك القليل» ، قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة، وأيضًا حين سكت عنه تعالى ولم يقل: رجمًا بالغيب، علم أنه حق. وعن عليّ- كرّم الله وجهه-: أنهم سبعة، أسماؤهم:
يمليخا، وهو الذي ذهب بورقهم، ومكسيلمينيا، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومشلينا، وفي رواية الطبري: ومجْسَيْسِيا بدله، وهؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس، وكان يستشير هؤلاء الستة(3/260)
فى أمره، والسابع: الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس، واسمه: كفشططيوش «1» . وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء، وكلهم عجميون، قال: والسندُ في معرفتهم واهْ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس، رحمةً بهم إذ لو أظهرهم في البدايات لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه، حتى إذا تخلصوا من البقايا، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق، وأنّ خراب العالم بانقراضهم، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء. والله تعالى أعلم.
ثم نهى نبيه عن المجادلة بعد وضوح الحق، فقال:
فَلا تُمارِ فِيهِمْ ...
قلت: (إِلَّا أَنْ يَشاءَ) : استثناء مفرغ من النهي، أي: لا تقولن في حال من الأحوال، إلا حال ملابسةٍ بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد، وهو أن تقول: إن شاء الله، أو: في وقت من الأوقات، إلا وقت إن شاء الله.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلا تُمارِ أي: لا تجادل فِيهِمْ في شأن أهل الكهف إِلَّا مِراءً ظاهِراً قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم، من غير زيادة عليه، مع تفويض العلم إلى الله، فلا تُصرح بجهلهم، ولا تفضح خطأهم، فإنه يُخل بمكارم الأخلاق، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ: في شأنهم مِنْهُمْ من الخائضين أَحَداً فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن ذلك، مع أنهم لا علم لهم بذلك.
__________
(1) فى النطق بهذه الأسماء اختلاف كثير، وقال الحافظ ابن كثير: فى تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم، نظر فى صحته، والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى عن أهل الكتاب. وقد قال الله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي: سهلا هينا، فإن الأمر فى معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. انظر تفسير ابن كثير 3/ 78.(3/261)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أي: لأجل شيء تعزم عليه: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً: فيما يُستقبل من الزمان مطلقًا، فيصدق بالغد وما بعده لأنه نزل حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين. فسألوه صلى الله عليه وسلم فقال: «غدًا أخبركم» ، ولم يستثن، فأبطأ عليه الوحي، حتى شقَّ عليه، وكذبته قريشٌ، ثم نزلت السورة بعد أربعة عشر يومًا، أو قريبًا منها «1» ، على ما ذكره أهل السِّيَر، أي: لا تَقُلْ إني فاعل شيئًا في حال من الأحوال إلا متلبسًا بمشيئته على الوجه المعتاد، وهو أن تقول: إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات، إن شاء الله أن تقوله، بمعنى: أن يأذن لك فيه، فإن النسيان بمشيئته تعالى.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ بقولك: إلا أن يشاء الله مستدركًا له، إِذا نَسِيتَ: إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ولو بعد سنة ما لم يحنث. ولذلك جوَّز تأخير الاستثناء. وعامة الفقهاء على خلافه، إذ لو صح ذلك لما تقرر طلاق ولا عتاق، ولم يعلم صدق ولا كذب، وقال القرطبي: هذا في تدارك الترك والتخلص من الإثم، وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً به، ويجوز أن يكون المعنى: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه، أو: اذكر ربك إذا اعتراك نسيان لتستدرك ما فات، وحُمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وسيأتي في الإشارة بقية الكلام عليها.
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي: يوفقني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا أي: لنبأ أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف، من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي، رَشَداً أي: إرشادًا للناس ودلالة على ذلك. وقد فعل عزّ وجلّ ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظم وأبين لقصص الأنبياء، المتباعدة أيامهم، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعمار المستقبلة إلى قيام الساعة. أو: لأقرب رشدًا وأدنى خيرًا من المَنْسِي، أي: عسى أن يدلني على ما هو أصلح لي من الذي نسيته إذ يجوز أن يكون نسيانه خيرًا له من ذكره إذ فيه إظهار قهريته تعالى، وغناه عن خلقه، وعدم مبالاته بإدبار من أدبر وإقبال من أقبل، أو: الطريق الأقرب من هذا الذي هدى إليه أهل الكهف رشدًا وصوابًا، وقد فعل ذلك حيث هداه إلى الدين القيِّم الذي أظهره على الأديان كلها، ولو كره المشركون.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أحياءً، مضروبًا على آذانهم، ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً، روي عن علي- كرم الله وجهه- أنه قال: عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية، والله تعالى ذكر السنة القمرية، والتفاوت بينهما في كل مائة ثلاثُ سنين، فيكون ثلاث مائة سنة وتسع سنين. هـ. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي: الزمان
__________
(1) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 394) لابن المنذر عن مجاهد، فى سياق طويل، وأخرج الطبري (15/ 191) نحوه فى سياق طويل، عن ابن عباس.(3/262)
الذي لبثوا فيه. لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: ما غاب فيهما، وخفي من أحوال أهلها، أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي: ما أسمعه وما أبصره. دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين لأنه تعالى لا يحجبه شيء، ولا يحول دونه حائل، ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف، والصغير والكبير، والخفي والجلي. والتعجب في حقه تعالى مجاز لأنه إنما يكون مما خفي سببه، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتَدْه، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، فيُؤَوَّل بأنه مبالغة في إحاطة سمعه وبصره بكل شيء، كما تقدّم.
ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: ما لأهل السموات والأرض من دونه تعالى من ولي يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ: في قضائه في علم الغيب أَحَداً منهم، ولا يجعل له فيه مدخلاً، وقرئ بالخطاب لكل أحد، أي: ولا تشرك أيها السامع في حكمه وتدبيره أحدًا من خلقه، فإنه لا فعل له ولا تدبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية:
الأولى: ترك المراء والجدال، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه، من غير ملاججة ولا مخاصمة، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية: استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور قال صلى الله عليه وسلم: «استَفت قلبَكَ، وإنْ أفتَاكَ المفْتونَ وأفتَوْك، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه، والإثم ما حاك في الصدر وتردد» «1» ، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله، الزاهدة فيما سوى الله، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق، ولا تسكن إلا إلى الحق، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها.
الثالثة: التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره، والرضا بما يبرز به القضاء، بحيث لا يعقد على شيء، ولا يجزم بفعل شيء، إلا ملتبسًا بمشيئة الله، فينظر ما يفعل الله، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة: الاشتغال بالذكر والفكر، حتى يغيب عما سوى المذكور قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي: إذا نسيت ما سواه، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة، فالذكر الحقيقي: هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه لشدة غيبته فيه، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
__________
(1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (4/ 224) ، وابن عساكر فى تاريخ دمشق (تهذيب 3/ 212) عن وابصة. وصححه محقق المسند. وزاد فى كشف الخفاء (2/ 124) عزو الحديث لأبى يعلى وأبى نعيم.(3/263)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
الخامسة: التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا) ، وبالله التوفيق.
ثم أمره بتلاوة كتابه الذي هو أصل كل رشد وصواب، وأقرب هداية لذوى الألباب، فقال تعالى:
[سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ أي: أسرده على ما نزل، ولا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا «1» ، أو اتبع أحكامه، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ: لا قادر على تبديله غيره، أو:
لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له، وَلَنْ تَجِدَ أبدًا مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي: ملجأ، تعدل إليه عند إلمام مُلمة، أو: لن تجد، إن بدلت تقديرًا، وخالفت ما أنزل إليك، ملتحدًا: ملجأ تميل إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية، دنيوية أو دينية، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به، رأى فَرَجًا، وقريبًا، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء إلى الله، فإنَّ الحق تعالى يتجلى في كلامه للقلوب على قدر صفائها، وأما من التجأ إلى غير الله فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تميل إليه فيأويك. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بصحبة الفقراء، الذين يعينونه على تلاوة كتابه ونصر دينه والتمسك به، فقال:
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
قلت: (وَلا تَعْدُ) : نهي مجزوم بحذف الواو، و (عَيْناكَ) : فاعل، و (تُرِيدُ) : حال من الكاف، أو من فاعل (تَعْدُ) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي: احبسها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي: يعبدونه بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، قيل: الصلوات الخمس، فالغداة: الصبح، والعَشِيِّ: الظهر وما بعده، وقيل: الصبح والعصر،
__________
(1) من الآية 15 من سورة يونس.(3/264)
قلت: والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة، وهي ركعتان بالغداة والعشي. قال ابن عطية:
ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا» «1» .
وقيل: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في جميع الأوقات، وفي طرفَيْ النهار، والمراد بهم فقراء المؤمنين كعمَّار وصُهَيب وخبَّاب وبِلال، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، وقالوا: إن ريح جِبَابِهم تؤذينا، فنزلت الآية «2» . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم، وقال: «الحمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه» «3» . وقيل: نزلت في بيان أهل الصُّفَّة، وكانوا نحو سبعمائة، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص، فقال: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي: معرفة ذاته، لا جنة ولا نجاة من نار، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي: لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم، من عداه: إذا جاوزه، وفي الوجيز: ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي: جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك، فإنهم غافلون عن ذكرنا، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله- سبحانه- حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. وَاتَّبَعَ هَواهُ: ما تهواه نفسه، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً: ضياعًا وهلاكًا، وهو من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله- تعالى- تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب، حتى يتأهل لحضرة التقريب،
__________
(1) عزاه فى كنز العمال (1/ 429 ح 1850) لابن شاهين فى الترغيب فى الذكر عن ابن عمر. وأخرجه، بدون العبارة الأخيرة، الديلمي فى الفردوس (3/ 454 ح 5402) عن أنس.. وحطم السيوف، أي: كسرها.
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (باب فى الزهد وقصر الأمل) عن سلمان، وزاد السيوطي عزوه فى الدر (4/ 396) لابن مردويه، وأبى نعيم فى الحلية.
(3) أخرجه الطبري (15/ 235) عن قتادة، وأخرجه البيهقي فى الموضع السابق ذكره، ضمن الرواية ذاتها عن سلمان.(3/265)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
وبصحبتهم تدوم حياة الطريق، ويصل العبد إلى معالم التحقيق، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه:
مَا لذّةُ العَيشِ إلا صُحبَةُ الفُقَرا ... هُم السّلاَطين والسَّادَاتُ والأُمَرَا
فاصْحَبْهُمُ وتأدَّب فِي مَجَالِسِهِم ... وخلِّ حظَّكَ مَهمَا خلَّفُوكَ ورَا
إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ قال القشيري: لم يقل: واصبر قلبك لأن قلبه كان مع الحق تعالى، فأمره بصحبة الفقراء جَهْرًا بجهر، واستخلص قلبه لنفسه سِرًا بِسرٍّ. هـ. قال الورتجبي: اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء، العاشقين لجمالي، المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وَصْلي، حتى يكونوا مُتسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. هـ.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، بيَّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه، شوقًا إليه ومحبة فيه، من غير تعلق بغيره، أو شُغل بسواه، بل همتهم الله لا غيره، وإِلاَّ لَمَا صدق قصر إرادتهم عليه. قال في الإحياء: من يعمل اتقاء من النار خوفًا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة، وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله، لا لأمرٍ سواه. ثم قال: وقول رويم: الإخلاص: ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين، هو إشارة لإخلاص الصدِّيقين، وهو الإخلاص المطلق، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. هـ. من الحاشية.
ثم أمره بالصدع بالحق، فقال:
[سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
قلت: «الْحَقُّ» : خبر، أي: هذا الذي أُوحي إليَّ الحقُّ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلِ يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم، أو: لمن جاءك من الناس: هذا الذي جئتكم به من عند ربي هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي: من جهة ربكم، لا من جهتي، حتى يتصور فيه التبديل، أو يمكن التردد في اتباعه. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، وهو تهديد، أي: فمَن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل، ومن شاء أن يكفر فليفعل، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم.(3/266)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
ثم أوعدهم على الكفر، فقال: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي: هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد، ووضعٌ للشيء في غير محله، أي:
هيأنا لهم نارًا عظيمة أَحاطَ بِهِمْ أي: محيطُ بهم سُرادِقُها أي: سورها المحيط بها، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، والسرادق: ما يحيط بالشيء، كالجدار ونحوه. قيل: هو حائط من نار، وقيل: دخانها.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ: كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة. وقيل: كرديء الزيت في اللون، يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قُدم ليشرب بحرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه» «1» .
بِئْسَ الشَّرابُ ذلك، وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً: مُتَّكًا، وأصل الارتفاق: نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه، وأنى ذلك في النار، وإنما هو لمقابلة قوله في المؤمنين: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً.
الإشارة: ينبغي للواعظ، أو المُذكر، أو العالم، ألا يحرص على الناس، بل يستغني بالله في أموره كلها، وإنما يُبين الحق من الباطل، ويقول: هذا الحق من ربكم، فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس، وأما إن كان لخاصتهم كأهل الرئاسة والجاه، فاختُلف فيه فقال بعضهم: يسلك هذا المنهاج، يُبين الحق ولا يبالي، محتجًا بالآية، قال: نحن أمة محمدية، قال تعالى له: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية، وقال بعضهم: ينبغي أن يلين لهم القول لقوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «2» ، وهو الأليق بطريق السياسة، فمن أعرض عن الوعظ، وبقي على ظلمه، فالآية تجر ذيلها عليه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
__________
(1) أخرجه، دون العبارة الأخيرة، أحمد فى المسند (3/ 70) ، والترمذي فى (صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار) ، والبغوي فى تفسيره (5/ 168) ، عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه. [.....]
(2) الآية 44 من سورة طه.(3/267)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قلت: جملة: (إِنَّا لا نُضِيعُ) : خبر «إِنَّ» ، والعائد محذوف، أي: أحسن عملاً، أو: وقع الظاهر موقعه فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحا. وأُولئِكَ: استئناف لبيان الأجر، أو: خبر «إِنَّ» ، وما بينهما اعتراض، أو خبر بعد خبر. و (مِنْ أَساوِرَ) : ابتدائية، و (مِنْ ذَهَبٍ) : بيانية، و (أَساوِرَ) : جمع أسورة، أو أسوار جمع سوار، فهو جمع الجمع.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: اختاروا الإيمان، من قوله: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) ، وكأنه في المعنى عطف على قوله: (أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) ، أي: والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا، ولعل تغيير سبكه: للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين، أي: إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
أُولئِكَ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي من تحت قصورهم الْأَنْهارُ من ماء ولبن وخمر وعسل، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي: كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب.
وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك، وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً، وخصت الخضرة بثيابهم لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، السندس: ما رقَّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، جمع النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، وهو السرير في الحجَال، أي: متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة، كحال العرائس المتنعمين. نِعْمَ الثَّوابُ ذلك، وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً: متَّكأ. والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضى الله عنهم، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس وهي تحملُ ما يثقل على النفوس، أولئك لهم جنات المعارف، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين، متكئين على سرر الهنا والسرور، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور، جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه.
ثم ضرب مثلا لمن اغتر بدنياه، ولمن زهد فيها وأقبل على مولاه، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(3/268)
قلت: «رَجُلَيْنِ» : بدل من «مَثَلًا» ، وجملة جَعَلْنا ... بتمامها: بيان للتمثيل، أو صفة لرجلين، وما شاءَ اللَّهُ:
خبر، أي: هذا ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، أو مبتدأ حُذف الخبر، أي: الذي شاء الله كائن، أو شرطية، والجواب محذوف، أيْ: أيّ شيء شاء الله كان، و (هُنالِكَ) : ظرف مقدم، و (الْوَلايَةُ) : مبتدأ، والظرف: إشارة إلى الآخرة، وهذا أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاضْرِبْ لَهُمْ أي: للفريقين فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين، مَثَلًا من حيث عصيان الكافر، مع تقلبه في النعيم، وطاعة المؤمن، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر، وما كان مآلهما، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا، أي: واضرب لهم حالي رَجُلَيْنِ مقدرين أو محققين، هما أخوان من بني إسرائيل، أو شريكان: كافر، واسمه قُطروس، ومؤمن، اسمه يهوذا، اقتسما ثمانية آلاف دينار، أو ورثَاها من أبيهما، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر.
رُوِيَ: أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار، فقال صاحبه المؤمن: اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج(3/269)
امرأة بألف دينار، فقال: اللهم، إن فلانًا تزوج بألف دينار، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا اشترى خادما ومتاعا بألف، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم أصابته حاجة، فقال: لعل صاحبي يُناولني معروفه، فأتاه، فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته، فقال: أو إنك لمن المصدقين بهذا؟ والله لا أعطيك شيئًا، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ... «1» الآية.
وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر، جَنَّتَيْنِ: بستانين مِنْ أَعْنابٍ: من كروم متنوعة، وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي: جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما، وَجَعَلْنا بَيْنَهُما:
وسطهما زَرْعاً ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه، متواصل العمارة، على الهيئة الرائقة، والوضع الأنيق. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها: ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل، وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي: لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة، بخلاف سائر البساتين، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما: فيما بين كل من الجنتين نَهَراً على حدةٍ، وقرئ بالسكون. والنهر: الماء الكثير، وكان لكل بستان نهر ليدوم شربها ويدوم بهاؤها.
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل، مع أن الترتيب الخارجي العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين، كما في قصة البقرة ونحوها، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض.
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أي: وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، من ثَمُرَ مالُه: إذا كثر. قال ابن عباس: الثمر: جميع المال من الذهب، والفضة، والحيوان، وغير ذلك. وقال مجاهد: هو الذهب والفضة خاصة. فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن، أخيه أو شريكه، وَهُوَ يُحاوِرُهُ: يراجعه في الكلام، من حَار إذا رجع، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه، فقال: قدمتُه بين يدي، لأقدم عليه، فقال له: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً: حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا لأنهم الذين ينفرون معه.
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ: بستانه الذي تقدم وصفه، وإنما وحده إما لعدم تعلق الغرض بتعدده، أو لاتصال أحدهما بالآخر، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد. فدخله وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ضارُّ لها بعُجْبه وكفره، قالَ حين دخوله: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ الجنة، أي: تفنى أَبَداً لطول أمده وتمادي غفلته، وإنكارًا لفناء الدنيا
__________
(1) الآيتان 50- 51 من سورة الصافات. وانظر تفسير البغوي 5/ 170، وزاد المسير 5/ 138.(3/270)
وقيام الساعة، ولذلك قال: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي: كائنة فيما سيأتي، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامها، كما تقول، لَأَجِدَنَّ حينئذ خَيْراً مِنْها: من الجنتين مُنْقَلَباً أي: مرجعًا وعاقبة، أي: كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة: اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه لذاتِهِ، وكرامته عليه، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ أخوه المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ أي: أصلك مِنْ تُرابٍ، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي مادتك القريبة، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي: عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا، أو صيرك رجلاً، وفي التعبير بالموصول مع صلته: تلويح بدليل البعث، الذي نطق به قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ «1» .
قال البيضاوي: جعل كفره بالبعث كفرًا بالله لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن مَن قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه. هـ.
ثم قال أخوه المسلم: لكِنَّا أصله: لكن أنا، وقُرئ به، فحُذفت الهمزة، فالتقت النونان فوقع الإدغام، هُوَ اللَّهُ رَبِّي، «هُوَ» : ضمير الشأن، مبتدأ، خبره: «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» ، وتلك الجملة: خبر «أَنَا» ، والعائد منها: الضمير، وقرئ بإثبات «أنا» في الوصل والوقف، وفي الوقف خاصة، ومدار الاستدراك قوله تعالى: أَكَفَرْتَ، كأنه قال: أنت كافر، لكني مؤمن موحد، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك. قاله أبو السعود.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: والذي يظهر من قوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ ... الآية، ومن قوله:
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ ... الآية، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه، وقد قال وهب بن منبه: (قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر) ، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله، وهو كفر صراح. هـ.
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ: بستانك، قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ أي: هلاَّ قُلتَ عند دخولها: ما شاءَ اللَّهُ أي:
الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله يكون، والمراد: تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها، وإن شاء أخفاها، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي: لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره.
__________
(1) من الآية 5 من سورة الحج.(3/271)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ: مَا شَاءَ اللهُ لا قوة إلا بالله، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ» »
. وقال لأبي هريرة: «أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: لا قوةَ إلاَّ بالله، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجل: أسْلم عبدي واسْتَسْلم» «2» . وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ: «ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجنة؟ قال: بلى، يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله» «3» .
ثم قال له أخوه المسلم: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً في الدنيا، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ في الآخرة أو في الدنيا خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ والمعنى: إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك، ويسلبك لكفرك نعمته، ويخرب جنتك، وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً: عذابًا مِنَ السَّماءِ يُذهبها، من بَرَدٍ أو صاعقة، وهو جمع: حُسْبَانة، وهي: المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وتطلق أيضًا، في اللغة، على سهام تُرمى دفعة واحدة، فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي: أرضًا ملساء، يزلق عليها لاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء، أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها أي: النهر الذي خِلالَها غَوْراً: غائرًا ذاهبًا في الأرض، و «زَلَقاً» و «غَوْراً» : مصدران، عبَّر بهما عن الوصف مبالغةً. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أي: لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به، فضلاً عن وجدانه ورده.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي: هلكت أشجاره المثمرة، وأمواله المعهودة، وأصله: من إحاطة العدو، وهو عطف على مُقدر، كأنه قيل: فوقع بعض ما وقع من المحذور، وأهلكت أمواله، رُوي أنَّ الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرًا لبطن، أو يضرب يديه واحدة على أخرى، يصفق بهما، وهو كناية عن الندم، كأنه قال: فأصبح يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي: في عمارتها من الأموال. وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية. انظر أبا السعود.
وَهِيَ أي: الجنة خاوِيَةٌ: ساقطة عَلى عُرُوشِها أي: دعائمها المصنوعة للكروم، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها. وتخصيص حالها بالذكر، دون الزرع والنخل، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت، وهي مشتدة بعروشها فهلاك
__________
(1) أخرجه ابن السني فى عمل اليوم والليلة (ح 206) من حديث أنس مرفوعا، والبيهقي فى شعب الإيمان (باب فى تعديد نعم الله عز وجل، ح 4370) .
(2) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 298) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري فى (المغازي، باب غزوة خيبر) ، ومسلم فى (الذكر، باب استحباب خفض الصوت بالذكر) من حديث أبى موسى الأشعري.(3/272)
ما عداها أولى، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر. وَيَقُولُ أي: يقلب وهو يقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً، كأنه تذكر موعظة أخيه، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ: جماعة يَنْصُرُونَهُ: يقدرون على نصره بدفع الهلاك عن أمواله، مِنْ دُونِ اللَّهِ، فإنه القادر على ذلك وحده، وَما كانَ مُنْتَصِراً أي: وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه.
هُنالِكَ في ذلك المقام، وفي تلك الحال الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي: النصرة له وحده، لا يقدر عليها أحد غيره، وقُرئ: «الحقِ» بالكسر، صفة لله، وبالرفع، نعت للولاية. ويُحتمل أن يكون: هُنالِكَ ظرفًا لمنتصرًا، أي:
وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت، ففيه تنبيه على أن قوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ: كان عن اضطرار وجزع مما دهاه، فلذلك لم ينفعه، كقوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» . وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال: الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي: الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة، لا يخذلهم في حال من الأحوال، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم، كما هو شأن مَن اعتز بالله، دون من اعتز بغيره، فقوله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ: رد لقوله: وَأَعَزُّ نَفَراً أي: بل النصرة لله لأوليائه، دون من تولى غيره.
والحاصل: أن من تولى الله فعاقبته النصرة، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان. والعياذ بالله. ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال: هُنالِكَ عند ذلك، يعني: يوم القيامة الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ يتولون الله ويُؤمنون به، ويتبرأون مما كانوا يعبدون، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي: خير من يرجى ثوابه، وَخَيْرٌ عُقْباً أي: عاقبة لأوليائه. والعُقب: العاقبة، يقال: عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه، أي: آخره.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول: الندم والخسران، وعاقبة الثاني: الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن: لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ... الآية. ولكن ادخلها كما بيّن
__________
(1) من الآية 85 من سورة غافر.(3/273)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
لك، وقل كما رَضي لك: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وافهم هاهنا قوله صلى الله عليه وسلم:
«لا حول ولا قوة إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة» «1» . وفي رواية أخرى: «كنز من كنوز تحت العرش» .
فالترجمة: «2» ظاهر الكنز، والمكنوز فيها: صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.
ثم ضرب مثلا فى سرعة ذهابها وفنائها، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
قلت: كَماءٍ: خبر عن مضمر، أي: هي كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيا لا ضرب، على أنه بمعنى «صيِّر» .
يقول الحق جلّ جلاله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها، وسرعة انقراضها وفنائها لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة، هي كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وهو المطر، فَاخْتَلَطَ بِهِ أي: بسببه نَباتُ الْأَرْضِ بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا من كثرته وتكاثفه، ثم مرت مدة قليلة فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي: مهشومًا مكسورًا، تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي: تُفرقه وتطيره، كأن لم يَغْنَ بالأمس، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً: قادرًا، ومن جملة الأشياء: الإفناء والإنشاء.
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: مما تذروه رياح الأقدار، ويلحقه الفناء والبوار، ويدخل في الزينة:
الجاهُ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ فإنه يفنى ويبيد، ثم ذكر ما لا يفنى فقال: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ وهي أعمال الخير بأسرها، أو: الصلوات الخمس، أو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» ، زاد بعضهم: «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . قال عليه الصلاة والسلام: «هي من كنز الجنة، وصفايا الكلام، وهن الباقيات الصالحات، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات» «3» .
__________
(1) أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة) ، ومسلم فى (الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر) ، من حديث أبى موسى الأشعري. بلفظ: «ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله. قَالَ: لاَ حَوْلَ ولا قوة إِلا بالله» .
(2) أي: اللفظ والكلام المنطوق به.
(3) أخرجه الطبراني فى الأوسط (4/ 220 ح 4047) بلفظ: «قولوا: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن يأتين يوم القيامة مستقدمات ومنجيات ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات» ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(3/274)
أو: الهمات العالية والنيات الصالحة إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو: كل ما أريد به وجه الله، وسميت باقيةً:
لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
قال في الإحياء: كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية لبقائهما كمالاً فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. هـ.
وهي، أي: الباقيات الصالحات خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ أي: في الآخرة ثَواباً أي: عائدة تعود على صاحبها، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «1» . وقوله: عِنْدَ رَبِّكَ: بيان لما يظهر فيه خيريتها، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى: وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى، حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير «خَيْرٌ» للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه.
الإشارة: قد تقدّم، مراراً، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة لسرعة ذهابها وانقراضها.
روى أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا؟ قلت: نعم، فأخذ بيدي، وانطلق، حتى وقف بي على مزبلة، رؤوس الآدميين ملقاة، وبقايا عظام نخرة، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين، فقال: يا أبا هريرة هذه رؤوس الآدميين التي تراها، كانت مثل رؤوسكم، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون، فاليوم قد تعرّت عظامهم، وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها، وينهبها بعضُهم من بعض، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك، فإنها موضع البكاء. قال أبو هريرة رضي الله عنه:
فبكى جماعة الحاضرين» «2» .
__________
(1) من الآية 96 من سورة النحل.
(2) لم أقف على حديث بهذا السياق.(3/275)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
ثم ذكر ما يكون بعد فناء الدنيا التي تقدم مثالها من أهوال الحشر والحساب، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
قلت: وَيَوْمَ: معمول لمحذوف، أي: واذكر، أو عطف على قوله: «عند ربك» ، أي: والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة، و (حَشَرْناهُمْ) : عطف على (نُسَيِّرُ) للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون، وعليه يدور أمر الجزاء، وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيًا وموجبًا، وقيل: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك. و (نُغادِرْ) : نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه: الغدير لما يتركه السيل في الأرض من الماء، وَفًّا)
: حال، أي: مصْطفين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي: حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو، على هيئتها، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» أو: نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا، والمراد من ذكره: تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال، وقرئ: «تُسَيَّر» بالبناء للمفعول جريًا على سَنَن الكبرياء، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لظهور تعينه، ثم قال: وَتَرَى الْأَرْضَ أي:
جميع جوانبها، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يسمع، بارِزَةً: ظاهرة، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون قَاعاً صَفْصَفاً، لاَّ تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «2» . وَحَشَرْناهُمْ: جمعناهم إلى الموقف من كل حدب، مؤمنين وكافرين، فَلَمْ نُغادِرْ أي: لم نترك مِنْهُمْ أَحَداً.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة، وبناء الفعل للمفعول، مع التعرض لعنوان الربوبية، والإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام- من
__________
(1) الآية 88 من سورة النمل.
(2) الآيتان 107- 108 من سورة طه. [.....](3/276)
تربية المهابة، والجري على سَنَن الكبراء، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. قاله أبو السعود. فًّا
أي:
مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين، كل أمة صَفٌّ، وفي الحديث الصحيح: «يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد، صفوفًا، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ ... » «1» الحديث بطوله. وفي حديث آخر: «أهل الجنة، يوم القيامة، مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا» «2» .
يقال لهم- أي: للكفرة منهم: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو: حفاة عراة غُرْلاً، كما في الحديث.
وهذه المخاطبة، بهذا التقريع، إنما هي للكفار المنكرين للبعث، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة، ويدل عليه ما بعده من قوله: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي: زعمتم في الدنيا إنه، أي: الأمر والشأن، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه. وهو إضراب وانتقال من كلام، إلى كلام، كلاهما للتوبيخ والتقريع.
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي: كتاب كل أحد، إما في يمينه أو شماله، وهو عطف على: ُرِضُوا)
، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي لتحقق وقوعه، وإيثار الإفراد للاكتفاء بالجنس، والمراد: صحائف أعمال العباد. ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً، أو في الميزان. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة، المنكرون للبعث وغيرهم، مُشْفِقِينَ: خائفين مِمَّا فِيهِ من الجرائم والذنوب، وَيَقُولُونَ، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرًا أو قطميرًا: يا وَيْلَتَنا أي:
ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات، ومستدعين لها ليهلكوا، ولا يرون تلك الأهوال، أي: يا ويلتنا احضري فهذا أوان حضورك، يقولون: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ: لا يترك صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا إِلَّا أَحْصاها أي: حواها وضبطها، وجملة لا يُغادِرُ: حال محققة لِمَا في الاستفهام من التعجب، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر، كأنه قيل: ما شأنه حتى يتعجب منه؟ فقال: لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات، أو جزاء ما عملوا حاضِراً: مسطورًا عتيدًا، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، فيكتب مالم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه المستحق له. والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه بطوله البخاري فى (تفسير سورة الإسراء، باب قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ... ) ، ومسلم فى (الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) ، عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 453) ، والبراز (كشف الأستار/ 3534) عن ابن مسعود.(3/277)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
الإشارة: ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تَخْفَى على أحدٍ، إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي:
ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم: لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد: ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول:
لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلا فى حزبه. وقال الواحدي: ثم أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما ورّثه الكبر، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 51]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
قلت: (إِلَّا إِبْلِيسَ) : استثناء منقطع، إذا قلنا: إن إبليس لم يكن من الملائكة، وإذا قلنا: إنه منهم يكون متصلاً، ويكون معنى «كانَ» : صار، أي: إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن، وهم الذين خُلقوا من النار. وجملة (كانَ مِنَ الْجِنِّ) : استئنافية سيقت مساق التعليل، كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان أَصْلُهُ جنِّيًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أي: وقت قوْلنا لهم: اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وتكريم، فَسَجَدُوا جميعًا امتثالاً للأمر، إِلَّا إِبْلِيسَ أبى واستكبر لأنه كانَ مِنَ الْجِنِ
،(3/278)
وكان رئيسهم في الأرض، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة، فغزوهم، فهربوا في أقطار الأرض، وأُخذ إبليس أسيرًا، فعرجوا به إلى السماء، فأسلم وتعبد في أقطار السموات، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله، فَفَسَقَ أي: خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي: عن طاعته، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى إذ لولا ذلك لَمَا أبى، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق لبيان كمال قُبح ما فعله.
قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أي: أولاده، أو أتباعه، وهم الشياطين، جُعلوا ذريةً مجازًا. وقال قتادة:
إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل: يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.
والهمزة للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي: أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه، تتخذونه وذريته أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِي فتستبدلونهم، وتطيعونهم بدل طاعتي، والحال أنهم، أي: إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي: أعداء. وأُفرد تشبيهًا له بالمصدر، كالقبول والولوع، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ: الواضعين للشيء في غير محله، بَدَلًا استبدلوه من الله تعالى، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة، مع وضع الظاهرَ موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى.
ما أَشْهَدْتُهُمْ أي: ما أحضرت إبليس وذريته، أو: جميع الكفار خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، حيث خلقتهما قبل خلقهم، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، كقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» . قاله البيضاوي.
قلت: الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها، أي: ما أحضرتهم خلق أنفسهم، أي: ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السموات بالتخمين، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم، من كل متخوض في هذه الأشياء، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ من الشياطين عَضُداً أي: أعوانًا في شأن الخلق، أو في شأن من شؤوني، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي، وكان الأصل أن يقول: وما كنت متخذهم، فوقع المظهر موقع الضمير ذمًا لهم، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان، فيحتاجون إلى التصريح به. انظر أبا السعود.
__________
(1) من الآية 29 من سورة النساء.(3/279)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
الإشارة: في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبيها بإبليس، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله، وفيها أيضًا: النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر، وفيها أيضًا: النهي عن الاستعانة بأعداء الله فى أي شأن كان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال من اتخذ وليًا غير الله، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 53]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
قلت: «مَوْبِقاً» : اسم مكان، أو مصدر، من: وَبَقَ وبوقًا، كوثب وثوبًا، ووَبِقَ وبَقًا، كفرح فرحًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ يَقُولُ الحق تعالى للكفار توبيخًا وتعجيزًا لهم: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شفعاؤكم ليشفعوا لكم، والمراد بهم كل ما عُبد من دون الله، أو إبليس وذريته، فَدَعَوْهُمْ أي: نادوهم للإغاثة، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ: فلم يُغيثوهم، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي: بين الداعين والمدعوين مَوْبِقاً أي: مهلكًا يهلكون فيه جميعًا، وهو النار، وقيل: العداوة، وهي نوع من الهلاك، لقول عمر رضي الله عنه: «لا يكن حُبك كَلَفًا، ولا بُغْضك تلفًا» «1» . وقيل: المراد بالبيْن: الوصل، أي: وجعلنا وصلهم في الدنيا هلاكًا في الآخرة، كقوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «2» ، وقيل: المراد بالشركاء: الملائكة، وعُزير، وعيسى- عليهم السلام-، ويراد حينئذ بالموبق: البرزخ البعيد، أي: وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخًا بعيدًا لأنهم في قعر جهنم، وهم في أعلى عليين.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ تصريحًا بإجرامهم، وذمًا لهم، أي: ورأوا النار فَظَنُّوا أي: أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها مخالطوها وواقعون فيها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي: انصرافًا ومعدلاً ينصرفون إليه، نسأل الله السلامة من مواقع الهلاك.
__________
(1) قال المناوى فى الفتح السماوي 2/ 796: «لم أقف عليه» ، ومعنى المثل: لا يكن حبك حبا مفرطا يؤدى إلى الولع والهيام، وبغضك بغضا مفرطا يجر إلى التلف.
(2) من الآية 94 من سورة الأنعام.(3/280)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
الإشارة: من اتخذ الله وليًا، بموالاة طاعته وإفراد محبته، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا، ومن وَالَى أولياء الله فإنما والى الله، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1» . وبالله التوفيق.
ثم ذكر كفرهم بالقرآن، مع كونه آية واضحة للعيان، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
قلت: جَدَلًا: تمييز، ورَبُّكَ: مبتدأ، والْغَفُورُ: خبره، وذُو الرَّحْمَةِ: خبر بعد خبر، وقيل: الخبر: (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) ، والْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ: صفتان للمبتدأ،، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب، وأيضًا: المغفرة ترك المؤاخذة، وهي غير متناهية، والرحمة فعل، وهو متناهي، وتقديم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية، و (المُهْلَك) بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر، من أهلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للمفعول لأن الفعل متعد، وقرئ بفتح الميم، من هلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للفاعل.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي: كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب، فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ لمصلحتهم ومنفعتهم، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل خبر يحتاجون إليه، أو: من كل مثل
__________
(1) من الآية 10 من سورة الفتح.(3/281)
مضروب يعتبرون به، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين، ومثل الحياة الدنيا. أو: من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان، التي هي، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب، كالمثل المضروب، ليتلقوه بالقبول، فلم يفعلوا. وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جِبلَّته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي: أكثر الأشياء، التي يتأتى منها الجدل، جدلاً، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل، والمعنى: أن جدله أكثر من جدل كل مجادل، وفيها ذم الجدل. وسببها:
مجادلة النضر بن الحارث كما قيل، وهي عامة.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم، من أَنْ يُؤْمِنُوا بالله تعالى، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك، إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي: حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز، فيؤمنوا، وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ عما فرط منهم من أنواع الذنوب، التي من جملتها: مجادلتهم للحق بالباطل، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي: ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره، فيكون على حذف مضاف، أي: انتظار سنة الأولين، وهو الهلاك. قال ابن جزي: معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة، وهي الإهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب أي: عذاب الآخرة. هـ. قلت: والظاهر أنَّ معنى الآية: ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا، كعادة الأمم الماضية، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه، أو: عذاب ينزل بهم جهرًا، وهو معنى قوله: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي: مقابلة وعيانًا.
قال تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي: مبشرين للمؤمنين بالثواب، ومنذرين للكافرين بالعقاب، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات، وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح الآيات كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها. يفعلون ذلك لِيُدْحِضُوا بِهِ أي: بالجدال الْحَقَّ، أي:
يزيلونه عن مركزه ويبطلونه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها. وجدالهم: قولهم لرسلهم عليهم السلام: مَآ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «1» ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «2» ، ونحوها. وَاتَّخَذُوا آياتِي التي تخرّ لها صُمّ الجبال، وهو القرآن، وَما أُنْذِرُوا أي: وإنذاري لهم، أو: الذي أنذروا به من العذاب والعقاب، هُزُواً مهزوءًا به، أو محل استهزاء.
__________
(1) الآية 15 من سورة يس.
(2) الآية 24 من سورة المؤمنون.(3/282)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ وهو القرآن العظيم، فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يؤمن بها، أي:
لا أحد أظلم منه لأنه أظلم من كل ظالم حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر والمعاصي، ولم يتفكر في عاقبتها، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً: أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، فعل ذلك بهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ، أو: منعناهم أن يقفوا على كنهه. وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً أي: ثِقلاً يمنعهم من استماعه، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي: فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف للطبع المتقدم على قلوبهم، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
و «إِذاً» : حرف جزاء وجواب، وهو، هنا، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم، كأنه قال صلى الله عليه وسلم: مالى لا أدعوهم؟ فقال: إن تدعهم ... الخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه، كما أنَّ إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ: البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بها، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا من المعاصي، التي من جملتها: ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل، وإعراضهم عن آيات ربهم، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ قبل يوم القيامة لاستجلاب أعمالهم لذلك، والمراد: إمهال قريش، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم القيامة، أو يوم بدر، والمعطوف عليه ببل: محذوف، أي: لكنهم ليسوا بمؤاخذين، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي: ملجأ يلتجئون إليه، أو مَنْجىً ينجون به، يقال: وأَلَ: أي: نجا، ووأل إليه: أي: التجأ إليه.
وَتِلْكَ الْقُرى أي: قرى عاد وثمود وأضرابها، أي: وأهل تلك القرى أَهْلَكْناهُمْ بالعذاب لَمَّا ظَلَمُوا أي: وقت ظلمهم، كما فعلت قريش بما حكى عنهم، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي: عَيَّنَّا لهلاكهم مَوْعِداً أي: وقتًا مُعَينًا، لا محيدَ لهم عن ذلك، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه. وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن(3/283)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته، فأعرض واستكبر ونسي ما قدَّمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك: جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
ولمَّا ذكر الحق جلّ جلاله قصة أهل الكهف، وكان وقع فيها عتاب للرسول- عليه الصلاة والسلام- حيث لم يستثن بتأخير الوحي، وبقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ... الخ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر- عليهما السلام- وكان سَبَبُها عتابَ الحق لموسى عليه السلام حيث لم يردَّ العلم إليه، حين قال له القائل: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فذكر الحق تعالى قصتهما تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب، فقال:
[سورة الكهف (18) : آية 60]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)
قلت: لا أَبْرَحُ: ناقصة، وخبرها: محذوف: اعتمادًا على قرينة الحال إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر، أي: لا أبرح أسير في سفري هذا، ويجوز أن تكون تامة، من زال يزول، أي: لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وكان ابن أخته، سُمي فتاه إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى في لغة العرب: الشاب، ولمَّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان، قيل للخادم: فتى، ويقال للتلميذ: فتى، وإن كان شيخًا، إذا كان في خدمة شيخه، فقال موسى عليه السلام: لا أَبْرَحُ: لا أزال أسير في طلب هذا الرجل، يعني: الخضر عليه السلام، حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزي: مجمع البحرين:
عند «طنجة» حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو بحر الأندلس. قلت: وهو قول كعب بن محمد القرظي. أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي: زمنًا طويلاً أتيقن معه فوات الطلب. والحقب: الدهر، أو ثمانون سنة، أو سبعون.
وسبب هذا السفر: أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر، بعد هلاك القبط، أمره اللهُ تعالى أن يُذّكر قومه هذه النعمة، فقام فيهم خطيبًا بخطبة بليغة، رقَّت بها القلوب، وذرفت منها العيون، فقالوا له: من أعلم الناس؟ فقال: أنا.
وفي رواية: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا. فعَتَب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه عزّ وجلّ، فأوحى الله إليه: أعلم(3/284)
منك عبدٌ لي بمجمع البحرين، وهو الخضر «1» ، وكان قبل موسى عليه السلام، وكان في مُقَدَّمَةِ ذي القرنين، فبقي إلى زمن موسى عليه السلام، وسيأتي ذكر التعريف به في محله، إن شاء الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أن موسى عليه السلام سأل ربه: أيُّ عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال:
فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يستقي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى، أو ترده عن ردى، قال: يا رب إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه؟ قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل البحر عند الصخرة «2» . قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: خُذ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فحيثما فقدتَه فهو هناك، فأخذ حُوتًا مشويًا، فجعله في مِكْتَلٍ، فقال لفتاه:
إذا فقدتَّ الحوت فأخبرني، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر، على ما يأتي تمامه، إن شاء الله تعالى. وحديث الخطبة هو الذي في صحيح البخاري «3» وغيره. والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان.
الإشارة: قصة سيدنا موسى مع الخضر- عليهما السلام- هي السبب في ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. وقيل: هو المراد بمجمع البحرين، حيث اجتمع سيدنا موسى، الذي هو بحر الشرائع، والخضر عليه السلام، الذي هو بحر الحقائق، ولا يُفهم أن سيدنا موسى عليه السلام خال من بحر الحقائق، بل كان جامعًا كاملاً، وإنما أراد الحق تعالى أن يُنزله إلى كمال الشرف، بالتواضع في طلب زيادة العلم تأديبًا له وتربية، حيث ادعى القوة في نسبته العلم إلى نفسه، وفي الحكم: «منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين، أفيبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين!» .
وهذه عادة الله تعالى مع خواصِّ أحبائه، إذا أظهروا شيئًا من القوة، أو خرجوا عن حد العبودية، ولو أنملة، أدبهم بأصغر منهم علمًا وحالاً عناية بهم، وتشريفًا لهم لئلا يقفوا دون ذروة الكمال، كقضية الشاذلي مع المرأة التي قالت له: تَمُنُّ على ربك بجوع ثمانين يومًا، وأنا لى تسعة أشهر ماذقت شيئًا. وكقضية الجنيد والسَّرِي في جماعة من الصوفية، حيث تكلموا في المحبة، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها، فقامت امرأة بالباب، عليها جُبة صوف، فردت على كل واحد ما قال، حيث أظهروا قوة علمهم، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر- عليهما السلام- والسفر إليه: الترغيب في العلم، ولا سيما علم الباطن، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي الله عنه: هو فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب إو إصرار على ذنب، إلا الأنبياء- عليهم السلام- وقد قال الشاذلي رضي الله عنه: من لم يغلغل في علمنا هذا مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرج حديث موسى والخضر، البخاري فى مواضع منا: (العلم، باب ما ذكر فى ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى خضر) ، و (أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر) ، و (التفسير، سورة الكهف) ، ومسلم فى (الفضائل، باب من فضائل الخضر) .
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (15/ 277) وعزاه السيوطي فى الدر (4/ 423) لابن المنذر، وابن أبى حاتم فى التفسير.
(3) أخرج البخاري حديث الخطبة فى (تفسير سورة الكهف، باب «فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما نسيا حوتهما» ) ، عن أبىّ بن كعب.(3/285)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
ثم ذكر بقية القصة، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 61 الى 65]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)
قلت: بَيْنِهِما: ظرف مضاف إليه اتساعًا، أو بمعنى الوصل، وسَرَباً: مفعول ثان لاتخذ، وإِذْ أَوَيْنا:
متعلق بمحذوف، أي: أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره. وأَنْ أَذْكُرَهُ: بدل من الهاء في (أَنْسانِيهُ) بدل اشتمال للمبالغة، وعَجَباً: مفعول ثان لاتخذ، وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: (فِي الْبَحْرِ) ، ثم ابتدأ التعجب فقال: (عَجَباً) أي: أَعْجَبُ عَجَبًا، وهو بعيد. قاله ابن جزي. قلت: وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي. و (قَصَصاً) : مصدر، أي: يقصان قصصًا.
يقول الحق جلّ جلاله: ثم إن موسى ويوشع- عليهما السلام- حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا، وسارا يلتمسان الخضر، فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما بين البحرين، أو مجمع وصل بعضهما ببعض، وجدا صخرة هناك، وعندها عين الحياة، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً، فناما، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ، ودخل البحر، وقد كانا أَكَلاَ منه، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع، وقيل: توضأ عليه السلام من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فحيى ودخل البحر، فاستيقظ موسى، وذهبا، ونَسِيا حُوتَهُما أي: نسيا تفقد أمره وما يكون منه، أو نسي يوشع أن يعلمه، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء، فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ أي: طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكًا كالطّاق، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد، حتى صار كالطاق في الماء معجزة لموسى أو الخضر- عليهما السلام.
فَلَمَّا جاوَزا مجمع البحرين، الذي جُعل موعدًا للملاقاة، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع، ف قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا أي: ما نتغدى به، وهو الحوت، كما يُنبئ عنه الجواب، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً: تعبًا وإعياء. قيل: لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك، ويدل عليه الإتيان بالإشارة، وجملة (لَقَدْ لَقِينا) : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.(3/286)
قالَ فتاه عليه السلام: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي: التجأنا إليها ونِمنا عندها، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي: أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، أَنْ أَذْكُرَهُ، ونسبته للشيطان هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله. وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.
قلت: والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك: «حفت الجنة بالمكاره» .
ثم قال: وَاتَّخَذَ الحوتُ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً، فيه حذف، أي: فحيى الحوت، واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه، وهو كون مسلكه كالطاق، قالَ موسى عليه السلام: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام، فَارْتَدَّا أي: رجعا عَلى طريقهما الذي جاءا منه، يَقُصَّان. يتبعان آثارِهِما قَصَصاً، حتى أتيا الصخرة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا، التنكير للتفخيم والإضافة للتعظيم، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور، واسمه: بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا، والخضر لقب له لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء، كما في حديث أبي هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم «1» .
وقال مجاهد: سمي خضرًا لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، ثم قال: وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا. هـ. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر، فقال: كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فأبى وهرب، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه. قيل: إنه شرب من عين الحياة فمُتع بطول الحياة.
رُوِي أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ- أي: بساط- على وجه الماء، فسلم عليه. وعنه- عليه الصلاة والسّلام- أنه قال: انتهى موسى إلى الخضر، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا، وقال: عليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: من أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال:
الذي أدراكَ بي، وذلك عليَّ.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى) .(3/287)
قال تعالى في حق الخضر: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، هي الوحي والنبوة، كما يُشعر به تنكير الرحمة، وإضافتها إلى جناب الكبرياء، وقيل: هي سر الخصوصية، وهي الولاية. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً خاصًا، لا يكتنه كُنْهه، ولا يُقدر قدره، وهو علم الغيوب، أو أسرار الحقيقة، أو علم الذات والصفات، علمًا حقيقيًا. فالخضر عليه السلام قيل: إنه نبي بدليل قوله فيما يأتي: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، وقيل: وَلِيٌّ، واخْتلف: هل مات، أو هو حي؟
وجمهور الأولياء: أنه حي، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء، حتى تواتر عنهم حياته «1» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً: أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ (اتَّخَذَ) : موسى، أي: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال: وعلى الجملة: فالقضية تشير من جهة الخضر: للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى: لإثبات الأسباب حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، العلم اللدني: هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسّلام: «من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» . وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.
__________
(1) بين أهل العلم خلاف فى شأن الخضر، هل هو نبى أم لا؟ وهل هو حى أم لا؟ ... راجع فى ذلك تفسير: ابن كثير (3/ 99) ، وفتح الباري (6/ 434) ، والمعالم الصوفية فى قصة سيدنا موسى والخضر، للأستاذ الدكتور جودة المهدى، فى حولية كلية أصول الدين بطنطا، العدد الأول، / 1987 م.(3/288)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
ثم تمم قصتهما بعد التقائهما، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 66 الى 70]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
قلت: «رُشْداً» : مفعول ثاني لعلمت، أو: علة لأتبعك، أو: مصدر بإضمار فعله، أو: حال من كاف «أَتَّبِعُكَ» ، أو:
على إسقاط الخافض، أي: من الرشد، وفيه لغتان: ضم الراء وسكون الشين، وفتحهما، وهو: إصابة الخير، وخُبْراً: تمييز محول عن الفاعل، أي: لم يحط به خبرك. و «لا أَعْصِي» : عُطِفَ على: «صابِراً» .
يقول الحق جلّ جلاله: ولما اتصل موسى بالخضر- عليهما السلام- استأذنه في صحبته ليتعلم منه، ملاطفة وأدباً وتواضعاً، وكذلك ينبغي لمن يريد التعلم من المشايخ: أن يتأدب ويتواضع معهم. قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي: مما علمك الله من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب، لعلي أرشد به في ديني. ولا ينافي كونه نبيًا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية إذ لا نهاية لعلمه تعالى، وقد قال له تعالى فيما تقدم: أعلم الناس من يبتغي علم غيره إلى علمه. رُوي أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان، فجاءت خُطافة أو عصفور فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض؟ ما علمك وعلمي وعلم الأولين والآخرين في جنب علم الله إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور.
ولَمَّا سأله صُحْبَتَهُ قالَ له: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع، وأنا أطلعني الله تعالى على أمور خفية، لا تتمالك أن تصبر عنها لمخالفة ظاهرها للشريعة. وفي صحيح البخاري:
«قال له الخضر: يا موسى، إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ، لا تعلمه أنت، وأنتَ على علمٍ من علم الله علَّمكَه الله، لا أعلمه» «1» .
ثم علّل عدم صبره بقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟ لأني أتولى أموراً خفية لا خُبر لك بها، وصاحب الشريعة لا يُسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة، قالَ له موسى عليه السّلام: سَتَجِدُنِي إِنْ
__________
(1) جاء ذلك فى رواية البخاري، التي أخرجها فى (العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أىّ الناس أعلم) ؟ من حديث أبىّ بن كعب. [.....](3/289)
شاءَ اللَّهُ صابِراً معك، غير مُعترض عليك. وتوسيط الاستثناء بين مفعولي الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن، ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً، هو داخل في الاستثناء، أي: ستجدنى إن شآء الله صابرًا وغير عاص.
وقال القشيري: وعد من نفسه شيئين: الصبر، وألاَّ يعصيه فيما يأمره به. فأما الصبر فَقَرنَه بالمشيئة، حتى وجده صابرًا، فلم يقبضْ على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل. والثاني قال: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً، فأطلق ولم يستثن، فعصى، حيث قال له الخضر: فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، فكان يسأله، فبالاستثناء لم يخالف، وبالإطلاق خالف. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وفيه نظر للحديث الصحيح: «يرحم الله موسى، لو صبر ... » مع أن قوله: «ولا أعصي ... » الخ، غير خارج عن الاستثناء، كما تقدم، وإن احتمل خروجه، والظاهر:
أن الاستثناء، كالدعاء، إنما ينفع إذا صادف القدر، وهو هنا لم يصادف، مع أنه هنا عارضه علم الخضر بكونه لم يصبر من قوله: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، وقد أراد الله نفوذ علم الخضر. هـ.
وقال ابن البنا: أن العهد إنما هو على قدر الاستطاعة، وإن الوفاء بالملتزم إنما يكون فيما لا يخالف الشرع، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق لأنَّ موسى عليه السلام لم يلتزم إلا ذلك. ولمّا رأى ما هو محرم تكلم.. فافهم. هـ.
ثم شرط عليه التسليم لِمَا يرى، فقال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالي، فهمْتَه أم لا، أي: لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته، فضلاً عن مناقشته واعتراضه، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً حتى أبتدي بيانه لك وحكمته، وفيه إيذان بأن ما يصدر منه له حكمة خفية، وعاقبة صالحة. وهذا من أدب المتعلم مع العالم، والتابع مع المتبوع، أنه لا يعترض على شيخه بل يسأل مُسترشدًا بملاطفةٍ وأدب، وهذا في العلم الظاهر.
وسيأتي في الإشارة ما يتعلق بعلم الباطن.
الإشارة: قد أخذ الصوفية- رضى الله عنهم- آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى- عليهما السلام- فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه: لِمَ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي: امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله: (فلا تسالن عن شيء) : قال:
ليس للمريد أن يقول لشيخه: لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم: لِمَ. هـ.(3/290)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
وقال ابن البنا في تفسيره: يُؤخذ من هذه القصة: ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله لأنه لا يجب عليك تقيده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ مَا لَيْسَ لَكَ به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
قلت: ما ذكره إنما هو في حق مَن لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله: فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ: الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي: وهو- أي: المحمول- ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال: مرادون محمولون، فما يجري عليهم:
قدر وَما رَمَيْتَ ... الآية. هـ.
ثم ذكر ما أراه من الخوارق، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)(3/291)
قلت: ضمَّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها، فعداه بفي، وقد تركه على أصله في قوله: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «1» .
يقول الحق جلّ جلاله: فَانْطَلَقا أي: موسى والخضر، وسكت عن الخادم لكونه تبعًا، وقيل: إن يوشع لم يصحبهما، بل رجع، فصارا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نَوْل، فلما لَجَّجُوا البَحْرَ أخذ الخضرُ فأسًا فخرق السفينة، فقلع لوحًا أو لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وقالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها أو: ليَغرَق أهلُها «2» ، لَقَدْ جِئْتَ أي: أتيتَ وفعلت، شَيْئاً إِمْراً أي: عظيمًا هائلاً، يقال: أَمِر الأمرُ: عظم، قالَ الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تذكيرًا لما قاله له من قبلُ، وإنكارًا لِعدم الوفاء بالعهد، قالَ موسى عليه السلام: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي:
بنسياني، أو بالذي نسيته، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه، أراد: نسي وصيته، ولا مؤاخذة على الناسي، وفي الحديث: «كانت الأولى مِن مُوسى نسيانًا» . أو: أراد بالنسيان الترك، أي: لا تُؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. وَلا تُرْهِقْنِي أي: لا تُغْشِنِي ولا تُحَمِّلْنِي مِنْ أَمْرِي، وهو اتباعك، عُسْراً أي: لا تعَسِّرْ عليّ في متابعتك، بل يسرها عليّ بالإغضاء والمسامحة.
فَانْطَلَقا أي: فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قيل: كان يلعب مع الغلمان ففتَلَ عنقه، وقيل: ضرب رأسه بحجر، وقيل: ذبحه، والأول أصح لوروده في الصحيح، رُوي أن اسم الغلام «جيسور» بالجيم، وقيل: بالحاء المهملة، فإِن قلت: لِمَ قال خَرَقَها بغير فاءٍ، وقال فَقَتَلَهُ بالفاء؟ فالجواب:
أن «خَرَقَها» : جواب الشرط، وقتله: من جملة الشرط، معطوفًا عليه، والجزاء هو قوله: (قالَ أَقَتَلْتَ) ، فإن قلت: لِمَ خولف بينهما؟ فالجواب: أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لِقاء الغلام. هـ. وأصله للزمخشري.
وقال البيضاوي: ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء، واعتراض موسى عليه السلام مستأنفًا في الأولى، وفي الثانية فَقَتَلَهُ من جملة الشرط، واعتراضه جزاء لأن القتل أقبح، والاعتراض عليه أدخل، فكان جديرًا بأن يجعل عمدة الكلام، ولذلك وصله بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي: منكرًا. هـ. وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره.
__________
(1) من الآية 8 من سورة النحل.
(2) بفتح الياء والراء، على الغيب، وأهلها: بالرفع على الفاعلية، وهى قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر الراء، مخففة مع سكون الغين على الخطاب، وأهلها بالنصب على المفعولية.. انظر الإتحاف (2/ 221) .(3/292)
قالَ موسى عليه السلام في اعتراضه: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً «1» : طاهرة من الذنوب، وقرئ بغير ألف مبالغةً، بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتلِ نفسٍ محرمةٍ، فيكون قصاصًا. وتخصيص نفي هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد إحصان لأنه أقرب إلى الوقوع نظرًا لحال الغلام. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي: مُنكرًا، قيل: أنكرُ من الأول، إذ لا يمكن تداركه، كما يمكن تدارك الأول بالسد ونحوه. وقيل:
«الإمْر» أعظم لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
قالَ له الخضرُ عليه السلام: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، زاد «لَكَ» لزيادة تأكيد المكافحة بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر، لما تكرر منه الإنكار، ولم يَرْعَوِ بالتذكير، حتى زاد في النكير في المرة الثانية بذكر المنكر. قالَ موسى عليه السلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي إن سألتُ صُحبتَكَ، وقرأ يعقوب: «فلا تصحبني» رباعيًا، أي: لا تجعلني صاحبًا لك، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي: قد أعذرتَ ووجدت مِنْ قِبَلِي عذرًا في مفارقتي، حيث خالفتك ثلاث مرات.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أَخِي مُوسَى، استحيا، فقال ذلك، لو لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصرَ أَعْجَبَ الأعَاجِيب» «2» .
وفي البخاري: «وددنا لو صبر موسى، حتى يقص الله علينا من أمرهما» «3» .
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ، هي أنطاكية، وقيل: أَيْلة، وقيل الأبُلة، وهي أبعد أرض الله من السماء، وقيل: برقة، وقال أبو هريرة وغيره: هي بالأندلس. ويُذكر أنها الجزيرة الخضراء. قلت: وهي التي تسمى اليوم طريفة، وأصلها بالظاء المشالة. وذلك على قول إن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كانوا أهل قرية لِئامًا» . وقال قتادة: شر القرى التي لا يُضاف فيها الضيف، ولا يعرف لابن السبيل حقه.
ثم وصف القرية بقوله: اسْتَطْعَما أَهْلَها أي: طلبا منهم طعامًا، ولم يقل: استطعماهم، على أن يكون صفة لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم، فإن الإباء من الضيافة، مع كونهم أهلها قاطنين بها، أشنع وأقبح.
رُوي أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام، فلم يطعموهما. واستضافاهم فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بالتشديد، وقرئ بالتخفيف. يقال: ضافه: إذا كان له ضيفًا، أضافه وضيّفه: أنزله ضيفًا. وأصل الإضافة: الميل، من: ضاف السهم
__________
(1) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: «زاكية» بألف بعد الزاى، وتخفيف الياء، اسم فاعل من «زكا» ، وقرأ الباقون: «زكية» بتشديد الياء من غير ألف ... انظر الإتحاف 2/ 221.
(2) أخرجه، بنحوه، أبو داود فى (الحروف والقراءات ح 2984) ، وأصل الحديث فى صحيح مسلم فى (الفضائل، باب من فضائل الخضر) .. فى سياق طويل.
(3) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الكهف) .(3/293)
عن الغرض: مال، ونظيره: زاره، من الازْوِرَار، أي: الميل. فبينما هما يمشيان، فَوَجَدا فِيها جِداراً، قال وهب: كان طوله مائة ذراع، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي: يسقط، استعار الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة في ذلك، والانقضاض: الإسراع في السقوط، وهو انفعال، من القض، يقال: قضضته فانقض، ومنه: انقضاض الطير والكوكب لسقوطه بسرعة. وقرئ: أن ينقاض، من انقاضت السنُّ: إذا سقطت طولاً. فَأَقامَهُ قيل: مسحه بيده فقام، وقيل: نقضه وبناه، وهو بعيد. قالَ له موسى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً نتعشى به، وهو تحريض له على أخذ الجُعل، أو تعريض بأنه فُضول، وكأنه لَمَّا رأى الحِرمَان ومساس الحاجة كان اشتغاله بذلك في ذلك الوقت مما لا يعني، فلم يتمالك الصبر عليه.
قال ابن التين: إن الثالثة كانت نسيانًا لأنه يبعد الإنكار لأمر مشروع، وهو الإحسان لمن أساء. هـ. وفيه نظر فقد قال القشيري في تفسير الآية: لم يقل موسى: إنك ألْمَمْتَ بمحظور، ولكن قال: لو شئتَ، أي: فإن لم تأخذ بسببك فهلا أخذت بسببنا، فكان أخْذُ الأجر خيرًا من الترك، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللت بحقنا؟ ويقال: إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديب، فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقة، وإلاَّ فهو نسي، حيث سقى لبنات شعيب، وكان ما أصابه من التعب والجوع أكثر، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً، وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلا. هـ.
قلت: لأن الحق تعالى أراد تأديبه فلم يحمل عنه، فكان سالكًا محضًا، وفي وقت السقي: كان مجذوبًا محمولاً عنه.
ثم قال القشيري: وكما أن موسى كان يُحب صحبة الخضر لما له فيه من غرض استزادةٍ من العلم، كان الخضر يحب ترك صحبته إيثارًا للخلوة بالله عنه. هـ. قاله في الحاشية الفاسية.
الإشارة: يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد «1» ، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما مادام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام: أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان، والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق.
ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا:
الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساءوا بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان حيث أقام جدارهم.
والله تعالى أعلم.
__________
(1) فى هذا الكلام نظر.(3/294)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
ثم ذكر افتراقهما، وبيان الحكمة فى تلك الخوارق التي فعل، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 78 الى 82]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
قلت: هذا، الإشارة إما إلى نفس الفراق، كقولك: هذا أخوك، أو إلى الوقت الحاضر، أي: هذا وقت الفراق.
أو إلى السؤال الثالث. و (بَيْنِي) : ظرف مضاف إليه المصدر مجازًا، وقرئ بالنصب، على الأصل، وغَصْباً:
مصدر نوعي ليأخذ.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الخضر عليه السلام: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ فلا تصحبني بعد هذا، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي: سأخبرك بالخبر الباطن، فيما لم تستطع عليه صبرًا لكونه منكرًا في الظاهر، فالتأويل: رجوع الشيء إلى مآله، والمراد هنا: المآل والعاقبة، وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته، ولم يقل: «بتأويل ما رأيت» نوعُ تعريضٍ به، وعتابه عليه السلام.
ثم جعل يفسر له، فقال: أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتُها، فَكانَتْ لِمَساكِينَ: ضُعفاء، لا يقدرون على مدافعة الظلمة، فسماهم مساكين لذلهم وضعفهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المَسَاكِينِ» «1» . فلم يُرد مسكنة الفقر، وإنما أراد التواضع والخضوع، أي: احشرني مخبتًا متواضعًا، غير جبار ولا متكبر، وقيل: كانت السفينة لعشرة إخوة: خمسة زَمْنَى»
، وخمسة يَعْمَلُونَ فِي
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم) ، وابن ماجة (فى الزهد، باب مجالسة الفقراء) .
(2) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم) ، وابن ماجة (فى الزهد، باب مجالسة الفقراء) .(3/295)
الْبَحْرِ. وإسناد العمل إلى الكل، حينئذ، بطريق التغليب، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها: أجعلها ذات عيب، «1» وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي: أمامهم، وقرئ به، أو خلفهم، وكان رجوعهم عليه لا محالة، وكان اسمه: «جلندي بن كركر» وقيل: «هُدَدُ بن بُدَد» ، قال ابن عطية: وهذا كله غير ثابت، يعني: تسمية الملك. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة، وقرئ به، غَصْباً من أصحابها.
وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب، فيقول: فكانت لمساكين، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة، فأردت أن أعيبها لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب، وإنما قدّم للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجة إلى التأويل، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها، مع توهم رجوعه إلى الأقرب. قال البيضاوي: ومبني ذلك- أي: التعيب وخوف الغصب- على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما، وهو أصل ممهد، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. هـ.
وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتلتُه، فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ وقد طُبع هو كافرًا، وإنما لم يصرح بكفره لعدم الحاجة إليه لظهوره من قوله: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما: فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ طُغْياناً عليهما وَكُفْراً بنعمتهما لعقوقه وسوء صنيعه، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا. وإنما خشي الخضر عليه السلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره، وقرئ: «فخاف ربك» ، أي: كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر. ويجوز أن يكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ بأن يرزقهما بدله ولدًا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً: طهارة من الذنوب والأخلاق الردية، وَأَقْرَبَ رُحْماً أي: رحمة وعطفًا، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على وصول الخير إليهما، فلذلك قيل: ولدت لهما جارية، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبيًا، وقيل: أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما.
وَأَمَّا الْجِدارُ الذي أقمتُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ أي: القرية المذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح، قيل: اسم اليتيمين:
أصرم وصريم. وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من فضة وذهب، كما في الحديث «2» ، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته، مع أن هذه شريعة أخرى. قال ابن عباس: (كان لوحًا من ذهب، مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن
__________
(1) أي: مرضى بمرض مزمن.
(2) أخرجه الترمذي فى (تفسير سورة الكهف) ، والحاكم فى المستدرك (2/ 369) ، عن أبى الدرداء مرفوعا.(3/296)
بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله) «1» . وقيل: كانت صحفًا فيها علم مدفون.
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما، وفيه دليل على أنَّ الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم، قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد. قال محمد بن المنكدر: (إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، ومَسربته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فلا يزالون في حِفْظِ الله وستره) . وكان سعيد بن المسيب يقول لولده: إني لأزيد في صلاتي من أجلك، رجاء أن أُحْفَظَ فيك، ويتلو هذه الآية. وفي الحديث: «ما أحسن أحدٌ الخلافة في مَاله إلا أحْسَنَ الله الخلافة في تركته» «2» . ويؤخذ من الآية:
القيام بحق أولاد الصالحين إذ قام الخضر عليه السلام بذلك.
فَأَرادَ رَبُّكَ أي: مالكك ومُدبر أمرك. وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام، دون ضميرهما، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد، والاستسلام لإرادته سبحانه، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها. أراد أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما: حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما من تحت الجدار، ولولا أنى أقمته لا نقض، وخرج الكنز من تحته، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته، وضاع بالكلية رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مصدر في موضع الحال، أي: يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى. أو: يتعلق بمضمر، أي: فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بمن فُعل له أو به.
وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة فنسب ما كان عيبًا لنفسه، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ، وإبداله بخير منه خير، فأتى بضمير المشاركة، وما كان كمالاً محضًا، وهو إقامة الجدار، نسبه لله تعالى.
ثم قال: وَما فَعَلْتُهُ أي: ما رَأَيْتَ من الخوارق عَنْ أَمْرِي أي: عن رأيي واجتهادي، بل بوحي إلهي مَلَكي، أو إلهامي، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته، ذلِكَ أي: ما تقدّم ذكره من التأويلات، تَأْوِيلُ أي: مآل وعاقبة ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي: تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا، فحذف التاء تخفيفًا، وهو فذلكة لِمَا تقدم، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب. قيل: كل ما أنكر سيدنا موسى
__________
(1) أخرجه الطبري فى تفسيره (16/ 6) . وانظر تفسير ابن كثير (3/ 99) .
(2) عزاه فى كنز العمال (16071) لابن المبارك، عن ابن شهاب، مرسلا. وذكره مرفوعا: ابن عدى فى الكامل (6/ 2291) عن ابن عمر، وضعّفه.(3/297)
عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله، ففي هذه الأمثلة حجة عليه، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة، نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له: أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار، نودي: أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر؟ والله تعالى أعلم.
رُوِيَ أنه قال له: لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة، كلها مما رأيت. ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه، قال له: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. هـ.
وفي رواية: قال له: اجعل همتك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن الخوفَ، ولا تيأس الأمْن، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له: زدني يا ولي الله، فقال: يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عَجَب، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران، وإياك والإعجاب بنفسك، والتفريط فيما بقي من عمرك، فقال له موسى: قد أبلغت في الوصية، أتم الله عليك نعمته، وغمرك في رحمته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر: آمين. فأوصني أنت يا نبي الله، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا ترضى عن أحد إلا في الله، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل في الكفر، فقال له الخضر: قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران، أعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، قال موسى: آمين.
تنبيه: قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام. وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة، فنزل فاغتسل منها، وشرب من مائها، فأخطأ ذو القرنين الطريق، فعاد، فلم يصادفها، قالوا: وإلياس أيضًا في الحياة، يلتقيان في كل سنة بالموسم، واحتج من قال بموت الخضر بقوله- عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح، بعد صلاة العشاء: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظهر الأرض أحد» «1» ، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب، أو يخصص الحديث به كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت
__________
(1) أخرجه البخاري فى (العلم، باب السمر فى العلم) ، ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تأتى مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنه.(3/298)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا: إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة ذى القرنين، الذي وقع السؤال عنه مع الروح وأهل الكهف، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْئَلُونَكَ أي: اليهود، سألوه على وجه الامتحان، أو قريش، بتلقينهم.
والتعبير بالمضارع للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب، والمراد: ذو القرنين الأكبر، وكان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه في بئر السبع بالشام، واسمه تبرس، وقيل:
هرديس «1» ، وأما ذو القرنين الأصغر، بالقرب من زمن عيسى عليه السلام، واسمه الإسكندر، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف، وقيل: المراد به هنا الأصغر، واقتصر عليه المحلِّي.
قال الإمام الرازي: والأول أظهر لأن من بلغ مُلكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر، كما شهدت به كتب التواريخ. قلت: كلاهما بلغا الغاية القصوى، وملكا المشارق والمغارب، أما ذو القرنين الأكبر، فقيل: إنه كان ملِكًا عادلاً صالحًا، ملك الأقاليم، وقهر أهلها من الملوك، ودانت له البلاد، وإنه كان داعيا
__________
(1) ليس فى هذا الشأن خبر عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. [.....](3/299)
إلى الله تعالى، سائرًا في الخَلْق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور، وكان الخضر على مقدمة جيشه، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير. وقيل: كان ابن خالته. وذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السلام، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل. ورُوي أنه حج ماشيًا، فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له، وأوصاه بوصايا. ويقال: إنه أُتي بفرس ليركب، فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فعند ذلك سخّر له السحاب، وطوى له الأسفار، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم، إذا ارادوا غزو قوم. وسئل عنه علىّ رضي الله عنه:
أكان نبيًا أو ملَكًا- بالفتح؟ فقال: لم يكن نبيًا ولا ملَكًا، ولكن كان عبدًا أحبَّ الله فأحبه الله، وناصَحَ الله فناصحه، فسخر له السحاب، ومدَّ له الأسباب «1» .
وقال مجاهد: ملك الأرض أربعةٌ: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: نمرود وبختنصر. هـ.
وأما ذو القرنين الأصغر، وهو الإسكندر اليوناني، فرُوِيَ انه لما مات أبوه جمع مُلْكَ الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحةٍ، ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب، ودان له العراقيون والقبط والبربر، واستولى على ملوك الفرس، وقصد السند وفتحه، وبنى مدينة سرنديب وغيرها، ثم قصد الصين، وغزا الأمم البعيدة، ورجع إلى العراق ومرض ومات.
رُوِيَ أن أهل النجوم: قالوا له: إنك تموت على أرض من حديد، وتحت سماء من خشب، فبلغ بابل، ورعُف، وسقط عن دابته، فبسطت له دروع من حديد، فنام عليها، فآذته الشمس، فأظلوه بترس من خشب، فنظر، فقال: هذه أرض من حديد وسماء من خشب، فمات، وهو ابن ألف وستمائة سنة، وقيل: ثلاثة آلاف، قال ابن كثير: وهو غريب. قلت: والذي لابن عساكر: أنه عاش ستًا وثلاثين سنة، وأنه كان بعد داود وسليمان- عليهما السلام- ثم قال ابن عساكر بعد كلام: وإنما بينّا هذا لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير. كيف لا، والأول كان عبدًا صالحًا مؤمنًا، ملكًا عادلاً، وزيره الخضر عليه السلام، وقد قيل: إنه كان نبيًا، وأما الثاني فقد كان كافرًا، وزيره أرسْطَاطَاليس الفيلسوف، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذلك؟!. هـ فتأمله مع ما ذكر في اللُباب من تعزيته أمه، مما يدل على إسلامه، قال فيه: لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله، دعا بكاتبه، فقال له: اكتب تعزيتي لأمي، بسم الله
__________
(1) انظر تفسير الطبري 16/ 8، والبغوي 5/ 197.(3/300)
الرحمن الرحيم، من الإسكندر ابن قيصر، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه، إلى أمي رومية ذات الصفا، التي لم تتمتع بثمرتها في دار الفناء، وعما قريب تجاوره في دار البقاء، يا أماه أسألك بودك لي وودي لك، هل رأيت لِحَيِّ قرارًا في الدار الدنيا؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج، ثم يهشم ويتناثر، كأن لم يغنَ بالأمس، وإني قد قرأت في بعض الكتب فيما أنزل الله: يا دنياي ارحلي بأهلِكِ، فإنكِ لستِ لهم بدار، إنما الدنيا واهبة الموت، موروثة الأحزان، مفرقة الأحباب، مخربة العمران، وكل مخلوق في دار الأغيار ليس له قرار. انظر بقية كلامه فيه. ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه. والله تعالى أعلم.
واختُلِفَ في ذي القرنين المذكور في القرآن: هل كان نبيًا أو ملَكًا- بفتح اللام- أو ملِكًا- بالكسر- وهو الصحيح، واختلف في وجه تسميته بذي القرنين فقيل: كان في رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين، وقيل: لأنه كان له ذؤابتان، وقيل: لأنه دعا الناس إلى الله عزَّ وجَلَّ، فضُرب بقرنه الأيمن، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر، وقيل: لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس، وقيل: لأنه انقرض في عهده قرنان، وقيل: لأنه سخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتحوطه الظلمة من ورائه. هـ.
ثم ذكر الحق تعالى الجواب، فقال: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ أي: سأذكر لكم مِنْهُ ذِكْراً أي: خبرًا مذكورًا، أو قرآنا يخبركم بشأنه، والسين للتأكيد، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى الله عليه وسلم، وتصديقه بإنجاز وعده، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع في المستقبل لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عنه، وعن الروح، وعن أهل الكهف، فقال: غدًا أُخبركم، فتأخر الوحي كما تقدم، ثم نزلت السورة مفصلة.
ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر، فقال: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي: مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار، حيث سخر له السحاب، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وسهل له السير في الأرض، وذللت له طرقها، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه سَبَباً أي: طريقًا يُوصله إليه من علم، أو قدرة، أو آلة، فأراد الوصول إلى الغرب فَأَتْبَعَ سَبَباً: طريقًا يوصله إليه.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي: منتهى الأرض من جهة المغرب، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين. وَجَدَها أي: الشمس، تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي: ذات حمأ، وهو الطين الأسود،(3/301)
وقرئ: حامية، أي: حارة، روى أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية، وعنده ابن عباس، فقال ابن عباس: حمئة، فقال معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذا نجده في التوراة، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه.
وليس بينهما تنافٍ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار، مع أن قراءته أيضًا متواترة، فلكون قراءة ابن عباس قطعية في مدلولها، وقراءته محتملة، ولعله لَمَّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك، إذ ليس في مطمح نظره غير الماء، كما يلوح به قوله تعالى: وَجَدَها تَغْرُبُ، ولم يقل: كانت تغرب فإن الشمس في السماء لا تغرب في الأرض.
وَوَجَدَ عِنْدَها أي: تلك العين قَوْماً قيل: كان لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لفظه البحر، وكانوا كفارًا، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل، وأن يدعوهم إلى الإيمان، فقال: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل من أول الأمر، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أمرًا ذا حُسْنٍ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع، واستدل بهذا على نبوته، ومن لم يقل بها قال: كان بواسطة نبي كان معه في ذلك العصر، أو إلهامًا، بعد أن كان التخيير موافقًا لشريعة ذلك النبي، قالَ ذو القرنين، لمن كان عنده: مختارًا للشق الأخير، وهو الدعاء إلى الإسلام: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ في نفسه، وأصرّ على الكفران، ولم يقبل الإيمان فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل. وعن قتادة: أنه كان يطبخ من كفر في القدور «1» ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة نُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً منكراً فظيعاً، لم يُعهد مثله، وهو عذاب النار. وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه، أي: حيث لم يقل: «ثم يرد إليك» ، وأن مقاولته كانت مع النبي، أو مع من عنده من أهل مشورته.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بموجب دعوته وَعَمِلَ عملاً صالِحاً حسبما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى «2» ، أي: المثوبة الحسنى، أو الفعلة الحسنى جزاء، على قراءة النصب، على أنه مصدر مؤكد للجملة، قُدِّم عليه المبتدأ اعتناءً، أو حال، أو تمييز. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي: مما نأمر به يُسْراً: سهلاً ميسرًا، غير شاق عليه. والله تعالى أعلم.
__________
(1) لا يصح نسبة هذا- إطلاقا- لذى القرنين- رحمه الله.
(2) قرأ حفص وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب: «جزاء» بفتح الهمزة منونة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بالرفع من غير تنوين، على الابتداء، والخبر: الظرف قبله، والحسنى مضاف إليها ... انظر: شرح الهداية (2/ 402) ، والإتحاف (2/ 224) .(3/302)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
الإشارة: ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه «أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، يقول الله تعالى، في بعض كلامه: «يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد» .
قال القشيري: ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قوما بما شاءوا، ويمنع قوما عما شاءوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت: وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر سير ذى القرنين إلى جهة المشرق، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
قلت: مَطْلِعَ فيه لغتان: الكسر والفتح، وكَذلِكَ: خبر عن مضمر، أي: أمر ذي القرنين كما وصفنا لك، أو صفة مصدر محذوف لِوَجَد، أو نَجْعَلْ أي: وجدا أو جعلا كذلك، أو صفة لقوم، أي: على قوم مثل ذلك القبيل، الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم، أو صفة لستر، أي: سترًا مثل ستركم.
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً: طريقًا راجعًا من مغرب الشمس، موصلاً إلى مشرقها، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي: الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمورة الأرض، قيل:
بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل: في أقل من ذلك.(3/303)
وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ عراة لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً من اللباس والبنيان، قيل: هم الزنج، وفي اللباب: قيل: إنهم بنو كليب، وقيل: إن بني كليب طائفة منهم، وهم قوم بآخر صين الصين، على صور بني آدم، إلاّ أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب، ووجوه كوجوه الكلاب، وأكثر قُوتِهم الحوت، ومَن مات منهم أكلوه، وملأوا موضع دماغه مسكًا وعنبرًا، وحبسوه عندهم تبركًا بآبائهم وأبنائهم. ثم قال: وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم. هـ.
وعن كعب: أن أرضهم لا تمسك الأبنية، وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم، يتراعون فيها كما ترعى البهائم. قال رجل من سمَرْقَنْد: خرجت حتى جاوزت الصين، فقالوا لي: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلاً حتى بلغتهم، فإذا أحدهم يفرش أذنه، ويلبس الأخرى، وكان صاحبي يُحسن لسانهم، فسألهم فقالوا: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس. قال: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي عليَّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلَعت الشمس على الماء، إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربًا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه في الشمس فينضج «1» . هـ. وعن مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. هـ.
وقوله تعالى: كَذلِكَ أي: أمر ذي القرنين كما وصفنا، في رفعة المحل وبسط الملك، أو أمره فيهم كأمره في أهل مغرب الشمس، من التخيير والاختيار، أو وجد قومًا عند مطلع الشمس كذلك، وحكم فيهم، بحكم أولئك.
أو: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ) سترًا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال. قال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، ولا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر. هـ. قال تعالى: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الأسباب والعُدَد، وما صدر عنه وما لاقاه خُبْراً: علمًا تعلق بظواهره وخفايا أمره، يعني: أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
الإشارة: كان ذو القرنين في الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية، وفي الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية، وهي شمس القلوب، التي تكشف أستار الغيوب، ثم أتبع سبَبًا يُوصل إلى شمس العيان، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان، لم يجعل لهم من دونها سِتْرًا على الدوام، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام، حتى قال قائلهم:
لو حجب عني الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تقول: وجدها تطلع على أهل التجريد، الخائضين في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه:
أقارئين علم التوحيد ... هنا البحور إلي تنبي
هذا مقام أهل التجريد ... الواقفين مع ربّى
__________
(1) قال الآلوسى معقبا: (وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغى أن يلتفت إليها ويعول عليها، وما هى إلا أخبار عن هيان بن بيان، تحكيها العجائز لصغار الصبيان) . انظر روح المعاني (16/ 36) .(3/304)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
قد تجرّدوا من لباس الزينة والافتخار، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار، فعوضهم الله تعالى في قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار، صبروا قليلاً، واستراحوا زمنًا طويلاً، تذللوا قليلاً، وعزّوا عزًا طويلاً، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم أخذ ذو القرنين من الجنوب إلى الشمال، كما قال تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 101]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
. قلت: بَيْنَ السَّدَّيْنِ: مفعول، لا ظرف لأنه يستعمل متصرفًا.
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً: طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب، سالكًا من الجنوب إلى الشمال، حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ: بين الجبلين، اللذين سُدَّ ما بينهما، وهو منقطع أرض الترك، مما يلي المشرق، لا جبال أرمينية وأذربيجان، كما توهم، وفيه لغتان: الضم والفتح، وقيل: ما كان من فعل الله فهو مضموم، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح. وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي: من ورائهما: مما يلي بر الترك، قَوْماً: أمة من الناس لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ: يفهمون قَوْلًا لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم، وقرئ بالضم رباعيًا، أي: لا يُفصحون بكلامهم، واختلف فيهم، قيل: هم جيل من الترك قال السدي: الترك سُرْبة من يأجوج ومأجوج، خرجت، فضرب ذو القرنين السد، فبقيت خارجة. قلت: ولعلهم طلبوا منه ذلك، حين اعتزلوا قومهم، ثم قال: فجميع الترك منهم. وعن قتادة: أنهم، - أي: يأجوج ومأجوج- اثنتان وعشرون قبيلة،(3/305)
سد ذو القرنين على إحدى وعشرين، وبقيت واحدة، فسُموا الترك لأنهم تُرِكُوا خارجين. قال أهل التاريخ: أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أَبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج. هـ.
وقُرِئ بالهمز فيهما لأنه من أجيج النار، أي: ضوؤها وشررها، شُبهوا به في كثرتهم وشدتهم، وهو غير منصرف للعجمة والعلَمية.
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان، أو يكون فَهم كلامهم، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب، فقالوا له: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ «1» ، قد تقدم أنهم من أولاد يافث. وما يقال: إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح، واختلف في صفاتهم، فقيل: في غاية صغر الجثة وقصر القامة، لا يزيد قدمهم على شبر، وقيل: في نهاية عِظم الجسم وطول القامة، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعًا، وفيهم من عرضه كذلك.
قال عبد الله بن مسعود: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: «هم أمم، كل أمة أربع مائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح» ، قيل: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز- وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع- وصنف عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مُقَدَّمَتُهُمْ بالشام، وسَاقَتُهُمْ بخراسان، يشربون أنهار المشرق، وبحيرة طبرية» . «2» .
فقالوا له: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي: في أرضنا، بالقتل، والتخريب، وإتلاف الزرع، قيل: كانوا يخرجون أيام الربيع، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابسًا إلا احتملوه، وكانوا يأكلون الناس أيضًا.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي: جُعْلاً من أموالنا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا بالفتح وبالضم، أي:
حاجزًا يمنعهم منا؟
قالَ ما مَكَّنِّي- بالفك وبالإدغام- أي: ما مكنني فِيهِ رَبِّي، وجعلنى فيه مكينًا قادرًا من الملك والمال وسائر الأسباب، خَيْرٌ من جُعْلِكم، فلا حاجة لي به، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ الأبدان وعمل الأيدي، كصُنَّاع يحسنون البناء والعمل، وبآلاتٍ لا بد منها في البناء، أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي: حاجزًا حصينًا، وبرزخًا مكينًا، وهو أكبر من السد وأوثق، يقال: ثوب مُردم إذا كان ذا رقاع فوق رقاع، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون.
__________
(1) هذه قراءة الجماعة (بدون همز) ، وقرأ عاصم بالهمز.. انظر إتحاف فضلاء البشر (2/ 225) .
(2) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 450) لابن أبى حاتم، وابن مردويه وابن عدى، وابن عساكر، وابن النجار، وفيه أن السائل هو حذيفة.(3/306)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ: جمع زبرة، وهي القطعة الكبيرة، وهذا لا ينافي رد خراجهم لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة، كما ينبئ عنه قراءة: «ائتوني» بوصل الهمزة، أي: جيئوني بزبر الحديد، على حذف الباء، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة، دون الخراج على العمل.
قال القشيري: استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم، ولم يأخذ منهم عُمالة لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المُكنة. هـ.
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات من الفحم والحَطب وغيرهما لأن الحاجة إليها أمسُّ لأنها الركن في السد، ووجودها أعز. قيل: حفر الأساس حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد، وجعل بيْنهما الفحم والحطب، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، وكان بينهما مائة فرسخ، وذلك قوله تعالى: حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، وقرئ بضمهما «1» ، أي: مازال يبني شيئًا فشيئًا حتى إذا جعل ما بين ناصيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السُّمْك. قيل: كان ارتفاعه: مائتي ذراع، وعرضه: خمسون ذراعًا. وقرئ (سوَّى) بالتشديد، من التسوية.
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء، قالَ للعَمَلة: انْفُخُوا النيران في الحديد المبني، ففعلوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي: المنفوخ فيه نارًا أي: كالنار في الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذي القرنين، مع أنه من فعل العملة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك، وهم بمنزلة الآلة. قالَ للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها:
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي: آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه، وإسناد الإفراغ إلى نفسه، لِمَا تقدم.
فَمَا اسْطاعُوا أي: استطاعوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أيْ: يعلوه بالصعود لارتفاعه، والفاء فصيحة، أي: ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر، فأفرغوه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صلَدًا، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ لارتفاعه وملاسته، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته، وهذه معجزة له لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها، فضلاً عن إفراغ القطر عليها، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. واللهُ على كل شيءٍ قدير.
قالَ ذو القرنين، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم: هذا أي: السد، أو تمكينه منه، رَحْمَةٌ عظيمة مِنْ رَبِّي على كافة العباد، لا سيما على مجاوريه، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق، بل هو إحسان إلهي محض، وإن ظهر بمباشرتي. والتعرض لوصف الربوبية لتربية معنى الرحمة.
__________
(1) أي: الصاد والدال فى «الصدفين» . وهى قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، ويعقوب. وقرأ أبو بكر: بضم الصاد وإسكان الدال، وقرأ الباقون بفتحهما.. انظر الإتحاف (2/ 227) .(3/307)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي: وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة بأن شارف قيامُها، جَعَلَهُ أي: السد المذكور، مع متانته ورصانته، دَكَّاءَ: مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى، بعد بيان سعة رحمته، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا: كائنًا لا محالة.
رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ يأجُوجَ ومأجُوجَ يَحْفِرُون السد، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشمس، قال الذي عليهم: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرونه غَدًا، فيُعِيدُهُ اللهُ كأشَدّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ، حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غَدًا إِنْ شَاءَ الله، فَيَعُودُونَ إِلَيْه، وهُوَ على هَيْئَتِهِ كما تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ فيخْرُجُونَ عَلَى النَّاس» «1» . وسيأتي في الأنبياء تمام قصة خروجهم، إن شاء الله، وهذا آخر كلام ذي القرنين.
قال تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ: يوم مجيء الوعد، ويخرجون، يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يزدحمون في البلاد، أو: يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم، حيارى من شدة الهول. رُوي أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به، ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله عليهم مرضًا في رقابهم، فيموتون مرة واحدة، فيرسل الله طيرًا فترميهم في البحر، ثم يرسل مطرًا تغسل الأرضَ منهم، ثم تُوضع فيها البركة، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، ثم تنقرض الدنيا، كما قال تعالى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى اكتفاء بذكرها في موضع آخر، أي: جمعنا الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم، وتمزقت أجسادهم، في صعيد واحد للحساب والجزاء، جمعًا عجيبًا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ، وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ جمعنا الخلائق كافة، لِلْكافِرِينَ منهم، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، عَرْضاً فظيعًا هائلاً لا يقدر قدره، وخص العَرض بهم، وإن كان بمرْأى من أهل الموقف قاطبة لأن ذلك لأجلهم.
ثم ذكر وصفهم بقوله: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ وهم في الدنيا فِي غِطاءٍ كثيف وغشاوة غليظة عَنْ ذِكْرِي: عن سماع القرآن وتدبره، أو: عن ذكري بالتوحيد والتمجيد، أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي: وكانوا مع ذلك لفرط تصامُمِهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون استماعًا منه لذكري وكلامي، الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.
__________
(1) أخرجه بنحوه، مطولا، أحمد فى المسند (2/ 510) ، والترمذي فى (التفسير) ، وابن ماجة فى (الفتن، باب فتنة الرجال) ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(3/308)
الإشارة: السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها: زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها: نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، (فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس) . ومنها: تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها:
أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال: خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: لئلا ننسى الموت ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال: فما بال بيوتكم لا أبواب لها؟ قالوا: ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال: فما بالكم ليس فيكم حُكَّام؟ قالوا: لا نختصم، قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟
قالوا: لا نفتخر، قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال: فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة؟ قالوا: من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال:
أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال: فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بيننا بالسوية. قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا: من قِبَل الذلة والتواضع، قال: فما جعلكم أطول الناس أعمارًا؟ قالوا: من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال: فما بالكم لا تضحكون؟ قالوا: لا نغفُل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال: فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس؟ قالوا: لأنا لا نتوكل على غير الله، قال: هل وجدتم آباءكم هكذا؟ قالوا: نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى مَن أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياء، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين: لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.(3/309)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
وقال في القوت: قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين: كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي: دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ «1» ، وقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ... «2» الآية. هـ.
وسبب غطاء القلوب عن الاستماع والاستبصار هو اتباع الهوى ومحبة غير المولى، فلذلك أنكره الحق تعالى على الكفار بقوله:
[سورة الكهف (18) : آية 102]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)
قلت: أَنْ يَتَّخِذُوا: سد مسد المفعولين، أو حذف الثاني، أي: أَحَسِبُوا اتخاذهم نافعهم ونُزُلًا: حال من جهنم.
يقول الحق جلّ جلاله منكرا على الكفار المتقدمين: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين أعرضوا عن ذكري، وكانت أعينهم في غطاء عن رؤية دلائل توحيدي، أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي كالملائكة والمسيح وعزير، أو الشياطين لأنهم عباد، مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أي: معبودين من دوني، يُوالونهِم بالعبادة، أن ذلك ينفعهم، أو:
ألا نعذبهم على ذلك، بل نعذبهم على ذلك، إِنَّا أَعْتَدْنا يَسَّرنا وهيأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي: شيئًا يتمتعون به أول ورودهم القيامة. والنزُل: ما يقدم للنزيل أي: الضيف، وعدل عن الإضمار ذمًا لهم على كفرهم، وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم، وعبَّر بالإعْتادِ تهكمًا بهم، وتخطئة لهم، حيث كان اتخاذهم أولياء من قبيل العتاد، وإعداد الزاد ليوم المعاد، فكأنه قيل: إنا أعتدنا لهم، مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذُّخْرِ، جهنم عدة لهم. وفي ذكر النُزل: إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له، وتستحقر دونه، وقيل:
النزل: موضع النزول، أي: أعتدناها لهم منزلاً يقيمون فيه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أحببتَ شيئاً إلا وكنتَ له عبداً، وهو لا يُحب أن تكون لغيره عبدًا، فأَفْرد قلبك لله، وأَخْرِج منه كلَّ ما سواه، فحينئذ تكونُ عبدًا لله، حرًا مما سواه، فكل ما سوى الله باطلٌ، وظل آفل، فكن إبراهيميًا، حيث قال:
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ «3» ، فارفع أيها العبد همتك عن الخلق، وعلقها بالملك الحق، فلا تُحب إلا الله، ولا تطلب شيئًا
__________
(1) من الآية 20 من سورة هود.
(2) الآية 24 من سورة هود.
(3) من الآية 76 من سورة الأنعام.(3/310)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
سواه، كائناً ما كان، من جنس الأشخاص، أو من جنس الأحوال أو المقامات أو الكرامات لئلا تنخرط في سلك من اتخذ من دون الله أولياءَ، فتكون كاذبًا في العبودية.
رُوِيَ عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: قرأتُ الفاتحة، فقلت: الحمد لله رب العالمين. فقال لي الهاتف مِنْ قِبَل الله تعالى: صدقت، فقلت: الرحمن الرحيم، فقال: صدقت. فقلت: مالك يوم الدين، فقال: صدقت.
فلما قلتُ: إياك نعبد، قال كذبتَ لأنك تعبد الكرامات، قال: ثم أدبني، وتبت لله تعالى. ذكره ابن الصباغ مُطولاً.
قلت: ولعله قبل ملاقاة الشيخ، ولذلك عاتبه بقوله: يا أبا الحسن عِوَضُ ما تقول: «سَخِّر لي خلقك» ، قل: يا رب كن لي، أرأيت إن كان لك أيفوتك شيء؟ نفعنا الله بجميعهم.
وهذا الغلط يقع للمتوجهين ولغيرهم، يظنون أنهم يُحسنُون صُنعًا، وهم يسيئون، كما قال تعالى:
[سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 106]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
. قلت: أَعْمالًا: تمييز، وفِي الْحَياةِ: متعلق بسعيهم.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ يا معشر الكفرة بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أي:
بالذين خسروا من جهة أعمالهم كصدقةٍ، وعتق، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف، حيث عملوها في حال كفرهم فلم تُقبل منهم، وهم: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي: بطل بالكلية فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: بطل ما سَعْوا فيه في الحياة الدنيا وعملوه، وَهُمْ يَحْسَبُونَ: يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي: يأتون بها على الوجه الأكمل، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها، وهو الإيمان، واختلف في المراد بهم، فقيل: مشركو العرب، وقيل: أهل الكتابين، ويدخل في الأعمال ما عملوه في الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات. وقيل: الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحْملونَها على الرياضات الشاقة.
والمختار: العموم في كل من عمل عملاً فاسدًا، يظن أنه صحيح من الكفرة، بدليل قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ: بدلائل التوحيد، عقلاً ونقلاً، وَلِقائِهِ: البعث وما يتبعه من أمور الآخرة، فَحَبِطَتْ لذلك أَعْمالُهُمْ المعهودة حبوطًا كليًا، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ أي: لأولئك الموصوفين بحبوط(3/311)
الأعمال، يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي: فنُهينُهم، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا لأن مدار التكريم: الأعمالُ الصالحة، وقد حبطت بالمرة قال صلى الله عليه وسلم: «يُؤتى بالرَّجُل السَّمِين العَظِيم يَوْمَ القِيَامَةِ، فلاَ يَزنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَأوا إن شِئْتُمْ:
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «1» . أو: لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا لأن الكفر أحبطها. أو: لا نقيم لهم وزنًا نافعًا. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: يأتي أناسٌ بأعمالهم يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لا تزن شيئًا، فذلك قوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.
ثم بيَّن مآل كفرهم بعد أن بيَّن مآل أعمالهم، فقال: ذلِكَ الصنف الذين حبطت أعمالهم جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ، أو الأمر ذلك، ثم استأنف بقوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا أي: بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح، التي من جملتها ما تضمنه قوله: وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على توحيدي أو كلامي، أو معجزاتي، وَرُسُلِي هُزُواً أي: مهزوًا بهم، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر، بل ارتكبوا ما هو أعظم، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل. عائذاً بالله من ذلك.
الإشارة: كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها: من عبد الله لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر: (الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه) . ومنها: من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها: من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها: من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها: من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها: من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل: أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، وسيأتي عند قوله تعالى:
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ «2» ، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند أخرين حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الكهف) ، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفة القيامة والجنة والنار) ، عن أبى هريرة رضي الله عنه
(2) الآية 47 من سورة الزمر.(3/312)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
ثم ذكر ضد من تقدم من الكفرة، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
. يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بآيات ربهم ولقائه، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ، كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده، جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ، وهي أعلى الجنان. وعن كعب: أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف والناهُون عن المنكر، أي: أهل الوعظ والتذكير من العارفين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الجنة مِائَةُ دَرَجَةٍ، ما بَيْنَ كُل دَرَجتين كَمَا بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ، أَعلاها الفِرْدَوس، ومِنْها تَفَجَّرُ أنْهَارُ الجنَّةِ، فَوْقَها عَرْشُ الرحمن، فإذَا سَأَلْتُمُ اللهُ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ» «1» .
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «جنان الفردوس أربع: جنتان من فِضَّةٍ، أبنيتهما وآنيتُهُما، وجنَّتان من ذهب، أبنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظُرُوا إلى ربهمْ إلا رِدَاءُ الكبْرياءِ على وَجْهِه» «2» ، وقال قتادة: الفردوس: ربوة الجنة. وقال أبو أمامة: هي سرة الجنة. وقال مجاهد: الفردوس: البستان بالرومية. وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار.
كانت لهم نُزُلًا أي: مقدمة لهم عند ورودهم عليه، على حذف مضاف، أي: كانت لهم ثمار جنة الفردوس نُزلاً، أو جعلنا نفس الجنة نُزلاً مبالغةً في الإكرام، وفيه إيذان بأن ما أعدَّ الله لهم على ما نطق به الوحي على لسان النبوة بقوله: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
هو بمنزلة النُزُل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها، وإن جُعِلَ النُزل بمعنى المنزل فظاهر. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي: لا يطلبون تحولاً عنها إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم، وأرفع منها، حتى تنزع إليه أنفسهم، أو تطمح نحوه أبصارهم. ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم، لا نفادَ له ولا نهاية لأنه مكون بكلمة «كن» ، وهي لا تتناهى.
__________
(1) أخرجه، بنحوه، البخاري فى (كتاب التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الرحمن، باب ومن دونهما جنتان) ، ومسلم فى (الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين فى الآخرة ربهم سبحانه وتعالى) ، من حديث عبد الله بن قيس.(3/313)
قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي: جنس البحر مِداداً، وهو ما تمد به الدواة من الحِبْر، لِكَلِماتِ رَبِّي وهي ما يقوله سبحانه لأهل الجنة، من اللطف والإكرام، مما لا تكيفُه الأوهام، ولا تحيط به الأفكار، فلو كانت البحار مدادًا والأشجار أقلامًا لنفدت، ولم يبق منها شيء، قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لأن البحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية. ثم أكّده بقوله: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي: لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى، هذا لو لم يجئ بمثله مددًا، بل ولو جئنا بمثله مَدَداً عونًا وزيادة لأن ما دخل عالم التكوين كله متناهٍ.
قُلْ لهم: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يتناهى كلامي، وينقضي أجلي، وإنما خُصصت عنكم بالوحي والرسالة يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له في الخلق، ولا في سائر أحكام الألوهية، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ: يتوقعه وينتظره، أو يخافه، فالرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل، فمن جعل الرجاء على بابه، فالمعنى: يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول. ومن حمله على معنى الخوف، فالمعنى: يخاف سوء لقائه. قال القشيري: حَمْلُه على ظاهره أَوْلى لأن المؤمنين قاطبةً يرجون لقاءَ الله، فالعارفون بالله يرجون لقاءه والنظر إليه، والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم. هـ بالمعنى.
والتعبير بالمضارع فى (يَرْجُوا) للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين: الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء، أي: فمن استمر على رجاء لقاء كرامة الله ورضوانه فَلْيَعْمَلْ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة عَمَلًا صالِحاً، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله، ومدارها على الإتقان ظاهرًا، والإخلاص باطنًا. وقال سهل:
العمل الصالح: المقيد بالسُنَّة، وقيل: هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها. وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً إشراكًا جليًا، كما فعل الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدنيا حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه، أو إشراكًا خفيًا، كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به عوضًا أو ثناءً حسنًا.
قال شهر بنُ حَوشب: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال: أرأيت رجلاً يُصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد عليه، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يُحمد عليه، ويحج كذلك؟ قال عبادة: ليس له شيء، أن الله تعالى يقول: «أنا خيرُ شريك، فمن كان له شريك فهو له» . ورُوي أن جُنْدبَ بْنَ زُهَيْرٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأعْمَلُ العَمَلَ للهِ تَعَالى، فإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سرّنى، فقال له عليه الصلاة والسلام: «لَكَ أَجْرَان: أجْرُ السِّرِّ، وأجر العلانية» «1»
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب عمل السر) ، وابن ماجة فى (الزهد، باب الثناء الحسن) ، عن أبى هريرة بدون ذكر جندب ابن زهير.(3/314)
وذلك إذا قصد أن يُقْتَدَى به، وكان مُخْلصًا فى عمله. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» «1» .
وقال صلى الله عليه وسلم- لَمَّا نزلت هذه الآية-: «إن أخوَفُ ما أخافُ على أمتي الشرك الخفي، وإياكم وشرك السرائر، فإنَّ الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء» ، فشق ذلك على القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يذهب الله عنكم صغير الشرك وكبيره؟ قالوا: بلى، قال: قولوا: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك من كل ما لا أعلم» .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَرَأ آخرَ سورة الكَهف- يعني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... إلى آخره- كَانَتْ لَهُ نُورًا من قرنه إلى قدمه، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّها كانَتْ له نُورًا من الأرْضِ إلى السماء» «2» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ عِنْدَ مَضْجِعِهِ:
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... الخ، كَانَ لَهُ مِنْ مَضْجَعِهِ نُورًا يَتَلألأ إلى مَكّةَ، حَشْوُ ذلِكَ النُّور مَلائِكَةٌ يُصَلُون حَتَّى يَقُومَ، وإنْ كَانَ بِمَكَةَ كانَ لَهُ نُورًا إلى البيتِ المَعْمُور» . قلت: ومما جُرِّب أن من قرأَ هذه الآيةَ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... )
الخ، ونوى أن يقوم في أي ساعة شاء، فإن الله تعالى يُوقظه بقدرته. وانظر الثعلبي.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص- وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة- كانت لهم جنة المعارف نُزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها، بفضل الله وكرمه، كما قال القائل:
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا ... فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد، وأسرار التفريد، أبدًا سرمدًا، لا نهاية لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية، وهي كلمة التكوين، التي لا تنفد (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ... ) الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل: إنَّما أنا بَشرٌ مثلُكُم يُوحى إليّ وحي إلهام، ويلقى في رُوعي أَنَّما إِلهكُم إِله واحد، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان فليعمل عملاً صالحًا، الذي لا حظ فيه للنفس عاجلاً ولا آجلاً، وَلآ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أحدًا، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم «3» .
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (5/ 428) ، والبغوي فى شرح السنة (14/ 324) .
(2) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 439) ، وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يستحب أن يقرأ فى اليوم والليلة) من حديث معاذ. قال الحافظ ابن حجر: وفى إسناده ابن لهيعة.
(3) فى آخر نسخة د. حسن عباس: انتهى الجزء الثاني من تفسير القرآن المجيد، للعلامة الأديب، فريد عصره، ووحيد دهره، سيدى أحمد بن عجيبة الشريف، غفر الله له، ولكاتبه، وللمسلمين أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.. أمين.(3/315)
كهيعص (1)
سورة مريم
مكية- وهى ثمان وتسعون آية. والمقصود من السورة الرد على النصارى فى إشراكهم عيسى عليه السلام لله تعالى فى ألوهيته، فهى كالتتميم لقوله: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «1» .
قال تعالى:
[سورة مريم (19) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1)
قيل: هي مختصرة من أسماء الله تعالى، فالكاف من كافٍ، والهاء من هادٍ، والياء من يمين، والعين من عليم أو عزيز، والصاد من صادق. قاله الهروي عن ابن جبير.
قال أبو الهيثم: جعل الياء من يمين، من قولك: يَمَن الله الإنسانَ يَيْمنُهُ يمنًا فهو ميْمون. هـ. ولذا ورد الدعاء بها، فقد رُوي عن علي- كرم الله وجهه- أنه كان يقول: (يا كهيعص أعوذ بك من الذنوب التي تُوجب النقم، وأعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتِك العِصَم، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء، وأعوذ بك من الذنوب التي تُديل الأعداء، انصرنا على من ظلمنا) «2» . كان يقدم هذه الكلمات بين يدي كل شدة. فيحتمل أن يكون توسل بالأسماء المختصرة من هذه الحروف، أو تكون الجملة، عنده، اسمًا واحدًا من أسماء الله تعالى، وقيل: هو اسم الله الأعظم. ويحتمل أن يشير بهذه الرموز إلى معاملته تعالى مع أحبائه، فالكاف كفايته لهم، والهاء هدايته إياهم إلى طريق الوصول إلى حضرته، والياء يُمنه وبركته عليهم وعلى من تعلق بهم، والعين عنايته بهم في سابق علمه، والصاد صدقه فيما وعدهم به من الإتحاف والإكرام. والله تعالى أعلم.
وقيل: هي مختصرة من أسماء الرسول- عليه الصلاة والسلام- أي: يا كافي، يا هادي، يا ميمون، يا عين العيون، أنت صادق مصدق. وعن ماضي بن سلطان تلميذ أبي الحسن الشاذلى- رضى الله عنهما-: [أنه رأى في منامه أنه اختلف مع بعض الفقهاء في تفسير قوله: (كهيعص. حم. عسق) ، فقلت: هي أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأنه قال: «كاف» أنت كهف الوجود، الذي يؤم إليه كلُّ موجود، «ها» هبنا لك الملك، وهيأنا لك الملكوت، «يَعَ» يا عين العيون، «ص» صفات الله (مَن يُطع الرسولَ فقد أطاع الله) ، «حاء» حببناك، «ميم»
__________
(1) من الآية 110 من سورة الكهف.
(2) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (1/ 112) .(3/317)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
ملَّكناك، «عين» علمناك، «سين» ساررناك، «قاف» قربناك. فنازعوني في ذلك ولم يقبلوه، فقلت: نسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفصل بيننا، فسرنا إليه، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: الذي قال محمد بن سلطان هو الحق] . وكأنه يشير إلى أنها صفات أفعال.
قال تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 2 الى 6]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قلت: (ذِكْرُ) : خبر عن مضمر، أي: هذا ذكر، والإشارة للمتلو في هذه السورة لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر في حكم الحاضر الشاهد. وقيل: مبتدأ حُذف خبره، أي: فيما يُتلى عليك ذكر رحمت ربك. وقيل: خبر عن (كهيعص) ، إذا قلنا هي اسم للسورة، أي: المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك، و (عَبْدَهُ) : مفعول لرحمة ربك، على أنها مفعول لما أضيف إليها، أو لذكر، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى ذكر الرحمة: بلوغها إليه، و (زَكَرِيَّا) : بدل منه، أو عطف بيان، و (إِذْ نادى) : ظرف لرحمة، وقيل: لذكر، على أنه مضاف إلى فاعله، وقيل: بدل اشتمال من زكريا، كما في قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ...
«1» ، و (مِنِّي) : حال من العَظْم، أي: كائنًا مني، و (شَيْئاً) : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا الذي نتلوه عليك في هذه السورة هو ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
قال الثعلبي: [فيه تقديم وتأخير] . أي: ذكر ربك عبده زكريا برحمته، إِذْ نادى رَبَّهُ وهو في محرابه في طلب الولد نِداءً خَفِيًّا: سرًا من قومه، أو في جوف الليل، أو مخلصًا فيه لم يطلع عليه إلا الله. ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في إخفاء دعائه، فإنه أَدْخَلُ في الإخلاص وأَبَْعَدُ من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس، حيث طلب الولد في غير إِبَّانِهِ ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم.
قالَ في دعائه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي: ضعف بدني وذهبت قوتي. وإسناد الوهن إلى العَظْم لأنه عماد البدن ودعامة الجسد، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد مِن أفراده. ووهن بدنه عليه السلام: لكبر سنه، قيل: كان ابن سبعين، أو خمسًا وسبعين، وقيل:
مائة، وقيل: أكثر.
__________
(1) الآية 16 من السورة نفسها.(3/318)
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أي: ابيضَّ شَمَطًا. شبه عليه السلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار، وانتشاره في الشعر وفُشوِّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرجه مخرج التمييز، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى، حيث كان الأصل: واشتعل شيب رأسي، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة شموله لكلها، فإن وِزَانَهُ: اشتعل بيته نارًا بالنسبة إلى اشتعلت النار في بيته، ولزيادة تقريره بالإجمال أولاً، والتفصيل ثانيًا، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير.
ثم قال: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي: لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، لعله يشفع له ذلك بمثله، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع، ولذلك قيل: من أراد أن يُستجاب له فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
ثم قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي: الأقارب، وهم: بنو عمه، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف ألا يحسنوا خلافته في أمته، فسأل الله تعالى ولدًا صالحًا يأمنه على أمته. وقوله: مِنْ وَرائِي: متعلق بمحذوف، أي:
جور الموالي، أو مما في الموالي من معنى الولاية، أي: خفت أن يلوا الأمر من ورائي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً: لا تلد من حين شبابها، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة، بطريق الاختراع، لا بواسطة الأسباب العادية لأن التعبير بِلَدُنَ يدل على شدة الاتصال والالتصاق، وَلِيًّا: ولدًا من صلبى، يليى الأمر من بعدي.
والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ ما ذكره عليه السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة، ولا يقدح في ذلك أن يكون هناك داعٍ آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم، كما يُعرب عنه قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «1» . وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم، فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله: يَرِثُنِي: صفة لوليًّا، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابًا للدعاء، أي: يرثني من حيث العلم والدين والنبوة، فإن الأنبياء- عليهم السلام- لا يورثون من جهة المال. قال: صلى الله عليه وسلم «نحن مَعاشر الأنبيَاءِ لا نُورَثُ» «2» . وقيل: يرثني في الحبورة، وكان عليه السلام حبرا.
__________
(1) من الآية 38 من سورة آل عمران.
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 463) .(3/319)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوة والمُلك والمال. قيل: هو يعقوب بن إسحاق. وقال الكلبي ومقاتل: هو يعقوب ابن ماثان، أخو عمران بن ماثان، أبي مريم، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم، وماثان من نسل سليمان عليه السلام، فكان آل يعقوب أخوال يحيى. قال الكلبي: كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ، فأراد أن يرث ولده حبُورته، ويرث من بني ماثان ملكهم. هـ.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: مرضيًا، فعيل بمعنى مفعول، أي: ترضى عنه فيكون مرضيًا لك، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل، أي: راضيًا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الوارث الروحاني- وهو وارث العلم والحال- جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته. وقيل: السكوت والاكتفاء بالله أولى، ففي الحديث: «يرحَم اللهُ أخانا زَكَرِيَّا، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ يَرِثُه» «1» . وقوله تعالى: نِداءً خَفِيًّا. الإخفاء عند الصوفية أولى في الدعاء والذكر وسائر الأعمال، إلا لأهل الاقتداء من الكَمَلَة، فهم بحسب ما يبرز في الوقت.
وقوله تعالى: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. فيه قياس الباقي على الماضي، فالذي أحسن في الماضي يحسن في الباقي، فهذا أحد الأسباب في تقوية حسن الظن بالله وأعظم منه من حسَّن الظن بالله لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم، والجود والرأفة والرحمة، فإن الأول ملاحظ للتجربة، والثاني ناظر لعين المِنَّة.
قال في الحكم: «إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك، فهل عَوَّدَكَ إلا حَسَنًا؟
وهل أسدى إليك إلا مننا؟» .
ثم ذكر إجابته لزكريا عليه السّلام، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 11]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره (2/ 3) ، وابن جرير (16/ 48) عن قتادة.(3/320)
قلت: «عِتِيًّا» : مصدر، من عتا يعتو، وأصله: عتوو، فاستثقل توالي الضمتين والواوين، فكسرت التاء، فقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم قُلبت الثانية أيضّا لاجتماع الواو والياء، وسبق إحداهما بالسكون. (قالَ كَذلِكَ) : خبر، أي: الأمر كذلك، فيوقف عليه، ثم يقول: (قالَ رَبُّكَ) ، أو مصدر لقال الثانية، أي: مثل ذاك القول قال ربك. و (سَوِيًّا) : حال من فاعل (تُكَلِّمَ) .
يقول الحق جلّ جلاله: يا زَكَرِيَّا، كلمهُ بواسطة المَلك: إِنَّا نُبَشِّرُكَ ونجيب دعوتك بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لأنه حيى به عُقْمُ أمه. أجاب نداءه في الجملة، لا من كل وجه، بل على حسب المشيئة، فإنه طلب ولدًا يرثُه، فأجيب في الولد دون الإرث فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه- عليهما السلام- وقيل: بقي بعده برهة، فلا إشكال حينئذ. وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له، وفي تخصيصه به- كما قال تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي: شريكًا في الاسم، حيث لم يتسم به أحد قبله- مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة»
. وقيل: (سَمِيًّا) : شبيهًا في الفضل والكمال، كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «2» فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه، لأنه لم يهم بمعصية قط، وأنه ولد لشيخ فانٍ، وعجوز عاقر، وأنه كان حصورًا، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: من أين وكيف يحدث لي غلام، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً: عقيمة، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: يبسًا في الأعضاء والمفاصل، ونحولاً في البدن، لِكِبَرِهِ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران استعظامًا لقدرة الله تعالى، وتعجيبًا منها، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل: كان دهشًا من ثمرة الفرح، وقيل: كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه. وقيل: بل كان ذلك بطريق الاستبعاد، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة، وكان قد نسي دعاءه، وهو بعيد.
قالَ كَذلِكَ أي: الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة، لكن هو على قدرتنا هين، ولذلك قال:
قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك، ثم فسَره بقوله: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أو «مثل» مقحمة، أي: ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق، أو كذلك قضى ربك.
__________
(1) وجه الفضيلة: أن الله تعالى تولى تسميته، ولم يكل ذلك إلى أبويه، فسمّاه باسم لم يسبق إليه ... راجع: زاد المسير (5/ 210) .
(2) من الآية 65 من سورة مريم.(3/321)
ثم قال: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي: وقد أوجدت أصلك «آدم» من العدم، ثم نشأتَ أنت من صلبه، ولم تك شيئًا، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده، ولذلك قال في آية أخرى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «1» الآية. انظر تفسير أبي السعود.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة تدلنى على تحقق المسئول، وبلوغ المأمول، وهو حمل المرأة بذلك الولد، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان لما يُروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى- عليهما السلام- بستة أشهر، أو بثلاث سنين) ، ولا ريب في أنَّ دعاء زكريا عليه السلام كان في صغر مريم، لقوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «2» ، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم- عليها السلام.
قالَ له تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر، ثَلاثَ لَيالٍ بأيامهن، للتصريح بها في آل عمران «3» ، حال كونك سَوِيًّا أي: سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح، مابك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ: من المصلّى، وكان مغلقًا عليه، فالمحراب مكان التعبد، أو من الغرفة، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب، ليدخلوا ويُصلوا، إذ خرج عليهم متغيرًا لونه، فأنكروه، وقالوا له: مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي: أوْمَأ إليهم، وقيل: كتب في الأرض: أَنْ سَبِّحُوا أي: صلوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا: صلاة الفجر وصلاة العصر، ولعلها كانت صلاتهم. أو: نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ «4» وفي الحكم:
«ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار» . فإذا اضطررت إلى مولاك، فلا محالة يجيب دعاك، لكن فيما يريد لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا تستعجل (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره، واستفرغ أوقاتك، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.
__________
(1) الآية 11 من سورة الأعراف. [.....]
(2) من الآية 38 من سورة آل عمران.
(3) في قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً الآية 41.
(4) من الآية 62 من سورة النمل.(3/322)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
ثم ذكر وصيته ليحيى عليه السّلام ونعوته، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
. قلت: «صَبِيًّا» : حال من مفعول «آتَيْناهُ» ، و «حَناناً» و «زَكاةً» : عطف على «الْحُكْمَ» . و «مِنْ لَدُنَّا» : متعلق بمحذوف، صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية، أي: وآتيناه الحكم وتحنُّنًا عظيمًا واقعًا من جنابنا، أو شفقة في قلبه ورحمة على أبويه وغيرهما. قال ابن عباس: (ما أدري ما حنانًا إلا أن يكون تعطف رحمة الله على عباده) . ومنه قولهم: «حَنَانَيْكَ» ، مثل سعديْك، وأصله: من حنين الناقة على ولدها، و (بَرًّا)
: عطف على «تَقِيًّا» .
يقول الحق جلّ جلاله: يا يَحْيى أي: قلنا يا يحيى، وهذا استئناف طُوي قبله جمل كثيرة، مما يدل على ولادته ونشأته، حتى أوحي إليه، ثم قال له: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي: التوراة، وقيل: كتاب خُص به، فدلت الآية على رسالته. وفي تفسير ابن عرفة: أن يحيى رسول كعيسى. هـ. وقوله: بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد، وقيل:
بالعمل به، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قال ابن عباس: (الحكم هنا النبوة، استنبأهُ وهو ابن ثلاث سنين) ، قلت: كون الصبي نبيًا جائز عقلاً، واقع عند الجمهور، وأما بعثه رسولاً فجائز عقلاً، وظاهر كلام الفخر «1» هنا أنه واقع، وأن يحيى وعيسى بُعثا صغيرين. وقال ابن مرزوق في شرح البخاري ما نصه: (الأعم: بعث الأنبياء بعد الأربعين) لأنه بلوغ الأشد، وقيل: أرسل يحيى وعيسى- عليهما السلام- صبيين. وقال ابن العربي: يجوز، ولم يقع.
وقول عيسى عليه السلام: (إني عبد الله) إخبار عما وجب في المستقبل، لا عما حصل. واستُشْكِلَ جواز بعث الصبي بأنه تكليف، وشرطُه: البلوغُ، إن كانت الشرائع فيه سواء. انظر المحشي الفاسي. قلت: والذي يظهر أن يحيى وعيسى- عليهما السلام- تنبئا صغيرين، وأرسلا بعد البلوغ. والله تعالى أعلم. وقيل: الحكم: الحكمة وفهم التوراة والفقه في الدين. رُوي أنه دعاه الصبيان إلى اللعب، فقال: ما لِلَعِبٍ خلقت.
وَآتيناه حَناناً أي: تحنُّنًا عظيمًا مِنْ لَدُنَّا: من جناب قدسنا، أو تحننًا من الناس عليه. قال عوف: الحنان المحبّب، وَزَكاةً: طهارة من العيوب والذنوب، أو صدقة تصدقنا به على أبويه، أو: وفّقناه للتصدق على الناس. وَكانَ تَقِيًّا مطيعًا لله، متجنبًا للمعاصي، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
: لطيفًا بهما محسنا إليهما،
__________
(1) أي الفخر الرازي في تفسيره.(3/323)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
متكبرًا عاقًا، فالجبّار: هو المتكبر، لأنه يجبر الناس على أخلاقه. وقيل: من لا يقبل النصيحة، أو عاصيًا الله تعالى. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي: سلامة من الله تعالى عليه، يَوْمَ وُلِدَ
من أن يناله الشيطان بما ينال بني آدم، وَيَوْمَ يَمُوتُ
من عذاب القبر، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
من هول القيامة وعذاب النار.
رُوِيَ أن يحيى وعيسى- عليهما السلام- التقيا، فقال له يحيى: استغفر لي، فأنت خير مني، فقال له عيسى:
أنت خير مني، أنا سلمت على نفسي وأنت سلم الله عليك.
الإشارة: أخذ الكتاب بالقوة- وهو الجد والاجتهاد في قراءته- هو أن يكون متجردًا لتلاوته، منصرف الهمة إليه عن غيره، فلا يصدق على العبد أن يأخذ كتاب ربه بقوة، حتى يكون هكذا عند تلاوته. قال الورتجبي:
خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي: خذ كتابنا بنا لابك، والكتاب كلام الحق الأزلي، أي: خذ الكتاب الأزلي بالقوة الأزلية. هـ. ومعناه أن يكون التالي فانيًا عن نفسه، متكلمًا بربه، ويسمعه من ربه، فهذا حال المقربين.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة مريم- عليها السلام- فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)
قلت: (إِذِ انْتَبَذَتْ)
: بدل اشتمال من مريم، على أن المراد بها نبؤها، فإن الظرف مشتمل على ما فيها، وقيل:
بدل الكل، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل: «إِذِ»
ظرف لنبأ المقدر، أي: اذكر نبأ مريم حين انتبذت لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان، لكن لا على أنّ يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ. و (مَكاناً)
: مفعول بانتبذت، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان، أي: اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا، أو ظرف له، أي: اعتزلت في مكان شرقي. و (بَشَراً)
: حال. وجواب (إِنْ كُنْتَ)
: محذوف، أي: إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك. و (بَغِيًّا) أصله: بغوي، على وزن فعول،(3/324)
فأدغمت الواو- بعد قلبها ياء- في الياء، وكسرت الغين للياء «1» ، و (لِنَجْعَلَهُ) : متعلق بمحذوف، أي: ولنجعله آية فعلنا ذلك، أو معطوف على محذوف، أي: لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله.. الخ. أو على جملة: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) لأنها في معنى العلة، أي: كذلك قال ربك لقدرتنا على ذلك ولنجعله.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ
يا محمد فِي الْكِتابِ
: القرآن، والمراد هذه السورة الكريمة لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا، واستتبعت بذكر قصة مريم لما بينهما من الاشتباك. أي: اذكر في الكتاب نبأ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
حين اعتزلت مِنْ أَهْلِها
وأتت مَكاناً شَرْقِيًّا
من بيت المقدس، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل: قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض، محتجبة بشيء يسترها، وذلك قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هي تغتسل من الحيض، محتجبة دونهم، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي، شاب أمرد، وضيء الوجه.
قال تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
: جبريل عليه السلام، عبَّر عنه بذلك توفية للمقام حقه. وقرىء بفتح الراء لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد، يعني اتباعه والاهتداء به، الذي هو عدة المقربين في قوله: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «2» . فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
: سَويّ الخَلق، كامل البنية، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل: تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ «3» لها، اسمه يوسف، مِنْ خدَم بيت المقدس، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته.
وأما ما قيل من أنَّ ذلك لتَهيج شهوتُها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها، فغلط فاحش، ينحو إلى مذهب الفلاسفة، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم، يُكذبه قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة. نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق لابتلائها واختبار عِفّتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذِكْرُ عنوان الرحمانية للمبالغة في العِيَاذ به تعالى، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة، التي هي العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي: تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به.
__________
(1) أي لمناسة الياء.
(2) الآيتان 88- 89 من سورة الواقعة.
(3) أي: فى مثل سنها: فالتّرب: اللّدة والسّنّ ... انظر: اللسان (ترب 1/ 425) .(3/325)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أي: لستُ ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
أي: لأكون سببًا في هبة الغلام، أو: ليهب لك ربُك غُلامًا- في قراءة الياء-.
والتعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتها، والإشعار بعلية الحكم فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها. وقوله: زَكِيًّا
أي: طاهرًا من العيوب صالحًا، أو تزكو أحواله وتنمو في الخير، من سن الطفولية إلى الكبر.
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ كما وصفتَ، وَالحال أنه لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بالنكاح، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا زانية فاجرة تبتغي الرجال؟ قالَ لها الملك: كَذلِكِ أي: الأمر كما قلتُ لك قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي: هبة الغلام من غير أن يمسسك بشرٌ هين سهل على قدرتنا، وإن كان مستحيلاً عادة لأني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط، بل أمرنا بين الكاف والنون، وَإنما فعلنا ذلك لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ يستدلون به على كمال قدرتنا. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الجلالة، وَلنجعله رَحْمَةً عظيمة كائنة مِنَّا عليهم، ليهتدوا بهدايته، ويُرشدوا بإرشاده. وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا في الأزل، قد تعلق به قضاء الله وقدره، وسُطِّر في اللوح المحفوظ، فلا بُدّ من جريانه عليك، أو: كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل لتضمنه حِكَمًا بالغة وأسرارًا عجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار، أو عن الشهود والاستبصار، فإذا اعتزل مكانًا شرقيًا، أي: قريبًا من شروق الأنوار والأسرار، بحيث يكون قريبًا من أهل الأنوار، أو بإذنهم، أرسل الله إليه روحًا قدسيًا، وهو وارد رباني تحيا به روحُه وسرُه وقلبُه وقالبُه، فيهب له عِلمًا لدنيا، وسرًا ربانيًا، يكون آية لمن بعده، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حملها وولادتها وما كان من شأنها مع قومها، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 33]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)(3/326)
قلت: (رُطَباً) : تمييز، فيمن أثبت التاءين «1» ، أو حذف إحداهما، ومفعول به، فيمن قرأ بتاء واحدة مع كسر القاف.
يقول الحق جلّ جلاله: فَحَمَلَتْهُ بأن نفخ جبريل في درعها، فدخلت النفخة في جوفها. قيل: أن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه، وقيل: نفخ عن بُعد، فوصل الريح إليها فحملت في الحال، وقيل: إن النفخة كانت في فيها، وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل: ثمانية. ولم يعش ولد من ثمانية. وفي ابن عطية:
تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظًا لخاصية عيسى، فتكون معجزة له. هـ. وقيل: تسعة أشهر. وقيل: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصُور في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس. وقيل: ساعة، ما هو إلا أن حملت فوضعت، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشر سنين، وقد حاضت حيضتين.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي: فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها، مَكاناً قَصِيًّا: بعيدًا من أهلها وراء الجبل، وقيل: أقصى الدار. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فألجأها المخاض. وقرئ بكسر الميم. وكلاهما مصدر، مَحَضتِ المرأة: إذا تحرك الولد في بطنها للخروج، إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر به، أو لتعتمد عليه عند الولادة، وهو ما بين العِرق والغصن. وكانت نخلة يابسة، لا رأس لها ولا قعدة، قد جيىء بها لبناء بيت، وكان الوقت شتاء، والتعريف في النخلة إما للجنس أو للعهد، إذ لم يكن ثَمَّ غيرها، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها.
قالَتْ حين أخذها وجع الطلق: يا لَيْتَنِي مِتُّ «2» بكسر الميم، من مات يُمَاتُ، وبالضم، من مات
__________
(1) فى قوله تعالى: (تُساقِطْ) .
(2) قرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي وخلف: «مت» بكسر الميم، والباقون بالضم.(3/327)
يموت، قَبْلَ هذا الوقت الذي لقيتُ فيه ما لقيت، وإنما قالته، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس، وخوفًا من لائمتهم، أو جريًا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر، كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَةً من الأرض، فقال: «ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئًا» . وقال بلال: (ليت بلالاً لم تلده أمه) . ثم قالت: وَكُنْتُ نَسْياً «1» أي: شيئًا تافهًا شأنه أن يُنسى ولا يُعتد به، مَنْسِيًّا لا يخطر ببال أحد من الناس. وقُرئ بفتح النون، وهما لغتان نِسي ونَسْي، كالوَتْر والوِتْر. وقيل: بالكسر: اسم ما ينسى، وبالفتح: مصدر.
فَناداها أي: جبريل عليه السلام مِنْ تَحْتِها، قيل: إنه كان يقبل الولد من تحتها، أي: من مكان أسفل منها،.
وقيل: من تحت النخلة، وقيل: ناداها عيسى عليه السلام، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم، أي: فخاطبها الذي تحتها:
أَلَّا تَحْزَنِي، أو: بألا تحزني، على أن «أن» مفسرة، أو مصدرية، حذف عنها الجار. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ أي: بمكان أسفل منك سَرِيًّا أي: نهرًا صغيرًا، حسبما رُوي مرفوعًا. «2» قال ابن عباس رضى الله عنهما: (أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض، فظهرت عين ماء عذب، فجرى جدولاً) . وقيل: فعله عيسى، أي: ضرب برجله فجرى، وقيل: كان هناك نهر يابس- أجرى الله تعالى فيه الماء، كما فعل مثله بالنخلة، فإنها كانت يابسة لا رأس لها، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا. وقيل: كان هناك نهرُ ماء. والأول أظهر لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق، والمتبادر من النظم الكريم.
وقيل: (سَرِيًّا) أي: سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً، وهو عيسى عليه السلام، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي. والتعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
ثم قال: وَهُزِّي إِلَيْكِ أي: حركي النخلة إليك، أي: جاذبة لها إلى جهتك. فهَزُّ الشيء: تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء في قوله: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ:
صلة للتأكيد، لقول العرب: هزَّ الشيء وهز به، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة تُساقِطْ «3» أي: تتساقط.
وقُرئ: تساقِطَ، وتُسْقِط، أي: النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز رُطَباً جَنِيًّا أي: طريًّا، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول، أي: مجنيًا صالحًا للاجتناء. فَكُلِي من ذلك الرطب
__________
(1) قرأ حفص وحمزة بفتح النون، والباقون بكسرها.. انظر الإتحاف (2/ 235) .
(2) أخرج المرفوع الطبراني فى المعجم الصغير (1/ 244) من حديث البراء بن عازب، وأخرجه فى الكبير (12/ 346 ح 13303) من حديث ابن عمر.
(3) هذه قراءة نافع، وابن كثير، وأبى عمرو، وابن عمرو، والكسائي. وقرأ حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف.
وقرأ حمزة «تساقط» بفتح التاء والقاف وتخفيف السين، والأصل: تتساقط. انظر: التبصرة/ 256، والإتحاف (2/ 235) .(3/328)
وَاشْرَبِي من ذلك السري، وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسًا وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التُهم، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة. أو: وقري عينًا بحفظ الله ورعايته في أمورك كلها.
وقرة العين: برودتها، مأخوذ من القرّ، وهو البرد لأن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سُخن، ولذلك يقال: قرة العين للمحبوب، وسُخنة العين للمكروه.
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً آدميًا كائنًا من كان فَقُولِي له إن استنطقكِ أو لامك: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي: صمتًا، وقرىء كذلك، وكان صيامهم السكوت، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام. وذكر ابن العربي في الأحوذى: أن نبينا- عليه الصلاة والسلام- اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم، وكان محرمًا على من قبلنا، عكس الصلاة. هـ. قالت: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي: بعد أن أخبرتكم بنذري، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي. وقيل: أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة. قال الفراء: العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا، ما لم يُؤكّد بالمصدر، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. هـ. وإنما أُمرت بذلك ونذرته لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها عند ما طَهُرت من نفاسها، تَحْمِلُهُ أي: حاملة له. قال الكلبي: احتمل يوسف النجار- وكان ابن عمها- مريمَ وابنها عيسى، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا، حتى تَعَلّتْ من نفاسها، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا، وكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمه، أبشري، فإني عبد الله ومسِيحُه. فلما رآها أهلُها، بَكَوا وحزنوا، وكانوا قومًا صالحين. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ أي: فعلت شَيْئاً فَرِيًّا: عظيمًا بديعًا منكرًا، من فَرَى الجلد: قطعه. قال أبو عبيدة: (كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم: فى حق عمر رضي الله عنه: «فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة» «1» أي: يعمل عمله.
يا أُخْتَ هارُونَ، عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله، أي: كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة، وكان بينها وبينه ألفُ سنة. أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون، فشبهوها به. ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا، كلهم يسمي هارون من بني إسرائيل. وقيل: إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل، فشتموها بتشبيهها به. ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ
__________
(1) أخرجه البخاري فى مواضع، منها: (فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه) عن عبد الله بن عمر، وأخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه) عن أبى هريرة، ولفظ الحديث كاملا كما فى البخاري: قال صلى الله عليه وسلم:
«أريت فى المنام أنى أنزع بدلو على بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفرى فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن» .(3/329)
وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج؟. هذا تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي: إلى عيسى أن كلموه، ولم تكلمهم وفاء بنذرها، وإشارتها إليه من باب الإدلال، رجوعًا لقوله لها: (وَقَرِّي عَيْناً) ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به من العناية بأمرها والكفاية لشأنها، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوعَ يدها، وتذكّر قضية جريج. قاله في الحاشية.
قالُوا منكرين لجوابها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل.
و «كانَ» هنا: تامة. و «صَبِيًّا» : حال. وقيل: زائدة، أي: من هو في المهد.
قالَ عيسى عليه السلام: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، أنطقه الله تعالى بذلك، تحقيقًا للحق، وردًا على من يزعم ربوبيته.
قيل كان المستنطق لعيسى زكريا- عليهما السلام- وعن السدي: (لما أشارت إليه، غضبوا، وقالوا: لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت) . رُوِي أنه عليه السلام كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع، واقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابته، فقال ما قال. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان.
ثم قال في كلامه: آتانِيَ الْكِتابَ: الإنجيل: وَجَعَلَنِي مع ذلك نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً: نفَّاعًا للناس، معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ أي: حيثما كنت، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ: أمرني بها أمرًا مؤكدًا، وَالزَّكاةِ زكاة الأموال، أو بتطهير النفس من الرذائل ما دُمْتُ حَيًّا فى الدنيا. وَجعلنى بَرًّا بِوالِدَتِي فهو عطف على مُبارَكاً. وقرئ بالكسر، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغة، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه. ثم قال:
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا عند الله تعالى، بل متواضعًا لينًا، سعيدًا مقربًا، فكان يقول: سلوني، فإن قلبي لين، وإني في نفسي صغير، لما أعطاه الله من التواضع.
ثم قال: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده، كما في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «1» فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.
فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام، وهو أحد من تكلم في المهد، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا. وكلهم معروفون، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال: قال ابن عباس:
(لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون، كانت
__________
(1) الآية 47 من سورة طه. [.....](3/330)
تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبى؟ فقالت: لا، بل ربي وربك ورب أبيك. فقالت:
أُخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها، وقال: من ربك؟ قالت: ربي وربك في السماء، فأمر فرعون ببقرة- أي: آنية عظيمة من نحاس- فَأُحْمِيَتْ، ودعاها بولدها، فقالت: إن لي إليك لحاجةً، قال: وما حاجتك؟ قالت:
تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا، قال: وذلك لك علينا من الحقّ، سأفعل ذلك لك، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا، حتى إذا كان آخر ولدها، وكان صبيًا مرضَعًا، قال: اصبري يا أمه.. فألقاها في البقرة مع ولدها «1» . هـ.
الإشارة: يُؤخذ من الآية أمور صوفية، منها: أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه، ومنها: أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته، ولا ينافي توكله. ومنها: أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويُؤخذ أيضًا من الآية: أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا لأنه من طبع البشر، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.
ومنها: أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافي التوكل، لقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ) . لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين، غير معتمد عليها بقلبه، فإن كان متجردًا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه، ويتمكن في معرفة الحق تعالى. وقد كانت في بدايتها تأتي إليها الأرزاق بغير سبب كما في سورة آل عمران «2» ، وفي نهايتها قال لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ) . قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى، وأما من قال: إن حبها أولاً كان لله وحده، فلما ولدت انقسم حبها، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغي أن يلتفت إليه، لأنها صدّيقة، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.
ومنها: أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة، إذا كان يتحصن بها من الناس، أو من نفسه، كالصوم أو الصمت «3» أو غيرهما، مما يحجزه عن العوام، أو عن الانتصار للنفس.
وقوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ... ) الآية: قال: الورتجبي: سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية. ثم قال: وسلام عيسى من عين الجمع، سلام فيه مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية. وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحًا في وصاله وكشف جماله، ولو سَلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قِدَمه. هـ.
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (1/ 309) مرفوعا. والحديث فى مجمع الزوائد (1/ 65) وعزاه لأحمد والبزار والطبراني فى الكبير والأوسط.
(2) فى قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. الآية 37.
(3) قلت: ما قاله جائز فى الصوم، وغير جائز فى الصمت لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي نذر الصوم والصمت أن يتم صومه، وأن يتكلم. فتأمله فإنه دقيق.(3/331)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
ثم شرع في الرد على النصارى، وعلى من أشرك معه غيره، فقال تعالى:
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
قلت: وَإِنَّ اللَّهَ: عطف على قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) فيمن كسر، وعلى حذف اللام فيمن فتح، أي: ولأن الله ربي وربكم. وقال الواحدي وأبو محمد مكي: عطف على قوله: (بِالصَّلاةِ) أي: أوصاني بالصلاة وبأن الله ... الخ: وقال المحلي:
بالفتح، بتقدير اذكر، وبالكسر بتقدير «قل» . و (قَوْلَ الْحَقِّ) : مصدر مؤكد لقال، فيمن نصب، وخبر عن مضمر، فيمن رفع، أي: هو، أو هذا. و (إِذا قَضى) : بدل من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، أو ظرف للحسرة. و (هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله: (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين.
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ المنعوت بتلك النعوت الجليلة، والأوصاف الحميدة هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به. وأتى بإشارة البعيد للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس.
هذا قَوْلَ الْحَقِّ، أو قال عيسى قَوْلَ الْحَقِّ الذي لا ريب فيه، وأنه عبد الله ورسوله، الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: يشكون أو يتنازعون، فيقول اليهود: ساحر كذاب، ويقول النصارى: إله، أو ابن الله. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي: ما صح، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا، سُبْحانَهُ وتعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً، فهو تنزيه عما بهتوه، ونطقوا به من البهتان، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
ثم قال لهم عيسى عليه السلام: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، فهو من تمام ما نطق به في المهد، وما بينهما اعتراض، للمبادرة للرد على من غلط فيه، أي: فإني عبد، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره، هذا الذي ذكرتُ لكم من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه.(3/332)
قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، تنبيهًا على سوء صنيعهم، بجعلهم ما يُوجب الاتفاق منشأ للاختلاف، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام، مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط، وفرّق النصارى، فقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت اليعقوبية: هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت المِلْكَانية: هو ثالث ثلاثة. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وهم: المختلفون فيه بأنواع الضلالات. وأظهر الموصول في موضع الإضمار إيذانًا بكفرهم جميعًا، وإشعارًا بِعِلِّيَّةِ الحكم، مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، أو: من وقت شهوده أو مكانه، أو من شهادة اليوم عليهم، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- وألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم، بالكفر والفسوق.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أسمعهم وما أبصرهم، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى: أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا. أو:
ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم، فقد سمعوا وأبصروا، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر، حين يقول الله لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» . هـ. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب، أي: أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم، وما يحيق بهم فيه، فالجار والمجرور، على الأول، في موضع رفع، وعلى الثاني: نصب. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي: في الدنيا، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لا يدرك غايته، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم فى ذلك ظالمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الناس قاطبة، أما المسيء فعلى إساءته، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي: فرغ من يوم الحساب، وتميز الفريقان، إلى الجنة وإلى النار.
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك، فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح، فيُذبح، والفريقان ينظرون، فينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، وأهل النار غمًا إلى غمهم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وأشار بيده إلى الدنيا» «2» قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها، وخلودهم لماتوا حسرة حين رأوا ذلك) . وَهُمْ فى
__________
(1) الآية 116 من سورة المائدة.
(2) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) . ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها، باب: النار يدخلها الجبارون) ، من حديث أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه-.(3/333)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
هذا اليوم فِي غَفْلَةٍ عما يراد بهم في الآخرة، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بهذا لاغترارهم ببهجة الدنيا، فلا بد أن تنهد دعائمها، وتمحى بهجتها، ويفنى كل ما عليها، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها لا ينبغي لأحد غيرنا أن يكون له عليها وعليكم ملك ولا تصرف، أو: إنا نحن نتوفى الأرض ومن عليها، بالإفناء والإهلاك، توفي الوارث لإرثه، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يُردون إلى الجزاء، لا إلى غيرنا، استقلالاً أو اشتراكًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد المعتني بشأن نفسه أن يحصِّن عقائده بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة، على وفاق أهل السُنَّة، ثم يجتهد في صحبة أهل العرفان، أهل الذوق والوجدان، حتى يُطلعوه على مقام الإحسان، مقام أهل الشهود والعيان. فإذا فرط في هذا، لحقه الندم والحسرة، في يوم لا ينفع فيه ذلك. فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان فهو ظالم لنفسه باخس لها، يلحقه شيء من الخسران، ولا بد أنْ تبقى فيه بقية من الضلال، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال، قال تعالى: (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أي: يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون. فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء في هذه الدار، ثم استمر لهم في دار القرار. رُوي أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضي الله عنه قال يومًا بين يدي أستاذه:
(اللهم اغفر لي يوم لقائك) . فقال له شيخه- القطب ابن مشيش- رضى الله عنهما: هو أقرب إليك من ليلك ونهارك، ولكن الظلم أوجب الضلال، وسبقُ القضاء حَكَمَ بالزوال عن درجة الأُنْس ومنازل الوصال، وللظالم يومٌ لا يرتاب فيه ولا يخاتل، والسابق قد وصل في الحال، «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين» . هـ. كلامه رضي الله عنه.
ثم استتبع بذكر قصص الأنبياء، تتمة للرد على أهل الشرك، بأن الملل كلها متفقة على إبطاله، وقدّم الخليل لأنه إمام أهل التوحيد، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 45]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)(3/334)
قلت: (إِذْ قالَ)
: بدل اشتمال من (إِبْراهِيمَ) ، وما بينهما: اعتراض، أو متعلق بكان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ القرآن أو السورة، إِبْراهِيمَ أي: اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم، كقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «1» لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله، فالصدِّيق مبالغة في الصدق، يقال: كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه، وعمل بما صدق به فهو صدّيق، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية، إن شاء الله.
والجملة: استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره، وكان أيضًا نَبِيًّا، أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، إذ كل نبي صِدِّيق، ولا عكس. ولم يقل: نبيًا صديقًا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة.
استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره، وكان أيضًا نَبِيًّا، أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، إذ كل نبي صِدِّيق، ولا عكس. ولم يقل: نبيًا صديقًا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له: يا أَبَتِ
، التاء بدل من ياء الإضافة، أي: يا أبي، لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
ثناءك عليه حين تعبده، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه، وَلا يُبْصِرُ
خضوعك وخشوعك بين يديه، أو: لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
أي: لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر.
انظر لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه بأبدع احتجاج، بحسن أدب، وخلق جميل، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد، أي:
فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام، الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر، لكنه ممكن، لاستنكف العقل السليم عن عبادته، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى اتباعه لأنه على المنهاج القويم، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة، حيث قال:
يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولا نفسه بالعلم الفائق، وإن كان في أعلاه، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق،
__________
(1) من الآية 69 من سورة الشعراء.(3/335)
فاستماله برفق، حيث قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي: مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب.
ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام، فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها، ثم علل نهيه فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا، فهو تعليل لموجب النهي، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك، الذي أنعم عليك بفنون النعم، وسينتقم منه فكيف تعبده؟.
والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته لأنه ملاكها، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه.
وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع. و (مِنَ الرَّحْمنِ) : صفة لعذاب، أي: عذاب واقع من الرحمن، وإظهار (الرَّحْمنِ) للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب، كما في قوله تعالى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي: فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه:
الأول: ندائه: بيا أبت، ولم يقل يا آزر، أو يا أبي.
الثاني: قوله: (ما لا يَسْمَعُ ... )
الخ، ولم يقل: لِمَ تعبد الخشب والحجر.
الثالث: قوله: (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ) ، ولم يقل له: أنك جاهل ضال.
الرابع: قوله: (إِنِّي أَخافُ) ، حيث عبَّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب.
الخامس: في قوله: (أَنْ يَمَسَّكَ) ، حيث عبَّر بالمس ولم يُعبر باللحوق أو النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقية والنبوة مع الرسالة والخلة، وقدَّم الصديقية لتقدمها في الوجود في حال الترقي، فالصديقية تلي مرتبة النبوة، كما تقدم في سورة النساء. فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يَعْظُمْ صدقه وتصديقه، فيصدِّق بوجود الحق وبمواعده، حتى يكون ذلك نصب عينيه، من غير تردد ولا تلجلج، ولا توقف على آية ولا دليل. ثم يبذل مهجته وماله في مرضاة مولاه، كما فعل الخليل، حيث قدم
__________
(1) الآية 6 من سورة الانفطار.(3/336)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان. وكما فعل الصدِّيق، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار، وخرج عن ماله خمس مرار. وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه.، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: في حقه: «إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى» ، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية.
ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة، مما تبرزه القدرة الأزلية، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة، حيث تعجبت، وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ «1» وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك، هل يكون بنكاح أم لا، والله تعالى أعلم.
وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين، أو كبيرًا في نفسه.
فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام، ويشوقه إلى مقام أحسن منه، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه، كما هو مجرب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب أبيه له، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 46 الى 48]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قلت: هذا استئناف بياني، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عند ما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده: أراغب ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ له أبوه في جوابه: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة، مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها، ثم هدده فقال: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن وعظك لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، أي: والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر، وقيل باللسان، وَاهْجُرْنِي أي: واتركني مَلِيًّا أي: زمنًا طويلاً، أو ما دام الأبد، ويسمى الليل والنهار مَلَوان، وهو عطف على محذوف، أي: احذرنى واهجرني.
__________
(1) الآية 72 من سورة هود.(3/337)
قالَ له إبراهيم عليه السلام: سَلامٌ عَلَيْكَ مني، لا أصيبك بمكروه، وهو توديع ومُتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة، أي: لا أشافهك بما يؤذيك، ولكن سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي: أستدعيه أن يغفر لك. وقد وفى عليه السلام بقوله في سورة الشعراء: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «1» . أو: بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان. والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحي، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: «لا أزال أستغفر لَكَ مَا لَم أُنهَ عنك» . ثم نهاه عنه كما تقدم في التوبة. فالنهي من طريق السمع، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم، وكذا قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «2» وقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «3» إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه، بدليل قوله: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» .
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي: بليغًا في البر والألطاف، رحيمًا بي في أموري، قد عوَّدني الإجابة.
أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه، وفي القاموس: حَفِيَ كَرَضِيَ، حَفَاوةً. ثم قال: واحتفًا: بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله، فهو حافٍ وحفي. هـ.
وَأَعْتَزِلُكُمْ أي: أتباعد عنك وعن قومك، وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني، حيث لم تؤثر فيكم نصائحى، وَأَدْعُوا رَبِّي: أعبده وحده، أو أدعوه بطلب المغفرة لك- أي قبل النهي- أو: أدعوه بطلب الولد، كقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «5» ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي: عسى ألا أشقى بعبادته، أو: لا أخيب في طلبه، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم، لا من طريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
الإشارة: انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته، وإن كان أقرب الناس إليه، فكيف بك أيها المؤمن ألاَّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره، أو يجحد نبيه ورسوله، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه، غيرةً منك على محبوبك، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق، إذ ليس في الوجود إلا الحق، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
__________
(1) الآية 86 من سورة الشعراء.
(2) فى الآية 4 من سورة الممتحنة.
(3) من الآية 86 من سورة الشعراء.
(4) الآية 114 من سورة التوبة.
(5) الآية 100 من سورة الصافات.(3/338)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
فمن اعتزل كل ما سوى الله، وأفرد وجهته إلى مولاه، لم يَشْق في مَطلبه ومسْعاه، بل يطلعه الله على أسرار ذاته، وأنوار صفاته، حتى لا يرى في الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نتيجة الانفراد عمن يصد عن الله، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 49 الى 50]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قلت: (وَكُلًّا) : مفعول أول لجعلنا، و (عَلِيًّا) : حال من اللسان.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ أي: اعتزل إبراهيمُ قومَه وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن خرج من «كوثى» بأرض العراق، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولده وَيَعْقُوبَ حفيده، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر، التي وُهبت لزوجه سارة، ثم وهبتها له، فوُلد له منها إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق، ثم نشأ عنه يعقوب، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه في بلده، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه، فكانت النعمة بهما أعظم.
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب، فإنهما شجرة الأنبياء، لهما أولاد وأحفاد، لكل واحدٍ منهم شأن خطير وعدد كثير.
وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي: وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً.
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا هي النبوة، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل: الرحمة: المال والأولاد، وما بسط لهم من سعة الرزق، وقيل: إنزال الكتاب، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا: رفيعًا في أهل الأديان، فكل أهل دين يتلونهم، ويثنُون عليهم، ويفتخرون بهم استجابة لدعوته بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» .
والمراد باللسان: ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتبدل الدول، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم.
__________
(1) الآية 84 من سورة الشعراء. [.....](3/339)
الإشارة: كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية، وفي الحكم: «ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة» . قال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: (ثمار العزلة: الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة: كشف الغِطاء، وتنزل الرحمة، وتحقق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة، قال الله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ ... الآية) . وقال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا، فهلك كما هلكوا.
وقال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله: كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي، قال: لا تسمع كلامهم، فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي، قال: لا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم، لا بد لي من معاملتهم، قال: لا تسكن إليهم، فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون، قال: يا هذا أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطَّالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله؟! هيهات.. هذا لا يكون أبدًا، ثم غاب عني.
وقال القشيري رضي الله عنه: فأرباب المجاهدات، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات- أي: من الدنيا-. قال: وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة. هـ. وقال في «القوت» : ولا يكون المريد صادقًا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية، وحتى يكون أنسه فى الواحدة، وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر. هـ.
قلت: العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط في بداية المريد، فإذا تمكن من الشهود، وأَنس قلبه بالملك الودود، واتصل بحلاوة المعاني، ينبغي له أن يختلط بالخلق ويربي فكرته لأنهم حينئذ يزيدون في معرفته ويتسع بهم لأنه يراهم حينئذ أنوارًا من تجليات الحق، ونوارًا يرعى فيهم، فيجتني حلاوة الشهود، وفي ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب:
الخَلْقُ نَوَّارٌ وَأَنا رَعَيْتُ فيهمُ ... هُمُ الحجابُ الأكبَرُ والمَدْخَلُ فيهِمُ.
وفي مقطعات الششتري:
عين الزحام ... هم الوصول لحيِّنا.
وبالله التوفيق.(3/340)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
ثم ذكر قصة موسى عليه السلام، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
قلت: «نَجِيًّا» : حال من أحد الضميرين في (نادَيْناهُ) أو (قَرَّبْناهُ) ، وهو أحسن. و «هارُونَ» : عطف بيان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى، قدَّم ذكره على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب لأنه من نسله، إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً «1» : موحدًا، أخلص عبادته من الشرك والرياء، وأسلم وجهه لله تعالى، وأخلص نفسه عما سواه. وقرئ بالفتح، على أن الله تعالى أخلصه من الدنس. قال القشيري أي: خالصا لله، لم يكن لغيره بوجهٍ. ثم قال: ولم يُغْضِ في اللهِ على شيءٍ. هـ.
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه، ولذلك قدَّم رسولاً مع كونه أخص وأعلى، وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، الطور: جبل بين مصر ومدين، أي: ناديناه من ناحيته اليمنى، وهي التي تلي يمين موسى عليه السلام، فكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى، أو من أيمن، أي: من جانبه الميمون، ومعنى ندائه منه: أنه سمع الكلام من تلك الناحية، وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي: مناجيًا لنا نُكلمه بلا واسطة، فالتقريب:
تقريبُ تكرمة وتشريف، مَثَّلَ حاله عليه السلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته. وقيل: (نَجِيًّا) من النجو، وهو العلو والارتفاع، أي: رفعناه من سماء إلى سماء، حتى سمع صريف القلم يكتب له في الألواح.
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي: من أجل رحمتنا ورأفتنا به، أو من بعض رحمتنا أَخاهُ هارُونَ، أي: وهبنا له مؤازرة أخيه ومعاضدته، إجابةً لدعوته: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي «2» لا نفسه لأنه كان أكبر منه، وُجد قبله، حَال كونه نَبِيًّا: رسولاً مُشْركًا معه في الرسالة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما وصف الحق تعالى خليله بالصديقية وصف كليمه بالإخلاص، وكلاهما شرط في حصول سر الخصوصية، سواء كانت خصوصية النبوة أو الولاية، فمن لا تصديق عنده لا سَيْر له، ومن لا إخلاص له لا وصول له. وحقيقة الإخلاص: إخراج الخلق من معاملة الحق، وهي ثلاث طبقات سفلى، ووسطى، وعليا.
__________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (مخلصا) بفتح اللام.
(2) الآيتان 2- 3 من سورة طه.(3/341)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
فالسفلى: أن يفعل العبادة لله تعالى، طالبًا لعوض دنيوي، كسعة الأرزاق، وحفظ الأموال والبدن، فهذا إخلاص العوام، وإنما كان إخلاصًا لأنهم لم يلاحظوا مخلوقًا في عملهم.
والوسطى: أن يعبد الله مخلصًا، طالبًا لعوض أخروي، كالحور والقصور.
والعليا: أن يفعل العبادة قيامًا برسم العبودية، وأدبًا مع عظمة الربوبية، غير ملتفت لجنة ولا نار، ولا دنيا ولا آخرة، مع تعظيم نعيم الجنان، لأنه محل اتصال الرؤية كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
ليس شوقي من الجِنَان نَعيماً ... غيرَ أني أُريدها لأراكَ
فإذا تحقق للعبد مقام الإخلاص الكامل، صار مقربًا نجيًا في محل المشاهدة والمكالمة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نبيه إسماعيل عليه السّلام فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره، لإيراده مستقلاً بترجمته، إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته به.
رُوِيَ أنه واعد رجلاً أن يلقاه في موضع، فجاء إسماعيل، وانتظر الرجلَ يومه وليلته- وقيل: ثلاثة أيام- فلما كان في اليوم الآخر، جاء الرجل، فقال له إسماعيل: ما زلتُ هنا من أمس. وقال الكلبي: انتظره سنة، وهو بعيد.
قال ابن عطية: وقد فعل مثل هذا نبينا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره، وذلك في مبايعة وتجارة «1» هـ. وقال القشيري: وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه، فصبر على ذلك، إلى أن ظهر الفداء، وصِدق الوعد دلالة حفظ العهد. هـ.
وقال ابن عطاء: وعد لأبيه من نفسه الصبر، فوفى به، في قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «2» . هـ. وهذا مبني على أنه الذبيح، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله «3» .
__________
(1) أخرج أبو داود فى (الأدب، باب فى العدة) عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو فى مكانه، فقال: «يافتى، لقد شققت على، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» .
(2) الآية 102 من سورة الصافات.
(3) سبق التعليق على هذه المسألة عند تفسير الآية 124 من سورة البقرة.(3/342)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أي: رسولاً لجرْهُم ومن والاهم، مخبرًا لهم بغيب الوحي، وكان أولاده على شريعته، حتى غيرها عَمرو بن لحي الخزاعي، فأدخل الأصنام مكة. فمازالت تُعبَد حتى محاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشريعته المطهرة.
وَكانَ إسماعيل يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، قدَّم الأهل اشتغالاً بالأهم، وهو أن يُقبل بالتكميل على نفسه، ومن هو أقرب الناس إليه، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «2» ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً «3» ، وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يُؤتَسى بهم.
وقيل: أهله: أمته لأن الأنبياء- عليهم السلام- آباء الأمم. وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من الخصال الحميدة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الحق- جل جلاله- نبيه إسماعيل بثلاث خصال، بها كان عند ريه مرضيًا، فمن اتصف بها كان مرضيًا مقربًا: الوفاء بالوعد، والصدق في الحديث لأنه مستلزم له، وأمر الناس بالخير. أما الوفاء بالعهد فهو من شيم الأبرار، قد مدح الله تعالى أهله، ورغَّب فيه وأمر به، قال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «4» . وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ «5» فإخلاف الوعد من علامة النفاق، قال صلى الله عليه وسلم:
«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وخلف الوعد إنما يضر إذا كان نيته ذلك عند عقده، أو فرط فيه، وأما إن كان نيته الوفاء، ثم غلبته المقادير، فلا يضر، لا سيما في حق أهل الفناء، فإنهم لا حكم لهم على أنفسهم في عقد ولا حل، بل هم مفعول بهم، زمامهم بيد غيرهم، كل ساعة ينظرون ما يفعل الله بهم، فمثل هؤلاء لا ميزان عليهم في عقد ولا حل. فمثلهم مع الحق كمثل الأطفال المحجر عليهم في التصرف، ولذلك قالوا: (الصوفية أطفال في تربية الحق تعالى) . فإياك أن تطعن على أولياء الله إذا رأيت منهم شيئًا من ذلك، والتمس أحسن المخارج، وهو ما ذكرته لك، فإنه عن تجربة وذوق. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر نبيه إدريس عليه السّلام، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
__________
(1) الآية 214 من سورة الشعراء.
(2) الآية 102 من سورة طه.
(3) الآية 6 من سورة التحريم.
(4) الآية 177 من سورة البقرة.
(5) الآية 91 من سورة النّحل.(3/343)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ وهو سبط شيث، وجَدّ أبي نوح، فإنه نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، واشتقاقه من الدرس لكثرة دراسته لما أوحي إليه، وكثرة ذكره لله تعالى.
رُوِيَ أنه كان خياطًا فكان لا يدخل الإبرة ولا يخرجها إلا بذكر الله. ورُوي أنه جاء إليه الشيطان يفتنه بفستق، فقال له: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في هذه الفُسْتقة؟ فقال له عليه السلام: (الله قادر على أن يدخل الدنيا كلها في سم هذه الإبرة، ونخس عينه) ذكره السنوسي في شرح مقرأه. قال ابن وهب: إنه دعا قومه إلى لا إله إلا الله، فامتنعوا فهلكوا. وفي حديث أبي ذر: أنه رسول، وجمع بينه وبين حديث الشفاعة، وقولهم لنوح: إنك أول رسول، بأن تكون رسالته لقومه خاصة، كهود وصالح، وكذا آدم وشيث، فإنه أرسل لبنيه لتعليم الشرائع والإيمان، ولم يكونوا كفارًا، وخلفه في ذلك شيث، قال المحشي الفاسي: والأظهر عندي في نوح أنه أول رسول من أهل العزم، لا مطلقًا.
قال ابن عطية: والأشهر أن إدريس عليه السلام لم يرسل، وإنما هو نبي فقط، وذهب إلى ذلك ابن بطال، ليسلم من المعارضة، وهي مدفوعة بما ذكرنا. هـ. فالمشهور أن إدريس رسول إلى قومه. رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأنه أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم والحساب، وخاط الثياب. قيل: وهو أول نبي بُعث إلى أهل الأرض.
قال تعالى في وصفه: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا: خبران لكان، والثاني مخصص للأول إذ ليس كل صديق نبي. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا، هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. وقيل: علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا، كما قال تعالى في حق نبينا: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «1» ، وقيل: الجنة، وقيل: السماء الرابعة، وهو الصحيح.
رُوِيَ عن كعب وغيره في سبب رفعه أنه مشى ذات يوم في حاجته، فأصابه وهج الشمس وحرها، فقال: يا رب أنا مشيت يومًا، فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد!، اللهمَّ خَفِّفْ عنه من ثقلها، واحمل عنه حرها، فلما أصبح الملَك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فقال: يا رب كلفتني بحمل الشمس، فما الذي قضيت فيه؟ فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أُخفف عنك حملها وحرّها فأجبته، قال: يا رب اجعل بيني وبينه خُلَّة، فأذن له، حتى أتى إدريس، فقال له إدريس: أخبرت أنك أكرم الملائكة عند مَلَك الموت، فاشفع لي ليؤخر
__________
(1) الآية 4 من سورة الشرح.(3/344)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
أجلي، لأزداد شكرًا وعبادة، فقال له الملك: لا يُؤخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلها، فقال: قد علمت ذلك، ولكنه أطيب لنفسي، قال: نعم، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء «1» . رُوي أنه مات هناك وردت إليه روحه بعد ساعة، فهو في السماء الرابعة حي. وهذه قصص الله أعلم بصحتها. وبالله التوفيق.
الإشارة: ارتفاع المكان والشأن يكون على قدر صفاء الجنان، والإقبال على الكريم المنان، فبقدر التوجه والإقبال يكون الارتفاع والوصال.
بقدر الكد تكسب المعالي ... وَمَنَ رَامَ العُلا سَهِرَ الليالي
أتبغي العزَّ ثُم تَنَامُ ليلاً ... يَغُوصُ البحر مَن طَلَبَ اللآلي
قال بعضهم: من عامل الله على بساط الأنس: رفع، لا محالة، إلى حضرة القدس. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مدحهم فى الجملة، فقال:
[سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
قلت: «أُولئِكَ» : مبتدأ، و «الَّذِينَ» : خبره، أو «الَّذِينَ» : صفته، و «إِذا تُتْلى» : خبره. والإشارة إلى المذكورين في السورة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، و (مِنَ النَّبِيِّينَ) : بيان للموصول، و (مِنْ ذُرِّيَّةِ) :
بدل منه بإعادة الجار، و (سُجَّداً وَبُكِيًّا) : حالان من الواو، و (بُكِيًّا) : جمع باك، كمساجد وسجود، وأصله: بكوى، فاجتمع الواو والياء، وسُبق إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء.
يقول الحق جلّ جلاله: أُولئِكَ المذكورون في السورة الكريمة هم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بفنون النعم الدينية والدنيوية، مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وهو إدريس عليه السلام ونوح، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي:
ومن ذرية من حملناهم في السفينة، وهو إبراهيم لأنه من ذرية سام بن نوح، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: وَإِسْرائِيلَ أي: ومن ذرية إسرائيل، وهو يعقوب، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أنَّ أولاد البنات من الذرية. وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي: ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء.
__________
(1) عقّب ابن كثير على هذه الرواية وأمثالها بأن فيها غرابة ونكارة، وهى من أخبار كعب الأحبار من الإسرائيليات.(3/345)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا، هذا استئناف لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له، مع مالهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب، وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجل، أي:
إذا تتلى عليهم، آيات الرحمن، إما عند نزولها عليهم، أو بسماعها من غيرهم، لحديث: «أحب أن أسمعه من غيري» . ثم بكى صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» فكان الأنبياء عليهم السلام مثله، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا» «2» . وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم، فسجد فيها، فقال: (هذا السجود، فأين البكاء) ؟
قال بعضهم: ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها، فهاهنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. وفي الإسراء يقول: اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك، وهكذا. والذي ورد في الخبر: يقول:
«سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه، بحوله وقُوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم، وهو أول درجة المحبة، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب، وفوقه الفرح بشهود المتكلم، وهنا ينقطع البكاء لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف، وليس في الجنة بكاء.
وأيضًا: من شأن القلب في أول أمره الرطوبة، يتأثر بالواردات والأحوال، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية. وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه، حين رأى قوماً يبكون عند سماع القرآن: (كذلك كنا ثم قست القلوب) «3» ، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة، تواضعًا واستتارًا، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة لأنها سُلّم لما فوقها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) الآية 41 من سورة النساء، والحديث: أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة النساء) ، ومسلم فى (الصلاة، باب: فضل استماع القرآن) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) الحديث أخرجه بنحوه ابن ماجة فى (إقامة الصلاة، باب فى حسن الصوت بالقرآن) من حديث سعد بن أبي وقاص. [.....]
(3) قال الحافظ أبو نعيم: «.. عن أبى صالح: لما قدم أهل اليمن- زمان أبى بكر- وسمعوا القرآن، جعلوا يبكون، قال: فقال أبو بكر:
[هكذا كنا، ثم قست القلوب] . قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: «ومعنى قوله: قست القلوب: قويت، واطمأنت بمعرفة الله تعالى.
أ. هـ. الحلية، ج 1، ص 33- 34 ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم كانوا أرقاء القلوب بمشاهدتهم لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم طال الأمد.. فقست القلوب.. وهذا منه تواضع، رضي الله عنه.(3/346)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
قلت: (جَنَّاتِ عَدْنٍ) : بدل من الجنة، بدل بعض لاشتمالها عليها، وما بينهما اعتراض، أو نصب على المدح. و (إِلَّا سَلاماً) : منقطع، أي: لكن يسمعون سلامًا، ويجوز اتصاله، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة، فإن أهل الجنة أغنياء عنه، فهو داخل في اللغو. و (بِالْغَيْبِ) : حال من عائد الموصول، أي: وعدها، أو من العباد، و (مَأْتِيًّا) : أصله مأتوي، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحق جلّ جلاله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: جاء بعد أولئك الأكابر، خَلْفٌ أي: عقب سوء، يقال لعقب الخير «خَلْفٌ» بفتح اللام، ولعقب الشر «خَلْفٌ» بسكون اللام، أي: فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء، أَضاعُوا الصَّلاةَ أي: تركوها وأخروها عن وقتها، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من شرب الخمر، واستحلال نكاح الأخت، من الأب، والانهماك في فنون المعاصي، وعن على رضي الله عنه: هم من بَني المُشيد، وركب المنضود، ولبس المشهور. قلت: ولعل المنضود: السُرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة. هـ. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا: شرًا، فكل شر عند العرب غيٌ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس: الغيُّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه، أُعد للزاني المصرِّ، ولشارب الخمر المدمن، ولأهل الرياء والعقوق والزور، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره. هـ.
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، هذا يدل على أن الآية في الكفار. فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بموجب الوعد المحتوم، أو يُدخلهم الله الجنة، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً: لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم، ولا ينقص أجورهم، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.(3/347)
جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: إقامةٍ، لإقامة داخلها فيها على الأبد، الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي: ملتبسين بالغيب عنها لم يروها، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار، أو ملتبسة بالغيب، أي: غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يأتيه من وعُد به لا محالة، وقيل: هو مفعول بمعنى فاعل، أي: آتيًا لا محالة، وقيل: مأتيًا: منجزًا، من أتى إليه إحسانًا، أي: فعله.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي: فضول كلام لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه. وفي الحديث: «مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ» «1» . وهو عَامٌّ في الكلام وغيره. إِلَّا سَلاماً، أي: لا يسمعون لغوًا، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي: على قدرهما في الدنيا، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدًا. قال القرطبي: ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، أي: ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري: الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار، والقصد: أنهم أغنياء مياسير في كل وقت. هـ.
وسيأتي عند قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ «2» كيفية أرزاقهم.
قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ: مبتدأ وخبر، جيء بهذه الجملة لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها، أي: تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي الَّتِي نُورِثُ أي: نورثها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا لله بطاعته واجتناب معاصيه، أي: نُديمها عليهم بتقواهم، ونمتعهم بها، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل: يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو آمنوا وأطاعوا، زيادة في كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ... الآية تنسحب على مَن كان أسلافه صالحين، فتنكب عن طريقهم، فضيّع الدين، وتكبر على ضعفاء المسلمين، واتبع الحظوظ والشهوات، وتعاطى الأمور العلويات، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه، أو بالجاه والمال، كان أغرق في الغي والضلال، يصدق عليه قول القائل:
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا ... خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت ... نِعم الجدود، ولكن بئس ما خلَّفوا
__________
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد باب 11) ، وابن ماجة فى (الفتن، باب: كف اللسان فى الفتنة) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(2) الآية 71 من سورة الزخرف.(3/348)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
إلا مَن تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه، من العلم النافع والعمل الصالح، والتواضع للصالح والطالح، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب، ثم صارت عندهم شهادة، إنه كان وعده مأتيًا، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا لأن الحضرة مقدسة عن اللغو، (إِلَّا سَلاماً) لسلامة صدورهم، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب، في كل ساعة وحين، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله، وانقطع بكليته إلى مولاه. وبالله التوفيق.
ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تزورنا؟» فنزل «1» :
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
قلت: وجه المناسبة لما قبله- والله اعلم-: أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره، فقال: وَما نَتَنَزَّلُ ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكيًا لقول جبريل عليه السلام: وَما نَتَنَزَّلُ عليك يا محمد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وذلك حين أبطأ الوحى عنه صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب، ورجا أن يوحي إليه فيه، فأبطأ عليه أربعين يومًا. قاله عكرمة. وقال مجاهد: ثنتي عشرة ليلة، أو خمس عشرة. فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة. وقال: يا جبريل قد اشتقت إليك، فقال جبريل: إني كنت أَشْوَق، ولكني عبد مأمور، إذا بُعثتُ نزلت، وإذا حُبست احتَبَستُ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى «2» ، والتنزل: النزول على مَهَل، وقد يُطلق على مطلق النزول، والمعنى: وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ «3» إلا بأمر الله تعالى، على ما تقتضيه حكمته.
وقيل: هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج، أي: ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه، وهو مالك الأمور كلها، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. هـ. قلت: ولا يخفى حينئذ مناسبته.
ثم قال: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي: وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان، إلا بأمره ومشيئته، وعن مقاتل: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا من
__________
(1) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة مريم) وفى (التوحيد، باب وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) من حديث ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري فى تفسيره (16/ 103) ، وعزاه ابن حجر فى الكافي الشافي لأبى نعيم فى الدلائل.
(3) غب بمعنى بعد، ومنه قولهم: غب سلام.(3/349)
أمر الدنيا، وَما خَلْفَنا من أمر الآخرة، وَما بَيْنَ ذلِكَ مما بين النفختين، وهو أربعين سنة. أو ما بين أيدينا بعد الموت، وما خلفنا قبل أن يخلقنا، وما بين ذلك مدة حياتنا، أي: له علم ذلك كله، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا: تاركًا لك ومهملاً شأنك، أو: ذَاهِلاً عنك حتى ينسى أمر الوحي إليك لأنه مُحال، يعني: أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالاً وتوديعًا، كما زعمت الكفرة.
وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
وقوله تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء في قوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما. أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين، والمعنى على الأول: فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده، أو حين عرفته تعالى لا ينساك، أو: ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي: شبيهًا ونظيرًا، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله تعالى، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له، لا موجودًا ولا موهومًا، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم، ولو تجاسر أحدٌ لهلك.
وقيل: إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم، فخسف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري في التحبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل، ولا حركة ولا سكون، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق «ما من نَفَسٍ تُبديه إلاَّ وله قَدَر فيك يمضيه» . وقال الشاعر:
مشيناها خطى كُتبت علينا ... ومن كُتبت عليه خطى مشاها
ومن قسمت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها
فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته، كل وقت ينظر ما يفعل الله به، فبهذا ينجو من التعب، ويتحقق له الأدب.
وبالله التوفيق.
ثم ردّ على مَن أنكر البعث، بعد أن ردّ على من اعتقد الشرك، وبهما كفرت العرب، فقال:(3/350)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
قلت: (أَإِذا) : ظرف، والعامل فيه محذوف، أي: أأُخرج إذا مت، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، إلا أن يرخص في الظروف. واللام في «لَسَوْفَ» ليست للتأكيد، فإنه مُنْكِرٌ، وكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه الذي قال: والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله، فنُزلت الآية على ذلك، قاله الجرجاني: و (الشَّياطِينَ) : عطف على ضمير المنصوب، أو مفعول معه.
و (جِثِيًّا) : حال من ضمير (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) البارز، أي: لنحضرنهم جاثين، جمع جاث، من جثى إذا قعد على ركبتيه، وأصله: «جثوو» بواوين، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين، فكسرت الثاء تخفيفًا، وانقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، فاجتمعت واو وياء، وسبقت إحداهما بسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ بكسر الجيم: فعلى الإتْبَاعِ.
و «أَيُّهُمْ» : مبني على الضم عند سيبوبه، لأنه موصول، فحقه البناء كسائر الموصولات، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه، وهو منصوب المحل بلننزعن، وقرئ منصوبًا على الإعراب، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء، وخبره: «أَشَدُّ» ، والجملة محكية، والتقدير:
لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد ... الخ. وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، و (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا) أصلهما: عتوى وصلوى، من عتى وصلى، بالكسر والفتح، فاعلاً بما تقدم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي: جنس الإنسان، والمراد الكفرة، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم، وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل واحد، وقيل: القائل: أُبيُّ بن خَلَف، فإنه أخذ عظامًا بالية، ففتتها، وقال: يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال، فنزلت.
أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي: أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا؟ قال تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر، ولذلك قرىء بالتشديد من(3/351)
التذكير. والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم، فهلاّ يذكر أصله!، وهو أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل الحالة التي فيها، وهي حالة حياته، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي: والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر لأن الإعادة أسهل من البدء.
قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعد ما أخرجتهم من الأرض. وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام لتحقيق الأمر، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ، وتفخيم شأنه، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، أي: حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث لتحقق وضوحه، وإنما قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: نجمعهم وَالشَّياطِينَ المغوين لهم، إلى المحشر، وقيل: إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم، كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا: باركين على ركَبِهم لما يدهمُهم من هول المطلع، والجثو: جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى، صريحة في الكفرة، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم، جُثاة إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «1» فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام، قلت: ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم، كما في الحديث.
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: من كان منهم أعصى وأعتى، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس: أي: أيهم أشد جرأة، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، وقال مقاتل: علوًا، أو غلوًا في الكفر، أو كبرًا، وقال الكلبي: قائدهم ورأسهم، أي: فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة، إذا قلنا بعموم الآية، وأما إذا خصصناها بالكفرة، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي: أولى بصليها وأحق بدخولها، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا، أو رؤوسهم، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
__________
(1) الآية 28 من سورة الجاثية.(3/352)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء، وقرىء: «وَإِنَّ مِنْهُمْ» . ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق، أي: وإن منكم أيها الناس إِلَّا وارِدُها أي: واصلها وحاضرها، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقالُ لَهُمْ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ» . وأما قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد به الإبعاد عن عذابها، وقيل: ورودها: الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود: الضمير في (وارِدُها) للقيامة، وحينئذ فلا يعارض: لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «1» ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب، ولا مرور على الصراط، فضلاً عن الدخول فيها، على أنه اختلف في الورود، فقيل: الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن. وقيل: المرور كما تقدم، وقيل: الإشراف عليها والاطّلاع.
قال القشيري: كلٌّ يَرِدُ النارَ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات، والزلل، فأشدُّهم فيها انهماكًا: أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا، وأما بريء الساحة، نقي الجانب بعيد الذنوب، فكما في الخبر:
«إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن- أي: جامدة كجمود اللبن حين يسخن- فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم: عبرتم وما شعرتم» . هـ.
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي: كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل: أقسم عليه، ويشهد له: «إلا تحلة القسم» «2» .
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفرَ والمعاصي، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا، على تفسير الورود بالدخول، وعن جابر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الوُرودُ الدُّخولُ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ» «3» . وإن فسرنا الورود بالمرور، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا: باركين على ركبهم، قال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به. هـ.
__________
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2) يقصد حديث: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار، إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري فى (الأيمان والنذر، باب قول الله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» ) ومسلم فى (البر والصلة، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه) .
(3) أخرجه أحمد فى المسند (3/ 329) والحاكم فى المستدرك (الأهوال 4/ 587) ، والبيهقي فى الشعب (1/ 336) ، من حديث جابر ابن عبد الله. والحديث: صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي فى المجمع (7/ 55) : رواه أحمد، ورجاله ثقات.(3/353)
الإشارة: من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها، حتى تكون نصب عينيه، فإنه يرد على الله كريمًا. ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أراد سرعة المرور على الصراط فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط.
قال في الإحياء، لمَّا تكلم على العدل في الكيل والوزن، قال بعد كلامه: وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته، فالويل له إن عدل عن العدل، ومال عن الاستقامة، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها..) الآية، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه فإنه أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار، الذي من صفته أنه أدق من الشعر، وأحدّ من السيف، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. هـ.
وقال الترمذي الحكيم: يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1» ، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم، فهم يمضون في النار، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض: أليس قد وُعدنا النار، فذكر ما تقدم. ثم قال: فأما ضجة النار فمن بردهم، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب، فبالرحمة نالوا النور، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم، فكان نوره في قلوبهم، والرحمة مظلة عليهم، فخمدت النار من بردهم عند ما لقُوهَا، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك رُوي أنها تقول: «جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي» . «2» هـ.
وقال الورتجبي: إذا كان جمال الحق مصحوبهم، فلا بأس بالوقوف في النيران، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها ... زلال وسَلسال، وسيحانها وِرْدُ. هـ.
وقال جعفر الصادق: لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار، ألا ترى الله يقول: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) . هـ. قلت.
__________
(1) من الآية 101 من سورة الأنبياء.
(2) رواه أبو نعيم فى الحلية (9/ 329) ، والخطيب فى تاريخ بغداد (5/ 194) ، والطبراني فى الكبير، وابن عدى فى الكامل، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول، وفى سنده: سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد (10/ 360) ، وكشف الخفاء (1/ 373- 374) .(3/354)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
وقد تقدّم أنَّ مِن لاحساب عليهم- وهم المقربون- يمرون على الصراط ولا يحسون به، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه، آمين.
ثم ذكر أحوال من سقط فى جهنم ويبقى فيها جثيّا، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 74]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74)
قلت: «هم أحسن» : صفة لِكَمْ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ على الكفرة آياتُنا الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين، حال كونها بَيِّناتٍ: واضحات في نفسها، أو بينات الإعجاز، أو بينات المعاني، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: قالوا، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يُتلى عليهم رادين له، أو: قال الذين تمرَّدوا في الكفر والعتو وهم النضر بن الحارث وأتباعه، قالوا لِلَّذِينَ آمَنُوا، اللام للتبليغ، أي: قالوا مبلغين الكلام لهم، وقيل: لام الأجل، كقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ «1» أي: لأجلهم وفي حقهم، والأول أولى لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي: المؤمنين والكفار، خَيْرٌ كأنهم قالوا: أينا خَيْرٌ مَقاماً أي: مكانًا:
نحن أو أنتم، وقرىء بالضم، أي: موضع إقامة ومنزل، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسًا ومجتمعًا، أو: أينا خير منزلاً ومسكنًا، وأحسن مجلسًا؟.
يُروَى أنهم كانوا يُرجلون شعورهم ويدهنونها، ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين، يريدون بذلك أن خيريتهم، حالاً، وأحسنيتهم، مقالاً، مما لا يقبل الإنكار، وأنَّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده، وأنَّ الحال التي عليها المؤمنون، من الضرورة والفاقة ورَثَاثَةِ الحال لقصور حظهم عند الله. وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جَهلةً لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، وذلك مبلغهم من العلم، فردَّ عليهم بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً: مالاً ومتاعًا وَرِءْياً منظرًا، أي: كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء،
__________
(1) الآية 11 من سورة الأحقاف.(3/355)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا، لما فَعَلنا بهم ما فعلنا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى، كأنه قيل: فلينتظر هؤلاء أيضًا مثل ذلك.
و «أثاثًا» : تمييز، وهو متاع البيت، أو ما جد منه، و «رِءْيًا» : كذلك، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر، قال ابن عزيز: «رءيا» بهمزة ساكنة: ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة، وبغير همز: يجوز أن يكون على معنى الأول «1» ، ويجوز أن يكون من الريّ. أي: منظرهم مُرتو من النعمة. وَزِيًّا، بالزاي المعجمة، في قراءة ابن عباس، يعني هيئة ومنظرًا. هـ.
الإشارة: رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله، وتمكين اليقين من القلوب، واطلاعها على أسرار الغيوب، مع القيام بوظائف العبودية، أدبًا مع عظمة الربوبية، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح، وإنما يعتنون بحياة الأرواح.
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تَكْمُلِ ... والجسم دعه في الحضيض الأسفل
فقوت قلوبهم التواجد والأذكار، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار، وأنشدوا:
بالقوت إحياءُ الجسوم، وذكره ... تحيا به الألباب والأرواح
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم ... حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح.
وأما من عَظُمَ جهلُه، وكَثُفَ حجابه، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه، وهذه نزعة جاهلية، حيث قالوا حين يُتلى عليهم الوعظ والتذكير: (أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا) ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «2» . وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى مدد الفريقين أهل الضلال وأهل الإيمان، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
__________
(1) أي: هو مهموز الأصل، أي: منظرا، من الرؤية، سهلت همزته بإبدالها ياء، ثم أدغمت الياء فى الياء. [.....]
(2) الآية 7 من سورة الروم.(3/356)
قلت: «ويزيد» : عطف على «فليَمدُد» لأنه في معنى الخبر، أي: من كان في الضلالة يمده الله فيها، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم، أو عطف على «فسيعلمون» ، وجمع الضمير في (رَأَوا) وما بعدها باعتبار معنى (مَنْ) ، وأفرد أولاً باعتبار لفظها.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: مَنْ كانَ مستقرًا فِي الضَّلالَةِ مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور، مشتغلاً بالحظوظ الفانية، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي: يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ، إما استدراجًا، كما نطق به قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» ، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «2» ، أو: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ) : يدعه في ضلاله، ويمهله في كفره وطغيانه، كقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «3» . والتعرّض لعنوان الرحمانية لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جلّ جلاله لَمّا بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم، كما بيَّن ذلك بقوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فهو غاية للحد الممتد، أي: نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي بالقتل، والأسر، وغلبة أهل الإيمان عليهم، وَإِمَّا السَّاعَةَ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان، و «إما» هنا: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال.
فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون، فيعلمون أنهم شر مكانًا، لا خير مقاما، وَيعلمون أنهم أَضْعَفُ جُنْداً أي: جماعة وأنصارًا، لا أحسن نَدِيًّا، كما كانوا يدعونه، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا، يفتخرون بهم في الأندية والمحافل، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل، ليس تحته طائل.
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي: كما يمد لأهل الضلالة زيادة في ضلالهم، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية ثوابًا على طاعتهم لأن كلا يجزي بوصفه، فلا تزال الهداية تنمو فى
__________
(1) من الآية 178 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 37 من سورة فاطر.
(3) من الآية 110 من سورة الأنعام.(3/357)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور، ورؤية الحليم الغفور.
فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه، بل قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية، قال تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ كأنواع الطاعات، خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها.. وقد تقدم تفسيرها» .
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه، أي: فهي أفضل ثَواباً أي: عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية، التي يفتخرون بها لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام، كما أشير إليه بقوله: وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي: مرجعًا وعاقبة، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة، ففيه نوع تهكم بهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- يرزق العبدَ على قدر نيته، ويمده على قدر همته، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية، أمده الله فيها، ومتعه بها ما شاء، على حسب القسمة، ثم أعقبه الندم والحسرة، ومن كانت همته الآخرة، أمده سبحانه في الأعمال التي توصله إلى نعيمها، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور، وأنواع الطيبات، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته الله- أي: الوصول إلى حضرته دون شيء سواه- أمده الله في الأعمال التي توصله إليه، وهي أعمال القلوب من التخلية والتحلية، كالتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك، قد سلك الطريق على شيخ كامل، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعض من مدّ له فى الضلالة وخصه بزيادة ضلالته، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
__________
(1) راجع تفسير الآية 46 من سورة الكهف.(3/358)
يقول الحق جلّ جلاله في حق العاص بن وائل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا: القرآن المشتمل على البعث والحساب، قال خبَّاب بن الأرَت: كان لي على العَاصِ بن وَائِل دِيْنٌ، فاقْتَضيتُه، فقَالَ: لاَ، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ،، فَقُلْتُ: لا والله لا أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ، قال العاص: فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ، فأعطيك، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة- استهزاء واستخفافًا- وفي رواية البخاري: «كُنت قَيْنَا «1» في الجاهلية، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ ... » «2» فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها.
وَقالَ مستهزءًا بها، مصدّرًا باليمين الفاجرة: والله لَأُوتَيَنَّ في الآخرة مالاً وَوَلَداً أي: انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب، الذي استأثر به العليم الخبير، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا، وأقسم عليه، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين، وهذا رد لكلمته الشنعاء، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد:
قيل: كلمة الشهادة، أو العمل الصالح، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد، قال القشيري: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ فقال بتعريف له منا، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي: ليس الأمر كذلك. ثم قال: ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً، فالله تعالى يحققه له لأنه على عهد مع الله تعالى، والله لا يُخلف الميعاد. هـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال: كَلَّا أي: انزجر عن هذه المقالة الشنيعة، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة، وتنبيه على خطئه، قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي: سنظهر ما كتبنا عليه، فهو كقول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أي: تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ، أو: سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «3» قال ابن جزي: إنما جعله مستقبلاً لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. هـ.
__________
(1) القين: الحدّاد والصانع، والجمع أقيان وقيون. انظر اللسان (قين 5/ 3798) .
(2) أخرجه البخاري فى (البيوع. باب ذكر القين والحدّاد) ، وفى (تفسير سورة مريم) ، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب 4) .
(3) الآية 18 من سورة ق.(3/359)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
قلت: والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل، تنبيهًا على عدم نسخه، وأنه ماض نافذ. قاله في الحاشية.
وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد، أي: نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه، أو نزيد في مضاعفة عذابه، لكفره وافترائه على الله سبحانه، واستهزائه بآياته العظام، ولذلك أكده بالمصدر، دلالةً على فرط الغضب والسخط.
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ، قال مكي: حرف الجر محذوف، أي: نرث منه ما يقول. هـ. والظاهر أن (ما) : بدل من الضمير، وهو الهاء، أي: نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول، أي: ننزع منه ما آتيناه، وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا. وقال القشيري: فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه: (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) ، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله، ويتفاوت الناس في العهد عند الله، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته، وسيأتي في قوله: لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «1» زيادة بيانه. والله تعالى أعلم.
ثم ردَّ على أهل الضلالة ما زعموا، من نفع الأصنام لهم، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 84]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
يقول الحق جلّ جلاله: واتخذ المشركون الأصنام آلِهَةً يعبدونها من دون الله لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا يوم القيامة، ووصلة عنده يشفعون لهم، كَلَّا لا يكون ذلك أبدًا، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل، وإنكارٌ لوقوع ما علَّقوا به أطماعَهم، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي: تجحد الآلهة عبادتَهم لها، بأن يُنطقهم الله تعالى وتقول ما عبدتمونا، أو: سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها، كقوله: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي: تكون الآلهة، التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا، ضدا للعز،
__________
(1) الآية 87 من هذه السورة.
(2) من الآية 23 من سورة الأنعام.(3/360)
أي: ذلاً وهوانًا لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذامًّا» «1» . وتكون عونًا عليهم، وآلة لعذابهم، حيث تجعل وقود النار وحَصَب جهنم، أو تكون الكفرة ضدًا وأعداء للآلهة، كافرين بها، بعد أن كانوا يُحبونها كحب الله، ويعبدونها من دون الله، وتوحيد الضد لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم، فإنهم بذلك كشيء واحد، كقوله عليه الصلاة والسلام: «وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سواهم» «2» .
وسبب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان، وَفَاء بقوله: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «3» كما قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي: سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم، بقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ «4» الآية.
وهذا تعجيب لرسوله صلى الله عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة، العتاة المردة، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل، والتمادي في الغي، والانهماك في الضلال، والتصميم على الكفر، من غير صارف يلويهم، ولا عاطف يثنيهم، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتّضاحه، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا أن له مسوغًا في الجملة، أي: ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم، وليس المراد تعجيبه عليه السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم، كما يوهمه تقليل الرؤية، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين، كما ينبئ عنه قوله تعالى: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان، معناهما: شدة الانزعاج، وجملة (تَؤُزُّهُمْ) : حال مقدرة من الشياطين، أو استئناف وقع جوابًا عن صدر الكلام، كأنه قيل: ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) .
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حسبما تقتضي جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم، وتطهرُ الأرض من فسادهم، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي: لا تستعجل بهلاكهم، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدًا، ثم نأخذهم أخذًا. والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه البزار (كشف الأستار 4/ 218) من حديث السيدة عائشة. وقال الهيثمي فى المجمع: (10/ 228) : رواه البزار من طريق قطبة بن العلاء عن أبيه، وكلاهما ضعيف. وورد معنى الحديث عند الترمذي، ولفظه: «من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه» .
(2) طرف من حديث أخرجه أحمد فى المسند (1/ 122) وأبو داود فى: (الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر) ، والنسائي فى (القسامة، باب القود بين الأحرار والعبيد) من حديث سيدنا على.
(3) من الآية 39 من سورة الحجر.
(4) من الآية 64 من سورة الإسراء 43. [.....](3/361)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
الإشارة: كل من اتخذ شيئًا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذُلاً وهوانًا، ولذلك قيل: «من تعزز بمخلوق مات عزه» . فإن أردت عزًا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى، وهو التعزز بالمال أو الجاه، أو غير ذلك مما يفنى، وسيأتي عند قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً «1» . وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة، والواردات تزعجه إلى الحضرة، تخرجه عن عوائده وتدمغ له مِن علائقه، وعوائقه، حتى ينفرد لحضرة الحق:
وفي الحكم: «الوارد يأتي من حضرة قهّار، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» . وقال أيضًا: «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها» .
وقال القشيري على قوله: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي: تزعجهم إزعاجًا، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون، وهذه إحدى الفوارق بينهما. هـ. قلت: ومن الفوارق أيضًا: أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة.. وفي الحديث «العجلة من الشيطان، والأناة من الرحمن» «3» . هـ. بخلاف خاطر الشيطان فإنه لا يأمر إلا بالشر، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل فريق الإيمان وفريق الضلال، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 87]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
قلت: (يَوْمَ نَحْشُرُ) : إما ظرف لفعل مؤخر للإشعار بضيق العبارة عن حصره لكمال جماله أو فظاعته، والتقدير: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن، ونسوق المجرمين، نفعل بالفريقين ما لا يفي به نطاق المقال، أو ظرف لا ذكر، و (وَفْداً) و (وِرْداً) : حالان.
__________
(1) من الآية 10 من سورة فاطر.
(2) من الآية 8 من سورة المنافقون.
(3) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (10/ 104) بتقديم وتأخير، من حديث أنس بن مالك، وعزاه فى مجمع الزوائد لأبى يعلى عن أنس، وقال: ورجاله رجال الصحيح.(3/362)
يقول الحق جلّ جلاله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ: نجمعهم إِلَى الرَّحْمنِ أي: إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة، وَفْداً: وافدين عليه، كما يفد الوفود على الملوك، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. وعن عليّ كرّم الله وجهه: (لَمَّا نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول الله، إني قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أر وفدًا إلا راكبًا، فما وفد الله؟ قال: «يا عليّ إذا حان المنصَرَفُ من بين يدي الله، تلقت الملائكة المؤمنين بنُوقٍ بيض، رِحالُهَا وأزِمَّتُها الذَهَبُ، على كل مركب حُلة لا تُساويها الدنيا، فيلبس كل مؤمن حلّة، ثم يستوون على مراكبهم، فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» .
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تُساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً: عطاشًا، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش، أو كالدواب التي ترد الماء، أي: يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة، لما يقع فيه من الدواهي الطامة، أو الكرائم العامة، أو: اذكر يوم نحشر الفريقين، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ: استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله، وضمير الواو: إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها، أو إلى المتقين فقط، أو إلى المجرمين.
و (مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء، أو بدل من الواو، أي: لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا، فيشفع في مثله. فَمَن، على هذا الثالث، بدل من الواو فقط. والأول أحسن لعمومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أما يَعْجزُ أَحدكُمْ أَنْ يتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَساءٍ عَهدًا عِند اللهِ، يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ ومَساءٍ: اللهمّ فاطر السموات والأرْض، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ، إنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هذهِ الحياةَ الدنيا، بأَنِي أشهد أن لا إله إِلاَّ أنتَ، وَحْدكَ لا شَرِيكَ لَكَ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولُكَ، فلا تكلني إلى نفسي، فإِنَكَ إنْ تَكلْنِي إلى نَفسْي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشرِّ وتُبَاعِدْنِي مِنَ الخَيْرِ، وإنّي لاَ أَثِقُ إلّا برحمتك، فاجعل لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيه يَوْمَ القِيامَةِ، إنَّكَ لا تُخْلفُ المِيعادَ. فإذا قالَ ذَلِكَ طُبعَ عَلَيْهِ طابَع ووُضِعَ تَحْتَ العَرْشِ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَىَ مُنَادٍ: أَيْنَ الذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الجنَّة» . هـ.
الإشارة: ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية، ومن ورد من باب الطاعات(3/363)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
السرية- كالفكرة والنظرة في مقام المشاهدة- حمله الحق إلى الحضرة القدسية، فيكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف في قوله تعالى: (وَفْداً) : قيل: ركبانًا على نجائب طاعتهم، وهم مختلفون، فمن راكب على صور الطاعات، ومن راكب على نجائب الهمم، ومن راكب على نجائب الأنوار، ومن محمول يحمله الحق في عقباه، كما يحمله اليوم في دنياه، وليس محمول الحق كمحمول الخلق. هـ.
وقوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ... ) الآية، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم، وهم أعظم من أهل المقام الأول، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم، وهم أعظم من القسمين، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم، وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة، أنَّ بعض الأولياء قال عند موته: يا رب شفِّعني في أهل زماني، فقال له الحق تعالى- من جهة الهاتف-: لم يبلغ قدرك هذا، فقال: يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا، فقال له: إني شفعتك في أهل عصرك. هـ. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم الله وجوده، ودخل من هذا الباب، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء. وبالله التوفيق.
ثم كرر الرد على أهل الشرك والضلال وشنّع عليهم، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
قلت: «هَدًّا» : مصدر مؤكد لمحذوف، هو حال من الجبال، أي: تهد هدًا. و «أَنْ دَعَوْا» : على حذف اللام، أي:
لأن دعوا، وفيه احتمالات أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى، ومن يزعم من العرب إن الملائكة بنات الله، لعن الله جميعهم، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فحكى جنايتهم إثر جناية عَبَده الأصنام، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم في الضلالة، قال تعالى في شأنهم: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي: فعلتم أمرًا منكرًا شديداً، لا يُقادر قدره، فهو رد لمقالتهم الباطلة، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات(3/364)
المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل.
و (جاء) يستعمل بمعنى فعل، فيتعدى تعديته، والإد- بكسر الهمزة وفتحها، وقُرئ بهما في الشاذ-: العظيم المنكر، الإدُّ: الشدة، قيل: الأدُّ: في كلام العرب: أعظم الدواهي.
ثم وصفه وبيّن هوله فقال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ: يتشققن مرة بعد أخرى، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله، وهو أبلغ من «ينفطرن» كما قرئ به، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي: وتكاد تنشق وتذهب، وَتَخِرُّ الْجِبالُ أي: تسقط وتنهدم هَدًّا بحيث لا يبقى لها أثر. والمعنى: أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة، لم يُطق سمعها تلك الأجرام العظام، ولتفتتت من شدة قبحها، أو: إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لولا حلمه تعالى، لخر العالم وتبددت قوائمه، غضبًا على من تفوه بها. قال محمد بن كعب: كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة، يعني: لأن ما ذكر أوصاف الساعة.
وذلك أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً أي: تكاد تنفطر السموات وتنشق الأرض، وتنهدم الجبال لأجل أن دعوا، أي: نسبوا أو سموا للرحمن ولدًا، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، أو دعوا له ولدًا، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد لاستحالته عليه تعالى. ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلية الحكم لأن كل ما سواه تعالى منعَّم عليه برحمته، أو نعمة من أثر الرحمة، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها، حتى يتَوهم أن يتخذه ولدًا، وقد صرح به قوله عزّ قائلاً: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً مملوكًا لله في الحال بالانقياد وقهرية العبودية. لَقَدْ أَحْصاهُمْ أي: حصرهم وأحاط بهم، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه، وقبضة قدرته وقهريته، ما وجد منهم وما سيوجد، وما يقدر وجوده لو وجد، كل ذلك في علمه وقضائه وقدره وتدبيره، لا خروج لشيء عنه، وفي ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شيء، وأنه عالم بكل شيء، جملة وتفصيلاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي: وكل واحد منهم يأتي يوم القيامة فردًا من الأموال والأنصار والأتباع، متفردًا بعمله، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئًا منهم ولدًا؟!.
وفي الحديث القدسي: «قال الله تعالى: كذَّبني عبدي، ولم يكن له ذلك، وشَتمني عبدي ولم يكن له ذلك، أما تكذيبُهُ إيايَ فأن يقولَ: من يُعيدُنا كما بَدأنا؟ وأما شَتمُه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ، لم أَلِد ولم أُولدَ، ولم يكن لي كُفوًا أحد» «1» . وهو في البخاري. وفي صيغة اسم الفاعل في قوله: آتِيهِ من الدلالة على إتيانهم كذلك ألبتة ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه. والله تعالى أعلم.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري (فى تفسير سورة الإخلاص) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(3/365)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
الإشارة: إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جل جلاله يغضب هذا الغضب الكلي على مَنْ أشرك مع الله، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال، فينبغي لك أن تخلص مَشربَ توحيدك من الشرك الجلي والخفي، علمًا وعقدًا وحالاً وذوقًا، حتى لا يبقى في قلبك محبة لشيء من الأشياء ولا خوف من شيء، ولا تعلق بشيء، ولا ركون لشيء، إلا لمولاك، وحينئذ يصفي مشرب توحيدك، وتكون عبدًا لله خالصًا حرًا مما سواه، ومهما بقي فيك شيء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره، ولم تصل إليه مادمت تميل إلى شيء سواه. وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه:
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ ... لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
فكن عبدًا لله حقيقة، وانخرط في سلك قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً.
فحينئذ تكون حرًا مما سواه، ويملك الوجود بأسره، يكون عند أمرك ونهيك. وفي ذلك يقول القائل:
دَعَوْنِي لمُلْكِهم فلمَّا أجبتُهم ... قالُوا دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلك
وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شيء في محله، فتتنزه بعين القدرة في رياض الملكوت وبحار الجبروت، وتتنزه بعين الحكمة في بهجة الملك وأسرار الحكمة. فعين القدرة تقول: كل من في السموات والأرض نور من أنوار الرحمن، وسر من أسرار ذاته، وعين الحكمة تقول: كل من في السموات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته، فاعرف الضدين، وأنزل كل واحد في محله، تكنْ عارفًا بالله، فإنْ أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلاً به.
فالحكمة تثبت العبودية صورة صونًا لكنز الربوبية، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية، وفي الحكم: «سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية» .
فالعبودية لازمة من حيث العبد، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب، فإثبات العبودية، حكمةً، فرق، والغيبة عنها في شهود أنوار الربوبية: جمع، فالعارف مجموع في فرقه، مفروق فى جمعه.
ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين، فقال:
[سورة مريم (19) : آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
قلت: لما استحقر الكفرةُ أحوالَ المؤمنين حتى قالوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم في قلوب عباده.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ في قلوب الناس مودة وعطفًا، حتى يحبهم كل من سمع بهم، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السموات والأرض، أي: سيحدث(3/366)
لهم في القلوب مودةً من غير تعرض لأسبابها، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح، أو وُدًّا فيما بينهم، فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله.
قال القشيري: يجعل في قلوبهم ودًّا لله، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة، وفي الخبر: «لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه» . والتعرض لعنوان الرحمانية لِمَا أنَّ الموعود من آثارها، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلىّ رضي الله عنه: «قل اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدكَ عَهْدًا، واجعل لِي في صُدُورِ المؤمِنِينَ مَوَدَّةً» فنزلت الآية «1» . وفي حديث البخاري وغيره: «إِذا أحَبَّ اللهُ عبدا قال لجبْريل: إني أُحبُ فُلانًا فأحِبَّه، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ، ثم ينادي في أَهْلِ السَّماءِ إنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّ فُلاَنًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماء، ثُمَّ يَضع لَهُ المحبة فِي الأرْض» «2» .
وقال قتادة: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال: أي والله ودًا في قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول:
ما أقبل عبدٌ بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت: ولفظ الحديث: «ما أقْبَلَ عبدٌ بقلْبهِ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ إلا جَعلَ الله قلوبَ المؤمنينَ تَفِدُ إليه بالودِّ والرحمَةِ، وكان الله إليه بكل خيرٍ أسرَعَ» «3» . نقله في الترغيب. وفي حديث آخر: «يُعطي المؤمنُ ودًّا في صدور الأبرار، ومهابة فى صدور الفجار» . فَتَوَدُّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء الله في أرضه. وفي بعض الأثر:
«لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يُحب، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره» . بالمعنى.
وأتى الحق جل لجلاله بالسين لأن السورة مكية، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة، فوعدهم ذلك، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام، فعَزوا وانتصروا، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب، كما هو مسطر في تواريخهم. وقيل: الموعود في القيامة، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية «4» ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين مالهم من الكرامات السنية لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.
__________
(1) عزاه فى المنثور (4/ 512) لابن مردويه والديلمي، عن البراء.
(2) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدا) من حديث أبى هريرة.
(3) أخرجه الطبراني فى الأوسط (5/ 186 ح 5025) بزيادة فى أوله، من حديث أبى الدرداء، وقال الهيثمي فى المجمع:
(10/ 247) : رواه الطبراني فى الكبير والأوسط. وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، وهو كذاب.
(4) التعبير بالاستقبال بالنسبة إلى الله تحقيق، كالماضى، والحاضر، فليس عند الله زمن كما هو عندنا. والأحسن فى تأويل الآية أن نجعل السين حرف توكيد. والله أعلم.(3/367)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه، في حال بدايتهم، أن يُسلط عليهم الخلق، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم لئلا تسكن إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا.. الخ. فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا، وتمكنوا من معرفة الحق، أعزهم وألقى مودتهم في قلوب عباده، هذا دأبه معهم في الغالب، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك، ولا يكون ذلك نقصًا في حقه بل كمالاً، وهم شهداء الملكوت، لم يأخذوا من أجرهم شيئاً. والله تعالى أعلم.
ولما ختم السورة الكريمة، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغها، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 97 الى 98]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
قلت: الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم، كأنه قيل- بعد إيحاء السورة الكريمة: بلغ هذا المنزّل عليك، وبشر به، وأنذر فإنما يسرناه.. الخ. قاله أبو السعود.
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: القرآن بِلِسانِكَ بأن أنزلناه على لغتك، والباء بمعنى «على» وقيل: ضَمَّنَ التيسيرَ معنى الإنزال، أي: يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي: السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي، وَتُنْذِرَ بِهِ أي: تخوف به قَوْماً لُدًّا لا يؤمنون به، لجاجًا وعنادًا، واللُّدُّ: جمع أَلَد، وهو الشديد الخصومة، اللجوج المعاند.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: كثيرًا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين، فهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك، وحث له صلى الله عليه وسلم على الإنذار، أي: دُم على إنذارك لهم، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي: هل تشعر بأحد منهم، وترى له من باقية أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي: صوتًا خفيًا، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم، وخربت قصورهم وديارهم، وكذلك نفعل بغيرهم، والمعنى: أهلكناهم بالكلية، واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحد، ولا يسمع لهم صوت خفي ولا جلي. وجملة: (هَلْ تُحِسُّ) : استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وأصل الرِّكز: الخفاء، ومنه: رَكَزَ الرمحَ إذا غيب طَرفه في الأرض، والرِّكاز: المال المدفون المخفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير، فأمر اللهُ رسوله في حياته بالبشارة والإنذار به، وبقي الأمر لخلفائه، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير، ولا يكفي عنه تعليم رسوم الشريعة، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير، كما قال تعالى: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا.(3/368)
لكن لا يتصدى للوعظ إلا من له نور يمشي به في الناس، فيسبقه نورُ قلبه إلى القلوب المستمعة، فيقع كلامهم في قلوب السامعين. قال في الحِكَم: «تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيثما صار التنوير وصل التعبير» . هذا النور هو نور المعرفة الذي هي مقام الفناء، ويشترط فيه أيضًا: أن يكون مأذونًا له في الكلام من شيخ كامل، أو وحي إلهامي حقيقي، فحينئذ يقع كلامه في مسامع الخلق. وفي الحكم: «مَن أُذن له في التعبير حسنت في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته» .
وقال أيضًا: «ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار» . وفي أمثال هؤلاء المتصدين للوعظ والتذكير ورد الخبر القدسي: «إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليَّ من يُحببني إلى عبادي، ويُحبب عبادي إليّ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة» .. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه آمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم تسليماً.(3/369)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
سورة طه
مكية. وهى مائة وخمس وثلاثون آية. ووجه مناسبتها لما قبلها قوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «1» مع قوله:
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، كأنه يقول: فإنما سهلناه عليك لترتاح به لا لتتعب. ثم افتتحها برموز بينه وبين حبيبه، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
قلت: عن ابن عباس أن «طه» من أسماء الله تعالى، وقيل: معناه: طوبى لمن هدى، وقيل: يا طاهر يا هادي، فالطاء تشير إلى طهارته صلى الله عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.
ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لي عشرة أسماء..» فذكر أن منها «طه ويس» ، وقيل: معناه: طأ الأرض بقدمك لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده، فأبدل الهمزة ألفًا، والضمير للأرض، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل:
معناه: يا رجل. وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، وهو عندهم على اللغة النبطية، أو السريانية «2» . قيل: من جعل معنى «طه» يا رجل، لم يقف على طه، وكذا من جعله اسما للنبى صلى الله عليه وسلم لأن النداء تنبيه على ما بعده، ومن جعلها افتتاحًا، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة، وقف عليها، إلا في قول من جعلها قَسَمًا، فإنه لا يقف عليها لأن قوله: (ما أَنْزَلْنا ... ) الخ جواب قسم.
__________
(1) من الآية 97 من سورة مريم.
(2) انظر تفسير البغوي (5/ 262) ، وزاد المسير (5/ 269) .(3/371)
قلت: المتبادر من سبب نزولها ومن قوله: (ما أَنْزَلْنا) : إما القسم أو النداء، فالقَسَم على أن ذلك من أسماء الله، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل، أو من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وأمَّا غير ذلك فبعيد، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافًا بعد الوقف على «طه» . قاله في الحاشية.
و (إِلَّا تَذْكِرَةً) : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع، أي: ما أنزلناه لتتعب به، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ، و (تَنْزِيلًا) :
مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله، أي: أنزل تنزيلاً، والأصح: أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه، وفيه معنى التأكيد لما قبله، أو هو نص في معناه، وإنما تلون الكلام بالالتفات، أو منصوب على المدح والاختصاص، أو مفعول بيخشى، أو حال من «الْقُرْآنَ» ، و (الرَّحْمنُ) : رفع على المدح، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته. وقرئ بالجر صفةً للموصول، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي، أو (الرَّحْمنُ) : مبتدأ، و (عَلَى الْعَرْشِ) : خبره. و «عَلَى» : متعلقة باستوى، قُدمت للفواصل. و (إِنْ تَجْهَرْ) : شرط، والجواب محذوف دل عليه (فَإِنَّهُ ... ) الخ، أي: فالله غني عن جهرك، فإنه ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو ترويحًا له من التعب: يا محمد ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي: لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: «أبْق عَلى نَفْسِكَ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا» . أي: ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك «1» وحملها على الرياضَات الشاقة، والشدائد الفادحة، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة. أو: ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم، كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» ، بل للتبليغ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع، ومنه قولهم: أشقى من رائض مُهر، وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول صلى الله عليه وسلم: إنك شقي، حيث تركت دين آباءك، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى، فردَّ اللهُ ذلك عليهم. والأول أظهر، والعموم أحسن، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة.
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي: ما أنزلناه لتتعب، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله- عزّ وجلّ- ليتأثر بالإنذار، لرقة قلبه ولين عريكته، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها.
__________
(1) أي: إجهاد نفسك.
(2) الآية 3 من سورة الشعراء.(3/372)
تَنْزِيلًا أي: أنزل تنزيلاً، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً، أي: منزلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله: (ما أَنْزَلْنا) لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس، ووصف السموات بالعُلى، وهو جمع «عليا» لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله: (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، مسوق لتعظيم المنزل- عزّ وجلّ- المستتبع بتعظيم المنزَّل عليه، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان، واستمالتهم إلى الخشية، المفضية إلى التذكير والإيمان.
ثم قال تعالى: الرَّحْمنُ أي: هو الرحمن، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية للإيذان بأن ربوبيته تعالى، وقيامَه بالأشياء، من طريق الرحمة والإحسان، لا بالإيجاب، وفيه إشارة إلى أنَّ تنزيله القرآن أيضًا من رحمته- تعالى-، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ «1» . أو: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : مبتدأ وخبر، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه، غني عن الإخبار صريحًا. والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان، يقال: استوى فلان على سرير الملك مرادًا به مَلَك الملك والتصرف، وإن لم يقعد على سرير أصلاً، والمراد: تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء، فقال: استواء مَنْ غَلَبَ وقهر، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي- رضى الله عنهما- فقالا: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة، آمنوا بلا تشبيه، وصدّقوا بلا تمثيل، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك.
وقال الجنيد رضي الله عنه: خلق الله العرش فوق سبع سموات، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات، وقابله بقلب عبده المؤمن، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات. هـ. وقد تقدّم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا «2» .
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما، وَما بَيْنَهُما من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا، كالهواء والسحاب، أو أكثريًا كالطير، أي: له ذلك وحده دون غيره، لا شركةً ولا استقلالاً، كل ما ذكر هو له ملكًا وتصرفًا، وإحياء وإماتة، وإيجادًا وإعدامًا، وَما تَحْتَ الثَّرى:
وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب: أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدى: أن
__________
(1) الآيتان: 1- 2 من سورة الرحمن.
(2) راجع تفسير الآية 54 من سورة الأعراف. [.....](3/373)
الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة، وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادةِ التقرير. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي: وإن تجهر بذكره تعالى- أو دعائه، فاعلم أنه تعالى غَنِي عن جهرك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي: ما أسررته إلى غيرك، وشيئًا أخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، من غير أن تتفوه به أصلاً أو: السر: ما أسررته في نفسك، وأخفى منه: ما ستُسره في المستقبل. وهو إمّا نهي عن الحركة، كقوله تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ «1» وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها، ومنعها من الاشتغال بغيره، وقطع الوسوسة عنها، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية: بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.
ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات، فقال: اللَّهُ أي: ما ذكر من صفات الكمال، موصوفها الله المعبود بالحق، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا معبود بحق إلا هو، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات، ومن الرحمانية والمالكية للكل، والعلم الشامل، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية، وقوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته، من غير تعدد في ذاته تعالى فالأسماء والصفات كثيرة، والمسمى والموصوف واحد. و (الْحُسْنى) : تأنيث الأحسن، فُعلى، يُوصف به الواحد المؤنث، والجمع المذكر والمؤنث، ك مَآرِبُ أُخْرى «2» ، وآياتِنَا الْكُبْرى «3» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: من تأمل القرآن العظيم، وما جاء به الرسول- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء، لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان، وجنة ورضوان، أعني جنة العرفان. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: «ليس شيخك من يدلك على تعبك، إنما شيخك من يريحك من تعبك» ، كما في لطائف المنن.
وقال شيخنا القطب ابن مشيش: وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا» فقال: دلوهم على الله، ولا تدلوهم على غيره، فإن مَن دَلَّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومَن دَلَّكَ على الله فقد
__________
(1) من الآية 205 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 18 من سورة طه.
(3) من الآية 23 من سورة طه.(3/374)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
نصحك. هـ. فإذا دلك على الله غَيَّبك عن وجود نفسك بشهود ربك، وهي السعادة العظمى، كما تقدم في سورة هود. فمن اتخذ شيخًا ثم لم ينقله من مقام التعب، ولم يُرحله من مقام إلى مقام، فاعلم أنه غير صالح للتربية.
وقوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: قيل: أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها، فأنزل الله القرآن تأنيسًا لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق: أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين، ورحمة للمؤمنين، وأنسًا للمحبين. وايضًا: القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته، فهو مُذهب للغفلة. ثم قال: وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة، ووجدان الراحة بالطاعة، لكونه يصير محمولاً، وقد قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «1» ، أي: لشهودي فيها، وفي ذلك قرة عين، وراحةً، وأنس، وتشابه حال المصلي بحال موسى، بجامع النجوى، فلذلك ذكر في سياقه. والله أعلم. هـ.
وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله:
«يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، مَحَقْتَ الآثار بالآثار، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار» . وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات، والصفة لا تُفارق الموصوف، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار، ومحت كل شيء، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شَىْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.
ثم ذكر قصص موسى عليه السّلام، وتسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعما لقى من التعب فى تبليغ الوحى، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
__________
(1) من الآية 14 من سورة طه.(3/375)
قلت: قال القشيري: أجرى الله [سنته] «1» في كتابه أن يذكر قصة موسى في أكثر المواضع التي يذكر فيها حديث نبينا- عليه الصلاة والسلام- يتبعه بذكر موسى، تنبيهاً على علو شأنه، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور، فالتكرير في التفصيل يوجب التفضيل في الوصف لأن القضية الواحدة إذا أعيدت مرارًا كثيرة كانت في باب البلاغة أتم، ولا سيما في كل مرة فائدة زائدة. هـ.
قلت: ولعل وجه تناسقهما في الذكر قرب المنزلة، ومشاركة الصفة، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة، فإن أمة موسى عليه السلام كانت انتشرت فلم يقع لنبي هداية على يديه لقومه مثله، إلا لنبينا- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر، وفي حديث البخاري مَا يدل على هذا، حين عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم مرة، فرأى أمة موسى عليه السلام كثيرة، ثم رأى أمته قد سدت الأفق. فانظر لفظه فيه «2» .
وقال أبو السعود: المناسبة إنما هي تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مَسَاق الحديث، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء، كابرًا عن كابر، وقد خوطب به موسى عليه السلام، حيث قيل له: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، وبه ختم عليه السلام مقاله، حيث قال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ «3» ، ثم ردَّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه السلام عن اقتحام المشاق. فانظره.
و (هَلْ) : لفظة استفهام، والمراد به التشويق لما يخبره به، أو التنبيه. و (إِذْ رَأى) : ظرف للحديث لأن فيه معنى الفعل، أو لمضمر مؤخر، أي: حين رأى كان كيت وكيت، أو: لاذكر، أي: اذكر وقت رؤيته.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: قصته في معالجة فرعون، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرًا لأمر التوحيد، إِذْ رَأى نارًا تلمع في الوادي، وذلك أنه عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام فى
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة ليست فى الأصول.
(2) قال ابن عباس رضي الله عنه: خرح علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: عرضت علىّ الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتى. فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لى: انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لى: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ... » الحديث أخرجه البخاري فى (الطب، باب من لم يرق)
(3) من الآية 98 من سورة طه.(3/376)
الخروج إلى أمه وأخيه، فخرج بأهله، وأخذ على غير الطريق، مخافةً من ملوك الشام، فلما وافى وادي طُوى، وهو بالجانب الغربي من الطور، وُلد له ولد في ليلة مظلمة شاتية مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد ضل عن الطريق، وتفرقت ماشيته، ولا ماء عنده، فقدحَ النار فلم تُورِ المِقْدَحة.
فبينما هو في ذلك إِذْ رَأى نارًا على يسار الطريق من جانب الطور، فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي: أقيموا مكانكم. أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد، وقيل: لها وحدها، والجمع للتعظيم، إِنِّي آنَسْتُ أي: أبصرت نارا، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يُؤنس به. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي: بشعلة مقتبسة من معظم النار، وهو المراد بالجذوة في سورة القصص «1» ، وبالشهاب القبس، «2» أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديًا يدلني إلى الطريق، فهو مصدر بمعنى الفاعل، و (أَوْ) في الموضعين: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديًا. ومعنى الاستعلاء في قوله: عَلَى النَّارِ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء، ولما كان الإيتاء بها غير محقق، صدَّر الجملة بكلمة الترجي.
فَلَمَّا أَتاها أي: النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي الله عنه: رأى شجرة خضراء، حفت بها، من أسفلها إلى أعلاها، نارٌ بيضاء، تتَقِدُ كأضوء ما يكون، فوقت متعجبًا من شدة ضوئها، رُوي أن الشجرة كانت عوسجة، وقيل:
سَمُرَة «3» .. بينما هو ينظر، نُودِيَ فقيل: يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، أو بأني أنا ربك، وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودي يا موسى، قال عليه السلام: مَن المتكلم؟ فقال الله عزّ وجل: (أَنَا رَبُّكَ) ، فوسوس إليه الخاطر: لعلك تسمع كلام شيطان، قال: فلما قال: (إِنَّنِي أَنَا) ، عرفت أنه كلام الله عزّ وجل. قيل: إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.
ثم قال له: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ لأنه أليق بحسن الأدب، ومنه أخذ الصوفية- رضى الله عنهم- خلع نعالهم بين يدي المشايخ والأكابر، وقيل: ليباشر الوادي المقدس بقدميه، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد، بخلعها ولو طاهرة، وقيل: إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل: النعلين: الكونين، أي: فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ: تعليل لوجوب الخلع، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك.
رُوِي أنه عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي، و «طُوىً» : بدل من الوادي، وهو اسم له. وقرأ منونًا لتأوله بالمكان، وغير المنون لتأوله بالبقعة.
__________
(1) فى قوله: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، من الآية 29 من سورة القصص.
(2) فى قوله: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، من الآية 7 من سورة النمل.
(3) انظر تفسير الطبري (16/ 143) ، والبغوي (4/ 265) .(3/377)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي: اصطفيتُكَ للنبوة والرسالة، وقرأ حمزة: (وإنَّا اخترناك) بنون العظمة، فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي: للذي يُوحى إليك، أو لوحينا إليك، وهو: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فالجملة بدلَ من «ما» .
فَاعْبُدْنِي أَفردني بالعبادة والخضوع، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي: لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار، وأُفردت بالذكر، مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها على سائر العبادات لما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، فإنَّ الذكر كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة.
أو «لِذِكْرِي» : لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، بحيث لا تُرائي بها غيري. وقيل: لذكري إياها، وأمري بها في الكتب، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء، وقيل: لأوقات ذكري، وهي مواقيت الصلوات، وقيل: لذكر صلاتي إذا نسيتها، لِما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَة، أَوْ نَسِيَها، فَلْيُصلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لأنَّ الله تَعالى يَقُول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» «1» .
قال بعضهم: [أصول العمل ثلاثة] «2» : أقوال وأفعال وأحوال، فأفضل الأقوال: لا إله إلا الله، وأفضل الأفعال:
الصلاة لله أو بالله، وأفضل الأحوال: الطمأنينة بشهود الله.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ: كائنة لا محالة، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة، وإنما عبَّر بالإتيان تحقيقًا لحصولها، بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين. أَكادُ أُخْفِيها أي: لا أظهرها، بأن أقول:
آتية فقط، فلا تأتي إلا بغتة، أو أكاد أظهرها بإيقاعها، مِنْ أخفاه، إذا أظهره، فأخفى- على هذا- من الأضداد.
وردّه ابن عطية، فإن الذي بمعنى الظهور هو: «خفى» الثلاثي، لا «أخفى» . وقال الزمخشري: قد جاء في بعض اللغات: أخفى بمعنى خفى، أي: ظهر، فلا اعتراض.
ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف عن غيري؟ وكذلك هو في مصحف أُبي، وفي مصحف عبد الله: فكيف يعلمها مخلوق، وفي بعض القراءات: وكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يُخفي الله تعالى عن نفسه، وهو خَلَق الأشياء؟ قلنا: إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه. انظر بقية كلامه.
__________
(1) أخرجه بنحوه: البخاري فى (مواقيت الصلاة، باب من نسى صلاة فليصل إذا ذكرها) ، ومسلم فى (المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها) ، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) ما بين المعكوفتين: مشتبه فى المخطوطة الأمّ، وغير موجود فى غيرها.(3/378)
وظهور علاماتها لا يزيل إخفاءها. قال ابن عرفة في تفسيره: وإذا ظهرت عند وقوع الأشراط لم ينسلخ عنها معنى الخفاء المتقدم، غاية الأمر أنها بذكر الأشراط وسط بين الإخفاء والإظهار، فتكون مقاربة لكل واحد منهما. هـ.
وقوله تعالى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلق بآتية، أو بأُخفيها- على معنى: أظهرها، لتُجزى كل نفس بسعيها، أي: بعملها خيراً كان أو شرًّا. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي: عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها حتى تكسَل عن التزود لها. والنهي- وإن كان بحسب الظاهر متوجها للكافر عن صد موسى عليه السلام- لكنه في الحقيقة نهى له عليه السلام عن الانصداد عنها، على أبلغ وجه، فإنَّ النهي عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني، كقوله تعالى: لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي «1» ، أي: لا تتبع في الصد عنها من لا يؤمن بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي: ما تهواه نفسه من اللذات الفانية، فَتَرْدى: فتهلك فإنَّ الإغفال عنها، وعن تحصيل ما يُنجي من أهوالها، مستتبع للهلاك لا محالة. وبالله التوفيق.
الإشارة: وهل أتاك أيها العارف حديث موسى، كيف سار إلى نور الحبيب، ومناجاة القريب، إذ رأى نارًا في مرأى العين، وهو نورُ تَجَلِّي الحبيب بلا بين، فقال لأهله ومن تعلق به: امكثوا، أقيموا في مقام الطلب، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم، في نيل المُطَّلَبِ، إني آنست نارًا، وهو نور وجه الحبيب في مرائي تجلياته، وهذا مقام الفناء، لعلي آتيكم منها بقبس، تقتبسون منه أنوارًا لقلوبكم وأسراركم. أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين، فلما أتاها، وتمكن من شهودها، نودي يا موسى: إني أنا ربك، فلا نار ولا أثر، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر، في مرأى الأثر، فاخلع نعليك، أي: اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون، كما قال القائل:
واخلع النعلين، إن جئتَ إلى ... ذلك الحي ففيه قدسنا
وعن الكونين كن منخلعا ... وأزل ما بيننا من بَيْنِنَا
إنك بالواد المقدس، أي: بحر حضرة القدس ومحل الأنس، قد طويت عنك الأكوان، وأبصرت نور الشهود والعيان، وأنا اخترتك لحضرتي، واصطفيتك لمناجاتي، فاستمع لما يوحى إليك مني، فأنا اللهُ لا إِله إلاّ أنا وحدي، فإذا تمكنت من شهودي، فانزل لمقام العبودية شكرًا، وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية لا محالة، فأُكرم مثواك، وأُجل منصبك، وأرفعك مع المقربين، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهلُ العناد والجحود، فتسقط عن مقام القرب والأنس، وتصير في جوار أهل حجاب الحس، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابنُ الفارض، حيث قال في كلام له:
__________
(1) من الآية 89 من سورة هود.(3/379)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
آنسْتُ في الحَيّ نارًا ... لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي
قُلْتُ: امْكُثُوا، فلَعلّي ... أجِدْ هُدايَ، لَعَلّي
دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ ... نار التكلم قبلي
نودِيتُ منها كفاحًا: ... رُدّوا لَياليَ وصلي
حتى إذا ما تَدانَى ال ... ميقاتُ في جَمْعِ شَملي
صارتْ جِبالِيَ دكًا ... مِنْ هيبَةِ المُتَجَلّي
ولاحَ سرًّ خَفيٌ ... يدْرِيه مَنْ كَانَ مِثْلي
فالموتُ فِيهِ حياتي ... وفي حَياتيَ قَتلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني ... مذ صار بعضي كلي
قوله: «صارت جبالي دكًّا» ، أي: جبال وجوده، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلي، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها، حياة لا موت بعدها. وقوله: «مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي» يعني: إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به، وهو بحر المعاني المُفني للأواني. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مكالمته مع كليمه عليه السّلام، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 23]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
قلت: (وَما) : استفهامية، مبتدأ، و (تِلْكَ) : خبر، أو بالعكس، فما: خبر، وتلك: مبتدأ، وهو أوفق بالجواب.
و (بِيَمِينِكَ) : متعلق بالاستقرار حالاً، أي: وما تلك، قارةً أو مأخوذة بيمينك، والعامل معنى الإشارة. وقيل: (تِلْكَ) :
موصولة، أي: وما التي هي بيمينك، والاستفهام هنا: إيقاظ وتنبيه له عليه السلام على مما سيبدُو له من العجائب، وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه.(3/380)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى، إنما سأله ليريه عظيم ما يفعل بها من قلبها حية، فمعنى السؤال: تقريره على أنها عصي، ليتبين له الفرقُ بين حالها قبل قلبها وبعده، وقيل: إنما سأله ليؤنسه وينبسط معه، فأجابه بقوله: هِيَ عَصايَ، نسبها لنفسه تحقيقًا لوجه كونها بيمينه، رُوي أنها كانت عصا آدم عليه السلام، فأعطاها له شعيب، حين قدمه لرعي غنمه، على ما يأتي في سورة القصص. وكان في رأسها شُعبتان، وفي أسفلها سنان، واسمها نبعة، في قول مقاتل «1» .
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي: أعتمد عليها إذا مشيت، وعند الإعياء، والوقوف على رأس قطيع الغنم، وَأَهُشُّ أي: أخبط بِها الورق من الشجر ليسقط عَلى غَنَمِي فتأكله. وقرئ بالسين، وهو زجر الغنم، تقول العرب: هَس هَس، في زجرها، وعدَّاه بعلى لتضمنه معنى الإقبال والتوجه. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي:
حاجات أخرى من هذا الباب. قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تأتيه وتحرسه، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومَه، ويركز بها فيخرج الماء، فإذا رفعها ذهب، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أَدْلاَهَا، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو فيستقي بها، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل فيستضيئ بها، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت وأثمرت. فهذه المآرب «2» .
وكأنه عليه السلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء، فلذلك أطنب في كلامه، فلما بدت منها خوارق بديعة عَلِمَ أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة، وأيضًا: الإطناب في مناجاة الأحباب محمود.
قالَ له تعالى: أَلْقِها يا مُوسى لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك، قيل: إنما أُمِر بإلقائها قطعًا للسكون إليها، لِمَا كان فيها من المآربِ، وبالغ الحق تعالى في ذلك بقلبها حية، حتى خاف منها، وحين قطعه عنها، وأخرجها من قلبه، بالفرار منها ردها إليه بقوله: خُذْها وَلا تَخَفْ فَأَلْقاها على الأرض فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى، رُوِي أنه عليه السلام ألقاها فانقلبت حية صفراء، في غلظ العصا، ثم انتفخت وعظمت، فلذلك شبهت بالجان تارة، وبالثعبان مرة أخرى، وعبَّر عنها هنا بالاسم العام للحالين، وقيل: انقلبت من أول الأمر ثعبانًا، وهو أليق بالمقام، كما يفصح عنه قوله عزّ وجلّ: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «3» ، وإنما سميت بالجان في الجلادة وسرعة المشي، لا في صغر الجثة. وقيل: الجان عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان عن انتهائه.
__________
(1) انظر تفسير البغوي (5/ 268) . [.....]
(2) قال الحافظ ابن كثير عن هذه المآرب: الظاهر أنها- أي: العصا- لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السّلام صيرورتها ثعبانا، فما كان يفرّ منها هاربا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية، انظر: تفسير ابن كثير (3/ 145) .
(3) من الآية 107 من سورة الأعراف(3/381)
قالَ تعالى: خُذْها يا موسى، وَلا تَخَفْ، قال ابن عباس رضي الله عنه: انقلبت ثعبانًا ذَكَرًا، يبتلع كل شيء من الصخر والشجر، فلما رآه كذلك خاف ونفر، ولحقه ما يلحق البشر عند مشاهدة الأهوال من الخوف والفزع، إذ لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أي: سنعيدها، بعد الأخذ، إلى حالتها الأولى التي كانت عليها عصًا، قيل: بلغ عليه السلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها، ويأخذ بلَحْيَيْهَا. فلما أخذها عادت عصًا، وحكمة قلبها وأخذها هنا ليكون معها على ثقة عند مخاصمة فرعون، وطمأنينةٍ من أمره، فلا يعتريه شائبة دهش ولا تزلزل. والسيرة: فعلة من السير، يجوز بها إلى الطريقة والهيئة، وانتصابها على نزع الخافض.
ثم أراه معجزة أخرى، فقال: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي: أدخلها تحت عضدك، فجناح الإنسان:
جنباه، مستعار من جناح الطير، تَخْرُجْ بَيْضاءَ: جواب الأمر، أي: إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: حال كونها كائنة من غير عيب بها كبرص ونحوه. رُوِي أنه عليه السلام كان آدم اللون، فأخرج يده من مدرعته بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس، تضيء حال كونها آيَةً أُخْرى أي: معجزة أخرى غير العصا، لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى أي: فعلنا ما فعلنا، لنريك بعض أياتنا العظمى، أو: لنريك الكبرى من آياتنا. قال ابن عباس: «كانت يد موسى أكبر آياته» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال للفقير: وما تلك بيمينك أيها الفقير؟ فيقول: هي دنياي أعتمد عليها في معاشي وقيام أموري، وأُنفق منها على عيالي، ولي فيها حوائج أخرى من الزينة والتصدق وفعل الخير، فيقال له: ألقها من يدك أيها الفقير، واخرج عنها، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها، فألقاها وخرج عنها، فيلقيها، فإذا هي حية كانت تلدغه وتسعى في هلاكه وهو لا يشعر. فلما تمكن من اليقين، وحصل على غاية التمكين، قيل له: خذها ولا تخف منها، حيث رفضت الأسباب، وعرفت مسبب الأسباب، فاستوى عندك وجودها وعدمها، ومنعها وإعطاؤها، سنعيدها سيرتها الأولى، تأخذ منها مأربك، وتخدمك ولا تخدمها. يقول الله تعالى: «يا دنياي، اخدمي من خدمني، وأتبعي من خدمك» «1» .
وأما قوله تعالى في حديث آخر مرفوعًا: «تمرري على أوليائي ولا تحلو لهم فتفتنهم عني» «2» فالمراد بالمرارة: ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار، وإيذاء الفجار وغير ذلك. وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفًا لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الفقر فخري وبه أفتخر» «3» ، أو كما قال عليه السلام إن صح. وقال شيخنا البوزيدى رضي الله عنه:
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي فى تاريخه (8/ 44) عن ابن مسعود مرفوعا. وقال الشوكانى فى الفوائد (ص/ 238) : «وفى إسناده الحسن بن داود والحديث موضوع» . والحديث فى الإتحاف السنية (257) للديلمى مختصرا.
(2) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح 9800) بنحوه ومطولا عن قتادة بن النعمان، وقال البيهقي: لم نكتبه إلا بهذا الإسناد، وفيه مجاهيل. والحديث فى الاتحافات (258) للديلمى.
(3) قال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص 255، ح 320) «قال الحافظ ابن حجر: «موضوع لا أصل له» .(3/382)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
الحديث الأول: في الصالحين المتوجهين من أهل الظاهر، والثاني- يعني تمرري.. الخ- في الأولياء العارفين من أهل الباطن. هـ. ويقال له أيضًا- إن تجرد وألقى الدنيا من يده وقلبه: اضم يدَ فكرتك إلى قلبك، تخرج بيضاء نورانية صافية، لا تخليط فيها ولا نقص، هي آية أخرى، بعد آية التجريد والصبر على مشاقه.
وقال في اللباب: اليد: يدَ الفكر، والجيب: جيب الفهم، وخروجها بيضاء بالعرفان. هـ. قال الورتجبي: أرى الله موسى من يده أكبر آية، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد موسى، فكان يَدُ موسى يدَ قدرة الله، من حيث التخلق والاتصاف، كما في حديث: «كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا» . هـ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ابتداء رسالة موسى عليه السلام، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
قلت: (هارُونَ) : مفعول أول، و (وَزِيراً) : مفعول ثان، قُدّم اعتناء بشأن الوزارة، و (لِي) : صلة، لا جعل، أو متعلق بمحذوف حال من (وَزِيراً) لأنه صفة له في الأصل. و (مِنْ أَهْلِي) : إما صفة وزيرًا، أو صلة لا جعل، وقيل: إن (لِي وَزِيراً) : مفعولاً اجعل، و (هارُونَ) : عطف بيان لوزير. و (أَخِي) في الوجهين: بدل من هارون، أو عطف بيان آخر.
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه موسى عليه السلام: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بما رأيته من الآيات الكبرى. وادعه إلى عبادتي وحدي، وحذره من نقمتي، إِنَّهُ طَغى أي: جاوز الحدّ في التكبر والعتو والتجبر، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. قالَ موسى عليه السلام مستعينًا بربه عزّ وجلّ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي: وسعه حتى لا يضيق بحمل أعباء الرسالة، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي: سهِّله حتى لا يصعب عليَّ شيء أقصده. والجملة استئنافية بيانية، كأن سائلاً قال: فماذا قال عليه السلام، حين أُمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير؟ فقيل: قال رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي ... الخ.
كأنه، لما أُمر بهذا الخطاب الجليل، تضرع إلى ربه الجليل، وأظهر عجزه وضعفه، وسأل ربه تعالى أن يوسع صدره، ويَفْسَح قلبه، ويجعله عليمًا بشؤون الناس وأحوالهم، حليمًا صفوحًا عنهم، ليلتقي ما عسى أن يرد عليه من(3/383)
الشدائد والمكاره، بجميل الصبر وحسن الثبات، فيلقاها بصدر فسيح، وجأش رابط، وأن يسهل عليه مع ذلك أمره، الذي هو أجلّ الأمور وأعظمها، وأصعب الخطوب وأهولها، بتيسير الأسباب ورفع الموانع. وفي زيادة كلمة (لِي) ، مع انتظام الكلام بدونها، تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسّر أولاً، ثم تفسيرهما ثانيًا، وفي تقديمهما وتكريرهما: إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين، وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما.
ثم قال: وَاحْلُلْ أي: امشط وافسح عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، رُوي أنه كان في لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه في صغره. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم، فلطمه ونتف لحيته، فقال فرعون لآسية امرأته: هذا عدو لي، فقالت آسية: على رسلك، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت، ثم جاءت بطستين في أحدهما الجمر، وفي الآخر الياقوت، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه، فبقيت له رتة في لسانه، واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، ومن لم يقل به احتج بقول: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «1» ، وقوله تعالى: وَلا يَكادُ يُبِينُ «2» وأجاب عن الأول: بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام، فخفف بعضها لدعائه، لا جميعها، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله: مِنْ لِسانِي أي: عقدة كائنة من عُقد لساني، يَفْقَهُوا قَوْلِي أي:
إن تحلل عقدة لساني يفقهوا قولي.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً أي: مُعينًا ومُقويًا مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ليعينني على تحمل ما كلفتني به من أعباء التبليغ. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي: قِّ به ظهري، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي واجعله شريكاً لي في أمر الرسالة، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة، من قوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً ... ) الخ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب في دوامهما وتكثيرهما. وفي الحديث: «يد الله مع الجماعة» «3» ، ولذلك ورد الترغيب في الاجتماع على الذكر: والجمع في الصلاة ليقوى الضعيف بالقوي، والكسلان بالنشيط، وقيل: المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة، لأنه هو الذي يختلف في حالتي التعدد والانفراد، فإن كُلاًّ منهما يصدر منه، بتأييد الآخر، من إظهار الحق، ما لا يصدر منه حال الانفراد. والأول أظهر.
وكَثِيراً: وصف لمصدر أو زمن محذوف، أي: ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك، تنزيهًا كثيراً، أو زمناً كثيراً، ومن جملة ذلك: ما يدعيه فرعونُ الطاغية، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك في الألوهية.
__________
(1) من الآية 34 من سورة القصص.
(2) من الآية 52 من سورة الزخرف.
(3) أخرجه الترمذي فى (الفتن، باب ما جاء فى لزوم الجماعة) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن.(3/384)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
وَنَذْكُرَكَ بأن نصِفك بما يليق بك من صفات الكمال، ذكرًا كَثِيراً، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي: عالمًا بأحوالنا، وبأن ما دعوناك به مما يصلحنا ويقوينا على ما كلفتنا من أداء الرسالة، و (بِنا) : متعلق ببصيرًا.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين، وألقيت عصاك بوادي البيْن، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك، إنه طغى عليك، حيث حجبك عن شهود ربك، فلا حجاب بينك وبين ربك، إلا حِجاب نفسك، ووقوفك مع شهود حسك، فهو أكبر الفراعين في حقك، فاهدم وجوده، وأَغْرِقْ في بحر الحقيقة شهودَه، وذلك بالغيبة عنه في شهود مولاه، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك، وقل: اللهم اشرح لي صدري، ووسعه لمعرفتك، ويسر لي أمري في السير إلى حضرة قدسك، واحلل عقدة الكون من قلبي ولساني، حتى لا أعقد إلا على محبتك، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك، كما قال الشاعر:
فإن تكلمتُ لم أنطق بغيركم ... وإن صَمَتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري.
واجعل لي وزيرًا من أهلي، وهو شيخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، حتى يتوجه بكلية همته إلى سري، كي ننزهك تنزيهًا كثيرًا، بحيث لا نرى معك غيرك، ونذكرك كثيرًا، بحيث لا نفتر عن ذكرك بالقلب أو الروح أو السر، إنك كنت بنا بصيرًا. قال الورتجبي: قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ..) الخ، لما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء، والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة، سأل من الحق شرح الصدر، وإطلاق اللسان، وتيسير الأمر، ليطيق احتمال صحبة الأضداد ومكابدتهم. ثم قال: فطلب قوةَ الإلهية وتمكينًا قادريًا بقوله: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ، عرف مكان مباشرة العبودية أنها حق الله، وحق الله في العبودية مقام امتحان، وفي الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل، فخاف من ذلك، وسأل شرح الصدر، أي: إذا كنتُ في غين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة، اشرح صدري بنور وقائع المكاشفة، حتى لا أكون محجوبًا بها عنك. ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه، كيف أخبر عن ذلك الغين، وشكى من صحبة الأضداد في أداء الرسالة، بقوله: «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة» هـ. وفيه مقال «1» ، إذ هو غين أنوار لا غين أغيار، فتأمله. والله تعالى أعلم.
ثم أجاب الحق جل جلاله سؤاله، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
__________
(1) بل فيه مقالات، فالشريعة يستحيل أن تكون غينا، والله تعالى يقول فيها ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ويقول:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... ويقول: وكذلك جعلناه نورا فشريعته روح ونور.(3/385)
قلت: (مَرَّةً) : منصوب على الظرفية الزمانية، وأصله: فعلة، من المرور، اسم للمرور الواحد، ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد أمثاله، ويقرب منها الكرة والرجعة. و (إِذْ) : ظرف لمننّا، و (أَنِ اقْذِفِيهِ) : مفسرة، أو مصدرية، و (يَأْخُذْهُ) : جواب «أن اقذفيه» . و (لِتُصْنَعَ) : متعلق بألقيتُ، عطف على علة مضمرة، أي: ليتعطف عليك ولتربى على حفظي ورعايتي. و (إِذْ تَمْشِي) : ظرف (لِتُصْنَعَ) على أن المراد وقت مشيها إلى بيت فرعون، وما يترتب عليه من القول والرجع إلى أمه.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الله تعالى لموسى عليه السلام: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ أي: أعطيت مسؤولك، وبلغنا لك مأمولك فى كل ما طلبت منا. والإيتاء، هنا، عبارة عن تعلق الإرادة بوقوع تلك المطالب وحصولها، وإن كان وقوع بعضها مستقبلاً، ولذلك قال: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «1» ، وإعادة النداء في قوله: يا مُوسى تشريفًا له بتوجيه الخطاب بعد تشريفه بإجابة المطلب.
ثم ذكَّره بنعمة أخرى قد سلفت، فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى قبل أن يكون منك لنا طلب، فكيف لا نجيبك بعد الطلب؟ وتلك المنة: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ حين تحيرت في أمرك، وخافت عليك من عدوك، فأوحينا إليها وحي منام أو إلهام أو بملك كريم- عليهما السلام- فقلنا لها: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أي: ضعيه فيه، وأغلقي عليه حتى لا يصل الماء إليه، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أي: ألقيه في البحر بتابوته، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي: فسيرميه البحرُ بالساحل، ولمّا كان إلقاء البحر له بالساحل أمرًا واجب الوقوع لتعلُق الإرادة الربانية به، جعل البحر كأنه مأمور بإلقائه، ذو تمييز، مطيع، فإنْ يُلْقه يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون. ولا تخافي عليه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» . وتكرير عداوته والتصريح بها للإشعار بأن عداوته له، مع تحققها، لا تضره، بل تؤدي إلى محبته، لأن الأمر بما فيه الهلاك من القذف في البحر، ووقوعه في يد العدو، مشعر بأن هناك ألطافًا خفية، ومننًا كامنة مندرجة تحت قهر صوري.
__________
(1) من الآية 35 من سورة القصص.
(2) كما جاء فى الآية 7 من سورة القصص.(3/386)
وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ، بل ما يقابل الوسط، وهو ما يلي الساحل من البحر، حيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون، لِمَا رُوي أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا، ووضعته فيه، ثم قيَّرته «1» وألقته في اليم. وقيل: كان التابوت من البردى، صنعته أمه. وقال مقاتل: صنعه لها رجل مؤمن اسمه «حزقيل» ، ثم طلته بالقار- أي: الزفت- وألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فدفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسًا ثمَّ مع آسية بنت مزاحم، فأمر به فأُخرج، فإذا فيه صبي أصبح الناس وجهًا، فأحبه فرعون حبًا شديدًا لا يكاد يتمالك الصبر عنه، وذلك قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قال ابن عباس: «أحبه وحبَّبَه إلى خلقه» . وقال قتادة: «ملاحة كانت في عيني موسى، ما رآه أحد إلاَّ عشقه» ، أي: وألقيتُ عليك محبة عظيمة كائنة مني، قد زرعت في القلوب، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك، ولذلك أحبك عدو الله وأهله، وذلك ليتعطف عليك.
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي: ولتربّى بالحنو والشفقة، وتغذى بمرأى مني، مصحوبًا برعايتي وحفظي، في أحسن تربية ونشأة. وكان ابتداء ذلك: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ تتبع تابوتك، فلما أُخرجتَ التمسوا لك المراضع، فَتَقُولُ لفرعون وآسية، حين رأتهما يَطْلُبَانِ له مُرضعة يقبل ثديها، وكان لا يقبل ثديًا. وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية، والأصل: إذ مشت فقالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ يضمه إلى نفسه ويربيه، وذلك إنما يكون بقبول ثديها. رُوِيَ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلامًا في النيل لا يرتضي ثدي امرأة، واضطروا إلى تتبع النساء، فخرجت أختُه مريم لتتعرف خبره، فجاءت متنكرة، فقالت ما قالت، وقالوا:
نعم، فجاءت بأمه فقبِل ثديها.
قال تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بعهدنا، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك، وَلا تَحْزَنَ أي: ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك، وَقَتَلْتَ بعد ذلك نَفْساً، وهي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه.
قال كعب: كان إذ ذاك ابن ثنتي عشرة سنة، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي: غم قتله، خوفًا من عقاب الله تعالى بالمغفرة، ومن اقتصاص فرعون، بوحينا إليك بالمهاجرة، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي: ابتليناك ابتلاءً عظيمًا، وخلصناك مرة بعد أخرى، حتى صَلَحْتَ للنبوة والرسالة، وهو تحمل ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، ومفارقة الأحباب، والمشي راجلاً، وفقد الزاد، بعد ما خلصه من الذبح، ثم من البحر، ثم من القصاص بالقتل.
وسُئل عنها ابن عباس، فقال: خلَّصناك من محنة بعد محنة، ولد في عام كان يقتل فيه الغلمان، فهذه فتنة، وألقته
__________
(1) أي: دهنته بالقار.(3/387)
أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطيًا، وأجَرَّ نَفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، فكل واحدة من هذه فتنة. هـ. لكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارته نفسه وما بعدها من الفتون لأن المراد: ما وقع له قبل وصوله إلى مدين، بدليل قوله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، إذ لا ريب أن الإجارة وما بعدها كانت بعد وصوله إلى مدين، أي: لبثت عشر سنين في أهل مدين.
وقال وَهْب: لبث عند شعيب ثمانيًا وعشرين سنة، عشرًا منها في مهر امرأته صفراء بنت شعيب، وثماني عشرة أقام عنده حتى وُلد له. وأشار باللبث في مدين، دون الوصول إليها، إلى ما أصابه في تضاعيفها، من فنون الشدائد والمكاره، التي كل واحدة منها فتنة. و «مَدْيَنَ» : بلدة شعيب عليه السلام، على ثمانى يمراحل من مصر، ولم تبلغها مملكة فرعون، خوفًا على نفسه من هيبة النبوة أن يصيبه ما أصاب مَنْ خالفه.
ثُمَّ جِئْتَ إلى المكان الذي آنستَ فيه النار، ورأيتَ فيه الخوارق، وخُصصتَ فيه بالرسالة، عَلى قَدَرٍ قدرته لك في الأزل، ووقت عينته لك، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون، فما جئتَ إلا على ذلك القدَر، غير متقدم ولا متأخر، وقيل: على مقدار من الزمان، يُوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي: اختصصتك بالرسالة والمحبة والمناجاة، وهو تذكير لقوله: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مُؤَيَّدًا بأخيه، حسبما طلب، بعد تذكيره المنن السالفة، زيادة في وثوقه عليه السلام بحصول نظائرهم اللاحقة، والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ إلى تاء المتكلم لمناسبتها للنفس فإنها أدخل في تحقيق الاصطناع والاستخلاص. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك، ويُرشدك إلى ربك ويُربيك. ولقد مننا عليك مرة أخرى، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين، فقذفناك في تابوت الإسلام، ثم في نهر الإيمان، ثم رميناك في بحر العرفان، وألقينا عليك محبة منا، فأحببناك وأحببتنا، وألقينا محبتك في قلوب عبادنا، فتربيت في حفظنا ورعايتنا، فلما فارقتَ الأوطان وهجرت الإخوان، في طلب تحقيق العرفان، رددناك إليهم بعد التمكين، لتنهضهم إلى الله، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين، وقتلت نفسًا كانت تحجبك عن ربك، فنجيناك من غم الحجاب، وأخرجناك من سجن الأكوان، إلى فضاء الشهود والعيان، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونًا عظامًا، فتنة الفقر، ثم فتنة الذل، ثم فتنة هجر الأوطان، حتى تخلصت من حبس الأكوان، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك، ووقت عيناه لفتحك، فاصطنعتك لنفسي، واجتبيتك لحضرتي بسابق عنايتي، من غير حول منك ولا قوة، فعِنايتنا فيك سابقة، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا، وقابلتك رعايتنا؟ لم يكن في أزلنا إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال، كما في الحكم. وأنشدوا:(3/388)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إِلَيْك اكْتَسَبْتُه ... سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ لا بشيءٍ يُعلَّلُ
وقال آخر:
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى ... بَنَفائِسِ الأَمْوَالِ والأرْباحِ
وَظَنَنْتُ جَهْلاً أنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ ... تُفْنَىَ عَلَيْه كَرَائِمُ الأرْوَاحِ
حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجتبي وَتَخُصُّ مَنْ ... تَخْتارُهُ بلَطَائِفِ الإِمْنَاحِ
فَعَلِمْتُ أنَّكَ لا تُنالُ بِحيلَةٍ ... فَلَوَيْتَ رَأسِي تحت طَيِّ جَنَاحِ
وَجَعَلْتُ في عُشِّ الغَرَامِ إِقَامَتِي ... أبدًا وفيه تَوطُني ورَوَاحِ
ثم أرسلهما الحق تعالى إلى فرعون، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لآ تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
يقول الحق جلّ جلاله لسيدنا موسى عليه السلام: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أي: ليذهب معك أخوك بِآياتِي: بمعجزاتي التي أريتكَهَا، من اليد والعصا، فإنهما وإن كانتا اثنتين، لكن في كل واحدة منهما آيات، فإنَّ في انقلاب العصا حيوانًا: آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا: آية، وسرعة حركته، مع عِظَمِ جرمه: آية، وكذلك اليد فإنَّ بياضها في نفسه آية، وشعاعها آية، ثم رجوعها إلى حالَتها الأولى آية. والباء للمصاحبة، أي: اذهبا مصحوبَيْنِ بمعجزاتنا، مستمسكَيْنِ بها، وَلا تَنِيا: لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي عند تبليغ رسالتي، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكري، بما يليق بحالكما من ذكر لسان أو تفكر أو شهود، فلا تغيبا عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري، حتى لا تكونا فاترين في عيني.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى: تجبر وعلا. ولم يكن هارون حاضرًا وقت هذا الوحي، وإنما جمعهما تغليبًا.
رُوي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى- عليهما السلام، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه.(3/389)
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لأنَّ تليين القول مما يكسر ثورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. قال ابن عباس:
أي: لا تعنفا في قولكما. وقيل: القول اللين: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى.. الخ، ويعارضه قوله بعد: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وقيل: كنِّياه، وكان له ثلاثة كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. وقيل: عِدَاه على قبول الإيمان شبابًا لا يهرم، ومُلكًا لا ينزع منه إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعمَ والمشرب والمنكح إلى الموت،. وقيل: اللطافة في القول فإنه رباك وأحسن تربيتك، وله عليك حق الأبوة، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ بما بلغتماه من ذكر، ويرغب فيما رغبتماه فيه، أَوْ يَخْشى عقابي.
ومحل الجملة: النصب على الحال من ضمير التثنية، أي: فقولا له قولا لينا، رَاجِيَيْنِ تذكرته، أي: باشرا وعظه مباشرةَ من يرجو ويطمع أن يُثمر علمُه ولا يخيب سعيُه. وفائدة هذا الإبهام: الحتّ على المبالغة في وعظه. هذا جواب سيبويه عن الإشكال، وهو أنه تعالى علم أنه لا يؤمن، وقال: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون، أي: اذهبا على رجائكما. وقال الوراق: قد تذكر حين ألجمه الغرق. وقال الزجاج: خاطبهم بما يعقلون.
قلت: كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يُكشف في هذه الدار، وهو من أسرار الحقيقة، وإنما بُعثت الرسل بإظهار الشرائع، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ في عالم الحكمة، والله تعالى أعلم. وجدوى إرسالهما إليه، مع العلم بإحالته، إلزام الحجة وقطع المعذرة.
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي: يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. وهو من «فَرطَ» إذا تقدم، ومنه: الفارط، للوليد الذي مات صغيرًا. وقرئ بضم الياء، من «أفرط» إذا حَمله على العجلة، أي: نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على المُلك أو غيرهما، على المعاجلة والعقاب، أَوْ أَنْ يَطْغى يزداد طغيانًا، كأن يقول فى شأنك مالا ينبغي، لكمال جرأته وقساوته، وإظهار «أَنْ» لإظهار كمال الاعتناء بالأمر، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع، إيذانًا بأصالة موسى عليه السلام في كل قول وفعل، وتبعية هارون عليه السلام، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما، فحكى الله قولهما عند نزول الآية، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «1» ، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد لاستحالة جمعهم في الوجود، فكيف باجتماعهم فى الخطاب؟.
__________
(1) من الآية 51 من سورة «المؤمنون» .(3/390)
قالَ تعالى لهما: لا تَخافا، وهو استئناف بياني، كأن قائلاً قال: فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل: قال: لا تخافا ما توهمتما من الأمرين، إِنَّنِي مَعَكُما بحفظي ورعايتي ونصري ومعونتي، أَسْمَعُ وَأَرى ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل في كل حال ما يليق بها من دفع ضر وشر، وجلب نفع وخير.
فَأْتِياهُ، أمر بإتيانه، الذي هو عبارة عن الوصول إليه، بعد ما أمر بالذهاب إليه، فلا تكرار، فَقُولا له: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إليك، أمر بذلك من أول الأمر، ليعرف الطاغية شأنهما، ويبني جوابه على ذلك، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أطلقهم من الأسر والقهر، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام، بدليل قوله: وَلا تُعَذِّبْهُمْ بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة، من الحفر ونقل الأحجار، وضرب اللبن والطين، وبناء المدائن، وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ويقتلون ذكور أولادهم عامًا دون عام، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده، وتسريح بني إسرائيل. رُوي أنه لمّا رغبه في الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود في الجنة والملك الدائم، أعجبه، فقال: حتى أستشير هامان، وكان غائبًا، فقَدِم، فأخبره، فقال هامان: قد كنتُ أرى لك عقلاً، بينما أنت رب تصيرُ مربوبًا، وبينما أنت تُعبد تصير تعبد غيرك، فغلبه على رأيه.
فقال له موسى: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، قال فرعون: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب منها، ولم يُره العصا إلا بعد ذلك، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت: والذي يظهر من سورة الشعراء «1» - بل هو صريح فيها- أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت في اللفظ، هنا لأن المراد إثبات الحجة بصحة الرسالة، لا تَعدد الآية، وكذلك قوله تعالى: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» ، أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «3» ، وأما قوله تعالى: فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «4» فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي: وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضي سلامة الدارين، على من اتبع الهدى، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق، دون من اتبع الغي والهوى، وفيه من الترغيب،
__________
(1) في قوله تعالى: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. الشعراء: 30- 33. [.....]
(2) من الآية 49 من سورة آل عمران.
(3) من الآية 30 من سورة الشعراء.
(4) من الآية 106 من سورة الأعراف.(3/391)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
في اتباعها على ألطف وجه، مالا يخفى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من جهة ربنا، أَنَّ الْعَذابَ الدنيوي والأخروي عَلى مَنْ كَذَّبَ بآيات الله وَتَوَلَّى أي: أعرض عن قبولها، وفيه من التلطف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به مالا مزيد عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد، ويتوجهوا إليهم في أقطار البلاد، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر الله، ولا تذكير العباد عن شهود الله، كما قال الله تعالى: وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي: ولا تغفلا عن شهودي وقت إرشاد عبادي، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال، وليدعوهم إلى أسهل الخلال، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال، خلافًا لمن قال هذه ملة موسوية، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» فإنَّ بيان الحق لا ينافي أن يكون بملاطفة وإحسان، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه، يحفظه ويرعاه، ويسمعه ويراه، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه، فقد بلغ ما عليه، وليقل بلسان الحال أو المقال: (والسلام على من اتبع الهدى) . وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب فرعون، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
قلت: (خَلْقَهُ) : يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق، فيكون مفعولاً أولاً، و (كُلَّ شَيْءٍ) : مفعولاً ثانيًا، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة، فيكون مفعولاً ثانيًا، أي: أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ فرعونُ في جواب موسى، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة، وقالا له ما أمرهما به ربهما، وإنما حذفه للإيجاز، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم، أو بأن
__________
(1) من الآية 29 من سورة الكهف.(3/392)
ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به، فقال لهما فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ لم يضف الرب إلى نفسه لغاية عتوه وطغيانه، بل أضافه إليهما، وفي الشعراء: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «1» ، والجمع بينهما تَعدد الدعوة، ففي كل مرة حكى لنا ما قال. وتخصيص النداء بموسى، مع توجيه الخطاب إليهما لأنه الأصل في الرسالة، وهارون وزيره.
قالَ موسى عليه السلام مجيبًا له: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي: ربنا هو الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه، أي: مخلوقاته مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم، أو أعطى كل شيء خلقته وصُورته التي يختص بها، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه، فاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه، للإنسان زوجةً، وللبعير ناقةً، وللفرس رَمْكةً، وللحمار أتَانًا. ثُمَّ هَدى إلى طريق الانتفاع والارتقاء، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع، وطلب الرعي وتوقى المهالك، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى.
ولمّا كان الخلق- الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام- مقدمًا على الهداية، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق، وأسلوب لائق حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات، خالق لجميع الكائنات، منعم عليهم بجميع النعم السابغات، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات.
قالَ فرعون: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي: ما حالها بعد الموت، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى:
هذا غيب لا يعلمه إلا الله، وهو معنى قوله: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة، وإنما علمها عند الله عزّ وجل. وكأنَّ عدو الله، لما خاف أن يُبهت، ويُفتضح، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام، أراد أن يصرفه عليه السّلام إلى مالا يعني، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة فلذلك أعرض عنه، وقالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، وهذا أحسن من الأول لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له:
من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم، ومن تولى فقد عُذب وتألّم، حسبما نطق به قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. وقيل: فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى، أو: ما بالها لم تكن على دينك، أو: ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب، وكلها بعيدة.
__________
(1) الآية 23 من سورة الشعراء.(3/393)
قلت: والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى: ثُمَّ هَدى أي: إلى الإيمان، فاعترض بقوله: فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمَن اهتدى. وقوله: فِي كِتابٍ أي: اللوح المحفوظ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله- عزّ وجلّ- تمكن من استحفظ الشيء، وقيده بالكتابة، كما يَلوحُ به قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي أي: لا يخطئ ابتداء، وَلا يَنْسى فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا. وإظهار (رَبِّي) في موضع الإضمار، للتلذذ بذكره، وللإشعار بعلّية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان.
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها، لا حقيقة ولا مجازاً، ولو قال له: هو الخالق الرازق، وشبه ذلك، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.
ثم تخلص إليه حيث قال، بطريق الحكاية عن الله عزّ وجل، أو من كلامه عليه السلام: الذي جعل لكم الأرض مهادا «1» أي: كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار، أي: جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي: طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر، فَأَخْرَجْنا بِهِ، يحتمل أن يكون من كلام الله، وما قبله من كلام موسى، أو كله من كلام الله تعالى، حكاه موسى عليه السلام، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن، أي: فأخرجنا بذلك الماء أَزْواجاً: أصنافًا، سميت أزواجًا لازدواجها، واقتران بعضها ببعض، كائنة مِنْ نَباتٍ شَتَّى: متفرقة، جمع شتيت: أي: متفرق، وهو، في الأصل، مصدر، يستوي فيه الواحد والجمع، يعني: أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم، وبعضها للبهائم.
ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يليق بكونه طعامًا لهم، وهو معنى قوله: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، والجملة: حالٌ، على إرادة القول، أي: أخرجنا منها أصناف النبات، قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم، آذنين فى ذلك لكم.
__________
(1) قرأ عاصم وحمزه والكسائي: (مهدا) . وقرأ باقى السبعة: «مهادا» : انظر الإتحاف (2/ 247) .(3/394)
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور، من شئونه تعالى، وأفعاله وأنعامه، لَآياتٍ جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى، في ذاته وصفاته وأفعاله، وعلى صحة نبوة موسى وهارون- عليهما السلام، لِأُولِي النُّهى أي:
العقول الصافية، جمع «نُهْيَة» ، سمى بها العقل، لنهيه عن اتباع الباطل، وارتكاب القبيح، أي: لذوي العقول الناهية عن الأباطيل، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم، مع أنها آية للعالمين لأنهم المنتفعون بها.
مِنْها خَلَقْناكُمْ أي: من الأرض الممهدة لكم، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام، وأنتم في ضمنه، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواء إجماليًا، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها، وقيل: خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء: إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد، فيذره على النطفة، فتخلق من التراب ومن النطفة. هـ.
وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالإماتة وتفريق الأجزاء، والكلام على الأشباح دون الأرواح، فإنها، بعد السؤال، تصعد إلى السماء، كما يأتي عند قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ... «1» الآية. ولم يقل: وإليها نُعيدكم إشارة إلى استقرار العبد فيها، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتتة، المختلطة بالتراب، على الهيئة السابقة، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى: باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة في الأصل: اسم للتور، وهو الجريان، فالتارة واحدة منه، ثم أُطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة، كما مر في المرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه، مما سبق لهم في أزله، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح، هداه إلى أسبابها، وهم أهل مقام البعد، ومنهم من كان حظه قوت القلوب، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات، وهم أنواع:
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل، وهداهم إلى أسباب ذلك، وهم حملة الشريعة، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات، وهداهم إلى أسبابها، وقواهم على مشاقها، وهم العباد والزهاد. ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها، وهم الصالحون. ومنهم: من كان حظه قوت الأرواح، وهم المريدون السائرون، أهل الرياضة والتصفية، والتخلية والتحلية، والتهذيب والتدريب، وهداهم إلى أسبابها، ووصلهم
__________
(1) الآية 88 من سورة الواقعة.(3/395)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها، وهم في ذلك مقامات متفاوتة، على حسب صدقهم وجدهم، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار، وهم العارفون الكبار، السابقون المقربون، أهلُ الفناء والبقاء، أهل الرسوخ والتمكين، فهداهم إلى ما أمّلوا، ووصلهم إلى ما طلبوا. نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ... الآية، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي: جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية، تحيا به الأرواح، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى. (مِنْها خَلَقْناكُمْ) : من أرض نفوسكم أخرجناكم، بشهود عظمة الربوبية، وفيها نُعيدكم للقيام برسم العبودية، ومنها نُخرجكم لتكونوا لله، لا لشيء دونه. أو منها خلقناكم، أي:
أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها، بالفناء عنها، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء، (ومنها نُخرجكم تارة أخرى) بعقد الحرية في مقام البقاء، فتكونوا عبيدًا شكّرا. وبالله التوفيق.
ثم إن فرعون لم تنفعه هذه الموعظة، ولا ما رأى من الآيات الباهرة، حتى طلب المعارضة، كما أبان ذلك الحق سبحانه بقوله:
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قلت: (مَوْعِداً) : مصدر، مفعول أول ل (فَاجْعَلْ) . و (مَكاناً) : مفعول بفعل محذوف، أي: تعدنا مكانًا سُوى، لا بموعد لأنه وصف، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض، و (يَوْمُ الزِّينَةِ) : على حذف مضاف، أي: مكان يوم الزينة، و (أَنْ يُحْشَرَ) : عطف على يوم، أو الزينة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ أي: فرعون، آياتِنا، حين قال له: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «1» ، وعبّر بالجمع، مع
__________
(1) الآيات: 31- 33 من سورة الشعراء.(3/396)
كونهما اثنتين، باعتبار ما في تضاعيفهما من الخوارق، التي كل واحدة منها آية. وقد رأى فرعونُ من هاتين الآيتين أمورًا دواهي، فإنه رُوِي أنه عليه السلام، لمّا ألقى العَصا، انقلبت ثعبانًا أشعر، فاغرافاه، بين لَحْيَيْهِ ثمانون ذراعًا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون، فهرب وأحدَثَ، وانهزم الناسُ مُزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه، فصاح فرعون: يا موسى أُنشدك الذي أرسلك إلاّ أخذته، فأخذه، فعاد عصًا. ورُوي أنها، لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مُرني بما شئت، ويقول فرعون: أنشدك.. الخ. ونَزَعَ يدهُ من جيبه، فإذا هي بيضاء بياضًا نورانيًا خارجًا عن العادة. ففي تضاعيف كُلٍّ من الآيتين آيات جمة، لكنها لما كانت غير مذكورة بالصراحة، أكدت بقوله تعالى: كُلَّها، كأنه قيل: أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها، قصدًا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر.
وقيل: أريناه آياتنا التسع، وهو بعيد لأنها إنما ظهرت على يده عليه السلام بعد ما غلبت السحرة على مَهَل، في نحو من عشرين سنة، والكلام هنا قبل المعارضة، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها، فأبى عن الإيمان، ثم رجع إلى إتمام القصة.
وأبعد منه: من عَدّ في الآيات ما جُعِل لإهلاكهم، لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر، وغير ذلك، وكذلك من عَدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء- عليهم السلام- حيث حكاها موسى عليه السلام لفرعون، بناء على أن حكايته إياها له في حكم إظهارها بين يديه لاستحالة الكذب عليه، فإنَّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم.
قال تعالى: فَكَذَّبَ فرعونُ موسى، وَأَبى الإيمان والطاعة، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه. جحودًا وعنادًا لعتوه واستكباره، وقيل: كذَّب بالآيات جميعًا، وأبَى أن يقبل شيئًا منها.
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، هذا استئناف مُبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والمجيء إما على حقيقته، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له، أي: أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه ترعى الغنم لتُخرجنا من أرضنا؟ أو: أقبلت إلينا لتُخرجنا من مصر بما أظهرت لنا من السحر، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قاله تحريضًا لقومه على مقت موسى والبعد عنه، بإظهار أن مراده عليه السلام إخراج القبط من وطنهم، وحيازة أموالهم، وإهلاكهم بالكلية، حتى لا يميل أحد إليه، (والله غالب على أمره) . وسمى ما أظهره عليه السلام من المعجزة الباهرة سحرًا، ثم ادعى أنه يعارضه، حيث قال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي: وإذا كان الأمر كذلك، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي:
وعدًا لا نُخْلِفُهُ أي: لا نخلف ذلك الوعد، ولا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد،(3/397)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
وإنما فوض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب ودخول الرعب إليه، وإظهار الجلادة، بإظهار أنه متمكن من تهيئَة أسباب المعارضة، طال الأمر أو قصر، كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام، وتوسيط كلمة «النفي» بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الاختلاف.
وقوله تعالى: مَكاناً سُوىً أي: يكون ذلك الوعد- أي: وعد الاجتماع- في مكان مستوٍ، تستوي مسافته بيننا وبينك، عدلاً، لا ظلم على أحد في الإتيان إليه، منا ومنك، وفيه لغتان: ضم السين وكسرها.
قالَ لهم موسى عليه السلام: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ أي: مكان الزينة لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، وهو يوم عيد لهم، في كل عام يتزينون ويجتمعون فيه، وقيل: يوم النيروز،. وقيل: يوم عاشوراء، وقيل: يوم سوق لهم. وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي: موعدكم يوم الزينة، وحشرُ الناس ضحى، أو يوم حشر الناس في وقت الضحى، يجتمعون نهارًا جهارًا، أراد عليه السلام أن يكون أبلغ في إظهار الحجة وإدحاض الباطل، بكونه على رؤوس الأشهاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من سبق له البعد عن الرحمن، لا ينفع فيه خوارق معجزاتٍ، ولا قاطع برهان ودليل، أبعده التكبر والطغيان، ودفعُ الحق بالباطل. نعوذ بالله من موارد الخذلان.
ثم ذكر جمعهم، وما كان من شأنهم، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 69]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)(3/398)
قلت: (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) : مَنْ خَفَّفَ (إِنْ) : جعلها نافية، أو مخففة، واللام فارقة. ومَنْ ثَقَّلها وقرأها:
(هذانِ) بالألف، فقيل: على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف رفعًا ونصبًا وجرًا، ويُعرِبُونَها تقديرًا، وقيل: اسمها: ضمير الشأن، أي: إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران. وقيل: «إن» بمعنى «نعم» ، لا تعمل، وما بعدها: جملة من مبتدأ وخبر. وقالت عائشة- رضي الله عنها-: إنه خطأ من الكُتاب، مثل قوله:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «1» ، وَالصَّابِئُونَ «2» ، في المائدة، ويرده تواتر القراءة.
يقول الحق جلّ جلاله: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي: انصرف عن المجلس، ورجع إلى وطنه، فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي: حِيلَه وسَحرته ليكيد به موسى عليه السلام، ثُمَّ أَتى الموعد، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته، وسيأتي عددهم.
قالَ لَهُمْ مُوسى، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة: وَيْلَكُمْ أي: ألزمَكم اللهُ الويل، إن افتريتم على الله الكذب، لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإشراك أحد معه، كما تعتقدون في فرعون، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا، فَيُسْحِتَكُمْ أي: يستأصلكم، بسببه، بِعَذابٍ لا يُقَادَر قدره، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا، يقال: سحت وأسحت.
فالثلاثي: لغة أهل الحجاز، والرباعي: لغة بني تميم ونجد. وَقَدْ خابَ وخسر مَنِ افْتَرى على الله، كائناً مَن كان، بأي وجه كان، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا، أو: قد خاب فرعون المفتري على الله، فلا تكونوا مثله في الخيبة.
فَتَنازَعُوا أي: السحرة، حين سمعوا كلامه عليه السلام، أَمْرَهُمْ أي: في أمرهم الذي أريد منهم من مغالبته عليه السلام، وتشاوروا وتناظروا بَيْنَهُمْ في كيفية المعارضة، وتشاجروا، ورددوا القول في ذلك، وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: من موسى عليه السلام لئلا يقف عليه فيدافعه، ونجواهم على هذا هو قوله: قالُوا إِنْ هذانِ أي:
موسى وهارون، لَساحِرانِ عظيمان يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر، بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما الذي أظهره قبل، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي: بمذهبكم، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما.
قال ابن عطية: والأظهر، في الطريقة هنا، أنه السيرة والمملكة. والمُثلى: تأنيث الأمثل، أي: الفاضلة الحسنة. هـ. وقيل: الطريقة هنا: اسم لوجوه القوم وأشرافِهم، لأنهم قدوة لغيرهم، والمعنى: يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما، ويُبطلان ما أنتم عليه. وقال قتادة: (طريقتهم المثلى يومئذ: بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم
__________
(1) من الآية 162 من سورة النساء.
(2) من الآية 69 من سورة المائدة. وللألوسى- رحمه الله- كلام طيب فى هذه القضية، راجعه فى تفسيره (16/ 224) .(3/399)
عددًا وأموالاً، فقال فرعون: إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما) . ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل من بينهم، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمِنين في ديارهم: بعيد، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله.
وقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ: تصريح بالمطلوب، أي: إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم، فأجمعوا كيدكم، أي: اجعلوه مُجمعًا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم، وارموه عن قوس واحدة. وقرأ أبو عمرو: (فاجْمَعُوا) ، من الجمع، أي: فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي: مصطفين، أمروا بذلك لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفًا، مع كل واحد منهم حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة ثلاثمائة من الفُرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل: خمسة عشر ألفًا. والله تعالى أعلم. ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور.
ثم قالوا في آخر نجواهم: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز بالمطلوب مَنْ غلب، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس. وقيل: كان نجواهم أن قالوا- حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام: ما هذا بقول ساحر، وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقيل: قالوا فيها: إن كان ساحرًا غلبناه، وإن كان من السماء فله أمر. فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون، ويحمل قولهم: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ... الخ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة. والله تعالى أعلم بما كان.
ثم طلبوا المعارضة، فقالوا: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقيه أولاً، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما نلقيه. خيروه عليه السلام فيما ذكر مراعاة للأدب، لما رأوا عليه من مخايل الخير، وإظهارًا للجلادة، قالَ بَلْ أَلْقُوا أنتم أولاً، مقابلة لأدبهم بأحسن منه، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه، فيقذف بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ، كما تعودَ من ربه.
فألقوا ما عندهم، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي: ففوجىء موسى، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت: هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان(3/400)
من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين، كما يفعله أهل الشعوذة، وهو علم معروف من علوم السحر، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها، تقصد موسى عليه السلام، فكيف يفعل الزئبق هذا؟ قال ابن جُزي: استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له. هـ.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أي: خوفًا، مُوسى أي: أضمر في نفسه بعض خوف، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل: إنما خاف موسى، إذ صنع القوم مثل صنيعه، بأن يشكُّوا فيه، فلا يتبعوه، ويشك فيه من تابعه. قُلْنا لا تَخَفْ ما توهمت، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب عليهم، والجملة: تعليل لنهيه عن الخوف، وتقرير لغلبته، على أبلغ وجه، كما يُعرب عنه الاستئناف، وحرف التحقيق، وتأكيد الضمير، وتعريف الخبر، ولفظ العلو.
ثم قال له: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي: عصاك، وإنما أبهمت تفخيمًا لشأنها، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس، مبهمة الكنه، مستتبعة لآثار غريبة، وأما حملُ الإبهام على التحقير، بمعنى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العُوَيْد الذي في يدك، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها، وصغره وكبرها، فيأباه ظهور حالها، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها.
وقوله تعالى: تَلْقَفْ ما صَنَعُوا: جواب الأمر، من لقفه، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، أي: تبتلع، وتلتقم بسرعة، ما صنعوا من الحبال والعصي، التي تخيل إليك، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه، وإدحاض الخوف عنه، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس، مما يقلع مادته بالكلية. وهذا، كما ترى، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن- كما قال مقاتل- من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه.
فتأمله. قاله أبو السعود. وفيه نظر بأن قوله: تَلْقَفْ ما صَنَعُوا صريح في عدم الالتباس إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم، فتأمله. إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي: إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ. وقرأ أهل الكوفة: (سِحْر) بكسر السين، فالإضافة للبيان، كما في «علم فقه» ، أو: كيد ذي سحر، أو يسمى الساحر سحرًا مبالغة. والجملة تعليل لقوله: (تَلْقَفْ) أي: تبتلعه لأنه كيد ساحر، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي: حيث وُجد، وأين أقبل، وهو من تمام التعليل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال للفقير، المتوجه إلى الله تعالى، من قبل الحق: إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك، وإما أن نكون أول من ألقاها عنك، أي: إما أن تتركها اختيارًا، أو تزول عنك اضطرارًا لأن عادته تعالى، مع المتوجه الصادق، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا. فيقول- إن كان صادق القلب-: بل ألقها، ولا حاجة لي بها، فألقاها الحق تعالى،(3/401)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
وأخرجها من يده، عناية به، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة، قلنا: لا تخف، حيث توجهت إلى مولاك، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين، تلقف ما صنعوا، أي: ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء، وإنما صنعوا ذلك تخويفًا وتمويهًا، لا حقيقة له، كما يفعل الساحر، (ولا يفلح الساحر حيث أتى) .
ثم ذكر إسلام السحرة، وما كان من شأنهم، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 70 الى 71]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)
قلت: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ، قال المحلي: أي: عليها، وهو مذهب كوفي، وأما مذهب البصريين فيقولون: ليست «فِي» بمعنى «على» ، ولكن شبه المصلوب، لتمكنه في الجذع، بالحالّ في الشيء، وهو من الاستعارة التعبيرية.
و (مِنْ خِلافٍ) : في موضع الحال، أي: مختلفات.
يقول الحق جلّ جلاله: فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة، فابتلعت تلك الحبال والعصي، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية من آيات الله. رُوي أن رئيسهم قال: كنا نغلب أعين الناس، وكانت الآلات تُبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقينا من الآلات؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى. فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم، فتابوا وآمنوا، وأتوا بما هو غاية الخضوع، قيل: لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، والثواب والعقاب. وعن عكرمة: لما خروا سُجدًا، أراهم الله تعالى، في سجودهم، منازلهم في الجنة. ولا ينافيه قولهم: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب في صدور هذا القول منهم.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى، قدّموا هارون إما لكبر سنه، أو للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون، حيث كان ربَّى موسى عليه السلام في صغره، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه، من أول الأمر، أن مرادهم فرعون، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة. قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي: لموسى، واللام لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع، أي: أذعنتم له قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي: من غير أن آذن لكم، إِنَّهُ أي:
موسى لَكَبِيرُكُمُ أي: أستاذكم وأعلمُكم في فنكم، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فتواطأتم على ما فعلتم. وهذه منه شبهة واهية أين كان موسى عليه السلام، وأين كان السحرة، حتى علمهم؟ ولكن صدر منه هذا خوفًا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السلام، ويقتدوا بالسحرة، فأوهم عليهم، مع ما سبق في علم الله من ضلالتهم.(3/402)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
ثم اقبل على السحرة بالوعيد، فقال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ أي: فو الله لأقطعن أيديكم وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي: اليد اليمنى والرجل اليسرى. وتعيين تلك الحال للإيذان بتحقيق هذا الأمر وإيقاعه لا محالة، فتعيين تلك الحالة المعهودة من باب السياسة، أو لأنها معهودة لمن خرج عن حكم طاعته. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي: عليها، وإتيان كلمة «فِي» للدلالة على إبقائهم عليها زمنًا مديدًا، تشبيهًا في استمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه، وقيل: هو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا، يريد نفسه أو موسى عليه السلام، حيث خافوا من عصاه فأسلموا، فَهِم اللعين أن إيمانهم لم يكن للمعجزة، إنما كان خوفًا، حيث رأوا عصاه ابتلعت حبالهم وعصيهم، أو يريد (أَيُّنا) أي: أنا أو رب موسى وهارون، الذي آمنتم به، أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي: أدوم. قالوا: لم يثبت في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به، ولم يثبت في الأخبار، لكن رُوِي عن ابن عباس، وغيره، أنه أنفذه. ورُوي أن امرأة فرعون كانت تسأل: من غلب؟ فيقال لها: موسى، فقالت:
آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون يُهددها، وقال: انظروا أعظم صخرة، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتزعت روحها منها، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. قاله الثعلبي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن سبقت له العناية، لا تضره الجِنَايَة. هؤلاء السحرة جاءوا يحادون الله ورسوله، فأضحوا أولياء الله. رُوِي أن موسى عليه السلام لما قال لهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، سمع هاتفًا يقول: ألقوا يا أولياء الله، فتحير موسى عليه السلام، وأوجس في نفسه خيفة، وقال: كيف أعارض أولياء الله، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم. فكم من لصوص خرج منهم الخصوص. ففي أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية، إذا طلبوا من الله سِرَّ العناية، وإدراك مقام الولاية، ولذلك ابتدأ القشيري في رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء، كالفضيل، وابن أدهم، وأضرابهم- رضى الله عن جميعهم-.
ثم ذكر ثبوت السحرة على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 72 الى 76]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(3/403)
قلت: (هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) : نصب على إسقاط الخافض، اتساعًا، لا نصب على الظرفية لأن الظرف المختص لا ينتصب على الظرفية، على المشهور، و (الَّذِي فَطَرَنا) : عطف على (ما جاءَنا) ، أو قَسَمٌ حُذف جوابه، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكيًا عن السحرة، لمَّا خوفهم فرعونُ: قالُوا غير مكترثين بوعيده: لَنْ نُؤْثِرَكَ أي: لن نختارك، باتباعك عَلى ما جاءَنا منَّ الله تعالى على يد موسى عليه السلام مِنَ الْبَيِّناتِ أي:
المعجزات الظاهرة لأن ما ظهر من العصا كان مشتملاً على معجزات جمة، كما تقدم. وَالَّذِي فَطَرَنا: خلقنا وخلق سائر المخلوقات، أي: لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى، ولا على الذي خلقنا، حتى نتبعك ونترك الحق، وكان ما شاهدوه آية حسية، وهذه آية عقلية. وإيراده بعنوان فاطريته تعالى للإشعار بعِلِّية الحكم، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون- وهو من جملة مخلوقاته- مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه، أو: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي: فاصنع ما أنت صانعه، أو: فاحكم ما أنت حاكمه. وهو جواب لقوله: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ..) الخ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدنيا الفانية، ولا رغبة لنا في البقاء فيها، رغبة في سكنى الدار الدائمة، بسبب موتنا على الإيمان.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا التي اقترفنا، من الكفر والمعاصي، ولا يؤاخذنا بها في الآخرة، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب، وَيغفر لنا أيضًا ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية، وخصوه بالذكر، مع اندراجه في خطاياهم إظهارًا لغاية نفرتهم عنه، ورغبة في مغفرته، وفي ذكره الإكراه: نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: أرادوا الإكراه على تعلم السحر، لما رُوي أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة، حيث رُوي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا، ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه. لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط، كما يُعرب عنه قولهم:
إِنَّ لَنا لَأَجْراً.. «1» الخ، وقولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ «2» ، إلا أن يُقال: لما رأوا جدَّهُ طمعوا وطلبوا الأجر. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي: وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية، وأبقى في الدار الباقية، أو: والله في ذاته خير، وجزاؤه أبقى، نعيمًا كان أو عذابا.
__________
(1) من الآية 113 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 44 من سورة الشعراء.(3/404)
ثم عللوا خيريته وبقاءه فقالوا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على الكفر والمعاصي، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وينتهي عذابه، وهذا تحقيق لقوله: (وَأَبْقى) ، وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها، وضمير (إِنَّهُ) : للشأن، وفيه تنبيه على فخامة مضمون الجملة لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره، مع ما فيه من زيادة التقرير، فإنَّ الضمير لا يُفهم منه أول الأمر إلاّ شأنٌ مبهَمٌ له خطر، فيبقى الذهن مترقباً لِما يعقبه، فيتمكن، عند وروده، فَضل تمكن، كأنه قيل الشأن الخطير هذا.
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به تعالى، وما جاء من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما شهدناه، حال كونه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أي: الأعمال الصالحات، وهي كل ما استقام شرعًا وخلص عقدًا، فَأُولئِكَ أي: من يأت مؤمنًا.. الخ. وجمع الإشارة باعتبار معنى «مَن» ، كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتهم، أي: فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات، لَهُمُ بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات الدَّرَجاتُ الْعُلى أي: المنازل الرفيعة، وليس فيه ما يدلّ على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل في استتباع الثواب، لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى، لا بالثواب مطلقًا.
ثم فسر تلك الدرجات، فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: إقامةٍ على الخلود، حال كونها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى، الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى. والبعد في الإشارة للتفخيم، أي: ما تقدّم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى. وتقدم ذكر حال المجرم، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه، ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى، هذا وقد قيل: إن قوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ.... الخ، ابتداء كلام من الله عزّ وجل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال، على الثبوت في طريق السلوك، وعدم الرجوع عنها، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد، والتخويف بأنواع العذاب، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون، وليقولوا كما قال سحرة فرعون: (لن نُؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقضِ ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ... ) الآية. وقد جرى هذا على كثير من الصوفية، أُوذوا على النسبة، فمنهم من قُتل، ومنهم من طُوف، ومنهم من أُجلى عن وطنه، إلى غير ذلك مما جرى عليهم، ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا. وما رجع مَن رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا، ولو قُطع إربًا إربًا. والله ولي المتقين.(3/405)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
ثم ذكر خروج بنى إسرائيل إلى الشام وغرق فرعون، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي بعد ما لبث يدعو فرعون إلى الله تعالى ويُريه الآيات المفصلات، بعد غلبة السحرة، نحوًا من عشرين سنة، كما فصّل ذلك في الأعراف، فلما أيس من إيمانهم أوحى الله بالخروج عنهم، أي: والله لقد أوحينا إلى موسى أن أسر، أو بأن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من يد فرعون، أي: سر بهم من مصر ليلاً إلى بحر القلزم. والتصدير بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها، والتعبير عنهم بعبادي لإظهار الرحمة والاعتناء بهم، والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون، حيث استعبدهم، وهم عباده عزّ وجلّ، وفعل بهم من فنون العذاب ما فعل. فَاضْرِبْ لَهُمْ أي: اجعل لهم، أو اتخذ لهم طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أي: يابسًا لا ماء فيه، لا تَخافُ دَرَكاً أي: حال كونك آمنًا من أن يُدرككم العدو، وَلا تَخْشى الغرق. وقرأ حمزة: «لا تخف» بالجزم، جوابًا للأمر، فيكون (ولا تخشى) : إما استئناف، أي: وأنت لا تخشى، أو عطف عليه، والألف للإطلاق، أو يقدر الجزم، كقوله:
ألم يأتيك والأنْباءُ تَنْمِي «1» ... الخ.
وتقديم نفي خوف الدرك، للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف، حيث قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ «2» .
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أي: تبعهم ومعه جنوده حتى لحقهم، يقال: اتبعتهم، أي: تبعتهم، إذا كانوا سبقوك ولحقتهم، ويؤيده قراءة: (فاتَّبَعَهُمْ) بالشد. وقيل: الباء زائدة، والمعنى: فأتبعهم فرعون جنودَه، أي: ساقهم خلفهم، وأيًا ما كان، فالفاء فصيحة مُعْربة عَن مضمر قد طوى ذكره، ثقة بظهوره، وإيذانًا بكمال مسارعة موسى إلى الامتثال، أي: فَفَعل ما أُمر به من الإسراء بهم، وضرب الطريق في البحر وسلكوه، فأتبعهم بجنوده برّا وبحرًا.
رُوِي أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل، وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا، فأخبر فرعون بذلك، فأتبعهم بعساكره، وكانت مقدمته سبعمائة ألف، فقص أثرهم فلحقهم، بحيث تراءى الجمعان، فلما أبصروا رهجَ «3» الخيل، قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «4» . فلما قربوا، قالوا: يا موسى أين نمضي، البحر أمامنا، وخيل فرعون خلفنا، فعند ذلك ضرب موسى عصاه البحر فانفلق على ثنتى عشرة فرقة،
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه: بما لاقت لبون بنى زياد. وهو لقيس بن زهير العبسي.. انظر تفسير القرطبي.
(2) الآية 61 من سورة الشعراء. [.....]
(3) الرّهج: الغبار.
(4) الآيتان 61- 62 من سورة الشعراء.(3/406)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» أي: كالجبل العظيم من الماء، وكانوا يمرون به، وكلهم بنو أعمام، لا يرى بعضُهم بعضاً، فقالوا: قد غرق إخواننا، فأوحى الله إلى أطواد الماء: أن اشتبكي، وصارت شبابك، يرى بعضهم بعضًا، ويسمع بعضهم كلامَ بعض، فلما أتى فرعونُ الساحلَ، وجد البحر منفلقًا، فقال: سحر موسى البحر، فقالوا:
إن كنت ربًا فادخل كما دخل، فجاء جبريلُ على رَمَكةٍ ودَيِقٍ، أي: تحب الفحل، وكان فرعون على حصان، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء، فلم يتمالك حصان فرعون، فاقتحم البحر على إثره، ودخل القبط كلهم، فلما لَجَّجُوا، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم، فعلاهم البحر وأغرقهم.
فَعبَر موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين، وأما فرعون وجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي:
علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل، الذي لا يُقادر قدره ولا يبلغ كنهه. قال القشيري: فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعونُ لما ظهر له البأس، فلم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير. هـ. وقال الكواشي: (وغشيهم) من الغضب والغرق، وغير ذلك، مالا يعلم حقيقته إلا الله تعالى. هـ. فإبهام الصلة للتهويل والتفخيم، وقيل: (غشيهم من اليم) ما سمعتَ قصته في غير هذه السورة، وليس بشيء فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم، بحيث يخرج عن حدود الفهم والوصف، لا سماع قصته فقط.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي: أتلفهم وسلك بهم مسلكًا أدى بهم إلى الخيبة والخسران، حيث ماتوا على الكفر، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي، المتصل بالعذاب الدائم الأخري، وَما هَدى أي: ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية. وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له، وفيه نوع تهكم به في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «2» ، فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر عاقبة من شدّ يده على دينه، وصبر على شدائد زمانه، كيف خرقت له العوائد، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء، وسلك به سبيل النجاة والهدى، وهذه عادة الله مع أوليائه، يُشدد عليهم أولاً بضروب البلايا والمحن، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن، ولذلك ذكّر الله بنى إسرائيل بما أنعم عليهم بعد البحر، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 80 الى 82]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
__________
(1) من الآية 63 من سورة الشعراء.
(2) من الآية 29 من سورة غَافر.(3/407)
يقول الحق جلّ جلاله لبني إسرائيل، بعد ما أنجاهم من الغرق، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه، حيث كانوا يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ «1» ، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي: واعدناكم بواسطة نبيكم، إتيان جانب الطور، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة. وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة، أو غيره؟ خلاف. ونسبة المواعدة إليهم مع كونه لموسى عليه السلام خاصة، أو له وللسبعين المختارين، نظرٌ إلى ملابستها إياهم، وسراية منفعتها إليهم، وإعطاء لمقام الامتنان حقه. كما في قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «2» حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السلام.
ثم قال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ حين تُهتم، الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي: الترنجبين والطير السُّماني، حيث كان ينزل عليهم المنَّ وهم في التيه، مثل الثلج، من الفجر إلى الطلوع، لكل إنسان صالح، ويبعث الجنوب عليهم السُّماني، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي: من لذائذه، أو حلاله. وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي:
فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتَعدي لما حَدَّ لكم فيه، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري:
مجاوزة الحلال إلى الحرام، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه، فأزاد على سدِّ الرمق، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. هـ. وقيل: لا تدخروا، فادَّخروا فتعودوا، وقيل: لا تنفقوه في المعصية، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بفعل شيء من ذلك، أي: ينزل ويجب، من حَلَّ الدين إذا وجب. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي: تردَّى وهلك، أو وقع في المهاوي.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ أي: كثير الغفران لِمَنْ تابَ عن الشرك والمعاصي، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر، وَآمَنَ بما يجب الإيمان به، وَعَمِلَ صالِحاً أي: عملاً صالحًا مستقيمًا عند الشرع، وفيه ترغيب وحث لمن وقع في زلَّة أو طغيان على التوبة والإيمان، ثُمَّ اهْتَدى أي: استقام على الهدى ودام عليها حتى مات.
وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي: (ثُمَّ اهْتَدى) أي: علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. هـ.
الإشارة: إذا ذهبت عن العبد أيام المحن، وجاءت له أيام المنن، فينبغي له أن يتذكر ما سلف له من المحن، وينظر ما هو فيه الآن من المنن، ليزداد شكرًا وتواضعًا، فتزداد نعمه، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسى أيام
__________
(1) من الآية 49 من سورة البقرة.
(2) من الآية 11 من سورة الأعراف.(3/408)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
المحن، ولم يشكر ما هو فيه من المنن، فحقيق أن تزول عنه، ويرجع إلى ما كان عليه. وتَذَكَّرْ حديث الأبرص والأقرع والأعمى، حسبما في الصحيح «1» . فإن الأبرص والأقرع، حين شفاهما الله وأغناهما، أنكرا ما كانا عليه، فرجعا إلى ما كانا عليه، والأعمى حين أقر بما كان عليه، وشكر الحال الذي حال إليه، دامت نعمته وكثر خيره.
فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود. فيقال لأهل النعم، إن قاموا بشكرها: كُلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه، بأن تصرفوه في غير محله، أو تمنعوه عن مستحقه، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ... الآية.
وقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ.. الخ، قال القشيري: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الزَّلَّة وَآمَنَ فلم يَرَ أعماله من نَفْسه، بل جميع الحوادث من الحقِّ، وَعَمِلَ صالِحاً فلم يُخِلّ بالفرائض، ثُمَّ اهْتَدى للسُّنَّةِ والجماعة.
وقال أيضًا: ثم اهتدى بنا إلينا. هـ.
قال الورتجبي: التائب: المنقطعُ إلى الله، والمؤمن: العارف بالله، والعمل الصالح: تركه ما دون الله، فإذا كان كذلك، فاهتدى بالله إلى الله، ويكون مغمورًا برحمة الله، ومعصومًا بعصمة الله. هـ.
ثم ذكر فتنة بنى إسرائيل بالعجل، بعد ذهاب موسى إلى المناجاة، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 88]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)
يقول الحق جلّ جلاله لموسى عليه السلام، لما ذهب إلى الطور، لموافاة الميقات، للعهد الذي عهد إليه، واختار سبعين من بني إسرائيل، يحضرون معه لأخذ التوراة بأمره تعالى، فلما دنا من الجبل حمله الشوق، فاستعجل إلى الجبل، وترك قومه أسفله، فقال له الحق جلّ جلاله: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي: ما حملك على
__________
(1) أخرج حديث الثلاثة البخارىّ فى (أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع بنى إسرائيل) ، ومسلم فى (الزهد، ح 2964) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.(3/409)
العَجَلَة، وأيُّ شيء أعجلك منفردًا عن قومك، وقد أمرتك باستصحابهم، ولعل في إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم؟
فأجاب عليه السلام بقوله: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي: هم هؤلاء قريبًا مني، فهُم معي، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية، ولا تقدح في الاستصحاب، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة.
قال الكواشي: ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين: أحدهما: إنكار العَجَلة، والثاني: السؤال عن السبب والحامل عليها، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل أن قال:
إن ما وُجدَ مني تقدم يسير، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم، ثم عقبه بجواب السؤال فقال: عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لتزادد عني رضا لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء- عليهم السلام- والمعنى: لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك. هـ.
وقال القشيري: (هم أولاء على أثري) ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى. قال:
يا موسى، رضائي في أن تكون مَعهم، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم، وكونُكَ مع الضعفاءِ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم. هـ.
قالَ له تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي: ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.
رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة، بعد ذهابه، فحسبوها مع أيامها أربعين، وقالوا: قد أكملنا العدة، وليس من موسى عين ولا أثر، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا، واستخلف هارون على من بقي منهم، وكانوا ستمائة ألف، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا. وهذا معنى قوله تعالى:
وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، حيث كان هو السبب في فتنتهم، فقال لهم: إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم لِمَا معكم من حُليّ القوم، فهو حرام عليكم، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله. فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام، قبل وقوعها، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع، كما في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» ، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام، وتصدى لها بترتيب مبادئها، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها.
والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، يقال لها: سامرة، وقيل: كان رجلاً من كرمان. وقال ابنُ عباس:
كان من قرية يعبدون البقر، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقر، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل، واسمه: موسى بن ظفر.
__________
(1) من الآية 44 من سورة الأعراف.(3/410)
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة، لا عقب الإخبار بالفتنة، كما يتوهم من قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً، فإن كون الرجوع بعد الأربعين أمر مقرر مشهور، يرفع كون الرجوع عقب الفتنة. والأسف: أشد الغضب، وقيل: أسفًا: حزينًا جزعًا على ضلال قومه. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: مدة مفارقتي إياكم.
والهمزة للإنكار، والمعطوف محذوف، أي: أوَعَدَكم ذلك فطال زمان الإنجاز، فأخطأتم بسببه، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد كائن مِنْ رَبِّكُمْ أي: من مالك أمركم، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي: وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات، أو وعْدَكم إياي بأن تثبتُوا على ما أمرتكم به، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله، والفاء، لترتيب ما بعدها، كأنه قيل: أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموني خطأ أَمْ أَرَدْتُمْ حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمدًا.؟
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ أي: وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به، بِمَلْكِنا أي: بسلطاننا وقدرتنا، ونحن نملك أمرنا. وفيه لغتان: فتح الميم وكسرها. يعنون: لو خلينا وأُمورَنا، ولم يسوِّل لنا السامريُّ ما سوله، ما أخلفنا، ولكن غلبنا على أمرنا، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال.
وقال القشيري: أي: لم نكن في ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا، ولا عالمين بما آلَتْ إليه عاقبة أمرِنَا، وإنَّ الذي حملنا عليه حُلِيّ القبط، صاغَ السامريُّ منه العجلَ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر، وكذلك الحرامُ لا يخلو شؤمُه من الفتنة والشر. هـ.
وقوله تعالى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، استدراك عما سبق، واعتذار ببيان منشأ الخطأ، أي:
حملنا أحمالاً من حُليّ القبط، التي استعرناها منهم، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل: كانوا استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها إليهم، مخافة أن يقفوا على أمرهم. وقيل: لما رمى البحر أجساد القبط، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة، التقطها بنو إسرائيل، فهي زينة القوم التي صيغ منها العجل، ولعل تسميتها أوزارًا لأنها تبعات وآثام، حيث لم تحل الغنائم لهم.
فَقَذَفْناها أي: في النار رجاء الخلاص من عقوبتها، أو قذفناها إلى السامري وألقاها في النار، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ما كان معه منها كما ألقيناه، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فَرس جبريل، كان قد صرَّه في عمامته، وكان ألقى إليه الشيطان: أنه ما خالط شيئًا إلا حيى، فألقاه في فمه فصار يخور.
رُوِيَ: أنه قال لهم: إنما تأخر موسى عنكم، لما معكم من الأوزار، فالرأي أن نحفر حفرة ويُسجر فيها نار، ونقذف فيها كل ما معنا، ففعلوا، فَأَخْرَجَ لَهُمْ من ذلك الحليّ المذاب عِجْلًا أي: صورة عجل(3/411)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
جَسَداً أي: جثة ذات لحم ودم، أو جسدًا من ذهب لا روح فيه، لَهُ خُوارٌ أي: صوت عِجْل، فَقالُوا أي: السامري ومن افتتن به: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. فقوله تعالى: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ ... ) الخ.. هو من كلام الله تعالى، حكاية لنتيجة فتنة السامري، قولاً وفعلاً، قصدًا إلى زيادة تقريرها، وتمهيدًا للإنكار عليهم، وليس من كلام المعتذرين، وإلا لقال: فَأَخْرجَ لنا.. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لرئيس القوم، إذا كان في سفر، أن يكون وسَطهم، أو سائقًا لهم، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم، فإن التأني كله من الله، والعَجَلة كلها من الشيطان، والخير كله في الاجتماع مع الضعفاء والمساكين، حتى يكون كأحدهم، فإن فارقهم، لأمر مهم، فليستخلف عليهم من يثق به في دينه، وليكن اعتماده في ذلك على ربه، ونظره كله إلى رعايته وحفظه. قال الكواشي: عن ابن عطاء: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتدري من أين أُتيت؟ - يعني في فتنة قومه- قال: لا يا رب، قال: حين قلت لهارون: اخلفني في قومي، أين كنتُ أنا حين اعتمدتَ على هارون؟. هـ.
فكل فتنة أو ضلال يُصيب الفقراء، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن، أو قلة الاستماع لهم، فإن أصابتهم فتنة الأسباب، والركون إلى شيء من الدنيا في غيبة الشيخ، فليرجع إليهم غضبان أسفًا، وليقل لهم: ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد، أفطال عليكم العهد، فقد كانت الرجال تمكث في خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، بالإبعاد وإسْدَال الحجاب، حيث خالفتم عهود أشياخكم، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم، وإن ركنوا إلى عبادة شيء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم، وليقل: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الإنكار على عبدة العجل، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 89 الى 94]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)(3/412)
قلت: (أَلَّا يَرْجِعُ) : «أن» محففة، لأنَّ الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين، ومن قرأ بالنصب جعل الرؤية بصرية.
يقول الحق جلّ جلاله، مُنكرًا على عبدة العجل ومقبحًا لرأيهم: أَفَلا يَرَوْنَ أي: أفلا يتفكرُ هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون أن الأمر والشأن: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ العجل كلامًا، ولا يرد عليها جوابًا، وإنما هو جماد لا روح فيه؟ فكيف يتوهمونه أنه إله؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميًا للتنبيه على كمال ظهوره، المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم. وَهو أيضًا لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي: أفلا يرون أيضًا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرًا، أو يجلب لهم نفعًا؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه، أو ينفعهم إن عبدوه.
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي: والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق، من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم، وقال لهم: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي: وقعتم في الفتنة بالعِجْل أو ضللتم به، والمعنى: إنما فعل بكم الفتنة، لا الإرشاد إلى الحق، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ وحده، لا العِجْل، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الرحمانية للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المُفضي إلى الرحمة الشاملة، أي: إن ربكم الذي يستحق ان يُعبد هو الرحمن لا غير. فَاتَّبِعُونِي على الثبات على الدين، وَأَطِيعُوا أَمْرِي من ترك عبادة ما علمتم شأنه.
قالُوا في جواب هارون عليه السلام: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي: لن نزال على عبادة العجل مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى، جعلوا رجوعه عليه السلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه، بل بطريق التعلل والتسويف، وقد دسُّوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين لإبطالها، تعويلاً على مقالة السامري.
روي أنهم، لما قالوا ذلك، اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفًا ممن لم يعبد العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجَلَبة «1» ، وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ....) الخ. وسمع منهم ما قالوا من قولهم: (ما أَخْلَفْنا ... ) الخ. فلما رأى هارونَ أخذ شعره بيمينه، ولحيته بشماله، غضبًا، قالَ يا هارُونُ، وإنما جرده من الواو لأنه استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له؟ وهل رضي بسكوته بعد ما شهد منهم ما شهد؟ فقيل:
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي: أن تتبعني. على أن «لا» مزيدة، أيْ: أيّ شيء منعك، حين رأيت ضلالتهم، من أن
__________
(1) فى الأصول: والجبلة.(3/413)
تتبعنى فيما أمرتك، وتعمل بوصيتي فتقاتلهم بمن معك؟. قال ابن عطية: والتحقيق: أن «لا» غير مزيدة، ويُقدر فعل، أي: ما منعك مجانبتهم وسوّل لك ألا تتبعن. هـ. قلت: وفيه نظر لأن مجانبة هارون عليه السلام للقوم كانت حاصلة، وإنما أنكر عليه عدم مقاتلتهم، أو عدم لحوقه ليخبره، فتأمله. وقيل: المعنى: ما حملك على ألا تتبعن، فإن المنع من الشيء مستلزم للحمل على مقابله، وقيل: ما منعك أن تلحقني وتُخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك زجرًا لهم، وهذا أظهر.
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين والمحاماة عليه، فإن قوله: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) متضمن للأمر بهما حتمًا، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرًا، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف، أي: أخالفتني فعصيت أمري.
لَ يَا بْنَ أُمَ
، خص الأم بالذكر استعطافًا لحقها، وترقيقًا لقلبه، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه، فإن الجمهور على أنهما شقيقان. قال له: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي: بشعر رأسي. وقد كان عليه السلام أخذ بهما كما تقدم، من شدة غيظه وفرط غضبه لله، وكان حديدًا متصلبًا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، حتى فعل ما فعل. ثم اعتذر له أخوه بقوله: نِّي خَشِيتُ
إن قاتلتُ بعضهم ببعض وتفرقوا، نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
برأيك، مع كونهم أبناء رجل واحد، كما يُنبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه. وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق: الذي لا يُرى بعده اجتماع، فخشيتُ أن تقول:
فرقت بينهم، لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي: قوله: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ..) الخ، يعني: إني رأيت أن الأصلح هو في حفظ الدماء والمداراة معهم، إلى أن ترجع إليهم، فلذلك استأنيتك لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرب عنه قوله: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي «1» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من اعتمد على غير الله، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله، فهو في حقه عجل بني إسرائيل، فيقال له: كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا، وإنما فُتنت به عن السير إلى ربك، وانطمست به حضرة قدسك، فربك الرحمن الكريم المنان، فاتبع ما أمرك به من الطاعات، وكن عبدًا له في جميع الحالات، تكن خالصًا لله، حرا مما سواه. وبالله التوفيق.
__________
(1) من الآية 150 من سورة الأعراف.(3/414)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
ثم وجّه العتاب إلى السامري، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 95 الى 98]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ موسى عليه السلام في توبيخ السامري: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي:
ما شأنك، وما مطلوبك فيما فعلتَ من فتنة القوم؟ خاطبه بذلك ليظهرَ للناس بطلانُ كيده باعترافه، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به، ولمن خلفهم من الأمم من بعده، قالَ السامري في جوابه:
بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: علمت مالم يعلمه القوم، وفطِنت لما لم يفطنوا به، أو رأيت مالم يروه، وهذا أنسب، وقد كان رأى جبريلَ عليه السلام، جاء راكبًا فرسًا، وكان كلما رفع الفرسُ يده أو رجله عن الطريق اليبس، اخضر ما تحت قدمه بالنبات، فعرف أن له شأنًا، فأخذ من موطئه شيئًا من التراب. وذلك قوله تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي: أثر فرس الرسول، وهو جبريل، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور.
وقال في اللباب: كان السامري من المقربين لموسى عليه السلام، فرأى جبريلَ راكبًا على فرس، وقد دخل البحر فانفلق، فأخذ من أثره، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى. هـ. وقال قتادة: كان السامري عظيمًا في بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها: سامرة، ولكن عدو الله نافق، بعد ما قطع البحرَ مع بني إسرائيل، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكُفُون على أصنام لهم، وكانوا يعبدون البقر، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1» . فاغتنمها السامري فاتخذ العجل. هـ.
وقال الكواشي: وإنما عرف السامريُّ جبريلَ من بين سائر الناس لأن أمه ولدته في السنة التي يُقتل فيها الغلمان، فوضعته في كهف حذرًا عليه، فبعث الله تعالى جبريل ليربيه لِمَا قضى على يديه من الفتنة. هـ.
وضعّفه ابن عطية. قلت: ولعل تضعيفه من جهة النقل، وأما القدرة فهي صالحةَ ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
__________
(1) من الآية 138 من سورة الأعراف.(3/415)
ثم قال: فأخذت تلك القبضة فَنَبَذْتُها في فم تلك الصورة المذابة من الحُليّ، فصارت تخور، وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: زينت. والإشارة: نعت لمصدر محذوف، أي: سَوَّلَتْ لي نفسي تسويلاً كائنًا مثل ذلك التسويل البديع.
وحاصل جوابه: أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها، لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهى، فعند ذلك قالَ له موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أي: اخرج من بين الناس، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي: في مدة حياتك، أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ والمعنى: أن لك في مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية، لا بحسب الاختيار، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام «1» ، لا يكاد يَمَسُّهُ أحد، أو يمسُّ أحدًا، إلا حُمّ من ساعته حمى شديدة، فتحامَى الناسَ وتحاموه، وكان يَصيح بأقصى طوقه: لا مساس. وقيل: أن موسى عليه السلام نفاه من قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن: (جعل الله عقوبة السامري ألا يمَاس الناسَ ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة) .
فكأن الله تعالى شدَّد عليه المحنة، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلي بالوسواس، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياه اليوم يقولون ذلك: لا مساس. ويقال: إن موسى همّ بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ولعل الحكمة في عقابه بهذه العقوبة: أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
ثم قال له الله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي: في الآخرة، لَنْ تُخْلَفَهُ أي: لن يُخلفك الله ذلك الوعد، بل يُنجزه لك أَلبتةَ، بعد ما عاقبك في الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه، بل لا بد لك من ملاقاته. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ العجل، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً مقيمًا على عبادته، لَنُحَرِّقَنَّهُ أي: والله لنحرقنه بالنار، وقيل بالمبْرد، مبالغةً في الحرق، ويعضده قراءة: «لَنُحَرِّقَنَّهُ» ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي: لنذرينه بالريح فِي الْيَمِّ في البحر، رمادًا، أو مبرودًا كأنه هباء، نَسْفاً بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، وقد فعل عليه السلام ذلك كله حينئذ، كما يشهد بذلك الأمرُ بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيهًا على كمال ظهوره، واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين.
ثم نبَّه على الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ أي: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة: استئنافية مسوقة لتحقيق الحق، إثر إبطال الباطل، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل، ثم وصفه بقوله: الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده، من غير أن يشاركه في الألوهية شيء من الأشياء، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلُم. وجملة: (وَسِعَ) : بدل من الصلة، أي: إنما إلهكم: الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره كائنا
__________
(1) العقام: الداء الذي لا يبرأ منه.(3/416)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
ما كان، فيدخل فيه العجل دخولا أولياء. وهذا ختم كلام موسى عليه السلام، بتقرير أمر التوحيد، كما كان افتتاح الوحي إليه به بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر أثر حافر فرس جبريل: كيف حييت به الأشباح، فكيف لا تحيا بتقبيل أثر وطء العارفين بالله، أو بتقبيل أقدامهم، بل كان من خضع لهم وقبَّل أقدامهم حييت روحه، وشعشعت أنواره، وتحقق عرفانه، كما هو معلوم لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله لأنهم يدلون على الله، ويبعدون عن كل ما سواه. وانظر السامري حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طُرد وأُبعد، حتى صار مثلاً في الناس. فقالت الصوفية: ينبغي للفقير أن يفر من أبناء جنسه، ويكون كالسامريِ، إذا رأى أحدًا قال: لا مساس، وأنشدوا:
وخَفْ أبناءَ جنسك، واخش منهم ... كما تخشى الضراغم والسُّنْبَتا
وخالِطْهم، وزايلهم حِذارًا ... وكن كالسامري إذا لُمِسْتَ
والسنبتاء: كل حيوان جريء، وقيل: اسم للنمر ويقال، لمن ركن إلى شيء دون الله تعالى مِنْ علم، أو عمل، أو حال، أو مقام، أو فني في مخلوق: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا) . وفي بعض الأثر: يقول الله: «يا عبدي، لا تركْن لشيء دوني، فإنْ ركنتَ إلى علم جهّلناك فيه، وإن ركنت إلى عمل رددناه عليك، وإن ركنتَ إلى حال وقفناك معه، وإن ركنتَ إلى معرفة نكرناها عليك. فأيّ حيلة لك أيها العبد، فكن لنا عبدًا أكن لك ربًّا» . أو كما قال. وإليه الإشارة بقوله: (إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ ... ) الآية.
ثم ذكّر نبيه صلى الله عليه وسلم بنعمة اطلاعه على هذه القصص البديعة، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 110]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعاً صَفْصَفاً (106) لاَّ تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)
قلت: محل الكاف: نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: نقص عليك قصًا مثل ذلك القص المارّ. وما في الإشارة من معنى البُعد للإيذان بعلو درجته- عليه الصلاة والسلام- وبُعد منزلته في الفضل. و (مِنْ أَنْباءِ) :
في محل النصب، إما على أنه مفعول (نَقُصُّ) باعتبار معناه، أي: نقص عليك بعض أنباء، وإما على أنه متعلق بمحذوف صفة للمفعول، أي: نقص عليك خبرًا كائنًا من أخبار ما قد سبق.
يقول الحق جلّ جلاله: كَذلِكَ أي: مثل ذلك القصص البديع الذي سمعته نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي: من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية ليكون تبصرة لك، وزيادة في علمك، وتذكيرًا لغيرك، وعبرة لمن يقف عليه ممن يأتي بعدك. والله تعالى أعلم.(3/417)
الإشارة: حكايات الصالحين وسِيَر العارفين جند من جنود القلب، فيها تنشيط لمن يريد اللحوق بهم، وتشويق لمقاماتهم، وتسلية لمن يُصاب في ذات الله بمثل ما أصابهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن القرآن المشتمل على هذه الأنباء الحسان، فقال:
وَقَدْ آتَيْناكَ ...
قلت: (مَنْ أَعْرَضَ) : شرطية أو موصولة، وعلى كلٍّ فهي صفة لذِكْرًا، و (خالِدِينَ) : حال من فاعل (يَحْمِلُ) ، أو الجمع، باعتبار معنى «مَن» ، و (حِمْلًا) : تمييز، تفسير لضمير (ساءَ) ، والمخصوص محذوف، أي: ساء حملاً وزرهم، و (يَوْمَ يُنْفَخُ) : بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أو منصوب باذكر. و (يَتَخافَتُونَ) : استئناف مُبين لحالهم يومئذ، أو حال أخرى من (الْمُجْرِمِينَ) . و (قاعًا) : حال من ضمير (فَيَذَرُها) ، أو مفعول ثان ليذر. و (صَفْصَفاً) : حال ثانية، أو بدل من المفعول الثاني، وجملة: (لا تَرى) : استئناف مبين لما سبق من القاع الصفصف، أو حال أخرى، و (يَوْمَئِذٍ) : ظرف ليتبعون، أو بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَدْ آتَيْناكَ يا محمد مِنْ لَدُنَّا خصوص عنديتنا ذِكْراً عظيمًا وقرآنا كريمًا، جامعًا لكل كمال، مُخبرًا بعجائب القصص والأمثال. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي: عن ذلك الذِكْر العظيم الشأن، المستتبع لسعادة الدارين، بأن لم يؤمن به، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي: عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنونه. وتسميتها وزرًا لتشبيهها في ثقلها على المعاقَب، وصعوبة احتمالها، بالحمل الذي يُثقل الحامل ويُنقِضُ ظهره، وقيل: يُجسّم، ويُجعل على ظهره في طريق الحشر، والأول أنسب لقوله:(3/418)
خالِدِينَ فِيهِ أي: في ذلك الوزر، وهو العذاب، أو في ذلك الحمل الثقيل لاستمراره فيه بعد دخول النار، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي: بئس حملهم هذا يوم القيامة، وإعادة يوم القيامة لزيادة التهويل.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي: ذلك اليوم هو يوم يُنفخ في الصور، أو: اذكر يوم ينفخ في الصور نفخة البعث، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي: المشركين يَوْمَئِذٍ أي: يوم ينفخ في الصور، وأعاده، تهويلاً، حَال كونهم زُرْقاً أي: زُرق العُيون. وإنما جُعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، وكانت تتشاءم بزرقة العين، كما قال الشاعر:
لَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنَاكَ يا ابنْ مُكَعْبَرٍ ... أَلاَ كُلُّ ضَبِّيِّ مِنَ اللؤْم أزرقُ.
وقيل زرقًا، أي: عُميًا لأن حدقة العين تزرق من شدة العمى. وقيل: عِطاشًا لأن سواد العين يتغير من شدة العطش ويزرق.
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي: يخفضون أصواتهم ويخفونها لِمَا علا صدورهم من الرعب والهول. يقول في تلك المخافتة بعضهم لبعض: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال استقصارًا لمدة لبثهم فيها، لزوالها، أو لتأسفهم عليها، لما شهدوا الشدائد والأهوال، أو في القبر، وهو الأنسب بحالهم، فإنهم، حيث يُشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافًا به، وتحقيقًا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة. وقيل: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة.
رُوي أنه يرفع العذاب عن الكفار في تلك المدة، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يومَ القيامة، لأنهم في طول مدتهم في عذاب القبر لا يعقلون.
قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وهو مدة لبثهم، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون في ذلك الوقت قبل وقوعه، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي: أعدلهم رأيًا وأوفاهم عقلاً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم: استرجاع منه تعالى، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ أي: عن مآل أمرها، وقد سأل عنها رجل من ثقيف، وقيل: مشركو مكة، على طريق الاستهزاء، فَقُلْ لهم: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي: يجعلها كالرمل، ثم يُرسل عليها الرياح فتفرقها، أو يقلعها ويطرحها في البحار كالهباء المنثور، فَيَذَرُها أي: يترك ما كان تحتها من الأرض قاعًا(3/419)
صَفْصَفاً أي: أرضًا مستوية لأن الجبال إذا سُويت، وجُعل سطحها مساويًا لسائر أجزاء الأرض، فقد جعل الكل سطْحًا واحدًا. فالضمير فى (فَيَذَرُها) إما للجبال، باعتبار أجزائها السافلة، الباقية بعد النسف، وهي مقارها ومراكزها، وإما للأرض، المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال.
والقاع والقيعة: ما استوى من الأرض وصلُب، وقيل: السهل، وقيل: ما لا نبات فيه. والصفصف: الأرض المستوية الملساء، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة، لا تَرى فِيها أي: في الأرض الذي نسفت جبالُها عِوَجاً أي: اعوجاجًا وانخفاضًا، وَلا أَمْتاً نتوءًا وارتفاعًا. قال ابن عباس: العوج: الأودية، والأمت:
الروابي. وقال مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع والمعنى: أنك، إن تأملت بالمقاييس الهندسية، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية.
يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ نسفت الجبال، يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي: يتبع الناسُ داعي الله تعالى إلى المحشر، وهو إسرافيل عليه السلام، يدعو الناس بعد النفخة الثانية، قائمًا على صخرة بيت المقدس: أيُّها النَّاس هلمُّوا إلى ربكم، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم، قائلاً: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتمزقة، واللحوم المتفرقة قوموا إلى العرض والحساب، فَيُقبلون من كل جانب منتشرين، كأنهم جراد منتشر، لا يدرون أين يذهبون، فَيُنادي حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.
وقوله تعالى: لا عِوَجَ لَهُ أي: لا يعوجُ له مدعو ولا يعدل عنه، فلا يزيغ عنه، بل كلهم يقصدون صوته، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير: لا عوج للصوت عن أحد، بل يصل إليه أينما كان، ويتوجه إليه حيث كان، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي: خضعت وسكنت لهيبته فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي: صوتًا خفيًا. والهمس: صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر، أي: انقطعت أصوات اللسان، فلا تسمع إلا همس الأقدام في مشيها إلى المحشر، من شدة الهيبة والخوف.
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أي: يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الشفاعة، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: ورضي قوله في المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل: (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) في الدنيا، وهو: لا إله إلا الله، مخلصًا من قلبه.. أو: إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه، ورضي لأجله قولاً من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع، وإن وقعت لقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «1» .
__________
(1) الآية 48 من سورة المدَّثِّر.(3/420)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: ما تقدمهم من الأحوال، أو من أمر الدنيا، وَما خَلْفَهُمْ: وما بعدهم مما يستقبلونه، أو من أمر الآخرة، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي: لا تُحيط علومهم بذاته المقدسة، بحيث يدركون كنه الربوبية، أو: لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى. قال القشيري: الكناية «1» في قوله: (بِهِ) ، يحتمل أن تعود إِلى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، ويحتمل أن تعود إلى الحقِّ- سبحانه- وهو طريقة السَّلفَ، يقولون: يُعلَم الحق ولا يحيط به العلم، كما قالوا: إنه يُرى ولا يُدْرَك. هـ.
الإشارة: وقد آتيناك من لدُنَّا ذِكْرًا، أي: قرآنًا يجمع القلوبَ على الله، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه- أي: عن الله- ولم يتوجه إليه بكليته، فإنه يحمل وِزرًا، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين، فيبقى مُخلدًا في حضيض الغافلين، وذلك في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فيُكرم المتقين، ويُهين المجرمين، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.
ويسألونك، أيها العارف، عن جبال العقل، حين تطلع على نور قمره شمسُ العرفان، فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً، فيذر أرض النفس، حين استولت عليها أسرار المعاني، قاعًا صفصفًا، لاتصالها بفضاء المعاني، حين ذهبت أغيار الأواني، لا ترى فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا. وإنما ترى وجودًا متصلاً، وبحرًا طامسًا، ليس فيه بُعدٌ ولا قُرب، ولا علو ولا سفل، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ ... فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً ... بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم يشاهد به سواه ... هناك يهدى إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ ... وَلا مُشِيرَ إلى الخطاب
والمراد بالخلق: جميع الكائنات، فلا خطاب من العبد إلى ربه، لمحو العبد من شدة القرب، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفي الحِكَم: «ما العارفُ مَنْ إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل العارف من لا إشارة له لفنائه في وجوده، وانطوائه في شهوده» . وقالوا: من عرف الله كَلَّ لسانه، وإليه الإشارة بقوله: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً. وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته، من غير عوج عنه، ولا خروج عن رأيه، حتى يقول له: ها أنت وربك. فحيئذ تحصل الهيبة والتعظيم، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته، وهو في حضرة الملك الكريم، وهذا شأن الصوفية، كلامهم كله تخافت وتسارر لغلبة الهيبة عليهم.
__________
(1) أي: الضمير. [.....](3/421)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أي: في دخول الحضرة، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في التربية والترقية، (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) ، وهو ذكر الله، يأمر به من أراد شفاعته فيه، حتى تستولي عليه أنوار الذكر، فيدخل مع الأحباب، ويجلس على بساط الاقتراب، فحيئذ يحصل له العلم بالله، على نعت الذوق والوجدان، وشهود العيان، لا على نعت الدليل والبرهان.
وقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً إشارة إلى عدم الإحاطة بكُنْه الربوبية لمن دخل الحضرة، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنْه لم يبق تَرَقِّ، وكيف؟ وهم يترقون في أسرار الذات وأنوار الصفات دائمًا سرمدًا، في هذه الدار وفي تلك الدار!، ففي كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات، ما تعجز عنه العقول، وتكل عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية، ويُشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها، وتسرح فكرتهم في بحر الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى، ويخوضون في بحار الأحدية، ويتفكرون في قاموس كنه الربوبية، فلا خوف ولا ملل، من غير إحاطة، كما تقدّم. والله تعالى أعلم.
فإذا رجعوا إلى مشاهدة الرسوم خضعت وجوههم للحى القيوم، كما قال تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 111 الى 112]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
قلت: (وَقَدْ خابَ..) الخ: استئنافٌ، تعليلُ ما لأجله عنت وجوههم، أو اعتراض، كأنه قيل: خابوا وخسروا، أو حال من الوجوه، و (مَنْ) : عبارة عنها، مُغنية عن ضميرها، أي: خضعت الوجوه، والحال أنها خابت حين حملت ظلمًا. وقيل: (الْوُجُوهُ) على العموم، فالمعنى حينئذ: وقد خاب من حمل منهم ظلمًا، ومن قرأ: «فلا يخف» : فعلى النهي، وهو جواب، ومن قرأ بالرفع: فعلى الخبر، أي: فهو لا يخاف.
يقول الحق جلّ جلاله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي:
الأسارى في يد الملك القهار، ومنه قيل للأسير: «عانٍ» ، أي: خاضع ذليل، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:
مَليكٌ عَلَى عَرْشِ السماءِ مُهَيْمنٌ ... لِعزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
ولعلها وجوه المجرمين، كقوله تعالى: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» ، ويؤيده وصله بقوله: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي: وعنت الوجوه لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلما.
__________
(1) من الآية 27 من سورة الملك.(3/422)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قال ابن عباس رضي الله عنه: (خسر من أشرك بالله ولم يتب) ، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ... ) الخ، فهو قسيم لقوله: (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ، لا لقوله:
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) .
وإذا حملنا (عَنَتِ) على مطلق الخضوع أو السجود كان عامًا لأن الخلائق كلها تخضع لله في ذلك الوقت. ثم فصلهم: فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي: بعضها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فالإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات، فَلا يَخافُ ظُلْماً أي: منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته، وَلا هَضْماً أي: كسرًا ونقصًا من ثواب حسناته، وأصل الهضم:
النقص والكسر يقال: هضمت لك من حقك، أي: حططت، وهضمت الطعام: حططته إلى أسفل المعدة، وامرأة هضيمة الكشح: أي: ضامرة البطن، فالحق تعالى إنما تعرض لنفي الظلم والهضم عن عامل الصالحات لأن نفي ذلك إنما يكون مع العمل، ففيه يتوهم الهضم والنقص، وأما بدونه فلا.. نعم، الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة، لكن صاحبه على خطر في نفوذ الوعيد، ولو غفر له، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات، كما علم شرعًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا سرحت الفكرة وجالت في أقطار الملكوت وأسرار الجبروت، وتحققت بعدم الإحاطة، رجعت إلى عش العبودية، وخضعت للحي القيوم، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام، حين حمل ظلمًا بالميل إلى الشيء من السِّوى، بغلبة الطبع والهوى، وأما من نهض إلى مولاه، واشتغل بالأعمال التي تقربه إلى حضرته، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا فإن الله يرفع العبد على قدر همته، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحي والتنزيل، كما قال تعالى:
[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
قلت: (وَكَذلِكَ) : عطف على قوله: (كَذلِكَ نَقُصُّ) ، و «ذلك» : إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة.(3/423)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإنزال المتقدم، أَنْزَلْناهُ أي: القرآن كله، وإضماره، من غير سبقية ذكره للإيذان بنباهة شأنه، وكونه مركوزًا في العقول، حاضرًا في الأذهان، حال كونه: قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز، الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر، نازلاً من عند خلاّق القوى والقُدَر. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي: كررنا فيه بعض الوعيد، أو من جنس الوعيد، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: كي يتقوا الكفر والمعاصي بالفعل، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً اتعاظًا واعتبارًا يؤديهم إلى الاتقاء، فَتَعالَى اللَّهُ أي: تعاظم شأنه عما يصفه الكفرة، وتهاون العصاة، الذين لم يُحدث فيهم القرآن زجرًا ولا وعظًا، أي: ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله، الْمَلِكُ لها، النافذ أمره ونهيه، الحقيق بأن يُرجى وعده، ويُخشى وعيده، الْحَقُّ في ألوهيته لذاته، أو الثابت الذي لا يمكن عدمه، أزلاً وأبدًا.
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي: وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا، وصرفنا فيه من الوعيد، فَأَمْهِلْ عند نزوله، حتى يقرأه عليك الملك، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه، ويفرغ من قراءته عليك.
كان صلى الله عليه وسلم، إذا ألقى جبريلُ عليه الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ، فنهى عن ذلك لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ولأنَّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: وقل في نفسك، أو بلسانك: رب زدني علمًا، والمراد: سل الله عزّ وجلّ زيادة العلم به وبأحكامه إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا، يُعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته، وصرفنا فيه من الوعيد، لمن تخلف عن شهوده، بعد كمال ظهوره، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته، أو يُحدث لهم ذكرًا، أي: شوقًا يُزعجهم إلى النهوض إلى حضرته، والوصول إليه، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشيء، أو يتصل به شيء «1» ، وإنما الوصول إليه: العلم بإحاطته ووحدة ذاته.
ولا تعجل، أيها العارف، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام، مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إليك وحيه، فإنَّ الواردات الإلهية تأتي مجملة، وبعد الوعي يكون البيان، (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)
، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية، أي: لا يكن همك استعجالَ الواردات أو بقاءها، وليكن همك استزادةُ العلوم ومعرفة واهبها، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم، والوصول للحي القيوم. وبالله التوفيق.
__________
(1) رحم الله الشيخ ابن عجيبة، وأثابه على هذه الكلمة العظيمة. ولنا أن نفهم منها نفى الحلول والاتحاد، الذي هو مذهب أهل الزيغ والإلحاد.(3/424)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
ثم بيّن تصريف الوعيد على ارتكاب العصيان وبيان منشئه، وهو عداوة الشيطان فقال: (وَلَقَدْ..) إلخ.. أو تقول:
لما نهاه عن العجلة لأجل خوف النسيان، قال له: قد نسى أبوك آدم، فالنسيان من طبع الإنسان، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 121]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)
قلت: يقال: عهد إليه الملك، وأوعد إليه، وتقدم إليه: إذا أمره ووصاه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَقَدْ عَهِدْنا وتقدمنا إِلى آدَمَ من غرور الشيطان وعداوته، ووصيناه ألا يغتر به، فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فلا تغتر بنصحه، فَنَسِيَ ذلك العهد ولم يحتفل به، حتى غفل عنه، واغتر بإظهار نصحه، حتى أكل من الشجرة، متأولاً أن النهي للتنزيه، أو عن عين الشجرة، لا عن جنسها، فأكل من غيرها، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي: ثبات قدم، وحزمًا في الأمور، إذ لو كان كذلك لما غرّه الشيطان بوسوسته، وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره، قبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها، ويذوق شرِّيها وأريها «1» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو وُزنت أحلام بني آدم- أي: عقولهم- بحلم آدم، لرجح حلمه» «2» .
وقيل: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) على الذنب، فإنه أخطأ، أو تأول، ولم يتعمد، وأما قوله: (وَعَصى ... ) فلعلو شأنه وقُربه عُد عصيانًا في حقه، «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .
ثم شرع في بيان المعهود، وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، فقال: وَإِذْ قُلْنا أي: واذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وتعليق الذكر بالوقت، مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة في إيجاب ذكرها، فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه، فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه
__________
(1) الشّرى: الحنظل، والأرى: العسل.
(2) أخرجه ابن جرير فى التفسير (16/ 221) ، وسعيد بن منصور، وابن عساكر، وابن المنذر، كما عزاه لهم السيوطي فى الدر المنثور (4/ 553) عن أبى أمامة الباهلي، موقوفا.(3/425)
بالطريق البرهاني، أي: اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه، حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه، فقد أمرنا الملائكة بالسجود فَسَجَدُوا كلهم إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى السجود واستكبر، أو فعل الإباء وأظهره.
فَقُلْنا عقب ذلك، اعتناء بنصحه، وهو العهد الذي عهدناه إليه: يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي رأيته فَعَلَ ما فعل عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حيث لم يرض بالسجود لك، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي: لا يكونن سببًا لإخراجكما من الجنة، والمراد: نهيهما عن الاغترار به، فَتَشْقى: جواب النهي، أي: فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا، من الجوع والعطش، والفقر والضر، وتعب الأبدان في تحصيل المعاش واللباس، فيكون عيشك من كد يمينك. قال ابن جبير: (اهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يَحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه) . ولم يقل: فتشقيا لأنه غلَّب الذِّكَرَ لأن تعبه أكثر، مع مراعاة الفواصل.
قال تعالى له: إِنَّ لَكَ يا آدم أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى من فقد اللباس، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا:
لا تعطش فِيها، وَلا تَضْحى تبرزُ للشمس فيؤذيك حرها، إذ ليس في الجنة شمس ولا زمهرير. والعدول عن التصريح له بما في الجنة من فنون النِعَم من المآكل والمشارب، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية- مع أن فيها من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى- إلى ما ذكر من نفي نقائضها، التي هي الجوع والعطش والعري والضحو لتنفير تلك الأمور المنكرة ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها، سوى ما استثنى من الشجرة، حسبما نطق به قوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما «1» ، وقد طوي ذكرها هنا اكتفاءً بما في موضع آخر، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، ونفي الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يُعْوزون طعامًا ولا شرابًا ولا كِنَّا، بل كلما تمتعوا بشيء مما ذكر، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة.
قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي: أنهى إليه وسوسته، أو أسرها إليه، قالَ فيها: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ أي: شجرة من أكل منها خلد، ولم يمت أصلاً، سواء كان على حاله، أو بأن يكون ملكا، وَأدلك على مُلْكٍ لا يَبْلى أي: لا يفنى ولا يزول، ولا يَخْتَلُّ بوجه من الوجوه، فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال ابن عباس رضي الله عنه: عَريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما، حتى بدت فروجهما.
وَطَفِقا يَخْصِفانِ يَرْقََعانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وقد تقدم فى الأعراف «2» .
__________
(1) من الآية 35 من سورة البقرة.
(2) راجع تفسير الآية 22 من سورة الأعراف.(3/426)