معنى الآيات:
لقد أنكر كفار مكة أن يكون القرآن وحياً أوحاه الله تعالى وبذلك أنكروا أن يكون محمد رسول الله، ومن هنا ردوا عليه كل ما جاءهم به من التوحيد وغيره، فإيراد هذا القصص يتلوه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لا يقرأ ولا يكتب دال دلالة قطعية على أنه وحي إلهي أوحاه إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بذلك رسوله. فقوله تعالى {وإنه} أي القرآن الذي كذب به المشركون {تنزيل رب العالمين نزل به1 الروح الأمين} جبريل عليه السلام {على2 قلبك} أي الرسول لأن القلب هو الذي يتلقى الوحي إذ هو محط الإدراك والوعي والحفظ، وقوله {لتكون من المنذرين} هو علة لنزول القرآن عليه وبه كان من الرسل المنذرين. وقوله {وإنه لفي زبر الأولين} أي القرآن مذكور في الكتب الإلهية التي سبقته كالتوراة3 والإنجيل. وقوله تعالى {أو لم يكن لهم} أي لكفار قريش {آية} أي علامة على أن القرآن وحي الله وكتابه وأن محمداً عبد الله ورسوله {أن يعلمه علماء بنى إسرائيل} أي علم بني إسرائيل به كعبد الله بن سلام فقد قال والله إني لأعلم أن محمداً رسول أكثر مما أعلم أن فلاناً ولدي، لأن ولدي في الإمكان أن تكون أمه قد خانتني أما محمد فلا يمكن أن يكون غير رسول الله وفيهم قال تعالى {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ومن عرف محمداً رسولاً عرف القرآن وحياً إلهياً.
وقوله تعالى {ولو نزلناه على بعض الأعجمين4} أي وبلسان عربي مبين فكان ذلك آية، وقرأه عليهم الأعجمي، ما كانوا به مؤمنين. أي من أجل الأنفة والحمية إذ يقولون أعجمي وعربي؟ وقوله تعالى: {كذلك سلكناه} أي التكذيب وعدم الإيمان {في قلوب
__________
1 قرأ نافع وحفص وغيرهما {نزل} بالتخفيف، و {الروح} مرفوع على الفاعلية وقرأ بعض {نزّل} بالتضعيف و {الروح} منصوب على المفعولية والفاعل هو الله جل جلاله، والباء في (به) للمصاحبة.
(على) : حرف استعلاء وكون القرآن نزل به جبريل على قلب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دال على تمكن وصول الوحي واستقراره في القلب. نحو: {على هدى من ربهم} وقد روى البخاري في صفة الوحي فقال عن عائشة: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول".
3 جاء في التوراة قال لي الرب {أي لموسى} أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به. فالمراد من إخوة بني إسرائيل هم العرب. وفي الإنجيل: وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً (أي رسولاً) آخر لمكث معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.
4 وكذلك لو أنزله على أعجمي بلغته لاعتذروا بأنهم لا يفهمون عنه، والمراد من الأعجمي: هو من لا يحسن اللغة العربية وإن كان عربياً، والعجمي من أصله عجمي ولو أجاد اللغة العربية.(3/683)
المجرمين} أي كما سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين لو قرأ القرآن عليهم أعجمي سلكناه أي التكذيب في قلوب المجرمين إن قرأه عليهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلة في ذلك هي أن الإجرام على النفس بارتكاب عظائم الذنوب من شأنه أن يحول بين النفس وقبول الحق لما ران عليها من الذنوب وأحاط بها من الخطايا. وقوله {لا يؤمنون به} تأكيد لنفي الإيمان حتى يروا العذاب الأليم أي يستمر تكذيبهم بالقرآن والمنزل عليه حتى يروا العذاب الموجع، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم ولا هم ينظرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير معتقد الوحي الإلهي والنبوة المحمدية.
2- بيان أن جبريل هو الذي كان ينزل بالوحي القرآني على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- تقرير النبوة المحمدية وأن محمداً من المنذرين.
4- بيان أن القرآن مذكور في الكتب1 السابقة بشهادة علماء هل الكتاب.
5- إذا تراكمت آثار الذنوب والجرائم على النفس حجبتها عن التوبة ومنعتها من الإيمان.
فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
__________
1 ومذكور من نزل عليه وهو محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإقامته له فيهم كما تقدم في المثلين المذكورين أحدهما من التوراة والثاني من الإنجيل.(3/684)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
شرح الكلمات:
هل نحن منظرون: أي ممهلون لنؤمن. والجواب قطعاً: لا لا..
أفرأيت: أي أخبرني.
إن متعناهم سنين: أي أبقينا على حياتهم يأكلون ويشربون وينكحون.
ما كانوا يوعدون: أي من العذاب.
ما أغنى عنهم: أي أي شيء أغنى عنهم ذلك التمتع الطويل لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه.
إلا لها منذرون: أي رسل ينذرون أهلها عاقبة الكفر والشرك.
ذكرى: أي عظة.
وما تنزلت به الشياطين: أي لا يتأتى لهم ولا يصلح لهم أن يتنزلوا به.
وما يستطيعون: أي لا يقدرون.
إنهم عن السمع: أي لكلام الملائكة لمعزولون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير النبوة المحمدية واثبات الوحي. لقد جاء في السياق أن المجرمين لا يؤمنون بهذا القرآن حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون أي لا يعلمون به حتى يفاجئهم. فيقولون حينئذ: {هل نحن منظرون} أي يتمنون1 به أن لو يمهلوا حتى يؤمنوا ويصلحوا ما أفسدوا.
وقوله تعالى {أفبعذابنا يستعجلون} عندما قالوا للرسول {لن نؤمن لك حتى تننزل علينا كسفاً من السماء} أي قطعاً، أحُمق هم أم مجانين يستعجلون عذاب الله الذي إن جاءهم كان فيه حتفهم أجمعين؟ ثم قال لرسوله: {أفرأيت} يا رسولنا {إن متعناهم سنين} بأن أطلنا أعمارهم ووسعنا في أرزاقهم فعاشوا سنين عديدة ثم جاءهم عذابنا أي
__________
1 ذكر القرطبي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ: {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتّعون} ويقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم
ولا أنت في النوم بناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
كما سرّ باللذات في النوم حالهم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبّه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم(3/685)
أخبرني هل يغني ذلك التمتع عنهم شيئاً؟ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون أي لم يغن عنهم شيئاً لا بدفع العذاب ولا بتأخيره ولا بتخفيفه.
وقوله تعالى {وما أهلكنا من قرية1} كتلك القرى التي مر ذكرها في هذه السورة {إلا لها منذرون} أي كان لها رسل ينذرون أهلها عقاب الله إن أصروا على الشرك والكفر والشر والفساد. وقوله {وذكرى2} أي عظة لعلهم يتعظون. وقوله {وما كنا ظالمين} في إهلاك من أهلكنا بعد أن أنذرنا.
ونزل رداً على المشركين المجرمين الذين قالوا إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد كما يأتون للكهان بأخبار السماء. {وما تنزلت به الشياطين3} كما يزعم المكذبون {وما ينبغي لهم} أي للشياطين أي لا يصلح لهم ولا يتأتى منهم ذلك لأنهم معزولون عن السماع، أي سماع كلام الملائكة إذ أرصد الله تعالى شهباً حالت بينهم وبين السماع ومن السماع فلذا دعوى المشركين باطلة من أساسها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن المجرمين إذا شاهدوا العذاب تمنوا التوبة ولا يمكنون منها.
2- بيان أن استعجال عذاب الله حمق ونزغ في الرأي وفساد في العقل.
3- بيان أن طول العمر وسعة الرزق لا يغنيان عن صاحبها شيئاً من عذاب الله إذا نزل به.
4- بيان سنة الله تعالى في أنه لا يهلك أمة إلا بعد الإنذار والبيان.
5- إبطال مزاعم المشركين في أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان، وأن الشياطين تتنزل به
فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
__________
1 {من قرية} من: صلة أي زائدة لتقوية الكلام وتأكيده لأن زيادة المبنى تزيد في المعنى كذا يقال.
2 ذكرى: يسمع إعرابها حالاً ومصدراً وخبراً.
3 قرأ محمد بن السميع وما تتنزلت به الشياطون وردّ عليه ولم يقبل منه ولحلة نظر إلى أن الشيطان مشتق من شاط يشيط, والصواب أنه من شطن لا من شاط.(3/686)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
شرح الكلمات:
فلا تدع مع الله إلهاً آخر: أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر، لأن الدعاء هو العبادة.
وأنذر عشيرتك الأقربين: وهم بنو هاشم وبنو عبد لمطلب.
وخفض جناحك: أي ألن جانبك.
فإن عصوك: أي أبوا قبول دعوتك إلى التوحيد، ورفضوا ما تدعوهم إليه.
فقل إني بريء مما تعملون: أي من عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
الذي يراك حين تقوم: أي إلى الصلاة فتصلي متهجداً بالليل وحدك.
وتقلبك في الساجدين: أي ويرى تقلبك مع المصلين راكعاً ساجداً قائماً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قريش قوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقوله تعالى {فلا تدع مع1 لله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} فيه إيحاء وإشارة واضحة بأنه تعريض بالمشركين الذين يدعون آلهة أصناماً وهي دعوة توقظهم من نومتهم إنه إذا كان رسول الله ينهى عن عبادة غير الله وإلا يعذب مع المعذبين فغيره من باب أولى فكأن الكلام جرى على حد إياك أعني واسمعي يا جارة!! وقوله تعالى {وأنذر عشيرتك2 الأقربين} أمر من الله لرسوله أن يخص أولاً بإنذاره قرابته لأنهم أولى بطلب النجاة لهم من العذاب، وقد امتثل الرسول أمر ربه فقد ورد في الصحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما أنزل عليه {وأنذر3
__________
1 إن الخطاب وإن كان في السياق ما يدل على أنه موجه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه صالح لكل من يسمعه.
2 الجملة معطوفة على التي قبلها وهي, {فلا تدع مع الله إلهاً آخر} إذ نهاه عن الشرك وأمره أن يُنذر أقرباءه منه لأنه لا فلاح معه.
3 في هذه الآية دليل على أن القرب في الأنساب مع البعد في الأسباب ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر لإرشاده ونصحه. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّ لكم رحماً سأبلّها ببلالها".(3/687)
عشيرتك الأقربين} قال "يا معشر1 قريش اشتروا أنفسكم من الله " يعني بالإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي " فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله أي من عذابه شيًء, يا عباس بن عبد المطلب ,لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ً.
وقولي تعالى {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} أمره أن يلين جانبه للمؤمنين وأن يعطف عليهم ويُطايبهم ليرسخ الإيمان في قلوبهم ويسلموا من غائلة الردة فيما لو عوملوا بالقسوة والشدة وهم في بداية الطريق إلى الله تعالى وقوله تعالى {فإن عصوك} أي من أمرت بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته وخلع الأنداد والتخلي عن عبادتها {فقل إني بريء مما تعملون} أي من عبادة غير الله تعالى وغير راض بذلك منكم ولا موافق عليه لأنه شرك حرام وباطل مذموم. وقوله تعالى {وتوكل على2 العزيز} أي الغالب القاهر الذي لا يمانع في شيء يريده الرحيم بالمؤمنين من عباده، والأمر بالتوكل هنا ضروري لأنه أمره بالبراءة من الشرك والمشركين وهي حال تقتضي عداوته والكيد له بل ومحاربته ومن هنا وجب التوكل3 على الله والاعتماد عليه، وإلا فلا طاقة له بحرب قوم وهو فرد واحد وقوله {الذي يراك حين تقوم} أي في صلاتك وحدك {وتقلبك في الساجدين4} ويرى تقلبك قائماً وراكعاً وساجداً مع المصلين من المؤمنين، بمعنى أنه معك يسمع ويرى فتوكل عليه ولا تخف غيره وامض في دعوتك ومفاصلتك للمشركين. وقوله {إنه هو السميع العليم} تقرير لتلك المعية الخاصة إذ السميع لكل صوت والعليم بكل حركة وسكون يحق للعبد التوكل عليه وتفويض الأمر إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد، وحرمة دعاء غير الله تعالى من سائر مخلوقاته لأنه الشرك الحرام.
__________
1 رواه مسلم وغيره بألفاظ فيها بعض الاختلاف.
2 قرأ نافع {فتوكل} بالفاء وقرأ غيره بالواو، وكلا الحرفين عاطف فالفاء عاطفة على قوله: {فقل إني بريء مما تعملون} وهي للتفريع أيضاً والواو عاطفة على جواب الشرط وهو {إني بريء مما تعملون} .
3 التوكل: تفويض المرء أمره إلى من يكفيه مهمه وما دام لا كافي إلا الله وجب إذاً التوكل عليه عز وجل.
4 في الآية دليل على مشروعية صلاة الجماعة وتأكدها واضح.(3/688)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
2- من مات يدعو غير الله فهو معذب لا محالة مع المعذبين.
3- تقرير قاعدة البدء بالأقارب في كل شيء لأنهم ألصق بقريبهم من غيرهم.
4- مشروعية لين الجانب والتواضع للمؤمنين لاسيما الحديثو عهد بالإسلام.
5- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
6- وجوب التوكل على الله والقيام بما أوجبه الله تعالى.
7- فضل قيام الليل وصلاة الجماعة لما يحصل للعب من معية الله تعالى.
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)
شرح الكلمات
أنبئكم: أي أخبركم.
أفاك أثيم: أي كذاب يقلب الكذب فيكون إفكاً أثيم غارق في الآثام.
يلقون السمع: أي يلقون أسماعهم ويصغون أشد الإصغاء للشياطين فيتلقون منهم مما أكثره كذب وباطل.
الغاوون: جمع غاو: الضال عن الهدى الفاسد القلب والنية.
في كل واد: أي من أودية الكلام وفنونه.
يهيمون: أي يمضون في كل شعب وواد من الكلام مدحاً أو ذماً كان صدقا ً أو كذباً.
يقولون ما لا يفعلون: أي يقولون فعلنا وهم لم يفعلوا.
وانتصروا من بعد ما ظلموا: أي قالوا الشعر انتصارا ً للحق بأن ردوا على من هجا المسلمين.(3/689)
أي منقلب ينقلبون: أي مرجع يرجعون بعد الموت وهو دار البوار جهنم.
معنى الآيات:
لما ادعى المبطلون من مشركي قريش أن الرسول يتلقى من الشياطين كما تتلقى الكهان منهم رد تعالى عليهم بقوله {هل أنبئكم1 على من تنزل الشياطين؟} وأجاب عن السؤال قائلاً {تنزل على كل أفاك} كذاب يقلب الكذب قلباً فيقول في الظالم عادل، وفي الخبيث طيب، وفي الفاسد صالح، {أثيم} أي كثير الآثام إذ لم يترك جريمة إلا يقارفها ولا سيئة إلا يجترحها حتى يغرق في الإثم فهذا الذي تتحد معه الشياطين وتلفي إليه بما تسمعه من السماء لكونه مثلها في ظلمة النفس وخبث الروح، وأما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أبعد الناس عن الكذب والإثم فلم يجرب عليه كذب قط ولم يعرف منه ذنب أبداً فكيف تتحد معه الشياطين وتخبره وتلقي إليه بخبر السماء؟ وبهذا بطلت التهمة وقوله {يلقون2 السمع وأكثرهم3 كاذبون} أي إن الشياطين قبل أن يحال بينهم وبين استراق السمع بإرصاد الشهب لهم كانوا يلقون أسماعهم للحصول على الخبر وأكثرهم كاذبون حيث يخلطون مع الكلمة التي سمعوها مائة كلمة كلها كذب منهم ويلقون ذلك الكذب إلى إخوانهم في الكفر والخبث من كهنة الناس.
وقوله تعالى {والشعراء يتبعهم الغاوون} أي أهل الغواية والضلال هم الذين يتبعون الشعراء فيروون لهم وينقلون عنهم، ويصدقونهم فيما يقولون. والدليل على ذلك {أنهم} أي الشعراء {في كل واد} من أودية الكلام وفنونه {يهيمون} على وجوههم
__________
1 هذا الاستفهام صوري واختير له هل لإفادتها التحقيق كقد وهو يحمل التعريض بأنّ المستفهم عنه مما يسوءهم فلذا استفهموا في هذا السؤال {هل أنبئكم} ؟
2 وجائز أن يكون من يلقون السمع: الكهان، إذ هم يلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتنزل عليهم شياطينهم بالخبر وذلك من إفكهم، وعليه فجملة: {يلقون السمع} صفة {لكل أفاك أثيم} وما في التفسير عليه الكثيرون وكلا المعنيين وارد وصحيح.
3 أي: أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين فبعضهم لا يتلقى شيئاً وإنما يدعي ذلك، والبعض يتلقى قليلاً فيزيد عليه أضعافه، وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء قيل: يا رسول الله فإنهم يحدثون يكون حقا ً فقال: تلك الكلمة من الحق يخطفها المجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة".(3/690)
ماضين في قولهم فيمدحون ويذمون، يهجون، ويفخرون، ويدعون أنهم فعلوا كذا وكذا وما فعلوا فهل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي اتهمتموه بأنه شاعر وما يقوله من جنس الشعر أتباعه1 غاوون انظروا إليهم واسألوا عنهم فإنهم أهدى الناس وأبرهم فعلاً وأصدقهم حديثاً وأبعدهم عن الريبة، فلو كان محمد شاعراً وما لكان أتباعه الغاوين فبذا بطلت الدعوى من أساسها.
وقوله {إلا الذين2 آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظلموا} إنه لما ذم الشعراء، استثنى منهم أمثال: عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت ممن آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا يردون هجاء المشركين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينافحون عن الإسلام وأهله بشعرهم الصادق النقي الطاهر الوفي.
وقوله تعالى {وسيعلم الذين ظلموا} رسول الله باتهامه بالكهانة مرة وبالشعر مرة أخرى وظلموا الوحي الإلهي بوصفه بما هو بعيد عنه من الكهانة والشعر {أي منقلب ينقلبون} أي أي مرجع يرجعون إليه، إنه النار وبئس القرار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال فرية المشركين من أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان.
2- إبطال أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاهن وشاعر.
3- بيان أن الشياطين تتحد مع ذوي الأرواح الخبيثة بالإفك والآثام.
4- بيان أن الشعراء المبطلين أتباعهم في كل زمان ومكان الغاوون الضالون.
5- جواز نظم الشعر وقوله في تقرير علم أو تسجيل3 حكمة، أو انتصار4 للإسلام والمسلمين بالرد على من يهجوا الإسلام والمسلمين.
6- التحذير من عاقبة الظلم فإنها وخيمة.
__________
1 من كان أتباعه غاوين لا يكون هو إلاّ غاوياً بل أشد غواية.
2 في الآية دليل على جواز دراية الشعر الحسن فقد روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوماً لعمر بن الشريد: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قال: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتاً فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت.
3 روى عن ابن سيرين أنه أنشد شعراً فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر؟ فقال: ويلك يالكع: وهل الشعر إلاّ كلاما ً لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
4 من شعر نصرة الحق قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي بين يديه وذلك يوم الفتح:
خلو بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم عن تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقبله
ويذهل الخليل عن خليله
ومنه قول حسان:
هجوت محمداً فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
أتشتمه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالدتي وعرضي
عرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدره الدَّلاءُ(3/691)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
المجلد الرابع
سورة النمل
مكية
وآياتها ثلاث وتسعون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
شرح الكلمات:
طس: هذا أحد الحروف المقطّعة، يقرأ: طا. سين.
تلك: أي الآيات المؤلفة من هذه الحروف آيات القرآن.
هدى وبشرى: أي أعلام هداية للصراط المستقيم، وبشارة للمهتدين.
زيّنا لهم أعمالهم: أي حببناها إليهم حسب سنتنا فيمن لا يؤمن بالبعث والجزاء.
فهم يعمهون: في ضلال بعيد وحيرة لا تنتهي.
لهم سوء العذاب: أي في الدنيا بالأسر والقتل.
معنى الآيات:
قوله تعالى {طس} لقد سبق أن ذكرنا أن السلف كانوا يقولون في مثل هذه الحروف المقطعة: الله أعلم بمراده بذلك، وهذه أسلم، وذكرنا أن هناك فائدة قد تقتنص من(4/4)
الإشارة بتلك أو بذلك، وهي أن القرآن المعجز الذي تحدى به مُنَزله عز وجل الإنس والجن قد تألف من مثل هذه الحروف العربية فألفوا أيها العرب مثله سورة فأكثر فإن عجزتم فآمنوا أنه كلام الله ووحيه واعملوا بما فيه ويدعو إليه.
وقوله {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ (1) } أي المؤلفة من مثل هذه الحروف آيات القرآن {وَكِتَابٍ مُبِينٍ (2) } أي مبين لكل ما يحتاج إلى بيانه من الحق والشرع في كل شؤون الحياة.
وقوله {هُدىً وَبُشْرَى (3) لِلْمُؤْمِنِينَ} أي هادٍ إلى الصراط المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى السعادة والكمال في الدارين، {وَبُشْرَى} أي بشارة عظمى للمؤمنين أي بالله ولقائه والرسول وما جاء به، {الَّذِينَ (4) يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} بأدائها في أوقاتها في بيوت الله تعالى مستوفاة الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} عند وجوبها عليهم {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ} أي بالدار الآخرة {هُمْ يُوقِنُونَ} بوجودها والمصير إليها، وبما فيها من حساب وجزاء.
وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي بالبعث والجزاء {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي حببناها إليهم حتى يأتوها وهي أعمال شر وفساد، وذلك حسب سنتنا فيمن أنكر البعث وأصبح لا يرهب حسابا ولا يخاف عقابا انغمس في الرذائل والشهوات وأصبح لا يرعوي عن قبيح {فَهُمْ} لذلك {يَعْمَهُونَ} في سلوكهم يتخبطون لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أي في الدنيا بالأسر والقتل، وهم في الآخرة (5) هم الأكثر خساراً من سائر أهل النار أي أشد عذابا.
__________
1- عرّف الكتاب ونكّر القرآن وهما في معنى المعرفة كما يقال: فلان رجل عاقل، وفلان الرجل العاقل، والكتاب هو القرآن فجُمع له صفتان تفخيما وتعظيما فهو قرآن وهو كتاب، والكتاب: علم على القرآن بالغلبة، والقرآن علم بالنقل.
2- (مبين) إن كان من أبان اللازم فهو بمعنى بان أي: فهو ظاهر واضح بيّن في نفسه وفي هذا تنويه وتشريف له، وإن كان من أبان المتعدي فهو مبيّن لما أريد منه من أركان العقيدة وأنواع العبادات وأحكام الشريعة وآدابها.
3- هدى وبشرى: حال، والإعراب مقدر أشار إلى القرآن حال كونه هادياً ومبشراً للمؤمنين به العاملين بما فيه من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق.
4- الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة الموصول وصلته وما عطف عليه نعت للمؤمنين وصفٌ لهم بما تضمنه لفظ الهدى، وجملة: {وهم بالآخرة هم يوقنون} معطوفة على صلة الموصول فهي نعت ثانٍ للمؤمنين الذين هدوا بالقرآن.
5- قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة} هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة موقع جواب عن سؤال تقديرهُ: إذا كان القرآن هاديا ومبشراً فما للذين لا يؤمنون بالآخرة لم يهتدوا؟ فالجواب: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّن الله لهم أعمالهم لذا فهم لا يهتدون، وتزيين الأعمال قائم على سنة من سنن الله تعالى وهي أنّ من رفض الحق وآثر الباطل عليه وأصرّ على اختيار الباطل يحرم الهداية فلا يقبلها ممن جاءه بها كالقرآن والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/5)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إعجاز القرآن إذ آياته مؤلفة من مثل طس، وحم وعجز العرب عن تأليف مثله.
2- بيان كون القرآن، هدى وبشرى للمؤمنين الملتزمين بمتطلبات الإيمان.
3- إنكار البعث والدار الآخرة يجعل صاحبه شر الخليقة وأسوأ حالا من الكلاب والخنازير.
4- وجوب قتال الملاحدة وأخذهم أسراً وقتلاً حتى يؤمنوا بالله ولقائه لأنهم خطر على أنفسهم وعلى البشرية سواء.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
شرح الكلمات:
وإنك لتلقى: أي تلقنه وتحفظه وتعلمه.
من لدن حكيم: أي من عند حكيم عليم هو الله جل جلاله.
آنست ناراً: أي أبصرت ناراً من بعد حصل لي بها بعض الأنس.
سآتيكم منه بخبر: أي عن الطريق حيث ضلوا طريقهم إلى مصر في الصحرا.
بشهاب قبس: أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.(4/6)
لعلكم تصطلون: أي تستدفئون.
أن بورك من في النار: أي بارك الله جل جلاله من في النار وهو موسى عليه السلام إذ هو في البقعة المباركة التي نادى الله تعالى موسى منها.
وسبحان الله رب العالمين: أي نزه الرب تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله من صفات المحدثين.
يا موسى إنه أنا الله: أي الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم الذي ناداك وباركك.
تهتز كأنه جان: أي تتحرك بسرعة كأنها حية خفيفة السرعة.
ولم يعقب: أي ولم يرجع إليها خوفا وفزعا منها.
ثم بدل حسنا بعد سوء: أي تاب فعمل صالحا بعد الذي حصل منه من السوء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى (1) الْقُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} يخبر تعالى رسوله بأنّه يلقّن القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره عليم بخلقه وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.
وقوله تعالى {إِذْ قَالَ مُوسَى} اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك إذ قال موسى إلى آخر الحديث، هل مثل هذا يكون بغير التلقي من الله تعالى. والجواب: لا إذاً فأنت رسول الله حقا وصدقاً {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} امرأته وأولاده {إِنِّي آنَسْتُ (2) نَاراً} أي أبصرتها مستأنسا بها. {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ (3) قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (4) } أي تستدفئون إذ كانوا في ليلة شاتية باردة وقد ضلوا طريقهم.
__________
1- قال القرطبي: هذه الآية بسط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه وهو كما قال.
2- {إني آنست نارا} أي: أبصرتها من بعد قال الشاعر:
آنست نبأة وأفرز عنها القناص عصرا وقد دنا الإمساءُ
3- قرأ عاصم {بشهاب قبس} بتنوين شهاب، وقرأ نافع {بشهاب} بلا تنوين مضاف إلى قبس، والإضافة للنوع كثوب خَزٍّ وخاتم فضة.
4- الاصطلاء: الاستدفاء من البرد، قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطل(4/7)
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي النار {نُودِيَ (1) } أي ناداه ربه تعالى قائلا: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي تقدس من في النار التي هي نور الله جل جلاله. وهو موسى عليه السلام ومن حولها من أرض القدس والشام، والله أعلم بمراده من كلامه وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه فاغفر اللهم ذنبنا وارحم عجزنا وضعفنا إنك غفور رحيم، وقوله تعالى {وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} نزه تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله وقوله {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي الذي يناديك هو الله ذو الألوهية على خلقه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في قضائه وتدبيره وتصريف ملكه. بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه، أمره أن يلقي العصا تمرينا له على استعمالها فقال {وَأَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها فاهتزت كأنها جان أي حية خفيفة السرعة {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى (2) مُدْبِراً} أي رجع القهقرى فزعا وخوفا {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع إليها خوفا منها فناداه ربه تعالى {يَا مُوسَى (3) لا تَخَفْ} من حية ولا من غيرها {إِنِّي لا يَخَافُ (4) لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} {إِلَّا (5) مَنْ ظَلَمَ} أي نفسه باقتراف ذنب من الذنوب فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف لأني غفور رحيم فأغفر له وأرحمه. طمأن تعالى نفس موسى بهذا لأن موسى كان شاعراً بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته، وإن كان القتل خطأ إلا أنه تجب فيه الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- مشروعية السفر بالأهل والولد وجواز خطأ الطريق حتى على الأنبياء والأذكياء.
3- قيومية الرجل على النساء والأطفال.
__________
1- عن وهب بن منبه قال: فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها: العُليق فعجب منها ... {ونودي أن بورك من في النار ومن حولها}
2- أي: خائفا على عادة البشر.
3- الاستثناء منقطع أي: لكن يخاف من ظلم، ومن ظلم ثم تاب فلا يخاف أيضا فإن الله غفور رحيم.
4- هذا مقول قول أي: يا موسى لا تخف.
5- الجملة تعليل للنهي في قوله: {يا موسى لا تخف} .(4/8)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
1- تجلي الرب تعالى لموسى في البعقة المباركة ومناجاته وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد.
2- الظلم يسبب الخوف والعقوبة إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم.
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
شرح الكلمات:
في جيبك: أي جيب ثوبك.
من غير سوء: أي برص ونحوه بل هو (البياض) شعاع.
في تسع آيات: أي ضمن تسع آيات مرسلاً بها إلى فرعون.
مبصرة: مضيئة واضحة مشرقة.
وجحدوا بها: أي لم يقروا ولم يعترفوا بها.
واستيقنتها أنفسهم: أي أيقنوا أنها من عند الله.
ظلما وعلوا: أي ردوها لأنهم ظالمون مستكبرون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع موسى في حضرة ربه عز وجل بجانب الطور إنه لما أمره بإلقاء العصا فألقاها فاهتزت وفزع موسى لذلك فولى مدبراً ولم يعقب خائفاً فطمأنه ربه تعالى بأنه لا يخاف لديه المرسلون أمره أن يدخل يده في جيبه فقال {وَأَدْخِلْ (1) يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} أي في جيب القميص {تَخْرُجْ (2) بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير برص بل هو
__________
1- هذا الكلام معطوف على قوله: (وألق عصاك) وما بينهما اعتراض.
2- هذه آية أخرى غير الأولى.(4/9)
بياض إشراق يكاد يذهب بالأبصار {فِي تِسْعِ (1) آيَاتٍ} أي ضمن تسع آيات مرسلاً بها إلى فرعون وقومه، وبين تعالى علة ذلك الإرسال فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن الاعتدال إلى الغلو والإسراف في الشر والفساد وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ (2) آيَاتُنَا} يحملها موسى مبصرة مضيئة واضحة دالة على صدق موسى في دعوته، رفضوها فلم يؤمنوا بها، و {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، أي الذي جاء به موسى من الآيات هو سحر بين لا شك فيه قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي جحدوا بالآيات وكذبوا وتيقنتها أنفسهم أنها آيات من عند الله دالة على رسالة موسى وصدق دعوته في المطالبة ببني إسرائيل وقوله ظلماً وعلوا أي حملهم على التكذيب والإنكار مع العلم هو ظلمهم واستكبارهم فإنهم ظالمون مستكبرون. وقوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ (3) كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر يا رسولنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف كان عاقبة المفسدين وهي إهلاكهم ودمارهم أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- آية اليد هي إحدى الآيات التسع التي أوتي موسى عليه السلام دليلا على وجود الآيات التي كان الله تعالى يؤيد بها رسله فمن أنكرها فقد كفر.
2- التنديد بالفسق واستحقاق أهله العذاب في الدارين.
3- الكبر والعلو في الأرض صاحبهما يجحد الحق ولا يقر به وهو يعلم أنه حق.
4- عاقبة الفساد في الأرض بالمعاصي سوءى، والعياذ بالله تعالى.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
__________
1- التسع آيات هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع والدم، والقحط، وانفلاق البحر، وهو من أعظمها.
2- {فلما جاءتهم} الخ أوجز بقية القصة وانتقل إلى العبرة بتكذيب فرعون وقومه بالآيات ليعتبر بذلك كفار قريش المكذبون بآيات الله ورسوله.
3- الخطاب لغير معيّن ويجوز أن يكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له وحملاً له على الصبر من تكذيب قومه له وإصرارهم على الكفر به.(4/10)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
شرح الكلمات:
علمنا: هو علم ما لم يكن لغيرهم كمعرفة لغة الطير إلى جانب علم الشرع كالقضاء ونحوه.
وقالا الحمد لله: أي شكراً له.
على كثير من عباده المؤمنين: أي بالنبوة وتسخير الجن والإنس والشياطين.
وورث سليمان داوود: أي ورث أباه بعد موته في النبوة والملك والعلم دون باقي أولاده.
علمنا منطق الطير: أي فهم أصوات الطير وما تقوله إذا صفرت.
وأوتينا من كل شيء: أوتيه غيرنا من الأنبياء والملوك.
وحشر لسليمان: أي جمع له جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له.
فهم يوزعون: أي يساقون ويرد أولهم إلى آخرهم ليسيروا في نظام.
لا يحطمنكم سليمان: أي لا يكسرنكم ويقتلنكم.
وهم لا يشعرون: أي بكم.(4/11)
أوزعني أن أشكر: أي ألهمني ووفقني لأن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص داوود وسليمان عليهما السلام ذكر بعد أن أخبر تعالى أنه يلقن رسوله محمداً ويعلمه من لدنه وهو العليم الحكيم ودلل على ذلك بموجز قصة موسى عليه السلام ثم ذكر دليلاً آخر وهو قصة داوود وسليمان، فقال تعالى {لَقَدْ آتَيْنَا} أي أعطينا داوود وسليمان {عِلْماً} أي الوالد والولد علماً خاصاً كمعرفة منطقة الطير وصنع الدروع وإلانة الحديد زيادة على علم الشرع والقضاء (1) ، وقوله تعالى {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي شكرا ربهما بقولهما {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي الشكر لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين بما آتاهما من الخصائص والفواضل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (14) وأما الآية الثانية (15) فقد أخبر تعالى فيها أن سليمان ورث أباه داوود وحده دون باقي أولاده (2) وذلك في النبوة والملك، لا في الدرهم والدينار والشاة والبعير، لأن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه هو صدقة (3) . كما أخبر أن سليمان قال في الناس (4) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ (5) الطَّيْر} فما يصفر طير إلا علم ما يقوله في صفيره، وأوتينا من كل شيء أوتيه غيرنا من النبوة والملك والعلم والحكمة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي فضل الله تعالى البين الظاهر. وقوله تعالى {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُه} أي جمع له جنوده {مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْر فَهُمْ يُوزَعُونَ} هو إخبار عن مسير كان لسليمان مع جنده {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي جنوده توزع تساق بانتظام. بحيث لا يتقدم بعضها بعضا فيرد دائما أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على واد النمل بالشام فقالت نملة من النمل {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قالت هذا
__________
1- وآتى داود الزبور وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله وأن نعمة العلم من أجّل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من المؤمنين.
2- قيل: إنّ داود كان له تسعة عشر ولداً فورث سليمان من بينهم نبوّته وملكه ولو كان وارثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء والزمن بين سليمان ونبينا كان قرابة ألف وثمانمائة سنة.
3- قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة" حديث صحيح.
4- أي في بني إسرائيل قال هذا على جهة الشكر لنعم الله تعالى.
5- مما يؤثر عن سليمان عليه السلام في معرفة منطق الطير: (لدوا للموت وابنوا للخراب) "لورشان" نوع من الحمام البري أكدر (ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا) "لفاختة" نوع من الحمام البري له طوق (من لا يرحم لا يرحم) "لهدهد" (استغفروا الله يا مذنبين) "لصرد" (قدموا خيرا تجدوه) "لخطافة" (اللهم العن العشار) "للغراب" (كل شيء هالك إلا وجهه) "للحدأة" (من سكت سلم) "للقطاة" (ويل لمن الدنيا همه) "للقطاة" (سبحان ربي القدوس) "للضفدع" (اذكروا الله يا غافلين) "للديك".(4/12)
رحمة وشفقة على بنات جنسها تعلم البشر الرحمة والشفقة والنصح لبني جنسهم لو كانو يعلمون، واعتذرت لسليمان وجنده بقولها وهم لا يشعرون بكم وإلا لما داسوكم ومشوا عليكم حتى لا يحطمونكم. وما إن سمعها سليمان وفهم كلامها (1) حتى تبسم ضاحكا من قولها {وَقَالَ رَبِّ} أي يا رب {أَوْزِعْنِي (2) } ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ (3) الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} أي يسر لي عملاً صالحاً ترضاه مني، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي في جملتهم في دار السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر على النعم.
2- وراثة سليمان لداوود لم تكن في المال لأن الأنبياء لا يورثون وإنما كانت في النبوة والملك.
3- آية تعليم الله تعالى سليمان منطق الطير وتسخير الجن والشياطين له.
4- فضل النمل على كثير من المخلوقات ظهر في نصح النملة لأخواتها وشفقتها عليهن.
5- ذكاء النمل وفطنته مما أضحك سليمان متعجبا منه.
6- وجوب الشكر عند مشاهدة النعمة ورؤية الفضل من الله عز وجل.
7- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا الحديث لا يتأتى له إلا بالوحي الإلهي.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ
__________
1- قد اختلف في هل كان سليمان يعلم غير منطق الطير من سائر الحيوان، والذي عليه الأكثرون أنه كان يعلم أصوات سائر الحيوانات ومن ذلك النمل، قال ابن العربي: من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم من النبات فكان الشجر يقول له: أنا شجر كذا أنفع من كذا وأضر من كذا فما ظنك بالحيوان؟
2- الوزع: الكف عما لا يراد، والوازع: الذي يكف غيره عما لا ينبغي، وفعله: وزع يزع وزعا، فإذا زيدت فيه همزة السلب فقيل: أوزع أي: أزال الوزع الذي هو الكف، فقوله في الآية: {فهم يوزعون} أي يكفون أفراد القوات عن التقدم والتأخر حتى يكون السير منتظما. وقوله: {أوزعني أن أشكر نعمتك} أي: أبعد عني ما يمنعني من شكرك على نعمك. فصار أوزعني كألهمني وأغرني.
3- قال تعالى: {لئن شكرتم لزيدنكم} وقال بعضهم: النعمة وحشيّة قيدوها بالشكر فإنها إذا شكرت قرّت وإذا كفرت فرّت، وقال آخر: من لم يشكر النعمة فقد عرضها لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.(4/13)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
شرح الكلمات:
وتفقد الطير: أي تعهدها ونظر فيها.
مالي لا أرى الهدهد: أعرض لي ما منعني من رؤيته أم كان من الغائبين؟
لأعذبنه عذابا شديدا: أي بنف ريشه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام.
بسلطان مبين: أي بحجة واضحة على عذره في غيبته.
فمكث غير بعيد: أي قليلا من الزمن وجاء سليمان متواضعا.
أحطت بما لم تحط به: أي اطلعت على ما لم تطلع عليه.
وجئتك من سبأ: سبأ قبيلة من قبائل اليمن.
إني وجدت امرأة: هي بلقيس الملكة.
ولها عرش عظيم: أي سرير كبير.
فصدهم عن السبيل: أي طريق الحق والهدى.
ألا يسجدوا لله: أصلها أن يسجدوا أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله.
وزيدت فيها "لا" وأدغمت فيها النون فصارت ألا نظيرها لئلا
يعلم أهل الكتاب من آخر سورة الحديد.(4/14)
يخرج الخبء في السموات والأرض: أي المخبوء في السموات من الأمطار والأرض من النبات.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه السلام قوله تعالى {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ (1) } أي تفقد سليمان جنده من الطير طالبا الهدهد لأمر عنّ له أي ظهر وهو يتهيأ لرحلة هامة، فلم يجده فقال ما أخبر تعالى به عنه: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ (2) } ألعارض عرض لي فلم أره، {أَمْ (3) كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أي بل كان من الغائبين، {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تأكله فلا يمتنع منها {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} بقطع حلقومه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة واضحة على سبب غيبته. قوله تعالى الآية (21) {فَمَكَثَ} أي الهدهد {غَيْرَ (4) بَعِيدٍ} أي زمنا قليلا، وجاء فقال في تواضع رافعا عنقه مرخيا ذنبه وجناحيه {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت على ما لم تطلع عليه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ (5) بِنَبَأٍ يَقِينٍ} وسبأ قبيلة من قبائل اليمن، والنبأ اليقين الخبر الصادق الذي لا شك فيه. وأخذ يبين محتوى الخبر فقال {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً} هي بلقيس {تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} من أسباب القوة ومظاهر الملك، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير ملكها الذي تجلس عليه وصفه بالعظمة لأنه مرصع بالجواهر والذهب، وقوله {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ} أخبر أولا عن أحوالهم الدنيوية وأخبر ثانيا عن أحوالهم الدينية وقوله {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي الباطلة الشركية {فَصَدَّهُمْ} بذلك {عَنِ السَّبِيلِ} أي سبيل الهدى والحق فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا (6) لله الذي يخرج الخبء (7) أي المخبوء فهو
__________
1- (تفقد) بمعنى بحث عن الفقد أي: عدم الوجود أو بحث عن سبب عدم الوجود.
2- من خواص الهدهد أنه يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع عُلم أن به ماء، ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله مع ثلاثة وهي: (الضفدع، والنحل، والصرد) خرجه أبو داود وصححه. ونهى عن قتل النمل إلا أن يضّر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل.
3- (أم) هي المنقطعة التي بمعنى: بل، ولا تخلو من معنى الاستفهام إذ التقدير: بل أكان من الغائبين.
4- أي: مكث في غيابه زمنا غير بعيد أو في مكان غير بعيد.
5- اسم رجل و: غبشمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقب بسبأ لأنه أول من سبى في غزوه، وأطلق هنا سبأ على ديار قبيلة سبأ لأن من ابتدائية أي لابتداء الأمكنة غالبا.
6- {ألا يسجدوا} أصلها أن لا يسجدوا فأدغمت أن في لا النافية فصارت ألا، والمضارع منصوب بأن المدغمة في لا، ولذا تعيّن تقدير لام جر يتعلق بـ {فصدهم عن السبيل} أي: زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم لأجل أن لا يسجدوا. وما في التفسير من التقدير أوضح أيضا.
7- الخبء: مصدر خبأ الشيء: إذا أخفاه، أطلق على اسم المفعول أي: المخبوء من اجل المبالغة في الإخفاء.(4/15)
من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في السموات من أمطار والأرض من نباتات، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفوسهم، وما يعلنون عنه بألسنتهم الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. وصف الرب تعالى بالعرش العظيم ليقابل وصف بلقيس به، وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية استعراض الجيوش وتفقد أحوال الرعية.
2- مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي.
3- مشروعية اتخاذ طائرات الاستكشاف ودراسة جغرافية العالم.
4- تحقيق قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان.
5- بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس إذ سجودهم لها عبادة.
6- بيان أن الأحق بالعبادة هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
7- مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها: {اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (:28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)(4/16)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
شرح الكلمات:
سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين: أي بعد اختبارنا لك.
فألقه إليهم: أي إلى رجال القصر وهم في مجلس الحكم.
ثم تول عنهم: أي تنح جانبا متواريا مستترا عنهم.
فانظر ماذا يرجعون: أي ماذا يقوله بعضهم لبعض في شأن الكتاب.
يا أيها الملأ: أي يا أشراف البلاد وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها.
ألقي إلي كتاب كريم: أي ألقاه في حجرها الهدهد.
ألا تعلوا علي: أي لا تتكبروا انقيادا للنفس والهوى.
وائتوني مسلمين: أي منقادين خاضعين.
معنى الآيات:
{قَالَ سَنَنْظُرُ (1) } أي قال سليمان للهدهد بعد أن أدلى الهدد بحجته (2) على غيبته سننظر باختبارنا لك {أَصَدَقْتَ} فيما ادعيت وقلت {أَمْ كُنْتَ (3) مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي من جملتهم. وبدأ اختباره فكتب كتابا وختمه وقال له {اذْهَبْ بِكِتَابِي (4) هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنح جانبا مختفيا عنهم {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} من القول في شأن الكتاب أي ما يقول بعضهم لبعض في شأنه، وفعلاً ذهب الهدهد بالكتاب ودخل القصر من كوة فيه وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس فارتاعت له وقرأته ثم قالت {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} مخاطبة أشراف قومها {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة، ولأنه مختوم وختم الكتاب كرمه ونصّ الكتاب كالتالي [من عبد الله سليمان بن داوود إلى
__________
1- من الجائز أن يكون سليمان قد خشي أن يكون الكلام الذي سمعه من الهدهد ألقى به الشيطان على الهدهد ليضلل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة، فلذا قال عليه السلام {سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} .
2- في الآية دليل على أن الحاكم يجب عليه أن يقبل عذر المواطن ويدرأ العقوبة عنه بظاهر حاله وباطن عذره، وفي الصحيح: "ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل" وللحاكم أن يمتحن المواطن المعتذر حتى يعرف عذره.
3- {أم كنت} بمعنى: أنت
4- في الآية دليل على وجوب إرسال الكتب إلى المشركين ودعوتهم إلى الإسلام وتبليغهم دعوة الله عز وجل، وقد كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قيصر وكسرى والمقوقس وغيرهم.(4/17)
بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من ابتع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين] .
ومضمونه ما ذكرته الملكة بقولها: {إِنَّهُ مِنْ (1) سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ومعنى إنه من سليمان أي صادر منه وأنه مكتوب مرسل بسم الله الرحمن الرحيم أي بإذنه وشرعه ألا تعلوا علي أي لا تتكبروا على الحق فإني بسم الله أطلبكم وأئتوني مسلمين أي خاضعين منقادين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم.
2- مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم.
3- مشروعية إرسال العيون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده.
4- مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة (2) ذات البال لدلالتها على توحيد الله
تعالى وأنه رحمن رحيم، وأن الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
__________
1- قال القرطبي: الأحسن اليوم بأن يقدّم في الكتاب اسم المكتوب إليه قبل إسم الكاتب لأن البداية باسمه تعد استخفافا بالمكتوب إليه وتكبراً عليه، ومراده أن يكتب الكاتب هكذا إلى حضرة فلان ... من فلان ... وتقديم اسم الكاتب هو ما عليه السلف الصالح.
2- روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى رد الكتاب واجباً كرد السلام ولا يسقط إلا من عذر لا سيما إذا سلّم صاحب الكتاب فإن ردّ السلام واجب بلا خلاف.(4/18)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
شرح الكلمات:
أفتوني في أمري: بينوا لي فيه وجه الصواب، وما هو الواجب اتخاذه إزاءه.
ما كنت قاطعة أمرا: أي قاضيته.
حتى تشهدون: أي تحضروني وتبدوا رأيكم فيه.
وأولوا بأس شديد: أي أصحاب قوة هائلة مادية وأصحاب بأس شديد في الحروب.
إذا دخلوا قرية: أي مدينة وعاصمة ملك.
أفسدوها: أي خربوها إذا دخلوها عنوة بدون مصالحة.
وكذلك يفعلون: أي وكالذي ذكرت لكم يفعل مرسلو هذا الكتاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي (1) فِي أَمْرِي} أي أشيروا علي بما ترونه صالحا {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً (2) أَمْراً} أي قاضية باتّةً فيه {حَتَّى (3) تَشْهَدُونِ} أي تحضروني وتبدوا فيه وجهة نظركم. فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} عسكرية من سلاح وعتاد وخبرة {وَأُولُو بَأْسٍ (4) شَدِيدٍ} عند خوضنا المعارك {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي (5) مَاذَا تَأْمُرِينَ} به فأمري ننفّذ إنا طوع يديك.
فأجابتهم بما حكاه الله تعالى عنها {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} أي مدينة عنوة بدون صلح. {أَفْسَدُوهَا} أي خربوا معالمها وبدلوا وغيروا فيها، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} بضربهم وإهانتهم وخلعهم من مناصبهم. {وَكَذَلِكَ} أصحاب هذا الكتاب {يَفْعَلُونَ} {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ (6) بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أي الذين نرسلهم من
__________
1- الإفتاء: الإخبار بالفتوى وهي: إزالة مشكل يعرض، والأمر: الحال المهم وإ ضافته إلى نفسها، لأنها المخاطبة في كتاب سليمان، ولأنها المضطلعة بشؤون الدولة ولذا يقال للحاكم وعالم الدين: وليّ الأمر.
2- {قاطعة أمرا} عاملة عملا لا تردد فيه بالعزم على أن تجيب به سليمان.
3- حذفت ياء المتكلم منه تخفيفا، وحذفت نون الرفع للناصب وبقيت نون الوقاية والمراد من شهودهم: موافقتهم لها على ما تعزم عليه إزء الكتاب.
4- البأس: الشدة على العدو، ومنه {وحين البأس} أي: في مواقع القتال في جوابهم هذا تصريح بأنهم مستعدون للحرب دفاعا عن مملكتهم.
5- فوّضوا الأمر إليها لثقتهم بأصالة رأيها وخبرتها السياسية.
6- دبرت أن تتفادى الحرب بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بالهدية مصحوبة بكتاب ووفد، وعلى ضوء عودة الوفد تتصرف في الأمر.(4/19)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قبول الهدية ورفضها وعلى ضوء ذلك نتصرف فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم أصحاب دنيا، وإن رفضوها فهم أصحاب دين، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم، ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ الشورى في الحكم.
2- مشروعية إبداء الرأي بصدق ونزاهة ثم ترك الأمر لأهله.
3- مشروعية إعداد العدة وتوفير السلاح وتدرب الرجال على حمله واستعماله.
4- دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة.
5- بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها ولذا ورثت عرش أبيها.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
شرح الكلمات:
فلما جاء سليمان: أي رسول الملكة يحمل الهدية ومعه أتباعه.(4/20)
فما آتاني الله خير مما آتاكم: إنه أعطاني النبوة والملك وذلك خير مما أعطاكم من المال فقط.
بهديتكم (1) تفرحون: لحبكم للدنيا ورغتبكم في زخارفها.
ارجع إليهم: أي بما أتيت به من الهدية.
بجنود لا قبل لهم بها: أي لا طاقة لهم بقتالها.
ولنخرجنهم منها: أي من مدينتهم سبأ المسماة باسم رجل يقال له سبأ.
أذلة وهم صاغرون: أي إن لم يأتوني مسلمين أي منقادين خاضعين.
قبل أن يأتوني مسلمين: فإنّ لي أخذه قبل مجيئهم مسلمين لا بعده.
قال عفريب من الجن: أي جني قوي إذ القوي الشديد من الجن يقال له عفريت.
قبل أن تقوم من مقامك: أي من مجلس قضائك وهو من الصبح إلى الظهر.
وإني عليه لقوي أمين: أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها.
وقال الذي عنده علم من الكتاب: أي سليمان عليه السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع سليمان وملكة سبأ إنه لما بعثت بهديتها تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين، لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه السلام، فلما جاء سليمان، جاءه سفير الملكة ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ (2) بِمَالٍ؟ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} آتاني النبوة والعلم والحكم والملك فهو خير مما آتاكم من المال {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ (3) تَفْرَحُونَ} وذلك لحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها. وقال لرسول الملكة {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أي بما أتيت به من الهدية، وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا (4) } أي لا قدرة لهم على قتالهم، {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أي من مدينتهم سبأ {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي خاضعون منقادون. ثم قال سليمان عليه السلام لأشراف دولته
__________
1- الهدية: منها ما هو حرام ومنها ما هو مكروه ومنها ما هو مباح أو مندوب، فالهدية الحرام: التي تُهدى للحكام والقضاة ليحكموا لصاحبها والهدية المكروهة: هدية الكافر والهدية المباحة أو المندوب إليها: هدية المؤمن لأخيه المؤمن للمودة والحب، لحديث مالك وفيه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء" الشحناء العدواة والبغضاء.
2- أي: أتزيدونني إلى ما تشاهدونه من أموالي، والاستفهام للإنكار وقرأ الجمهور: {أتمدونني} بنونين. وقرأ بعضٌ بنون واحدة مشددة.
3- (بل) للاضراب الانتقالي من الإنكار عليهم إلى ردّ هديتهم إليهم.
4- الضمير في (بها) عائد على الجنود والضمير في (منها) عائد إلى مدينتهم وهي مأرب أو سبأ على مراحل قليلة من صنعاء.(4/21)
وأعيان بلاده {أَيُّهَا الْمَلأُ (1) أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فإني لا آخذه إلا قبل مجيئهم مسلمين لا بعده. فنطق عفريت من الجن قائلاً بما أخبر تعالى عنه به {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي مجلس قضائك والذي ينتهي عادة بنصف النهار، {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي قادر على حمله والإتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم وأمين على ما فيه من جواهر وذهب لا يضيع منه شيء. وهنا {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ (2) } وهو سليمان عليه السلام {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فافتح عينيك وانظر فلا يعود إليك طرفك إلا والعرش بين يديك، وسأل ربه باسمه الأعظم الذي ما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديه {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً} بين يديه لهج قائلا {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي علي فلم يكن لي به يد أبدا {لِيَبْلُوَنِي} بذلك {أَأَشْكُرُ} نعمته علي {أَمْ أَكْفُرُها} {وَمَنْ شَكَرَ (3) } فلنفسه أي عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها {وَمَنْ كَفَرَ} أي النعمة {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي عن شكره وليس مفتقراً إليه، كريم قد يكرم الكافر للنعمة فلا يسلبها كلها منه أو يبقيها له على كفره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أهل الآخرة لا يفرحون بالدنيا، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة.
2- استعمال أسلوب الإرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق.
3- تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن وأنهم يخدمونه في أصعب الأمور.
4- استجابة الله تعالى لسليمان فأحضر له العرش من مسافة شهرين أي من اليمن إلى الشام قبل ارتداد طرف
الناظر إذا فتح عينه ينظر.
5- وجوب رد الفضل إلى أهله فسليمان قال {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} والجهال يقولون بثورتنا الخلاقة، وأبطالنا
البواسل.
6- وجوب الشكر، وعائدته تعود على الشاكر فقط، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها
وذلك لحلمه تعالى وكرمه.
__________
1- هذا استئناف ابتدائي أي: كلام غير مرتبط بما سبقه بنوع من الارتباط قريب.
2- قال القرطبي: "جمهور المفسرين: أن الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن بريخا وقيل: هو سليمان عليه السلام، بقرينة قوله: هذا من فضل ربي، قال ابن عطية وقالت فرقة وهو سليمان عليه السلام. والمخاطبة في هذا التأويل للعفريب لما قال أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وكأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على وجه التحقير أنا آتيك به ... الخ. قيل: يا حي يا قيوم: هو الاسم الأعظم.
3- الشكر: قيد النعمة الموجودة وبه تنال النعمة المفقودة.(4/22)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
شرح الكلمات:
قال نكروا لها عرشها: أي غيروا هيأته وشكله حتى لا يعرف إلا بصعوبة.
أتهتدي: أي إلى معرفته.
أهكذا عرشك: شبهوا عليها إذ لو قالوا هذا عرشك لقالت نعم.
قالت كأنه هو: فشبّهت عليه فقالت كأنه هو.
وصدها ما كانت تعبد من دون الله: أي صرفها عن عبادة الله مع علمها وذكائها ما كانت تعبد من دون الله.
ادخلي الصرح: أي بهو الصرح إذ الصرح القصر العالي وفي بهوه بركة ماء كبيرة مغطاة بسقف زجاجي يرى وكأنه ماء.
فكشفت عن ساقيها: ظانة أنها تدخل ماء تمشي عليه فرفعت ثيابها.
حسبته لجة: أي من ماء غمر يجري.
صرح ممرد من قوارير: أي مملس من زجاج.(4/23)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن أحتاطت لعرشها أيّما احتياط. إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف (1) فأمر رجاله أن يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف إلا بصعوبة كما قال عليه السلام {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} إلى معرفته {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} لضعف عقولهم. فلما جاءت {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا (2) عَرْشُكِ} فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم {فقَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} إذ لو قالت: هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ (3) مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التي قالها. وقوله {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ} اتباعا لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله. {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها أسماك كثيرة وللماء موج، وسقف البركة مملس من زجاج، ومع سليمان جنوده من الإنس والجن يحوطون به ويحفون من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح (4) لأن سليمان الملك يدعوها {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماء {وَكَشَفَتْ (5) عَنْ سَاقَيْهَا} فقال لها سليمان {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} أي مملّس {مِنْ قَوَارِيرَ} زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبهذا أصبحت مسلمة صالحة. ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئاً
__________
1- قيل إن الجن قالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل فلذا أمر بتنكير عرشها ليختبر عقلها، وقالوا له: إن رجلها كرجل حمار فلذا امتحنها بدخول بهو الصرح لتكشف عن ساقها فيعرف ما قالت الجن عنها.
2- الاستفهام للتقرير مع الاختبار وهو المقصود.
3- اختلف هل قول: {وأوتينا العلم} من قول سليمان أو أحد رجالاته أو هو من قول بلقيس، والراجح أنه من قول سليمان عليه السلام.
4- (الصرح) البناء العالي: تقدم أن الجن هم الذين قالوا لسليمان إن رجل بلقيس رجل حمار وطلبوا اختبارها وهم الذين صنعوا بركة الماء في بهو الصرح.
5- ذكر القرطبي هنا حكايات أكثرها منقول عن أهل الكتاب منها: أن الجن أول من صنعوا النورة لإزالة شعر الجسم، وأن سليمان عليه السلام أول من صنع الحمامات، وهذا يرفع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر قولين أحدهما أن سليمان نزوج بلقيس وآخر: لم يتزوجها.(4/24)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
فلنسكت عما سكت عنه القرآن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز اختبار الأفراد إذا أريد إسناد أمر لهم لمعرفة قدرتهم العقلية والبدنية.
2- بيان حصافة عقل بلقيس ولذا أسلمت ظهر ذلك في قولها {كأنه هو}
3- مضار التقليد وما يترتب عليه من التنكير للعقل والمنطق.
4- حرمة كشف المرأة ساقيها حتى لو كانت كافرة فكيف بها إذا كانت مسلمة.
5- فضيلة الائتساء بالصالحين كما ائتست بلقيس بسليمان في قولها {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
شرح الكلمات:
أن اعبدوا الله: أي بأن اعبدوا الله.
فريقان يختصمون: أي طائفتان مؤمنة موحدة وكافرة مشركة يختصمون.
تستعجلون بالسيئة: أي تطالبون بالعذاب قبل الرحمة.(4/25)
لولا تستغفرون الله: أي هلا تطلبون المغفرة من ربكم بتوبتكم إليه.
قالوا اطيرنا بك: أي تشاءمنا بك وبمن معك من المؤمنين.
قال طائركم عند الله: أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه.
بل أنتم قوم تفتنون: أي تختبرون بالخير والشر.
تسعة رهط: أي تسعة رجال ظلمة.
تقاسموا بالله: أي تحالفوا بالله أي طلب كل واحد من الثاني أن يحلف له.
لنبيتنه وأهله: أي لنقتلنه والمؤمنين به ليلا.
ما شهدنا مهلك أهله: أي ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} هذا بداية قصص صالح عليه السلام مع قومه ثمود لما ذكر تعالى قصص سليمان مع بلقيس ذكر قصص صالح مع ثمود وذلك تقريراً لنبوة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضع المشركين من قريش أمام أحداث تاريخية تمثل حالهم مع نبيهم لعلهم يذكرون فيؤمنوا قال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ} أي قبيلة ثمود {أَخَاهُمْ} أي في النسب {صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا} أي قال لهم اعبدوا الله أي وحدوه {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} موحدون ومشركون {يَخْتَصِمُونَ (1) } فريق يدعو إلى عبادة الله وحده وفريق يدعو إلى عبادة الأوثان مع الله وشأن التعارض أن يحدث التخاصم كل فريق يريد أن يخصم الفريق الآخر. وطالبوا صالحا بالآيات {وَقَالُوا ائتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَادِقِينَ} في أنك رسول إلينا مثل الرسل فرد عليهم وقال {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ (2) بِالسَّيِّئَةِ} أي تطالبونني بعذابكم {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} فالمفروض أن تطالبوا بالحسنة التي هي الرحمة لا السيئة التي هي العذاب. إن كفركم ومعاصيكم هي سبيل عذابكم، كما أن إيمانكم وطاعتكم هي سبيل نجاتكم وسعادتكم فبادروا بالإيمان والطاعة طلبا لحسنة الدنيا والآخرة. إنكم بكفركم ومعاصيكم تستعجلون عذابكم {لَوْلا (3) } أي هلا
__________
1- من الخصومة ما قصه الله تعالى في سورة الأعراف في قوله: {أتعلمون أن صالحاً مرسلٌ من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} .
2- الاستفهام إنكاري، و (السيئة كالحسنة) صفة لمحذوف، والتقدير لم تستعجلون بالحال السيئة قبل الحال الحسنة؟
3- (هلا) أداة تحضيض حضهم نبيهم على التوبة بالاستغفار والاقلاع عن الشرك والمعاصي رجاء أن يرحمهم الله تعالى فلا يعذبهم في الدنيا ولا في الآخرة.(4/26)
{تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ} بترككم الشرك والمعاصي {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي كي ترحموا. بعد هذا الوعظ والإرشاد كان جواب القوم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله {قَالُوا اطَّيَّرْنَا (1) بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي تشاءمنا بك وبأتباعك المؤمنين لك، فرد عليهم بقوله {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ} أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه وهو كائن لا محالة، وليست القضية تشاؤما ولا تيامنا {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} وقوله تعالى {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي مدينة الحجر حجر ثمود تسعة رجال {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ (2) } بالكفر والمعاصي {وَلا يُصْلِحُونَ} وهم الذين تمالؤوا على عقر الناقة ومن بينهم قُدَار بن سالف الذي تولى عقر الناقة. هؤلاء التسعة نفر قالوا لبعضهم بعضا في اجتماع خاص {تَقَاسَمُوا بِاللهِ} أي ليقسم كل واحد منكم قائلا والله {لَنُبَيِّتَنَّهُ} أي صالحا {وَأَهْلَهُ} أي أتباعه، أي لنأتينهم ليلا فنقتلهم، ثم في الصباح {لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي لولي دم صالح من أقربائه، والله {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ولا مهلكه {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما نقسم عليه من أنّا لم نشهد مهلك صالح ولا مهلك أصحابه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل.
3- حرمة التشاؤم والتيامن كذلك، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير.
4- العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض.
5- تقرير أن المشركين يؤمنون بالله ولذا يحلفون به، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لشركهم في عبادة الله تعالى
غيره من مخلوقاته.
__________
1- كانت العرب أكثر الناس تطيرا {واطيرنا} في الآية أصلها: تطيّرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجها من الطاء وأدغمت في الطاء، وجيء بهمزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن، والتطير معناه: التشاؤم وهو مأخوذ من الطير تطير يمينا أو شمالا فيتيمنون بذلك أو يتشاءمون.
2- الأرض: أرض ثمود وأل فيها: للعهد والرهط: العدد من الثلاثة إلى العشر كالنفر ومن بين هؤلاء: قُدار بن سالف: عاقر الناقة.(4/27)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
شرح الكلمات:
ومكروا مكرا: أي دبروا طريقة خفية لقتل صالح والمؤمنين.
ومكرنا مكرا: أي ودبرنا طريقة خفية لنجاة صالح والمؤمنين وإهلاك الظالمين.
وهم لا يشعرون: بأنا ندبر لهم طريق هلاكهم.
بيوتهم خاوية: أي فارغة ليس فيها أحد.
بما ظلموا: أي بسبب ظلمهم وهو الشرك والمعاصي.
لآية: أي عبرة.
وأنجينا الذين آمنوا: أي صالحا والمؤمنين.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَمَكَرُوا مَكْراً} (1) هذا نهاية قصص صالح مع ثمود تقدم أن تسعة رهط من قوم صالح تقاسموا على تبييت صالح والمؤمنين وقتلهم ليلا ليحولوا في نظرهم دون وقوع العذاب الذي واعدهم به صالح وأنه نازل بهم بعد ثلاثة أيام، وهذا مكرهم وطريقة تنفيذه أنهم أتوا صالحا وهو يصلي في مسجد له تحت الجبل فسقطت عليهم صخرة من الجبل فأهلتكهم أجمعين وهكذا مكر الله بهم وهم لا يشعرون به، ثم أهلك الله القوم كلهم
__________
1-أُكد كلّ من مكر الله تعالى ومكرهم بالمصدر إشارة إلى تعظيم كل من المكرين والمكر: التبيّت الخفي لإرادة السوء بالممكور به فعاملهم الله تعالى بما عزموا على فعله مع صالح وأهله.(4/28)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وهو معنى قوله تعالى {فَانْظُرْ (1) كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} أي انظر يا رسولنا كيف كانت نهاية ذلك المكر وعاقبته {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ (2) وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ (3) خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالشرك وظلمهم صالحا والمؤمنين. وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي الإهلاك للرهط التسعة ولثمود قاطبة {لآية} أي علامة على قدرة الله وعلمه وحسن تدبيره {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إذ هم الذين يرون الآية ويدركونها.
وقوله تعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (4) } يريد صالحاً والمؤمنين الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً وبصالح نبياً ورسولاً. وكانوا طوال حياتهم يتقون عقاب الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .
2- تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب فالظلم يذر الديار بلا قع.
3- تقرير أن الإيمان والتقوى هما سبب النجاة لأن ولاية الله للعبد تتم بهما.
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
شرح الكلمات:
ولوطا: أي واذكر لقومك لوطاً إذ قال لقومه.
__________
1- النظر هنا: قلبي ليس بصرياًّ لعدم وجود الهلكى بين يدي الناظر.
2- قرئ (إنا) بكسر الهمزة على الاستئناف البياني، وقرئ: (أنا) بفتح الهمزة، فمن فتح الهمزة لا يحسن له الوقف على مكرهم، ومن كسر الهمزة جاز له الوقف على مكرهم.
3- بيوتهم المنحوتة من الجبال ما زالت إلى اليوم، وقد وقفنا عليها وهي عجب في فن البناء والنحت.
4- زيادة كان في قوله: {وكانوا يتقون} للدلالة على أنهم كانوا متمكنين من التقوى التي هي فعل المأمور واجتناب الشرك المنهي عنه من اعتقاد وقول وعمل وصفة.(4/29)
لقومه: هم سكان مدن عمورية وسدوم.
الفاحشة: أي الخصلة القبيحة الشديدة القبح وهي اللواط.
وأنتم تبصرون: أذ كانوا يأتونها في أنديتهم عيانا بلا ستر ولا حجاب.
قوم تجهلون: أي قبح ما تأتون وما يترتب عليه من خزي وعذاب.
معنى الآياتين:
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه اللوطيين فقال تعالى {وَلُوطاً (1) } أي واذكر كما ذكرت صالحا وقومه اذكر لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ (2) } منكراً عليهم موبخا مؤنبا لهم على فعلتهم الشنعاء {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي قبحها وشناعتها ببصائركم وبأبصاركم حيث كانوا يأتونها علناً وعياناً وهم ينظرون وقوله {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ (3) الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أي لا للعفة والإحصان ولا للولد والإنجاب بل لقضاء الشهوة البهيمية فشأنكم شأن البهائم لا غير. وفي نفس الوقت آذيتم نساءكم حيث تركتم إتيانهن فهضمتم حقوقهن. وقوله تعالى {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (4) } أي قال لهم لوط عليه السلام أي ما كان ذلك الشر والفساد منكم إلا لأنكم قوم سوء جهلة بما يجب عليكم لربكم من الإيمان والطاعة وما يترتب على الكفر والعصيان من العقاب والعذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه قوم لوط من الفساد والهبوط العقلي والخلقي.
2- تحريم فاحشة اللواط وأنها أقبح شيء وأن فاعلها أحط من البهائم.
3- بيان أن الجهل بالله تعالى وما يجب له من الطاعة، وبما لديه من عذاب وما عنده من نعيم مقيم هو سبب كل
شر في الأرض وفساد. ولذا كان الطريق إلى إصلاح البشر هو
__________
1- أي: اذكر لوطاً أو: أرسلنا لوطا، الكل محتمل وجائز.
2- هم أهل سدوم وعمورية.
3- أعاد ذكرها لفرط قبحها وشناعتها، والاستفهام للإنكار والتقبيح لفعلتهم الشنعاء.
4- {تجهلون} : إمّا أمر التحريم أو العقوبة، ووصفهم بالجهل، وهو اسم جامع لأحوال أفن الرأي وقساوة القلب وعماه، ووصفهم في الأعراف بالإسراف وذلك نظراً إلى تعدد مواقف الوعظ والإرشاد.(4/30)
تعريفهم بالله تعالى حتى إذا عرفوه وآمنوا به أمكنهم أن يستقيموا في الحياة على منهج الإصلاح المهيء للسعادة والكمال.(4/31)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
الجزء العشرون
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
شرح الكلمات:
فما كان جواب قومه: أي لم يكن لهم من جواب إلا قولهم أخرجوا.
آل لوط: هم لوط عليه السلام وامرأته المؤمنة وابنتاه.
من قريتكم: أي مدينتكم سَدوم.
يتطهرون: أي يتنزهون عن الأقذار والأوساخ.
قدرناها من الغابرين: أي حكمنا عليها أن تكون من الهالكين.
فساء مطر المنذرين: أي قبح مطر المنذرين من أهل الجرائم أنه حجارة من سجيل.
معنى الآيات:
هذه بقية قصص لوط عليه السلام إنه بعد أن أنكر لوط عليه السلام على قومه فاحشة اللواط وأنَّبَهم عليها، وقبّح فعلهم لها أجابوه مهددين له بالطرد والإبعاد من القرية كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي لم يكن لهم من جواب يردون به على لوط عليه السلام {إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم} أي إلا قولهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} . وعللوا لقولهم هذا بقولهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ (1) يَتَطَهَّرُون} . أي يتنزهون عن الفواحش. قالوا هذا تهكماً، لا إقراراً منهم على أن الفاحشة قذر يجب التنزه عنه. ولما بلغ بهم الحد إلى تهديد نبي الله لوط عليه السلام بالطرد والسخرية منه أهلكهم الله تعالى وأنجى لوطاً وأهله إلا إحدى امرأتيه وكانت عجوزا كافرة وهو معنى قوله تعالى في الآية (57) {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (2) } حكمنا ببقائها مع الكافرين لتهلك معهم. وقوله تعالى في الآية (58) {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً} هو بيان لكيفية إهلاك قوم لوط بأن
__________
1- أي: عن أدبار الرجال استهزاءً منهم: قاله مجاهد، وقال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء.
2- {من الغابرين} قال ابن كثير: أي من الهالكين مع قومها لأنها كانت ردءًا على دينهم وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم.(4/32)
أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود فأهلكهم. {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (1) } أي قبح هذا المطر من مطر المنذرين الذين كذبوا بما أنذروا به وأصروا على الكفر والمعاصي. وهذا المطر كان بعد أن جعل الله عاليَ بلادهم سافلها، أردف خسفها بمطرٍ من حجارة لتصيب من كان بعيداً عن المدُن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة أن الظلمة إذا أعيتهم الحجج والبراهين يفزعون إلى القوة.
2- بيان سنة أن المرء إذا أدْمن على قبح قول أو عمل يصبح غير قبيح عنده.
3- سنة إنجاء الله أولياءه وإهلاكه أعداءه بعد إصرار المنذَرين على الكفر والمعاصي.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ
__________
1- الذين قامت عليهم الحجة ووصل إليهم الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهمّوا بإخراجه من بينهم.(4/33)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
شرح الكلمات:
اصطفى: أي اختارهم لحمل رسالته وإبلاغ دعوته.
آلله خير: أي لمن يعبده.
حدائق ذات بهجة: أي بساتين ذات منظر حسن لخضرتها وأزهارها.
يعدلون: أي بربهم غيره من الأصنام والأوثان.
جعل الأرض قراراً: أي قارة ثابتة لا تتحرك ولا تضطرب بسكانها.
وجعل خلالها أنهاراً: أي جعل الأنهار العذبة تتخللها للشرب والسقي.
وجعل لها رواسي: أي جبالاً أرساها بها حتى لا تتحرك ولا تميل.
بين البحرين حاجزا: أي فاصلاً لا يختلط أحدهما بالآخر.
ويكشف السوء: أي الضر، المرض وغيره.
قليلا ما تذكرون: أي ما تتعظون إلا قليلا.
بُشراً بين يدي رحمته: أي مبشرة بين يدي المطر إذ الرياح تتقدم ثم باقي المطر.
أمن يبدأ الخلق ثم يعيده: أي يبدؤه في الأرحام، ثم يعيده يوم القيامة.
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين: أي حجتكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر فعل ما ذكر.
معنى الآيات:
لما أخبر الله تعالى رسوله بإهلاك المجرمين ونجاة المؤمنين أمر تعالى رسوله أن يحمده على ذلك تعليماً له ولأمته إذا تجددت لهم نعمة أن يحمدوا الله تعالى عليها ليكون ذلك من شكرها قال تعالى {قُلِ الْحَمْدُ (1) لِلَّهِ} أي الوصف بالجميل لله استحقاقا.
__________
1- قال بعضهم: المأمور بالحمد هنا: لوط عليه السلام ورد وهو الحق أن المأمور به هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/34)
{وَسَلامٌ (1) عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى (2) } الله لرسالته وإبلاغ دعوته إلى عباده ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا على ذلك في الحياتين.
وقوله تعالى: {آللَّهُ (3) خَيْرٌ أَمَّا (4) يُشْرِكُونَ} أي آالله الخالق الرازق المدبر القوي المنتقم من أعدائه المكرم لأوليائه؛ عبادته خير لمن يعبده بها أم عبادة من يشركون. فقوله {أَمَّنْ (5) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي لحاجتكم إليه غسلا وشربا وسقيا {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أي بساتين محدقة بالجدران والحواجز {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي حسن وجمال، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي لم يكن في استطاعتكم أن تنبتوا شجرها {أَإِلَهٌ (6) مَعَ اللهِ} لا والله {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي يشركون بربهم أصناما ويسوّونها به في العبادات. وقوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً (7) } أي قارة ثابتة لا تتحرك بسكانها ولا تضطرب بهم فيهلكوا. {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} أي فيما بينها. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي جبالاً تثبتها، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والملح {حَاجِزاً} (8) حتى لا يختلط الملح بالعذب فيفسده.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ؟} والجواب: لا والله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولو علموا لما أشركوا
__________
1- أصل السلام: السلامة والأمن ثابتان لمن يسلم عليه عند ملاقاته إذ قد يكون بينهما إحن فكان لفظ السلام كالعهد بالأمان، وقيل: السلام عليكم: كانت تحية البشر في عهد آدم عليه السلام.
2- قال بعضهم: الذين اصطفوا هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: هم الصحابة ورد هذا بما هو الحق وهو (أن الذين اصطفوا) هم: رسل الله عليهم السلام وفي الآية تعليم أدب رفيع وهو أن من افتتح كلامه مذكرا أو واعظا أو معلما دارسا يفتتح كلامه بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- (آالله) الاستفهام تقريري وهو إلجاء المخاطب إلى الإقرار، وخير هنا: ليست بمعنى أفضل، إذ لا خير البتة في آلهة المشركين وإنما من باب إيهام الخصم بأنه يعترف له بما يعتقده من خير في إلهه، حتى يصغي ويسمع ويتأمل عَلّه يهتدي أو هو مثل قول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
4- (أمّا) أصلها: أم المعادلة للهمزة وما: الموصولية أدغمت فيها أم فصارت أمّا والعائد محذوف تقديره: تشركونها، أي آلهتهم بالله تعالى.
5- (أم) المنقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي من الاستفهام التهكمي للاستفهام التقريري أي: الذي خلق السموات وما عطف عليها خير وأحق بالعبادة.
6- هذا استئناف كالنتيجة للكلام قبلها لأن إثبات الخلق والرزق لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه، والاستفهام إنكاري أي: إنكار وجود إله مع الله الخالق الرازق والجواب: لا إله مع الله.
7- القرار: مصدر قرّ يقرّ قرارا الشيء: إذا سكن وثبت، وصفت الأرض بالقرار مبالغة في سكونها وثباتها حيث لا تتحرك ولا تضطرب بأهلها على مدى الحياة في حين أنها سابحة في الفضاء متحركة في كل لحظة فسبحان الله العلي القدير العزيز الحكيم.
8- إنّ هذا الحاجز ليس جسما غير الماء إنما هو تفاوت الثقل النسبي لاختلاف أجزاء الماء المركب منها الماء المالح والماء العذب، فالحاجز حاجز من طعميهما وليس جسماً آخر فاصلا بينهما.(4/35)
بالله مخلوقاته. وقوله تعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ (1) إِذَا دَعَاهُ} أي ليكشف ضره {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي يبعده والسوء هو ما يسوء المرء من مرض وجوع وعطش وقحط وجدب. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} جعل جيلاً يخلف جيلاً وهكذا الموجود خلف لمن سلف وسيكون سلفاً لمن خلف {أَإِلَهٌ (2) مَعَ اللهِ} والجواب لا إله مع الله {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي ما تتعظون إلا قليلا بما تسمعون وترون من آيات الله.
وقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في الليل بالنجوم وفي النهار بالعلامات الدالة والهادية إلى مقاصدكم {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي من يثير الرياح ويرسلها تتقدم المطر وتبشر به؟ لا أحد غير الله إذاً.. {أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ} . والجواب: لا، لا.. الله وحده الإله الحق وما عداه فباطل.
وقوله تعالى: {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين أصناما لا تبدئ ولا تعيد ولا تخلق ولا ترزق ولا تعطي ولا تمنع. وقوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ} أي نطفاً في الأرحام، ثم بعد حياته يميته، ثم يعيده وهو معنى {ثُمَّ يُعِيدُهُ} .
{وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} بالمطر {وَالْأَرْضِ} بالنبات. والجواب: الله إذاً {أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ} والجواب: لا، لا وإن قلتم هناك آلهة مع الله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي حججكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن غير الله يفعل شيئاً مما ذكرفي هذا السياق الكريم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله وشكره عند تجدد الشكر، والحمد لله رأس الشكر.
2- مشروعية السلام عند ذكر الأنبياء عليهم السلام فمن ذكر أحدهم قال عليه السلام.
3- التنديد بالشرك والمشركين.
4- تقرير التوحيد بأدلتة الباهرة العديدة.
5- تقرير البعث الآخر وإثباتها بالاستنباط من الأدلة المذكورة.
6- لا يثبت الأحكام إلا بالأدلة النقلية والعقلية.
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ
__________
1- قال ابن عباس: المضطر هو: ذو الضرورة المجهود، والضرورة هي: الحال المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول كالجوع والمرض والخوف ونحوهما من العزوبة وقلة ذات اليد.
2- الاستفهام توبيخي إنكاري أي: إنكار أن يكون مع الله إله آخر لما قام على ذلك من الأدلة والحجج المذكورة، وإله مرفوع بما تعلق به الظرف أو بإضمار يفعل ذلك أي: أإله مع الله يفعل ذلك.(4/36)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
شرح الكلمات:
من في السموات والأرض: الملائكة والناس.
الغيب إلا الله: أي ما غاب عنهم ومن ذلك متى قيام الساعة إلا الله فإنه يعلمه.
أيَّان يبعثون: أي متى يبعثون.
بل ادّارك علمهم في الآخرة: أي تلاحق وهو ما منهم أحد إلا يظن فقط فلا علم لهم بالآخرة بالمرة.
بل هم منها عمون: أي في عمى كامل لا يبصرون شيئا من حقائقها.
أئنا لمخرجون: أي أحياء من قبورنا.
لقد وعدنا هذا: أي البعث أحياء من القبور.
أساطير الأولين: أي أكاذيبهم التي سطروها في كتبهم.
كيف كان عاقبة المجرمين: أي المكذبين بالبعث كانت دمارا وهلاكاً وديارهم الخاوية شاهدة بذلك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ} لما سأل المشركون من قريش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الساعة أمره تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب {قُلْ لا يَعْلَمُ} الخ.. والساعة من جملة الغيب بل هي أعظمه. {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة {وَالْأَرْضِ} من الناس {إِلَّا (1) اللهُ} أي لكن
__________
1- أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قولها: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وذكر القرطبي ما خلاصته: أن منجما أتي به إلى الحجاج فاعتقله ثم أخذ حصيات فعدّها وقال للمنجّم: كم من حصيات في يدي فأخبره بعددها، ثم أخذ أخرى ولم يعدها وسأل المنجم عنها فلم يعرف عددها وكرر هذا ثلاث مرات فلم يعرف المنجم فسأله كيف عرفت في الأولى ولم تعرف في غيرها؟ قال: لأنك لما عددتها خرجت من الغيب فعلمتها أمّا الغيب فلا يعلمه إلا الله.(4/37)
الله تعالى يعلم غيب السموات والأرض أما غيره فلا يعلم إلا ما علمه الله علام الغيوب. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي وما يشعر أهل السموات وأهل الأرض متى يبعث الأموات من قبورهم للحساب والجزاء وهذا كقوله تعالى في سورة الأعراف: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .
وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ (1) عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} قرئ {بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} أي بلغ حقيقته يوم القيامة إذ يصبح الإيمان بها الذي كان غيبا شهادة ولكن لا ينفع صاحبه يومئذ. وقرئ {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} أي علم المشركين بالآخرة. أي تلاحق وأدرك بعضه بعضا وهو أنه لا علم لهم بها بالمرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (2) } أي لا يرون شيئا من دلائلها، ولا حقائقها بالمرة ويدل على هذا ما أخبر به تعالى عنهم من أنهم لا يؤمنون بالساعة بالمرة قي قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا (3) كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} أي من قبورنا أحياء. والاستفهام للإنكار الشديد ويؤكدون إنكارهم هذا بقولهم:
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل أن يعدنا محمد. {إِنْ هَذَا} أي الوعد بالبعث والجزاء {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أكاذيبهم وحكاياتهم التي يسطرونها في الكتب ويقرأونها على الناس. وقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق (69) {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي قل لهم يا رسولنا سيروا في الأرض جنوبا أو شمالا أو (4) غربا {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي أهلكناهم لما كذبوا بالبعث كما كذبتم، فالقادر على خلقهم ثم إماتتهم قادر قطعا على بعثهم وإحيائهم لمحاسبتهم وجزائهم بكسبهم. فالبعث إذاً ضروري لا ينكره ذو عقل راجح أبدا.
__________
1- أصل: (ادّارك) تدارك فسكنت التاء وأدغمت في الدال وجلبت همزة الوصل فصارت: ادّارك.
2- (عمون) أصلها: عميون: حذفت الياء وضمت الميم تخفيفا، والمفرد عم.
3- قرأ نافع: (إذا كنا) بدون همزة استفهام، وبتسهيل همزة أينا، وقرأ حفص بهمزتين محققتين أإذا وإئنا.
4- جنوبا حيث ديار عاد، وشمالا حيث ديار ثمود، وغربا حيث مدين والمؤتفكات.(4/38)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حصر علم الغيب في الرب تبارك وتعالى. فمن ادعى أنه يعلم ما في غد فقد كذب (1) .
2- تساوي علم أهل السماء والأرض في الجهل بوقت الساعة.
3- المكذبون بيوم القيامة سيوقنون به في الآخرة ولكن لا ينفعهم ذلك.
4- إهلاك الله الأمم المكذبة بالبعث بعد خلقهم ورزقهم دليل على قدرته تعالى على بعثهم لحسابهم وجزائهم.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
شرح الكلمات:
ولا تحزن عليهم الآية: المراد به تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مما يمكرون: أي بك إذ حاولوا قتله ولم يفلحوا.
متى هذا الوعد: أي بعذابنا.
بعض الذي تستعجلون: وقد حصل لهم في بدر.
إن الله لذو فضل على الناس: أي في خلقهم ورزقهم وحفظهم وعدم إنزال العذاب بهم.
ما تكن صدورهم: أي ما تخفيه وتستره صدروهم.
وما من غائبة: أي ما من حادثة غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ مدونة فيه مكتوبة.
__________
1- شاهده حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها وقد تقدم آنفا.(4/39)
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث الآخر ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا ترد، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء ولكن المشركين ما زالوا يعارضون ويمانعون بل ويمكرون فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم كما نهاه عن ضيق (1) صدره مما يمكرون (2) ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها. هذا ما دلت عليه الآية الآولى (70) وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه ويلقنه الجواب. فقال تعالى: (71) {وَيَقُولُونَ مَتَى (3) هَذَا الْوَعْدُ} - أي بالعذاب - {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} – فيما تقولون وتعدون- {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي اقترب (4) منكم ودنا وهو ما حصل لهم في بدر من الأسر والقتل هذا ما دلت عليه الآيتان (71و72) . وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ (5) } مؤمنهم وكافرهم إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم ولم يهلكهم بذنوبهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} فها هم أؤلاء يستعجلون العذاب ويطالبون به ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون، وهذا أعظم فضل. وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ (6) وَمَا يُعْلِنُونَ} أي لا يخفى عليه من أمرهم شيء وسيحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها وفي هذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعيد لهم وتهديد وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ (7) فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . وهو اللوح المحفوظ أي إن علم ربك أحاط بكل شيء ولا يعزب عنه شيء وهذا مظهر من مظاهر العلم الإلهي المستلزم للبعث والجزاء، إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضا لا يبعثهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم.
__________
1- الضيق: بفتح الضاد وكسرها قرأه الجمهور بالفتح، وقرأ غيرهم بالكسر وحقيقة الضيق: عدم اتساع المكان أو الوعاء لما يراد إدخاله فيه، والمراد به هنا الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس بضيق في صدره.
2- ومن أعظم مكرهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكمهم الجائر بقتله في مكة لولا أن الله أنجاه منهم.
3- الاستفهام للإنكار والاستبعاد، والآية نزلت في المستهزئين الذين هلكوا ببدر.
4- هذا تفسير لـ (ردف لكم) يقال: ردفه وأردفه: إذا تبعه كتبعه واتبعه وردفه وردف له بمعنى قال الشاعر:
عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذا ردف
والشاهد في ردف وأردف: إذا تبع، وقال آخر:
إذا الجوزاء أردفت الثريّا ظننت بآل فاطمة الظنونا
5- في إدرار الرزق وتأخير العقوبة.
6- قرئ: تكّن من كنّ الشيء يكنّه إذا ستره، وقرأ الجهمور (تكن) من أكن الشيء إذا ستره أيضا.
7- قال الحسن: الغائبة هنا: القيامة، وهو حق ولكن اللفظ عام إذ هو يشمل كل غيب وهو ما غاب عن الخلق في الأرض أو في السماء، فالله تعالى يعلمه وكيف لا، وقد كتبه في كتاب المقادير والغائبة: اسم للشيء الغائب والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالتاء في الفاتحة، والعاقبة، والمراد ما غاب عن علم الناس، واشتقاقه من الغيب ضد الحضور.(4/40)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه يعاني شدة من ظلم المشركين وإعراضهم.
2- بيان تعنت المشركين وعنادهم.
3- تحقق وعد الله للمشركين حيث نزل بهم بعض العذاب الذي يستعجلون.
4- بيان فضل الله تعالى على الناس مع ترك أكثرهم لشكره سبحانه وتعالى.
5- بيان إحاطة علم الله بكل شيء.
6- إثبات وتقرير كتاب المقادير، وهو اللوح المحفوظ.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
شرح الكلمات:
يقص على بني إسرائيل: أي يذكر أثناء آياته كثيرا مما اختلف فيه بنو إسرائيل.
لهدى ورحمة للمؤمنين: أي به تتم هداية المؤمنين ورحمتهم.
يقضي بينهم بحكمه: أي يحكم بين بني إسرائيل بحكمه العادل.
وهو العزيز العليم: الغالب على أمره، العليم بخلقه.
فتوكل على الله: أي ثق فيه وفوّض أمرك إليه.
إنّك لا تسمع الموتى: أي لو أردت أن تسمعهم لأنهم موتى.(4/41)
ولا تسمع الصم الدعاء: أي ولا تقدر على إسماع كلامك الصم الذين فقدوا حاسة السمع.
إذا ولوا مدبرين: أي إذا رجعوا مدبرين عنك غير ملتفتين إليك.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا: أي ما تسمع إلا من يؤمن بآيات الله.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إِنَّ (1) هَذَا الْقُرْآنَ} الكريم الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} المعاصرين لنزوله {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كاختلافهم في عيسى عليه السلام ووالدته إذ غلا فيهما البعض وأفرطوا فألهّوهما وفرط فيهما البعض فقالوا في عيسى ساحر، وفي مريم عاهرة لعنهم الله، وكاختلافهم في صفات الله تعالى وفي حقيقة المعاد، وكاختلافهم في مسائل شرعية وأخرى تاريخية. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدىً (2) وَرَحْمَةٌ} أي وإن القرآن الكريم لهدى، أي لهادٍ لمن آمن به إلى سبيل السلام ورحمة شاملة {لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) به، العاملين بما فيه من الشرائع والآداب والأخلاق. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ} أي أيها الرسول {يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أي بين الناس من وثنيين وأهل كتاب يوم القيامة بحكمه (4) العادل الرحيم، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي ينفذ حكمه فيمن حكم له أو عليه {الْعَلِيمُ} بالمحقين من المبطلين من عباده فلذا يكون حكمه أعدل وأرحم ولذا {فَتَوَكَّلْ عَلَى (5) اللهِ} أيها الرسول بالثقة فيه وتفويض أمرك إليه فإنه كافيك. وقوله: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي إنك يا رسولنا على الدين الحق الذي هو الإسلام وخصومك على الباطل فالعاقبة الحسنى لك، لا محالة. وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} والكفار موتى بعدم وجود روح الإيمان في أجسامهم والميت
__________
1- هذا الكلام مستأنف استئنافاً بيانياً إذ هو جواب لكل شاك في توحيد الله وفي البعث الآخر وفي نبوة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن قال: كيف يكون لا إله إلا الله وكيف يكون البعث وكيف يكون محمد رسولاً؟ فالجواب: أن هذا القرآن العظيم أكبر برهان وأعظم دليل على صدق تلك القضايا الثلاث: التوحيد، والبعث، والنبوة.
2- هذا التوكيد بإن في المواطن الثلاثة: (إن هذا القرآن) و (إنه لهدى) (إن ربك يقضي) تطلبه الابتداء من جهة وشأن الاخبار من جهة أخرى. لأن عادة الإنسان إذا أخبر بخبر ذي شأن يتساءل في نفسه عن صحته وعدمها فيتعين التأكيد له.
3- خصّ المؤمنون بالذكر دون الكافرين لأنهم هم المنتفعون به.
4- جائز أن يكون المراد من الحكم: الحكمة، أي: يحكم بينهم بالحكمة التي تضع كل شيء في موضعه فلا يحدث حيف ولا جور. وإطلاق الحكم على الحكمة كثير في القرآن منه: (وآتيناه الحكم صبيا) ويجوز أن يكون الحكم على ظاهره أو يحكم بينهم بحكمه المعروف بالعدل والنزاهة من الحيف والجور والخطأ.
5- الفاء تفريعية أي: فبناء على عزة الله وعلمه فتوكل عليه ولا تخف فإنه لعزته وعلمه لا يضيعك ولا يهمل شأنك.(4/42)
لا يسمع فلذا لا تقدر على إسماع هؤلاء الكافرين الأموات (1) ، كما أنك {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ} أي الفاقدين لحاسة السمع {الدُّعَاءَ} أي دعاءك {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أي إذا رجعوا مدبرين غير ملتفتين إليك. {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} التي يعيشون عليها فهوّن على نفسك ولا تكرب ولا تحزن {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} أي ما تسمع إسماع تفهم وقبول إلا المؤمنين بآيات الله, {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي فهم من أجل إيمانهم مسلمون أي منقادون خاضعون لشرع الله وأحكامه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- شرف القرآن وفضله.
2- لن ينتهي خلاف اليهود والنصارى إلا بالإسلام فإذا أسلموا اهتدوا للحق وانتهى كل خلاف بينهم.
3- كل خلاف بين الناس اليوم سيحكم الله تعالى بين أهله يوم القيامة بحكمه العادل ويوفي كلا ما له أو عليه وهو العزيز العليم.
4- الكفار أموات لخلو أبدانهم من روح الإيمان فلذا هم لا يسمعون الهدى ولا يبصرون الآيات مهما كانت واضحات.
فعلى داعيهم أن يعرف هذا فيهم وليصبر على دعوتهم ودعاويهم.
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
__________
1- احتجت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على عدم إسماع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موتى بدر لما قيل لها في ذلك وردّ عليها قولها إذ استعملت القياس العقلي مع وجود النص ولا قياس مع النص فقد صحّ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناداهم وهم في القليب وقال لهم (أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا. فقيل: يا رسول الله: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيراً ونقمة وحسرة وندما وقد خصصت هذه الآية بسماع أهل القبور. سلام من سلّم عليهم.(4/43)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
شرح الكلمات:
وقع القول عليهم: أي حق عليهم العذاب.
دابة من الأرض: حيوان يدب على الأرض لم يرد وصفها في حديث صحيح يعول عليه ويقال به (1) .
تكلم الناس: بلسان يفهمونه لأنها آية من الآيات.
أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون: أي بسب أن الناس أصبحوا لا يؤمنو بآيات الله وشرائعه أي كفروا فيبلون بهذه الدابة.
ويوم نحشر: أي اذكر يوم نحشر أي نجمع.
من كل أمة فوجا: أي طائفة وهم الرؤساء المتبوعون في الدنيا.
فهم يوزعون: أي يجمعون برد أولهم على آخرهم.
حتى إذا جاءوا: أي الموقف مكان الحساب.
وقع القول عليهم: أي حق عليهم العذاب.
بما ظلموا: أي بسبب الظلم الذي هو شركهم بالله تعالى.
فهم لا ينطقون: أي لا حجة لهم.
والنهار مبصرا: أي يبصر فيه من أجل التصرف في الأعمال.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} أي حق العذاب على الكافرين حيث لم يبق في
__________
1- مثل تلك الأحاديث: حديث حذافة ونصه: كما رواه أبو داود الطيالسي قال: (ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدابة فقال لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - مكة- ثم تكمن زمانا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشوا ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بينا الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعاً وثبتت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوهم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلى فتقبل عليه فتسمُه في وجهه ثم تنطلق فتميّز الكافر من المؤمن) .(4/44)
الأرض من يأمر بمعروف ولا من ينهى عن منكر {أَخْرَجْنَا لَهُمْ} لفتنتهم {دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} أي حيوان أرضي ليس بسماوي {تُكَلِّمُهُمْ} أي بلسان يفهمونه، {أَنَّ النَّاسَ (1) كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} هذه علة تكليمهم وهي بأن الناس كفروا وما أصبحو يوقنون بآيات الله وشرائعه فيخرج الله تعالى هذه الدابة لِحِكَمٍ منها: أن بها يتميز المؤمن من الكافر. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} أي واذكر يا رسولنا {يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم البشرية {فَوْجاً} أي جماعة {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} بأن يرد أولهم على آخرهم لينتظم سيرهم {حَتَّى إِذَا جَاءُوا} الموقف موضع الحساب يقول الله تعالى لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} وما اشتملت عليه من أدلة وحجج وشرائع وأحكام {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} ، وهذا تقريع لهم وتوبيخ. إذ كون الإنسان لم يحط علما بشيء لا يجوز له أن يكذب به لمجرد أنه ما عرفه. وقوله: {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ما الذي كنتم تعملون في آياتي من تصديق وتكذيب. قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} أي وجب العذاب {بِمَا ظَلَمُوا} أي بسبب ظلمهم (2) {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} . أي بعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم لأنهم ظَلَمةٌ مشركون. وقوله تعالى: {أَلَمْ (3) يَرَوْا} أي ألم يبصر أولئك المشركون المكذبون بالبعث والجزاء أن الله تعالى جعل {اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} وسكونهم هو موتهم على فرشهم بالنوم فيه {وَالنَّهَارَ} أي وجعل {النَّهَارَ مُبْصِراً} أي يبصر فيه لينصرفوا فيه بالعمل لحياتهم، فنوم الليل شبيه بالموت وانبعاث النهار شبيه بالحياة، فهي عملية موت وحياة متكررة طوال الدهر فكيف ينكر العقلاء البعث الآخر وله صورة متكررة طوال الحياة، ولذا قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في ذلك العمل المتكرر للموت والحياة كل يوم وليلة {لَآياتٍ} أي براهين وحجج قاطعة على وجود بعث وحياة بعد هذا الموت والحياة. وخص المؤمنون بالذكر وبالحصول على البرهان المطلوب من عملية الليل والنهار لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويبصرون ويفكرون والكافرين أموات والميت لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ولا يفكر.
__________
1- قرأ نافع بكسر إنّ، والجملة تعليلية لما قبلها، وقرأ حفص بفتحها على تقدير حرف جرٍّ قبلها بأن أو لأن للسببية أو التعليل.
2- أي: بشركهم إذ الشرك أعظم أنواع الظلم وهو الموجب لدخول النار والخلود فيها.
3- الاستفهام هنا للتعجب من حالهم كيف لا يبصرون آيات الله في الكون فتهديهم إلى توحيد الله تعالى.(4/45)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تأكيد آية الدابة والتي تخرج من صدع من الصفا وقد وجد الصدع الآن فيما يبدو وهي الأنفاق التي فتحت
في جبل الصفا وأصبحت طرقاً عظيمة للحجاج، وعما قريب تخرج، وذلك يوم لا يبقى من يأمر بالمعروف ولا من ينهى عن المنكر فيحق العذاب على الكافرين.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر وصف لها.
3- ويل لرؤساء الضلالة والشر والشرك والباطل إذ يؤتى بهم ويسألون.
4- في آية الليل والنهار ما يدل بوضوح على عقيدة البعث الآخر والحساب والجزاء.
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
شرح الكلمات:
ويوم ينفخ في الصور: أي يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة الفزع والفناء والقيام من القبور.
وكل أتوه داخرين: أي وكل من أهل السماء والأرض أتوا الله عز وجل داخرين أي أذلاء صاغرين.
وترى الجبال تحسبها جامدة: أي تظنها في نظر العين جامدة.
وهي تمر مرّ السحاب: وذلك لسرعة تسييرها.(4/46)
من جاء بالحسنة: وهي الإيمان والتوحيد وسائر الصالحات.
فله خير منها: أي الجنة.
ومن جاء بالسيئة: أي الشرك والمعاصي فله النار يكب وجهه فيها.
وهم من فزع يومئذ آمنون: أي أصحاب حسنات التوحيد والعمل الصالح آمنون من فزع هول يوم القيامة.
ومن جاء بالسئية فكبت: أي جاء بالسيئة كالشرك وأكل الربا، وقتل النفس، فكبت وجوههم في النار والعياذ بالله أي ألقوا فيها على وجوههم.
هل تجزون إلا ما كنتم تعملون: أي ما تجزون إلا بعملكم، ولا تجزون بعمل غيركم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث القيامة تقريراً لعقيدة البعث والجزاء التي هي الباعث على الاستقامة في الحياة. فقال تعالى {وَيَوْمَ (1) يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} أي ونفخ إسرافيل بإذن ربه في الصور الذي هو القرن أو البوق {فَفَزِعَ (2) مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} وهي نفخة الفزع فتفزع لها الخلائق إلا من استثنى الله تعالى وهم الشهداء فلا يفزعون وهي نفخة الفناء أيضاً إذ بها يفنى كل شيء، وقوله تعالى {وَكُلٌّ أَتَوْهُ (3) } أي أتوا الله تعالى {دَاخِرِينَ} أي صاغرين ذليلين أتوه إلى المحشر وساحة فصل القضاء وقوله {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي لا تتحرك وهي في نفس الواقع تسير (4) سير السحاب {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي أوثق صنعه (5) وأحكمه {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} وسيجزيكم أيها الناس بحسب علمه {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} وهي الإيمان والعمل الصالح {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ألا وهي الجنة {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} وهي الشرك والمعاصي {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} فذلك
__________
1- العامل في الظرف محذوف للعلم به أي: واذكر يوم ينفخ في الصور، والنافخ هو إسرافيل عليه السلام.
2- للفزع معنيان، كلاهما صالح لدلالة هذا اللفظ عليه، الأول: الفزع: بمعنى الإسراع: لنداء الداعي، والثاني الخوف والهلع.
3- قرأ حفص (وكل أتوه) بالفعل الماضي، وقرأ نافع (آتوه) باسم الفاعل أي: آتون إليه جمع آت.
4- قيل: إن قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) هو خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة أطلعه الله فيه على سر من أسرار الكون ولم يبح به لعجز الناس عن إداركه في ذلك الزمن وحقيقته: أن الأرض تدور حول الشمس دورة في كل يوم وليلة، ودروتها هي تسير معها الجبال فيها قطعاً فيرى المرء الجبال يحسبها جامدة وهي تمر مع الأرض مر السحاب والمرور غير السير فالسير يوم الفناء أما المرور يقال: مرّ بفلان يحمله معه ولا يقال سار به. ورشح ها المعنى قوله بعدُ: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} .
5- الصنع مصدر صنع الشيء يصنعه صنعا.(4/47)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
جزاء من جاء بالسيئة.
وقوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ (1) إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تجزون إلا ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير وشر وقد تم الجزاء بمقتضى ذلك فقوم دخلوا الجنة وآخرون كبت وجوههم في النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيد البعث والجزاء بذكر أحداثها مفصلة.
2- بيان كيفية خراب العوالم وفناء الأكوان.
3- فضل الشهداء حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وهم آمنون.
4- تقرير مبدأ الجزاء وهو الحسنة والسيئة، حسنة التوحيد وسيئة الشرك.
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
شرح الكلمات:
هذه البلدة: أي مكة المكرمة والإضافة للتشريف.
الذي حرمها: أي الله الذي حرم مكة فلا يختلى خلاها ولا ينفّر صيدها ولا يقاتل فيها.
من المسلمين: المؤمنين المنقادين له ظاهرا وباطناً وهم أشرف الخلق.
وأن أتلو القرآن: أي أمرني أن أقرأ القرآن إنذاراً وتعليماً وتعبّداً.
__________
1- الاستفهام للنفي كما في التفسير.(4/48)
سيريكم آياته: أي مدلول آيات الوعيد فيعرفون ذلك وقد أراهموه في بدر وسيرونه عند الموت.
وما ربك بغافل عما يعملون: أي وما ربك أيها الرسول بغافل عما يعمل الناس وسيجزيهم بعملهم.
معنى الآيات:
إنه بعد ذلك العرض الهائل لأحداث القيامة والذي المفروض فيه أن يؤمن كل من شاهده ولكن القوم ما آمن أكثرهم ومن هنا ناسب بيان موقف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أنه عبد مأمور بعبادة ربه لا غير، ربه الذي هو رب هذه البلدة الذي (1) حرمها فلا يقاتل فيها ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن يعرفها، وله كل شيء خلقاً وملكاً وتصرفاً فليس لغيره معه شيء في العوالم كلها علويّها وسلفيّها وقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي وأمرني ربي أكون في جملة المسلمين أي المنقادين لله والخاضعين له وهم صالحو عباده من الأنبياء والمرسيلين. وقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أي وأمرني أن أتلو القرآن تلاوةَ إنذارٍ وتعليم وتعبداً وتقرباً إليه تعالى وبعد تلاوتي فمن اهتدى عليها فعرف طريق الهدى وسلكه فنتائج الهداية وعائدها عائد عليه هو الذي ينتفع بها. ومن ضل فلم يقبل الهدى وأقام على ضلالته فليس علي هدايته لأن ربي قال لي قل لمن ضل {إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} لا من واهبي الإيمان والهداية إنما يهب الهداية ويمن بها الله الذي بيده كل شيء {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} وأمرني أن أحمده على كل ما وهبني من نعم لا تعد ولا تحصى ومن أجلِّها إكرامه لي بالرسالة التي شرفني بها على سائر الناس فالحمد لله والمنة له وقوله {سَيُرِيكُمْ آيَاتِه (2) ِ فَتَعْرِفُونَهَا} أي وأعلم هؤلاء المشركين أن الله ربي سيريكم آياته في مستقبل أيامكم وقد أراهم أول آية في بدر وثاني آية في الفتح وآخر آية عند الموت يوم تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وتقول لهم "ذوقوا عذاب الحريق" وقوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (3) } أي وما ربك الذي أكرمك وفضلك أيها الرسول {بغافل عما تعملون} أيها الناس مؤمنين وكافرين وصالحين وفاسدين وسيجزي كلاً بعمله وذلك يوم ترجعون إليه ففي الآية وعد ووعيد.
__________
1- قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {رب هذه البلدة التي حرّمها} نعتاً للبلدة. وقرأ الجمهور الذي وهو في موضع نصب نعت لـ رب
2- أي: في أنفسكم وفي غيركم كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} من سورة فصلت.
3- قرأ نافع وحفص والجمهور بتاء الخطاب، وقرأ غيرهم بياء الغيبة.(4/49)
من هداية الآيات:
1-بيان وظيفة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنها عبادة الله والإسلام له، وتلاوة القرآن إنذار اً وإعذاراً وتعليما وتعبداً به وتقرباً إلى منزله عز وجل.
2- بيان وتقرير حرمة مكة المكرمة والحرم.
3-الندب إلى حمد الله تعالى على نعمة الظاهرةوالباطنة ولا سيما عند تجدد النعمة وعند ذكرها.
4-بيان أن عوائد الكسب عائد على الكاسب خيراً كانت أو شراً.
5- بيان معجزة القرآن الكريم إذ ما علم به المشركين أنهم سيرونها قد رأوه فعلاً وهو غيب، فظهر كما أخبر.(4/50)
سورة القصص
مكية
وآياتها ثمان وثمانون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)(4/50)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
شرح الكلمات:
طسم: هذه إحدى الحروف المقطعة تكتب طسم وتقرأ: طا، سينْ، ميمْ.
تلك: أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات القرآن الكريم.
نتلو عليك: أي نقرأ عليك قاصين شيئاً من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما.
لقوم يؤمنون: أي لأجل المؤمنين ليزدادوا إيماناً ويوقنوا بالنصر وحسن العاقبة.
علا في الأرض: أي تكبر وظلم فادعى الربوبية وظلم بني إسرائيل ظلماً فظيعاً.
شيعاً: أي طوائف بعضهم عدوّ لبعض من باب فرّق تسدْ.
ويستحيي نساءهم: أي يبقي على النساء لا يذبح البنات لأنه لا يخاف منهن ويذبح الأولاد لخوفه مستقبلا على ملكه منهم.
ونريد أن نمن: أي ننعم على الذين استضعفوا فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.
ما كانوا يحذرون: من المولود الذي يولد في بني إسرائيل ويذهب بملكهم.
معنى الآيات:
{طسم} : هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه، وقد أفاد فائدتين عظيمتين الأولى هي إعجاز القرآن الموجب للإيمان به وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه.
والثانية أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له وأمروا باجتناب سماعه واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم فإذا قرأ القارئ طسم وجد أحدهم نفسه مضطراً إلى السماع، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية كما حصل لكثيرين منهم.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات الكتاب المبين أي القرآن المبين(4/51)
للهدى من الضلال والخير من الشر والحق من الباطل، وقوله {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ (1) نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} أي نقرأ قاصين عليك أيها الرسول شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبر موسى (2) وفرعون وقوله {للِقَوْمٍ (3) يُؤْمِنُونَ} باعتبارهم أنهم هم الذين ينتفعون بما يسمعون في حياتهم ولأنهم في ظرف صعب يحتاجون معه إلى سماع مثل هذا القصص ليثبتوا على إيمانهم حتى ينصرهم الله كما نصر الذين من قبلهم بعد ضعف كان أشد من ضعفهم وقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ..} إلى آخر الآية هذا بيان لما أخبر أنه يقصه للمؤمنين، يخبر تعالى فيقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ..} إلى آخر الآية إن فرعون الحاكم المصري المسمى بالوليد بن الريان الطاغية المدعي الربوبية والألوهية {عَلا فِي الْأَرْضِ} أي أرض البلاد المصرية ومعنى علا طغى وتكبر وتسلط (4) وقوله {وَجَعَلَ أَهْلَهَا} أي أهل تلك البلاد المصرية {شِيَعاً} أي طوائف فرق بينها إبقاءً على ملكه على قاعدة فرق تَسُدْ المذهب السياسي القائم الآن في بلاد الكفر والظلم وقوله {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً} من تلك الطوائف وهي طائفة بني إسرائيل وكيفية استضعافهم أنه يذبح أبناءهم ساعة ولادتهم {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أي بناتهم ليكبرن للخدمة وتذبيح الأولاد سببه أن كهانه وسياسييه أعلموه أن ملكه مهدد بوجود بني إسرائيل أقوياء كثر في البلاد فاستعمل طريقة تقليلهم والحد من كثرتهم بذبح الأولاد الذكور منهم وإبقاء الإناث منهم وهي سياسة تشبه تحديد النسل اليوم التي يستعملها الهالكون اليوم وهم لا يشعرون.
وقوله {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه {مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف.
وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} أي من بعض خبرهما أنا نريد أي أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل، نمُنُّ عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه ونجعلهم قادة في الخير {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده وهو معنى قوله:
__________
1- مفعول (نتلوا) محذوف تقديره نتلوا عليك كلاما من نبأ موسى.
2- وقارون أيضا حيث ذكر خبره في آخر هذه السورة.
3- اللام في (القوم) للتعليل أي: نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون.
4- وحسبه أن ادعى الألوهية والربوبية وأنه ابن الشمس.(4/52)
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (1) } . وقوله {وَنُرِيَ (2) فِرْعَوْنَ} أي من جملة ما نتلو عليك أنا أردنا أن {نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ (3) } أي من بني إسرائيل ما كانوا يحذرونه من مولود يولد في بني إسرائيل فيذهب بملك فرعون وذلك بما سيذكر تعالى من أسباب وترتيبات هي عجب! تبتدئ من قوله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ... } .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقاًَ.
2- تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الإلهي.
3- التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض.
4- المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم.
5- تقرير قاعدة لا حذر مع القدر.
6- تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بأن لا يزيد على عدد معين من الأطفال.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى
__________
1- المراد من الأرض أرض الشام حيث ورّثهم أرض الكنعانيين وهم الذين كانوا يعرفون بالجبابرة. أما أرض مصر فإن بني إسرائيل لم يرجعوا إليها بعد أن خرجوا منها هكذا يرى بعضهم وأكثر المفسرين أن بني إسرائيل عادوا إلى أرض مصر وملكوها وسادوا أهلها، والله أعلم.
2- قرأ الجمهور (ونري) بنون العظمة والتكلم، وقرأ بعضٌ (ويرى) بياء الغيبة أي: ويرى فرعون وجنوده.
3- الجنود: جمع جند، والجند لفظ دال على جمع ولا واحد له ومعناه: الجماعة من الناس تجتمع على أمر تتبعه.(4/53)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
شرح الكلمات:
وأوحينا إلى أم موسى: أعلمناها أن ترضع ولدها الرضعات الأولى التي لا بد منها ثم تضعه في تابوت ثم تلقيه في اليم.
في اليم: أي في البحر وهو نهر النيل.
ولا تخافي ولا تحزني: أي لا تخافي أن يهلك ولا تحزني على فراقه، إنا رادوه إليك.
فالتقطه آل فرعون: أي أعوانه ورجاله.
ليكون لهم عدواً وحزناً: أي في عاقبة الأمر، فاللام للعاقبة والصيرورة.
قرة عين لي ولك: أي تقر به عيني وعينك فنفرح به ونسر.
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا: أي من كل شيء إلا منه عليه السلام أي لا تفكر في شيء إلا فيه.
إن كادت لتبدي به: أي قاربت بأن تصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك.
وقالت لأخته قصيه: أي اتبعي أثره حتى تعرفي أين هو.
فبصرت به عن جنب: أي لاحظته وهي مختفية تتبعه من مكان بعيد.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة موسى مع فرعون وهو طفل رضيع إلى نهاية هلاك فرعون في ظرف طويل بلغ عشرات السنين. بدأ تعالى بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى (1) } أي أعلمناها من طريق الإلقاء في القلب {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} آل فرعون الذين يقتلون مواليد بني إسرائيل الذكور في هذه السنة {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي بعد أن تجعليه في تابوت أي صندوق
__________
1- اختلف هل كان هذا الوحي إلهاما أو كان مناما أو أتاها ملك؟ والأقرب أنها أتاها ملك مع الإجماع أنها لم تكن نبية وإنما أرسل إليها الملك فكلمها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في حديث الصحيحين، ولم يعرف لها اسم على الصحيح، وقال السهلي اسمها يارخت.(4/54)
خشب مطلي بالقار، {وَلا تَخَافِي} عليه الهلاك {وَلا تَحْزَنِي} على فراقك له {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ (1) } لترضعيه {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} نرسله إلى عدوكم فرعون وملائه. قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} أي فعلت ما أمرها الله تعالى به بأن جعلته في تابوت وألقته في اليم أي النيل {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} حيث وجدوه لقطة فأخذوه وأعطوه لآسية بنت مزاحم عليها السلام امرأة فرعون. وقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ (2) عَدُوّاً وَحَزَناً} هذا باعتبار ما يؤول إليه الأمر فهم ما التقطوه لذلك لكن شاء الله ذلك فكان لهم {عَدُوّاً وَحَزَناً} (3) فعاداهم وأحزنهم.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي آثمين بالكفر والظلم ولذا يكون موسى لهم عدواً وحزناً. وقوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} قالت هذا حين همَّ فرعون بقتله لما نتف موسى لحيته وهو رضيع تعلق به فأخذ شعرات من لحيته فتشاءم فرعون وأمر بقتله فاعتذرت آسية له فقالت هو {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} فقال فرعون قرة عين لك أما أنا فلا وقولها {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} في حياتنا بالخدمة ونحوها {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وذلك بالتبني وهذا الذي حصل، فكان موسى إلى الثلاثين من عمره يعرف بابن فرعون وقوله {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي بما سيكون من أمره وأن هلاك فرعون وجنوده سيكون على يده.
وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} أي من أي شيء إلا من موسى وذلك بعد أن ألقته في اليم.
وقوله {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي لتصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك من شدة الحزن لكن الله تعالى ربط على قلبها فصبرت لتكون بذلك من المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها ويجعله من المرسلين.
وقوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ (4) } أي تتبعي أثره وذلك عندما ألقته في اليم وقوله
__________
1- حكى الأصمعي أنه سمع جارية أعرابية تنشد وتقول:
أستغفر الله لذنبي كله
قبّلتُ إنساناً بغير حِلّه
مثل الغزال ناعما في دلّهِ
فانتصف الليل ولم أصله
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو يعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى} إلى {إنا رادوه إليك} أي: جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
2- هذه اللام تسمى لام العاقبة والصيرورة على حد قول الشاعر:
وللمنايا تُربي كل مرضعة
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
3- الحزن: محرّك الوسط كالحزن بإسكانها وضم الحاء مثل الرَشَد والرُشْد والعَدَم والعُدْم والسَقَم والسُقْم لغات.
4- اسمها مريم بنت عمران فاتحدت معها مريم أم عيسى في اسمها واسم أبيها عليهم السلام وقيل اسمها كندم في رواية مرفوعة ضعيفة.(4/55)
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ (1) } أي رأته من بعد فكانت تمشي على شاطئ النهر وتلاحقه النظر من بعد حتى رأته انتهى إلى فرع الماء الذي دخل إلى قصر فرعون فعلمت أنه قد دخل القصر. وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي لا يشعرون أنها أخته لما كانت تلاحقه النظر وتتعرف إليه من بعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تدبير الله تعالى لأولياء وصالحي عباده وتجلى ذلك في الوحي إلى أم موسى بإرضاعه وإلقائه في البحر
والتقاط آل فرعون له ليتربى في بيت الملك عزيزاً مكرماً.
2- بيان سوء الخطيئة وآثارها السيئة وعواقبها المدمرة وتجلى ذلك فيما حل بفرعون وهامان وجنودهما.
3- فضيلة الرجاء تجلت في قول آسية "قرة عين لي ولك" فقال فرعون: أما لي فلا. فكان موسى قرة عين لآسية ولم
يكن لفرعون.
4- بيان عاطفة الأمومة حيث أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا من موسى.
5- بيان عناية الله بأوليائه حيث ربط على قلب أم موسى فصبرت ولم تبده لهم وتقول هو ولدي ليمضي وعد الله
تعالى كما أخبرها. والحمد له رب العالمين.
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ
__________
1- (عن جنب) أي: من مكان جنب أي: جانب وناحية قال قتادة: تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده.(4/56)
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
شرح الكلمات:
وحرمنا عليه المراضع: أي منعناه من قبول ثدي أية مرضعة.
من قبل: أي من قبل رده إلى أمه.
فقالت هل أدلكم على: أي قالت أخت موسى.
أهل بيت يكفلونه لكم: يضمونه إليهم، يرضعونه ويربونه لكم.
وهم له ناصحون: أي لموسى ناصحون، فلما قالوا لها إذاً كنت أنت تعريفينه، قالت لا، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للولد.
فرددناه إلى أمه: أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته.
ولتعلم أن وعد الله حق: إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين.
ولكن أكثرهم لا يعلمون: أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه.
ولما بلغ أشده واستوى: أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله.
آتيناه حكما وعلما: أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل.
ودخل المدينة: مدينة فرعون وهي مُنْفُ بعد أن غاب عنها مدة.
على حين غفلة من أهلها: لأن الوقت كان وقت القيلولة.
هذا من شيعته: أي على دينه الإسلامي.
وهذا من عدوه: على دين فرعون والأقباط.
هذا من عمل الشيطان: أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي.
إنه عدو مضل مبين: أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى، مبين ظاهر الإضلال.(4/57)
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون: إنه بعد أن التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى، فاحتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية (12) {وَحَرَّمْنَا (1) عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي قبل رده إلى أمه. وقوله: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} هذه أخته وقد أمرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (2) } وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت: لا أعرفه، إنما عنيت {وهم له ناصحون} أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالوا لها: ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت: بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى {فَرَدَدْنَاهُ (3) إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} إذ وعدها بأنه راده إليها. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها. وقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ} أي موسى {أَشُدَّهُ (4) } أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة. {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} أي حكمة وهي الإصابة في الأمور {وَعِلْماً} فقهاً في الدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل. وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي كما جزينا (5) أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين وقوله
__________
1- هذا التحريم ليس التحريم الشرعي وإنما هو بمعنى المنع فقط لعدم تكليف الطفل وشاهده قول امرئ القيس:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري
إني امرؤ صرعي عليك حرام
والمراضع: جمع مرضع بدون تاء إذ ليس في الذكور من يرضع فيفرق بينهما بالتاء.
2- الجملة في محل نصب حالية.
3- الفاء للعطف التفريع، إذ قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه) متفرع من قوله (هل أدلكم على أهل بيت) إلى قوله (ناصحون) .
4- قال مالك وربيعة شيخه: الأشد: الحلم لقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) وهو أول الأشد وأقصاه أربع وثلاثون سنة. واستوى: أي: بلغ أربعين سنة.
5- جزاها على استسلامها لأمر ربها وصبرها على فراق ولدها إذ ألقته في اليم وعلى تصديقها بوعد ربها، ومما جزاها به رده ولدها إليها مصحوبا بالتحف والطرف وهي آمنة ووهب ولدها الحكمة والعلم والنبوة.(4/58)
تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} أي موسى دخل مدينة مُنْفُ (1) التي هي مدينة فرعون وكان غائبا فترة. {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} لأن الوقت كان وقت القيلولة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} على دين موسى وبني إسرايئل وهو الإسلام {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} لأنه على دين فرعون والأقباط وهو الكفر. {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ} أي طلب غوثه على الذي من عدوه {فَوَكَزَهُ مُوسَى} أي ضربه بجمع كفه {فَوَكَزَهُ مُوسَى} أي فقلته ودفنه في الرمال. وقوله تعالى: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} أي هذا قول موسى عليه السلام اعترف بأن ضربه القبطي كان من تهيج الشيطان لغضبه فقال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ} للإنسان {مُضِلٌّ} له عن طريق الخير والهدى {مُبِينٌ} أي ظاهر العداوة للإنسان والإضلال.
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي دعا موسى ربه معترفا بخطئه أوَّلاً فقال: {رَبِّ} أي يا رب {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي بقتلي القبطي {فَاغْفِرْ لِي} هذا الخطأ، فاستجاب الله تعالى وغفر له، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التأئبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حسن تدبير الله تعالى في منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه.
2- بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله لها وتوفيقه.
3- تقرير أن وعد الله حق، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد.
4- بيان إنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة.
5- مشروعية إغاثة الملهوف ونصرة (2) المظلوم.
6- وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل، وأول التوبة الاعتراف بالذنب.
__________
1- وقيل: منفيس: قاعدة مصر الشمالية، وقوله: (ودخل المدينة) هذا عطف جزء القصة على جزئها السابق وهو من قوله: (وأوحينا إلى أم موسى) وأين كان موسى؟ قطعا كان غائبا عن المدينة لأمر من الأمور اقتضى غيابه.
2- لأن نصر المظلوم دِين في الملل كلها وفرض في جميع الشرائع.(4/59)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
شرح الكلمات:
بما أنعمت علي: بإنعامك علي بمغفرة ذنبي.
فلن أكون ظهيرا للمجرمين: أي معيناً لأهل الإجرام.
خائفا يترقب: ماذا يحدث من خير أو غيره بعد القتل.
استنصره بالأمس: أي طلب نصرته فنصره.
يستصرخه: أي يستغيث به على قبطي آخر.
إنك لغوي مبي: أي لذو غواية وضلال ظاهر.
أن يبطش بالذي هو عدو لهما: أي أن يأخذ الذي هو عدو لموسى والقبطي معاً.
إن تريد إلا أن تكون جباراً: أي ما تريد إلا أن تكون جباراً تضرب وتقتل ولا تبالي بالعواقب.
من المصلحين: أي الذين يصلحون بين الناس إذا اختلفوا أو تخاصموا.(4/60)
وجاء رجل من أقصى المدينة: أي مؤمن آل فرعون أتى من أبعد نواحي المدينة.
إن الملأ يأتمرون بك: أي يتشاورون ويطلب بعضهم أمر بعض ليقتلوك.
فاخرج إني لك من الناصحين: أي اخرج من هذه البلاد إلى أخرى.
فخرج منها خائفا يترقب: خائف من القتل يترقب ما يحدث له.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن موسى عليه السلام قد قتل قبطيا بطريق الخطأ وأنه اعترف لربه تعالى بخطإه واستغفره، وأن الله تعالى غفر له وأعلمه بذلك بما شاء (1) من وسائط. ولما علم موسى بمغفرة الله تعالى له عاهده بأن لا يكون {ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} مستقبلاً ومن ذلك أن يعتزل فرعون وملائه لأنهم ظالمون مجرمون فقال:
{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي بمغفرتك لي خطإي (2) وذلك بالنظر إلى إنعامك علي بالمغفرة أعاهدك أن لا أكون {ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (3) } هذا ما دلت عليه الآية (17) أي الأولى في هذا السياق وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي فأصبح موسى في مدينة (منف) عاصمة المملكة الفرعونية {خَائِفاً} مما قد يترتب على قتله القبطي {يَتَرَقَّبُ} الأحداث ماذا تسفر عنه؟ {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ} وهو الإسرائيلي الذي طلب نصرته أمس {يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيثه بأعلى صوته فنظر إليه موسى وأقبل عليه ليخلصه قائلاً: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي لذو غواية بينة والغواية الفساد في الخلق والدين لأنك أمس قاتلت واليوم تقاتل أيضا. {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} أي موسى {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} وهو القبطي قال الإسرائيلي {أَتُرِيدُ
__________
1- يرى بعضهم أن موسى لم يعلم بمغفرة الله تعالى له لأنه لم يكن قد نُبِّئ بعد وجعل جملة (فغفر له) معترضة وقوله: (بما أنعمت عليّ) بالهداية والحكمة والعلم لا بالمغفرة لأنه لم يعلم بها. وما في التفسير أظهر وأولى بالسياق.
2- إن قتل موسى للقبطي كان قطعا خطأ، روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة لما سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الفتنة تجيء من ها هنا وأومأ بيده نحو المشرق – من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل: (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) .
3- قال ابن عباس: لم يستثن فابتلي من ثاني يوم. هذا إن قلنا: إن كلامه كان خبراً لا دُعاءً إذ الدعاء لا يجوز الاستثناء فيه لا يقال: ارحمني إن شئت.(4/61)
أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} أي تضرب وتقبل كما تشاء ولا تخاف عقوبة ذلك {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} الذين يصلحون بين المتخاصمين قال الإسرائيلي هذا لأنه جبان خاف من هجمة موسى ظاناً أنه يريده هو لما قدم له من القول {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} فلما سمع القبطي ما قال مقاتله الإسرائيلي نقلها إلى القصر وكان من عماله فاجتمع رجال القصر برئاسة فرعون يتداولون القضية وينظرون إلى ظروفها ونتائجها وما يترتب عليها وكان من جملة رجال المؤتمر مؤمن آل فرعون (1) (حزقيل) وكان مؤمنا يكتم إيمانه فأتى موسى سراً ليخبره بما يتم حياله وينصح له بالخروج من البلاد وهو ما جاء في قوله تعالى في الآية (20) من هذا السياق {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} من أبعدها فإن قصر الملك كان في طرف المدينة وهي مدينة فرعون (مُنْفُ) {يَسْعَى} فمشى بسرعة وجدٍّ وانتهى إلى موسى فقال {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا} أي من بلاد فرعون {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} خائفاً من القتل يترقب الطلب وماذا سيحدث له من نجاة أو خلافه ودعا ربه عز وجل قائلا:
{رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي من فرعون وملائه أولاً ومن كل ظالم ثانياً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شكر النعم، فموسى لما غفر الله له شكره بأن تعهد له أن لا يقف إلى جنب مجرم (2) أبداً.
2- سوء صحبة الأحمق الغوي فإن الإسرائيلي لغوايته وحمقه هو الذي سبب متاعب موسى.
3- لزوم إبلاغ الدولة عن أهل الفساد والشر في البلاد لحمايتها.
4- وجوب النصح وبذل النصيحة فمؤمن آل فرعون يعلم سلامة موسى من العيب ومن الجريمة فتعين له أن
ينصح موسى بمغادرة البلاد لينجو إن شاء الله وليس هذا من باب خيانة البلاد والدولة، لأن موسى من أهل الكمال وما حدث عنه كان من باب الخطأ فرفده ومد إليه اليد إنقاذاً من موت متعين.
__________
1- وقيل: اسمه شمعان، وقال الدارقطني: لا يعرف شمعان بالشين إلا مؤمن آل فرعون، قال الثعلبي: كان ابن عم فرعون.
2- روي عن عطاء، قيل له: إن أخاً لي يأخذ بقلمه وإنما يحسب ما يدخل وما يخرج وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان فقال: من الرأس؟ قال: خالد بن عبد الله القسري: قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين) وقال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئاً من ذلك فقد صار معينا للظالمين، وفي الحديث: "ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم" لاق الدواة: أصلحها.(4/62)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
1- الخوف الطبيعي لا يلام عليه فموسى عليه السلام قد خاف (1) خوفاً أدى به إلى الالتجاء إلى ربه بالدعاء
فدعاه واستجاب له ولله الحمد والمنة.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا
شرح الكلمات:
ولما توجه تلقاء مدين: أقبل بوجهه جهة مدين التي هي مدينة شعيب.
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل: أرجو ربي أن يهديني وسط الطريق حتى لا أضل فأهلك فاستجاب الله له وهداه إلى سواء السبيل ووصل مدين.
ولما ورد ماء مدين: انتهى إلى بئر يسقى منها أهل مدين.
يسقون: أي مواشيهم من بقر وإبل وغنم.
تذودان: أي أغنامهما منعا لهما من الماء حتى تخلو الساحة لهما خوف الاختلاط بالرجال الأجانب لغير ضرورة.
قال ما خطبكما: قال موسى للمرأتين اللتين تذودان ما خطبكما أي ما شأنكما.
__________
1- من قوله: (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب) .(4/63)
حتى يصدر الرعاء: لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء ويبقى لنا الماء وحدنا.
ثم تولى إلى الظل: أي بعد أن سقى لهما رجع إلى ظل الشجرة التي كان جالساً تحتها.
لما أنزلت علي من خير فقير: أي من طعام (1) محتاج إليه لشدة جوعه عليه السلام.
تمشي على استحياء: أي واضعة كم درعها على وجهها حياء منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن موسى عليه السلام بعد حادثة القتل والنصح له بمغادرة بلاد مصر إلى بلاد (2) مدين مدينة شعيب عليه السلام قال تعالى مخبرا عنه: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي ولما توجه موسى عملا بنصيحة مؤمن آل فرعون تلقاء مدين أي نحوها وجهتها ولم يكن له علم بالطريق الصحراوي والمسافة مسيرة ثمانية أيام قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي (3) سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي ترجَّى ربه سبحانه وتعالى أن يهديه الطريق السوي حتى لا يضل فيهلك، واستجاب الله له فهداه الطريق حتى وصل إلى بلاد مدين وقوله تعالى في الآية الثانية من هذا السياق (23) {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ يَسْقُونَ} أي وحين (4) ورد ماء مدين وهو بئر يسقي منها الناس مواشيهم {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي على الماء {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} أي جماعة كبيرة يسقون أنعامهم ومواشيهم {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ} وهما بنتا شعيب عليه السلام {تَذُودَانِ} أي تمنعان ماشيتهما من الاختلاط بمواشي الناس. فسألهما لا تطفلاً وإنما حالهما دعاه إلى سؤالهما لأنه رأى الناس يسقون مواشيهم ويصدرون فوجاً بعد فوج والمرأتان قائمتان على ماشيتهما تذودانها عن الحوض حتى لا تختلط ولا تشرب فسألهما لذلك قائلاً: {مَا خَطْبُكُمَا} أي ما شأنكما فأجابتاه قائلتين: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط بالرجال {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقوى على سقي هذه الماشية بنفسه فنحن نسقيها ولكن بعد ما يصدر الرعاء ويبقى في الحوض ماء
__________
1- من طعام تفسير لقوله من خير، ومحتاج تفسير لقوله: (فقير) .
2- لأن بها العبد الصالح شعيب، وقيل: لأجل النسب الذي بينه وبينهم لأن مدين من ولد إبراهيم، وموسى ومن ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
3- روي أن الله تعالى بعث إليه ملكاً راكباً فرسا فقال: اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق وكان ملك مدين لغير فرعون.
4- أي: بلغها ووصل إليها ومنه قول زهير:
فلما وردن الماء زرقاً جمامه
وضعن عصي الحاضر المتخيّم(4/64)
نسقي به، فلما عذرهما سقى لهما ماشيتهما {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقِيرٌ} الذي كان جالسا تحته وهو ظل شجرة وهو شجر صحراوي معروف يقال السمر، ولما تولى إلى الظل سأل ربه الطعام لشدة جوعه إذ خرج من مصر بلا زاد ولا دليل ولولا حسن (1) ظنه في ربه لما خرج هذا الخروج فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أي (2) طعام {فَقِيرٌ} أي محتاج إليه شدة الاحتياج. وفي أقرب ساعة وصلت البنتان إلى والدهما فسألهما عن سبب عودتهما بسرعة فأخبرتاه، فقال لإحداهما اذهبي إليه وقولي له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وهو معنى قوله تعالى {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} استجابة الله له {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} واضعة كم درعها على وجهها حياء. وقد قال فيها عمر رضي الله عنه إنها ليست سلفعاً (3) من النساء خرّاجة ولاّجة، وبلغت الرسالة المختصرة وكأنها برقية ونصها ما أخبر الله تعالى به في قوله: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} !! وقد ورد أنها لما كانت تمشي أمامه تدله على الطريق هبت الريح فكشفت ساقيها قال لها موسى: امشي ورائي ودليني على الطريق بحصى ترميها نحو الطريق وهذا الذي دلها على أمانته لما وصفته لأبيها بأنه {قَوِيٌّ أَمِينٌ} كما سيأتي فيما بعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حسن الظن بالله تعالى وقوة الرجاء فيه عز وجل والتوكل عليه.
2- بيان فضل الحياء وشرف المؤمنات اللائي يتعففن عن الاختلاط بالرجال.
3- بيان مروءة موسى في سقيه للمرأتين.
4- فضل الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه.
5- ستر الوجه عن الأجانب سنة المؤمنات من عهد قديم وليس كما يقول المبطلون هو عادة جاهلية، فبنتا
شعيب نشأتا في دار النبوة والطهر والعفاف وغطت إحداهما وجهها عن موسى حياءً وتقوى.
فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا
__________
1- وتوكله على ربه عز وجل.
2- لفظ الخير يطلق عدة إطلاقات فقد أطلق على الطعام كما هنا وأطلق على العبادة كما في قوله: (فعل الخيرات) وعلى القوة في قوله (أهم خير أم قوم تبع) وعلى المال في قوله (وإنه لحبّ الخير لشديد) .
3- السلفع من النساء: الجريئة على الرجال.(4/65)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
شرح الكلمات:
وقص عليه القصص: أخبره بشأنه كله من قتله القبطي وطلب السلطة له ونصح المؤمن له بمغادرة البلاد ووصوله إلى ماء مدين.
لا تخف نجوت من القوم الظالمين: أي من فرعون وملئه إذ لا سلطان لهم على بلاد مدين.
يا أبت استأجره: أي اتخذه أجيراً يرعى لنا الغنم بدلنا.
القوي الأمين: ذكرت له كفاءته وهي القوة البدنية والأمانة.
على أن تأجرني ثماني حجج: أي ثماني سنوات إذ الحجة عام والجمع حجج.
فإن أتممت عشراً فمن عندك: أي جعلت الثمانية عشراً فرغبت عشراً فهذا من كرمك.
قال ستجدني إن شاء الله من الصالحين: أي الذين يوفون ولا ينقضون ولا ينقصون.
ذلك بيني وبينك: أنا أفي بشرطي وأنت تفي بشرطك.
أيما الأجلين قضيت: أي الأجلين الثمانية أو العشرة أتممت.
فلا عدوان علي: وذلك بطلب الزيادة فوق الثمانية أو فوق العشرة.(4/66)
والله على ما نقول وكيل: أي وكيل وحفيظ أي أشهد الله على العقد بشطريه أي النكاح ورعي الغنم وبذلك تم العقد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ما تم بين موسى وابنتي شعيب من السقي لهما ومجيء إحداهما تبلغه رسالة والدها ومشيه معها وقوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُ} أي جاء موسى شعيباً {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ (1) } أي أخبره بشأنه كله من قتله القبطبي خطأ وطلب السلطات له ونصح مؤمن آل فرعون له بالخروج من البلاد، ووصوله إلى ماء مدين قال له شعيب عندئد {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني فرعون وحكومته وهذا ما يعرف الآن باللجوء السياسي فأمنه على نفسه لأن فرعون لا سلطان له على (2) هذه البلاد.
وقال له شعيب: اجلس تعش معنا فقال موسى أخاف أن يكون عوضاً عما سقيت لابنتيك ما شيتهما وإني لمن أهل بيت لا يطلبون على عمل الخير عوضاً فقال له شعيب لا ليس هذا بأجر على سقيك وإنما عادتنا أن نقري الضيف ونطعم الطعام فأكل ولم ير بذلك بأسا. وقوله تعالى {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} يروى أنها لما قالت {إِنَّ خَيْرَ (3) مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أثارت حفيظته بهذه الكلمة فسألها: كيف علمت ذلك فذكرت له عن القوة في سقيه (4) لهما وعن الأمانة في عض بصره عن النظر إليها، فصدقها شعيب وقال لموسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} أي أزوجك {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} (5) {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ (6) حِجَجٍ} أي سنين جمع حجة وهي (7) السنة وقوله {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي إحسانا منك وكرما، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بطلب العشرة
__________
1- التعريف في: (القصص) عوضا عن المضاف إليه أو هي للعهد أي: القصص المذكور آنفا.
2- إذ السلطان للكنعانيين وهم أهل بأس وشدة ونجدة.
3- الجملة تعليلية لجملة الإشارة عليه بالاستئجار.
4- قال بعض أهل العلم: وضفته بالقوة لأنه زاحم الرعاء وغلبهم وهم يزدحمون على الماء حتى سقى، وقيل كانت على البئر صخرة لا يرفعها إلا العدد من الناس فرفعها موسى وحده.
5- الإشارة إلى المرأتين اللتين سقى لهما سواء كانتا حاضرتين في المجلس أو ذهن موسى.
6- هذا جمع عقد النكاح مع عقد الإجارة. والمشهور من عند الفقهاء أن الشرط المقارن لعقد النكاح إن كان مما ينافي عقد النكاح فهو باطل ويفسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده ويلغى الشرط المنافي للنكاح، وأما الشرط غير المنافي للنكاح فهو جائز ولا حرج فيه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج".
7- مشتقة من اسم الحج، لأن الحج يقع كل سنة، وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة.(4/67)
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي الذين يوفون بعهودهم قال موسى رداً على كلامه {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أنا عليَّ أن أفي بما اشترطت عليَّ وأنت عليك أن تفي بما اشترطت لي على نفسك {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ (1) } الثمانية أو العشرة {قَضَيْتُ} أي وفيت وأديت {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي بطلب الزيادة على الثمانية ولا على العشرة. فقال شعيب: نعم {وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فأشهد الله تعالى على صحة (2) العقد وبذلك أصبح موسى زوجاً لابنة شعيب التي عيّنها له والغالب أنها الكبرى التي شهدت له بالأمانة والقوة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تجلى كرم شعيب ومروءةه وشهامته في تطمين موسى وإكرامه وإيوائه.
2- بيان أن الكفاءة شرط في العمل ولا أفضل من القوة وهي القدرة البدنية والعلمية والأمانة.
3- مشروعية عرض الرجل ابنته على من يرى صدقه وأمانته ليزوجه بها.
4- مشروعية إشهاد الله تعالى على العقود بمثل {وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} .
5- فضيلة موسى عليه السلام بإيجار نفسه على شبع بطنه وإحصان فرجه.
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا
__________
1- (أيما) أي: اسم موصول مبهم وهو منصوب بـ (قضيت) وزيدت بعده (ما) لتأكيد الكلام، ولتصير أيّ شبيهة باسم الشرط ولذا أجيب بجملة (فلا عدوان علي) وهي مقرونة بالفاء.
2- اكتفى شعيب وموسى بإشهاد الله تعالى فهل يصح في الإسلام بدون إشهاد؟ الجمهور على عدم صحته بل لا بد من الإشهاد عليه وهو كذلك.(4/68)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32)
شرح الكلمات:
قضى موسى الأجل: أتم المدة المتفق عليها وهي ثمان أو عشر سنوات.
آنس: أبصر.
أوجذوة من النار: عود غليظ في رأسه نار.
لعلكم تصطلون: أي تستدفئون.
نودي: أي ناداه الله تعالى بقوله يا موسى إني أنا الله رب العالمين.
في البقعة المباركة: قطعة الأرض التي عليها الشجرة الكائنة بشاطئ الوادي.
تهتز كأنها جان: تضطرب وتتحرك بسرعة كأنها حية من حيات البيوت.
ولى مدبراً ولم يعقب: رجع هارباً ولم يعقب لخوفه وفزعه منها.
اسلك يدك في جيبك: أدخلها في جيب قميصك.
من غير سوء: أي عيب كبرص ونحوه.
واضمم إليك جناحك من الرهب: اضمم يدك بأن تضعها على صدرك ليذهب روعك.
فذانك برهانان: أي آيتان من ربك على صدق رسالتك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص موسى وهو في طريقه بتدبير الله تعالى إلى مصر، إنه لما(4/69)
قضى الأجل الذي تعاقد عليه مع صهره شعيب وقد أتم خير الأجلين وأوفاهما وهو العشر حجج قفل (1) ماشيا بأهله زوجته وولده في طريقه إلى مصر لزيارة والدته وإخوته حدث أن ضل الطريق ليلا، وكان الفصل شتاء والبرد شديد فإذا به يأنس {مِنْ جَانِبِ الطُّورٍِ} أي جبل الطور {نَاراً} فقال لأهله امكثوا هنا {إِنِّي آنَسْتُ} أي أبصرت {نَاراً} سأذهب إليها {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} إذ قد أجد عندها من يدلنا على الطريق أو آتيكم بجذوة (2) من النار أي خشبة في رأسها نار مشتعلة {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي من أجل اصطلائكم بها أي استدفائكم بها، هذا ما دلت عليه الآية (29) وقوله تعالى في الآية الثانية {فَلَمَّا أَتَاهَا} أي أتى النار {نُودِيَ} أي ناداه مناد {مِنْ (3) شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ (4) فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى} أي ناداه ربه {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها فاهتزت واضطربت وتحركت بسرعة {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي حية عظيمة من الحيات المعروفة بالجنّان {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي فزع منها فرجع من الفزع إلى الوراء {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولم يرجع إليها من الرعب، فقال له ربه تعالى {أَقْبِلْ} أي على العصا {وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} أي الذي آمنهم ربهم فلا يخافون شيئا.
وقال له بعد أن رجع {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس وقوله {تَخْرُجْ} أي اليد {بَيْضَاءَ} كالنور {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي برص أو نحوه {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي يدك مع العضد إلى صدرك {مِنَ الرَّهْبِ (5) } أي الخوف فإن يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولا.
ثم قال تعالى له: {فَذَانِكَ (6) } أي العصا واليد البيضاء. {بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} أي آيتان
__________
1- يقال: قفل راجعا أي: من سفره إلى أهله: والقافلة: الجماعة العائدة من السفر: ويقال لها القافلة وهي في بدء سفرها تفاؤلا بالعودة السليمة لها وموسى عليه السلام قفل من رحلته إلى بلاده.
2- الجذوة مثلثة الجيم ضماً وفتحاً وكسراً: الجمرة الملتهبة، والجمع جذاً مثلثة الجيم أيضا.
3- (من) ابتدائية وكذا من الشجرة إذ من الشجرة بدل اشتمال من قوله (من شاطئ الوادي) وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع: شطآن وشواطئ.
4- (الأيمن) أي: عن يمين موسى، والبعقة والجمع بقع: المكان من الأرض وإن فتحت باؤها جمعت على بقاع كجفنة وجفان وأما بالضم فهي كغرفة وغرف، و (من الشجرة) أي: من ناحيتها، وهل الشجرة من سمر أو عليق: (عوسج) الله أعلم.
5- قرأ الجمهور: (الرهب) بفتح الراء والهاء وقرأ بعضٌ بضم الراء وسكون الهاء: (الرُّهب) وقرأ عاصم بفتح الراء وسكون الهاء (الرَّهب) .
6- (فذانك) بتخفيف النون لغة قريش وبتشديدها مع مدها وتخفيفها مع مدها (فذانيك) لغة هذيل.(4/70)
تدلان على رسالتك المرسل بها إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن طاعة الله حيث كفروا به وعبدو غيره وظلموا عباده، لتدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته وإرسال بني إسرائيل معك لتذهب بهم إلى أرض المعاد أي فلسطين وما حولها من أرض الشام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الأنبياء أوفياء فموسى قضى أوفى الأجلين وأتمها وهو العشر.
2- مشروعية السفر بالأهل وقد يحصل للمرء أنه يضل الطريق أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
3- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وهي من جبل الطور.
4- مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها.
5- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
6- لا يلام على الخوف الطبيعي.
7- آية العصا واليد.
8- من خاف، وضع يده على صدره زال خوفه إن شاء الله تعالى.
9- التنديد بالفسق وأهله.
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ(4/71)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
شرح الكلمات:
إني قتلت منهم نفسا: أي نفس القبطي الذي قتله خطأ قبل هجرته من مصر.
أفصح مني لسان: اي أبين مني قولا.
ردءاً: أي معيناً لي.
سنشد عضدك بأخيك: أي ندعمك به ونقويك بأخيك هارون.
ونجعل لكما سلطاناً: أي حجة قوية يكون لكما بها الغلب.
فلا يصلون إليكما: أي بسوء.
بآياتنا: أي اذهبا بآياتنا.
فلما جاءهم موسى بآياتنا: أي العصا واليد وغيرهما من الآيات التسع.
بيناتٍ: أي واضحات.
سحر مفترى: أي مختلق مكذوب.
عاقبة الدار: أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
إنه لا يفلح الظالمون: أي المشركون الكافرون.
معنى الآيات:
لما كلف الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون وحمله رسالته إليه قال موسى كالمشترط لنفسه {قََالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} يريد نفس القبطي الذي قتله خطأ أيام كان شاباً بمصر {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي يقتلوني به إن لم أبين لهم وأفهمهم حجتي {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} أي أبين مني قولاً وأكثر إفهاما لفرعون وملئه (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً (1) } أي عونا {يُصَدِّقُنِي} أي (2) يلخص قولي ويحرره لهم فيكون ذلك تصديقا منه لي، لا مجرد أني إذا قلت قال صدق موسى. وقوله {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} فيما جئتهم به. فأجابه الرب تعالى قائلا {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
__________
1- قرأ نافع (رداً) منونا غير مهموز. وقرأ حفص (ردءاً) مهموزا.
2- قرأ نافع (يصدقني) بالجزم لأنه في جواب الطلب الذي هو: (فأرسله معي) وقرأ حفص بالرفع (يصدقني) على أن الجملة حال من الهاء في (أرسله) .(4/72)
بِأَخِيكَ} أي نقويك به ونعينك {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي برهانا وحجة قوية يكون لكما الغلب بذلك. وقوله {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي بسوء أبداً وقوله {بِآياتِنَا (1) } أي اذهبا بآياتنا أو يكون لفظ بآياتنا متصلا بسلطاناً أي سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً بآياتنا {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} وعلى هذا فلا نحتاج إلى تقدير فاذهبا وقوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا} العصا واليد وغيرهما {بَيِّنَاتٍ} أي واضحات {قَالُوا مَا هَذَا} أي الذي جاء به موسى من الآيات {إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً (2) } أي مكذوب مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي الذي جئت به يا موسى في {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} أي في أيامهم وعلى عهدهم. وهنا رد موسى على فرعون بأحسن رد وهو ما أخبر تعالى به عنه بقوله: {وَقَالَ مُوسَى (3) رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} أي من عند الرب تعالى {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة يوم القيامة (4) . ولم يقل له اسكت يا ضال يا كافر إنك من أهل النار بل تلطف معه غاية اللطف امتثالا لأمر الله تعالى في قوله {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقوله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي الكافرون والمشركون بربهم هذا من جملة قول موسى لفرعون الذي تلطف فيه وألانه غاية اللين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن القصاص كان معروفا معمولا به عند أقدم الأمم، وجاءت الحضارة الغربية فأنكرته فتجرأ الناس على
سفك الدماء وإزهاق الأرواح بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية ولذلك صح أن تسمى الخسارة البشرية بدل الحضارة الغربية.
2- مشروعية طلب العون عند التكليف بما يشق ويصعب من المسؤولين المكلفين.
3- مشروعية التلطف في خطاب الجبابرة وإلانة القول لهم، بل هو مشروع مع كل من يدعى إلى الحق من أجل
أن يتفهم القول ولا يفلق عليه بالإغلاظ له.
__________
1- قوله تعالى: (بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) يجوز أن يكون (بآياتنا) متعلقاً بمحذوف تقديره: اذهبا بآياتنا. ويجوز أن يتعلق بنجعل لكما سلطانا بآياتنا فتكون رهتبهم منكما آية ويجوز أن يتعلق بـ (لا يصلون إليكما) أي: يصرفون عنكما صرفاً بسبب آياتنا كقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) ويجوز تعلقيها بـ (الغالبون) أي: بآياتنا.
2- هذا شأن المحجوج المغلوب إذا أعيته الحجة يفزع إلى التلفيق والاتهامات الباطلة دفعا للمعرة.
3- كان مقتضى الكلام في سياق الحوار أن يقال: قال موسى بدون واو العطف إلا أنه خولف هنا وأتي بالواو: (وقال موسى) وهي قراءة الجمهور والمقصود منها هو ذكر التوازن بين حجة فرعون وحجة موسى ليظهر للسامع التفاوت بينهما بخلاف لو حذفت الواو كما قرأ ابن كثير فإنها مجرد حكاية قول موسى عليه السلام فليس فيها ما يلفت النظر.
4- (عاقبة الدار) قد يفهم منها فرعون: ما ينتهي إليه الخصام مع موسى إذا كان لا يؤمن بالمعاد وإن كان يؤمن بالمعاد فالأمر واضح.(4/73)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
شرح الكلمات:
ما علمت لكم من إله غيري: أي ربا يطاع ويذل له ويعظم غيري لعنة الله عليه ما أكذبه.
يا هامان: أحد وزراء فرعون، لعله وزير الصناعة أو العمل والعمال.
فأوقد لي يا هامان على الطين: أي اطبخ لي الآجُرْ وهو اللبن المشوي.
فاجعل لي صرحا: أي بناء عاليا، قصراً أو غيره.
لعلي أطلع إلى إله موسى: أي أقف عليه وأنظر إليه.(4/74)
وإني لأظنه من الكاذبين: أي موسى في ادعائه أن له إلها غيري.
فنبذناهم في اليم: أي طرحناهم في البحر غرقى هالكين.
وجعلناهم أئمة: أي رؤساء يقتدى بهم في الباطل.
يدعون إلى النار: أي إلى الكفر والشرك والمعاصي الموجبة للنار.
في هذه الدنيا لعنة: أي خزيا وبعداً عن الخير.
هم من المقبوحين: أي المبعدين من كل خير المشوَّهي الخلقة.
القرون الأولى: قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم.
بصائر للناس: أي فيه من النور ما يهدي كما تهدي الأبصار.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} إن فرعون لما سمع كلام موسى عليه السلام المصدق بكلام هارون عليه السلام وكان الكلام في غاية اللين، مؤثراً خاف فرعون من الهزيمة، ناور وراوغ فقال في الحاضرين {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ (1) مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أي كما ادعى موسى ولكن سأبحث وأتعرف على الحقيقة إن كان هناك إله آخر غيري، فنادى وزيره هامان وأمره أن يعد اللبن المشوي لأنه قوي ويقوم ببناء صرح عال يصل إلى عنان السماء ليبحث بنفسه عن إله موسى إن كان حسب دعواه وإني لأظن موسى كاذباً في دعوى وجود إله له ولكم غيري هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (38) {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي (2) يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (3) . يعني في ادعائه أن هناك إلهاً آخر غيري.
قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ} أي أرض مصر {بِغَيْرِ الْحَقِّ (4) } الذي يحق
__________
1- قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين قوله: ما علمت لكم من إله غيري وبين قوله أنا ربكم الأعلى أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ربا هو خالقه وخالق قومه.
2- كنّى عن البناء بمقدماته، وفعلاً دارت رحى العمل على أشد ما تكون وفرعون يعلم أنه مجرد تمويه على العامة وشغل لأذهانهم عن معرفة الحق الذي دعا إليه موسى: وهل بنى الصرح؟ روي أنه قبل أن يتم سقط فقتل خلقا كثيراً من العمال والبنائين، ولعل في قوله تعالى: (وما كيد فرعون إلا في تباب) من سورة المؤمن، إشارة إلى سقوطه وهلاك القائمين ببنائه.
3- نسب موسى إلى جماعة الكذب وهو يعلم أنه صادق تمويها على الرعية، ودفعاً للحق الذي بهره نوره فما أطاقه فهو يبحث عن المخرج.
4- (بغير الحق) أي: الموجب لهم الاستكبار ولا يوجد حق يوجب الاستكبار قط.(4/75)
لهم الاستكبار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (1) } أي كذبوا بالبعث الآخر. قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ (2) وَجُنُودَهُ} أي بسبب استكبارهم وكفرهم وتكذيبهم بآيات الله {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (3) } أي في البحر وقال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} إنها كانت وبالاً عليهم وخساراً لهم. وقوله تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي وجعلنا فرعون وملأه أئمة في الكفر تقتدي بهم العتاة والطغاة في كل زمان ومكان {يدعون إلى النار} بالكفر والشرك والمعاصي وهي موجبات النار. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} بل يضاعف لهم العذاب ويخذلون ويهانون لأن من دعا إلى سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء.
وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ} أي آل فرعون {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} انتهت بهم إلى الغرق الكامل والخسران التام، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (4) } أي المبعدين من رحمة الله الثاوين في جهنم ولبئس مثوى المتكبرين وقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي التوراة وذلك بعد إهلاك الظالمين وقوله {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} أي قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم وقوله {بَصَائِرَ} أي الكتاب بما يحمل من الهدى والنور {بَصَائِرَ} أي ضياء للناس من بني إسرائيل يبصرون على ضوءه كل ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم {وَهُدىً وَرَحْمَةً} أي وبيانا لهم ورحمة لمن يعمل به منهم. وقوله {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي وجود الكتاب بصائر وهدى ورحمة بين أيديهم حال تدعوهم إلى أن يتذكّروا دائماً نعم الله عليهم فيشكرونه بالإيمان به وبرسله وبطاعته وطاعة رسله عليهم السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن فرعون كان على علم بأنه عبد مربوب لله وأن الله هو رب العالمين.
2- تقرير صفة العلو والاستكبار لفرعون وأنه كان من العالين.
3- بيان كيف تكون عاقبة الظلمة دماراً وفساداً.
__________
1- يطلق الظن ويراد به اليقين ويكون على بابه وهو هنا كفر ولو كان على بابه لأن الشك في العقائد كفر.
2- قيل من هلك مع فرعون من جند كانوا مليوناً وستمائة ألف.
3- ناحية بحر القلزم في موضع منه يقال له بطن عُريرة.
4- المشوّهي الخلقة المسودي الوجوه زرق العيون فما أقبحهم وما أقبح ما كانوا يصنعون!! يقال: قبحه وقبحه مشدداً ومخففاً أي: نحاه من كل خير، أو جعله قبيحا. قال الشاعر:
ألا قبّح الله البراجم كلها
وقبح يربوعاً وقبح دارما(4/76)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
1- دعاة الدعارة والخنا والضلال والشرك أئمة أهل النار يدعون إليها وهم لا يشعرون.
2- بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل بإنزال التوراة فيهم كتاباً كله بصائر وهدى ورحمة.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
شرح الكلمات:
وما كنت بجانب الغربي: أي لم تكن يا رسولنا حاضراً بالجانب الغربي من موسى.
إذا قضينا إلى موسى الأمر: أي بالرسالة إلى فرعون وقومه.
وما كنت من الشاهدين: حتى تعلمه وتخبر به.
ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر: أي غير أننا أنشأنا بعد موسى أمما طالت أعمارهم فنسوا العهود وأندرست العلوم وانقطع الوحي فجئنا بك رسولاً وأوحينا إليك خبر موسى وغيره.
وما كنت ثاويا في أهل مدين: أي ولم تكن يا رسولنا مقيماً في أهل مدين فتعرف قصتهم.(4/77)
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا: أي لم تكن بجانب الطور أي جبل الطور إذ نادينا موسى وأوحينا إليه ما أوحينا حتى تخبر بذلك.
ما أتاهم من نذير من قبلك: أي أهل مكة والعرب كافة.
ولولا أن تصيبهم مصيبة الخ: لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولا.
معنى الآيات:
بعد انتهاء قصص موسى مع فرعون وإنزال التوراة {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وكان القصص كله شاهداً على نبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاطب الله تعالى رسوله فقال: {وَمَا كُنْتَ} أي حاضراً {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي بالجبل الغربي من موسى {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ (1) } بإرساله رسولاً إلى فرعون وملئه {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الحاضرين إذاً فكيف علمت هذا وتتحدث به لولا أنك رسول حق؟!
وقوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا (2) قُرُوناً} أي أمما بعد موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي طالت بهم الحياة وامتدت فنسوا العهود واندرست العلوم الشرعية وانقطع الوحي فجئنا بك رسولاً وأوحينا إليك خبر موسى وغيره وقوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً} أي مقيماً {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} فكيف عرفت حديثهم وعرفت إقامة موسى بينهم عشر سنين لولا أنك رسول حق يوحى إليك نبأ الأولين وهو معنى قوله تعالى {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} فأرسلناك رسولاً وأوحينا إليك أخبار الغابرين.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} أي جبل الطور {إِذْ نَادَيْنَا} موسى وأمرناه بما أمرناه وأخبرناه بما أخبرنا به، فيكف عرفت ذلك وأخبرت به لولا أنك رسول حق يوحى إليك. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ (3) رَبِّكَ} أي أرسلنا رحمة من ربك للعالمين {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ
__________
1- إذ كلفّناه أمرنا ونهيناه وألزمناه عهدنا.
2- (ولكنا أنشأنا) الخ وجه هذا الاستدراك أن المشركين لما تعجبوا من رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لم يسبقها رسالة إلى آبائهم فأعلمهم أن الله تعالى أرسل موسى بعد فترة من الرسل كذلك ولكن لطول الزمن ومضي القرون نسوا رسالة موسى عليه السلام حتى قالوا: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.
3- أي: ما كان علمك بذلك لحضورك ولكن كان علمك رحمة من ربك فرحمة: منصوب في الآية على تقدير كون محذوف أي: كان علمك رحمة. ويصح النصب على المفعول المطلق أي: ولكن رحمناك رحمة فعلمناك ذلك بواسطة إيحائنا إليك.(4/78)
مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} وهم أهل مكة والعرب أجمعون {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي كي يتعظوا فيؤمنوا ويهتدوا فينجوا ويسعدوا.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ (1) } أي عقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي من الشرك والمعاصي {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} أي هلا أرسلت إلينا رسولاً {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لولا قولهم هذا لعاجلناهم (2) بالعذاب ولما أرسلناك إليهم رسولاً إذاً فمالهم لا يؤمنون ويشكرون؟؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بأقوى الأدلة العقلية.
2- بعثة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءت في أوانها واشتداد الحاجة إليها.
3- البعثة المحمدية كانت عبارة عن رحمة إلهية رحم الله بها العالمين.
4- جواب {لولا} في قوله {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} . محذوف وقد ذكرناه وهو لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم ورسولا.
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
__________
1- (لولا) هنا حرف امتناع لوجود، امتنع إنزال العذاب بهم لوجود قولهم (لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك) أما لولا الثانية فهي أداة تحضيض.
2- في الآية معنى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) .(4/79)
شرح الكلمات:
فلما جاء هم الحق من عندنا: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا مبينا.
قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى: أي هلا أعطي مثل ما أعطي موسى من الآيات المعجزات من العصا واليد أو كتابا جملة واحدة كالتورة.
أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل: أي كيف يطالبونك بأن تؤتى مثل ما أوتي موسى وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل لما أخبرهم اليهود أنهم يجدون نعت محمد في التوراة كفروا بهذا الخبر ولم يقبلوه.
وقالوا سحران تظاهرا: أي التوراة والقرآن كلاهما سحر ظاهر بعضهما بعضاً أي قواه.
فإن لم يستجيبوا لك: أي بالإتيان بالكتاب الذي هو أهدى من التوراة والقرآن.
فاعلم أنما يتبعون أهواءهم: في كفرهم ليس غير، فلا عقل ولا كتاب منير.
ومن أضل ممن اتبع هواه: أي لا أضل منه قط.
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون: أي بأخبار الأولين وما أحللنا بهم من نقمتنا لما كذبوا رسلنا وأنكروا توحيدنا {لعلهم يتذكرون} أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح وبين حاجة العالم إليها لا سيما العرب وذكر أنه لولا كراهة وقولهم: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لما أرسل (1) إليهم رسوله. ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة فقال عنهم {فَلَمَّا جَاءَهُمُ (2) الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} أي محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته قال
__________
1- ولأخذهم بالعذاب جزاء كفرهم وشركهم وفسادهم.
2- هذه الفاء هي الفصيحة أفصحت عن جواب طلب متقدم وهو قول المشركين. لولا أرسلت إلينا رسولاً أي: هلاّ أرسلت إلينا رسولاً مطالبين بذلك بإلحاح.(4/80)
تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} (1) . وقالوا: {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} وذلك أن قريشا لما كثر المؤمنون وهالهم الموقف بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم بوصفهم أهل الكتاب الأول عن مدى صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يقوله فأجابهم اليهود بأنهم يجدون نعوت النبي الأمي في التوراة وأنه رسول حق وليس بكذاب ولا دجال فما كان من المشركين من قريش إلا أن أعلنو كفرهم بالتوراة وقالوا: التوراة والقرآن {سِحْرَانِ (2) } تعاونا فلا نؤمن بهما ولا نصدق من جاء بهما وقرئ {سَاحِرَانِ} أي موسى ومحمد عليهما السلام فلا نؤمن بهما.
هذا معنى قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي بكل منهما كافرون.
فكيف لا يخجلون اليوم ويطالبون محمداً أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الآيات يا للعجب أين يذهب بعقول المشركين؟!!
وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ} أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن.. أتبعه! {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} بالإتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة ومن أين لهم بذلك.. إنه المستحيل! إذاً فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم فيما يقولون ويدعون فلا عقل ولا نقل عندهم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} ؟! اللهم إنه لا أضل منه. والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ (3) الظَّالِمِينَ} هذا بيان لسنة الله تعالى في الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملا بالمعاصي فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبدا.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ (4) وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لقد وصلنا لهؤلاء المشركين
__________
1- أي: موسى ومحمد تعاونا على السحر.
2- قرأ نافع (ساحران تظاهرا) وقرأ حفص: (سحران) إخبار بالمصدر.
3- المراد بالظالمين: الكاملون في الظلم وهو ظلم الأنفس وظلم الناس وظلم الشرك وهو أعظمها. (إن الشرك لظلم عظيم) وكذا إتيان الفواحش.
4- التوصيل مبالغة في الوصل وهو: ضمّ شيء إلى شيء وربطه به، والقول القرآن ألفاظه وصل بعضها ببعض إذ نزل منجما كلما نزل آي وصل بالآخر حتى اكتمل، ووصلت معانيه بعضها ببعض بإحكام وإتقان لم يُعهد في كتاب غيره وصل وعده بوعيده وترغيبه بترهيبه.(4/81)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
من قومك يا رسولنا أي وصلنا لهم القول بأخبار الماضين، وما أحللنا بهم من بأسنا ونقمنا وعظيم عقوباتنا لما كفروا كما كفر هؤلاء وكذبوا بما كذّب به هؤلاء وصلنا لهم القول مبينا واضحاً موصولا أوله بآخره رجاء أن يتذكروا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويرحموا بدخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تناقض المشركين وكل من يبتع الهوى ويترك الهدى الإلهي.
2- بيان تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك فبان بذلك أنهم يتبعون أهواءهم وأنه لا أضل منهم اليوم.
3- بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإلهية.
4- بيان أن الله عز وجل وصل القول لأهل مكة مفصلاً مبيناً لهدايتهم فله الحمد وله المنة وعلى الكافرين اللعنة في جهنم.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
شرح الكلمات:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله: أي التوراة والإنجيل من قبل القرآن الكريم.
وإذا يتلى عليهم: أي القرآن
إنا كنا من قبله مسلمين: أي منقادين لله مطيعن لأمره ونهيه.(4/82)
أجرهم مرتين: أي يضاعف لهم الثواب لأنهم آمنوا بموسى وعيسى وآمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويدرءون بالحسنة السئية: أي يدفعون بالحسنة من القول أو الفعل السيئة منهما.
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه: أي الكلام اللاغي الذي لا يقبل ولا يقر عليه لأنه لا يحقق درهماً للمعاش ولا حسنة للمعاد.
سلام عليكم: هذا سلام المتاركة أي قالوا قولا يسلمون به.
لا نبتغي الجاهلين: أي لا نطلب صحبة أهل الجهل لما فيها من الأذى.
معنى الآيات:
إن قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} يشمل أيضا اليهود والنصارى من أهل الكتاب إذ هم كالعرب فيما بين لهم من أخبار الماضين وفصل من أنباء إهلاك الأمم السابقة وما أنزل من بأساء وعذاب بالمكذبين، إذ الجميع مطالبون بالإيمان العمل الصالح والتخلي عن الشرك والكفر والمعاصي للنجاة والسعادة فذكر تعالى هنا أن فريقاً من أهل الكتاب يؤمنون بالنبي محمد لأنه الحق من ربهم. فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ (1) الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي القرآن {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل نزول (2) القرآن {مُسْلِمِينَ} أي موحدين منقادين نعبد الله بما شرع على لسان موسى وعيسى عليهما السلام هذه الآية تعني مجموعة من آمن من أهل الكتاب على عهد رسول الله ونزول القرآن منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ (3) مَرَّتَيْنِ} أي مضاعفا لأنهم آمنوا برسولهم وعملوا بما جاء به من الحق وآمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الهدى وقوله {وَيَدْرَأُونَ (4) } أي يدفعون {بِالْحَسَنَةِ} وهي الصفح والعفو {السَّيِّئَةَ} وهي الأذى من سب وشتم. وقوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (5) } أي
__________
1- ذكر عدة أقوال في هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية منها وهو أقربها لأن السورة مكية أنها نزلت في النجاشي وأصحابه إذ وجّه باثني عشر رجلا فجلسوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم فآمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم: خيبكم الله من ركب وقبّحكم من وفد لم تلبثوا أن صدّقتموه وما رأينا ركباً أحمق منكم ولا أجهل. فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
2- ومن قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك.
3- ثبت في الصحيح "أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به واتبعه وصدّقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدّبها فأحسن أدبها ثم عتقها وتزوجها فله أجران" قال الشعبي: خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
4- شاهده حديث معاذ: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن".
5- هذا الإنفاق عام في المال والعلم والجاه إذ كل ذلك من رزق الله والكل ينفق منه في سبيل الله.(4/83)
أي يتصدقون بفضول أموالهم حيث تنبغي الصدقة.
وقوله {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي إذا سمع أولئك المؤمنون من أهل الكتابين اللغو من سفهاء الناس أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ولا إلى قائله وأجابو قائلين {لَنَا أَعْمَالُنَا} أي نتائجها حيث نجزى بها {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} حيث تجزون بها {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي اتركونا، إنا لا نبتغي (1) محبة الجاهلين، لما في ذلك من الأذى والضرر الناتج عن سلوك أهل الجهل بالله تعالى ومحابه ومكارهه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل أهل الكتاب إذا آمنوا بالنبي الأمي وكتابه وأسلموا لله رب العالمين.
2- فضيلة من يدرء بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله.
3- فضيلة من يعرض عن اللغو وأهل الجهالات، ويقول ما يسلم به من القول، وهذه إحدى صفات عباد الرحمن {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} أي قولا يسلمون به. وهذا السلام ليس سلام تحية وإنما هو سلام متاركة.
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ
__________
1- أي: لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة والمخاصمة.(4/84)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
شرح الكلمات:
إنك لاتهدي من أحببت: أي هدايته كأبي طالب بأن يسلم ويحسن إسلامه.
وقالوا: أي مشركوا قريش.
إن نتبع الهدى معك: أي إن نتبعك على ما جئت به وندعوا إليه وهو الإسلام.
نتخطف من أرضنا: أي تتجرأ علينا قبائل العرب ويأخذوننا.
يجبى إليه ثمرات كل شيء: أي يحمل ويساق إليه ثمارت كل شيء من كل ناحية.
رزقا من لدنا: أي رزقاً لكم من عندنا يا أهل الحرم بمكة.
بطرت معيشتها: أي كفرت نعمة الله عليها فأسرفت في الذنوب وطغت في المعاصي.
يبعث في أمها رسولا: أي في أعظم مدنها. وهي العاصمة.
إلا وأهلها ظالمون: بالتكذيب للرسول والإصرار على الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا ... بِالْمُهْتَدِينَ} هذه الآية نزلت في شأن (1) أبي طالب عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرغب في إسلامه لما له من سالفة في الوقوف إلى جنب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحيمه ويدافع عنه فلما حضرته الوفاة زاره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرض عليه الشهادتين فكان يقول له: ياعم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة وكان حوله عواده من كفار قريش، ومشايخها فكانوا ينهونه عن ذلك حتى قالوا له: أترغب عن دين آبائك؟ أترغب عن ملة عبد المطلب أبيك حتى قال هو على ملة عبد المطلب ومات. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأستغفرن لك مالم أُنْهَ عن ذلك فنهاه الله فلم يستغفر له بعد ونزلت هذه الآية كالعزاء له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هدايته يا نبينا {وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هدايته لعلمه أنه يطلب الهداية ولا يرغب عنها كما رغب عنها أبو طالب وأبو لهب وغيرهما،
__________
1- روى البخاري سبب نزول هذه الآية وأنها نزلت في أبي طالب عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/85)
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي بالذين سبق في علمه تعالى أنهم يهتدون.
وقوله تعالى: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} هذا اعتذار اعتذر به بعض رجالات (1) قريش فقالوا نحن نعرف أن ما جئت به حق ولكننا نخشى إن آمنا بك واتبعناك يتألب علينا العرب ويرموننا عن قوس واحد ونصبح نتخطف من قبل المغيرين كما هو حاصل لغيرنا، وبذلك نحرم هذا الأمن والرخاء وتسوء أحوالنا، لهذا نعتذر عن متابعتك فيما جئت به وأنت تدعوا إليه من الكفر بآلهتنا وهدمها والتخلي عنها. فقال تعالى في الرد على هذا الاعتذار الساقط البارد {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ (2) لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى (3) إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} أي لم يوطئ لهم أرض بلد حرمناه فلا يسفك فيه دم، ولا يصاد فيه صيد، ولا يؤخذ فيه أحد بجريرة، أليس هذا كافياً في أن يعلموا أن الذي جعل لهم حرما آمنا قادر على أن يؤمنهم إذا آمنوا وأسلموا، ومن باب أولى. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (4) } فهذه علة إصرارهم على الشرك والكفر. إنها الجهل بالله تعالى وعظمته وعلمه وحكمته. ومعنى يجبى أو تجبى إليه ثمرات كل شيء أي يحمل إليه ويساق من أنحاء البلاد ثمرات كل شيء من أنواع الأرزاق وكان ذلك رزقا منه تعالى لأهل الحرم. أفلا يشكرون.
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وكثيرا من أهل القرى أهلكناهم {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا (5) } لما بطروا عيشهم فلم يشكروا نعمة الله عليهم فأسرفوا في الظلم والمعاصي فأهلكناهم {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} أي ديارهم {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً} (6) كديار عاد وثمود والمؤتفكات. {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} لها، فلم نورثها غيرهم وتركناها خاوية خالية لم تسكن. أما يذكرون هذا فيعلموا بذلك قدرتنا فيتقوا فينا ويتوكلوا علينا ويؤمنوا ويوحدوا ويستقيموا على منهج الحق الذي جئت يا رسولنا به.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} يا أيها الرسول {مُهْلِكَ الْقُرَى} أي أهل المدن والحواضر {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} كما بعثك في أم القرى مكة {يَتْلُو (7) عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي لم يكن
__________
1- من القائلين هذا القول من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي وكان ها القول من تعللاتهم فأجاب تعالى عما اعتل به هؤلاء فقال: (أو لم نمكن لهم حرما آمناً..) الخ.
2- الاستفهام للإنكار عليهم أن يكون الله تعالى لم يمّكن لهم حرماً آمناً.
3- قرأ نافع تجبى بالتاء، وقرأ حفص بالياء، والجبي: الجمع، والجلب، ومنه جباية الزكاة أي جمع أموالها، وجابية الحوض ما يجمع فيها الماء من البئر.
4- هذا الاستدراك لذكر علة تجاهلهم حماية الله تعالى لهم بتمكين الحرم لهم فهم فيه آمنون مطعمون ألا وهي الجهل فهو علتهم الحاملة لهم على الإصرار على الشرك.
5- بطرت: جهلت شكر معيشتها.
6 - (إلا قليلا) أي: كالمسافرين الذين يمرون بها وينزلون بها ساعا ويغادرون.
7- الجملة في محل نصب صفة لـ (رسولا) .(4/86)
من سنة الله تعالى هذا بل لا يهلك أمة حتى يبعث في أم بلادها رسولاً يتلو عليهم آيات الله المبينة للحق من الباطل والخير من الشر وجزاء ذلك وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا (1) ظَالِمُونَ} أي ولم يكن من سنة الله تعالى في عباده أن يهلك القرى إلا بعد ظلم أهلها.
فللإهلاك شرطان:
الأول: أن يبعث الرسول يتلو آياته فيكذب ويكفر به وبما جاء به.
الثاني: أن يظلم أهل القرى ويعتدوا وذلك بإظهار الباطل والمنكر وإشاعة الشر والفساد في البلاد وهذا من عدل الله تعالى ورحمته بعباده إنه لأرحم بهم من أنفسهم، وكيف ومن أسمائه وصفاته الرحمن الرحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ لا هادي إلا الله. الهداية المنفية هي إنارة قلب العبد وتوفيق العبد للإيمان وعمل الصالحات، وترك الشرك والمعاصي. والهداية المثبة، يقول الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. تلك هداية الدعوة والوعظ والإرشاد، ومنه {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي يدعوهم إلى الهدى.
2- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فيما ألقاه في قلوب العرب المشركين الجاهليين من تعظيم الحرم وأهله ليهيء بذلك لسكان حرمه أمنا وعيشاً كما قال تعالى {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} قريش (2-4) .
3- من رحمة الله وعدله أن لا يهلك أمة من الأمم إلا إذا توفر لهلاكها شرطان:
1- أن يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آيات الله تحمل الهدى والنور.
2- أن يظلم أهلها بالتكذيب للرسول والكفر بما جاء به والإصرار على الكفر والمعاصي.
4- التاريخ يعيد نفسه كما يقولون فما اعتذر به المشركون عن قبول الإسلام بحجة تألب العرب عليهم وتعطيل تجارتهم يعتذر به اليوم كثير من المسؤولين فعطلوا الحدود وجاروا الغرب في فصل الدين عن الدولة وأباحوا كبائر الاثم كالربا وشرب الخمور وترك الصلاة حتى لا يقال عنهم إنهم رجعيون متزمتون فيمنعوهم المعونات ويحاصرونهم اقتصاديا.
__________
1- أي: إلا بعد أن ظلموا بالشرك والمعاصي بارتكاب عظائم الذنوب وكبائر الآثام، وذلك لتنزه الرب تبارك وتعالى عن الظلم.(4/87)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
شرح الكلمات:
وما أوتيتم من شيء: أي وما أعطاكم الله من مال أو متاع.
فمتاع الحياة الدنيا وزينتها: فهو ما تتمتعون به وتتزينون ثم يزول ويفنى.
وما عند الله خير وأبقى: أي وما عند الله من ثواب وهو الجنة خير وأبقى.
أفلا تعقلون: لأن من يؤثر القليل الفاني على الكثير الباقي لا عقل له.
وعداً حسنا: أي الجنة.
فهو لاقيه: أي مصيبه وحاصل عليه وظافر به لا محالة.
من المحضرين: أي في نار جهنم.
معنى الآيتين:
لقد سبق في هذا السياق أن المشركين اعتذروا عن الإسلام بعذر مادي بحت وهو وجود عداوة بينهم وبين سائر العرب. يترتب عليها حروب وتعطل التجارة إلى غير ذلك. فقوله تعالى هنا {وَمَا أُوتِيتُمْ (1) مِنْ شَيْءٍ (2) فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهو خطاب لهم ولكل من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة فيستحل المحرمات ويعطل الأحكام ويضيع الفرائض والواجبات لتعارضها في نظره مع جمع المال والتمتع بالحياة الدنيا. وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي من مال ومتاع وإن كثر {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فهو متاع الحياة الدنيا {وَزِينَتُهَا} أي تتمتعون وتتزينون به أياماً أو أعواماً ثم ينفد ويزول، أو تموتون عنه وتتركونه {وَمَا عِنْدَ اللهِ}
__________
1 - في هذه الآية الكريمة تذكرة لقريش التي آثرت الدنيا على الآخرة فردت الإسلام مخافة أن يؤثر على حياتها الاقتصادية والأمنية في تصورها الهابط المتهالك وهي أيضا تذكرة لكل الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.
2 - (من) بيانية فقوله: (من شيء) بيان لما في قوله: (وما أوتيتم) والمتاع ما يتمتع به زمنا ثم يزول، والزينة تطلق على ما يحسن الأجسام.(4/88)
من نعيم الجنة {خَيْرٌ وَأَبْقَى} خير في نوعه وأبقى في مدته، فالأول رديء وتصحبه المنغصات ويعقبه الكدر، والثاني جيد صالح خال من المنغصات والكدورات وباق لا يبلى ولا يفنى ولا يزول ولا يموت صاحبه ويخلفه وراءه. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يا من تؤثرون الفاني على الباقي والرديء على الجيد والخبيث على الطيب. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ (1) وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} وهو المؤمن الصادق في إيمانه المؤكد له بصالح عمله، {وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} وهو الجنة دار السلام {فَهُوَ (2) لاقِيهِ} أي لاق موعده بإذن الله بمجرد أن يلفظ أنفاسه وتعرج إلى السماء روحه. {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهو يأكل ويشرب وينكح كالبهائم {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في جهنم في دار العذاب والهوان، والجواب: لا يستويان أبداً وشتان ما بينهما، فالأول وهو المؤمن الصالح الموعود بدار السلام لا يقارن بالكافر المتهالك على الدنيا ثم يتركها فجأة ويجد نفسه مع أهل الكفر والإجرام في عذاب وهون لا يفارقه ولا يخرج منه أبداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فائدة العقل أن يعقل صاحبه دون ما يضره، ويبعثه على ما ينفعه فإن لم يعقله دون ما يضره ولم يبعثه على ما ينفعه فلا وجود له، ووجوده كعدمه.
2- بيان فضل الآخرة على الدنيا.
3- وعد الله للمؤمن بالجنة خير مما يؤتاه من مال ومتاع وزينة في الحياة الدنيا.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
__________
1 - الاستفهام إنكاري ينكر فيه تعالى التسوية فضلا عن المفاضلة بين مؤمن وعده ربه النعيم المقيم في الآخرة وكافر متعه اليوم بمتع زائلة فانية عما قريب تنتهي وتزول ويؤول أمره إلى دار الشقاء والعذاب الأبدي وهي دار البوار.
2 - جملة (فهو لاقيه) معترضة بين طرفي المقابلة في المفاضلة.(4/89)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُون (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
شرح الكلمات:
ويوم يناديهم: أي الرب سبحانه وتعالى.
كنتم تزعمون: أي أنهم شركاء لي فعبدتموهم معي.
حق عليهم القول: أي بالعذاب في النار وهم أئمة الضلال.
أغويناهم: أي فغووا ولم نكرههم على الغي.
تبرأنا إليك: أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم.
وقيل ادعوا شركاءكم: نادوهم ليخلصوكم مما أنتم فيه.
لو أنهم كانوا يهتدون: أي لما رأوا العذاب ودّوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين.
ويوم يناديهم: أي الله تبارك وتعالى.
فعميت عليهم الأنباء: أي فخفيت عليهم الأنباء التي يمكنهم أن يحتجوا بها.
فهم لا يتساءلون: أي انقطعوا عن الكلام.
فأما من تاب وآمن: أي آمن بالله ورسوله وتاب من الشرك.
وعمل صالحا: أدى الفرائض والواجبات.
فعسى أن يكون من المفلحين: أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، وعسى من الله تعالى لا تفيد مجرد الرجاء بل هي لتحقق الموعود به.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله واذكر يوم ينادي (1) ربك هؤلاء المشركين وقد ماتوا على شركهم فيقول لهم
__________
1 - بعد تقرير النبوة انتقل الكلام إلى تقرير ركني العقيدة: التوحيد والبعث، فيوم معمول لمحذوف تقديره: اذكر يا رسولنا يوم ينادي الجبار أولئك المحضرين في جهنم يناديهم للتوبيخ والتقريع.(4/90)
{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أي أنهم شركائي هذا سؤال تقريع وتأنيب والتقريع والتأنيب ضرب من العذاب الروحي الذي هو أشد من العذاب الجثماني. وقوله تعالى {قَالَ الَّذِينَ (1) حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي نطق الرؤساء من أئمة الضلال وهم الذين حق عليهم العذاب في نار جهنم {رَبَّنَا (2) هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} {أَغْوَيْنَاهُمْ} فغووا {كَمَا غَوَيْنَا (3) } أي ما أكرهناهم على الغواية، {تَبَرَّأْنَا (4) إِلَيْكَ} أي منهم. {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} بل كانوا يعبدون أهواءهم لا غير. وقوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} يقال للمشركين تهكّما بهم واستهزاء، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي لينصروكم ويخلصوكم مما أنتم فيه من الذل والهوان.
قال تعالى: {فَدَعَوْهُمْ} بالفعل نادوا {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} إذ لا يقدر واحد من الإنس أو الجن أن يقول هذا كان يعبدني، بل كل معبود يتبرأ ممن عبده كما قالوا في الآية قبل ذي تبرأنا إليك أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} بأعينهم فاشتدت حسرتهم وودوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي ربهم قائلا: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ؟ أخبرونا كيف كان موقفكم مع من أرسلنا إليكم؟ هل آمنتم بهم واتبعتموهم أم كذبتموهم وحاربتموهم قال تعالى: {فَعَمِيَتْ (5) عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} أي فخفيت عليهم الأخبار التي يمكنهم أن يحتجوا بها فلم يجدوا حجة واحدة ولذا {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُون} أي لا يسأل بعضهم بعضاً لأنه سقط في أيديهم وعلموا أنهم صالوا الجحيم لا محالة. وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ (6) } من هؤلاء المشركين اليوم من الشرك وآمن بالله ولقائه ورسوله وعمل صالحا فأدى الفرائض والواجبات {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، فهذه دعوة سخية لكل مشرك وكافر وفاسق أن يتخلى عن الباطل المتلبس به ويؤمن الإيمان الصحيح ويعمل صالحا بأداء الفرائص فإنه ينجو من النار ويدخل الجنة دار الأبرار فهل من تائب؟!.
__________
1 - لم تعطف جملة: (قال الذين) بالواو أو بالفاء لأنها في صورة حوار.
2 - هذا النداء المراد به الاستعطاف والاسترحام.
3 - أي: أضللناهم كما كنا ضالين، وذلك أنهم دعوهم إلى عبادتهم فعبدوهم، ولذا قال قتادة: هؤلاء هم الشياطين، وقيل: هم الرؤساء، والكل صحيح.
4 - (تبرأنا) أي: تبرأ الشياطين والرؤساء ممن عبدوهم أو عبدوا غير الله بدعوتهم وتزينيهم، وأنكروا أنهم كانوا يعبدونهم.
5 - خفيت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم إذ لم يروا جوابا ينفع في هذا الموقف الرهيب.
6 - هذه الفاء الفصيحة كأن سائلاً قال بعد أن عرف حال المشركين في النار: وما حال غيرهم يا ترى؟ فأجيب بأن من تاب من الشرك وعمل صالحا بأداء الفرائض ففلاحه العظيم واجب له متأكد.(4/91)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالشرك والمشركين.
2- براءة الرؤساء في الضلال من المرؤوسين.
3- التحذير من الغواية وهي الضلال، والانغماس في الذنوب والآثام.
4- خذلان المعبودين عابديهم يوم القيامة وتبرؤهم منهم.
5- باب التوبة مفتوح لكل عبد مهما كانت ذنوبه ولا يهلك على الله إلا هالك.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
شرح الكلمات:
يخلق ما يشاء: أي من خلقه.
ويختار: أي من يشاء لنبوته وطاعته.
ما كان لهم: أي للمشركين.
الخيرة: أي الاختيار في شيء.
سبحان الله: أي تنزيها لله عن الشرك.
يعلم ما تكن صدورهم: أي ما تسر وتخفي من الكفر وغيره.
له الحمد في الأولى: أي في الدنيا لأنه مولى كل نعمة.
وفي الآخرة: أي في الجنة.
وله الحكم: أي القضاء النافذ.
وإليه ترجعون: بعد النشور وذلك يوم القيامة.(4/92)
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من العذاب، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه. وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار، وذلك من وجهين: الأول أنه لا حق لهم في الاختيار. إذ الاختيار لخالق المخلوقات فيختار منها ما يشاء لنبوته أو طاعته أما الذي يُخْلَقُ ولا يَخْلُقُ فكيف يصح منه اختيار. والثاني بحكم أنهم مخلوقون مربوبون لله تعالى وهم يعلمون هذا إذ لو سألهم أحد: من خلقكم؟ لقالوا: الله؛ كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون، إذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى: (68) {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} .. أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار (1) من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة قال تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2) } أي حق الاختيار بل الذي يختاره الله هو الذي يجب أن يختاره العبد. وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ويقول: "اللهم خرْ لي واختر لي" وكان يعلم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، ويحضهم على أن يختاروا في الأمر الواحد سبع مرات. وقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين وباطل المبطلين وقوله {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وهذا برهان أن الخيرة له (3) وليس لغيره إذ الذي يعلم الظواهر والبواطن والبدايات والنهايات قبل البدء والمنتهى صاحب هذا العلم هو الذي يختار. أما الذي لا يعلم ما يكنه أخوه في صدره بل ولا ما يظهره آخر إلى جنبه أي لا يعلم عاقبته فكيف يصح منه الاختيار أو تكون له خيرة في شيء. وفوق ذلك أنه سبحانه وتعالى {وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي المعبود الذي لا معبود بحق سواه الذي له الحمد
__________
1 - قيل نزلت رداً على الوليد بن المغيرة حين قال: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. كما هي ردّ على اختيارهم الشركاء ليشفعوا لهم يوم القيامة.
2 - جائز أن يكون (ما) موصولاً مفعولا به لفعل: يختار، والعائد محذوف أي: ويختار الذي لهم فيه خير، كما أن الخلق من خصائصه، إذ قال (وربك يخلق ما يشاء) فكذلك الاختيار له دون غيره، وجائر أن يكون الوقف التام على (ويختار) ، وجملة (ما كان لهم الخيرة) مستأنفة لغرض تأكيد القصر على الله تعالى هو الخالق وحده وهو الذي يختار وحده وليس لأحد من الخلقِ الخلقُ والاختيار.
3 - الخيرة: اسم مصدر الاختيار كالطيرة اسم مصدر التطير ولا نظير لهذه الصيغة في الأسماء (والطيرة والخيرة) .(4/93)
في الدنيا إذ كل ما في الدنيا هو خلقه وفضله وإنعامه، وله الحمد في الآخرة، يحمده أهل الجنة إذ قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن بل الحياة الدنيا كالآخرة. تختم بالحمد لله. قال تعالى {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وله الحكم والقضاء في الدنيا والآخرة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فكما أن الحكم خاص به فكذلك الرجوع إليه، ويوم يرجعون إليه يحكم بينهم بحكمه وهو العزيز العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ "ليس من حق العبد أن يختار إلا ما اختاره الله له".
2- تعين طلب الاختيار في الأمر كله من الله تعالى بقول العبد "اللهم خر لي واختر لي".
3- تأكيد سنة الاستخارة وهي إذا همّ العبد بالأمر يصلي ركعتين في وقت لا تكره فيه صلاة النافلة، ثم يدعو بدعاء الاستخارة كما ورد في الصحيح وهو "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به". ويسمي حاجته التي هم بها من سفر أو زواج أو بناء أو تجارة أو غراسة.
4- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
5- وجوب حمد الله وشكره على كل حال وذلك لتجدد النعمة في كل آن.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(4/94)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
(73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني
سرمداً: أي دائما، ليلاً واحداً متصلاً لا يعقبه نهار.
بضياء: أي ضوء كضوء النهار.
بليل تسكنون فيه: أي تنامون فتسكن جوارحكم فتستريح من تعب الحياة.
لتسكنوا فيه: أي في الليل.
ولتبتغوا من فضله: أي تطلبوا الرزق من فضل الله في النهار.
ولعلكم تشكرون: أي كي تشكروا ربكم بطاعته كالصلاة والصيام والصدقة.
ونزعنا من كل أمة شهيداًَ: أي أحضرنا من كل أمة من يشهد عليها وهو نبيها عليه السلام.
فقلنا هاتوا برهانكم: أي حججكم على صحة الشرك الذي أنذرتكم رسلنا عواقبه فما قبلتم النذارة ولا البشارة.
فعلموا أن الحق لله: أي تبين أن العبادة والدين الحق لله لا لسواه.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي وغاب عنهم ما كانوا يكذبونه من الأقوال الباطلة التي كانوا يردون بها على الرسل عليهم السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد وهو حول أنداد لله تعالى من مخلوقاته فقال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قل لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أنداداً وهو(4/95)
خالقهم ورازقهم ومدبر أمر حياتهم {أَرَأَيْتُمْ (1) } أي أخبروني {إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} أي (2) دائما ليلاً واحداً متصلا لا يعقبه نهارٌ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أخبروني هل هناك {إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ (3) } كضياء النهار، والجواب: لا أحد وإذاً فكيف تشركون به أصناما. {أَفَلا تَسْمَعُونَ} ما يقال لكم. وقل لهم أيضاً {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداًً} أي دائماً متصلاً لا يخلفه ليل أبداً {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إلى انقراض هذا الكون وانتهاء هذه الحياة وقيام الناس لربهم من قبورهم يوم القيامة {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ} أي أيُّ إله غير الله {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} فتخلدون إلى الراحة بالنوم والسكون وعدم الحركة فيه، وإذا قلتم لا أحد يأتينا بليل نسكن فيه إذاً فما لكم لا تبصرون هذه الآيات ولا تسمعون ما تحمله من الأدلة والحجج القواطع القاضية بأنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه. وقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ (4) جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} إذ ليس واجبا عليه ذلك وإنما هو فضل منه ورحمة فالليل تسكنون فيه والنهار تتحركون فتبتغون رزقكم من فضل الله، وبذلك تهيّؤون للشكر إذا أكلتم أو شربتم أو ركبتم أو نزلتم قلتم الحمد لله، والحمد لله رأس الشكر، كما أن الليل والنهار ظرف للعبادة التي هي الشكر، فالعبادات لا تقع إلا في الليل والنهار، فالصيام في النهار والقيام بالليل والصلاة والصدقات فيهما. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي اذكر يا رسولنا لهم تنبيها وتعليماً يوم يناديهم الرب تبارك وتعالى فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم شركاء لي فعبدتموهم، وهل يرجى أن يجيبوا لا، لا، وإنما هذا السؤال ونظائره هو سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ وهو نوع من العذاب النفسي الذي هو أشد من العذاب الجسمي. وقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا (5) مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي واذكر لهم هذا الموقف من مواقف القيامة الصعبة {وَنَزَعْنَا} أي أحضرنا {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يشهد عليها وهو
__________
1 - حقق الهمزة من (أرأيتم) حفص، وخففها ورش فقلبها ألفاً تخفيفاً (أرايتم) .
2 - (سرمداً) أي: دائماً. قال طرفة بن العبد:
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة
نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
3 - أي: بنهار تبصرون فيه معايشكم ويصلح فيه ثماركم ونباتاتكم.
4 - فيه تصريح بأن الليل بما يحصل فيه من سكون وراحة للأبدان والعقول من الهم والتفكير، والنهار بما يحصل فيه من عمل ونشاط للكسب وتحصيل الزرق نعمة الله على العباد اقتضتها رحمته بهم فله الحمد وله المنة.
5 - أعيد هذا الموقف مرة أخرى ليذكر فيه حالاً لم تذكر في الأول وهي: إشهاد الأنبياء على أممهم، وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية إذ هذه الآية كآية (وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) .(4/96)
نبيها، ويشهد الرسول أنه بلغ ونصح وأنذر، ويقال لهم: {هَاتُوا (1) بُرْهَانَكُمْ} على صحة ما كنتم تعبدون وتدعون. قال تعالى: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي تبين لهم أن الحق لله أي أن الدين الحق لله فهو المستحق لتأليه المؤلهين وطاعة المطيعين وقربات المتقربين لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إشارة علمية إلى أن السماع يكون مع السكون وقلة الضجيج، وأن الإبصار يكون مع الضوء، ولا يتم مع
الظلام بحال من الأحوال.
2- البرهنة القوية على وجوب توحيد الله إذ لا رب يدبر الكون سواه.
3- كون النهار والليل ظرفان للسكون وطلب العيش هما من رحمة الله تعالى أمر يقتضي شكر الله تعالى بحمده والاعتراف بنعمته وطاعته بصرف النعمة فيما يرضيه ولا يسخطه.
4- بيان أهوال القيامة، بذكر بعض المواقف الصعبة فيها.
5- إذا كان يوم القيامة بطل كل كذب وقول ولم يبق إلا قول الحق والصدق.
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً
__________
1 - (هاتوا) أحضروا، والأمر مستعمل هنا للتعجيز إذ هم عاجزون عن الإتيان بأدنى حجة عن صحة شركهم وكفرهم بلقاء ربهم، فعاب عليهم ما كانوا يكذبونه من الادعاءات الفارغة من أن أصنامهم تشفع لهم.(4/97)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
شرح الكلمات:
إن قارون كان من قوم موسى: أي ابن عم موسى عليه السلام.
فبغى عليهم: أي ظلمهم واستطال عليهم.
ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة: أي أعطاه الله من المال ما يثقل عن الجماعة حمل مفاتح خزائنه.
لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين: أي لا تفرح فرح البطر والأشر.
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة: أي اطلب في المال الذي أوتيته الدار الآخرة بفعل الخيرات.
على علم عندي: أي لعلم الله تعالى بأني أهل لذلك.
وأكثر جمعا: أي للمال.
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون: أي لعلم الله تعالى بهم فيدخلون النار بدون حساب.
معنى الآيات:
هذا بداية (1) قصص قارون الباغي، وهو قارون ابن يصهر بن قاهَثْ بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. فهو ابن عم موسى بن عمران وابن خالته أيضاً وكان يلقب المنور لحسن صورته، ونافق كما نافق السامري المطرود. قال تعالى في ذكر خبره {إِنَّ قَارُونَ (2) كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي إسرائيلي ابن عم موسى بن عمران الرسول. {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي على بني إسرائيل أي ظلمهم وطغى عليهم، ولعل فرعون كان قد أسند إليه إمارة على بني إسرائيل فأطغته وملك أموالاً كثيرة ففرته وألهته. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ (3) بِالْعُصْبَةِ (4) أُولِي الْقُوَّةِ} . وهذا الخبر الإلهي دليل على ما كان للطاغية
__________
1 - هذا استئناف ابتدائي لذكر قصة لها مغزاها ونتائجها من الموعظة والذكرى.
2 - ومغزى هذا القصص أولا: تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا لا يقصه غير من يوحى إليه بحال. ثانيا: تضمن القصص الرد على المعجبين بالمال ومتاع الحياة الدنيا وبيان نهايتهم المؤلمة، وثالثا: عرض مشابه لموقف أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أغنياء مكة وهم يتطاولون عليهم بالمال والجاه. كما كان قارون مع ضعفة بني إسرائيل وفي ذلك عظة للمؤمنين وذكرى للكافرين.
3 - (ما عن مفاتحه) الأكثرون على أن (ما) موصول، وصلتها جملة: (إن مفاتيحه) وأنكر بعض أن تبتدئ الصلة بحرف إنّ فقالوا: (ما) موصوفة وما بعدها في محل الصفة، والمفاتيح: جمع مفتاح بكسر الميم: اسم آلة الفتح.
4 - (تنوء) من ناء بالشيء ينوء ثقل عليه، والباء: في (بالعصبة) للمصاحبة، وليست للسببية، إذ هي كما في قول امرؤ القيس:
وأردف أعجازا وناء بكلكل.
والعصبة الجماعة من الخمسة إلى العشرة فأكثر.(4/98)
قارون من أموال بحيث أن المفاتح تثقل كاهل العصبة أي الجماعة من الرجال لو حملوها كلها وذلك لثقلها. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} أي من بني إسرائيل واعظين له مذكرين {لا تَفْرَحْ} أي بأموالك فرح الأشر البطر. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الأشرين البطرين الذين يختالون ويتفاخرون ويتكبرون. {وَابْتَغِ} اطلب {فِيمَا آتَاكَ اللهُ} من أموال {الدَّارَ الْآخِرَةَ} بأن تصدَّقْ منها وأنفقْ في سبيل الله كبناء مسجد أو مدرسة أو ميتم أو ملجأ إلى غير ذلك من أوجه البر والإحسان. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ (1) مِنَ الدُّنْيَا} فكل واشرب والبس واركب واسكن ولكن في غير إسراف ولا مخيلة، {وَأَحْسِنْ} عبادة الله تعالى وطاعته وأحسن إلى عباده بالقول والعمل {كَمَا أَحْسَنَ} أي الله تعالى إليك {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي (2) الْأَرْضِ} بترك الفرائض وارتكاب المحرمات. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ومن لم يحبه الله أبغضه ومن أبغضه عذبه في الدنيا والآخرة فبعد هذه الموعظة من قومه الصالحين أهل العلم والبصيرة ردّ هذا الطاغية قارون بما أخبر به تعالى عنه في قوله في الآية (78) {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي لا تهددوني ولا تخوفوني بسلب مالي عني إن أنا لم أحْسن فإن هذا المال قد {أُوتِيتُهُ} أي آتانيه الله على علم منه (3) بأني أهل له ولذا أعطاني وزاد عطائي وأكثره قال تعالى في الردّ عليه في زعمه هذا {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} أي أيقول ما يقول من الزعم الكاذب ولم {يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} ، كعاد وثمود وقوم إبراهيم فلو كان كثرة المال دليلا على حب الله ورضاه عن أهله، ما أهلك عاداً وثمود وقوم نوح من قبل وكانوا أشد قوة وأكثر مالا ورجالاً وقوله تعالى: {وَلا يُسْأَلُ (4) عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي إذا أكثر العبد من الإجرام بالشرك والمعاصي حق عليه كلمة العذاب وآن أوان عذابه لا يسأل عن ذنوبه بل يؤخذ فجأة كما أن هؤلاء المجرمين سيدخلون النار بغير حساب فلا يسألون ولا يحاسبون. قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ (5) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} أي ويرمون في جهنم ويقال لهم: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} (6) .
__________
1 - أشار ابن عمر إلى هذا القول في قوله: احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً. ومن تأولها بالعمل للآخرة فقط شاهده قول الشاعر:
مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
2 - الفساد في الأرض يكون بفعل المعاصي الجامعة لترك الفرائض وإتيان الكبائر.
3 - وقال ابن زيد: لعلم الله تعالى بفضلي ورضاه عني أي: إني أوتيتها باستحقاقي.
4 - أي: لا يسأل سؤال استعتاب ليتوب أما سؤال التقريع والتوبيخ فلا مانع منه، وذلك كقوله تعالى: (ولا يستعتبون) وقوله (وما هم بمعتبين) .
5 - (سيماهم) إنهم سود الوجوه زرق العيون.
6 - المجرمون: هم الذين أجرموا على أنفسهم أي: خبّثوها بكثرة ما يرتكبون من الجرائم كالكفر والظلم وكبائر الذنوب، كالقتل ظلماً وأكل الربا وتعاطي الخمور والزنى.(4/99)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المال والمنصب العالي عرضة لإفساد المرء إلا من رحم الله عز وجل وقليل ما هم.
2- حرمة الفرح بالمال والإمارة إذا كان الفرح فرح بطر وفخر واعتزاز وكبر وخيلاء.
3- من فضل الله على الأمة أن يوجد فيها عالمون ينصحون ويرشدون ويوجهون.
4- من الحزم للمرء أن يطلب من المال والجاه والمنصب أعلى الدرجات في الجنة.
5- حلّية الأكل من الطيب والشرب من الطيب واللبس والركوب والسكن من غير إسراف ولا خيلاء ولا كبر.
6- العافية والمال وعز السلطان يصاب صاحبها بالاغترار إلا من رحم الله.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)(4/100)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
شرح الكلمات:
في زينته: أي لباس الأعياد والحفلات الرسمية.
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: أي تمنوا لو أعطوا من المال والزينة ما أعطي قارون.
إنه لذو حظ عظيم: أي إنه لذو بخت ونصيب وهبه الله إياه في كتاب المقادير.
وقال الذين أوتوا العلم: أي أعطوا العلم الديني بمعرفة الله والدار الآخرة وموجبات السعادة والشقاء.
ويلكم: أي حضر ويلكم وهلاككم بتمنيكم المال وزخرف الدنيا.
ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا: أي ما عند الله من جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات وهو الجنة خير من حطام الدنيا الفاني.
ولا يلقاها إلا الصابرون: أي ولا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً إلا الصابرون على الإيمان والتقوى.
فخسفنا به وبداره الأرض: أي أسخنا الأرض من تحته فساخت به وبداره وكل من كان معه فيها من أهل البغي والإجرام.
تمنوا مكانه بالأمس: أي الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون فالمراد من المكان المكانة وما عليه قارون من الإمارة والزينة والمال والجاه.
ويكأن الله يبسط: أي أعجبُ عالما أن الله يبسط الرزق لمن يشاء.
ويقدر: أي يضيّق.
ويكأنه لا يفلح الكافرون: أي أعجب عالماً أنه لا يفلح الكافرون أي أنهم لا يفوزون بالنجاة من النار ودخول الجنان كما يفوز المؤمنون.(4/101)
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص قارون الباغي قال تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ (1) } أي قارون في يوم عيد أو مناسبة خرج على قومه وهم يشاهدون موكبه {فِي زِينَتِهِ} الخاصة من الثياب والمراكب. قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي من قوم موسى وهم المفتونون بالدنيا وزخرفها من أهل الغفلة عن الآخرة وما أكثرهم اليوم وقبل وبعد اليوم قالوا ما أخبر الله به عنهم: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} تمنوا أن يكون لهم مثل الذي أوتي قارون من المال والزينة {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ (2) عَظِيمٍ} أي بخت ونصيب ورزق {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي الشرعي (3) الديني العالمون بالدنيا والآخرة، وأسباب السعادة والشقاء في كل منهما قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم في قوله: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ويحكم هلكتم إن كنتم تؤثرن هذا الفاني على الباقي {ثَوَابُ اللهِ} وهو الجنة خير من هذا الزخرف الفاني {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ولازم ذلك أنه ترك الشرك والمعاصي، وقوله تعالى: {وَلا يُلَقَّاهَا} أي (4) هذه الجملة من الكلام: {ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} بربه {وَعَمِلَ صَالِحاً} في حياته بأداء الفرائض والنوافل وترك المحرمات والرذائل أي لا يلقى هذه الكلمة {إِلَّا الصَّابِرُونَ} من أهل الإيمان والتقوى هم الذين يلقنهم الله إياها فيقولونها الصفاء أرواحهم وزكاة أنفسهم وقوله تعالى في الآية (81) {فَخَسَفْنَا بِهِ (5) وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} يخبر تعالى أنه خسف بقارون وبداره الأرض انتقاما منه لكفره ونفاقه وبغيه وكبريائه. وقوله تعالى {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} أي جماعة {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ} لما أراد الله خذلانه بخسف الأرض به وبداره ومن فيها من أعوانه الظلمة والمجرمين. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أي لنفسه فنجاها مما حل بها من الخسف في باطن الأرض التي ما زال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} (6) يخبر تعالى
__________
1 - لم تؤثر فيه موعظة واعظيه ولم ينتفع منها بشيء لظلمة نفسه وقساوة قلبه لما ران عليه من الذنوب فخرج مظهر الكبرياء والتحدي.
2 - الحظ: القسم الذي يعطاه المقسوم له.
3 - في الآية دليل قوي على أن الجهل بالله وشرائعه ووعده ووعيده هو سبب كل شر وفساد في الأرض، وأن العلم بذلك هو سبيل الإصلاح في الأرض.
4 - (يلقاها) الضمير عائد على ما دل عليه قولهم: (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً) وهو هذه الموعظة، ولا يلهمها وتلقى في روعه وينطق بها إلا أهل الصبر على الطاعات وعن المعاصي فتصفو لذلك نفوسهم فيلهمون مثل هذه الموعظة.
5 - الفاء هنا: للترتيب والتعقيب فقد خسف به يوم خروجه في زينته.
6 - أي: تمنوا منزلته بين الناس، وهي منزلة المال والترف والجاه والرفعة ومعنى: مكانه: ما كان عليه من منزلة العلو والرفعة.(4/102)
عن الذين قالوا يوم خرج عليهم قارون في زينته يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يخبر تعالى عنهم أنهم لما شاهدوا الخسف الذي حل بقارون وبدره قالوا ويكأن الله (1) يبسط الرزق لمن يشاء أي نعجب عالمين، أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر (2) أي على من يشاء فالبسط والقبض كله لله وبيد الله فما لنا لا نفزع إلى الله نطلب رضاه ولا نتمنى ما تمنيناه وقد أصبح ذاهباً لا يرى بعين ولا يلمس بيدين، {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (3) } أي نعجب أيضاً عالمين بأنه لا يفلح الكافرون كقارون وهامان أي لا يفوز الكافرون لا بالنجاة من العذاب ولا بدخول الجنان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الفتنة أسرع إلى قلوب الماديين أبناء الدنيا والعياذ بالله تعالى.
2- بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رشَّد أي حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
3- بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.
4- بيان أن وجود الإيمان خير من عدمه وإن قل وأن ذا الإيمان أقر على التوبة ممن لا إيمان له.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
__________
1 - (ويكأن الله) قيل: ويكأن: مركبة من وي وهو اسم فعل بمعنى أعجب وكاف الخطاب وأن الناصبة، ومعنى الكلام: أعجب يا هذا من بسط الرزق لمن شاء، قال عنترة، والشاهد في قوله: ويك، قال:
ولقد سقا نفسي وأبرأ سُقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم.
وذهب بعض إلى أن أصل ويك: ويلك اعلم أنه كذا فحذفت اللام والفعل، فصارت ويك.
2 - أي: يضيق الرزق ولا يوسعه.
3 - أي: لولا أن من الله فعافانا مما ابتلى قارون به من المال والظلم والطغيان لحل بنا ما حل به من الخسف والخسران.(4/103)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
شرح الكلمات:
تلك الدار الآخرة: أي الجنة، دار الأبرار.
لا يريدون علواً في الأرض: أي بغيا ولا استطالة على الناس.
ولا فساداً: أي ولا يريدون فساداً بعمل المعاصي.
والعاقبة: أي المحمودة في الدنيا والآخرة.
للمتقين: الذين يتقون مساخط الله فلا يعتقدون ولا يقولون ولا يعملون ما لا يرضى به الله تعالى.
من جاء بالحسنة: أي يوم القيامة والحسنة: أثر طاعة الله تعالى يجزى به المؤمن.
فله خير منها: أي تضاعف له عشرة أضعاف.
ومن جاء بالسيئة: السيئة أثر معصية الله تعالى يعاقب به العبد إذا لم يعف الله تعالى عنه.
معنى الآيات:
لقد تقدم في السياق أن ثواب الله وهو الجنة خير لمن آمن وعمل صالحاً فأشار إليه تعالى بقوله {تِلْكَ (1) الدَّارُ الْآخِرَةُ} التي هي الجنة آخر دار يسكنها المتقون فلا يخرجون منها. نجعلها، هذا هو الخبر عن قوله تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكناً للذين لا يريدون علوّاً (2) في الأرض ولا فساداً، لا يريدون استطالة على الناس وتعاليا وتكبراً عليهم وبغيا، ولا فساداً بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، وقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ (3) لِلْمُتَّقِينَ} أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عز وجل، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ} أي يوم القيامة {بِالْحَسَنَةِ} وهي الطاعات لله ورسوله {فَلَهُ} جزاء مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها وقد تُضاعف إلى أكثر بشرط أن لا تكون حسنة أعطيت له من حسنات ظالم في الدنيا فهذه لا تتضاعف. إذ تضاعف الحسنة التي باشرها، كما
__________
1 - الجملة ابتدائية وهو بدء مشوق، قرأ الفضل بن عياض هذه الآية ثم قال: ذهبت الأماني ها هنا أي: أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب.
2 - روى سفيان بن عيينة أن عليا بن الحسين وهو راكب مرَّ على مساكين يأكلون كسرا لهم فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم فتلا هذه الآية: (تلك الدار الآخرة..) إلى (فساداَ) ثم نزل وأكل معهم.
3 - الجملة تذييلية تقرر حقيقة أخرى وهي الإشارة بالتقوى والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل التقوى.(4/104)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
لا تضاعف حسنة من همّ بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة ولا تضاعف لعدم مباشرته إياها وقوله {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي يوم القيامة. والسيئة أثر معصية الله تعالى ورسوله في نفسه {فَلا يُجْزَى} إلا مثلها أي لا تضاعف عليه وذلك لعدالة الله تعالى ورأفته بعباده، وهو معنى قوله تعالى {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} من الشرك والمعاصي {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي في الدنيا إذ هي دار العمل والآخرة دار الجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة التكبر والاستطالة على الناس، والعمل بالمعاصي، وأنه الفساد في الأرض.
2- بيان فضل الله ورحمته وعدله بين عباده بمضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات.
3- العاقبة الحسنى وهي الجنة لأهل الإيمان والتقوى.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (86
) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
شرح الكلمات:
إن الذي فرض عليك القرآن: أي الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك قراءته والعمل بما فيه وتبليغه.
لرادك إلى معاد: أي لمرجعك إلى مكة فاتحاً إذ معاد الرجل بلده الذي يعود إليه.(4/105)
وما كنت ترجو: أي تأمل أن ينزل عليك القرآن ويوحى به إليك.
إلا رحمة من ربك: لكن رحمة من الله وفضل أنزله عليك.
فلا تكونن ظهيراً: أي فمن شُكر هذه النعمة ألا تكون معينا للكافرين.
ولا يصدنك: أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد أن شرفك الله بإنزالها عليك.
وادع إلى ربك: أي ادع الناس إلى الإيمان بالله وعبادته وترك الشرك به.
ولا تدع مع الله إلهاً آخر: أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر بدعائه والذبح والنذر له.
كل شيء هالك: أي فان.
إلا وجهه: أي إلا الله سبحانه وتعالى فلا يهلك كما يهلك ما عداه.
معنى الآيات:
تقدم في السياق الكريم الدعوة إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء وهذه خاتمة ذلك في هذه السورة الكريمة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي (1) فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أنزله عليك وفرض عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، {لَرَادُّكَ} أي لمرجعك (2) {إِلَى مَعَادٍ (3) } وهو العودة إلى مكة بعد خروجك منها واشتياقك إلى العودة إليها وإلى الجنة بعد وفاتك لأنك دخلتها ليلة عُرج بك إلى السماء وفي هذا تقرير لنبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي إليه، وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فإنه تعليم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يرد به على المشركين الذين اتهموه بأنه ضال في دعوته وخروجه عن دين آبائه وأجداده علَّمه أن يقول لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى وهو أنا، رسول الله، ومن هو في ضلال مبين وهو أنتم أيها المشركون. وقوله {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي وما كنت يا محمد تأمل أن ينزل عليك القرآن، وذلك قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ (4) رَبِّكَ} أي لكن رحمة ربك عليك اقتضت إنزاله عليك لتكون رسول الله للعالمين، وهي نعمة كبيرة وإفضال عظيم فاشكره بما يلي:
(1) {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} أي عوناً لهم بحال من الأحوال.
__________
1 - ختمت هذه السورة المكية بخاتمة نزلت بالمدينة، وهي بشرى له صلى لله عليه وسلم بأن مرّدهُ إلى مكة فاتحاً قاهراً غالباً وحقق الله تعالى له ذلك فبعد ثمان سنوات من هجرته ظهر مصداق هذه البشرى.
2 - مرجعك: اسم فاعل من أرجعه الرباعي فهو مرجع له.
3 - وفسر المعاد بالجنة لأنه دخلها ليلة المعراج، وأخرج منها وبقيت نفسه ملتصقة بها فبشر بأن الله تعالى سيرده إليها.
4 - الاستثناء منقطع لذا فسر بلكن.(4/106)
(2) {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} فتترك تلاوتها وإبلاغها والعمل بها.
وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية.
(3) {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} ادع الناس إلى توحيد ربك والعمل بشرعه.
(4) {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي فتتبرّأ منهم ولا ترضى بشركهم وادعهم إلى خلافه وهو التوحيد.
(5) {وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ} أي لا تعبد مع الله إلهاً آخر لا بالدعاء ولا بالنذر والذبح ولا بتقديم أي قربان أو طاعة لغير الله سبحانه وتعالى، وفي هذا تقرير للتوحيد وقوله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تقرير للتوحيد بإبطال أن يكون هناك إله مع الله.
وقوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (1) } يخبر تعالى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ذاهب بلا مثوبة عليه. كما أن كل شيء سوى الله عز وجل فانٍ ولم يبق إلا الله سبحانه وتعالى كقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} و {لَهُ الْحُكْمُ} أي القضاء العادل بين عباده وقوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي بعد الموت للحساب والجزاء يوم بعثكم وحشركم إليه عز وجل، وفي هذا تقرير للبعث والجزاء. والحمد لله أولاً وآخراً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- معجزة القرآن في وقوع الغيب بعد الإخبار به وذلك حيث عاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة بعد الخروج منها.
2- مشروعية الملاينة في الجدال والمناظرة أثناء الدعوة باستعمال أسلوب التشكيك.
3- حرمة معاونة الكفار ومناصرتهم لا سيما ضد المؤمنين.
4- وجوب الثبات والصبر على الدعوة حتى نجاحها ببلوغها الناس واستجابتهم لها.
5- تقرير التوحيد والبعث والنبوة المحمدية.
6- فناء كل شيء إلا الله تعالى إلا ما ورد الدليل بعدم فنائه وعُدَّ منه ثمانية نظّمها بعضهم بقوله:
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
__________
1- قال مجاهد: معناه إلا هو، وقال سفيان، وأبو العالية: إلا ما أريد به وجهه أي: ما يفعل من الطاعات لأجله، كما قال الشاعر:
استغفر الله ذنباً لست مُحصيه
ربّ العباد إليه الوجه والعمل(4/107)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
سورة العنكبوت
مكية (1)
وآياتها تسع وستون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
شرح الكلمات:
الم: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم وتقرأ ألف لام ميم.
وهم لا يفتنون: أي لا يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم من التكاليف ومنها الصبر على الأذى.
ولقد فتنا الذين من قبلهم: أي اختبرنا من قبلهم إذ هي سنة جارية في الناس.
فليعلمن الذين صدقوا: أي في إيمانهم، وليعلمن الذين كذبوا فيه بما يظهر من أعمالهم.
أن يسبقونا: أي يفوتونا فلا ننتقم منهم.
__________
1 - روي أن الآيات الأولى منها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة، وقال علي بن أبي طال: نزلت بين مكة ومدينة.(4/108)
ساء ما يحكمون: أي بئس الحكم هذا الذي يحكمون به، وهو حسبانهم أنهم يفوتون الله تعالى ولم يقدر على الانتقام منهم.
من كان يرجوا لقاء الله: أي من كان يؤمن بلقاء الله وينتظر وقوعه فليعلم أن أجله لآت فليستعد له بالإيمان وصالح الأعمال.
ومن جاهد: أي بذل الجهد في حرب الكفار أو النفس.
فإنما يجاهد لنفسه: أي منفعة الجهاد من الأجر عائدة على نفسه.
ولنجزينهم: أي ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه.
معنى الآيات:
الم: الله أعلم بمراده به وهذا هو مذهب السلف في هذه الحروف وهو تفويض علمها إلى منزلها عز وجل وقوله {أَحَسِبَ (1) النَّاسُ} أي أظن الناس {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} فيكتفى منهم بذلك {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} أي لا يختبرون بل لا بد من اختبار بالتكاليف الشاقة كالهجرة والجهاد والصلاة والصيام والزكاة وترك الشهوات والصبر على الأذى. والآية نزلت في مثل عمار بن ياسر وبلال وعياش فإنها عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ عام هنا، لأن اسم الجنس إذا دخلت عليه "أل" أفادت استغراق جميع أفراده. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ (2) مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة فهي إذاً سنة ماضية في الناس لا تتخلف. وقوله تعالى {فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم أي يظهر ذلك (3) ويعلمه مشاهدة بعد أن علمه قبل إخراجه إلى الوجود حيث قدر ذلك وكتبه في كتاب المقادير وذلك بتكليفهم وقيامهم بما كلفوا به من
__________
1 - قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية مسلية للمعذبين بمكة المتخلفين عن الهجرة وهم: سلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وياسر أبوه وسمية أمه إذ كانت صدورهم تضيق بالعذاب وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين.
2 - روى البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" وروى ابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة!! ".
3 - وفي الحديث: "من أسر سريرة ألبسه الله رداءها" أي أظهرها عليه.(4/109)
شاق الأفعال وشاق التروك، إذ الهجرة والجهاد والزكاة أفعال، وترك الربا والزنا والخمر تروك {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} حيث ادعوا الإيمان ولما ابتلوا بالتكاليف لم يقوموا بها، فبان بذلك عدم صدقهم وإنهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا (1) } أي أظن {يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} من الشرك والمعاصي {أَنْ يَسْبِقُونَا} أي يفوتونا فلم نأخذهم بالعذاب. {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} به لأنفسهم أي قبح حكمهم هذا من حكم لفساده، إذ أقاموه على ظن منهم أن الله تعالى لا يقدر عليهم وهو على كل شيء قدير وأنه لا يعلمهم وهو بكل شيء عليم. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ (2) اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ} أي {مَنْ كَانَ} يؤمن ويؤمل لقاء الله وذلك يوم القيامة فليعلم أن أجل الله المضروب لذلك لآت قطعا وعليه فليستعد للقائه بما يناسبه وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والعمل الفاسد، ومن هنا دعوى المرء أنه يرجو لقاء ربه ولم يعمل صالحاً يثاب عليه، دعوى لا تصح قال تعالى في سورة الكهف {.. فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (110) وقوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأعمالهم، فدعوى الإيمان ظاهرة من العبد أو باطنة لا قيمة لها ما لم يقم صاحبها الدليل عليها وذلك بالإيمان الجهاد للعدو (3) الظاهر والباطن. وقوله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي منفعة هذه العبادة عائدة على العبد نفسه أما الله عز وجل فهو في غنى عن عمل عباده غنىً مطلقاً وهذا ما دل عليه قوله: {إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات إذ كل ما سوى الله تعالى عالم ويجمع على عوالم وعالمين (4) . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} هذا وعد من الله تعالى لمن آمن من عباده وذلك على إيمانه وصالح عمله فعلاً وتركاً بأنه يكفر عنه سيئاته التي عملها قبل الإسلام وبعده. ومعنى يكفّرها عنهم يغطيها ويسترها ولم يطالبهم بها كأنهم لم يفعلوها. وقوله {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} أي على أعمالهم الصالحة {أَحْسَنَ} أي بأحسن عمل عملوه فتكون أعظم ما تكون مضاعفة. وهذا من تكرمه على عباده الصالحين ليجزي بالحسنة أضعافها مئات المرات.
__________
1- قال ابن عباس: المراد بهم: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل والأسود بن العاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل.
2 - قال القرطبي: أجمع أهل التفسير على أن المعنى من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحاً فإنه لا بد أن يأتيه.
3 - المراد بجهاد العدو الظاهر الكفار والباطن النفسي.
4 - جمع ملحق بمذكر سالم نحو: الحمد لله رب العالمين.(4/110)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة أن الإيمان يصدق بالأعمال أو يكذب.
2- بيان إمكان التكليف بما يشق على النفس فعله أو تركه ولكن ليس بما لا يطاق.
3- تحذير المغترين من العقوبة وإن تأخرت زمنا ما فإنها واقعة لا محالة.
4- ثمرة الجهاد عائدة على المجاهد نفسه. فلذا لا ينبغي أن يمنها على الله تعالى بأن يقول فعلت وفعلت.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الوعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات بتكفير السيئات والجزاء الأحسن وهذا يتم يوم البعث.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)(4/111)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
شرح الكلمات:
ووصينا الإنسان: أي عهدنا إليه بطريق الوحي.
بوالديه حسنا: أي إيصاءً ذا حسن، وذلك ببرهما وعدم عقوقهما.
وإن جاهداك: أي بذلا الجهد في حملك على أن تشرك.
لندخلنهم في الصالحين: أي لندخلنهم مدخلهم في الجنة.
فتنة الناس: أي أذاهم له.
كعذاب الله: أي في الخوف منه فيطيعهم فينافق.
إنا كنا معكم: أي في الإيمان وإنما أكرهنا على ما قلنا بألسنتنا.
اتبعوا سبيلنا: أي ديننا وما نحن عليه.
ولنحمل خطاياكم: أي ليكن منكم اتباع لسبيلنا وليكن منا حمل لخطاياكم، فالكلام خبر وليس إنشاء.
وليحملن أثقالهم: أي أوزارهم، والأوزار الذنوب.
وأثقالاً مع أثقالهم: أي من أجل قولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا.
عما كانوا يفترون: أي يكذبون.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت فى شأن (1) سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان ما هذا الدين الذي أحدثت والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتُعيّر بذلك أبد الدهر يقال يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم
__________
1 - روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت في أربع آيات فذكر قصته قال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباًَ حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية.(4/112)
تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفساً ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أسلمت وأكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي عهدنا إليه بواسطة الرسل إيصاءً ذا حسن وهو برهما بطاعتهما في المعروف وترك أذاهما ولو قل، وإيصال الخير بهما من كل ما هو خير قولاً كان أو فعلاً. وقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} أي بذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي شيئاً من الشرك أو الشركاء فلا تطعهما كما فعل سعد بن أبي وقاص مع والدته في عدم إطاعتها. وقوله {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أولاداً ووالدين {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأجزيكم به فلذا قدموا طاعتي على طاعة الوالدين، فإني أنا الذي أحاسبكم وأجزيكم بعملكم أنتم وإياهم على حد سواء. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} التي هي العبادات التي تعبّد الله تعالى بها عباده المؤمنين، فشرعها لهم وبينها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصيام والصدقات والجهاد والحج وما إلى ذلك. هؤلاء الذين جمعوا بين الإيمان الحق والعمل الصالح الخالي من الشرك والرياء. يقسم الله تعالى أنه يدخلهم في مدخل الصالحين وهم الأنبياء والأولياء في الجنة دار السلام. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ (1) مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ} الآية هذه نزلت في أناس كانوا بمكة وآمنوا وأعلنوا عن إيمانهم فاضطهدهم المشركون فكانوا ينافقون فأخبر تعالى عنهم بقوله: {مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ} أي آذاه المشركون نافق وارتد {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي أذاهم له وتعذيبهم إياه {كَعَذَابِ اللهِ} يوم القيامة فوافق المشركين على الكفر. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي على الإيمان وإنما كنا مكرهين وهذه نزلت فيمن خرجوا من مكة إلى بدر مع المشركين لما انهزم المشركون وانتصر المسلمون وأسروا قالوا {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي على الإيمان فرد الله تعالى دعواهم بقوله {أَوَلَيْسَ (2) اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} أي الناس. وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} تقرير لما سبق في الآية قبل وليترتب عليه الجزاء على الإيمان وعلى النفاق. فعلمه تعالى يستلزم الجزاء العادل فأهل الإيمان يجزيهم بالنعيم المقيم وأهل النفاق يجزيهم بالعذاب المهين. أولئك في دار السلام وهؤلاء في دار البوار. وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} أي ديننا
__________
1 - قال الضحاك هذه الآية نزلت في ناس من المنافقين في مكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.
2 - الاستفهام للتقرير فلذا يجاب ببلى.(4/113)
وما نحن عليه {وَلْنَحْمِلْ (1) خَطَايَاكُمْ} قال رؤساء قريش لبعض المؤمنين اتركوا سبيل محمد ودينه واتبعوا سبيلنا وديننا، وإن كان هناك بعث وجزاء كما يقول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحن مستعدون أن نتحمل خطاياكم ونجازى بها دونكم فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} و {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم ولنحمل خطاياكم. وقال تعالى مقسما بعزته وجلاله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أي أوزارهم {وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أي أوزاراً أي ذنوبا مع أوزارهم التي هي ذنوبهم وذلك من أجل ما قالوا لهم. {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون من أنهم يحملون خطايا المؤمنين يوم القيامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب بر الوالدين في المعروف وعدم طاعتهما فيما هو منكر كالشرك والمعاصي.
2- بشرى المؤمنين العاملين للصالحات بإدخالهم الجنة مع النبيين والصديقين.
3- ذم النفاق وكفر المنافقين وإن ادعوا الإيمان فما هم بمؤمنين.
4- بيان ما كان عليه غلاة الكفر في مكة من العتو والطغيان.
5- تقرير مبدأ من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها كما في الحديث الصحيح (2) .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
__________
1 - جزم الفعل (ولنحمل) على الأمر، قال الفراء والزجاج: هو في تأويل الشرط والجزاء أي: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، كما قال مدثار بن شيبان الضمري:
تقول خليلتي لما اشتكينا ... سيدركنا بنو القرم الهجان
فقلت ادعي وادع فإن أندى ... الصوت أن ينادى داعيان
أي: إن دعوت دعوت.
2 - نص الحديث كما هو في الصحيح: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير ينقص من آثامهم شيئا" وفي الصحيح أيضا "ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل".(4/114)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
شرح الكلمات:
ولقد أرسلنا نوحاً: أي نوحا بن لَمْك بن مُتَوَشْلخْ بن إدريس من ولد شيث بن آدم، بينه وبين آدم ألف سنة.
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما: أي فمكث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى تسعمائة وخمسين سنة.
فأخذهم الطوفان: أي الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم فأغرقهم.
وهم ظالمون: أي مشركون.
وجعلناها آية للعالمين: أي عبرة للناس يعتبرون بها فلا يشركون ولا يعصون.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى ما كان يلاقيه رسوله والمؤمنون من مشركي قريش ذكر تعالى نوحاً وإبراهيم وكلاهما قد عانى ولاقى ما لم يلاقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ليكون ذلك تسلية لهم وتخفيفاً عنهم فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ (1) } وقوم نوح يومئذ هم البشرية جمعاء. إذ لم يكن غيرهم {فَلَبِثَ فِيهِمْ} أي مكث يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وترك الأصنام الخمسة التي كانت لهم وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء الخمسة رجالا صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم ووضعوا لهم تماثيل بحجة أنها تذكرهم بالله فيرغبوا في الطاعة والعمل الصالح ثم زين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم فبعث الله تعالى إليهم نوحاً رسولا فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة هؤلاء {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ (2) سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} يدعوهم فلم يستجيبوا له {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فاستجاب الله له فأنجاه وأصحاب السفينة وهم المؤمنون وهلك في الطوفان زوجته وولده كنعان وسائر البشر إلا نوحا
__________
1 - روى أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أول نبي أرسل واختلف في سني عمره: فروي عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لما بعث الله نوحا إلى قومه وبعثه وهو ابن لخمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال: يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا؟ قال مثل رجل بنى له بيتا له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر".
2 - العدول عن السنة إلى العام حتى لا يحصل تكرار في لفظ السنة وهو من بلاغة الكلام.(4/115)
ومن معه في السفينة، وكانوا قرابة الثمانين نسمة، وخلف نوحاً ثلاثة أولا هم سام وهو أبو العرب وفارس والروم وهم الجنس السامي وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر ويافث وهو أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، هذا معنى قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ (1) ظَالِمُونَ} أي لأنفسهم بالشرك. {َأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ (2) } ومن بين ما فيها أبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث ومنهم عمر الكون بالبشر شرقا وغربا وشمالا وجنوباً وقوله {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً (3) لِلْعَالَمِينَ} أي حادثة الطوفان ومنها السفينة ومكث تلك المدة الطويلة مع قلة المستجيبين {آيَةً} أي عبرة {لِلْعَالَمِينَ} أي للناس ليعتبروا بها فلا يعصوا رسلهم ولا يشركون بربهم هذا إذا اعتبروا وقليل من يعتبر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل لهداية الخلق.
2- بيان قلة من استجاب لنوح مع المدة الطويلة فيكون هذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدعاة من بعد.
3- بيان إهلاك الله تعالى للظالمين وإنجائه المؤمنين وهي عبرة للمعتبرين.
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا
__________
1 - الطوفان مأخوذ من أطاف بالشيء يطيف وهو كطاف يطوف طوفاً وطوفانا قال النحاس يقال: لكل كثير مطيف بالجميع من مطر أو قتل أو موت طوفان.
2 - في البخاري أن قتادة قال: بقيت السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة. وقيل: إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج، وكان الجودي الذي رست فوقه قرب (باقردي) وهي قرية من جزيرة بن عمر بالموصل شرقي دجلة.
3 - الضمير في: (وجعلناها) عائد إلى السفينة، وما في التفسير أعم وأشمل.(4/116)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
شرح الكلمات:
وإبراهيم: أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع: ومن المرسلين إبراهيم.
اعبدوا الله واتقوه: أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه.
أوثاناً: أي أصناماً وأحجاراً وصوراً وتماثيل.
وتخلقون إفكاً: أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها.
فابتغوا عند الرزق: أي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس.
واعبدوه: أي بالإيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته.
وإن تكذبوا: أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الآيات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم.
وما على الرسول: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلا البلاغ المبين: وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله.
معنى الآيات:
هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ} أي (1) واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} البابليين ومن بينهم والده آزرْ يا قوم {اعْبُدُوا اللهَ} أي بتوحيده في عبادته {وَاتَّقُوهُ} بترك الشرك والعصيان وإلا حلت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي الإيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان. إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير
__________
1 - ويجوز أن يكون منصوبا بـ (أنجينا) معطوفا على الهاء.(4/117)
والشر وتفرقون بينهما وقوله عليه السلام {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} يخبرهم معرفا لهم بخطئهم فيقول {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ (1) مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً} أي أصناماً (2) وتماثيل وعبادة الأصنام والأوثان عبادة باطلة لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضراً. إن الذي يجب أن يعبد الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت السميع البصير. أما الأوثان فلا شيء في عبادتها إلا الضلال واتباع الهوى. وقوله لهم {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي وتصنعون كذبا تختلقونه اختلاقاً عندما تقولون في التماثيل والأصنام إنها آلهة. وقوله عليه السلام لقومه {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} يخبرهم عليه السلام معرفا لهم بحقيقة هم عنها غافلون وهي أن الذين يعبدونهم من دون الله لا يملكون لهم رزقاً لأنهم لا يقدرون على ذلك فما الفائدة إذاً من عبادتهم وما الحاجة الداعية إليها لولا الغفلة والجهل، ولما أبطل لهم عبادة الأصنام أرشدهم إلى عبادة الله الواحد القهار فقال {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ} إن كنتم عبدتم الأصنام لذلك فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فاطلبوا عنده الرزق فإنه مالكه والقادر على إعطائه {وَاعْبُدُوهُ} بالإيمان به وبرسوله وبتوحيده {وَاشْكُرُوا لَهُ (3) } يرزقكم ويحفظ عليكم الرزق وقوله {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ذكّرهم بعلة غفلتهم ومصدر جهلهم وهي كفرهم بالبعث فأعلمهم أنهم إليه تعالى لا إلى غيره يرجعون. إذاً فليتعرفوا إليه ويعبدوه طلبا لرضاه وإكرامهم يوم يلقونه. وقوله تعالى {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} أي يا أهل مكة رسولنا وتنكروا وحينا وتكفروا بلقائنا فلستم وحدكم في ذلك {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} قوم نوح وعاد وفرعون وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وغيرهم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ (4) } أي رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقد بلغكم وأنتم الآن بين خيارين لا ثالث لهما: الأول أن تتعظوا بما أسمعناكم وأريناكم من آياتنا فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا فتكملوا وتسعدوا وإما أن (5) تبقوا على إصراركم على الشرك والكفر العصيان فسوف يحل بكم ما حل بأمثالكم، إذ كفاركم ليسو بخير من كفار أولئكم الذين انتقم الله منهم وأذاقهم سوء العذاب. هذا ما دلت عليه الآية (18) وهي معترضة بين الآيات التي اشتملت على قصص
__________
1 - إنما: ما: كافة أوثانا منصوب بـ (تعبدون) .
2 - قال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما اتخذ من حصى أو حجارة.
3 - سلك إبراهيم في دعوة قومه هذه سبيل الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العوام، وعدى الشكر باللام لما تفيده اللام من الاختصاص أي: الاستحقاق.
4 - القصد من هذه الجملة: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) إعلام المخاطبين بأن تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه نكاية به أو تشف منه، فإن كان من خطاب الله تعالى لقريش فالمراد من الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان من كلام إبراهيم فالمراد به إبراهيم نفسه سلك فيه مسلك الإظهار في مقام الإضمار تنويعاً للأسلوب.
5 - أي: والثاني: أن تبقوا على إصراركم أعني الخيار الثاني بعد الأول.(4/118)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
إبراهيم عليه السلام. وسر الاعتراض هو وجود فرصة في سياق الكلام قد تلفت أنظار القوم وتأخذهم بقلوبهم إذ الآيات كلها مسوقة لهدايتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب عبادة الله وتقواه طلباً للنجاة من الخسران في الدارين.
2- بطلان عبادة غير الله عن طريق الأدلة العقلية.
3- ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداه لا يملك ذلك لهم
4- وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده.
5- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأنيب المشركين من أهل مكة.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
شرح الكلمات:
أو لم يروا: أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم.(4/119)
يبدئ الله الخلق: أي كيف يخلق المخلوق ابتداء.
ثم يعيده: أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإعادة.
إن ذلك: أي أن الخلق الأول والثاني هو الإعادة.
على الله يسير: أي سهل لا صعوبة فيه، فكيف إذًا ينكر المشركون البعث.
قل سيروا في الأرض: أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه، تستدلون بذلك على قدرته على البعث الآخر.
ثم الله ينشئ النشأة الآخرة: أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون.
وإليه تقلبون: أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلا.
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء: أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم.
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير: ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى.
يئسوا من رحمتي: أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة البعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الآيات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في(4/120)
الدار الآخرة. قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا (1) } أي أولئك المنكرون للبعث، أيكذبون؟ ولم ينظروا كيف يبدئ الله الخلق أي خلق الإنسان، فإن ذلك دال على إعادته متى أراد الله الخالق ذلك، ثم هو تعالى يعيده متى شاء، {إِنَّ ذَلِكَ} أي الخلق والإعادة بعد الفناء والبلى {عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} سهل لا يتعذر عليه أبدا.
وقوله تعالى: {قُلْ (2) سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} شرقاً وغرباً {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض، وسماء، وأنهار، وأشجار، وحيوان، وإنسان، إنها كلها كانت عدما فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها {ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ (3) } وذلك بأن يعيد حياة الإنسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيراً أو شراً، {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (4) قَدِيرٌ} إذاً فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون. وقوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإيمان وصالح الأعمال فيدخلهم في جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإيمان والصالحات. وقوله: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (5) } أي الله تعالى {فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم من الهروب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال. وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تُغلبون ولا تعذبون وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ} التي جاءت بها
__________
1 - الاستفهام للإنكار والتوبيخ لهم على عدم استعمال عقولهم إذ ينكرون البعث وأمامهم صور منه دالة عليه فهو يبدئ الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبداً ويخلق المرء ثم يميته بعد أن يخلق منه ولداً ويخلق من الولد ولداً، وهكذا تتكرر عملية البعث أمامهم فما لهم لا يرونها؟!
2 - هذا الأمر للإرشاد والتوجيه والنصح لو كانوا يعقلون.
3 - أظهر اسم الجلالة بعد تقديم ذكر ضميره في قوله: (كيف بدأ الخلق) ليحرك ضمائرهم باسم الجلالة ويدفع بنفوسهم إلى التسليم بالنشأة الآخرة بعد التسليم بالنشأة الأولى وهي بدء الخلق.
4 - الجملة تذييلية أعلن فيها عن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء أراده: البدء كالإعادة سواء.
5 - المعجزة: هو الذي يجعل غيره عاجزاً عن فعل ما وهو هنا كناية عن الغلبة والانقلاب، قرر بهذه الجملة عجزهم التام في الأرض التي هم يسكنونها، وحتى في السماء لو فرض أنهم يرقونها وما هم بأهل لذلك كما قال الأعشى:
فلو كنت في جبّ ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلّم.(4/121)
رسله {وَلِقَائِهِ} وهو البعث الآخر الموجب للوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء هذا إن كان للعبد ما يحاسب عليه من الخير، أما إن لم يكن له حسنات فإنه يلقى في جهنم بلا حساب ولا وزن إذ ليس له من الصالحات ما يوزن له ويحاسب به، ولذا قال تعالى: {أولئك} أي المكذبون بآيات (1) الله ولقائه {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ (2) رَحْمَتِي} إذ تكذيبهم بالقرآن مانع من الإيمان والعمل الصالح وتكذيبهم بيوم القيامة مانع لهم أن يتخلوا عن الشرك والمعاصي، أو يعملوا صالحاً من الصالحات لتكذيبهم بالجزاء، فهم يائسون من الجنة. {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع وهو عذاب النار في جهنم والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية.
3- تقرير عجز الإنسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم
بالإيمان والتقوى.
4- إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال، وسيعذبون في نار جهنم أشد
العذاب.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
__________
1 - المراد بآيات الله: القرآن الكريم: المشتمل على الأدلة البراهين والحجج الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته والمفصلة لأنواع عباداته.
2 - أخبر عن يأسهم بالفعل الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه وإن كان المعنى أنهم سييأسون من رحمة الله التي هي الجنة لا محالة.(4/122)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
شرح الكلمات:
فما كان جواب قومه: أي قوم إبراهيم عليه السلام.
إلا أن قالوا اقتلوه: أي إلا قولهم اقتلوه أو حرقوه.
إن في ذلك لآيات: أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالما.
لقوم يؤمنون: لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم.
أوثاناً مودة بينكم: أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك.
في الحياة الدنيا: أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا.
يكفر بعضكم ببعض: أي يكفر المتبوعون بأتباعهم ويتبرأون منهم.
ويلعن بعضكم بعضاً: يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص (1) إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لما أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم: أي {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} فما كان جوابهم أي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ (2) } أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها، وقال الله جل جلاله للنار {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت كما أمرت وخرج إبراهيم سالماً لم تحرق النار سوى كتافه الذي شدّ به يداه ورجلاه. وهو ما دل عليه قوله تعالى {فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ} وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح برداً وسلاماً على إبراهيم فلم تحرقه، (آيات) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون. أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإيمان بمثابة
__________
1 - عاد السياق الكريم إلى الحديث عن قصة إبراهيم بعد تلك الجمل الاعتراضية التي تخللت القصة بقصد إثارة شعور قريش وتحريك ضمائرها رجاء أن تطلب الهداية فتحصل عليها إذ هي المقصودة من سوق القصة.
2 - ثم اتفقوا على تحريقه ونفذوا ما اتفقوا عليه فألقوه في النار ونجاه الله فله الحمد وله المنة.(4/123)
الروح في البدن فإن وجد في القلب حيي الجسم وإن فارقه فالجسم ميت فلا العين تبصر الأحداث ولا الأذن تسمع الآيات. وقوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ (1) بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (2) } هذا من جملة قول إبراهيم لقومه وهو يعظهم ويرشدهم فأخبرهم بحقيقة يتجاهلونها وهي أنهم ما اتخذوا تلك الأوثان آلهة يعبدونها إلا لأجل التعارف عليها والتوادد والتحاب من أجلها، فيقيمون الأعياد لها ويجتمعون حولها فيأكلون ويشربون لا أنهم حقيقة يعتقدون أنها آلهة وهي أحجار نحتوها بأيديهم ونصبوها تماثيل في سوح دورهم وأمام منازلهم و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي في الآخرة فالعكس هو الذي سيحدث لهم حيث {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ (3) بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي يكفر المتبوعون وهم الرؤساء بمن اتبعوهم وهم الأتباع من الدهماء وعوام الناس، {ويلعن بعضكم بعضا} كل من الأتباع والمتبوعين يطلب بعد الآخر عنه، وعدم الاعتراف به وذلك عند معاينة العذاب ولم تبق تلك الروابط والصلات التي كانت لهم في هذه الحياة!! وقوله: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ (4) } أي ومقركم الذي يؤويكم جميعاً فتستقرون فيه هو النار {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} بعد أن أذلكم الله الذي أشركتم به أوثاناً، فجعلتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن الظلمة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة.
2- في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك، ومن هنا تكون الكرامات
والمعجزات إذ هي خوارق للعادات.
3- بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف
والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
__________
1 - قرأ نافع (مودةً) بالتنوين منصوباً، وقرأ حفص بدون تنوين منصوباً مضافاً إلى الظرف، وقرأ ابن كثير وغيره (مودَّةُ) بالرفع مضاف إلى (ببينكم) على أنه خبر إن وما: اسمها.
2- قال القرطبي: معنى الآية: جعلتم الأوثان تتحابون عليها في الحياة الدنيا.
3 - قال القرطبي: تتبرأ الأوثان من عبادها، والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) .
4 - قيل: يحشرون في النار الرؤساء والأتباع والأوثان كقوله تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) وقوله (وقودها الناس والحجارة) وهي الأوثان كانت تعبد من دون الله عز وجل.(4/124)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
شرح الكلمات:
فآمن له لوط: أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه.
مهاجر إلى ربي: أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني.
ووهبنا له إسحاق ويعقوب: أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم إسحاق الابن ويعقوب الحفيد.
في ذريته النبوة والكتاب: فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته.
وآتيناه أجره في الدنيا: وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإلهية.
وإنه في الآخرة من الصالحين: أي هو أحدهم، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده.
معنى الآيات:
هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ} أي إبراهيم {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى (1) رَبِّي} فترك بلاد قومه من (2) سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء
__________
1 - المهاجرة: مفاعلة من الهجر الذي هو الترك لما كان ملازما له. وحرف إلى الأصل فيه الانتهاء، وهي هنا أفادت التعليل: أي لأجل ربي إذ هو الذي أمره بها من أجل أن يعبده في دار هجرته هو وأهله.
2 - من قرية كوثا من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط بن تارخ، وامرأته سارة، وهو أول من هاجر في سبيل الله وأول من هاجر من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله تعالى: عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أرض الحبشة.(4/125)
هجرته إلى ربه عز وجل بما أخبر به في هذا السياق حيث قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ (1) وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} وهبه أي أعطاه ولده إسحاق بن سارة وولد إسحاق وهو يعقوب، وجعل كافة الأنبياء من ذريته وجعل الكتاب فيهم أيضاً فالتوراة أنزلت على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى وهم من ذرية إبراهيم، والقرآن الكريم أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وقول إبراهيم هو كما قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وصف ربه بالعزة والحكمة. فقال: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ (2) الْحَكِيمُ} أي الغالب القاهر {الْحَكِيمُ} الذي وضع كل شيء في موضعه، ودلائل العزة أن أنجى إبراهيم من أيدي الظلمة الطغاة ومن مظاهر الحكمة أن نقله من أرض لا خير فيها إلى أرض كلها خير وأكرمه فيها بما ذكره في قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} حيث رزقه أطيب الأرزاق في دار هجرته ورزقه الثناء الحسن من كل أهل الأديان الإلهية كاليهودية والنصرانية، والإسلام وهو خاتم الأديان هذا في الدنيا وأما في الآخرة فإنه من الصالحين ذوي الدرجات العلا والمنازل العالية في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه السلام وفي هذا تسلية
للرسول الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره.
3- بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى.
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ
__________
1 - هذه الهبة كان قبلها هبة إسماعيل إذ ولد قبل إسحاق عليهم السلام.
2 - هذه الجملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة (إني مهاجر إلى ربي) لأن من كان عزيزا يعتز به جاره، ومن كان حكيماً لا يأمر بغير ما هو خير للمأمور الممتثل لأمره.(4/126)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
شرح الكلمات:
ولوطاً إذ قال لقومه: أي اذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سدوم.
أئنكم لتأتون الفاحشة: أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم.
ما سبقكم بها من أحد: أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم.
وتقطعون السبيل: أي باعتدائكم على المارة في السبيل فامتنع الناس من المرور خوفاًَ منكم.
وتأتون في ناديكم المنكر: أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإزار والفاحشة أي اللواط.
فما كان جواب قومه: أي إلا قولهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم وعمورية والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لا يتم لأحد إلا من طريق الوحي، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى: واذكر يا رسولنا لقومك (1) لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحاً أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين، ثم يواصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول: {أَإِنَّكُمْ (2) لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي في أدبارهم {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسراً وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا النسل
__________
1 - (لوطا) منصوب إمّا على تقدير اذكر كما في التفسير أو على تقدير وأرسلنا أو أنجينا كما تقدم في قوله تعالى: (وإبراهيم..)
2 - الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع على جريمتهم التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.(4/127)
بقطع سبيل الولادة، وزاد لوط في تأنيبهم والإنكار عليهم والتوبيخ لهم فقال {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} والنادي محل اجتماعهم وتحدثهم وإتيان المنكر فيه كان بارتكاب الفاحشة مع بعضهم بعضا، وبالتضارط فيه، وحل الإزار، والقذف بالحصى وما إلى ذلك (1) مما يؤثر عنهم من سوء وقبح. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} بعد أن أنّبهم ووبخهم ناهيا لهم عن مثل هذه الفواحش {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا (2) بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي ما كان جوابهم إلا المطالبة بعذاب الله، وهذه طريقة الغلاة المفسدين والظلمة المتكبرين، إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى القوة يستعملونها أو يطالبون بها. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (3) } أي لما طالبوه بالعذاب، وقد أعياه أمرهم لجأ إلى ربه يطلب نصره على قومه الذين كانوا شر قوم وجدوا على وجه الأرض واستجاب الله تعالى له ونصره وسيأتي بيان ذلك في الآيات بعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي.
2- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب.
3- قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط.
4- وجوب إقامة الحد على اللوطيّ الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حداً
للزنى فاللوطية تقاس عليه، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس.
5- التحذير من العبث والباطل قولا أو عملاً وخاصة في الأندية والمجتمعات.
__________
1 - من ذلك: أنهم كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك، والصفير وتطريف الأصابيع بالحناء وفرقتها، ويقذفون أهل الطريق ويسخرون منهم، روى هذا الترمذي وحسنّه.
2 - هذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم قطعا.
3 - الإفساد في الأرض: هو العمل بمعاصي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكل عامل بالمعاصي فهو مفسد في الأرض، إذ فعل المعاصي يورث الفقر والخوف وهما شر ما يُتقى.(4/128)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
شرح الكلمات:
بالبشرى: أي إسحاق ويعقوب بعده.
هذه القرية: أي قرية لوط وهي سدوم.
قالوا نحن أعلم بمن فيها: أي قالت الرسل نحن أعلم بمن فيها.
كانت من الغابرين: أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب.
سيء بهم: أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.
وضاق بهم ذرعاً: أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء.
رجزاً: أي عذابا من السماء.
بما كانوا يفسقون: أي بسبب فسقهم وهو إتيان الفاحشة.(4/129)
ولقد تركنا منها آية: أي تركنا من قرية سدوم التي دمرناها آية بينة وهي خرابها ودمارها وتحولها إلى بحر ميت لا حياة فيه.
لقوم يعقلون: أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص لوط عليه السلام، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين وأنه عليه السلام استنصر ربه تعالى عليهم، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته، قال تعالى: {وَلَمَّا (1) جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ} الخليل عم لوط {بِالْبُشْرَى (2) } التي هي ولادة ولدٍ له هو إسحاق ومن بعده يعقوب ولد إسحاق عليه السلام كما قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} . {قَالُوا} أي قالت الملائكة لإبراهيم {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم {إِنَّ أَهْلَهَا (3) كَانُوا ظَالِمِينَ} أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} منك يا إبراهيم. {لَنُنَجِّيَنَّهُ (4) وَأَهْلَهُ} من الهلاك {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها وممالأتها للظالمين. وقوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} أي ولما وصلت الملائكة لوطاً قادمين من عند إبراهيم من فلسطين {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفاً من قومه أن يسيئوا إليهم، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة منه طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله: {وَقَالُوا لا تَخَفْ} أي علينا {وَلا تَحْزَنْ} على من سيهلك من أهلك مع قومك الظالمين. {إِنَّا مُنَجُّوكَ} من العذاب أنت وأهلك أي زوجتك المؤمنة وبنتيك، {إِلَّا امْرَأَتَكَ} أي العجوز الظالمة فإنها {مِنَ الْغَابِرِينَ} الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين. وقوله تعالى في الآية (34) : {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ
__________
1 - (لما) حرق وجود لوجود نحو: لما جاء الحق ذهب الباطل. وهي أداة تدل على التوقيت كما هي ظرف ملازم للإضافة إلى جملة بعدها.
2 - البشرى: اسم للبشارة التي هي: إخبار بما يسرّ المخبر.
3 - الجملة تعليلية لما تقدمها من الإهلاك.
4 - قرأ الجمهور نافع وحفص: (لمنجّوك) بتشديد الجيم، وقرأ ابن كثير (منجوك) بتخفيفها من: أنجاه ينجيه، ونجي وأنجى بمعنى.(4/130)
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي أخبرت الملائكة لوطاً بما هم فاعلون لقومه وهو قولهم {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي مدينة سدوم {رِجْزاً} أي عذاباًَ من السماء وهي الحجارة بسبب فسقهم بإتيان الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. قال تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا} أي من تلك القرية {آيَةً بَيِّنَةً} (1) ، أي عظة وعبرة، وعلامة واضحة على قدرتنا على إهلاك الظالمين والفاسقين. وقوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إذ هم الذين يتدبرون في الأمور ويستخلصون أسبابها وعواملها ونتائجها وآثارها أما غير العقلاء فلا حظ لهم في ذلك ولا نصيب فهم كالبهائم التي تنساق إلى المجزرة وهي لا تدري وفي هذا تعريض بمشركي مكة وما هم عليه من الحماقة والغفلة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله.
2- تقرير مبدأ: من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها
وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها.
3- مشروعية الضيافة وتأكدها في الإسلام لحديث الصحيح "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
4- التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب.
5- فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
__________
1 - المعنى: ولقد تركنا من القرية آثارا دالة عليها، وهي بقايا القرية المغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه، مع بقايا لون الكبريت والمعادن التي رجمت بها قريتهم.(4/131)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
شرح الكلمات:
وإلى مدين: أي وأرسلنا إلى قبيلة مَدْيَن، ومدين أبو القبيلة فسميت باسمه.
أخاهم شعيباً: أي أخاهم في النسب.
اعبدوا الله: أي اعبدوه ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً.
وارجوا اليوم الآخر: أي آمنوا به وتوقعوا مجيئه وما يحدث فيه.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين: أي ولا تعيثوا في الأرض فساداً بأن تنشروا فيها الفساد وهو العمل بالمعاصي فيها.
فأخذتهم الرجفة: الهزة العنيفة والزلزلة الشديدة.
في دارهم جاثمين: لاصقين بالأرض أمواتا لا يتحركون.
معنى الآيتين:
هذا موجز لقصة (1) شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين، والعبرة منه إهلاك تلك الأمة لما كذبت رسولها واستمرت على الشرك والمعاصي لعل قريشاً تعتبر بما أصاب هذه الأمة من هلاك ودمار من أجل تكذيبها لرسولها وعصيانها لربها قال تعالى {وَإِلَى (2) مَدْيَنَ} أي وأرسلنا إلى مدين {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} وهو نبيّ عربي فلما انتهى إليهم برسالته قال {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ} أي وحدوه في عبادته وأطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه من التطفيف في الكيل والوزن، {وَارْجُوا (3) الْيَوْمَ الْآخِرَ} ، أي آمنوا بيوم القيامة وتوقعوا دائماً مجيئه وخافوا ما فيه من أهوال وأحوال فإن ذلك يساعدكم على التقوى وقوله: {وَلا تَعْثَوْا (4) فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وذلك أنهم ينقصون الكيل والوزن ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بالمعاصي. وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} أي كذب أصحاب مدين نبيهم شعيباً فيما أخبرهم به ودعاهم إليه {فَأَخَذَتْهُمُ (5) الرَّجْفَةُ} أي رجفة الهلاك من تحتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين على الركب
__________
1 - هذه القصة معطوفة على سابقاتها: قصة نوح وإبراهيم ولوط عليهم السلام.
2 - إن طلبت المناسبة بين قصة لوط وقصة أصحاب مدين فإنها في كون مدين من أبناء إبراهيم وكون لوط من الأسرة الإبراهيمية وأوضح من هذا السبب قرب الديار من بعضها، فمدين غير بعيدة من قرى لوط.
3 - أمره إيّاهم برجاء اليوم الآخر دال على أنهم ما كانوا يؤمنون باليوم الآخر أو ذكرهم به لغفلتهم عنه بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
4 - العثو: بالواو كالدنو والعثي بالياء كالعصي: أشد الفساد، وفعله: عثا يعثوا، وعثي كرضي يعثى كيرضى بمعنى واحد.
5 - الفاء للسببية، (والرجفة) الزلزال الشديد الذي ترجف منه الأرض والقلوب وكانت هذه الزلازل مصحوبة بصيحة شديدة انخلعت منها القلوب.(4/132)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
هلكى وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر.
2- حرمة الفساد في الأرض وذلك بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
3- بيان نقمة الله تعالى على المكذبين والظالمين والفاسقين.
وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
شرح الكلمات:
وعاداً وثمود: أي وأهلكنا عاداً القبيلة وثمود القبيلة كذلك.
وقد تبين لكم من مساكنهم: أي تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم الخالية منهم بالحجر شمال الحجاز والشجر جنوب اليمن.
عن السبيل: أي سبيل الهدى والحق التي بينها لهم رسلهم.
كانوا مستبصرين: أي ذوي بصائر لما علمتهم رسلهم.
وقارون وفرعون وهامان: أي وأهلكنا قارون بالخسف وفرعون وهامان بالغرق.(4/133)
فاستكبروا: أي عن عبادة الله تعالى وطاعة رسله.
وما كانوا سابقين: أي فائتين عذاب الله أي فارين منه، بل أدركهم.
فكلاً أخذنا بذنبه: أي فكل واحد من المذكورين أخذناه بذنبه ولم يفلت منا.
فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا: أي ريحاً شديدة، كعاد.
ومنهم من أخذته الصيحة: أي ثمود.
ومنهم من خسفنا به الأرض: أي كقارون.
ومنهم من أغرقنا: أي كقوم نوح وفرعون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات قبل ذي (1) إهلاكه لقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح من قبل لما ردوا دعوته وكذبوا رسله ذكر بقية الأقوام الذين كذبوا بآيات الله ورسله فأهلكهم، فقال عز وجل: {وَعَاداً وَثَمُودَ (2) } أي وأهلكنا كذلك عاداً قوم هود، وثمود قوم صالح! وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ (3) لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} أي وقد تبين لكم يا معشر كفار مكة ومشركي قريش من مساكنهم بالحجر (4) والشجر (5) من حضرموت ما يؤكد لكم إهلاكنا لهم، إذ مساكنهم الخاوية دالة على ذلك دلالة عين. وقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي وقد زين لهم الشيطان أعمالهم من الشرك والشر والظلم والفساد وصدهم بذلك التزيين عن السبيل، سبيل الإيمان والتقوى المورثة للسعادة في الدنيا والآخرة. وقوله: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (6) } أي ذوي بصائر أي معرفة بالحق والباطل والخير والشر لما علمتهم الرسل ولكن آثروا أهواءهم على عقولهم فهلكوا. وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين. وقوله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أي أهلكنا قارون الإسرائيلي ابن عم موسى عليه السلام، أهلكناه ببغيه وكفره، فخسفنا به الأرض وبداره أيضا، وفرعون وهامان أغرقناهما في اليم بكفرهما وطغيانهما
__________
1 - وجه المناسبة ظاهر بين هده الآيات وسابقتها وهي إتمام ذكر كل من قص تعالى في كتابه قصصهم مفصلة في الأعراف وهود والشعراء والنمل والقصص، فذكر بإيجاز من لم يذكرهم في هذا العرض من هذه السورة، فذكر عاداً وثمود وقارون وفرعون هامان.
2 - وعاداً جائز أن يكون منصوباً بفعل مقدر، وأهلكنا عاداً أو اذكر عاداً.
3 - الجملة حالية.
4 - مدائن صالح.
5 - منازل عاد.
6 - الاستبصار: البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد كالاستحباب بمعنى الحب، والمراد أنهم أهل بصائر ومعرفة بالأمور لما لهم من عقول صالحة للنظر والإدراك، وما في التفسير وجه أحسن من هذا.(4/134)
وظلمهما واستعلائهما وذلك بعدما جاءهم موسى بالبينات من الآيات والحجج الواضحات التي لم تبق لهم عذراً في التخلف عن الإيمان التقوى ولكن {فَاسْتَكْبَرُوا (1) فِي الْأَرْضِ} ، أرض مصر وديارها فرفضوا الإيمان والتقوى {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} ولا فائتين فأحلّ الله تعالى بهم نقمته وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين. ثم في الآية الأربعين من هذا السياق بين تعالى أنواع العذاب الذي أهلك به هؤلاء الأقوام، فقال: {فَكُلّاً (2) } أي فكل واحد من هؤلاء المكذبين {أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ (3) مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} أي ريحاً شديدة كعاد. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كثمود {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} كقارون {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} كفرعون، وقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي لم يكن من شأن الله تعالى الظلم فيظلمهم، {وَلَكِنْ كَانُوا} أي أولئك الأقوام {أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالشرك والكفر والتكذيب والمعاصي فأهلكوها بذلك، فكانوا هم الظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الشيطان هو سبب هلاك الأقوام وذلك بتزيينه لهم الشر والقبيح كالشرك والباطل والشر والفساد.
2- بيان أن الاستكبار كالظلم عاقبتهما الهلاك والخسران.
3- بيان أن الله تعالى ما أهلك أمة حتى يبين لها ما يجب أن تتقيه (4) من أسباب الهلاك والدمار فإذا أبت إلا ذاك
أوردها الله موارده.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
__________
1 - إن فرعون وهامان وقارون شأنهم شأن أبي جهل والعاص بن وائل والنضر بن الحارث ما حملهم على الكفر والعناد إلا الاستكبار في البلاد.
2 - (فكلا) : الفاء للتفريع على ما سبق: قوله تعالى: (وعاداً) إذ التنوين عوضٌ عن كلمة أي: فكل واحد ممن ذُكروا من عاد إلى قارون أخذ الله أي: أهلك بذنبه، ولم يظلمهم الله تعالى بإهلاكه إيّاهم.
3 - الفاء للتفريع إذ هذا التفصيل بعد الفاء متفرع عن ذلك الإجمال المذكور في قوله: (فكلاً أخذنا بذنبه) .
4 - شاهده في قول الله تعالى من سورة التوبة: (وما كان الله ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون) والإضلال سبيل الهلاك وطريقه.(4/135)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
شرح الكلمات:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء: أي صفة وحال الذين اتخذوا أصناماً يرجون نفعها.
كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً: أي لنفسها تأوي إليه.
أوهن البيوت: أي أضعف البيوت وأقلها جدوى.
يعلم ما يدعون من دونه من شيء: أي من الأوثان والأصنام وغيرها.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في تدبير أمور خلقه.
وما يعقلها إلا العالمون: أي العالمون بالله وآياته وأحكام شرعه وأسراره.
خلق الله السموات والأرض بالحق: أي من أجل أن يعبد لا للهو ولا لباطل.
أتل ما أوحي إليك من الكتاب: اقرأ يا رسولنا ما أنزل إليك من القرآن.
وأقم الصلاة: بأدائها مقامة مراعى فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها.
تنهى عن الفحشاء والمنكر: أي الصلاة بما توجد من نور في قلب العبد يصبح به لا يقدر على فعل فاحشة ولا إتيان منكر.
ولذكر الله أكبر: أي ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه كما أن ذكر(4/136)
الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة وغيرها.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى نقمته على أعدائه الذين كفروا به وأشركوا غيره في عبادته وكذبوا رسله وكان ذلك تنبيها وتعليما للمشركين والكافرين المعاصرين لنزول القرآن لعلهم يستجيبون للدعوة المحمدية فيؤمنوا ويوحدوا ويسلموا فيسلموا من العذاب والخسران. ذكر هنا في هذه الآيات مثلاً لعبادة الأوثان في عدم نفعها لعابديها والقصد هو تقرير التوحيد، وإبطال الشرك العائق عن كمال الإنسان وسعادته وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ} أي شركاء وهي الأصنام والأوثان يعبدونها راجين نفعها وشفاعتها لهم عند الله تعالى {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (1) اتَّخَذَتْ بَيْتاً} لتأوي إليه قصد وقايتها مما تخاف من جراء برد أو اعتداء حشرة عليها، {وَإِنَّ أَوْهَنَ (2) الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} والحال أن أوهن البيوت أي أضعفها وأحقرها شأناً وأقلها مناعة هو بيت العنكبوت فهذه حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله {أَوْلِيَاءَ} أي أصناماً يرجون النفع، ودفع الضر بها فهم واهمون في ذلك غالطون، مخطئون، إنه لا ينفع ولا يضر إلا الله فليعبدوه وحده وليتركوا ما سواه. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان المشركون يعلمون أن حالهم في عبادتهم غير الله في عدم الانتفاع بها كحال العنكبوت في عدم الانتفاع ببيتها الواهي لما رضوا بعبادة غير الله وتركوا عبادة الله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فيه تهديد للمشركين المصرين على الشرك بأنه لا يخفى عليه ما هم عليه من دعاء غيره، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من قبلهم {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على أمره {الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه ولذا يعجل العقوبة لمن يعجل لحكمة ويؤخرها عنه لحكمة فلا يغتر المشركون بتأخير العذاب، ولا يستدلون به على رضا الله تعالى بعبادتهم، وكيف يرضاها وقد أهلك أمماً بها وأنزل كتابه وبعث رسوله لإبطالها والقضاء عليها وقوله
__________
1 - العنكبوت: صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف: منها صنف يسمى ليث العنكبوت، وهو الذي يفترس الذباب وكلها تتخذ لنفسها نسيجاً تنسجه من لعابها يكون خيوطاً مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانباً أغلظ وأكثر خيوطاً فتحتجب فيه ويسمى بيتا لشبهه بالخيمة لأنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر، وجملة (اتخذت بيتاًَ) حال من العنكبوت ويصغّر على العنيكبوت ويجمع على عناكب.
2 - (وإن أوهن البيوت..) هذه الجملة معترضة مبيّنة لوجه الشبه وتجري هذه الجملة مجرى المثل يضرب للشيء إذا قلّت فائدته وجدواه.(4/137)
تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ (1) نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي وهذه الأمثال نضربها للناس لأجل إيقاظهم وتبصيرهم وهدايتهم، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} أي وما يدرك مغزاها وما تهدف إليه من التنفير من الشرك العائق عن كل كمال وإسعاد في الدارين {إِلَّا الْعَالِمُونَ (2) } أي بالله وشرائعه وأسرار كلامه وما تهدي إليه آياته. وقوله تعالى: {خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} إخبار بأنه تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وهي مظاهر قدرته وعلمه وحكمته موجبة لعبادته بتعظيمه وطاعته ومحبته والإنابة إليه والخوف منه. وخلقهما بالحق لا بالباطل وذلك من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن كفر به فترك ذكره وشكره كان كمن عبث بالسموات والأرض وأفسدها، لذا يعذب نظراً إلى عظم جرمه عذاباً دائماً أبداً. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إن في خلق السموات (3) والأرض بالحق {لَآيَةً} أي علامة بارزة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهذه موجبات ألوهيته على سائر عباده فهو الإله الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه. وبعد هذا البيان والبرهان لم يبق عذر لمعتذر، وعليه فـ {اتْلُ (4) } أيها الرسول {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} تعليماً وتذكيراً وتعبداً وتقرباً {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} طرفي النهار وزلفاً من الليل فإن في ذلك عوناً كبيراً لك على الصبر والثبات وزاداً عظيماً لرحلتك إلى الملكوت الأعلى. وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى (5) عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} تعليل للأمر بإقام الصلاة فإن الصلاة بما توجده من إشراقات النفس والقلب والعقل حال تحول بين العبد وبين التلوث بقاذورات الفواحش ومفاسد المنكر وذلك يفيد إقامتها لا مجرد أدائها والإتيان بها. وإقامة الصلاة تتمثل في الإخلاص فيها لله تعالى أولاً ثم بطهارة القلب من الالتفات إلى غير الرب تعالى أثناء أدائها ثانياً، ثم بأدائها في أوقاتها المحددة لها وفي المساجد بيوت الله، ومع جماعة المسلمين عباد الله وأوليائه، ثم بمراعاة أركانها من قراءة الفاتحة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه، والسجود على الجبهة والأنف والطمأنينة فيه، وآخر أركانها الخشوع وهو السكون ولين القلب وذرف الدمع. هذه هي الصلاة التي
__________
1 - (وتلك الأمثال) مبتدأ والخبر: جملة (نضربها للناس) .
2 - عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه".
3 - لفظ السموات والأرض: يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما.
4 - المراد من: (اتل) : مدوامة تلاوة ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم.
5 - قيل لابن عطية: إن حماداً وابن جريج والكلبي يقولون: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام العبد فيها. قال: هذه عجمة أي: نسبهم إلى قلة الفهم وهو كذلك للحديث وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" وقال له أحد الصحابة: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق. فقال: سينهاه ما تقول. يعني صلاته.(4/138)
توجد طاقة النور التي تحول دون الانغماس في الشهوات والذنوب وإتيان الفاحشة وارتكاب المنكر. وقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} أي أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من إقامة الصلاة لأن الصلاة أثناء أدائها مانعة عاصمة لكن إذا خرج منها، قد يضعف تأثيرها، أما ذكر الله بالقلب واللسان في كل الأحيان فهو عاصم مانع من الوقوع في الفحشاء والمنكر وفي اللفظ معنى آخر وهو أن ذكر الله للعبد في الملكوت الأعلى أكبر من ذكر العبد للرب في ملكوت الأرض ويدل عليه قوله "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأ خير منه" كما في الحديث الصحيح. وقطعاً والله لذكر الرب العبد الضعيف أكبر من ذكر العبد الضعيف الرب العظيم. اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين لآلائك. وقوله: {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (1) } فيه وعد ووعيد، فإن علمه يترتب عليه الجزاء فمن كان يصنع المعروف جزاه به، ومن كان يصنع السوء جزاه به. اللهم ارزقنا صنائع المعروف وأبعد عنا صنائع السوء آمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام.
2- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
3- فضل العلماء على غيرهم، العلماء بالله، بصفاته وأسمائه وآياته، وشرائعه، وأسرارها.
4- وجوب تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وذكر الله، إذ هي غذاء الروح وزاد العروج إلى الملكوت الأعلى.
5- بيان فائدة إقام الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى بالقلب واللسان.
__________
1 - في الآية وازع المراقبة، وعليه فتلاوة القرآن وإقام الصلاة وذكر الله تعالى ومراقبته. هذه الأربعة تمثّل سبيل السلام إلى دار السلام من سلكه نجا ومن تنكّبه هلك، والعياذ بالله العليم الحكيم.(4/139)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
الجزء الحادي والعشرون
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
شرح الكلمات:
ولا تجادلوا أهل الكتاب: أي لا تحاجوا ولا تناظروا اليهود ولا النصارى.
إلا بالتي هي أحسن: أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وهي الدعوة إلى الله بآياته والتنبيه على حججه.
إلا الذين ظلموا منهم: أي الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين بدفع الجزية وبقوا حرباً على المسلمين.
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب: أي وكإنزالنا الكتاب على من قبلك من الرسل أنزلنا إليك الكتاب.
فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به: أي كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين آمنوا بالرسول وكتابه.
ومن هؤلاء من يؤمن به: أي من هؤلاء المشركين من يؤمن به وفعلا آمن به كثيرون.(4/140)
ولا تخطه بيمينك: أي تكتب بيدك لأنك أميّ لا تقرأ ولا تكتب.
لارتاب المبطلون: أي لشك اليهود في نبوتك ونزول القرآن إليك.
بل هو آيات بينات: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعوته وصفاته آيات بينات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.
وما يحجد بآياتنا إلا الظالمون: أي وما يجحد بآيات الله الحاملة لنعوت الرسول الأمي وصفاته إلا الذين ظلموا أنفسهم بكتمان الحق والاستمرار على الباطل.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَلا (1) تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} هذا تعليم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين يأخذون به مستقبلا عندما يتصلون بأهل الكتاب ويحتكون بهم فقال عز وجل مخاطبا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين من أمته {وَلا تُجَادِلُوا (2) أَهْلَ الْكِتَابِ} الذين هم اليهود والنصارى فنهاهم عن مجادلتهم وهي خصامهم ومحاجتهم ومناظرتهم {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن (3) وذلك بدعوتهم إلى الله تعالى ليؤمنوا برسوله ويدخلوا في دينه الإسلام والتنبيه على حجج الله وأدلة وحيه وكتابه. وقوله {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِْنهُمْ} وهم الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين ولم يؤدوا الجزية وناصبوا للمسلمين الحرب والعداء فهؤلاء لا يجادلون ولكن يحكّم فيهم السيف فيقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . هذا تعليم آخر للمؤمنين وهو: إن أخبرهم أهل الكتاب بشيء لا يوجد في الإسلام ما يثبته ولا ما ينفيه وادّعوا أنه في كتابهم في هذه الحال فقولوا ما أرشدنا الله تعالى إلى قوله وهو: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
__________
1 - ذكر القرطبي الخلاف في هل هذه الآية منسوخة أو محكمة، ورجّح قول مجاهد وهي أنها محكمة، وما في التفسير على هذا وهو الصواب.
2 - الجدال والمجادلة مصدران لجادل، والمراد بالمجادلة: إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره. والجدل: شدة الخصومة وهو مأخوذ من الجدل الذي هو الفتل للحبل ونحوه إذا قواه، والمجادل يقوي رأيه بما يراه ويورده من حجج.
3 - وجه المجادلة بالحسنى لأهل الكتاب لأنهم أهل علم متأهلون للفهم وقبول الحق متى اتضح لهم بخلاف جهّال المشركين فإن تهجين عبادتهم وتفضيع طريقتهم قد يكون أنجع فيهم.(4/141)
إلى آخر الآية حتى لا نكون قد كذّبنا بحق ولا آمنا بباطل، وفي البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (1) ، وقولوا {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي وكإنزال الكتب السابقة على رسل سبقوا كموسى وداود وعيسى عليهم السلام أنزلنا إليك أنت يا محمد الكتاب أي القرآن وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} . فهذا إخبار بغيب فكما علّم الله تعالى المؤمنين كيف يكونون مع أهل الكتاب عندما يتصلون بهم ويعيشون معهم في المدينة وغيرها أخبر أن الذين آتاهم الكتاب أي التوراة والإنجيل وهم الراسخون في العلم يؤمنون أي بالقرآن وقد آمن عبد الله بن سلام وكثير من أحبار أهل الكتاب، وآمن من المشركين كثيرون فكان الأمر كما أخبر. وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} فهو كما أخبر لا يجحد بالآيات القرآنية ويكذب بها إلا كافر مظلم النفس خبيثها وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} هو كما قال عز وجل لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ قبل القرآن أي كتاب، ولا كان يخط بيمينه أيّ كتاب لأنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب أيْ فلو كان قبل نزول القرآن عليه يقرأ ويكتب لكان للمبطلين (2) مجال للشك في صحة دعوى النبوة المحمدية ونزول القرآن عليه، ولكن لم يكن قبل القرآن يقرأ أي كتاب، ولم يكن يخط بيمينه أي خط ولا كتاب فلم يبق إذاً للمشركين ما يحتجون به أبداً. وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ (3) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي بل الرسول ونعوته وصفاته ومنها وصف الأمية آيات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.. وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا} في التوراة والإنجيل والقرآن {إِلَّا الظَّالِمُونَ} أنفسهم (4) من الماديين اليهود والنصارى الذين يأكلون ويَترأسُون على حساب الحق والعياذ بالله تعالى.
__________
1 - تفرد به البخاري رحمه الله تعالى.
2 - قال مجاهد: "كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.
3 - أي: ليس هو كما يقول المبطلون من أنه سحر أو شعر ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه وكذلك في صدور الذين أوتوا العلم، وهم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمؤمنون به، وهذا لا ينافي مع ما في التفسير، إذ الوجهان صحيحان، وقال كعب في صفة هذه الأمة: إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء.
4 - والمشركون كاليهود والنصارى في هذا أي: الجحود بالآيات.(4/142)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذِّمّة بالتي هي أحسن.
2- حرمة سؤال أهل الكتاب لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تسألوا أهل الكتاب (1) عن شيء فإنهم لن يهدوكم
وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل".
منع تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم إذا أخبروا بشيء ووجوب قول: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
3- إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر فيكون ذلك آية على أنه من وحي الله تعالى.
4- تقرير صفة الأمية في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هي في الكتب السابقة.
وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
شرح الكلمات:
لولا أنزل عليه آيات: أي قال كفار قريش هلاّ أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح، وعصا موسى.
__________
1 - رواه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.(4/143)
قل إنما الآيات عند الله: أي قل يا رسولنا الآيات عند الله ينزلها متى شاء.
أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب: أي أو لم يكفهم فيما طلبوا من الآيات إنزالنا الكتاب عليك.
إن في ذلك لرحمة وذكرى: أي في القرآن رحمة وموعظة للمؤمنين فهو خير من ناقة صالح.
والذين آمنوا بالباطل: وهو ما يعبد من دون الله.
وكفروا بالله: وهو الإله الحق.
أولئك هم الخاسرون: أي حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى: {وَقَالُوا} أي أهل مكة {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ (1) مِنْ رَبِّهِ} أي هلاّ أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى إذ هذا الذي يعنون بالآيات أي معجزات خارقة للعادة. قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل يا رسولنا لقومك المطالبين بالآيات دليلا على صدق نبوتك قل لهم: أولاً: الآيات التي تطالبون بها هي عند الله وليست عندي فهو تعالى ينزلها متى شاء وعلى من شاء. وثانياً: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وظيفتي التي أقوم بها هي إنذار أهل الظلم من عاقبة ظلمهم وهي عذاب النار فلذا لا معنى بمطالبتي بالآيات. وثالثاً: أو لم يكفهم (2) آية أن الله تعالى أنزل عليّ كتابه فأنا أتلوه عليكم صباح مساء فأي آية أعظم من كتاب من أميّ لا يقرأ ولا يكتب تُتلى آياته تحمل الهدى والنور وهو في الوقت نفسه رحمة وذكرى أي موعظة لقوم يؤمنون فهي معجزة ثابتة قائمة باقية يجد فيها المؤمنون الرحمة فيتراحمون بها ويجدون فيها الموعظة فهم يتعظون بها، فأين هذا من معجزة تبقى ساعة ثم تذهب وتروح كمائدة عيسى أو عصا موسى. ورابعاً: شهادة الله برسالتي كافية لا يطلب معها دليل آخر على نبوتي ورسالتي، فقد قال لي ربي: {قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
__________
1 - قرأ ابن كثير وحمزة: (آية) بالإفراد، وقرأ الجمهور ونافع وحفص بالجمع (آيات) .
2 - أخرج الدارمي في سننه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتُي بكتف فيه كتاب فقال: "كفى بقوم ثلاثة: أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله تعالى هذه الآية: (أو لم يكفهم) .(4/144)
شَهِيداً (1) } ربي الذي يعلم ما في السموات والأرض من كل غيب ومن ذلك علمه بأني رسوله فشهد لي بذلك بإنزاله عليّ هذا الكتاب وأخيراً وبعد هذا البيان يقول تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا (2) بِالْبَاطِلِ} وهو تأليه المخلوقات من دون الله {وَكَفَرُوا} بألوهية الله الحق {أُولَئِكَ} البعداء في الفساد العقلي وسوء الفهم {هُمُ الْخَاسِرُونَ} في صفتهم حين اشتروا الكفر بالإيمان واستبدلوا الضلالة بالهدى.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث فلتعد تلاوتها بالتأنّي والتدبر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بالأدلة القاطعة التي لا تُرد، وهي أربع كما ذكر آنفا.
2- بيان أكبر معجزة لإثبات النبوة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي نزول القرآن الكريم عليه وفي ذلك قال
عليه الصلاة والسلام كما في البخاري (3) : "ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأنا أرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
3- القرآن الكريم رحمة وذكرى أي عبرة للمؤمنين به وبمن نزل عليه.
4- تقرير خسران المشركين في الدارين لاستبدالهم الباطل بالحق والعياذ بالله تعالى.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
__________
1 - (شهيداً) أي: يشهد لي بالصدق فيما أدعيه من أني رسول وأن هذا كتابه.
2 - قال يحيى بن سلام: الباطل هنا: إبليس وهو شامل لإبليس ولعبادة الأوثان وما في التفسير أعم، إذ اللفظ يشمل عبادة غير الله مطلقا وهو الباطل.
3 - أخرجه ابن كثير بهذا اللفظ: "وما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" وقال: أخرجاه من حديث الليث.(4/145)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
شرح الكلمات:
ويستعجلونك بالعذاب: أي يطلبون منك تعجيل العذاب لهم.
ولولا أجل مسمى: أي وقت محدد للعذاب لا يتقدمه ولا يتأخر عنه لجاءهم.
وليأتينهم بغتة: فجأة من حيث لا يخطر لهم على بال.
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين: أي من كل جانب وهم فيها وذلك يوم يغشاهم.
يوم يغشاهم العذاب: أي من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ذوقوا ما كنتم تعملون: أي ويقول لهم الجبار ذوقوا ما كنتم تعملون أي من الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآيات القريبة أن المكذبين بالرسالة المحمدية طالبوا بالعذاب تحدياً منهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين في أنك نبي ورسول إلينا وفي هذه الآية يعجِّب تعالى رسوله أي يحملُه على التعجب من حمق المشركين وطيشهم وضلالهم إذ يطالبون بالعذاب فيقول له {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ (1) بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً (2) } للعذاب أي وقت محدد له لا يتقدمه ولا يتأخره {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} ثم أخبر تعالى رسوله مؤكداً خبره فقال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} أي العذاب {بَغْتَةً} لا محالة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بوقت مجيئه، ثم كرر تعالى حمل رسوله على التعجب من سخف المشركين الذي لا يطيقون لسعة عقرب ولا نهشة أفعى يطالبون بالعذاب فقال {يَسْتَعْجِلُونَكَ (3) بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لا محالة كقوله {أَتَى أَمْرُ اللهِ} {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} أي يغطيهم ويغمرهم فيكون {مِنْ فَوْقِهِمْ (4) وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وجهنم محيطة بهم
__________
1 - من بين المطالبين بالعذاب: أبو جهل، والنضر بن الحارث إذ قالا (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وفيهم نزل: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ... ) .
2 - المعنى: لولا الأجل المعيّن لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلاً لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم، ولكن الله أراد تأخيره لحكم يعلمها منها: إمهالهم ليؤمن من يؤمن منهم، ومنها ليعلموا أن الله لا يستفزّه استعجالهم ومنه إظهار رحمته بعباده وحلمه عليهم.
3 - حكى استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجب منها كما في قوله تعالى: (يجادلنا في قوم لوط) .
4 - (من فوقهم) حال مؤكدة، إذ غشيان العذاب لا يكون إلا من فوق، وقوله (ومن تحتهم) احتراس عمّا قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة.(4/146)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
ويقول (1) الجبار تبارك وتعالى موبخا لهم {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التعجب إذا وجدت أسبابه الحاملة عليه.
2- بيان مدى حمق وجهل وسفه الكافرين والمشركين بخاصة.
3- بيان أن تأخير العذاب لم تكن عن عجز وإنما هو لنظام (2) دقيق إذ كل له أجل محدد لا يتقدم ولا يتأخر.
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
شرح الكلمات:
إن أرضي واسعة: أي هاجروا من بلاد لم تتمكنوا من العبادة فيها فإن أرض الله واسعة.
فإياي فاعبدون: فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون.
كل نفس ذائقة الموت: أي لا يمنعنكم الخوف من الموت ألا تهاجروا في سبيل الله فإن الموت لا بد منه للمهاجر ولمن ترك الهجرة.
__________
1 - قرأ بعضهم (ونقول) بنون التكلم والتعظيم.
2 - وحكم عالية تقدم بعضها إزاء رقم (2) في الصفحة السابقة.(4/147)
ثم إلينا ترجعون: أي بعد موتكم ترجعون إلى الله فمن مات في سبيل مرضاته أكرمه وأسعده، ومن مات في معصيته أذاقه عذابه.
لنبوئنهم: أي لننزلنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار.
الذين صبروا: أي صبروا على الإيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى.
وكأين من دابة لا تحمل رزقها: أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها، والله يرزقها فلا عذر لمن ترك الهجرة خوفا من الجوع والخصاصة.
وهو السميع العليم: أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم.
معنى الآيات:
لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى، فناداهم بقوله عز وجل: {يَا عِبَادِيَ (1) الَّذِينَ آمَنُوا} أي بي وبرسولي ولقائي {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فهاجروا فيها، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} لا تعبدوا معي غيري. وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتاً ولا فقراً فإن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (2) } ، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه، من رجع إلينا وهو كافر بنا عاص لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً (3) } أي لننزلنهم من الجنة دار الإسعاد {غُرَفاً
__________
1 - قال القرطبي هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة وهو كذلك إلا أنها عامة في كل من منع من عبادة الله تعالى في أرض عليه أن يهاجر إلى أخرى يعبد الله تعالى فيها إذ العبادة هي علّة خلقه ووجوده لقوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) .
2 - قرأ الجمهور: (ترجعون) وقرأ البعض بالياء (يرجعون) .
3 - وروى مسلم: "أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو من المغرب لتفاضل ما بينهم، وقيل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".(4/148)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها. هذا بيان لمن مات وهو مؤمن عامل بالصالحات ومنها الهجرة في سبيل الله. وقوله {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي ذلك الإنزال في الغرف في الجنان هو الإسعاد المترتب على الإيمان والهجرة والعمل الصالح فالإيمان والهجرة والعمل الصالح عملٌ والجنة وما فيها من النعيم أجرة ذلك العمل. وأثنى الله تعالى على الجنة فقال: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ووصفهم بقوله {الَّذِينَ صَبَرُوا} أي على الإيمان والهجرة والطاعة {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فخرجوا من ديارهم تاركين أموالهم لا يحملون معهم زاداً كل ذلك توكلا على ربهم وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ (1) مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لضعفها وعجزها أي وكثير من الدواب من الإنسان والحيوان مَن يعجز حتى عن حمل طعامه أو شرابه لضعفه والله عز وجل يرزقه بما يسخر له من أسباب وما يهيئ له من فرص فيطعم ويشرب كالأقوياء والقادرين، وعليه فلا يمنعنكم عن الهجرة مخافة الفاقة والفقر فالله تعالى تكفل برزقكم ورزق سائر مخلوقاته. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ (2) } ببواطنكم وظواهركم وأعمالكم وأحوالكم فارهبوه ولا ترهبوا سواه فإن في طاعته السعادة والكمال وفي معصيته الشقاء والخسران.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر.
2- لا معنى للخوف من الموت إذا وجب العمل كالهجرة والجهاد لأن الموت حق ولا بد منه.
3- بيان جزاء أهل الصبر والتوكل من أهل الإيمان والهجرة والتقوى.
4- لا يمنعن المؤمن من الهجرة خوفه من الجوع في دار هجرته إذ تكفل الله برزقه.
__________
1 - وكأين: أصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم، والتقدير: أي كشيء كثير من العدد من دابة قال ابن عباس: الدواب هي كل ما دبّ من الحيوان فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر.
2 - وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من إخلاص لله تعالى في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم من الرزق.(4/149)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
شرح الكلمات:
ولئن سألتهم: أي المشركين.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما يسيران الدهر كله لا يملان ولا يفتران.
فأنى يؤفكون: أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته لهم. وهو أن الخالق المدبر هو الإله الحق الذي يجب توحيده في عبادته.
الله يبسط الرزق لمن يشاء: أي يوسّع الرزق على من يشاء من عباده امتحاناً للعبد هل يشكر لله أو يكفر نعمه.
ويقدر له: أي ويضيق عليه ابتلاء ليرى هل يصبر أو يسخط.
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله: إذاً كيف يشركون به أصناما لا تنفع ولا تضر؟
قل الحمد لله: أي قل لهم الحمد لله على ثبوت الحجة عليكم.
بل أكثرهم لا يعقلون: أي إنهم متناقضون في فهمهم وجوابهم.(4/150)
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب: أي بالنظر إلى العمل لها والعيش فيها فهي لهو يتلهى بها الإنسان ولعب يخرج منه بلا طائل ولا فائدة.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان: أي الحياة الكاملة الخالدة، ولذا العمل لها أفضل من العمل للدنيا.
لو كانوا يعلمون: أي لو علم المشركون هذا لما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك وتذكير المشركين لعلّهم يوحدون. يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي لئن سألت هؤلاء المشركين الذين يؤذون المؤمنين ويضطهدونهم من أجل توحيدهم لله تعالى لو سألتهم {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي من أوجدهما من العدم، ومن سخر الشمس والقمر في فلكيهما يسيران الحياة كلها ليجيبُنَّك قائلين الله. {فَأَنَّى (1) يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته إنها حال تستدعي التعجب وقوله تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} هذا مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية والتدبير الحكيم وهو موجب له الألوهية نافٍ لها عما سواه. فهذا يبسط الرزق له فيوسّع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه، وهذا يضيق عليه في ذلك لماذا؟! والجواب: إنه يوسع امتحانا للعبد هل يشكر أو يكفر، ويضيق ابتلاءًا للعبد هل يصبر أو يسخط. ولذا فلا حجة للمشركين في (2) غناهم وفقر المؤمنين فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه. والفقر كذلك لا يدل على سخط ولا على رضا. وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ (3) شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقرير لحكمته ورحمته وعدله وتدبيره فهو يوسع لحكمة ويضيق لحكمة لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم إذ من الناس من يصلحه الغنى، ومنهم من يصلحه الفقر، والإفساد كذلك وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين فقلت من نزل من السماء
__________
1 - الاستفهام للإنكار والتعجب.
2 - نزلت الآية رداً على المشركين الذين عيّروا المؤمنين بالفقر وقالوا لهم: لو كنتم على الحق لم تكونوا فقراء، وهذا تمويه منهم إذ في الكافرين فقراء أيضا.
3 - هذه الجملة تذييلية لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يُطّلع عليها.(4/151)
ماء المطر فأحيا به الأرض بعد موتها بالقحط والجدب لأجابوك قائلين: الله إذاً قل لهم: الحمد (1) لله على اعترافكم بالحق لو أنكم تعملون بمقتضاه فما دام الله هو الذي ينزل الماء ويحيي الأرض بعد موتها فالعبادة إذاً لا تنبغي إلا له فلم إذاً تعبدون معه آلهة أخرى لا تنزل ماء ولا تحيي أرضا ولا غيرها، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} إذ لو عقلوا ما أشركوا بربهم أحجاراً وأصناماً ولا ما تناقضوا هذا التناقض في أقوالهم وأفعالهم يعترفون بالله ربا خالقاً رازقاً مدبراً ويعكفون على الأصنام يستغيثون بها ويدعونها ويعادون بل ويحاربون من ينهاهم عن ذلك.
وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي التي أعمت الناس عن الآخرة وصرفتهم عن التزود لها ما هي {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ (2) } إذ يتشاغل بها الكافر ويعمل لها الليل والنهار ثم يموت ويخرج منها صفر اليدين كالأطفال يلعبون طوال النهار ثم يعودون بلا شيء سوى ما نالهم من التعب فالواجب أن تحول إلى عمل صالح مثمر يتزود به العبد إلى آخرته إذ الآخرة هي الحيوان أي الحياة الكاملة الخالدة فلها يعمل العاملون، وفي عملها يتنافس المتنافسون. وهذا معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي الدار الآخرة {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (3) أي الحياة التي يجب أن نعمل لها لبقائها وخيريّتها، وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي نعم إذ لو علموا أن الآخرة خير لما أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، ولكن جهلهم هو سبب إعراضهم، فدواؤهم العلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التعجب من تناقض المشركين الذين يؤمنون بربوبية الله ويجحدون ألوهيته.
2- بيان حقيقة وهي أن الغنى والفقر لا يدلان على رضا الرب ولا على سخطه، وإنما يدلان على علم الله
وحكمته وحسن تدبيره.
3- بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وعظمة الآخرة وعلو قيمتها. فلذا أحمق الناس وأشدهم سفاهة من يعمى عن
الآخرة ويكفر بها ويبصر الدنيا ويؤمن بها.
__________
1 - (الحمد لله) أي: على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته على كل شيء أراده.
2 - اللهو: ما يلهو به الناس أي: يشتغلون به عن الأمور المكدّرة أو يعمرون به أوقاتهم الخالية عن الأعمال.
3 - الحيوان: يقع على كل شيء حي، وحيوان: عين في الجنة، وقيل: أصل الحيوان حييان فأبدلت إحداهما واواً لاجتماع المثلين.(4/152)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
شرح الكلمات:
في الفلك: أي في السفينة.
مخلصين له الدين: أي دعوا الله وحده فلم يذكروا معه غيره من الآلهة.
إذا هم يشركون: أي يفاجئونك بالشرك وهو دعاء غير الله تعالى.
ليكفروا بما آتيناهم: أي بنعمة الإنجاء من الغرق وغيرها من النعم.
فسوف يعلمون: أي سوف يعلمون عاقبة كفرهم إذا ألقوا في جهنم.
ويتخطف الناس من حولهم: أي يسبون ويقتلون في ديار جزيرتهم.
أفبالباطل يؤمنون: أي بالأصنام وهي الباطل، ينكر تعالى عليهم ذلك.
والذين جاهدوا فينا: أي بذلوا جهدهم في تصحيح عقائدهم وتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم ثم بقتال أعداء الله من أهل الكفر المحاربين للإسلام والمسلمين.
لنهدينهم سبلنا: أي لنوفقنّهم إلى معرفة ما يوصل إلى محبتنا ورضانا ونعينهم على تحصيله.(4/153)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في التنديد بالمشركين وشركهم فقد تقدم في السياق أنهم يعترفون بربوبية الله تعالى إذ لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر لقالوا الله ولو سئلوا عمن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها لقالوا الله. ومع هذا هم يشركون بالله آلهة أوثانا، وكما يعترفون بربوبية الله ثم يشركون به الأصنام، فإنهم إذا ركبوا في الفلك أي في سفينة من السفن وجاءهم موج واضطربت بهم وخافوا الغرق دعوا الله تعالى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي الدعاء فسألوه وحده دون آلهتهم أن ينجيهم من الغرق. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} ونزلوا سالمين من الغرق إذا هم يشركون يفاجئونك بالشرك فهذا التناقض منهم كالتناقض في اعترافهم بربوبية الله تعالى ثم بالإشراك به. ومردّ هذا إلى الجهل والتقليد والعناد والمجاحدة والمكابرة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) .
وقوله تعالى في الآية (66) : {لِيَكْفُرُوا (2) بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي عودتهم إلى الشرك بعد نجاتهم من الغرق ونزولهم في البر كان كأنه من أجل أن يكفروا بنعمة الله تعالى بإنجائهم من الغرق، إذ لو لم يكفروها لاستمروا على الإخلاص لله بدعائه وعبادته وحده دون الآلهة التي تركوها عند حلول الشدة ومعاينة البلاء. وقوله تعالى: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} قرئ بسكون اللام ورجّح ابن جرير هذه القراءة فيكون المعنى: وليتمتعوا في دنياهم بما آتاهم الله من متاع الحياة الدنيا {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة ذلك بعد موتهم وهي عذاب الآخرة، والأمر حينئذٍ في قوله وليتمتعوا للتهديد والوعيد.
أما على قراءة جر اللام ولِيتمتعوا فالجملة معطوفة على قوله ليكفروا أي أخلصوا في الشدة وأشركوا في الرخاء ليكفروا وليتمتعوا بما أوتوا في الحياة، ولم يكن ذلك بنافعهم ولا بمغن عنهم من الله شيئا فسوف يعلمون ما يحل بهم من عذاب وما ينزل بهم من بلاء وشقاء.
__________
1 - قال القرطبي: يدعون معه غيره وما لم ينزل به سلطانا. وقيل: إشراكهم أن يقول قائلهم لولا الله والرئيس والملاح لغرقنا، وهو كمال قال، وإنما هو عند المسلمين من الشرك الأصغر لا الأكبر كقول الرجل: لولا الطبيب لمات فلان، ولولا الكلب لسرقنا.
2 - (ليكفروا) هذه اللام هي لام كي، والظاهر أنها للعاقبة وما يؤول إليه الأمر، وقيل هي لام الأمر، وإن كانت كذلك فهو للتهديد والوعيد، ويقوّي هذا الوجه قراءة من قرأها من القراء السبعة بسكون اللام (وليتمتعوا) .(4/154)
وقوله تعالى في الآية الثالثة (67) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً (1) آمِناً وَيُتَخَطَّفُ (2) النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي ألم ير أولئك المشركون الكافرون بنعمة الله في الإنجاء من الغرق نعمة أخرى وهي أن جعل الله تعالى لهم حرماً آمنا يسكنونه آمنين من غارات الأعداء وحروب الظالمين المعتدين، لا يعتدى عليهم في حرمهم ولا يظلمون في حين أن الناس من حولهم في أطراف جزيرتهم وأوساطها يتخطفون فتشّن عليهم الغارات ويقتلون ويؤسرون في كل وقت وحين، أليست هذه نعمة من أعظم النعم تستوجب شكرهم لله تعالى بعبادته وترك عبادة من سواه. ولذا قال تعالى عاتباً عليهم منددا بسلوكهم {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ (3) } أي بالشرك وعبادة الأصنام يصدقون ويعترفون {وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ} أي يجحدون إنعام ربهم عليهم فلا يشكرونه بعبادته وتوحيده فيها. وقوله تعالى في الآية الرابعة (68) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} وصفهم بالظلم الفظيع في حالتين الأولى في كذبهم على الله بتحريم ما أحل وتحليل ما حرم واتخاذ شركاء لله زاعمين أنها تشفع لهم عند الله عز وجل والثانية في تكذيبهم للحق الذي جاءهم به رسول الله وهو الدين الإسلامي بعقائده وشرائعه حيث كذبوا بالقرآن والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبعد هذا التسجيل لأكبر ظلم عليهم قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً (4) لِلْكَافِرِينَ} ؟ والاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مثوى أي مسكنا للكافرين من أمثالهم وهم كافرون ظالمون وذلك جزاؤهم ولبئس الجزاء جهنم.
وقوله تعالى في الآية الخامسة (69) {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا (5) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ (6) الْمُحْسِنِينَ} في هذه الآية بشرى سارة ووعد صدق كريم، وذلك أن من جاهد في سبيل الله أي طلباً لمرضاة الله بالعمل على إعلاء كلمته بأن يعبد ولا يعبد معه سواه فقاتل
__________
1 - هو مكة والحرم حولها.
2 - الخطف: الأخذ بسرعة. قال الضحاك يتخطف الناس من حولهم: أي يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً فذكرهم الله تعالى بهذه النعمة لعلهم يذعنون له بالطاعة.
3 - الاستفهام للإنكار والتعجب أيضا.
4 - المثوى المستقر الدائم، والمثوى كالمأوى وزناً ومعنى والاستفهام هنا للتقرير.
5 - جاهدوا الكفار والفساق والشيطان والنفس أمّا جهاد الكفار فلم يؤذن فيه في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية إلا أنه لا مانع أن ينزل الحكم قبل أن يشرع العمل. ولكنه منتظر، وأما جهاد النفس فهو لازم لا يفارق وكذا جهاد الشيطان عليه لعائن الله.
6 - المعيّة هنا: معيّة إعانة وتسديد ونصرة على الأعداء المحاربين من الكفار والشياطين والنفس.(4/155)
المشركين يوم يؤذن له في قتالهم يهديه الله تعالى أي يوفقه إلى سبيل النجاة من المرهوب والفوز بالمحبوب، وكل من جاهد في ذات الله نفسه وهواه والشيطان وأولياءه فإن هذه البشرى تناله وهذا الوعد ينجز له وذلك أن الله مع المحسنين بعونه ونصره وتأييده على من جاهدهم في سبيل الله، والمراد من المحسنين الذين يحسنون نياتهم وأعمالهم وأقوالهم فتكون صالحة مثمرة لزكاة نفوسهم وطهارة أرواحهم. اللهم اجعلنا منهم وآتنا ما وعدتهم إنك جواد كريم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية أي العبادة.
2- إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم لعلهم يشكرون.
3- لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب، وكذّب بالحق لما جاءه وانتهى إليه وعرفه فانصرف عنه مؤثرا دنياه متبعا لهواه.
4- بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة.
5- فضل الإحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مجوّدة كما شرعها الله تعالى، وبيان هذا الفضل للإحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم.(4/156)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
سورة الروم
مكية
وآياتها ستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
شرح الكلمات:
الم: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم، وتقرأ ألف، لام، ميم.
غلبت الروم: أي غلبت فارس الروم.
الروم: اسم رجل هو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم سميّت به قبيلة لأنه جدها.
في أدنى الأرض: أي أقرب أرض الروم إلى فارس وهي أرضٌ يقال لها الجزيرة "بين دجلة والفرات".
وهم من بعد غلبهم سيغلبون: أي وهم أي الروم من بعد غلب فارس لهم سيغلبونها.
في بضع سنين: أي في فترة ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنين.
لله الأمر من قبل ومن بعد: أي الأمر في ذلك أي في غلب فارس أولا ثم في غلب الروم أخيراً لله وحده إذ ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.(4/157)
ويومئذ يفرح المؤمنون: أي ويوم تغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب على المشركين عبدة النار، وبنصرهم هم على المشركين في بدر.
وعد الله: أي وعدهم الله تعالى وعدا وأنجزه لهم.
لا يخلف الله وعده: أي ليس من شأن الله خلف الوعد وذلك لكمال قدرته وعلمه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: كمال الله في قدرته وعلمه المستلزم لإنجاز وعده.
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا: أي لا يعلمون حقائق الإيمان وأسرار الشرع وإنما يعلمون ما ظهر من الحياة الدنيا كطلب المعاش من تجارة وزراعة وصناعة.
وهم عن الآخرة هم غافلون: أي عن الحياة الآخرة، وما فيها من نعيم وجحيم وما يؤدي إلى ذلك من عقائد وأفعال وتروك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {الم} : أحسن أوجه التفسير لمثل هذه الحروف القول بأن الله أعلم بمراده به، مع الإشارة إلى أنه أفاد فائدتين الأولى أن هذا القرآن المؤلف من مثل هذه الحروف المقطعة قد أعجز العرب على تأليف مثله فدل على أنه وحي من الله وتنزيله، وأن من نزل عليه نبي الله ورسوله وأن ما يحمل من تشريع هو حاجة البشرية ولا تصلح ولا تكمل ولا تسعد إلا به وعليه، والثانية أنها لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن مخافة تأثيره على المستمع له جاء تعالى بمثل هذه الفواتح للعديد من سور كتابه فكانت تضطرهم إلى الاستماع إليه لأن هذه الحروف لم تكن معهودة في مخاطبتهم.
وقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ} (1) : أي غَلَبت فارس الروم في {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} أي (2) أرض الشام الأقرب إلى بلاد فارس وذلك في أرض الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات
__________
1 - هذا الخبر المقصود منه لازم الفائدة، إذ يعلم الله ذلك، وإنما المراد نحن نعلم ذلك فلا يهنئكم أيها المشركون ذلك ولا تتطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبهم في بضع سينين لا يعد الغلب في مثله غلبا.
2 - اختلف في أدنى الأرض هل هذا الإدناء إلى أرض الروم أو إلى أرض الفرس كما في التفسير أو أدنى الأرض إلى أرض الروم أو إلى أرض العرب، وهذا الخلاف سببه الخلاف في تحديد موقع المعركة فإن كانت بالجزيرة فأدنى الأرض هو بالنسبة إلى أرض فارس وإن كانت الوقعة بالأردن فهي أقرب إلى أرض الروم وإن كانت الوقعة بأذرعات جنوب الشام فهي أقرب إلى ديار العرب الحجاز وما حوله والراجح الأول كما في التفسير.(4/158)
وقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} أي وهم من بعد غلب فارس الروم ستغلب الروم فارسا وقوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} أي في فترة زمانية ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنوات وقوله {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ (1) بَعْدُ} أي الأمر في ذلك لله تعالى من قبل الغلب ومن بعده إذ هو المتصرف في خلقه. وقوله {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ} أي (2) يوم يغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بانتصار الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارساً مشركون يعبدون النار، كما يفرح المؤمنون أيضاً بانتصارهم على المشركين في بدر إذ كان الوقت الذي انتصرت فيه الروم هو وقت انتصر فيه المؤمنون على المشركين في بدر. وهذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فأكد بذلك أن الإسلام وكتابه ورسوله حق. وقوله تعالى: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي ينصر تعالى من يشاء نصره من عباده وقد شاء نصر المؤمنين والروم فنصرهم في وقت واحد منجزاً بذلك وعده الذي واعد به منذ بضع سنين (3) ، وهو العزيز أي الغالب على أمره القادر على إنجاز وعده الرحيم بأوليائه وصالحي عباده. وقوله ولكن {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (4) } كتدبير الله وقدرته وعزته وفوائد شرعه وأسرار دينه. ولكن يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا كتدبير معايشهم من زراعة وصناعة وتجارة، وفي نفس الوقت هم عن الحياة الآخرة غافلون عما يجب عليهم فعله وتركه ليسعدوا فيها بالنجاة من النار وسكنان الجنان في جوار الرحمن سبحانه وتعالى.
__________
1 - قبل، وبعد: مبنيان على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه أي: من قبل الغلب وبعده.
2 - قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله عز وجل: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض) قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وذكر أن أبا بكر راهن قريشاً في كلام طويل، وقال الترمذي فيه حديث حسن صحيح غريب نقله القرطبي.
3 - وقيل كان النصر يوم صلح الحديبية لأن صلح الحديبية كان في واقع الأمر نصراً للمؤمنين، وما في التفسير أصح لحديث الترمذي وقد حسنه وصححه وقال فيه غريب.
4 - قال الحسن بلغ – والله- من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي وفي هذا قال بعضهم شعراً:
ومن البلية أن ترى لك صاحبا
في صورة الرجل السميع البصير
فطنٍ بكل مصيبة في ماله
وإذا يصاب بدينه لم يشعر(4/159)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير صحة الإسلام وأنه الدين الحق بصدق ما يخبر به كتابه من الغيوب.
2- بيان أن أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إلى المسلمين من المشركين والملاحدة من بلاشفة شيوعيين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
3- بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ما يسعدهم في الآخرة ويكملهم من العقائد الصحيحة والشرائع الحكيمة الرحيمة التي لا يكمل الإنسان ولا يسعد إلا عليها، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا كتدبير المعاش من زراعة وصناعة وتجارة، أما عن سر الحياة الدنيا ولماذا كانت فهم لا يعلمون شيئا كما هم عن الحياة الآخرة غافلون بالمرة فلا يبحثون عما يسعد فيها ولا عما يشقي. والعياذ بالله تعالى من الغفلة عن دار البقاء في السعادة أو الشقاء.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)(4/160)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
شرح الكلمات:
في أنفسهم: أي كيف خُلقوا ولم يكونوا شيئا، ثم كيف أصبحوا رجالا.
إلا بالحق: أي لم يخلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي هو العدل.
وأجل مسمى: وهو نهاية هذه الحياة لتكون الحياة الثانية حياة الجزاء العادل.
بلقاء ربهم لكافرون: أي بالبعث والوقوف بين يدي الله ليسألهم ويحاسبهم ويجزيهم.
وأثاروا الأرض: قلبوها للحرث والغرس والإنشاء والتعمير.
وعمروها: أي عمروا الأرض عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون.
وجاءت رسلهم بالبينات: أي بالدلائل والحجج والبراهين من المعجزات وغيرها.
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: أي بتكذيبهم وشركهم ومعاصيهم فعرضوا أنفسهم للهلاك.
أساءوا السوأى: أي بالتكذيب والشرك والمعاصي والسوءى هي الحالة الأسوأ.
أن كذبوا بآيات الله: أي بتكذيبهم آيات الله القرآنية واستهزائهم بها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به من طريق ذكر الأدلة العقلية التي تحملها الآيات القرآنية فقوله تعالى {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (1) } أي أينكرون البعث ولم يتفكروا في أنفسهم كيف كانوا عدماً ثم وجدوا أطفالاً ثم شبابا ثم رجالاً كهولاً وشيوخاً ثم يموتون أليس القادر على خلقهم وتربيتهم ثم إماتتهم قادر على بعثهم وحسابهم ومجازاتهم على كسبهم في هذه الحياة الدنيا وقوله تعالى {مَا خَلَقَ اللهُ
__________
1 - (في أنفسهم) ظرف للتفكر، وليس مفعولا لفعل يتفكروا لأنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم بل في خلق السموات والأرض وما بينهما.(4/161)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ (1) وَأَجَلٍ مُسَمّىً} أي لم يخلقهما عبثا بل خلقهما ليذكر ويُشكر، ثم إذا تم الأجل المحدد لهما أفناهما ثم بعث عباده ليحاسبهم هل ذكروا وشكروا أو تركوا ونسوا وكفروا ثم يجزيهم بحسب إيمانهم وطاعتهم أو كفرهم وعصيانهم.
وقوله تعالى {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} يخبر تعالى أنه مع ظهور الأدلة وقوة الحجج على صحة عقيدة البعث والجزاء فإن كثيرا من الناس كافرون بالبعث والجزاء وقوله تعالى في الآية (9) {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أيكذّب أولئك المشركون بالبعث والجزاء ولم يسيروا في الأرض شمالاً وجنوباً (2) فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم هلاكا ودماراً، {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} بالإنشاء والتعمير والزراعة والفلاحة {وَعَمَرُوهَا} عمارة أكثر مما عَمَرَها هؤلاء، {وَجَاءَتْهُمْ (3) رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ، ولما أهلكهم لم يكن ظالما لهم بل كانوا هم الظالمين لأنفسهم. أليس في هذا دليلا على حكمة الله وعلمه وقدرته فكيف ينكر عليه بعثه لعباده يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم؟
وقوله تعالى {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} أي الأعمال فلم يصلحوها حيث كذّبوا برسل الله وشرائعه. وقوله: {السُّوأَى (4) } أي عاقبة الذين أساءوا السوأى أي العاقبة السوأى وهو خسرانهم وهلاكهم، وقوله {أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ} أي من أجل أنهم كذبوا بآيات الله {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} وأصروا على ذلك ولم يتوبوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية المثبتة لها.
2- كفر أكثر الناس (5) بالبعث مع كثرة الأدلة وقوتها.
__________
1 - جائز أن يكون (إلا بالحق) معناه: إلا للحق أو لإقامة الحق أو بالحكمة وما في التفسير أولى وكل ما ذكر يشمله ويدل عليه. والأجل المسمى: المراد به أن كل المخلوقات حدد لها أجل فنائها، وهذا التقرير للفناء مستلزم للحياة الآخرة.
2 - فينظروا بأبصارهم وبصائرهم فلمّا كذبوا أهلكهم الله وما كان ظالما لهم بل هم الظالمون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
3 - أي: بالمعجزات والأحكام الشرعية.
4 - السوءى: تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن، والأسوأ: الأقبح من الأفعال والأقوال والمعتقدات، وجائز أن يكون المراد بالسوءى هنا جهنم كما أن المراد بالحسنى الجنة في قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى) أي الجنة.
5 - العلة أنهم لا يفكرون أي: لا يعملون خواطرهم في النظر والتأمل هذا هو سر عدم إيمانهم إذ لو نسب المفكرون إلى غيرهم لما كانت النسبة واحداً إلى مليون:
ولم أر كالرجال تفاوتا لدى الفكر حتى عدّ ألف بواحد(4/162)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
1- مشروعية السير في الأرض للاعتبار مع اشتراط عدم حصول إثم في ذلك بترك واجب أو بفعل محرم.
2- بيان جزاء الله العادل في أن عاقبة الإساءة السوأى (1) .
3- كفر الاستهزاء بالشرع وأحكامه والقرآن وآياته.
اللهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
شرح الكلمات:
ثم إليه ترجعون: أي بعد إعادة الخلق وبعث الناس.
يبلس المجرمون: أي ييأسون من النجاة وتنقطع حجتهم فلا يتكلمون.
وكانوا بشركائهم كافرين: أي يتبرءون منهم ولا يعترفون بهم.
يتفرقون: أي ينقسمون إلى سعداء أصحاب الجنة وأشقياء أصحاب النار.
في روضة يحبرون: أي في روضة من رياض الجنة يسرون ويفرحون.
في العذاب محضرون: أي مدخلون فيه لا يخرجون منه.
__________
1 - أي: عاقبة الشرك والمعاصي وهما السوء والإساءة عاقبتهما السوءى أي: أشد العقوبات وأنكاها في الدنيا والآخرة.(4/163)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض صور حية صادقة لما يتم بعد البعث من جزاء، فقوله تعالى {اللهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إعلان واضح صريح قاطع للشك مزيل للّبس بأن الله رب السموات والأرض وما بينهما هو الذي بدأ الخلق فخلق ما شاء ثم يميته ثم يعيده، وإليه لا إلى غيره ترجع الخليقة كلها راضية أو ساخطة محبّة أو كارهة، هكذا قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء مدلّلاً عليها بأقوى دليل وهو وجوده تعالى وقدرته التي لا تحد وعلمه الذي أحاط بكل شيء وحكمته التي لا يخلوا منها عمل، فقال {اللهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وقوله عز وجل في الآية الثانية عشر (12) {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ (1) الْمُجْرِمُونَ} هذا عرض لما بعد البعث فذكر أنه لماّ تقوم الساعة ويبعث الناس يبلس المجرمون أي ييأسون من الرحمة وينقطعون عن الكلام لعدم وجود حجة يحتجون بها. وقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} أي ولم يكن لهم من يشفع لهم من شركائهم الذين عبدوهم بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله، فأيسوا من شفاعتهم وكفروا بهم أيضا أي أنكروا أنهم كانوا يعبدونهم خوفاً من زيادة العذاب. هذه حال المجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي، الحامل عليها تكذيبهم بآيات الله ولقائه. وقوله تعالى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} هذا عرض آخر يخبر تعالى أنه إذا قامت الساعة تفرق الناس على أنفسهم فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، وبين ذلك مقرونا بعلله فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا (2) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي صدّقوا بالله ربّاً وإلهاً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً لا دين يقبل غيره وبالبعث والجزاء حقا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي عبدوا الله تعالى بما شرع لهم من العبادات إذ الصالحات هي المشروع من الطاعات القولية والفعلية فهؤلاء المؤمنون
__________
1 - يقال أبلس يبلس إبلاسا: إذا سكت متحيراً وانقطعت حجته وأيس أن تكون له حجّة، قال الشاعر:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
قال نعم أعرفه وأبلسا
والمكرس: الذي بعرت فيه الإبل وبولت فركب بعضها بعضا.
2 - قيل في: (فأما) أن معناها: دع ما كنا فيه وخذ في غيره، وقيل معناها: مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه، والمعنى متقارب، والحقيقة أنها أداة شرط وتفصيل، تفصيل لما أجمل في الكلام السابق عليها وشرط ولذا قرن جوابها بالفاء.(4/164)
العاملون للصالحات {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ (1) } من رياض الجنة {يُحْبَرُونَ (2) } أي يسرون ويفرحون بما لاقوه من الرضوان والنعيم المقيم، وذلك بفضل الله تعالى عليهم وبما هداهم إليه من الإيمان، وما وفقهم إليه من عمل الصالحات. وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} فقد أخبر عن جزائهم مقروناً بعلة ذلك الجزاء وهو كفرهم بتوحيد الله تعالى، والتكذيب بالآيات القرآنية وما تحمله من حجج وشرائع وأحكام، وبلقاء الآخرة وهو لقاء الله تعالى بعد البعث للحساب والجزاء، فجزاؤهم أن يحضروا في العذاب دائماً وأبداً لا يغيبون عنه، ولا يفتر عنهم، وهم فيه خالدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض مشاهد القيامة.
2- تقرير عقيدة أن لا شفاعة لمشرك ولا كافر يوم القيامة، وبطلان ما يعتقده المبطلون من وجود من يشفع
لأهل الشرك والكفر.
3- تقرير مبدأ السعادة والشقاء يوم القيامة فأهل الإيمان والتقوى في روضة يحبرون، وأهل الشرك والمعاصي في العذاب محضرون.
فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ
__________
1 - الروضة: كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار قال الأعشى:
وما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بعميم النبت مكتهل
2 - (يحبرون) : ينعمون ويكرمون ويسرون بالحبور والسرور وأثر النعيم يقال: فلان حسن السبر والحبر، وفي الحديث " يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره".(4/165)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
شرح الكلمات:
فسبحان الله: أي سبحوا الله أي صلوا.
حين تمسون: أي تدخلون في المساء وفي هذا الوقت صلاة المغرب وصلاة العشاء.
وحين تصبحون: أي تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح.
وله الحمد في السموات والأرض: أي وهو المحمود دون سواه في السموات والأرض.
وعشياً: أي حين تدخلون في العشي وفيه صلاة الظهر.
يخرج الحي من الميت: أي يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة.
ويخرج الميت من الحي: أي يخرج النطفة من الإنسان الحي والبيضة الميتة من الدجاجة الحيّة.
ويحيى الأرض بعد موتها: أي يحييها بالمطر فتحيا بالنبات بعدما كانت يابسة ميتة.
وكذلك تخرجون: أي من قبوركم أحياء بعدما كنتم ميتين.
ومن آياته: أي ومن أدلة قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لبعثكم بعد موتكم.
أن خلقكم من تراب: أي خلقه إياكم من تراب، وذلك بخلق آدم الأب الأول.
تنتشرون: أي في الأرض بشراً تعمرونها.
لتسكنوا إليها: أي لتسكن نفوسكم إلى بعضكم بعضاً بحكم التجانس في البشرية.
وجعل بينكم مودة: أي محبة ورحمة أي شفقة إذ كل من الزوجين يحب الآخر ويرحمه.(4/166)
معنى الآيات:
قوله سبحانه وتعالى في هذا السياق: {فَسُبْحَانَ (1) اللهِ..........} الآية. لما بين تعالى بدء الخلق ونهايته باستقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وهذا عمل يستوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله كما يستلزم حمده، ولما كانت الصلوات الخمس تشتمل على ذلك أمر بإقامتها في المساء والصباح والظهيرة والعشيّ فقال تعالى: {فَسُبْحَانَ (2) اللهِ} أي سبحوا الله {حِينَ تُمْسُونَ} أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح. وقوله تعالى {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يخبر تعالى أن له الحمد مستحقا لها دون سائر خلقه في السموات والأرض. وقوله {وَعَشِيّاًً (3) } معطوف على قوله {حِينَ تُصْبِحُونَ} أي وسبحوه في العشي. وهي صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} أي وسبحوه حين تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر.
وقوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ (4) } أي ومن مظاهر الجلال والكمال الموجبة لحمده وطاعته والمقتضية لقدرته على بعث عباده ومحاسبتهم ومجازاتهم أنه يخرج الحي كالإنسان من النطفة والطير من البيضة والمؤمن من الكافر {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة وسائر الطيور التي تبيض. وقوله {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي ومن مظاهر وجوده وقدرته وعلمه ورحمته أيضاً أنه يحيى الأرض بالمطر بعد موتها بالجدب والقحط فإذا هي رابية تهتز بأنواع النباتات والزروع وقوله {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (5) } أي وكإخراج الحي من الميت والميت من الحي وكإحيائه الأرض
__________
1 - في هذه الآية الكريمة: (فسبحان الله) يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بعبادته في الأوقات المذكورة في الآية، وأعظم العبادات الصلاة لأنها مشتملة على ذكره وشكره.
2 - هذه الفاء للتفريع إذ هذا الأمر متفرع عما قبله إذ بيّن تعالى أن الإيمان والعمل الصالح منج لصاحبه فبناء على ذلك فأقيموا الصلاة.
3 - العشي والعشية من صلاة العصر إلى غروب الشمس حسب دلالة الآية لتدخل صلاة العصر والإمساء: تدخل فيه صلاة المغرب والعشاء والصبح في الإصباح والظهر في الظهيرة.
4 - كون النطفة تحمل حيوانات منوية لا يتنافى مع إطلاق الموت عليها إذ المراد من الموت الذي يوصف به الشيء كما وصفت الأرض بالموت إذا يبست ولم يكن بها بنات، وحبة البر والشعير بالموت إذ الحياة تحدث للأرض بعد نزول المطر عليها والحبة بعد تفاعلها مع التربة الثرية وكذا النطفة تحمل مادة الحياة كالأرض والحبة ولا تظهر فيها إلا بعد تفاعلها الخاص في الرحم.
5 - في هذا دليل على مشروعية القياس وصحته، وجه القياس في الآية هو قياس المعاد على الخلق الأول والإيجاد.(4/167)
بعد موتها: يحييكم ويخرجكم من قبوركم للحساب والجزاء إذ القادر على الأول قادر على الثاني. ولا فرق.
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} أي ومن آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته المستوجبة لعبادته وحده والمقررة لقدرته على البعث والجزاء خَلْقُه للبشرية من تراب (1) إذ خلق أباها الأول آدم عليه السلام من تراب، وخلق حواء زوجه من ضلعه ثم خلق باقي البشرية بطريقة التناسل. فإذا هي كما قال سبحانه وتعالى: بشر ينتشرون (2) في الأرض متفرقين في أقطارها يعمرونها بإذنه تعالى. وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا (3) إِلَيْهَا} أي ومن آياته أي حججه وأدلته الدالة على وجوده وعلمه ورحمته المستوجبة لعبادته وتوحيده فيها والدالة أيضا على قدرته على البعث والجزاء خلقه لكم أيها الناس من أنفسكم أي من جنسكم الآدمي أزواجاً أي زوجات لتسكنوا إليها بعامل التجانس، إذ كل جنس من المخلوقات يطمئن إلى جنسه ويسكن إليه، وقوله {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي جعل بين الزوجين مودة أي محبة ورحمة أي شفقة إلا إذا ظلم أحدهما الآخر فإن تلك المودة وتلك الرحمة قد ترتفع حتى يرتفع الظلم ويسود العدل والحق. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} أي دلائل وحجج واضحة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} باستعمال عقولهم في النظر والفكر فإنهم يجدون تلك الأدلة على قدرة الله وعلمه ورحمته وكلها مقتضية لتوحيد الله ومحبته وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه، مع تقرير عقيدة البعث والجزء التي أنكرها المجرمون المكذبون.
__________
1 - ووجه آخر للخلق من تراب وهو أن النطف التي هي أصل خلق الإنسان بعد الأبوين آدم وحواء قد تكونت من الغذاء، وأن الغذاء قد تكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فبهذا كان تكوين الإنسان من تراب فكان آية وأمر آخر هو أن التراب بارد يابس، وهو طبع الموت وطبع الحياة الحرارة والرطوبة، فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي الرطب فسبحان الخلاق العليم.
2 - الانتشار الظهور والتفرق هنا وهناك في البلاد والأقطار تعملون سامعين مبصرين منكم الصالح ومنكم خلافه وهو الفاسد.
3 - ضمن لتسكنوا لتميلوا لذا عدي باللام وفي الآية دليل على عدم تزوج الآدمي بغير الآدمية كالجنية إذ لا يحصل الأنس إلا بالجنس والآية تومئ إلى أن أول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة وذلك أن الختانين إذا التقيا هيجا ماء الصلب فإذا نزل حصل السكون ووقف الهيجان كما هو معروف.(4/168)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
2- وجوب حمد الله على آلائه وإنعامه.
3- وجوب إقام الصلاة.
4- بيان أوقات الصلوات الخمس (1) .
5- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته المقتضية لتوحيده والمقررة لعقيدة البعث والجزاء.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
__________
1 - روي عن ابن عباس أنه سئل هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم: وقرأ هذه الآية ومنها أخذ الإمام الشافعي أوقات الصلوات الخمس وأخذها مالك من آية الإسراء (أقم الصلاة لدلوك الشمس) الآية.(4/169)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
شرح الكلمات:
ومن آياته: أي حججه وبراهينه الدالة على قدرته على البعث والجزاء.
واختلاف ألسنتكم: أي لغاتكم من عربية وعجمية والعجمية بينها اختلاف كثير.
وألوانكم: أي من أبيض وأصفر وأحمر وأسود والكل أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.
للعالمين: أي للعقلاء على قراءة للعالمين (1) بفتح اللام، ولأولي العلم على قراءة كسر اللام.
وابتغاؤكم من فضله: أي طلبكم الرزق بإحضار أسبابه من زراعة وتجارة وصناعة وعمل.
لقوم يسمعون: أي سماع تدبر وفهم وإدراك لا مجرد سماع الأصوات.
يريكم البرق خوفاً وطمعا: أي إراءته إياكم البرق خوفاً من الصواعق والطوفان وطمعاً في المطر.
أن تقوم السماء والأرض بأمره: أي قيام السماء والأرض على ما هما عليه منذ نشأتهما بقدرته وتدبيره.
دعوة من الأرض: أي دعوة واحدة لا تتكرر وهي نفخة إسرافيل.
إذا أنتم تخرجون: أي من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بذكر الأدلة والبراهين العقلية فقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء وعلى وجوب توحيده {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فخلقُ بمعنى إيجاد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من أكبر الأدلة وأقواها على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة لتوحيده ومثبتة لقدرته على البعث والجزاء، مقررة له، وقوله: {وَاخْتِلافُ (2) أَلْسِنَتِكُمْ} أي
__________
1 - بالفتح قرأ نافع وبالكسر قرأ حفص ولكل منهما متابع على ما قرأ والمعنى واحد إذ لا يكون العالم عالماً بدون عقل فكل عالم عاقل والعاقل يهديه عقله إلى أن يعلم فيعلم أيضا.
2 - قال القرطبي اللسان في الفم وفيه اختلاف اللغات من العربية والعجمية والتركية والرومية واختلاف الألوان في الصورة من البياض والسواد والحمرة فلا تكاد ترى أحداً إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين، فلا بد من فاعل فعلم أن الفاعل هو الله تعالى فهذا من أدل دليل على البارئ سبحانه وتعالى.(4/170)
لغاتكم من عربية وعجمية ولهجاتكم بحيث لكل ناطق لهجة تخصه يتميز بها إذا سمع صوته عرف بها من بين بلايين البشر، {وَأَلْوَانِكُمْ} واختلاف ألوانكم أيها البشر من أبيض إلى أسود ومن أحمر إلى أصفر مع اختلاف الملامح والسمات بحيث لا يوجد اثنان من ملايين البشر لا يختلف بعضهما عن بعض حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر إن في هذا وذاك {لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} أي لحججا ظاهرة وبراهين قاطعة بعضها للعالمين (1) وذلك البياض والسواد وبعضها للعلماء كاختلاف اللهجات وملامح الوجوه والسمات المميزة الدقيقة والكل أدلة على قدرة الله وعلمه ووجوب عبادته وتوحيده في ذلك مع تقرير عقيدة البعث والجزاء.
وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ومن آياته الدالة على قدرته على البعث والجزاء منامكم بالليل فالنوم (2) كالموت والانتشار في النهار لطلب الرزق كالبعث بعد الموت فهذه عملية للبعث بعد الموت تتكرر كل يوم وليلة في هذه الحياة الدنيا، وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي في ذلك المذكور من النوم والانتشار لطلب الرزق لدلائل وحجج على قدرة الله على البعث لقوم يسمعون (3) نداء الحق والعقل يدعوهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء فيؤمنون فيصبحون يعملون للقاء ربهم ويستجيبون لكل من يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه ويتقربوا إليه.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (24) {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً (4) وَطَمَعاً} أي ومن حججه تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضيات توحيده والإيمان بلقائه إراءته (5) إياكم أيها الناس البرق خوفاً للمسافرين من الأمطار الغزيرة ومن الصواعق
__________
1 - ذكر العالمين والعلماء في التفسير إشارة إلى القراءتين إذ قرأ نافع والجمهور للعالمين بفتح اللام وقرأ حفص بكسر العين للعالمين وهم العلماء.
2 - المنام مصدر ميمي وهو من الأعراض لا من الذوات وأمره عجيب إذ لو قيل لإنسان نم ولك مكافأة أعظم مكافأة لا يقدر على أن ينام إلا على سنة النوم وهو الاسترخاء والاضطجاع وإغماض العينين فترة حتى ينام، ولو شاء الله ما نام كما لو شاء ما هب من نومه.
3 - اختيار لفظ السماع مع آية النوم فيه إشارة إلى أن النائم يفقد السماع حال نومه بدون إرادته ولا اختياره.
4 - جائز أن يكون الخوف للمسافر والطمع للمقيم.
5 - التعبير بالمصدر "إراءته" إشارة إلى أن من أهل التفسير من يقول إن "أن" المصدرية محذوفة نحو قول الشاعر:
ألا أيها اللائمي احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
إذ التقدير أن احضر فحذف أن، ويصح أن يكون المعنى ومن آياته أنه يريكم فحذف أن واسمها وبقي الخبر وهو جملة يريكم والكل واسع وجائز.(4/171)
الشديدة أن تصيبهم، وطمعاً في المطر الذي تحيا به مزارعكم وتنبت به أرضكم فيتوفر لكم أسباب رزقكم، وقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي ومن آياته تنزيله تعالى من السماء ماءً هو المطر فيحيى به الأرض بالنباتات والزروع بعد أن كانت ميتة لا حياة فيها لا زرع ولا نبت إن في ذلك المذكور من إنزال الماء وإحياء الأرض بعد إراءته عباده البرق خوفاً وطمعاً لآيات دلائل وحجج على قدرته على البعث والجزاء ولكن يرى تلك الدلائل ويعقل ويفهم تلك الحجج قوم يعقلون أي لهم عقول سليمة يستعملونها في النظر والاستدلال فيفهمون ويؤمنون.
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته والموجبة لتوحيده والمقررة لنبوة نبيه ولقائه للحساب والجزاء قيام السماء والأرض منذ خلقهما فلا السماء تسقط، ولا أرض تغور فهما قائمتان منذ خلقهما بأمره تعالى أليس في ذلك أكبر دليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم أحياء لحسابهم على كسبهم ومجازاتهم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ (1) تَخْرُجُونَ} أي أقام السماء والأرض للحياة الدنيا يحيى فيهما ويميت حتى تنتهي المدة المحددة للحياة فيهلك الكل ويفنيه {ثم إذا دعاكم دعوة} بنفخ إسرافيل في الصور {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} من الأرض استجابة لتلك الدعوة، وذلك للحساب والجزاء العادل على العمل في هذه الحياة الدنيا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده وترك عبادة من سواه.
2- مشروعية طلب الرزق بالمشي في الأرض واستعمال الوسائل المشروعة لذلك.
3- تقرير أن الذين ينتفعون بأسماعهم وعقولهم هم أهل حياة الإيمان إذ الإيمان روح متى دخلت جسماً حيي
وأصبح صاحبه يسمع ويبصر ويفكر ويعقل.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح البشري بعد عقيدة الإيمان بالله رباًّ وإلهاً.
__________
1 - إذ الأولى شرطية والثانية فجائية سادة مسد فاء الجواب وصيغة الدعاء كما ذكرها القرطبي: يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأوليين والآخرين إلا قامت تنظر كقوله تعالى {فإذا هم قيام ينظرون} .(4/172)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
شرح الكلمات:
وله من في السموات والأرض: أي خلقا وملكا وتصرفاً وعبيداً.
كل له قانتون (1) : أي كل من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن منقادون له تجري عليهم أحكامه كما أرادها فلا يتعطل منها حكم.
وهو أهون عليه: أي أيسر وأسهل نظراً إلى أن الإعادة أسهل من البداية.
وله المثل الأعلى: أي الوصف الأعلى في كل كمال فصفاته كلها عليا ومنها الوحدانية.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في قضائه وتصرفه.
ضرب لكم مثلا: أي جعل لكم مثلا.
من أنفسكم: أي منتزعا من أموالكم وما تعرفونه من أنفسكم.
__________
1 - القنوت الطاعة وهي الانقياد والخلائق كلها منقادة مطيعة لما أراد الله منها فلا يتخلف قضاؤه تعالى وحكمه فيها بحال من الأحوال.(4/173)
كخيفتكم أنفسكم: أي تخوفكم من بعضكم بعضا أيها الأحرار.
نفصل الآيات: أي نبينها بتنويع الأسلوب وإيراد الحجج وضرب الأمثال.
بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم: أي ليس الأمر قصوراً في البيان حتى لم يؤمن المشركون وإنما العلة اتباع المشركين لأهوائهم وتجاهل عقولهم.
فمن يهدي من أضل الله؟ : أي لا أحد فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون بذكر الأدلة العقلية وتصريف الآيات فقال تعالى {وَلَهُ} أي لله المحيي المميت الوارث الباعث سبحانه وتعالى {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي من ملائكة وجان وإنسان فهو خلقهم وهو يملكهم ويتصرف فيهم. وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (1) } أي مطيعون منقادون فالملائكة لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والجن والإنس منقادون لما أراده منهم من حياة وموت ونشور وأما عصيانهم في العبادات فهو غير مقصود لأنه التكليف الذي هو علة الحياة كلها ومع هذا فهم منفذون باختيارهم وإرادتهم الحرة ما كتبه عليهم أزلا والله أكبر ولله الحمد وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي (2) يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي هو الله الذي يبدأ خلق ما أراد خلقه في كل يوم وساعة من غير شيء ويهبه الحياة ثم يسلبها منه في آجال سماها ثم يعيده يوم القيامة أحب الناس أم كرهوا. وقوله {وَهُوَ أَهْوَنُ (3) عَلَيْهِ} أي الإعادة أيسر وأسهل عليه فليس على الله شيء صعب ولا شاق ولا عزيز ممتنع، وإنما خرج الخطاب على أسلوب المتعجبين من إعادة الخلق بعد فنائه فأعلمهم أن المتعارف عليه عندهم أن الإعادة أسهل من البداءة ليفهموا ويقتنعوا، وإلا فلا شيء صعب على الله تعالى ولا شاق ولا عسير، إذ هو يقول للشيء متى أراده كن فيكون. وقوله تعالى {وَلَهُ الْمَثَلُ (4) الْأَعْلَى فِي
__________
1 - ذكر القرطبي لتفسير كلمة (قانتون) تفاسير عدة عن السلف منها مطيعون طاعة انقياد، مقرون بالعبودية إما قالة وإما دلالة مصلون قائمون يوم القيامة مخلصون.
2 - قال القرطبي: أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت في النفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب.
3 - أهون بمعنى هين، لقوله تعالى وكان ذلك على الله يسيرا، والعرب تطلق أفعل على فاعل قال الشاعر:
إن الذي شمل السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
4 - أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وإنما بقصد التقريب لأفهامكم والأعلى الأعظم البالغ نهاية العظمة والقوة.(4/174)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وله أي لله سبحانه وتعالى الوصف الأكمل في السموات والأرض وهو الألوهية والوحدانية فهو الرب الذي لا إله إلا هو المعبود في السماء والأرض لا إله إلا هو فيهما ولا رب غيره لهما وهو العزيز الغالب المنتقم ممن كفر به وعصاه الحكيم في تدبيره وتصريفه لشؤون خلقه. وقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً (1) مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي جعل لكم مثلا مأخوذا منتزعاً من أنفسكم (2) وهو: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي أنه ليس لكم من مماليككم وعبيدكم شريك منهم يشارككم في أموالكم إذ لا ترضون بذلك ولا تقرونه أبداً، إذاً فكذلك الله تعالى لا يرضى أن يكون من عبيده من هو شريك له في عبادته التي خلق كل شيء من أجلها.. وقوله {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تخافون عبيدكم كما تخافون بعضكم بعضا أيها الأحرار، أي لا يكون هذا منكم ولا ترضون به إذاً فالله – وله المثل الأعلى- كذلك لا يرضى أبداً أن يكون مخلوق من مخلوقاته ملكا كان أو نبياً أو وثنا أو صنماً شريكا له في عباداته. وقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي نبيّنها بتنويع الأساليب وضرب الأمثال {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إذ هم الذين يفهمون معاني الكلام وما يراد من أخباره وقصصه وأمثاله وأوامره ونواهيه. وقوله تعالى {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي ليس الأمر قصوراً في الأدلة ولا عدم وضوح في الحجج وإنما الظالمون اتبعوا أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه بغير علمٍ من نفعه وجدواه لهم فضلوا لذلك. فمن يهديهم، وقد أضلهم الله حسب سنته في الإضلال. وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ} ؟ أي لا أحد وقوله {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي يهدونهم بعد أن أضلهم الله، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والتوحيد بذكر الأدلة وضرب الأمثال وتفصيل الآيات.
2- تفرّد الرب تعالى بالمثل الأعلى في كل جلال وكمال.
__________
1 - ضرب المثل إيقاعه ووضعه، واللام في لكم للتعليل أي لأجلكم.
2 - من في قوله مثلاً من أنفسكم للابتداء وفي قوله من أنفسكم للتبعيض وفي قوله من شركاء زائدة. قال قتادة هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين والمعنى هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله فإن لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.(4/175)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.
2- عظم فائدة المثل "ضرب لكم مثلا من أنفسكم الآية" حتى قال بعضهم (1) فَهْمُ هذا المثل أفضل من حفظ كذا مسألة فقهية.
3- علة ضلال الناس (2) اتباعهم لأهوائهم بغير علم وبانصرافهم عن الهدى بالاسترسال في اتباع الهوى.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
شرح الكلمات:
فأقم وجهك للدين حنيفا: أي سدد وجهك يا رسولنا للدين الإسلامي بحيث لا تنظر إلا إليه.
حنيفا: أي مائلا عن سائر الأديان إليه، وهو بمعنى مقبلا عليه.
فطرة الله: أي صنعة الله التي صنع عليها الإنسان وهي قابليته للإيمان بالله تعالى.
لا تبديل لخلق الله: أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإيمان والتوحيد فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى.
الدين القيم: أي المستقيم الذي لا يضل الآخذ به.
منيبين إليه: أي راجعين إليه تعالى بفعل محابه وترك مكارهه.
__________
1 - المراد به القرطبي إذ قال عند تفسير هذه الآية: "وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك".
2 - لما أقام عليهم الحجة ذكر تعالى أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم وتقليد آبائهم وأسلافهم.(4/176)
وكانوا شيعا: أي طوائف وأحزاباً كل فرقة فرحة بما هي عليه من حق وباطل.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بالأدلة وضمن ذلك عقيدة النبوة وإثباتها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر رسوله والمؤمنون تبع له فقال {فَأَقِمْ (1) وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} (2) أي أنصبوا وجوهكم أيها الرسول والمؤمنون للدين الحق دين الإسلام القائم على مبدأ التوحيد والعمل الصالح، فلا تلتفتوا إلى غيره من الأديان المنحرفة الباطلة. وقوله {فِطْرَتَ (3) اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي أقيموا وجوهكم للدين الحق الذي فطر الله الإنسان عليه تلك الفطرة التي هي خلق الإنسان قابلاً للإيمان والتوحيد. وقوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} أي لا تبدلوا تلك الخلقة ولا تغيروها بل نموها وأبرزوها بالتربية حتى ينشأ الطفل على الإيمان والتوحيد. فالجملة خبرية لفظا وإنشائية معنى نحو فهل أنتم منتهون فهي بمعنى انتهوا وهي أبلغ من انتهوا فكذا: لا تبديل أبلغ من لا تبدلوا. وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (4) أي لزوم ما فطر عليه المرء من الإيمان بالله وتوحيده.. وإبراز ذلك في الواقع بالإيمان بالله وبما أمر بالإيمان به من أركان الإيمان وبعبادة الله تعالى وهي طاعته بفعل ما يأمر به وينهى عنه مخلصا له ذلك لا يشاركه فيه غيره من سائر مخلوقاته هو الدين القيم الذي يجب أن يكون عليه الإنسان وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (5) } يخبر تعالى بأن ما قرره من الدين القيم كما بيّنه في الآيات أكثر الناس لا يعلمونه ولا يعرفونه وهو كما أخبر سبحانه
__________
1 - فأقم وجهك: هذا الفاء هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن جواب سؤال مقدر تقديره هنا إذا علمت أحوال المعرضين عن الحق بعد ظهور دلائله فأقم وجهك والمراد من الأمر دوام إقامة الوجه والاستمرار عليه.
2 - حنيفا منصوب على الحال أي حال كونك معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المنحرفة الباطلة إلى دين الله الحق الذي لم يبدل ولم يغيّر وهو الإسلام.
3 - فطرة: جائز أن يكون منصوبا على المفعولية المطلقة أي فطر الله تعالى الإنسان على ذلك فطرة، وجائز أن يكون منصوبا على أنه مفعول به أي وابتع فطرة الله والتقدير: فأقم وجهك للدين حنيفا واتبع فطرة الله.
4 - قيّم كهيّن ولين مفيد قوة الاتصاف بمصدره أي الدين البالغ قوة القيام أي الاستقامة والبعد عن الاعوجاج. يقال عود مستقيم وقيّم من تشبيه المعقول بالمحسوس.
5 - في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقررا حقيقة أن الإسلام هو دين الفطرة يقول: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.. "الجمعاء أي جامعة لأعضائها لا نقص فيها والجدعاء التي يجدع أي يقطع منها عضو كالذيل أو الأذن.(4/177)
وتعالى. وقوله {مُنِيبِينَ (1) إِلَيْهِ} أي أقيموا وجوهكم للدين القيم حال كونكم راجعين إليه تعالى تائبين إليه من كل دين غير هذا الدين، ومن كل طاعة غير طاعته تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وقوله: {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه تعالى إذ عذابه شديد فلا تتركوا دينه لأي دين ولا طاعته لأي مطاع غير الله تعالى ورسوله وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي حافظوا عليها في أوقاتها وأدوها كما شرعها كمّية وكيفيّة فإنها سقيا الإيمان ومُنمية الخشية والمحبة لله تعالى. وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا (2) دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} ينهى تعالى المؤمنين من أهل الدين القيم الذي هو الإسلام أن يكونوا من المشركين في شيء من ضروب الشرك عقيدة وقولا وعملا. فكل ملة غير ملة الإسلام أهلها مشركون كافرون سواء كانوا مجوسا أو يهوداً أو نصارى أو بوذة أو هندوكاً أو بلاشفة شيوعيين إذ جميعهم فرقوا دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه وهو دين الفطرة وهو الإسلام وكانوا شيعا أي فرقا وأحزاباً كل فرقة تنتصر لما هي عليه وتنحزب له. فأصبح كل حزب منهم بما لديهم من دين فرحين به ظنا منهم أنه الدين الحق وهو الباطل قطعا، لأنه ليس دين الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان وهو الإسلام القائم على توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده أن يعبدوه به ليكملوا على ذلك ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الإقبال على الله تعالى بعبادته والإخلاص له فيها.
2- الإسلام هو دين الله الذي خلق الإنسان متأهلا له ولا يقبل منه دين غيره.
3- وجوب الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه في كل حال.
4- وجوب تقوى الله عز وجل وإقام الصلاة.
5- البراءة من الشرك والمشركين.
6- حرمة الافتراق في الدين الإسلامي ووجوب الاتحاد فيه عقيدة وعبادة وقضاء.
__________
1 - شاهد الإنابة بمعنى التوبة في قول الشاعر:
فإن تابوا فإن بني سليم
وقومهم هوازن قد أنابوا
ومنيبين حال من أقم وجهك وجمع لأن الأمة مخاطبة معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - قرأ الجمهور فرقوا وقرأ حمزة والكسائي فارقوا، والشيع جمع شيعة وهي الجماعة التي تتشايع أي توافق وتجمع عليه والحزب الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة.(4/178)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
شرح الكلمات:
وإذا مس الناس ضر: أي إذا مس المشركين ضرّ أي شدة من مرض أو فقر أو قحط.
منيبين إليه: أي راجعين إليه بالضراعة والدعاء إليه تعالى دون غيره.
رحمة: بكشفِ ضر أو إنزال غيث وإصابة رخاء وسعة رزق.
يشركون: أي بربهم فيعبدون معه غيره بالذبح للآلهة والنذر وغيره.
ليكفروا بما آتيناهم: أي ليكون شكرهم لله كفراً بنعمه والعياذ بالله.
أم أنزلنا عليهم سلطاناً: أي حجة من كتاب وغيره ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به.
بما قدمت أيديهم: أي بذنوبهم وخروجهم عن سنن الله تعالى في نظام الحياة.
إذا هم يقنطون: أي ييأسون من الفرج بزوال الشدة.
يبسط الرزق لمن يشاء: أي يوسعه امتحانا له.
ويقدر: أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء.(4/179)
معنى الآيات:
لما أمر تعالى رسوله والمؤمنين بإقامة الدين ونهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أخبر تعالى عن المشركين أنهم إذا مسهم الضر وهو المرض والشدة كالقحط والغلاء ونحوها دعوا ربهم تعالى منيبين إليه أي راجعين إليه بالدعاء والضراعة لا يدعون غيره. وهو قوله تعالى {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا (1) رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وقوله: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} أصابهم برحمة من عنده وهي الصحة والرخاء والخصب ونحوه {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي كثير {بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} فيعبدون الأصنام والأوثان بأنواع العبادات، وقوله {لِيَكْفُرُوا (2) بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي أشركوا بالله بعد إنعامه عليهم ليكفروا بما آتاهم من نعمة كشف الضر عنهم إذاً {فَتَمَتَّعُوا (3) } أيها الكافرون بما خولكم الله من نعمة فسوف تعلمون عاقبة كفركم لنعم الله وشرككم به يوم تردون عليه حفاة عراة لا وليّ لكم من دونه تعالى ولا نصير.
وقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا (4) عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} أي ما الذي شجعهم على الشرك وجعلهم يصرون عليه حتى إذا تركوه ساعة الشدة عادوا إليه ساعة الرخاء أأنزلنا عليهم سلطانا أي حجة من كتاب ونحوه فهو ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به اللهم لا، لا، وإنما هو الجهل والتقليد والعناد وقوله {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} هذه حال أهل الشرك والكفر والجهل من الناس إذا أذاقهم الله رحمة من خصب ورخاء وصحة فرحوا بها فرح البطر والأشر {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} من جدب وقحط ومرض وفقر، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الذنوب والمعاصي ومنها مخالفة سنن الله في الكون {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (5) } أي ييأسون من الفرج وذلك لكفرهم بالله وجهلهم بأسمائه
__________
1 - الضر بالضم الضاد سوء الحال في البدن أو العيش أو المال وهذه الجملة الخبرية تحمل السامع على التعجب من حال المشركين كيف يخلصون لله تعالى الدعاء في الشدة ويشركون به في الرخاء يا للعجب!!
2 - هذه لام التعليل في ظاهرها ولكنها آلت لمعنى العاقبة في واقعها.
3 - الأمر للتهديد والتوعد على كفران النعم واستبدال شكرها بالكفر بالمنعم عز وجل الشرك به.
4 - أم أنزلنا: أم للإضراب الانتقالي فهي بمعنى بل، وحرف الاستفهام مقدر أي أنزلنا عليهم الخ. وهو إنكاري أن الله تعالى لم ينزل عليهم حجة تبيح لهم الشرك وتقرره.
5 - هذه الصفة وإن كان المراد بها المشركون فإنها قد يتصف بها بعض المؤمنين فتجد أحدهم يصاب بالبطر عند حلول النعم ويترك الشكر ويقنط عند حلول النقم والشدة وينسى الدعاء والتضرع إلى الله تعالى فهو كما قال الشاعر:
كحمار السوء إن أعلفته
رمح الناس وإن جاع نهق(4/180)
وصفاته.
وقوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي ألم يروا بأعينهم أن الله يبسط الرزق أي يوسعه لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر، {وَيَقْدِرُ} أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء أيصبر أم يضجر ويسخط. إذ لو كانت لهم عيون يبصرون بها وقلوب يفقهون بها لما أيسوا من رحمة الله وفرجه ولا ما قنطوا. وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي المذكور من تدبير الله في خلقه بالإعطاء والمنع {لَآياتٍ} أي حججاً ودلائل تدل المؤمنين على قدرة الله ولطفه ورحمته وحكمته في تدبير ملكه وملكوته فسبحانه من إله عظيم ورب غفور رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جهل المشركين وضلال عقولهم بما ذكر تعالى من صفاتهم وأحوالهم.
2-- بيان تهديد الله تعالى للمصرين على الشرك والكفر بعذاب يوم القيامة.
3- بيان حال أهل الشرك والجهل في فرحهم بالنعمة فرح البطر والأشر ويأسهم وقنوطهم عند نزول البلاء بهم والشدة.
4- مظهر حكمة الله وتدبيره في الرزق توسعة وتقديراً وإدراك ذلك خاص بالمؤمنين لأنهم أحياء يبصرون ويفهمون بخلاف الكافرين فهم أموات لا إبصار ولا إدراك لهم.
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ(4/181)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
شرح الكلمات:
فآت ذا القربى: أي أعط ذا القرابة حقه من البر والصلة.
والمسكين: أي المعدوم الذي لا مال له أعطه حقه في الطعام والشراب والكساء.
وابن السبيل: أي أعط ابن السبيل أي المسافر حقه في الإيواء والطعام.
ذلك خير: أي ذلك الإنفاق خير من عدمه للذين يريدون وجه الله تعالى إذ يثيبهم ربهم أحسن ثواب.
وما آتيتم من ربا: أي من هدية أو هبة وسميت رباً لأنهم يقصدون بها زيادة أموالهم.
ليربو في أموال الناس: أي ليكثر بسبب ما يرده عليكم مَن أهديتموه القليل ليرد عليك الكثير.
فلا يربوا عند الله: أي لا يباركه الله ولا يضاعف أجره.
فأولئك هم المضعفون: أي الذين يؤتون أموالهم صدقة يريدون بها وجه الله فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر أضعافاً مضاعفة.
هل من شركائكم: أي من أصنامكم التي تعبدونها.
من يفعل من ذلكم من شيء: والجواب لا أحد، إذاً بطلت ألوهيتها وحرمت عبادتها.
سبحانه وتعالى عما يشركون: أي تنزه الرب عن الشرك وتعالى عن المشركين.
معنى الآيات:
لما بيّن تعالى في الآية السابقة لهذه أنه يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً ويقدر على من يشاء ابتلاء أمر رسوله وأمته التابعة له بإيتاء ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، إذ منع(4/182)
الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق ولا في تضييقه، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم هذا ما دل عليه قوله تعالى {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (1) } أي من البر والصلة {وَالْمِسْكِينَ} وهو من لا يملك قوته {وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحداً، وحقهما: إيواؤهما وإطعامهما وكسوتهما وقوله تعالى {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ} أي ذلك الإيتاء من الحقوق خير حالاً ومآلاً للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب. وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة، وبدخول الجنة يوم القيامة وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ} أي وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يُردّ عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربو عند الله ولا يضاعف أجره بل ولا يؤجر عليه وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} أي صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم ويغفر لكم ويرحمكم، {فَأُولَئِكَ} هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله {هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.
وقوله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (2) ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يخبر تعالى المشركين من عباده موبخا لهم على شركهم مقرعاً: الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم رزقكم بما تنموا به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية ثم يميتكم عند نهاية آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا ثم يقول لهم {هَلْ (3) مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ} المذكور من الخلق والرزق الإماتة والإحياء {مِنْ شَيْءٍ} ؟ والجواب: لا وإذاً فلم تعبدونهم من دون الله، فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون. ثم نزه تعالى نفسه عن الشرك، وتعالى عن المشركين فقال {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (4) }
__________
1 - الخطاب وإن كان موجهاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمته تابعة له في هذا كله وابن السبيل إن استضاف مؤمنا وجب عليه ضيافته لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" في الصحيح.
2 - استئناف لتقرير عقيدة التوحيد وإبطال التنديد والتوبيخ والتقريع على الشرك الذي هو أعظم أنواع الظلم وصاحبه أحط الناس قدراً وأفسدهم ذوقا وعقلا.
3 - الاستفهام إنكاري مشوب بالنفي لقرينة من المؤكدة لنفي الجنس والإشارة في قوله من ذلكم إلى ما ذلك من الخلق والرزق والإماتة والإحياء.
4 - قرأ الجمهور بالياء وقرأ غيرهم بتاء الخطاب بدون التفات من الغيبة إلى الخطاب.(4/183)
من هداية الآيات
هداية الآيات
1- وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة.
2- وجوب كفاية الفقراء وأبناء السبيل في المجتمع الإسلامي.
3- جواز هدية الثواب (1) الدنيوي كأن يهدي رجل شيئا يريد أن يرد عليه أكثر منه ولكن لا ثواب فيه في الآخرة، وتسمى هذه الهدية: هدية الثواب وهي للرسول محرمة لقوله تعالى له: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} .
4- بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى.
5- إبطال الشرك والتنديد بالمشركين وبيان جهلهم وضلال عقولهم.
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
__________
1 - الهبة ثلاثة أنواع الأول هبة يريد بها صاحبها وجه الله تعالى كأن يهب عبداً صالحاً هبة إكراماً له وإسعاداً فهذه جائزة ويثيب عليها الله تعالى والثانية هبة يريد بها صاحبها رد أكثر منها كأن يهدي فقير لغني أو مأمور لأمير فهذه ثوابها ما يعطيه له من أهداه ولا أجر له عند الله. وله أن يطالب من أهداه للثواب ولم يثيبه والثالثة الصدقات تعطى للفقراء فهي هبة لله والله يثيب عليها إن خلت من الرياء فإذا شابها رياء فلا ثواب فيها.(4/184)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
شرح الكلمات:
ظهر الفساد في البر والبحر: أي ظهرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد.
بما كسبت أيدي الناس: أي بسبب ما كسبته أيدي الناس من ظلم واعتداء.
ليذيقهم بعض الذي عملوا: أي تم ذلك وحصل ليذيقهم الله العذاب ببعض ذنوبهم.
لعلهم يرجعون: كي يرجعوا عن المعاصي إلى الطاعة والاستقامة.
قل سيروا في الأرض: أي قل يا رسولنا لأهل مكة المكذبين بك والمشركين بالله سيروا.
عاقبة الذين من قبل: أي كيف كانت نهاية تكذيبهم لرسلهم وشركهم بربهم إنّها هلاكهم.
فأقم وجهك للدين القيم: أي استقم على طاعة ربك عابداً له مبلغاً عنه منفذاً لأحكامه.
لا مرد له من الله: أي لا يرده الله تعالى لأنه قضى بإتيانه وهو يوم القيامة.
يصدعون: أي يتفرقون فرقتين.
يمهدون: أي يوطئون ويفرشون لأنفسهم في منازل الجنة بإيمانهم وصالح أعمالهم.
معنى الآيات:
تقدم في السياق الكريم إبطال الشرك بالدليل العقلي إلا أن المشركين مصرون على الشرك وبذلك سيحصل فساد في الأرض لا محالة فأخبر تعالى عنه بقوله في هذه الآية الكريمة (41) فقال {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي انتشرت المعاصي في البر (1) والبحر وفي الجو اليوم فعُبد غير الله واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم وذلك نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه. وقوله {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أي بظلمهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم. وقوله: ليذيقهم بعض الذي عملوا أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما أصابهم الله به {لِيُذِيقَهُمْ (2) بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ لو أصابهم
__________
1 - ذكر للفساد في البر والبحر تأويلات وما في التفسير أصحها وأولاها بفهم الآية الكريمة وأنفعها لأهل القرآن المتدبرين به العاملين بما فيه.
2 - قرأ الجمهور ليذيقهم بالياء وقرأ البعض بالنون.(4/185)
بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم على وجودهم (1) ، ولكنه الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم. وقوله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} قل يا رسولنا لكفار قريش المكذبين لك المشركين بربهم: سيروا في الأرض شمالاً أو جنوباً أو غرباً فانظروا بأعينكم كيف كان عاقبة الذين كذبوا رسلهم وكفروا بربهم من قبلكم إنها كانت دماراً وهلاكاً فهل ترضون أن تكونوا مثلهم. وقوله {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أي كان أكثر أولئك الأقوام الهالكين مشركين فالشرك والتكذيب الذي أنتم عليه هو سبب هلاكهم وخسرانهم وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} أي استقم يا رسولنا أنت والمؤمنون معك على الدين الإسلامي إذ لا دين يقبل سواه فاعتقدوا عقائده وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وتأدبوا بآدابه وتخلقوا بأخلاقه وأقيموا حدوده وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وادعوا إليه وعلموه الناس أجمعين، واصبروا على ذلك فإن العاقبة للمتقين وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ} أي افعلوا ذاك الذي أمرتكم به قبل مجيء يوم القيامة حيث لم يكن عمل وإنما جزاء، وقوله {لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ} أي إنه لا يرده الله إذا جاء ميعاده لأنه قضى بإتيانه لا محالة من أجل الجزاء على العمل في الدنيا. وقوله {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يوم يأتي اليوم الذي لا مرد له يصدعون أي يتفرقون فرقتين (2) كما يتصدع الجدار فرقتين فريق في الجنة وفريق في النار. وقوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي من كفر اليوم فعائد كفره عليه يوم القيامة، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} أي اليوم {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يوطئون فرشهم في الجنة (3) إذ عائدة عملهم الصالح تعود عليهم لا على غيرهم، وقوله {لِيَجْزِيَ (4) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} أي يصدعون فرقتين من أجل أن يجزي الله تعالى أولياءه المؤمنين العاملين للصالحات من فضله إذ أعمالهم حسبها أنها زكَّت نفوسهم فتأهلوا لدخول الجنة أما النعيم المقيم فيها فهو من فضل الله فقط. وقوله {إِنَّهُ (5) لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} هذه جملة علة لجملة محذوفة إذ التقدير: ويجزي الكافرين بعدله وهو سوء العذاب لأنه لا يحب الكافرين.
__________
1 - شاهد قوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً (فاطر) .
2 - شاهده قول الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
جذيمة الأبرشي كان ملكا ونديماه هما مالك وعقيل نادماه أربعين سنة ثم ماتوا وندماني في البيت تثنية ندمان.
3 - شاهده قوله تعالى من سورة الشورى (وتُنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) .
4 - اللام لام التعليل وهو واضح في التفسير.
5 - علة الحذف طلب الإيجاز مع ظهور المعنى بدلالة السياق عليه.(4/186)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ظهور الفساد بالجدب والغلاء أو بالحرب والأمراض يسبقه حسب سنة الله تعالى في ظهور الفساد في العقائد بالشرك، وفي الأعمال بالفسق والمعاصي.
2- وجوب الاستقامة على الدين الإسلامي عقيدة وعبادة وقضاءًَ وحكماً.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثه ووقائعه.
4- بيان أن الله تعالى يحب المتقين ويكره الكافرين.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
شرح الكلمات:
ومن آياته أن يرسل الرياح: أي ومن حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء والموجبة لعبادته وحده.
مبشرات: أي تبشر العباد بالمطر وقربه.
وليذيقكم من رحمته: أي بالغيث والخصب والرخاء وسعة الرزق.
ولتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا الرزق من فضله الواسع بواسطة التجارة في البحر.
ولعلكم تشكرون: أي كي تشكروا هذه النعم فتؤمنوا وتوحِّدوا ربكم.
رسلاً إلى قومهم: أي كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام.
فجاءوهم بالبينات: أي بالحجج والمعجزات.
الذين أجرموا: أي أفسدوا نفوسهم فخبثوها بآثار الشرك والمعاصي.(4/187)
حقا علينا نصر المؤمنين: أي ونصر المؤمنين أحققناه حقاً وأوجبناه علينا فهو كائن لا محالة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير ألوهية الله تعالى وعدله ورحمته، فقال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي ومن آياتنا الدالة على ألوهيتنا وعدلنا في خلقنا ورحمتنا بعبادنا إرسالنا الرياح مبشرات (1) عبادنا بقرب المطر الذي به حياة البلاد والعباد فإرسال الرياح أمر لا يقدر عليه إلا الله، وتدبير يقصر دونه كل تدبير ورحمة تعلوا كل رحمة. وقوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي بإنزال المطر المترتب عليه الخصب والرخاء، وقوله: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} أي السفن في البحر إذ الرياح كانت قبل اكتشاف البخار هي المسيرة للسفن في البحر صغيرها وكبيرها. وقوله {بِأَمْرِهِ} (2) أي بإذنه وإرادته وتدبيره الحكيم، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر من إقليم إلى آخر تحملون البضائع لبيعها وشرائها وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي فعل الله تعالى بكم ذلك فسخره لكم وأقدركم عليه رجاء أن تشكروا ربكم بالإيمان به وبطاعته وتوحيده في عبادته. فهل أنتم يا عباد الله شاكرون؟، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا رسولنا {رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام فجاءوا أقوامهم بالبينات والحجج النيرات كما جئت أنت قومك فكذبت تلك الأقوام رسلهم {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} فأهلكناهم، ونجينا الذين آمنوا {وَكَانَ حَقّاً (3) عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ألا فليعتبر قريش بهذا وإلا فستحل بها نقمة الله فيهلك الله المجرمين وينجي رسوله والمؤمنين كما هي سنته في الأولين والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل.
__________
1 - قيل في الرياح مبشرات لأنها تتقدم المطر فهي كالمبشرة بمجيئه.
2 - قال بأمره لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية فيتعين إرساء السفن والاحتيال على حبسها إذ ربما عصفت بها الرياح فأغرقتها فمن هنا قال بأمره وإلا فالرياح وحدها لن تغرق السفن وتعوقها عند السير.
3 - حقاً هذه الكلمة من صيغ الالتزام يقال فلان محفوف بكذا أي لازم له شاهده في قول الأعشى:
لمحفوفة أن تستجيبي لصوته
حقا خبر كان مقدم على اسمها وهو نصر المؤمنين ولا التفات إلى من رأى الوقف على (حقاً) .(4/188)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
2- بيان أن الله تعالى ينعم عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء.
3- بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن، وناصر المؤمنين كذلك.
اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فََإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
شرح الكلمات:
فتثير سحاباً: أي تحركه وتهيجه فيسير وينتشر.
ويجعله كسفا: أي قطعاً متفرقة في السماء هنا وهناك.
فترى الودق: أي المطر يخرج من خلال السحاب.
إذا هم يستبشرون: أي فرحون بالمطر النازل لسقياهم.
لمبلسين: أي قنطين آيسين من إنزاله عليهم.
إن ذلك لمحيى الموتى: أي القادر على إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وهو الله تعالى.(4/189)
فرأوه مصفراً: أي رأوا النبات والزرع مصفراً للجائحة التي أصابته وهي ريح الدبور المحرقة.
لظلوا من بعده يكفرون: أي أقاموا بعد هلاك زرعهم ونباتهم يكفرون نعم الله عليهم السابقة.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا: أي ما تسمع إلا المؤمنين بآيات الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر قدرة الله تعالى في الكون قال تعالى: {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ (1) } أي ينشئها ويبعث بها من أماكن وجودها فتثير تلك الرياح سحاباً أي تزعجه وتحركه فيبسطه تعالى في السماء كيف يشاء من كثافة وخفة وكثرة وقلة، {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً (2) } أي قطعا فترى أيها الرائي الودق أي المطر يخرج من خلاله أي من بين أجزاء السحاب. وقوله {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} أي بالمطر {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي المصابون بالمطر في أرضهم. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي يفرحون. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي المطر {مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (3) } أي مكتئبين حزينين قانطين وقوله تعالى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ} أي فانظر يا رسولنا إلى آثار رحمة الله أي إلى آثار المطر كيف ترى الأرض قد اخضرت بعد يبس وحييت بعد موت. فإذا رأيت ذلك علمت أن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى من قبورهم وذلك يوم القيامة وقوله {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لعظم قدرته وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى فعل كل شيء أراده. وقوله {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} أي وعزتنا وجلالنا لئن أرسلنا ريحاً فيه إعصارٌ فيه نار فأحرقت تلك النباتات وأيبسها فرآها أولئك الذين هم بالأمس فرحون فرح بطر بالغيث {يَكْفُرُونَ} بربهم أي يقولون: ما هو كفر من ألفاظ السخط وعدم الرضا وذلك لجهلهم
__________
1 - استئناف مبدوء باسم الله الأعظم الدال على قدرته وواسع علمه فهو الذي يرسل الرياح وينزل من السماء ماء ويحيى به الأرض هو الله الرب القادر على إحياء الناس بعد موتهم والمستحق لعبادتهم دون سواه والرياح قرأ بها الجمهور وقرأ بعض الريح بالإفراد ومما عرف بالعادة أن الرياح للإمطار والريح للدمار.
2 - الكِسَف: جمع كسفة أي قطعة والمراد أن الله تعالى يرسل الرياح فتثير السحاب ويكون عاما مجللا للسماء كافة ويكون منه قطعاً قطعاً لحكمة تتطلب ذلك والكسف بكسر الكاف وسكون السين كالكسف بكسر الكاف وفتح السين كلاهما جمع كسفه كسدره وسدر وقرئ من خَلله وجائز أن يكون جمع خلال أيضا.
3 - وفسر بآيسيين أي قانطين أزلين كما في الحديث أي في ضيق وشدّه وفُسر بئسين والكل صحيح.(4/190)
وكفرهم. وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ (1) إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أي إنك يا رسولنا لا تقدر على هداية هؤلاء الكافرين لأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لما ران على قلوبهم من الذنوب فعطل حواسهم وأنت بحكم بشريتك وقدرتك المحدودة لا تستطيع إسماع الموتى كلامك فيفقهوه ويعملوا به كما لا تستطيع إسماع الصم نداءك إذا هم ولّوا مدبرين إذ لو كانوا مقبلين عليك قد تفهمهم ولو بالإشارة أما إذا ولّوا مدبرين عنك فلا يمكن إسماعهم. إذاً فهون على نفسك ولا تحزن عليهم. وقوله: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي إنك ما تسمع سماع قبول وانقياد وإدراك إلاّ من يؤمن بآياتنا أي إلا المؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وعرفوا حججه فآمنوا به ووحدوه فهم مسلمون أي منقادون خاضعون مطيعون فهؤلاء في إمكانك إسماعهم وهدايتهم بإذن الله إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة والحجج العقلية.
2- بيان كيفية إنشاء السحاب ونزول المطر وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم الإلهي.
3- بيان حال الكافر في أيام الرخاء وأيام الشدة فهو في الشدة يقنط وفي الرخاء يكفر، وذلك لفساد قلبه بالجهل بالله تعالى وآياته.
4- الاستدلال بالمحسوس الحاضر على المحسوس الغيبي.
5- بيان أن الكفار أموات، ولذا هم لا يسمعون ولا يبصرون وأن المؤمنين أحياء لأنهم يسمعون ويبصرون، إذ الحياة لها آثارها في الجسم الحي والموت كذلك.
اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
__________
1 - قال القرطبي: أي وضحت الحجج يا محمد لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم فلا يتهيأ لك إسماعهم وهدايتهم وقرأ الجمهور تسمع بالتاء وقرأ ابن كثير يسمع ورفع الصم على أنه فاعل وقرأ الجمهور هادي وقرأ ابن كثير تهدي.(4/191)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
شرح الكلمات:
الله الذي خلقكم من ضعف: أي من نطفة وهي ماء مهين.
ثم جعل من بعد ضعف قوة: أي من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب.
ثم جعل من بعد قوة ضعفا: أي من بعد قوة الشباب والكهولة ضعف الكبر والشيب
وشيبة: أي والهرم.
كذلك كانوا يؤفكون: أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالبعث والجزاء في الآخرة فانصرافهم عن الحق في الدنيا سبب لهم عدم معرفتهم لمدة لبثهم في قبورهم.
لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم: أي في إنكارهم للبعث والجزاء.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (1) } وحده {مِنْ ضَعْفٍ (2) } أي من ماء مهين وهي النطفة ثم جعل من بعد ضعف أي ضعف الطفولة
__________
1 - هذا الاستئناف كسابقه الاستدلال به على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وعظيم تدبيره في خلقه وهي موجبة التوحيد له والنبوة لرسوله والبعث لعباده ليحاسبهم ويجزيهم برحمته وعدله.
2 - قرأ نافع والجمهور من ضعف بضم الضاد في الألفاظ الثلاثة في هذه الآية وهي لغة الحجاز، وقرأ حفص بالفتح وهي لغة تميم ومن ابتدائية أي ابتدأ خلقكم من ضعف وهي النطفة ولا أضعف منها.(4/192)
{قُوَّةً} وهي قوة الشباب {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} أي قوة الشباب والكهولة {ضَعْفاً} أي ضعف الكبر {وَشَيْبَةً (1) } أي الهرم وقوله تعالى {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الْقَدِيرُ} على ما يشاء ويريده فهو تعالى قادر على إحياء الأموات وبعثهم، إذ القادر على إيجادهم من العدم قادر على بعثهم من الرّمم. وقوله تعالى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} أي القيامة {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي يحلف المجرمون من أهل الشرك والمعاصي {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ (2) } أي لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من زمن. وقوله تعالى {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (3) } أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث في القبر كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالله تعالى ولقائه، والصارف لهم ظلمة نفوسهم بسبب الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ} أي في كتاب المقادير {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} وهو يوم القيامة {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} لعدم إيمانكم بالله وبآياته والكتاب الذي أنزله.
وقوله {فَيَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ يأتي يوم البعث {لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} أي عن شركهم وكفرهم بلقاء ربهم، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية التي لا ترد بحال.
2- بيان أطوار خلق الإنسان من نطفة إلى شيخوخة وهرم.
3- فضل العلم والإيمان وأهلهما.
4- بيان أن معذرة الظالمين لا تقبل منهم، ولا يستعتبون فيرضون الله تعالى فيرضى عنهم.
__________
1 - الشيبة اسم مصدر الشيب وعطف الشيبة على الضعف إشارة إلى عدم وجود قوة بعدها وإنما يأتي الفناء كما قيل الشيب نذير الموت وهو كذلك.
2 - روي أن أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر في الصحيح.
3 - يقال أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة ممنوعة من المطر.(4/193)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
شرح الكلمات:
ولقد ضربنا للناس: أي جعلنا للناس.
من كل مثل: أي من كل صفة مستغربة تلفت الانتباه وتحرك الضمير كالأمثال لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا.
ولئن جئتهم بآية: أي ولئن أتيت هؤلاء المشركين بكل حجة خارقة.
إن أنتم إلا مبطلون: أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا مبطلون فيما تقولون وتدعون إليه من الإيمان بآيات الله ولقائه.
الذين لا يعلمون: أي ما أنزل الله على رسوله وما أوحاه إليه من الآيات البينات.
فاصبر إن وعد الله حق: أي اصبر يا رسولنا على أذاهم فإن العاقبة لك إذ وعدك ربك بها ووعد الله حق.
ولا يستخفنك الذين لا يوقنون: أي لا يحملنك هؤلاء المشركون المكذبون بلقاء الله على الخفة والطيش فتترك دعوتك إلى ربك.
معنى الآيات:
بعد إيراد العديد من الأدلة وسوق الكثير من الحجج وعرض مشاهد القيامة في الآيات السابقة تقريراً لعقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون من قريش قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (1) } أي جعلنا للناس في هذا القرآن من أساليب
__________
1 - قال القرطبي: أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه وينبههم على التوحيد وصدق الرسل.(4/194)
الكلام وضروب التشبيه، وعرض الأحداث بصورة مثيرة للدهشة موقظة للحس، ومنبهة للضمير، كل ذلك لعلهم يذكرون فيؤمنوا فيهتدوا للحق فينجوا ويسعدوا، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بذلك، {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ (1) } أي بحجة من معجزة وغيرها تدل على صدقك وصحة دعوتك وما جئت به {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي منهم (2) . {إِنْ أَنْتُمْ} أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون {إِلَّا مُبْطِلُونَ} أي من أهل الباطل فيما تقولون وتدعون إليه من الدين الحق والبعث الآخر. وقوله {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي كذلك الطبع على قلوب الكافرين الذين لو جئتهم بكل آية لم يؤمنوا عليها لما ران على قلوبهم وما ختم به عليها، يطبع الله على قلوب الذين يعلمون (3) ، إذ ظلمة الجهل كظلمة الشرك والكفر تحجب القلوب عن الفهم والإدراك فلا يحصل إيمان ولا استجابة لدعوة الحق وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} يأمر تعالى رسوله أن يلتزم بالصبر على دعوته والثبات عليها في وجه هذا الكفر العنيد، حتى ينصره الله تعالى إذ واعده بالنصر في غير ما آية ووعد الله حق فهو ناجز لا يتخلف. وقوله: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ (4) الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (5) } أي اصبر ولا يحملنك عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والتكذيب على الخفة والطيش والاستجهال بترك الحلم والصبر. والمراد بالذين لا يوقنون كل من لا يؤمن بالله ولقائه إيماًنا يقينيا إذ هذا الصنف من الناس هو الذي يستفز الإنسان ويحمله على أن يخرج عن اللياقة والأدب والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- اعذار الله تعالى إلى الناس بما ساقه تعالى في كتابه من أدلة الإيمان وحجج الهدى.
__________
1 - أي كآيات موسى من فلق البحر والعصا أو آيات عيسى كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
2 - أي من الناس لقوله ولقد ضربنا للناس وهو لفظ عام يشمل الكافر والمؤمن.
3 - في هذه الآية إنذار خطير للجهال وتنديد بالجهل، إذ أهله لا يفهمون عن الله ولا يهتدون إلى سبل الخير وطريق السعادة والكمال ولذا أوجب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم على كل مسلم في قوله "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وما أصاب المسلمين ما أصابهم من خوف وهون ودون إلا نتيجة لجهلهم بربهم ومحابه ومكارهه وضروب عباداته وكيفيات أدائها لتزكوا بها نفوسهم وتطهر أرواحهم وقلوبهم.
4 - وفسر بيستفزنك الذين في محل رفع فاعل وبعض العرب يعربونه إعراب جمع المذكر السالم فيقولون اللذون رفعاً والذين نصباً وجراً قال الشاعر:
نحن اللذون صبحوا الصباح
يوم النخيل غارة ملحاحاً
5 - الاستخفاف: طلب خفة الشيء بفقد ثقله ورصانته فيغضب ويترك العمل. والذين لا يؤمنون هم المشركون كالنضر بن الحارث وأبي جهل والمراد بنفي اليقين عنهم: اليقين بالأمور البديهيات اليقينية للناس لكون الله تعالى خلق كل شيء ورب كل شيء، وقدرته على كل شيء إذ هذه يقينيات لدى عامة الناس.(4/195)
2- أسوأ أحوال الإنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئا وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم.
3- وجوب الصبر والتزام الحلم والأناة مهما جهل الجاهلون.(4/196)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة لقمان
مكية (1)
وآياتها أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
شرح الكلمات:
الم: هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب الم، وتقرأ ألف لام ميم.
تلك: أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب الحكيم.
الحكيم: أي المحكم الذي لا نسخ يطرأ عليه بعد تمام نزوله، ولا خلل فيه، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا خلط ولا خبط فيما يحمل من هدى وتشريع.
هدى ورحمة: أي هو هدى يهتدي به ورحمة يرحم بها.
للمحسنين: أي الذين يراقبون الله تعالى في كل شؤونهم إذ هم الذين يجدون الهدى والرحمة في القرآن الكريم أما غيرهم من أهل الشرك والمعاصي فلا يجدون ذلك.
__________
1 - قال قتادة: غير آيتين أولهما ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وقال ابن عباس غير ثلاث آيات أولهن: ولو أن ما في الأرض من الخ..(4/196)
أولئك: أي المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة.
على هدى من ربهم: أي على هداية من الله تعالى فلا يضلون ولا يجهلون معها أبدا.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب محبوب.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {الم} أحسن ما يفسر به مثل هذه الحروف المقطعة قول: الله أعلم بمراده به وقد أفادت هذه الحروف فائدة عظيمة، وذلك من جهتين الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن خشية التأثير به فيهتدي إلى الحق من يحصل له ذلك، وقالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} كانت هذه الحروف بنغمها الخاص ومدودها العجيبة تضطر المشرك إلى الإصغاء والاستماع فحصل ضد مقصودهم وكفى بهذه فائدة. والثانية أنهم لما ادعوا أن القرآن سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين كأنما قيل لهم هذا القرآن الذي ادعيتم فيه كذا وكذا قد تألف من هذه الحروف ص، ن، ق، يس، طس، الم، فألفوا سورة مثله وأتوا بها للناس فيصبح لكم ما تدعون فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله أنزله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمنوا ووحدوا واستقيموا على ذلك تعزوا وتكرموا وتكملوا وتسعدوا.
وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ (1) الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أي هذه الآيات هي آيات القرآن الكريم الموصوف بالحكمة إذ هو لا يخلط ولا يغلط ولا يخبط بل يضع كل شيء في موضعه اللائق به في كل ما قاله فيه وحكم به، وأخبر عنه أو به من سائر المعارف والعلوم التي حواها كما هو حكيم بمعنى محكم لا نسخ يطرأ عليه بعد تمامه كما طرأ على الكتب السابقة، ومحكم أيضاً بمعنى لا خلل فيه، ولا تناقض بين أخباره وأحكامه على كثرتها وتنوع أسبابها ومقتضيات نزولها، وقوله: {هُدىً (2) وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) } أي هو بيان هداية ورحمة تنال المحسنين وهم الذين أحسنوا عبادتهم لربهم فخلصوها من الشرك والرياء وأتوا بها على
__________
1 - تلك في محل رفع مبتدأ وآيات الكتاب الخبر.
- 2 هدى ورحمة نصباَ على الحال على حد هذه ناقة الله لكم آية وقرئ هدًى ورحمة بالرفع على أن هدى خبر ثان ورحمة معطوف عليه وهي قراءة حمزة.
3 - وجائز أن يكون المحسنين الفاعلين للحسنات والمحسنين إلى غيرهم كالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين ومن ذكروا في آية الحقوق العشرة من سورة النساء {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً} الخ ...(4/197)
الوجه المرضي لله تعالى وهو ما بينه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كيفيات العبادات وبيان فعلها وأدائها عليه. وقوله {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي المحسنين الذين يقيمون الصلاة أي يؤدون الصلوات الخمس مراعى فيها شروطها مستوفاة أركانها وسننها الواجبة منها والمستحبة، ويؤتون الزكاة أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالذهب والفضة أو العُمَل القائمة مقامهما والحرث من تمر وزيتون، وحبوب مقتاة مدخرة والناطقة من إبل وبقر وغنم وذلك إن حال الحول في الذهب والفضة والعمل وفي بهيمة الأنعام أما الحرث والغرس فيوم حصاده وجداده. وقوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي والحال هم موقنون بما أعده الله من ثواب وجزاء على الإحسان والإيمان والإسلام الذي دلت عليه صفاتهم في هذا السياق الكريم وقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يخبر تعالى عن المحسنين أصحاب الصفات الكريمة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان باليوم الآخر والإيقان بثواب الله تعالى فيه إنهم على هدى أي طريق مستقيم وهو الإسلام هداهم الله تعالى إليه ومكنهم من السير عليه وبذلك أصبحوا من المفلحين الذين يفوزون بالنجاة من النار، وبدخول الجنة دار الأبرار. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم إنك برّ كريم تواب رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إعجاز القرآن حيث ألف من مثل آلم، وص، وطس، ولم يستطع خصومه تحديه.
2- بيان معنى الحكيم وفضل الحكمة.
3- بيان أن القرآن بيان للهدى المنجي المسعد ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه.
4- فضل الصلاة والزكاة واليقين.
5- بيان مبنى الدين: وهو الإيمان والإسلام والإحسان (1) .
__________
1- شاهد هذا حديث جبريل في مسلم: إذ سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام والإحسان فدل ذلك على أن مبنى الدين الإسلامي هذه الثلاثة (الإيمان والإسلام والإحسان) .(4/198)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِين (1) ٌ (6)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
شرح الكلمات:
ومن الناس: أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث بن كلدة حليف قريش.
لهو الحديث: أي الحديث الملهي عن الخير والمعروف وهو الغناء.
ليضل عن سبيل الله: أي ليصرف الناس عن الإسلام ويبعدهم عنه فيضلوا.
ويتخذها هزواً: أي ويتخذ الإسلام وشرائعه وكتابه هزواً أي مهزوءاً به مسخوراً منه.
ولّى مستكبراً: أي رجع في كبرياء ولم يستمع إليها كفراً وعناداً وكبراً كأن لم يسمعها.
في أذنيه وقراً: أي ثقل يمنع من السماع كالصمم.
بغير عمدٍ ترونها: أي بدون عمد مرئية لكم ترفعها حتى لا تقع على الأرض.
رواسي: أي جبال راسية في الأرض بها ترسو الأرض أي تثبت حتى لا تميل.
__________
1 - هذا عطف على جملة (تلك آيات الكتاب الحكيم) كأنما قال كانت تلك حال الكتاب الحكيم وهي حال تدعو إلى كل كمال وإن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ففي الإخبار تعجب من حال هذا الإنسان الذي يعرض عن الهدى إلى الضلال وعن الخير إلى الشر(4/199)
وبث فيها من كل دابة: أي وخلق ونشر فيها من صنوف الدواب وهي كل ما يدب في الأرض.
من كل زوج كريم: أي من كل صنف من النباتات جميل نافع لا ضرر فيه.
هذا خلق الله: أي المذكور مخلوقة لله تعالى إذ هو الخالق لكل شيء.
من دونه: أي من الآلهة المزعومة التي يعبدها الجاهلون.
بل الظالمون: أي المشركون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى عباده المحسنين وأثنى عليهم بخير وبشرهم بالفلاح والفوز المبين ذكر صنفا آخر على النقيض من الصنف الأول الكريم فقال: {وَمِنَ النَّاسِ (1) مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ (2) لِيُضِلَّ (3) عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث الكلدي حليف قريش يشتري لهو الحديث أي الغناء إذ كان يشتري الجواري المغنيات ويفتح نادياً للهو والمجون ويدعوا الناس إلى ذلك ليصرفهم عن الإسلام حتى لا يجلسوا إلى نبيّه ولا يقرأوا كتابه بغير علم منه بعاقبة صنيعه وما يكسبه من خزي وعار وعذاب النار. وقوله {وَيَتَّخِذَهَا (4) هُزُواً} أي يتخذ سبيل الله التي هي الإسلام هزواً أي شيئاً مهزوءا به مسخوراً منه بما في ذلك الرسول والمؤمنون والآيات الكلّ يهزأ به ويسخر منه لجهله وظلمة نفسه. قال تعالى {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِين} أي أولئك البعداء وهم كل من يشتري الغناء يغني به نساء ورجال أو آلات ممن اتخذوا الإسلام وشرائعه هزواً وسخرية ليصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله الموصلة إلى رضاه ومحبته وجنته. أولئك: مَن تلك صفتهم لهم عذاب مهين بكسر أنوفهم وبذلهم يوم القيامة وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
__________
1 - معنى الكلام من الناس – يا للعجب- من يشغله لهو الحديث والولوع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم، هذه الآية إحدى ثلاث آيات في القرآن الكريم تحرم الغناء والأولى آية بني إسرائيل وهي قوله تعالى (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) والثانية آية النجم: (وأنتم سامدون) قال ابن عباس هو الغناء بالحميرية يقال أسمدنا أي غنّي لنا.
2 - لهو الحديث هو الغناء، صح أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن لهو الحديث فقال بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء وقال ابن جرير الطبري قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليكم بالسواد الأعظم، ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية.
3 - قرأ الجمهور ليضل بضم الياء أي ليضل غيره فهو إذاً ضال مضل وقرأ ابن كثير ليضل بفتح الياء أي ليزداد ضلالا على ضلال.
4 - قرأ نافع بالرفع عطفاً على يشتري وقرأ حفص بالفتح عطفاً على ليضل.(4/200)
آيَاتُنَا وَلَّى (1) مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} أي إذا قرئت على هذا الصنف من الناس آيات الله لتذكيره وهدايته رجع مستكبراً كأن لم يسمعها تتلى عليه وهي حالة من أقبح الحالات لدلالتها على خبث هذا الصنف من الناس وكبرهم. وقوله {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} (2) كأن به صمم لا يسمع القول وهنا عجّل الله له بما يحزنه ويخزيه فقال لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} والتبشير بما يضر ولا يسر يحمل معه التهكم وهذا النوع من الناس مستحق لذلك وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا} هذا صنف آخر مقابل لما قبله وهم أهل الإيمان والعمل الصالح بشرهم ربهم بجنات النعيم والخلود فيها وقوله {وَعْدَ اللهِ حَقّاً} أي (3) وعدهم بذلك وعداً صادقاً لا يخلف وأحقه لهم حقاً لا يسقط. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه.
وقوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (4) } أي من مظاهر قدرته وعزته وحكمته خلقُه السموات ورفعها بغير عمد مرئية لكم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن هناك أعمدة غير مرئية وهي سنة نظام الجاذبية التي خلقها بقدرته وجعل الأجرام السماوية متماسكة بها. وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} أي من مظاهر قدرته وحكمته إلقاء الجبال الرواسي على الأرض لتحفظ توازنها حتى لا تميل بأهلها فيفسد ويسقط ما عليها وتنعدم الحياة عليها وهو معنى {أَنْ تَمِيدَ (5) بِكُمْ} أي تميل، وإذا مالت تصدع كل ما عليها وخرب وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وهذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة للإيمان بالله ولقائه والمستلزمة لتوحيده تعالى في عبادته، فسائر أنواع الدواب على كثرتها واختلافها الله الذي خلقها وفرقها في الأرض تعمرها وتزينها. وقوله {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهو ماء المطر {فَأنْبَتَ بِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي صنف من أصناف الزروع والنباتات مما
__________
1 - (ولى) هذا تمثل للإعراض عن آيات الله التي تتلى عليه ومستكبراً حال مُبينة وأن إعراضه كان لا عن إهمال أو تفريط وإنما كان عن كبر كأن لم يسمعها تكرار التشبيه لفائدة الإخبار بأنه مرة لم يسمعها مع وجود حاسة السمع وأخرى مع عدم وجودها.
2 - قرأ نافع أذنيه بإسكان الذال تخفيفاً وقرأ الجمهور أذنيه بتحريك الذال مضمومة.
3 - انتصاب وعد الله على المفعول المطلق وانتصاب حقاً على الحال.
4 - ترونها في محل جر نعت لعمدٍ ومعنى هذا أن هناك عمداً غير مرئية ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من السموات.
5 - أي كراهية أن تميد بكم أي تميل أو لئلا تميد والكل جائز.(4/201)
هو نافع وصالح للإنسان هذا المذكور مظهر من مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة الربانية الموجبة للإيمان بالله وآياته ولقائه وتوحيده في عباداته ومن هنا قال تعالى: {هَذَا (1) خَلْقُ اللهِ} أي كل ما ذكر من المخلوقات في الآيات هو مخلوق لله والله وحده خالقه فأروني أيها المشركون المكذبون ماذا خلق الذين تعبدونهم من دونه من سائر المخلوقات يتحداهم بذلك. فعجزوا. وقوله تعالى {بَلِ (2) الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنهم عبدوا غير الله وكذبوا بلقاء الله لا عن علم لديهم أو شبهه كانت لهم بل الظالمون وهم المشركون في ضلال مبين فهم تائهون في أودية الضلال حيارى بجهلهم في حياتهم فدواؤهم العلم والإيمان فمتى آمنوا وعلموا لم يبق مجال لكفرهم وشركهم وعنادهم فلهذا فصّل تعالى الآيات وعرض الأدلة والحجج عرضاً عجيباً لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا فيكملوا ويسعدوا فضلاً منه ورحمة. وهو العزيز الرحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة غناء النساء للرجال الأجانب.
2- حرمة شراء الأغاني في الأشرطة والاسطوانات التي بها غناء العواهر والخليعين من الرجال.
3- حرمة حفلات الرقص والغناء الشائعة اليوم في العالم كافره ومسلمه.
4- دعوة الله تقوم على دعامتي الترهيب والترغيب والبشارة والنذارة.
5- بيان شتّى مظاهر القدرة والعلم والعز والحكمة الموجب للإيمان والتوحيد.
6- لا قصور في الأدلة والحجج الإلهية وإنما ضلال العقول بالشرك والمعاصي هو المانع من الاهتداء. والعياذ بالله تعالى.
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا
__________
1 - خلق الله بمعنى مخلوقه.
2 - بل للإضراب الانتقالي من المجادلة إلى تسجيل ضلالهم وهو اعتقادهم إلهية الأصنام كما يقول لمناظر دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.(4/202)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الِْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ (1) عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
شرح الكلمات:
ولقد آتينا لقمان الحكمة: أي أعطينا لقمان (2) القاضي: أي الفقه في الدين والعقل والإصابة في الأمور.
أن اشكر لله: أي اشكر لله ما أنعم عليك بطاعته وذكره.
لابنه وهو يعظه: أي ابنه ثاران وهو يعظه أي يأمره وينهاه مرغباً له مرهباً.
ووصينا الإنسان: أي عهدنا إليه ببرهما وهو كف الأذى عنهما والإحسان إليهما وطاعتهما في المعروف.
وهناً على وهن: أي ضعفاً على ضعف وشدة على شدة وهي الحمل والولادة والإرضاع.
وفصاله في عامين: أي مدة رضاعه تنتهي في عامين، وبذلك يفصل عن
__________
1 - هذه الآية: {وإن جاهداك} والتي قبلها {ووصينا الإنسان} نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم وإن أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل حتى يكفر سعدٌ أو تموت جوعاً وعطشاً حتى يعير بها مدى الحياة (يا قاتل أمه) إلا أنها لما أيأسها سعد أسلمت وأكلت وشربت.
2 - هو لقمان بن باعوراء بن ناصور بن تارح وهو آزر أبو إبراهيم كذا نسبه ابن إسحاق وقال السهيلي هو لقمان بن عتفاد بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة، قال وهب كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته عاش ألف سنة وأدركه داود عليه السلام وكان رجلاً حكيماً ولم يكن نبياً ومن حكمه قوله إن القلب واللسان إذا طابا فليس شيء أطيب منهما وإذا خبثا فليس شيء أخبث منهما وقوله وقد قيل له أي الناس شر؟ قال الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئاً وقوله الصمت حكمة وقليل فاعله.(4/203)
الرضاع
وإن جاهداك: أي بذلا جهدهما في حملك على الشرك.
وصاحبهما في الدنيا معروفا: أي واصحبهما في حياتهما بالمعروف وهو البر والإحسان وكف الأذى والطاعة في غير معصية الله.
من أناب إليّ: رجع إليّ بتوحيدي وطاعتي وطاعة رسولي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين وهذه القصة اللقمانية اللطيفة مشوقة لذلك قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي أعطينا عبدنا لقمان الحكمة وهي الفقه في الدين والإصابة في الأمور ورأسها مخافة الله تعالى بذكره وشكره الذي هو طاعته في عبادته وتوحيده فيها. وقوله: {أَنِ (1) اشْكُرْ لِلَّهِ} أي وقلنا له اشكر الله خالقك ما أنعم به عليك بصرف تلك النعم فيما يرضيه عنك ولا يسخطه عليك. وقوله تعالى {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ومن شكر الله بطاته فإن ثمرة الشكر وعائدته للشاكر نفسه بحفظ النعمة والزيادة فيها أما الله فإنه غني بذاته محمود بفعاله فلا يفتقر إلى خلقه في شيء إذ هم الفقراء إليه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ} أي واذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين قول لقمان لابنه وأخص الناس به وهو ينهاه عن الشرك الذي نهيتكم أنا عنه فغضبتم وأصررتم عليه عناداً ومكابرة فقال له: بما أخبر به تعالى عنه في قوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ (2) وَهُوَ يَعِظُهُ} أي يأمره وينهاه مرغباً له في الخير مرهبا له من الشر: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ} أي في عبادته أحدا. وعلل لنهيه ليكون أوقع في نفسه فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ (3) عَظِيمٌ} والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ويترتب عليه الفساد والخسران الكبير، وعبادة غير الله وضع لها في غير موضعها إذ العبادة حق الله على عباده
__________
1 - وجائز أن تكون أن التفسيرية أي مفسرة للفظ الحكمة بأنها الشكر لله تعالى وهي أقوال ألقيت إليه بإلهام ففي الحكمة معنى القول دون حروفه. كما فسرت (حاجة) في قول الشاعر لأنها بمعنى القول:
إن تحملا حاجة لي خف محملها
تستوجبا منه عندي بها ويدا
أن تقرآن على أسماء ويحكما
مني السلام وأن لا تخبرا أحدا
2 - قيل كان اسم ابنه ثاران وقيل مشكم وقيل أنعم والله أعلم.
3 - روى مسلم " أنه لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .(4/204)
مقابل خلقهم ورزقهم وكلاءتهم في حياتهم وحفظهم وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الِْإنْسَانَ (1) بِوَالِدَيْهِ} أي عهدنا إلى الإنسان آمرين إياه ببرِّ والديه أي أمه وأبيه، وبرّهما بذل المعروف لهما وكف الأذى عنهما وطاعتهما (2) في المعروف، وقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ} أي الإنسان {أُمُّهُ} أي والدته {وَهْناً عَلَى (3) وَهْنٍ} أي ضعفاً على ضعف وشدة على أخرى وهي آلام وأتعاب الحمل والطلق والولادة والإرضاع فلهذا تأكد برّها فوق بر الوالد مرتين لحديث الصحيح: "من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك" وقوله {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي فطام الولد من الرضاع في عامين فأول الرضاع ساعة الولادة وآخره تمام الحولين ويجوز فصله عن الرضاع خلال العامين، وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} هذا الموصى به وهو أن يشكر لله تعالى وذلك بطاعته تعالى فيما يأمره به وينهاه عنه، وذكره بقلبه ولسانه وقوله {وَلِوَالِدَيْكَ} إذ هما قدما معروفاً وجميلا فوجب شكرهما، وذلك ببرهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله ورسوله، لأن طاعة الله كشكره قبل طاعة الوالدين وشكرهما وقوله {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي الرجوع بعد الموت وهذه الجملة مؤكدة لواجب شكر الله تعالى وبر الوالدين لما تحمله من الترغيب والترهيب فالمطيع إذا رجع إلى الله أكرمه والعاصي أهانه. وما دام الرجوع إليه تعالى حتميّاً فطاعته بشكره وشكر الوالدين متأكدة متعيّنة. وقوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أي وإن جاهداك أيها الإنسان والداك وبذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وهو عامة الشركاء إذ ما هناك من يصح إشراكه في عبادة الله قط. فلا تطعهما في ذلك أبداً، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا (4) } أي في الحياة بالمعروف وهو برهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى ورسوله، وقوله: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أي اتبع طريق من أناب إليّ بتوحيدي وعبادتي والدعوة إليّ
__________
1 - الراجح أن هاتين الآيتين وقعتا اعتراضاً بين كلام لقمان الأول والثاني وأنهما نزلتا في شأن والدة سعد بن أبي وقاص وللاعتراض فائدة وهي التنويع في الأسلوب لإذهاب السآمة وتجديد نشاط الذهن للحفظ والفهم وجائز أن يكون لا اعتراض والآيتان من كلام لقمان.
2 - روي أن الحسن قال لو منعت والدة ولدها من شهود صلاة العشاء شفقة عليه فلا يطعها.
3 - الوهن بإسكان الهاء مصدر وهن يهن من باب ضرب ووهن بفتح والواو والهاء من باب وجل يوجل وجلا. والمعنى أي وهناً واقعاً على وهن كقولهم (عوداً على بدء) أي رجع عوداً على بدء.
4 - نعت لمصدر محذوف تقديره مصاحباً معروفاً. وفي الآية دليل على جواز بر الأم الكافرة أو الأب لحديث أسماء إذ قالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى ووالدة عائشة هي أم رمان قديمة الإسلام.(4/205)
وهو رسول (1) الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص حيث أمرته أمه أن يكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه وذلك قبل إسلامها وبذلت جهداً كبيراً في مراودة ابنها سعد رضي الله عنهما وقوله {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي جميعا فأنبئكم بما كنتم تعملون وأجزيكم بعملكم الخير بالخير والشر بالشر فاتقوني بطاعتي وتوحيدي والإنابة إليّ في كل أموركم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
2- بيان الحكمة وهي شكر (2) الله تعالى بطاعته وذكره إذ لا يشكر إلا عاقل فقيه.
3- مشروعية الوعظ والإرشاد للكبير والصغير والقريب والبعيد.
4- التهويل في شأن الشرك وإنه لظلم عظيم.
5- بيان مدة الرضاع وهي في خلال العامين لا تزيد.
6- وجوب بر الوالدين وصلتهما.
7- تقرير مبدأ لا طاعة لمخلوق (3) في معصية الخالق بعدم طاعة الوالدين في غير المعروف.
8- وجوب اتباع سبيل المؤمنين من أهل السنة والجماعة وحرمة اتباع سبيل أهل البدع والضلالة.
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ
__________
1 - الآية عامة في سائر المؤمنين فعلى كل مؤمن اتباع الصالحين في كل زمان ومكان والاقتداء بهم وعليه مجانبة أهل الضلال والفسق والعصيان وعدم اتباعهم في باطلهم وضلالهم وفسقهم وعصيانهم.
2 - روي أن سفيان بن عيينة قال من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
3 - صح الحديث بلفظ "إنما الطاعة في المعروف" وبلفظ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".(4/206)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
شرح الكلمات:
إنها إن تك مثقال حبة: أي توجد زنة حبة من خردل.
فتكن في صخرة: أي في داخل صخرة من الصخور لا يعلمها أحد.
لطيف خبير: أي لطيف باستخراج الحبة خبير بموضعها حيث كانت.
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر: أي مر الناس بطاعة الله تعالى، انههم عن معصيته.
من عزم الأمور: مما أمر الله به عزماً لا رخصة فيه.
ولا تصعّر خدك للناس: أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبراً.
مرحا: أي مختالا تمشي خيلاء.
مختال فخور: أي متبختر فخور كثير الفخر مما أعطاه الله ولا يشكر.
واقصد في مشيك: أي إتئد ولا تعجل في مشيتك ولا تستكبر.
واغضض من صوتك: أي اخفض صوتك وهو الاقتصاد في الصوت.
إن أنكر الأصوات: أي أقبح الأصوات وأشدها نكارة عند الناس لأن أوله زفير وآخره شهيق.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص لقمان عليه السلام فقال تعالى مخبراً عن لقمان بقوله لابنه ثاران {يَا بُنَيَّ (1) إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ (2) خَرْدَلٍ} أي إن تك زنة حبة من خردل من
__________
1 - تكرير النداء حكمته تجديد نشاط السامع وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنه فاعل تك وكان التي مضارعها تك تامة وقرأ حفص مثقال بالفتح على أن كان ناقصة ومثقال خبرها وقوله إنها أي القصة أو الحالة المسؤول عنها.
2 - روي أن ثاران بن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يقابلها الله؟ فقال لقمان يا بني إنها إن تك مثقال حبة الخ.. فما زال ابنه يضطرب حتى مات قاله مقاتل رحمه الله.(4/207)
خير أو شر من حسنة أو سيئة {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ (1) أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ} ويحاسب عليها ويجزي بها، {إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ} أي باستخراجها {خَبِيرٌ} بموضعها وعليه فاعمل الصالحات واجتنب السيئات وثق في جزاء الله العادل الرحيم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (16) أما الآية الثانية (17) فقد تضمنت أمر ولده بإقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك فقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} أي أدها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} بطاعة الله تعالى فيما أوجب على عباده {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي عما حرم الله تعالى على عباده من اعتقاد أو قول أو عمل. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} من أذى ممن تأمرهم وتنهاهم، وقوله {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي إن إقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذات الله من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليست برخص. وقوله تعالى {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ (2) } هذا مما قاله لقمان لابنه نهاه فيه عن خصال ذميمة محرمة وهي التكبر على الناس بأن يخاطبهم وهو معرض عنهم بوجهه لاو عنقه (3) ، وهي مشية المرح والاختيال والتبختر، والفخر بالنعم مع عدم شكرها وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ (4) فَخُورٍ} هذا مما قاله لقمان لابنه لما نهاه عن التكبر والاختيال والفخر أخبره أن الله تعالى لا يحب من هذه حاله حتى يتجنبها ولده الذي يعظه بها وبغيرها وقوله في الآية (19) {وَاقْصِدْ فِي (5) مَشْيِكَ} أي امش متئداً في غير عجلة ولا إسراع إذ الاقتصاد ضد الإسراف. وقوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أمره أن يقتصد في صوته أيضاً فلا يرفع صوته إلا بقدر الحاجة. كالمقتصد لا يخرج درهمه إلا عند الحاجة وبقدرها وقوله {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ذكر هذه الجملة لينفره من رفع صوته بغير حاجة فذكر له أن أقبح الأصوات صوت الحمير (6) لأنه عالٍ مرتفع وأوله زفير وآخره
__________
1 - قيل إن الصخرة تكون تحت الأرض السابعة لأنها ليست في السماء ولا في الأرض.
2 - الصعر الميل ومنه قول الشاعر:
وكنا إذا الجبار صعر خده
أقمنا له من ميله فتقوم
والصعر كالصّيد داء يصيب الإبل فتلوى منه أعناقها.
3 - شاهده في الحديث الصحيح: "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال"، فقوله ولا تدابروا يشمل تصعير الوجه أي ميله.
4 - المختال ذو الخيلاء قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" والفخور هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى (قاله مجاهد) .
5 - ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا مشي أسرع فإنما أريد به السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت المظهر للمسكنة والذلة.
6 - بالحمار يضرب المثل في البلادة وينهى عن رفع الصوت لغير حاجة حتى لا يكون صوت المتكلم كصوت الحمار الممقوت والحمار إذا نهق فإنه رأى شيطاناً كما في الحديث، وركبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تواضعاً، وقيل نهيق الحمار دعاء عن الظلمة.(4/208)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
شهيق. هذا آخر ما قص تعالى من نبأ لقمان العبد الصالح عليه السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم الاستخفاف بالحسنة والسيئة مهما قلت وصغرت.
2- وجوب إقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يلحق الآمر والناهي من أذى.
3- حرمة التكبر والاختيال في المشي ووجوب القصد في المشي والصوت فلا يسرع ولا يرفع صوته إلا على قدر الحاجة.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
شرح الكلمات:
ألم تروا: أي ألم تعلموا أيها الناس.
سخر لكم ما في السموات: أي من شمس وقمر وكواكب ورياح وأمطار لمنافعكم.
وما في الأرض: أي من أشجار وأنهار وجبال وبحار وغيرها.
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة: أي أوسع وأتم عليكم نعمه ظاهرة وهي الصحة وكمال الخلق تسوية الأعضاء.
وباطنة: أي المعرفة والعقل.
من يجادل في الله: أي يخاصم في توحيد الله منكراً له مكذباً به.
بغير علم: أي بدون علم عنده من وحي ولا هو مستفاد من دليل عقلي.
ولا هدى ولا كتاب منير: أي سنة من سنن الرسل، ولا كتاب إلهي منير واضح بيّن.(4/209)
أو لو كان الشيطان: أي أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم إلى موجب عذاب السعير من الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
عاد السياق بعد نهاية قصة لقمان إلى خطاب المشركين لهدايتهم فقال تعالى {أَلَمْ تَرَوْا} أيها الناس الكافرون بالله وقدرته ورحمته أي ألم تعلموا بمشاهدتكم {أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ} (1) أي من أجلكم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من شمس وقمر وكواكب ومطر، وسخر لكم ما في الأرض من أشجار وأنهار وجبال ووهاد وبحار وشتى الحيوانات ومختلف المعادن كل ذلك لمنافعكم في مطاعمكم ومشاربكم وكل شؤون حياتكم، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ (2) } أي أوسعها وأتمها نعم الإيجاد ونعم الإمداد حال كونها ظاهرة كحسن (3) الصورة وتناسب الأعضاء وكمال الخلق، وباطنة كالعقل والإدراك والعلم والمعرفة وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، ومع هذا البيان والإنعام والاستدلال على الخالق بالخلق وعلى المنعم بالنعم فإن ناساً يجادلوا في (4) توحيد الله وأسمائه وصفاته ووجوب طاعته وطاعة رسوله بغير علم من وحي ولا استدلال من عقل، ولا كتاب منير واضح بين يحتجون به ويجادلون بأدلته.
وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} (5) أي لأولئك المجادلين في الله بالجهل والباطل {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ} أي على رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هدى، قالوا لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وثنية وتقاليد جاهلية، قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي النار المستعرة الملتهبة والجواب لا، ولكن اتبعوهم فسوف يردون معهم النار وئس الورد المورود.
__________
1 - ذكر نعم الله الموجبة لشكره بعبادته وحده وترك عبادة من سواه.
2 - قرأ نافع وحفص نعمه بالجمع وقرأ آخرون بالإفراد نعمته وهي دالة على الجمع لأنها اسم جنس دال على متعدد بدليل قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
3 - عن ابن عباس أن النعم الظاهرة الإسلام وما حسن من الخلق والباطنة ما ستر على العبد من سيء العمل وقيل النعم الظاهرة الصحة وكمال الخلق والباطنة المعرفة والعقل.
4 - قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم أي بغير حجة نزلت في يهودي جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو فجاءت صاعقة فأخذته قاله مجاهد.
5 - هذا عام في اليهودي السائل وفي المشركين الذين طالما سألوا وجادلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجهلهم وتقليد آبائهم وهم من أجهل الناس.(4/210)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تعيين الاستدلال بالخلق على الخالق وبالنعمة على المنعم.
2- وجوب ذكر النعم وشكرها لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- حرمة الجدل بالجهل ودون علم.
4- حرمة التقليد في الباطل والشر والفساد كتقليد بعض المسلمين اليوم للكفار في عاداتهم وأخلاقهم ومظاهر حياتهم.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
شرح الكلمات:
ومن يسلم وجهه إلى الله: أي أقبل على طاعته مخلصا له العبادة لا يلتفت إلى غيره من سائر خلقه.
وهو محسن: أي والحال أنه محسن في طاعته إخلاصاً واتباعاً.
فقد استمسك بالعروة الوثقى: أي تعلق بأوثق ما يتعلق به فلا يخاف انقطاعه بحال.
وإلى الله عاقبة الأمور: أي مرجع كل الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.
نمتعهم قليلاً: أي متاعاً في هذه الدنيا قليلاً أي إلى نهاية آجالهم.
ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ: أي ثم نلجئهم في الآخرة إلى عذاب النار والغليظ:(4/211)
الثقيل.
قل الحمد لله: أي احمد الله على ظهور الحجة بأن تقول الحمد لله.
لا يعلمون: أي من يستحق الحمد والشكر ومن لا يستحق لجهلهم.
معنى الآيات:
بعد إقامة الحجة على المشركين في عبادتهم غير الله وتقليدهم لآبائهم في الشرك والشر والفساد قال تعالى مرغباً في النجاة داعياً إلى الإصلاح: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ} (1) أي يقبل بوجهه وقلبه على ربه يعبده متذللا له خاضعاً لأمره ونهيه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي والحال أنه محسن في عبادته إخلاصاً فيها لله، واتباعاً في أدائها لرسول الله {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي قد أخذ بالطرف الأوثق فلا يخاف انقطاعا أبداً وقوله تعالى: {وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} يخبر تعالى أن مردّ الأمور كلها لله تعالى يقضي فيها بما يشاء فليفوّض العبد أموره كلها لله إذ هي عائدة إليه فيتخذ بذلك له يداً عند ربه، وقوله لرسوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ (2) كُفْرُهُ} أي أسلم وجهك لربك وفوض أمرك إليه متوكلا عليه ومن كفر من الناس فلا يحزنك كفره أي فلا تكترث به ولا تحزن عليه {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي فإن مردهم إلينا بعد موتهم ونشورهم {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} في هذا الدار من سوء وشر ونجزيهم به. {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (3) } أي بما تكنه وتخفيه من اعتقادات ونيّات وبذلك يكون الحساب دقيقاً والجزاء عادلاً. وقوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ (4) قَلِيلاً} أي نمهل هؤلاء المشركين فلا نعاجلهم بالعقوبة فيتمتعون مدة آجالهم وهو متاع قليل {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} بعد موتهم ونشرهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي نلجئهم إلجاءً إلى عذاب غليظ ثقيل لا يحتمل ولا يطاق وهو عذاب النار. نعوذ بالله منها ومن كل عمل يؤدي إليها وقوله تعالى في الآية (25) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين قائلاً لهم: من خلق السموات والأرض لبادروك
__________
1 - أسلم وسلّم بمعنى، إلا أن التضعيف للتكثير وعدي باللام نحو قول أسلمت وجهي لله، وعدي مرة بإلى قال القرطبي معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما أي لله خالصاً له ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه والمراد التوكل عليه والتفويض إليه.
2 - قرأ نافع يحزنك بضم الياء وكسر الزاي يُحزنك وقرأ حفص يحزنك بفتح الياء وضم الزاي يَحزنك فالأولى مضارع أحزنه يحزنه كأعلم يعلمه والثاني مضارع حزنه كنصره ينصره.
3 - الجملة تعليلية لما سبقها من أحكام.
4 - جملة نمتعهم قليلاً مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً يقول ما الذي يترتب على علمه تعالى بذات الصدور فالجواب إنه يمتعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ.(4/212)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
بالجواب قائلين الله إذاً قل الحمد لله على إقامة الحجة عليكم باعترافكم، وما دام الله هو الخالق الرازق كيف يعبد غيره أو يعبد معه سواه أين عقول القوم؟ وقوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون موجب الحمد ولا مقتضاه، ولا من يستحق الحمد ومن لا يستحقه لأنهم جهلة لا يعلمون شيئاً. وقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي خلقا وملكا وعبيداً ولذا فهو غني عن المشركين وعبادتهم فلا تحزن عليكم ولا تبال بهم عبدوا أو لم يعبدوا {إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن كل ما سواه {الْحَمِيدُ} أي المحمود بعظيم فعله وجميل صنعه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان نجاة أهل لا إله إلا الله وهم الذين عبدوا الله وحده بما شرع لهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- بيان أن المشركين من العرب موحدون في الربوبية مشركون في العبادة كما هو حال كثير من الناس اليوم
يعتقدون أن الله رب كل شيء ولا ربّ سواه ويذبحون وينذرون ويحلفون بغيره، ويخافون غيره ويرهبون سواه. والعياذ بالله.
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
شرح الكلمات:
ولو أن ما في الأرض: أي من شجرة.
أقلام: أي يكتب بها.
والبحر: أي المحيط
يمده سبعة أبحر: أي تمده
ما نفدت كلمات الله: أي ما انتهت ولا نقصت.(4/213)
إن الله عزيز حكيم: أي عزيز في انتقامه غالب ما أراده حكيم في تدبير خلقه.
ما خلقكم ولا بعثكم: أي ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم من قبوركم إعادة لكم إلا كخلق وبعث نفس واحدة.
معنى الآيتين:
قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا (1) فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ (2) أَقْلامٌ} أي لو أن شجر الأرض كله قطعت أغصانه شجرة شجرة حتى لم تبق شجرة وبريت أقلاماً، والبحر المحيط صار مدادا ومن ورائه سبعة أبحر أخرى تحولت إلى مداد وتمُد البحر الأول وكتب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله لنفد البحر والأقلام ولم تنفد كلمات الله، وذلك لأن الأقلام والبحر متناهية وكلمات الله غير متناهية فعلم الله وكلامه كذاته وصفاته لا تتناهي بحال، نزلت هذه الآية رداً على اليهود لما قيل لهم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} قالوا وكيف هذا وقد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء. كما نزل رداّ على أبي بن خلف قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ (3) وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ (4) وَاحِدَةٍ} إذ قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يخلقنا الله خلقا جديداً في يوم واحد ليحاسبنا ويجزينا، ونحن خلقنا أطوراً وفي قرون عديدة فأنزل الله تعالى قوله {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} إلا كخلق وبعث نفس واحدة {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (5) } فما يسمع المخلوقات ولا يشغله صوت عن صوت، ويبصرهم ولا تحجبه ذات عن ذات كذلك هو يبعثهم في وقت واحد ولو أراد خلقهم جملة واحدة لخلقهم لأنه يقول للشيء كن فيكون.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان سعة علم الله تعالى وأنه تعالى متكلم وكلماته لا تنفد بحال من الأحوال.
2- بيان أن ما أوتيه الإنسان من علوم ومعارف ما هو بشيء إلى علم الله تعالى.
__________
1 - قيل في سبب هذه الآية المدنية على رأي ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود قالوا: يا محمد كيف عنينا بهذا القول (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء. فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التوراة قليل من كثير ونزلت هذه الآية.
2 - من شجرة من بيانية وفي التعبير بـ لو: دلالة على أن مضمون الكلام افتراضي، ولكن لو كان المفترض لما يخرج عما أخبر تعالى به وهو نفاد الأقلام والمداد وبقاء كلام الله تعالى لأن المراد من الكلمات كلام الله تعالى.
3- في الآية إيجاز بالحذف إذ التقدير ما خلقكم إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة.
4 - ما خلقكم فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
5 - جملة إن الله سميع بصير صالحة لأن تكون تعليلية أو استئنافية بيانية.(4/214)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
1- بيان قدرة الله تعالى وأنها لا تحد ولا يعجزها شيء.
2- إثبات صفات الله كالعزة والحكمة والسمع والبصر.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تعلم أيها المخاطب.
أن الله يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءاً منه في النهار، ويدخل جزاء من النهار في الليل بحسب الفصول.
وسخر الشمس والقمر: يسبحان في فلكيهما الدهر كله لا تكلان إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى لهما.
ذلك بأن الله هو الحق: أي ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير بسبب أن الله هو الإله الحق.
وأن ما يدعون من دونه الباطل: أي وأن ما يدعون من دونه من آلهة هي الباطل.
بنعمت الله: أي بإفضاله على العباد وإحسانه إليهم حيث هيأ أسباب جريها.(4/215)
لكل صبار شكور: أي صبار عن المعاصي شكور للنعم.
وإذا غشيهم موج: أي علاهم وغطاهم من فوقهم.
كالظلل: أي كالجبال التي تظلل من تحتها.
فمنهم مقتصد: أي بين الكفر والإيمان بمعنى معتدل في ذلك ما آمن ولا كفر.
كل ختار كفور: أي غدار كفور لنعم الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال الشرك والكفر قال تعالى {أَلَمْ تَرَ (1) } أي ألم تعلم أيها النبي أن الله ذا الألوهية على غيره {أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} بإدخال جزء منه في النهار {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي بإدخال جزء منه في الليل وذلك بحسب الفصول السنوية {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (2) يسبحان في فلكيهما لمنافع الناس إلى أجل مسمى أي إلى وقت محدد معين عنده سبحانه وتعالى وهو يوم القيامة، وأن الله تعالى بما تعملون خبير، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم صالحها وفاسدها وسيجزيكم بها وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك الإيلاج لليل في النهار والنهار في الليل وتسخير الشمس والقمر، وعلم الله تعالى بأعمال العباد ومجازاتهم عليها قاطع لكل شك بأن الله هو إله الحق، وأن ما يدعون من دونه من أوثان هو الباطل (3) ، وقاطع بأن الله تعالى ذا الألوهية الحقة هو العلي الكبير أي ذو العلو المطلق الكبير الذي ليس شيء أكبر منه إذ هو رب كل شيء ومالكه والقاهر له والمتحكم فيه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ} يا محمد {أَنَّ الْفُلْكَ} أي السفن {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ} تعالى على خلقه حيث يسّر لها أسباب سيرها وجريها في البحر وهي تحمل السلع والبضائع
__________
1 - ألم تر: الاستفهام تقريري بالنسبة إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إنكاري بالنسبة إلى غيره ينكر على أهل الغفلة غفلتهم وأهل الإعراض عن النظر إعراضهم إذ لو نظروا وفكروا لاهتدوا إلى توحيد الله وبعثه عباده للحساب والجزاء يوم القيامة.
2 - قال القرطبي: ذللهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال، وإتماماً للمنافع والآية في تقرير التوحيد بذكر مظاهر علم الله وقدرته وحكمته.
3 - جائز أن يكون المراد بالباطل الشيطان إذ هو الذي زين عبادة الأصنام والأوثان وأمرهم بها فلذا أطلق لفظ الباطل عليه.(4/216)
والأقوات من إقليم إلى إقليم وهي نعم كثيرة. سخر ذلك لكم ليريكم (1) من آياته الدالة على ربوبيته وألوهيته وهي كثيرة تتجلى في كل جزء من هذا الكون. وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} أي علامات ودلائل على قدرة الله ورحمته وحكمته وهي موجبات عبادته وتوحيده فيها، وقوله {لِكُلِّ صَبَّارٍ (2) شَكُورٍ} أي فيها عبر لكل عبد صبور على الطاعات صبور عن المعاصي صبور عما تجري به الأقدار شكور لنعم الله تعالى جليلها وصغيرها أما غير الصبور الشكور فإنه لا يجد فيها عبرة ولا عظة.
وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ (3) } أي إذا غشي المشركين موج وهم على ظهر السفينة فخافوا {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي دعوا الله وحده ولم يذكروا آلهتهم. فلما نجاهم بفضله {إِلَى الْبَرِّ} فلم يغرقوا {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ (4) } أي في إيمانه وكفره لا يُغالي في كفره ولا يعلن عن إيمانه. وقوله {وَمَا يَجْحَدُ (5) بِآياتِنَا} القرآنية والكونية وهي مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لألوهيته {إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ (6) } أي غدار بالعهود {كَفُورٍ} للنعم لا خير فيه البتّة والعياذ بالله تعالى من أهل الغدر والكفر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك بذكر الأدلة المستفادة من مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته.
2- فضيلة الصبر والشكر والجمع بينهما خير من افتراقهما.
3- بيان أن المشركين أيام نزول القرآن كانوا يوحدون في الشدة ويشركون في الرخاء.
__________
1 - من آياته من للتبعيض من بعض آياته ما يشاهدون به مظاهر قدرة الله ولطفه ورحمته. قال الحسن مفتاح البحار السفن ومفتاح الأرض الطرق ومفتاح السماء الدعاء.
2 - صبار صيغة مبالغة كثير الصبر وشكور كذلك كثير الشكر قال بعضهم صبار لقضائه، شكور على نعمائه وما في التفسير أعم وأشمل. روي أن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر.
3 - الظلل جمع ظلة وهو ما أظل من سحاب وجبال وغيرها.
4 - فسر هذا اللفظ بعدة تفسيرات منها موف بما عاهد الله عليه في البحر قال الحسن مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة، وقال مجاهد مقتصد في القول مضمر للكفر وقيل في الكلام حذف والمعنى فمنهم مقتصد ومنهم كافر ودل على المحذوف قوله: (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) . وما في التفسير أشمل وأسلم.
5 - قال القرطبي جحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات إنكار دلائلها.
6 - الختر الغدر وجحود الفضل وفعله ختر كضرب يختر قال عمرو بن معد يكرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير
ملأت يديك من غدر وختر
وقال الأعشى:
بالأبلق الفردي من تيماء منزلة
حصن حصين وجار غير ختار(4/217)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
4- شر الناس الختّار أي الغدار الكفور.
5- ذم الختر وهو أسوأ الغدر وذم الكفر بالنعم الإلهية.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي خافوه فآمنوا به واعبدوه وحده تنجوا من عذابه.
واخشوا يوما: أي خافوا يوم الحساب وما يجري فيه.
لا يجزي والد عن ولده: أي لا يغني والد فيه عن ولده شيئا.
إن وعد الله حق: أي وعد الله بالحساب والجزاء حق ثابت لا محالة هو كائن.
لا تغرنكم الحياة الدنيا: أي فلا تغتروا بالحياة الدنيا فإنها زائلة فأسلموا تسلموا.
ولا يغرنكم بالله الغرور: أي الشيطان يغتنم حلم الله عليكم وإمهاله لكم فيجسركم على المعاصي ويسوفكم في التوبة.
وينزل الغيث: أي المطر.
ويعلم ما في الأرحام: أي من ذكر أو أنثى ولا يعلم ذلك سواه.
ماذا تكسب غداً: أي من خير أو شر والله يعلمه.(4/218)
معنى الآيتين الكريمتين:
هذا نداء عام لكل البشر يدعوهم فيه ربهم تعالى ناصحا لهم بأن يتقوه بالإيمان به وبعبادته وحده لا شريك له وأن يخشوا يوماً عظيماً فيه من الأهوال والعظائم ما لا يقادر قدره بحيث لا يجزي فيه والد (1) عن ولده ولا مولود (2) هو جاز عن والده شيئاً إذ كل واحد لا يريد إلا نجاة نفسه فيقول نفسي نفسي وهذا لشدة الهول يوم لا يغني أحد عن أحد شيئاً ولو كان أقرب قريب، وهو يوم آت لا محالة حيث وعد الله به الناس ووعد الله حق والله لا يخلف الميعاد، ويقول لهم بناء على ذلك {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بملاذها وزخارفها وطول العمر فيها، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} ذي الحلم والكرم {الْغَرُورُ (3) } أي الشيطان من الإنس أو الجن يحملكم على تأخير التوبة ومزاولة أنواع المعاصي بتزيينها لكم وترغيبكم فيها فانتبهوا فإن الموت لا بد منه وقد يأتي فجأة فالتوبة التوبة يا عباد الله هذه نصيحة الرب تبارك وتعالى لعباده فهل من مستجيب؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (33)
أما الآية الثانية (34) فالله جل جلاله يخبر عباده بأنه استقل بعلم الساعة متى (4) تأتي والقيامة متى تقوم وليس لأحد أن يعلم ذلك كائنا من كان وهذه حال تتطلب من العبد أن يعجل التوبة ولا يؤخرها، كما أستقل تعالى بعلم وقت نزول المطر في يوم أو ليلة أو ساعة من ليل أو نهار، ويعلم ما في الأرحام أرحام الإناث من ذكر أو أنثى أو أبيض أو أحمر أو أسود ومن طول وقصر ومن إيمان أو كفر ولا يعلم ذلك سواه ويعلم ما يكسب كل إنسان في غده من خير أو شر أو غنى أو فقر، ويعلم أين تموت كل نفس من بقاع الأرض وديارها ولا
__________
1 - فإن قيل لقد ثبت بالسنة ما ظاهره خلاف هذا فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم "، وقال "من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له حجاباً من النار" فالجواب أن المراد بالآية أن الولد لا يحمل ذنب والده وأن الوالد لا يحمل ذنب ولده، وأما موت الأولاد فأجر المصيبة مع الصبر والاحتساب هو الذي منع الوالد من دخول النار كما أن تربية البنات والإحسان إليهن جعل الله تعالى جزاءه النجاة من النار فليس في الحديث أن الولد يجزي عن والده ولا الوالد يجزي عن ولده.
2 - ولا مولود: مبتدأ وهو ضمير فصل والخبر جاز مرفوع بضمة مقدرة على حرف العلة المحذوف للتخفيف، وذكر الولد والوالد لأنهما أشد شفقة على بعضهما ورحمة وحميّة من غيرهما.
3 - الغرور بالفتح (الفعول) من أمثلة المبالغة أي كثير التغرير بالإنسان وهو الشيطان عليه لعائن الرحمن والغرور الخداع بما ظاهره حسن وباطنه ضرر.
4 - قال مقاتل هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ ولقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا؟ وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى الآية.
5 – روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله عنده علم الساعة الخ الآية.(4/219)
يعلم ذلك إلا الله ولذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مفاتح (1) الغيب خمسة وقرأ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} " في الصحيح.
وقوله إن الله عليم أي بكل شيء وليس بهؤلاء الخمسة فقط خبير بكل شيء من دقيق أو جليل من ذوات وصفات وأحوال وببواطن الأمور كظواهرها وبهذا وجب أن يعبد وحده بما شرع من أنواع العبادات التي هي سلّم النجاح ومرقى الكمال والإسعاد في الدارين.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب تقوى الله عز وجل بالإيمان به وتوحيده في عبادته.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا، والتحذير من الشيطان أي من اتباعه والاغترار بما يزينه ويحسنه من
المعاصي.
4- بيان مفاتح (2) الغيب الخمسة واختصاص الرب تعالى بمعرفتها.
5- كل مدع لمعرفة الغيب من الجن والإنس فهو طاغوت يجب لعنه ومعاداته.
6- ما ادّعي اليوم من أنه بواسطة الآلات الحديثة قد عرف ما في رحم المرأة فهذه المعرفة ليست داخلة في قوله
تعالى {ويعلم ما في الأرحام} لأنها بمثابة من فتح البطن ونظر ما فيه فقال هو كذا وذلك لوجود أشعة عاكسة أما المنفي عن كل أحد إلا الله أن يقول المرء: إن في بطن امرأة فلان ذكراً أو أنثى ولا يقرب منها ولا يجرّبها في ولادتها السابقة، ولا يحاول أن يعرف ما في بطنها بأية محاولة.
__________
1 - في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مفاتح الغيب خمس ثم قرأ (إن الله عنده علم الساعة) الآية وفي رواية أبي هريرة "خمس لا يعلمهن إلا الله" وعلة تسميتها مفاتح الغيب أنها من أمور الناس المغيبة عنهم فإذا وقعت كان وقوعها كفتح مغلق بمفتاح فالإنسان قد يعرف متى يصلي متى يسافر متى يتزوج أما هذه الخمسة فلا علم له بها أبداً حتى يفتح الله بابها ويظهرها.
2 - المفاتح جمع مفتح آلة الفتح والمعنى أن هذه الأمور الخمسة وهي متعلقة بالإنسان لا يظهرها إلى الوجود ولا يفتح مغلقها الغيبي إلا الله جل جلاله إذ بيده مفاتحها.(4/220)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
سورة السجدة
مكية (1)
وآياتها ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
شرح الكلمات:
الم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب آلم، ويقرأ ألف لام ميم.
لا ريب فيه: أي لا شك في أنه نزل من رب العالمين.
أم يقولون افتراه: أي بل أيقولون أي المشركون اختلقه وكذبه.
قوما ما أتاهم من نذير: أي من زمن بعيد وهم قريش والعرب.
لعلهم يهتدون: أي بعد ضلالهم إلى الحق الذي هو دين الإسلام.
في ستة أيام: هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
ثم استوى على العرش: استوى على عرشه يدير أمر خلقه.
__________
1 - وتسمى سورة الم السجدة، وتنزيل السجدة وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلى بها الصبح يوم الجمعة يقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة والسجدة والثانية بالفاتحة وسورة الإنسان كما ورد أنه كان يقرأها مع سورة الملك عند النوم وفي كل منهما ثلاثون آية.(4/221)
من ولي ولا شفيع: أي ليس لكم أيها المشركون من دون الله وليّ يتولاكم ولا شفيع يشفع لكم.
أفلا تتذكرون: أي أفلا تتعظون بما تسمعون فتؤمنوا وتوحدوا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {الم} هذه الحروف المقطعة في فواتح عدة سور الأسلم أن لا تؤول ويكتفى فيها بقول الله أعلم بمراده بها. وقد اخترنا من أقاويل المفسرين أنها أفادت فائدتين: الأولى أنه لما كان المشركون من قريش في مكة يمنعون من سماع القرآن مخافة أن يتأثر به السامع به فيؤمن ويوحد فكانت هذه الحروف تستهويهم بنغمها الخاص فيستمعون فينجذبون ويؤمن من شاء الله إيمانه وهدايته والثانية بقرينة ذكر الكتاب بعدها غالبا: أن هذا القرآن الكريم قد تألف من مثل هذه الحرف الم، طس، حم، ق، فألفوا أيها المكذبون سورة من مثله وإلا فاعلموا أنه تنزيل من الله رب العالمين فلما عجزوا قامت عليهم الحجة ولم يبق شك في أنه تنزيل الله وكتابه أنزله على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ (1) } أي القرآن الكريم {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك (2) في أنه من رب العالمين على محمد صلى لله عليه وسلم وليس بشعر ولا بسجع كهان، ولا أساطير الأولين وقوله تعالى: {أَمْ (3) يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي بل يقولون افتراه محمد واختلقه وأتى به من تلقاء نفسه اللهم لا إنه لم يفتره {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي جاءك من ربك وحياً أوحاه إليك، {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ (4) مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} وهم مشركوا العرب لتنذرهم بأس الله وعذابه إن بقوا على شركهم وكفرهم، وقوله {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا فيهتدوا إلى الحق بعد ضلالهم فينجوا ويكملوا ويسعدوا وقوله: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي من مخلوقات {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من مثل أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة ولذا كانت الجمعة من أفضل الأيام {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} عرشه (5) سبحانه
__________
1 - تنزيل مرفوع بالابتداء والخبر لا ريب فيه، أو خبر على تقدير مبتدأ أي هذا تنزيل أو المتلو عليك تنزيل الكتاب، ويكون لا ريب فيه محل نصب على الحال.
2 - لا ريب فيه لما اشتمل من الإعجاز العلمي حيث عجز الإنس والجن على أن يأتوا بمثله وعجز فصحاء العرب على الإتيان بسورة مثل سوره. ولما عرف به صاحبه الذي نزل عليه وجاء به وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصدق الكامل حيث لم يكذب قط وقد أخبر أنه تنزيل الله رب العالمين.
3 - أم هذه هي المنقطعة ولذا قدرت ببل والاستفهام في التفسير، وصيغة المضارع (يقولون) لاستحضار الحالة الماضية إثارة للتعجب في نفس السامع.
4 - النذير المعلم المخوف بعواقب الشرك والمعاصي والفساد والشر، والقوم الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر يكون كالقوام لهم من نسب أو وطن أو غرض تجمعوا من أجله والمراد بهم عامة العرب في كل ديارهم شمالا وجنوباً وشرقاً وغرباً إذ فقدوا العلم الإلهي منذ قرون عدة.
5 - سئل مالك رحمه الله تعالى عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.(4/222)
وتعالى استوى استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته. الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل وهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه ما للعرب ولا للبشرية كلها من إله غيره، وليس لها من غيره من ولي يتولاها بالنصر والإنجاء إن أراد الله خذلانها وإهلاكها، وليس لها شفيع (1) يشفع لها عنده إذا أراد الانتقام منها لشركها وشرها وفسادها وقوله: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فتعلموا أيها العرب المشركون أنه لا إله لكم إلا الله فتعبدوه وتوحدوه فتنجوا من عذابه وتكملوا وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزل الله ووحيه أوحاه إلى رسوله.
2- إبطال ما كان المشركون يقولون في القرآن بأنه شعر وسجع كهان وأساطير الأولين.
3- بيان الحكمة من إنزال القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الإنذار.
4- بيان الزمان الذي خلق الله فيه السموات والأرض وما بينهما.
5- إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى.
6- تقرير أنه ما للبشرية من إله إلا الله وأنه ليس لها من دونه من وليّ ولا شفيع فما عليها إلا أن تؤمن بالله وتعبده فتكمل وتسعد على عبادته.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ
__________
1 - في نفي الشفيع رد على قول بعضهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله على تقدير أنهم يبعثون يوم القيامة إذ قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله أو في قضاء حوائجهم في الدنيا.(4/223)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)
شرح الكلمات:
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض: أي أمر المخلوقات طوال الحياة.
ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره: أي يوم القيامة حيث تنتهي هذه الحياة وسائر شؤونها.
ألف سنة مما تعدون: أي من أيام الدنيا.
عالم الغيب والشهادة: أي ما غاب عن الناس ولم يروه وما شاهدوه ورأوه.
بدأ خلق الإنسان من طين: أي بدأ خلق آدم عليه السلام من طين.
من سلالة من ماء مهين: أي ذرية آدم من علقة من ماء النطفة.
ثم سواه ونفخ فيه من روحه: أي سوى الجنين في بطن أمه ونفخ فيه الروح فكان حياً كما سوى آدم أيضاً ونفخ فيه من روحه فكان حيا.
والأفئدة: أي القلوب.
قليلا ما تشكرون: أي ما تشكرون الله على نعمة الإيجاد والإمداد إلا شكراً قليلا لا يوازي قدر النعمة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة الإلهية، فقوله تعالى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي أمر المخلوقات {مِنَ السَّمَاءِ} حيث العرش وكتاب المقادير {إِلَى الْأَرْضِ} حيث تتم الحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع، والغنى والفقر والحرب والسلم، والعز والذل فالله تعالى من فوق عرشه يدبر أمر الخلائق كلها في عوالمها المختلفة، وقوله ثم يعرج أي الأمر إليه في يوم كان مقداره ألف (1) سنة مما يعد الناس اليوم من أيام هذه الدنيا. ومعنى {يَعْرُجُ إِلَيْهِ} في يوم
__________
1 - ورد في سورة الحج قوله تعالى {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} وفي هذه الآية {ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} وفي سورة المعارج {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} ، وقد كثرت أقوال أهل التفسير في تحديد هذه الأيام حتى قال ابن عباس أيام سماها الله سبحانه وما أدري ما هي؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم وأحسن ما يقال فيها أن اليوم الذي ذكر في سورة الحج هو عبارة عن الزمان وتقديره عند الله وأن يوم سورة المعارج هو يوم القيامة يوم الحساب وأن هذا اليوم هو آخر أيام الدنيا حيث ينتهي التدبير والتصرف لانقضاء الحياة وهو كما ذكر تعالى.(4/224)
القيامة أي يرد إليه حيث عم الكون الفناء ولم يبق ما يدبر في هذه الأرض لفنائها وفناء كل ما كان عليها. وقوله {ذَلِكَ (1) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب عن الناس وما حضر فشاهدوه أي العالم بكل شيء وقوله {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} : أي الغالب على مراده من خلقه الرحيم بالمؤمنين من عباده، وقوله {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (2) أي أحسن خلق كل مخلوق خلقه أي جوّد خلقه وأتقنه وحسنه. وقوله {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} أي وبدأ خلق آدم من طين وهو الإنسان الأول، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} أي نسل الإنسان {مِنْ سُلالَةٍ} وهي العلقة {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (3) } وهو النطفة، وقوله {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أي سوّى آدم ونفخ فيه من روحه، كما سوّى الإنسان في رحم أمه أي سوى خلقه ثم نفخ فيه من روحه فكان إنساناً حيا، وقوله {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أي القلوب أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا لحاجتكم إلى ذلك لأن حياتكم تتطلب منكم مثل ذلك ومع هذه النعم الجليلة {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (4) } أي لا تشكرون إلا قليلاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جلال الله وعظمته في تدبيره أمر الخلائق.
2- بيان صفات الله تعالى من العلم والعزة والرحمة.
3- بيان كيفية خلق الإنسان ومادة خلقه.
4- شكر العباد - إن شكروا – لا يوازي نعم الله تعالى عليهم.
5- وجوب شكر النعم بالاعتراف بها وذكرها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
__________
1 - ذلك اسم إشارة عائد إلى اسم الجلالة أي ذلك الرب العظيم والإله الحكيم الذي خلق السموات وما بينهما المدبر للملكوت المتصرف في الموجودات هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم المستحق للعبادة والمحبة والخوف دون غيره من سائر المخلوقات.
2 - قرأ نافع وحفص خلقه بصيغة الماضي وقرأ بعضٌ خلقه بإسكان اللام على أنه مصدر خلق يخلق خلقاً وهو بدل اشتمال من كل شيء ومعنى أحسن أتقن وأحكم قال عكرمة: ليست أست القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة.
3 - المهين الممتهن الذي لا يعبأ به.
4 - جائز أن يكون المراد عدم شكرهم مطلقا فهو كناية عن العدم توبيخا لهم وتأنيباً.(4/225)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
شرح الكلمات:
أئذا ضللنا في الأرض: أي غبنا فيها حيث فنينا وصرنا ترابا.
أئنا لفي خلق جديد: أي أنعود خلقا جديدا بعد فنائنا واختلاطنا بالتراب.
بل هم بلقاء ربهم كافرون: أي لم يقف الأمر عند استبعادهم للبعث بل تعداه إلى كفرهم بلقاء ربهم، وهو الذي جعلهم ينكرون البعث.
قل يتوفاكم ملك الموت: أي يقبض أرواحكم ملك الموت المكلف بقبض الأرواح.
ثم إلى ربكم ترجعون: أي بعد الموت، وما دمتم لا تمنعون أنفسكم من الموت سوف لا تمنعونها من الحياة فرجوعكم حتمي لا محالة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة فأخبر تعالى عن منكري البعث فقال {وَقَالُوا (1) } أي منكروا البعث الآخر {أَإِذَا ضَلَلْنَا (2) فِي الْأَرْضِ} أي غبنا فيها بحيث صرنا ترابا فيها {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي لعائدون في خلق جديد. وهذا منهم إنكار للبعث واستبعاد له، فقال تعالى مخبراً عن علة إنكارهم للبعث وهي أنهم بلقاء (3) ربهم كافرون إذ لو كانوا يؤمنون بلقاء الله الذي وعدهم به لما أنكروا البعث والحياة لذلك، وقوله تعالى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين للبعث ولقاء الرب تعالى: يتوفاكم عند نهاية آجالكم {مَلَكُ الْمَوْتِ (4) } الذي وكله ربّه بقبض أرواحكم، {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} بعد ذلك وما دمتم لا تدفعون الموت عن أنفسكم فكيف تدفعون الحياة عندما يريدها الله منكم؟ وهل دفعتموها عندما كنتم عدماً فأوجدكم الله وأحياكم.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
__________
1 - الجملة استئناف لحكاية عقيدتهم في إنكار البعث والجزاء ليعلل لها بالعلة المناسبة ثم يقرر عقيدة البعث التي أنكروها وتعجبوا من حقيقتها بما هو لازم لها.
2 - الاستفهام للتعجب والاستبعاد، والضلال الدخول في الأرض والغياب فيها إذ كل ما غاب في شيء ولم يظهر له وجود يقال ضل فيه كما يضل الماء في اللبن والميت في القبر قال الحارث الغساني شعرا:
فآب مضلوه بعين جلية
وغودر وبالجولان حزم ونائل
(مضلوه أي مغيبوه) .
3 - بل هم بلقاء ربهم كافرون، بل للإضراب عن كلامهم أي ليس إنكارهم البعث لاستبعاده واستحالته لوجود الأدلة الواضحة على إمكانه بل وجوبه وإنما الباعث لهم على التكذيب به هو كفرهم التقليدي.
4 - لم يرد اسم ملك الموت في القرآن غير أن أهل السنة على أسمه عزرائيل بمعنى عبد الله.(4/226)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
2- الذنب الذي هو سبب كل ذنب هو الكفر بلقاء الله تعالى.
3- بيان أن لقبض الأرواح ملكاً وله أعوان من الملائكة وأن الأرض جعلت لملك الموت كالطست بين يديه يتناول منها ما يشاء.
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
شرح الكلمات:
إذ المجرمون: أي المشركون المكذبون بلقاء ربهم.
ناكسوا رؤوسهم: أي مطأطئوها من الحياء والذل والخزي.
ربنا أبصرنا: أي ما كنا ننكر من البعث.
وسمعنا: أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا.
فارجعنا: أي إلى دار الدنيا.
لآتينا كل نفس هداها: أي لو أردنا هداية الناس قسراً بدون اختيار منهم لفعلنا.
ولكن حق القول مني: أي وجب وهو لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين.
إنا نسيناكم: أي تركناكم في العذاب.
عذاب الخلد: أي العذاب الخالد الدائم.
بما كنتم تعملون: من سيئات الكفر والتكذيب والشر والشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها وما يجري للمكذبين(4/227)
بها في الدار الآخرة قال تعالى {وَلَوْ تَرَى (1) } يا رسولنا {إِذِ الْمُجْرِمُونَ} وهم الذين أجرموا على أنفسهم فدنسوها بالشرك والمعاصي الحامل عليها التكذيب بلقاء الله، {نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} أي مطأطئوها خافضوها عند ربهم من الحياء والخزي الذي أصابهم عند البعث. لرأيت أمراً فظيعا لا نظير له. وقوله تعالى {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا (2) وَسَمِعْنَا} هذا قول الجرمين وهم عند ربهم أي يا ربنا لقد أبصرنا ما كنا نكذب به من البعث والجزاء وسمعنا منك أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا. {فَارْجِعْنَا} أي إلى دار الدنيا {نَعْمَلْ (3) صَالِحاً} أي عملا صالحا {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي الآن ولم يبق في نفوسنا شك بأنك الإله الحق، وبأن لقاءك حق، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا (4) لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وذلك لما طالب المجرمون بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحاً فأخبر تعالى أنه ما هناك حاجة إلى ردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويعملوا الصالحات، إذ لو شاء هدايتهم لهداهم قسراً منهم بدون اختيارهم، ولكن سبق أن قضى بدخولهم جهنم فلابد هم داخلوها وهو معنى قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} أي وجب العذاب لهم وهو معنى قوله {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} أي الجن {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي من كفار ومجرمي الجن والإنس معا.
وقوله {فَذُوقُوا} أي العذاب الخزي {بِمَا نَسِيتُمْ (5) } أي بسبب نسيانكم {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحاً إنا نسيناكم وتركناكم في العذاب. {وَذُوقُوا (6) عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك والمعاصي هذا يقال لهم وهم في جهنم تبكيتاً لهم وتقريعاً زيادة في عذابهم، والعياذ بالله من عذاب النار.
__________
1 - الخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشرفه وأمته تابعة له والمعنى ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب العجاب من ذلتهم وخزيهم وندامتهم.
2 - هذا مقول قول محذوف بعد ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين ربنا الخ
3 - هذا كقولهم في آية: {أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} .
4 - هذه الجمل اعتراضية بين قوله أبصرنا وقوله فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا وقوله ولو شئنا لآتينا الخ. رد عليهم حيث طلبوا العودة إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحدوا.
5 - النسيان يكون بمعناه الأصلي وهو عدم ورود الشيء بالخاطر النفسي ويكون بترك الشيء وعدم الالتفات إليه مع ذكره في النفس والآخر أولى بالآية.
6 - قد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوماً لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم قال الشاعر:
فذق هجرها إن كنت تزعم أنها
فساد ألا يا ربّما كذب الزعم
فأطلق الذوق على الهجر وهو غير مطعوم ولكنه محسوس بالنفس.(4/228)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالإجرام والمجرمين وبيان حالهم يوم القيامة.
2- بيان عدم نفع الإيمان عند معاينة العذاب.
3- بيان حكم الله في امتلاء جهنم من كل من مجرمي الإنس والجن.
4- تقرير حكم السببية فالأعمال سبب للجزاء خيراً كان أو شراً.
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
شرح الكلمات:
إذا ذكروا بها: أي وعظوا بما فيها من أمر ونهي ووعد ووعيد.
خروا سجداً: وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على الأرض.
وسبحوا بحمد ربهم: أي نزهوه وقدسوه وهم ساجدون يقولون سبحان ربي الأعلى.
وهم لا يستكبرون: أي عن عبادة ربهم في كل أحايينهم بل يأتونها خاشعين متذللين.
تتجافى جنوبهم: أي تتباعد عن الفرش من أجل قيامهم للصلاة في جوف الليل.
خوفاً وطعما: أي يسألونه النجاة من النار، ودخول الجنة.(4/229)
ما أخفي لهم من قرة أعين: أي لا تعلم نفس ما أخفى الله تعالى لهم وادخر لهم عنده من النعيم الذي تقر به أعينهم أي تسر به وتفرح.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وهم المكذبون بآيات الله ولقائه ذكر جزاء المؤمنين وهم الذين آمنوا بآيات الله ولقائه ذكرهم بأجمل صفاتهم فقال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ (1) بِآياتِنَا} حق الإيمان {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} أي قرئت عليهم وكانت من الآيات التي فيها السجدات {خَرُّوا (2) سُجَّداً} أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباهم وأنوفهم على التراب، {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي نزهوه وقدسوه أثناء سجودهم بقولهم سبحان ربي الأعلى، والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة الله مطلقاً بل يأتونها متذللين خاشعين.
وقوله {تَتَجَافَى (3) جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} هذه بعض صفاتهم أيضا وهي أنهم يباعدون جنوبهم عن فرشهم في الليل لصلاة التهجد. وقوله {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي في حال صلاتهم وفي غيرها وهو دعاء تميّز بخوفهم من عذاب ربهم وطمعهم في رحمته فهم يسألون ربهم النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} هذا وصف آخر لهم وهو أنهم يتصدقون بفضول أموالهم زيادة على أداء الزكاة كتهجدهم بالليل زيادة على الصلوات الخمس.
وقوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ (4) نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ (5) لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} يخبر تعالى عن جزائهم عنده فيقول: فلا تعلم نفس ما خبّأ الله تعالى لهم من النعيم المقيم الذي تقر به أعينهم أي
__________
1 - في الآيات تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يجده من إعراض المشركين المكذبين بالبعث والجزاء في الدار الآخرة والقائلين: أم يقولون افتراه فأعلمه إنما يؤمن مَن ذكرهم بصفاتهم، والقصر إضافي والمراد من الآيات آيات القرآن الكريم.
2 - الخرور الهوي من علو إلى أسفل والسجود وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.
3 - الجملة حال من الموصول والتجافي التباعد والمتاركة، والمضاجع جمع مضجع الفراش والجنب جمع جَنب، والمراد تباعدهم عن فرشهم لقيام الليل، ومن صلى العشاء في جماعة والصبح في جماعة تناوله الوصف، وشاهد التجافي قول عبد بن رواحة رضي الله عنه بمدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إ
ذا استثقلت بالمشركين المضاجع
4 - هذا كقول الرجل: هذا لا يعلمه إلا الله، وقرة الأعين كناية عن السرور وعظيم الفرح.
5 - قرأ الجمهور ما أخفي بصيغة الماضي المجهول، وقرأ غيرهم أخفي بالمضارع المعلوم.(4/230)
تُسر وتفرح وقوله {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جزاهم بذلك النعيم بعملهم الخيري الإسلامي الذي كانوا في الدنيا يعملونه وقد ذكر بعضه في الآيات قبل كالصلاة والصدقات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة التسبيح في الصلاة وهو سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود.
2- ذم الاستكبار وأهله ومدح التواضع لله وأهله.
3- فضيلة قيام الليل وهو المعروف بالتهجد (1) والدعاء خوفاً وطمعاً.
4- بشرى المؤمنين الصادقين من ذوي الصفات المذكورة في الآيات وهو أنه تعالى [أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الحديث أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين (2) رأت] الخ.
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ
__________
1 - روى الترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآية.
2 - في الصحيح قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".(4/231)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
شرح الكلمات:
أفمن كان مؤمناً: أي مصدقا بالله ورسوله ولقاء ربه.
كمن كان فاسقا: أي كافراً لا يستوون.
جنات المأوى نزلاً: النزل ما يعد للضيف من قرى.
من العذاب الأدنى: أي عذاب الدنيا من مصاب القحط والجدب والقتل والأسر.
العذاب الأكبر: هو عذاب الآخرة في نار جهنم.
لعلهم يرجعون: أي يصيبهم بالمصائب في الدنيا رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا.
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها: لا أحد أظلم منه أبدا.
إنا من المجرمين منتقمون: أي من المشركين أي بتعذيبهم أشد أنواع العذاب.
معنى الآيات:
قوله تعالى {أَفَمَنْ (1) كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} أي كافرا ينفي تعالى استواء الكافر مع المؤمن فلذا بعد الاستفهام الإنكاري أجاب بقوله تعالى: {لا يَسْتَوُونَ} ثم بين تعالى جزاء الفريقين وبذلك تأكد بُعد ما بينهما فقال {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ربّاً وإلهاً وبمحمد نبياً ورسولا وبالإسلام شرعا وديناً {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بأداء الفرائض والنوافل في الغالب بعد اجتناب الشرك والمحارم {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً (2) } أي ضيافة لهم {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وأما الذين فسقوا عن أمر الله فلم يوحدوا ولم يطيعوا فعاشوا على الشرك والمعاصي حتى ماتوا {فَمَأْوَاهُمُ (3) النَّارُ} أي مقرهم ومحل مثواهم وإقامتهم لا يخرجون {كُلَّمَا أَرَادُوا} أي هموا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها من قبل الزبانية تدفعهم عن أبوابها، {وَقِيلَ لَهُمْ} إذلالا لهم وإهانة {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إذ كانوا مكذبين بالبعث والجزاء وقالوا {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} .
__________
1 - الاستفهام إنكاري وفيه معنى التعجب والمراد بالفاسق هنا الكافر لمقابلة المؤمن وفسقه بترك عبادة ربه وعبادة الأوثان والأصنام.
2 - النزل بضمتين مشتق من النزول وهو ما يعد للضيف النازل بك من قرى وهو الطعام والشراب والفراش.
3 - المأوى مكان الإيواء أي الرجوع إليه والاستقرار فيه.(4/232)
وقوله تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} وهو عذاب الدنيا بالقحط والغلاء والقتل والأسر {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} وهو عذاب يوم القيامة {لَعَلَّهُمْ (1) يَرْجِعُون} يخبر تعالى أنه فاعل ذلك بكفار قريش لعلهم يتوبون إلى الإيمان والتوحيد فينجوا من العذاب وينعموا في الجنة وفعلاً قد تاب منهم كثيرون وقوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ (2) عَنْهَا} أي وعظ بها وخوِّف كما كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ عليهم القرآن وكان بعضهم يعرض عنها فلا يسمعها ويرجع وهو مستكبر والعياذ بالله فمثل هؤلاء لا أحد أشد منهم ظلما وقوله تعالى {إِنَّا مِنَ (3) الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} يخبر تعالى أنه لا محالة منتقم من أهل الإجرام وهم أهل الشرك والمعاصي، وورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر ثلاثة أصناف من أهل الإجرام الخاص وهم:
1) من اعتقد "عقد" لواء في غير حق أي حمل راية الحرب على المسلمين وهو مبطل غير محق.
2) من عق والديه أي آذاهما بالضرب ونحوه ومنعهما برهما ولم يطعهما في معروف.
3) من مشى مع ظالم ينصره رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان خطأ من يسوي بين المؤمن والكافر والبار والفاجر والمطيع والفاسق.
2- بيان جزاء كل من المؤمنين والفاسقين.
3- بيان أن الله تعالى كان يأخذ قريشاً بألوان من (4) المصائب لعلهم يتوبون.
4- بيان أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات الله فيعرض عنها مستكبراً جاحداً معانداً.
__________
1 - الجملة استئنافها بياني جواباً لمن قال لم يذيقهم العذاب الأدنى وهو عذاب الدنيا! دون العذاب الأكبر؟ فكان الجواب: لعلهم يرجعون وهو تعليل للحكم السابق.
2 - عطف الإعراض على التذكير بالآيات بثُم للدلالة على التراخي بين زمن التذكير والإعراض كقول الشاعر:
لا يكشف الغماد إلا ابن حره
يرى غمرات الموت ثم يزورها
3 - الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً فهو جواب لمن تساءل عن جزاء صاحب الإعراض بعد التذكير بالآيات وهو قوله تعالى إنا من المجرمين منتقمون.
4 - من ذلك سنوات الجدب التي أكلوا فيها العهن وأصبح أحدهم يرى السماء وكأنها دخان من شدة الجوع.(4/233)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
شرح الكلمات:
ولقد آتينا موسى الكتاب: أي أنزلنا عليه التوراة.
فلا تكن في مرية من لقائه: أي فلا تشك في لقائك بموسى عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج.
وجعلناه هدى لبني إسرائيل: أي جعلنا الكتاب "التوراة" هدى أي هادياً لبني إسرائيل.
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا: أي وجعلنا من بني إسرائيل أئمة أي قادة هداة يهدون الناس بأمرنا لهم بذلك وإذننا به.
وكانوا بآياتنا يوقنون: أي وكان أولئك الهداة يوقنون بآيات ربهم وحججه على عباده وما تحمله الآيات من وعد ووعيد.
إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة: أي بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين والمشركين والموحدين.
فيما كانوا فيه يختلفون: من أمور الدين.
أو لم يهد لهم: أي أغفلوا ولم يتبيّن.
كم أهلكنا من قبلهم من القرون: أي إهلاكنا لكثير من أهل القرون من قبلهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم لرسلهم.(4/234)
يمشون في مساكنهم: أي يمرون ماشين بديارهم وهي في طريقهم إلى الشام كمدائن صالح وبحيرة لوط ونحوهما.
إن في ذلك لآيات: أي دلائل وعلامات على قدرة الله تعالى وأليم عقابه.
أفلا يسمعون: أي أصمّوا فلا يسمعوا هذه المواعظ والحجج.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى (1) الْكِتَابَ} أي أعطينا موسى بن عمران أحد أنبياء بني إسرائيل الكتاب الكبير وهو التوراة. إذاً فلم ينكر عليك المشركون أن يؤتيك ربك القرآن كما آتى موسى التوراة، وفي هذا تقرير لأصل من أصول العقيدة وهي الوحي والنبوة المحمدية. وقوله {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ (2) } أي فلا تكن يا محمد في شك (3) من لقائك موسى ليلة الإسراء والمعراج فقد لقيه وطلب إليه أن يراجع ربّه في شأن الصلاة فراجع حتى أصبح خمساً بعد أن كانت خمسين وقوله {وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ} أي الكتاب أو موسى كلاهما كان هادياً لبني إسرائيل إلى سبيل السلام والصراط المستقيم. وقوله {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} أي قادة هداة يهدون الناس إلى ربهم فيؤمنون به ويعبدونه وحده فيكملون على ذلك ويسعدون وذلك بأمره تعالى لهم بذلك. وقوله {لَمَّا صَبَرُوا} أي عن أذى أقوامهم (4) ، {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} الحاملة لأمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا {يُوقِنُونَ} أي تأهلوا لحمل رسالة الدعوة بشيئين: الصبر على الأذى واليقين التام بصحة ما يدعون إليه ونفعه ونجاعته وقوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ (5) هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يخبر تعالى رسوله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه سبحانه وتعالى الذي يفصل بين المختلفين من الأنبياء وأممهم، وبين الموحدين والمشركين والسنيين والبدعيين فيحكم بإسعاد أهل الحق وإشقاء أهل الباطل وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه مما يجد في نفسه من خلاف قومه له.
__________
1 - هذا الإخبار استطراد المراد به تسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والفاء في قوله فلا تكن للتفريع.
2 - وجائز أن يكون المعنى فلا تكن في شك من أنك لقيته ليلة الإسراء والمعراج وقيل فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب بالقبول وقيل فلا تكن في شك من أنه سيلقاك من الأذى والتكذيب ما لقيه موسى، وما في التفسير هو الحق.
3 - المرية: الشك والتردد والمقصود من النهي التثبيت كقوله {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء} وليس النهي لطلب ترك الشك إذ لم يكن شك قط.
4 - لما صبروا لما بمعنى حين صبروا عن أذى أقوامهم، وقرأ خلاف الجمهور لما صبروا أي لأجل صبرهم جعلناهم أئمة، فما مصدرية واللام قبلها لام التعليل.
5 - هو ضمير فصل ومعنى يفصل يقضي ويحكم.(4/235)
وقوله {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي أعموا (1) فلم يبيّن لهم إهلاكنا لأمم كثيرة {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ (2) } مارّين بهم في أسفارهم إلى الشام كمدائن صالح، وبلاد مدين، وبحيرة لوط إنا قادرون على إهلاكهم إن أصروا على الشرك والتكذيب كما أهلكنا القرون من قبلهم. وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} أي في إهلاكنا أهل القرون الأولى لما أشركوا وكذبوا دلالات وحججا وبراهين على قدرة الله وشدة انتقامه ممن كفر به وكذب رسوله وقوله {أَفَلا يَسْمَعُونَ (3) } أي أصموا فلا يسمعون هذه المواعظ التي تتلى عليهم فيتوبوا من الشرك والتكذيب فينجوا ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وتأكيد قصة الإسراء والمعراج.
2- الكتاب والسنة كلاهما هاد للعباد إن طلبوا الهداية فيهما.
3- بيان ما تنال به الإمامة في الدين. وهو الصبر وصحة اليقين.
4- كل خلاف كان في هذه الحياة سينتهي بحكم الله تعالى فيه يوم القيامة.
5- في إهلاك الله تعالى للقرون السابقة أكبر واعظ لمن له قلب وسمع وبصيرة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
__________
1 - هذا بناء على أن همزة الاستفهام داخلة على محذوف والاستفهام للإنكار عليهم عدم رؤيتهم مصارع الهالكين من قبلهم وهي واضحة بينة فضمن يهد معنى يبين فلذا عدي باللام ومثله (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) آية الأعراف.
2 - جملة يمشون في محل نصب على الحال.
3 - الاستفهام تقريري مشوب بالتوبيخ واختير لفظ يسمعون لأن أخبار الأمم الهالكة كانت شائعة مستفيضة بينهم فلم لا يسمعون سماع اتعاظ واعتبار.(4/236)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
شرح الكلمات:
أو لم يروا أنا نسوق الماء: أي أغفلوا ولم يروا سوقنا للماء للإنبات والإخصاب فيدلهم ذلك على قدرتنا.
إلى الأرض الجرز: أي اليابسة التي لا نبات فيها.
تأكل منه أنعامهم: أي مواشيهم من إبل وبقر وغنم.
أفلا يبصرون: أي أعموا فلا يبصرون أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على البعث.
متى هذا الفتح: أي الفصل والحكم بيننا وبينكم يستعجلون العذاب.
ولا هم ينظرون: أي ولا هم يمهلون للتوبة أو الاعتذار.
وانتظر إنهم منتظرون: أي وانتظر يا رسولنا ما سيحل بهم من عذاب إن لم يتوبوا فإنهم منتظرون بك موتاً أو قتلاً ليستريحوا منك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح الاجتماعي فيقول تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي أغفل أولئك المكذبون بالبعث والحياة الثانية ولم يروا {أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} (1) ماء الأمطار أو الأنهار {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ (2) } اليابسة التي ما بها من نبات فنخرج بذلك الماء الذي سقناه إليها بتدابيرنا الخاصة {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} وهي إبلهم وأبقارهم وأغنامهم {وَأَنْفُسُهُمْ} فالأنعام تأكل الشعير والذرة وهم يأكلون البر والفول ونحوه {أَفَلا يُبْصِرُونَ} أي أعموا فلا يبصرون آثار قدرة الله على إحياء الموتى بعد الفناء والبلى كإحياء الأرض الجرز فيؤمنوا بالبعث الآخر وعليه يستقيموا في عقائدهم وكل سلوكهم. وقوله {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ (3) إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} حكى تعالى عنهم ما يقولونه للمؤمنين لما يخوفونهم بعذاب الله يقولون لهم متى هذا الفتح أي الحكم والفصل يستعجلون لخفة أحلامهم وعدم إيمانهم.
__________
1 - الرؤية هنا بصرية واختير المضارع نسوق لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ولطفه بعباده ورحمته بهم، وسوق الماء هو بسوق السحاب، والسوق هو إزجاء الماشي من ورائه.
2 - الجرز وصف للأرض التي انقطع نبتها، وهو مشتق من الجرز وهو انقطاع النبت والحشيش إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي، والجرز القطع ولذا سمي السيف القاطع جُرازاً قال الشاعر يصف أسنان ناقته:
تنحّى على الشوك جُرازاً مقضبا
والهرم تدريه إذراءً عجباً
3 - الفتح: النصر والقضاء كانوا إذا قال لهم المؤمنون سيحكم الله بيننا وبينكم يوم القيامة فيثيب المؤمن ويعاقب الكافر يقولون لهم مستهزئين ساخرين متى هذا الفتح أو الحكم.(4/237)
وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم. فقال {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ (1) لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} أي إذا جاء يوم الفتح بيننا وبينكم لا ينفع نفساً كافرة إيمانها عند رؤية العذاب {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي يؤخرون ويمهلون ليؤمنوا ويستغفروا فيتاب عليهم ويغفر لهم إذ سنة الله أن من عاين العذاب لا تقبل توبته. وقوله تعالى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي فأعرض يا رسولنا عن هؤلاء المكذبين {وَانْتَظِرْ} (2) ما سينزل بهم من عذاب {إِنَّهُمْ (3) مُنْتَظِرُونَ} ما قد يصيبك من مرض أو موت أو قتل ليستريحوا منك في نظرهم. كما هم منتظرون أيضا عذاب الله عاجلا أو آجلا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة المقررة لها.
2- استعجال الكافرين العذاب دال على جهلهم وطيشهم.
3- بيان أن التوبة لا تقبل عند معاينة العذاب أو مشاهدة ملك الموت ساعة الاحتضار.(4/238)
سورة الأحزاب
مدنية
وآياتها ثلاث وسبعون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (3)
__________
1 - هذا إجابة لهم ورد عليهم والفتح جائز أن يكون فتح مكة أو يوم بدر أو يوم القيامة إذ هو اليوم الذي يحكم الله تعالى فيه بين عباده.
2 - الانتظار الترقب مشتق من النظر كأنه مضارع أنظره فانتظر وحذف مفعول "انتظر" للتهويل أي انتظر أياماً يكون لك النصر فيها، ويكون الخسران لأعدائك فيها، وفي الأمر بالانتظار إيماء بالبشرى للمؤمنين والوعيد للكافرين.
3 - جملة إنهم منتظرون تعليل للأمر بالانتظار.(4/238)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
شرح الكلمات:
اتق الله: أي دم على تقواه بامتثالك أوامره واجتنابك نواهيه.
ولا تطع الكافرين: أي المشركين فيما يقترحون عليك.
والمنافقين: أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر بما يخوفونك به.
إن الله كان عليما حكيما: أي عليما بخلقه ظاهراً وباطناً حكيما في تدبيره وصنعه.
واتبع ما يوحى إليك من ربك: أي تقيد بما يشرع لك من ربك ولا تلتفت إلى ما يقوله خصومك لك من اقتراحات أو تهديدات.
وتوكل على الله: أي فوض أمرك إليه وامض في ما أمرك به غير مبال بشيء.
معنى الآيات:
لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدأوها بمكة حتى المدينة وهي عروض المصالحة بينه وبينهم بالتخلي عن بعض (1) دينه أو بطرد بعض أصحابه، والمنافقون قاموا بدورهم في المدينة بتهديده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر آلهة المشركين في هذا الظرف بالذات نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ (2) } ناداه ربه تعالى بعنوان النبوة تقريراً لها وتشريفاً له ولم يناده باسمه العلم كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ (3) الْكَافِرِينَ (4) وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي اتق الله فخفه فلا تقبل اقتراح المشركين، ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك إن الله كان وما يزال عليماً بكل خلقه وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة حكيما في تدبيره وتصريفه أمور
__________
1 - هذا من قوله تعالى في سورة الإسراء {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذاً لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا} .
2 - نداؤه تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنوان النبوة تشريف له وتقرير لنبوته وناداه بعنوان الرسالة في موضعين من كتابه وذلك في سورة المائدة. وأمره أن يخبر البشرية كلها بأنه رسول الله إليهم وحدث عنه فوصفه بالرسالة "محمد رسول الله" ولم يناده باسمه العلم لشهرته وعدم الحاجة إليه وحتى لا يدعي أحد أنه هو المعني بهذا الاسم وله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة أسماء كما جاء ذلك في حديث الموطأ: لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب.
3 - الطاعة: العمل بما يأمر به الغير أو يشير به لأجل تحقيق غرض له صالحاً كان أو فاسداً.
4 - سبب نزول هذه الآية أن وفداً جاء من مكة بعد غزوة أحد برئاسة أبي سفيان واجتمعوا بعد أن أمّن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخولهم المدينة بعدد من المنافقين على رأسهم ابن أبي ومعتب بن قشير وطعمة بن أبيرق فسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يترك ذكر آلهة قريش كخطوة في المصالحة فغضب المسلمون وهمّ عمر بقتلهم فنزلت هذه الآية: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} .(4/239)
خلقه وعباده فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك، ولا يمكن أعداءك وأعداءه منك بحال وقوله {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} من تشريعات خاصة وعامة ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة إذ هي طريق فوزك وسلّم نجاحك أنت وأمتك تابعة لك في كل ذلك، وقوله {إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} هذه الجملة تعليلية تحمل الوعد والوعيد إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسناً وفي هذا وعده ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءاً وفي هذا الوعيد. وقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن يتوكل على الله في أمره ويمضي في طريقه منفذاً أحكام ربه غير مبالٍ بالكافرين ولا بالمنافقين، وأعلمه ضمناً أنه كافيه متى توكل عليه وكفى بالله كافياً ووكيلا حافظاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تقوى الله بفعل المأمور به وترك المنهي عنه.
2- حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما تقترحون أو يهددون من أجله.
3- وجوب اتباع الكتاب والسنة والتوكل على الله والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل.
مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)(4/240)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
شرح الكلمات:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه: أي لم يخلق الله رجلا بقلبين كما ادعى بعض المشركين.
تظاهرون منهن أمهاتكم: يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي.
وما جعل أدعياءكم أبناءكم: أي ولم يجعل الدعيَّ ابناً لمن ادعاه.
ذلكم قولكم بأفواهكم: أي مجرد قول باللسان لاحقيقة له فى الخارج فلم تكن المرأة أماً ولا الدعي ابنا.
هو أقسط عند الله: أي أعدل.
فإخوانكم في الدين ومواليكم: أي أخوة الإسلام وبنو عمكم فمن لم يعرف أبوه فقولوا له: يا أخي أو ابن عمي.
ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به: أي لا حرج ولا إثم في الخطأ، فمن قال للدعي خطأ يا ابن فلان فلا إثم عليه.
ولكن ما تعمدت قلوبكم: أي الإثم والحرج في التعمد بأن ينسب الدعي لمن ادعاه.
وكان الله غفوراً رحيماً: ولذا لم يؤاخذكم بالخطأ ولكن بالتعمد.
معنى الآيات:
لما كان القلب محط العقل والإدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضاً يؤدي إلى الفساد في حياة الإنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان لما شاهدوا من ذكائة ولباقته وحذقه وغره ذلك فقال إن لي قلبين أعقل بهما أفضل من عقل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت الآية رداً عليه قال تعالى {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ (1) مِنْ قَلْبَيْنِ (2) فِي جَوْفِهِ} وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه وطاعة الله وطاعة
__________
1 - يروى أنه لما انهزمت قريش يوم بدر رأى أبو سفيان جميل بن معمر المدعي أن له قلبين رآه منهزماً وإحدى نعليه في رجله والآخر في يده، فسأله أبو سفيان ما حال الناس؟ قال انهزموا فقال له ما بال أحد نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت فانفضح في دعواه.
2 - القلب بضعة لحم صغيرة على هيئة (صنوبرة) خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم، وهو بين لمتين لمة من الملك ولمة من الشيطان، وهو محل العلم ومحل الخطرات والوساوس ومحل الصدق واليقين ومحل الشك والكذب، ومحل الانزعاج والطمأنينة فسبحان الله الخلاق العليم.(4/241)
أعدائه، وقوله {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} أي لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر منها أما لمن ظاهر منها كأن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محرّماً للزوجة كالأم فأبطل الله تعالى ذلك وبيّن حكمه في سورة المجادلة، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا.
وقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ (1) أَبْنَاءَكُمْ} أي لم يجعل الله الدعيّ ابنا إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإسلام يطلقون على المتبنى ابناً فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها، وقوله {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} أي ما هو إلا نطق بالفم ولا حقيقة في الخارج له إذ قول الرجل للدعيّ أنت ولدي لم يصيّره ولده وقول الزوج لزوجته أنت كأمي لم تكن أما له. قوله تعالى {وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ} فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم، ولا على الدعيّ لفظ ابن، {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي الأقوم والأرشد سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى في الآية (5) من هذا السياق {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} أي ادعوا الأدعياء لآبائهم أي انسبوهم لهم يا فلان بن فلان. فإن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه. {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} فادعوهم باسم الأخوة الإسلامية فقولوا هذا أخي في الإسلام {وَمَوَالِيكُمْ} أي بنو عمكم فادعوهم بذلك فقولوا يا ابن عمي وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له مولاي {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثم أو حرج {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (2) من قول أحدكم للدعي يا ابن فلان لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد، أو ظنا منكم أنه ابنه وهو في الواقع ليس ابنه ولكن الإثم في التعمد والقصد المعتمد، وقوله {وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي غفورا لمن تاب رحيما لم يعاجل بالعقوبة من عصى لعله يتوب ويرجع.
__________
1 - هذه الآية نزلت في شأن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ تبناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل البعثة النبوية، إذ كان عبداً رقيقاً لخديجة فأهدته لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما جاء أبوه وعرفه طلبه فخيره رسول الله بين الذهاب مع والده والبقاء معه فاختار العبودية على الحرية فتبناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح من يومئذ يعرف بزيد بن محمد حتى نزلت هذه الآية فأبطلت التبني ففي هذا نسخ للسنة بالكتاب.
2 - أخذ عطاء وكثير من العلماء من السلف أخذوا من هذه الآية أنه لا مؤاخذة مع الخطأ من ذلك إذا حلف المرء ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يظن أنه هو فإنه لا يحنث، أو حلف أن لا يفارق غريمه حتى يقضيه دينه فأعطاه دراهم فوجدها زيوفاً لا يحنث، وروى البخاري من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام، كما روي "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر".(4/242)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية.
2- إبطال عادة التبني، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنىّ.
3- وجوب دعاء الدعي المتبنّى بأبيه إن عرف ولو كان حماراً.
4- إن لم يعرف للمدعى أب دعي بعنوان الأخوة الإسلامية، أو العمومة أو المولوية.
5- رفع الحرج والإثم في الخطأ عموما وفيما نزلت فيه الآية الكريمة خصوصاً وهو دعاء الدعي باسم مدعيه سبق لسان بدون قصد، أو بقصد لأنه يرى أنه ابنه وهو ليس ابنه.
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8)
شرح الكلمات:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم: أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أحق به من أنفسهم.
وأزواجه أمهاتهم: في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضي الله عنهن.(4/243)
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض: أي في التوارث من المهاجرين والمتعاقدين المتحالفين.
إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا: بأن توصوا لهم وصيّة جائزة وهي الثلث فأقل.
كان ذلك في الكتاب مسطورا: أي عدم التوارث بالإيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ.
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم: أي اذكر لقومك أخذنا من النبيين ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويدعوا إلى عبادته.
ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم: أي وأخذنا بخاصة منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وقدم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذكر تشريفاً وتعظيماً له.
وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً: أي شديداً والميثاق: العهد المؤكد باليمين.
ليسأل الصادقين عن صدقهم: أي أخذ الميثاق من أجل أن يسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتاً للكافرين بهم.
وأعدّ للكافرين عذاباً أليماً: أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذاباً أليما أي موجعا.
معنى الآيات:
لما أبطل الله تعالى عادة التبني وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح بذلك يدعى زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم (1) في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى أن {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ (2) مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
__________
1 - هذه الأمومة إنما هي في حرمة النكاح والبر والتعظيم والإجلال أما في الإرث فلا كما أنه لا تبيح النظر إليهن والخلوة بهن كالأمهات فلذا ضرب الله الحجاب عليهن قال: وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب.
2 - صح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يصلي على ميت ترك ديناً ولم يترك سداداً فلما فتح الله عليه، قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلي ورثته وقال أيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه، فأكد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفعل والقول هذه الحقيقة.(4/244)
أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلو الشأن ما لم يعط أحداً غيره جزاء له على صبره على ما أخذ منه من بنوّة زيد رضي الله عنه الذي كان يدعى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة.
وقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (1) } يريد في الإرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإسلام وأصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير. وقوله {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراًً} التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} أي إلا أن توصوا بوصيّة جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة (2) فيها، وقوله {كَانَ ذَلِكَ} أي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصية بالثلث لمن أبطل إرثهم بالإيمان والهجرة والمؤاخاة، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطوراً أي مكتوباً مسطراً فلا يحل تبديله ولا تغييره. وقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ (3) مِيثَاقَهُمْ} أي اذكر يا رسولنا لقومك أخذنا الميثاق وهو العهد المؤكد باليمين من النبيين عامة بأن يعبدوا الله وحده ويدعوا أممهم إلى ذلك، ومن أولي العزم من الرسل خاصة وهم أنت يا محمد، ونوح (4) وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} أعيد اللفظ تكراراً لتقريره، وليرتب عليه قوله {لِيَسْأَلَ} تعالى يوم القيامة {الصَّادِقِينَ} (5) وهم الأنبياء {عَنْ صِدْقِهِمْ} في تبليغ رسالتهم تقريعاً لأممهم الذين كفروا وكذبوا. فأثاب المؤمنين {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} أي موجعاً وهو عذاب النار.
__________
1 - أولى ببعض متعلق بالمؤمنين أي أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين وذلك في كتاب الله المتضمن لشرعه وهو القرآن والمتضمن لقضائه وقدره وهو اللوح المحفوظ فبطل التوارث بالإسلام والهجرة والمعاقدة والتحالف وثبت بالولاء والنسب والمصاهرة لا غير.
2 - اختلف في الوصية للكافر من يهودي أو نصراني والراجح أنها إن كانت مودة له ومحبة فإنها لا تجوز إذ مودتهم محرمة وإن كانت لمعنى آخر كإحسان قدمه الكتابي لمسلم فرأى أن يكافئه عليه فأوصى له بشيء إذا مات فلا حرج.
3 - قال القرطبي: أي عهدهم على الوفاء بما حملوا وأن يبشروا بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضاً وما في التفسير شامل لهذا ولغيره مما ذكر فيه.
4 - خص هؤلاء بالذكر تعظيما لهم وتشريفاً ولأنهم أصحاب شرائع وكتب وأولوا العزم من الرسل.
5 - جائز أن يراد بالصادقين الأنبياء عن تبلغيهم ووفائهم بما عهد إليهم وهذا هو الأرجح وجائز أن يسأل الأنبياء عما أجابهم به أقوامهم من طاعة وإيمان أو كفر وعصيان، والحقيقة أن كلا من الرسل والمرسل إليهم يسألهم تعالى، فقد جاء في الأعراف قوله تعالى (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) .(4/245)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه.
2- حرمة نكاح أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنهن أمهات المؤمنين وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالأب لهم.
3- بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإسلام.
4- جواز الوصية لغير الوارث بالثلث فأقل.
5- وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ودعوة الناس إلى ذلك.
6- تقرير التوحيد بأخذ الميثاق به على كافة الأنبياء والمرسلين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14)(4/246)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
شرح الكلمات:
اذكروا نعمة الله عليكم: أي اذكروا نعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك.
جنود: أي جنود المشركين المتحزبين.
ريحا وجنوداً لم تروها: هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق.
بما تعملون بصيراً: أي بصيراً بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة.
إذ جاءوكم من فوقكم: أي بنو أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة.
ومن أسفل منكم: أي من غرب وهم قريش وكنانة.
وإذ زاغت الأبصار: أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع.
وبلغت القلوب الحناجر: أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف.
وتظنون بالله الظنون (1) : أي المختلفة من نصر وهزيمة، ونجاة وهلاك.
هنالك ابتلي المؤمنون: أي ثم في الخندق وساحة المعركة أختبر المؤمنون.
وزلزلوا زلزالاً شديداً: أي حركوا حراكاً قويا من شدة الفزع.
والذين في قلوبهم مرض: أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم.
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا: أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غروراً وباطلا.
يا أهل يثرب لا مقام لكم: أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم.
إن بيوتنا عورة: أي غير حصينة.
إن يريدون إلا فرارا: أي من القتال إذ بيوتهم حصينة.
ولو دخلت عليهم: أي المدينة أي دخلها العدو الغازي.
ثم سئلوا الفتنة: أي ثم طلب إليهم الردة إلى الشرك لآتوها أي أعطوها وفعلوها.
وما تلبثوا بها إلا يسيرا: أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإجابة وارتدوا.
__________
1 - قرأ الجمهور الظنونا جمع ظن بألف بعد النون زيدت هذه النون لرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل مثل الأسجاع. ومن القراء من أثبتها وقفاً وحذفها وصلاً والكل جائز ومثلها في هذه السورة وأطعنا الرسولا، وأضلونا السبيلا.(4/247)
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ (1) جُنُودٌ} الآيات هذه قصة غزوة (2) الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالانقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا وإلهاً وبمحمد نبياً ورسولاً وبالإسلام دينياً وشرعاً {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألبهم عليهم وحزّب أحزابهم حيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما، ولما بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم أمر (3) بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربية علمها من ديار قومه فارس.
وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعاً أي عشرين متراً، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثني عشر ألفاً ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر. وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي:
فقوله تعالى {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} لما (4) جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في
__________
1 - إذ ظرف للزمان الماضي متعلق (بنعمة) لما فيها من الإنعام أي اذكروا ما أنعم الله عليكم وقت مجيء جنود العدو إليكم لقتالكم فهزمهم الله جل جلاله بما شاء من وسائط.
2 - اختلف في السنة التي كان فيها غزوة الأحزاب فقال قوم كانت سنة خمس وقال آخرون كانت سنة أربع وكانت في شوال، وسميت بغزوة الأحزاب لتحزب المشركين على قتال الرسول والمؤمنين فصاروا حزباً واحداً.
3 - روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه وكان كثير الشعر فرأيته يرتجز بكلمات ابن رواحة يقول:
اللهم لولا أنت ما هدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
4 - هي جنود الملائكة الذين كانوا يلقون الرعب في قلوب المشركين حتى تخاذلوا وقرروا العودة إلى بلادهم.(4/248)
سفح السلع أرسلنا عليهم ريحاً وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصرت بالصبا (1) وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربية. وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم ناراً إلا أطفأتها ولا قدراً على الأثافي إلا أراقته، ولا خيمة ولا فسطاطاً إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى {وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإحسان والمسيء بالإساءة.
وقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ} أي المشركون {مِنْ فَوْقِكُمْ} أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة، وقوله {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم (2) . وقوله {وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ} المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب، وهذا تصوير للحال أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيّا.
وقوله تعالى {هُنَالِكَ} أي في ذلك المكان والزمان الذي حدق العدو بكم {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره. وقوله تعالى {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} أي أُزعجوا وحرّكوا حراكا شديداً لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده، وضعف المؤمنين وقلة عددهم، وعامل المجاعة والحصار، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب وقوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُون (3) َ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي النفاق لضعف إيمانهم
__________
1 - قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي لنصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت الشمال إن محوة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وهي الريح الشرقية، (محوة) من أسماء ريح الشمال لأنها تمحو السحاب.
2 - وقيل هذا من باب المبالغة على إضمار كادت أي ارتفعت من أماكنها لشدة الخوف حتى كادت تبلغ الحناجر جمع حنجرة، قال الشاعر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
أي كادت تقطر، والحنجرة والحنجور حرف الحلق أي طرفه.
3 - من بين القائلين طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة قالوا يوم الخندق كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز.(4/249)
{مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ} أي من النصر {إِلَّا غُرُوراً} أي باطلا: وذلك أنهم لما كانوا يحفرون الخندق واستعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى لله عليه وسلم فضربها بالمعول ضربة (1) تصدعت لها وبرق منها بريقٌ أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر المسلمون، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق. فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإيمان {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} إذ قال معتب (2) بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً وخوفاً ما هذا الوعد إلا وعد غرور!!
وقوله {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ (3) } أي من المنافقين؛ وهو أُويس بن قيظي أحد رؤساء المنافقين {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ (4) } أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الاسم لها ويسميها بالمدينة {لا مُقَامَ لَكُمْ} أي في سفح سلع عند الخندق {فَارْجِعُوا} إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هنا دون قتال، وما قال ذلك إلا فراراً من القتال وهروباً من المواجهة، وقوله تعالى {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} أي يطلبون الإذن بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها
__________
1 - تقدم أنه من رواية النسائي "النهر"
2 - لفظ الطائفة يطلق على الواحد فأكثر والمعنى أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي يقول فيه لشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
3 - يثرب هي المدينة وسماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طيبة وطابة قال السهيلي سمى العرب في الجاهلية المدينة يثرب، لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن قهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن آم.
4 - قرأ نافع والجمهور لا مقام بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، وقرأ حفص بضم الميم المقام وهو اسم لمحل الإقامة.(4/250)
وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} أي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلاً: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} المدينة {مِنْ أَقْطَارِهَا} أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب (1) {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} أي طلب منهم العدو الغازي الذي حل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك {لَآتَوْهَا} أعطوها فوراً {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرا} حتى يرتدوا عن الإسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكَّرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله.
2- عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضاً صادقاً لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة.
3- بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألماً وتعباً على المسلمين.
4- بيان أن حسن الظن بالله ممدوح، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق.
5- بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درساً للمؤمنين.
6- تقرير النبوة المحمدية بإخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن.
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ
__________
1 - ثم العطف بها هنا للترتيب الرّتبي، إذ كان مقتضى الظاهر أن يكون العطف بالواو، لأن المذكور بعد حرف العطف داخل في فعل الشرط ووارد عليه جوابها فعدل عن الواو إلى ثم لأجل التنبيه على أن ما بعد ثم أهم من الذي قبلها أي أنهم مع ذلك يأتون الفتنة.(4/251)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (19)
شرح الكلمات:
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل: أي من قبل غزوة الخندق وذلك يوم أحد قالوا: والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نولي الأدبار.
وكان عهد الله مسئولا: أي صاحب العهد عن الوفاء به.
وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً: أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلاً وتموتون.
من ذا الذي يعصمكم من الله: أي من يجيركم ويحفظكم من الله.
إن أراد بكم سوءاًً: أي عذاباً تستاءون له وتكربون.
قد يعلم الله المعوقين منكم: أي المثبطين عن القتال المفشلين إخوانهم عنه حتى لا يقاتلوا مع رسول الله والمؤمنين.
هلم إلينا: أي تعالوا إلينا ولا تخرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا يأتون البأس إلا قليلاً: أي ولا يشهدون القتال إلا قليلاً دفعاً عن أنفسهم تهمة النفاق.
أشحة عليكم: أي بخلاء لا ينفقون على مشاريعكم الخيرية كنفقة الجهاد وعلى الفقراء.
تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت: أي تدور أعينهم من شدة الخوف لجبنهم كالمحتضر الذي يغشى عليه أي يغمى عليه من آلام سكرات الموت.
سلقوكم بألسنة حداد: أي آذوكم بألسنة ذربة حادة كأنها الحديد وذلك بكثرة(4/252)
كلامهم وتبجحهم بالأقوال دون الأفعال.
أشحة على الخير: أي بخلاء بالخير لا يعطونه ولا يفعلونه بل ولا يقولونه حتى القول.
أولئك لم يؤمنوا: أي إنهم لم يؤمنوا الإيمان الصحيح فلذا هم جبناء عند اللقاء بخلاء عند العطاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا (1) اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} أي لقد عاهد أولئك المنافقون الله من قبل غزوة الأحزاب وذلك يوم فروا من غزوة أحد إذ كانت قبل غزوة الأحزاب بقرابة السنتين فقالوا والله لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن ولا نوليّ (2) الأدبار، فذكرهم الله بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم ثم نكثوه، {وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً (3) } أي يسأل عنه صاحبه ويؤاخذ به. وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} أي قل لهم يا رسولنا إنه لن ينفعكم الفرار أي الهروب من الموت أو القتل لأن الآجال محددة ومن لم يمت بالسيف مات بغيره فلا معنى للفرار من القتال إذا وجب وقوله {وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا من الزمن ثم تموتون عند نهاية أعماركم وهي فترة قليلة، فالفرار لا يطيل أعماركم والقتال لا ينقصها، وقوله تعالى {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ (4) رَحْمَةً} أي قل لهم يا رسولنا تبكيتاً لهم وتأنيباً وتعليما أيضا: من (5) ذا الذي يعصمكم أي يجيركم ويحفظكم من الله {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً} أي ما يسوءكم من بلاء وقتل ونحوه {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} أي سلامة وخيراً فليس هناك من يحول دون وصول ذلك إليكم لأن الله تعالى يجير ولا يجار عليه وقوله تعالى {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
__________
1 - ذكر بعضهم أن هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة إذ هموا بالرجوع يوم أحد، وقيل هم من فاتتهم وقعة بدر فقالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن وما في التفسير أرجح لدلالة السياق عليه.
2 - المراد بعهد الله كل عه يعاهد عليه العبد ربه فإنه يجب عليه الوفاء به وإن تركه سئل عنه وحوسب به يوم القيامة.
3 - الأدبار جمع دبر والمراد به الظهر فالأدبار الظهور وتولية الأدبار كناية عن الفرار.
4 - في الكلام محذوف تقديره أو يجرمكم إن أراد بكم رحمة وهذا يعرف بدلالة الاقتضاء إيجازاً للكلام كقول الراعي:
إذا ما الغانيات برزن يوماً
وزججن الحواجب والعيونا
أي وكحلن العيون.
5 - الاستفهام للنفي أي لا أحد يعصمهم مما أراد الله تعالى بهم.(4/253)
دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (1) } أي ولا يجد المخالفون لأمر الله العصاة له ولرسوله من دون الله ولياً يتولاهم فيدفع عنهم ما أراد الله بهم من سوء، ولا نصيراً ينصرهم إذا أراد الله إذلالهم وخذلانهم لسوء أفعالهم، وقوله تعالى في الآية (18) في هذا السياق {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ (2) الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أخبرهم تعالى بأنه قد علم المعوقين أي المثبطين عن القتال والمخذلين بما يقولونه سراً في صفوف المؤمنين كالطابور الخامس في الحروب وهم أناس يذكرون في الخفاء عظمة العدو وقوته ويرهبون منه ويخذلون عن قتاله. وقوله {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي تعالوا إلينا إلى المدينة واتركوا محمداً وأصحابه يموتون وحدهم فإنهم لا يزيدون عن أكلة جزور. وقوله {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} أي لا يشهد القتال ويحضره أولئك المنافقون المثبطون والذين قالوا إن بيوتنا عورة إلا قليلاً إذ يتخلفون في أكثر الغزوات وإن حضروا مرة قتالاً فإنما هم يدفعون به معرة التخلف ودفعا لتهمة النفاق التي لصقت بهم.
وقوله تعالى {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} (3) وصفهم بالبخل بعد وصفهم بالجبن وهما شر صفات المرء أي الجبن والبخل أشحة عليكم أي بخلاء لا ينفقون معكم ولا على الجهاد ولا على الفقراء والمحتاجين وقوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ (4) } أي بسبب هجوم العدو {رَأَيْتَهُمْ} أيها الرسول {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} لائذين بك {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} من الخوف {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وهو المحتضر يغمى عليه لما يعاني من سكرات الموت وهذا تصوير هائل لمدى ما عليه المنافقون من الجبن والخوف وعلة هذا هو الكفر وعدم الإيمان بالقدر والبعث والجزاء.
وقوله {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} أي راحت أسبابه بانتهاء الحرب {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ} أي سلقكم أولئك الجبناء عند اللقاء أي ضربوكم بألسنة ذربة حادة كالحديد بالمطالبة بالغنيمة أو بالتبجح الكاذب بأنهم فعلوا وفعلوا. وهذا حالهم إلى اليوم
__________
1 - المراد بالولي من يتولى نفعهم والنصير من يتولى نصرهم في الحرب.
2 - قد تفيد التحقيق فهي مؤكدة لمضمون الجملة لتطلب المقام ذلك لوجود شك لدى المخاطبين، والمعوقين جمع معوق وهو من يكثر منه العوق وهو المنع من العمل والحيلولة دونه والصيغة صيغة مبالغة نحو طوّف وغلّف وسمّع.
3 - أشحة جمع شحيح والقياس أشحاء لكنهم عدلوا عنه فقالوا أشحة والضمير في عليكم يعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، والشح البخل بما في الوسع اعطاؤه.
4 - الخوف هنا توقع القتال من الجيشين.(4/254)
وقوله {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي بخلاء على مشاريع الخير وما ينفق في سبيل الله فلا ينفقون لأنهم لا يؤمنون بالخلف ولا بالثواب والأجر وذلك لكفرهم بالله ولقائه. ولذا قال تعالى {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواً (1) } فسجل عليهم وصف الكفر ورتب عليه نتائجه وقوله {فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها فلا يثابون عليها لأنها أعمال مشرك وأعمال المشرك باطلة، وقوله {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرا} أي إبطال أعمالهم وتخييبهم فيها وحرمانهم من جزائها يسير على الله ليس بالعسير. ولذ هو واقع كما أخبر تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهد إذ نقض العهد من علامات النفاق.
2- ترك الجهاد خوفاً من القتل عمل غير صالح إذ القتال لا ينقص العمر وتركه لا يزيد فيه.
3- الشح والجبن من صفات المنافقين وهما شر الصفات في الإنسان.
4- الثرثرة وكثرة الكلام والتبجح بالأقوال من صفات أهل الجبن والنفاق.
5- الكفر محبط للأعمال.
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
__________
1 - أولئك أصحاب تلك الصفات الذميمة الصادرة عن قلوب لم يخالطها بشاشة الإيمان فلذا أحبط الله أعمالهم لأنها لم تكن ثمرة إيمان صحيح فلذا هي فاسدة لا تزكي النفس ولا يستحق صاحبها أجرا.(4/255)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25)
شرح الكلمات:
يحسبون الأحزاب لم يذهبوا: أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الأحزاب وهم قريش وغطفان.
لم يذهبوا: أي لم يعودوا إلى بلادهم خائبين.
وإن يأت الأحزاب: أي مرة أخرى فرضاً.
يودوا لو أنهم بادون في الأعراب: أي من جبنهم وخوفهم يتمنون أن لو كانوا في البادية مع سكانها.
يسالون عن أبنائكم: أي إذا كانوا في البادية لو عاد الأحزاب يسألون عن أنبائكم أي أخباركم هل أنهزمتم أو انتصرتم.
ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً: أي ولو كانوا بينكم في الحاضرة ما قاتلوا معكم إلا قليلاً.
أسوة حسنة: أي قدوة صالحة تقتدون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القتال والثبات في مواطنه.
هذا ما وعدنا الله ورسوله: من الابتلاء والنصر.
وصدق الله ورسوله: في الوعد الذي وعد به.
وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً: أي تصديقاً بوعد الله وتسليماً لأمر الله.
صدقوا ما عاهدوا الله عليه: أي وفوا بوعدهم.
فمنهم من قضى نحبه: أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد.
ومنهم من ينتظر: أي ما زال يخوض المعارك مع رسول الله وهو ينتظر(4/256)
القتل في سبيل الله.
وما بدلوا تبديلاً: أي في عهدهم بخلاف المنافقين فقد نكثوا عهدهم.
ورد الله الذين كفروا بغيظهم: أي ورد الله الأحزاب خائبين لم يظفروا بالمؤمنين.
وكفى الله المؤمنين القتال: أي بالريح والملائكة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في سرد أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الذين قالوا إن بيوتنا عورة وقالوا لإخوانهم هلم إلينا أي اتركوا محمداً في الواجهة وحده إنهم لجبنهم ظنوا أن الأحزاب لم يعودوا إلى بلادهم مع أنهم قد رحلوا وهذا منتهى الجبن والخوف وقوله تعالى {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} أي مرة أخرى على فرض وتقدير {يَوَدُّوا} يومئذ {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ (1) فِي الْأَعْرَابِ} أي خارج المدينة لشدة خوفهم من الأحزاب الغزاة، وقوله تعالى {يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ (2) } أي أخباركم هل ظفر بكم الأحزاب أو لا، {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ} أي بينكم ولم يكونوا في البادية {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} وذلك لجبنهم وعدم إيمانهم بفائدة القتال لكفرهم بلقاء الله تعالى وما عنده من ثواب وعقاب هذا ما تضمنته الآية الأولى (20)
وقوله تعالى في الآية الثانية (21) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي (3) رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو (4) اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} أي: لقد كان لكم أيها المسلمون أي: من مؤمنين صادقين ومنافقين كاذبين في رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة أي قدوة صالحة فاقتدوا به في جهاده وصبره وثباته، فقد جاع حتى شد بطنه بعصابة وقاتل حتى شج وجهه وكسرت رباعيته ومات عمه وحفر الخندق بيديه وثبت في سفح سلع أمام العدو قرابة شهر فأتسوا به في الصبر والجهاد والثبات إن كنتم ترجون الله أي تنظرون ما عنده من خير في مستقبل أيامكم في الدنيا والآخرة وترجون اليوم الآخر أي ترتقبونه وما فيه من سعادة
__________
1 - قرئ لو أنهم بُدّىً جمع بادٍ كغازٍٍ وغزّى، يقال بدا فلان يبدوا إذا خرج إلى البادية وهي البداوة والبداوة بالكسر والفتح.
2 - أي هل هلك محمد وأصحابه، أم غلب أبو سفيان وأحزابه؟ أي يودون لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة قتال لفرط جبنهم.
3 - هذه الآية تحمل عتاباً شديدا للمتخلفين عن القتال والأسوة بضم الهمزة قراءة عاصم وبالكسر قراءة الجمهور وهي اسم لما يؤتسى به أي يقتدى: ويعمل مثل عمله وجمع الأسوة أُسى وإسى.
4 - اختلف في الاتساء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل هو على الإيجاب أو الندب أو هو على الإيجاب. حتى يقوم الدليل على الاستحباب أو هو على العكس، والصواب أنه فيما هو واجب واجب وفيما هو مستحب مستحب.(4/257)
وشقاء، ونعيم مقيم أو جحيم وعذاب أليم. وتذكرون الله تعالى كثيرا في كل حالاتكم وأوقاتكم، فاقتدوا بنبيكم فإن الاقتداء به واجب لا يسقط إلا عن عجز والله المستعان.
وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا السياق (22) {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} أي لما رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أحاطب بهم {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ (1) وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ} بخلاف ما قاله المنافقون حيث قالوا {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} وقوله {وَمَا زَادَهُمْ} أي رؤيتهم للأحزاب على كثرتهم {إِلَّا إِيمَاناً} بصادق وعد الله {وَتَسْلِيماً} لقضائه وحكمه، وهذا ثناء عطر على المؤمنين الصادقين من ربهم عز وجل. وقوله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} هذا ثناء آخر على بعض المؤمنين الذين لما تخلفوا عن بدر فتأسفوا ولما حصل انهزام لهم في أحد عاهدوا الله لئن أشهدهم الله قتالا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقاتلن حتى الاستشهاد فأخبر تعالى عنهم بقوله فمنهم من قضى نحبه أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد ومنهم من ينتظر القتل في سبيل الله، وقوله تعالى {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (2) } أدنى تبديل في موقفهم فثبتوا على عهدهم بخلاف المعوقين من المنافقين فإنهم بدلوا وغيروا ما عاهدوا الله عليه وقوله تعالى {لِيَجْزِيَ (3) اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي أجرى تعالى تلك الأحداث فكانت كما قدرها في كتاب المقادير، ليجزي الصادقين بصدقهم فيكرمهم وينعمهم في جواره ويعذب المنافقين بناره إن شاء ذلك فيميتهم قبل توبتهم، أو يتوب عليهم فيؤمنوا ويوحدوا ويدخلوا الجنة مع المؤمنين الصادقين وهو معنى قوله {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} ذلك لهم قضاء وقدراً أو يتوب عليهم فيتوبوا فلا يعذبوا، وقوله {إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه كان ذا ستر على ذنوب التائبين من عباده رحيما بهم فلا يعاقبهم بعد توبتهم.
__________
1 - المراد من الوعد الذي ذكروه هو ما تضمنته آية البقرة {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} الآية أي قوله ألا إن نصر الله قريب كما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبرهم بقدوم الأحزاب عليهم وأن الله ناصرهم عليهم.
2 - في هذه الجملة تعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولون الأدبار ثم ولوا راجعين وعادوا إلى بيوتهم تاركين الرسول والمؤمنين في المواجهة.
3 - الجملة تعليلية أي ثم الذي تم من الوفاء والغدر والصبر والجزع والهزيمة والنصر لعلة أن يجزي الله الصادقين بما يناسب صدقهم وهو المغفرة ويجزي المنافقين بما يناسب نفاقهم.(4/258)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
وقوله تعالى في آخر هذا السياق (25) {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (1) } وهم قريش وكنانة وأسد وغطفان ردهم بغيظهم أي بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئاً مما أمّلوا تحقيقه، وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيراً. وكان الله قوياً على إيجاد ما يريد إيجاده عزيزاً أي غالباً على أمره لا يمتنع منه شيء أراده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.
2- وجوب الائتساء برسول الله في كل ما يطيقه العبد المسلم ويقدر عليه.
3- ثناء الله تعالى على المؤمنين الصادقين لمواقفهم المشرفة ووفائهم بعهودهم.
4- ذم الانهزاميين الناكثين لعهودهم الجبناء من المنافقين وضعاف الإيمان.
5- بيان الحكمة في غزوة الأحزاب، ليجزي الله الصادقين..... الخ.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
شرح الكلمات:
ظاهروهم: أي ناصروهم ووقفوا وراءهم يشدون أزرهم.
من صياصيهم: أي من حصونهم والصياصي جمع صيصيّة وهي كل ما يمتنع به.
وقذف في قلوبهم الرعب: أي ألقى الخوف في نفوسهم فخافوا.
وأرضاً لم تطأوها: أي لم تطأوها بعد وهي خيبر إذ فتحت بعد غزوة الخندق.
__________
1 - روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قوله تعالى {ورد الله الذين كفروا بغيظهم} قالت: أبو سفيان بن حرب وعيينة بن بدر.(4/259)
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ (1) مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} هذا شروع في ذكر غزوة بني قريظة إذ كانت بعيد غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة في آخر شهر ذي القعدة وخلاصة الحديث عن هذه الغزوة أنه لما ذهب الأحزاب وعاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون إلى المدينة وكان بنو قريظة قد نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب من المشركين عونا لهم على رسول الله والمؤمنين فلما ذهب الأحزاب وانصرف الرسول والمؤمنون من الخندق إلى المدينة فما راع الناس إلا ومنادي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينادي إلى بني قريظة فلا يصلين أحدكم العصر إلا ببني قريظة وهي على أميال من المدينة وذلك أن جبريل أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظهر ذلك اليوم فقال يا رسول الله وضعت السلاح إن يأمرك بالسير إلى بني قريظة فقام رسول الله وأمر مناديا أن ينادي بالذهاب إلى بني قريظة وذهب رسول الله والمسلمون فحاصروهم قرابة خمس وعشرين ليلة وجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم رسول الله أتنزلون على حكمي فأبوا فقال أتنزلون على حكم سعد بن معاذ (2) ؟ فقالوا نعم فحكمه فيهم فحكم بأن يقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال، فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقرراً للحكم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع السموات. فحبسهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار بنت الحارث من نساء بني النجار وخرج إلى سوق المدينة فحفر فيها خندقاً ثم جيء بهم وفيهم حيي بن أخطب الذي حزبّ الأحزاب وكعب بن أسيد رئيس بني قريظة، وأمر علياً والزبير بضرب أعناقهم وطرحهم في ذلك الخندق.
وبذلك انتهى الوجود اليهودي المعادي بالمدينة النبوية. والحمد لله.
فقوله تعالى {وَأَنْزَلَ} أي الله تعالى بقدرته {الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي ظاهروا الأحزاب وكانوا عونا لهم على الرسول والمؤمنين وهم يهود بني قريظة {مِنْ صَيَاصِيهِمْ (3) } أي أنزلهم من حصونهم الممتنعين بها، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ولذا
__________
1 - المظاهرون بفتح الهاء هم قريش وكنانة وغطفان والمظاهرون لهم هم بنو قريظة من أهل الكتاب.
2 - كان سعد رضي الله عنه قد أصابه سهم في غزوة الخندق فوضعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خيمة بالمسجد ليتمكن من زيارته وكان رضي الله عنه لما أصابه السهم دعا الله تعالى: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها وإن كنت أنهيت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله تعالى له وحكمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم فحكم عليهم بأن يقتل مقاتليهم وتسبى نساؤهم وذراريهم.
3 - الصياصي واحدها صيصة، والمراد حصونهم التي يتمنعون بها. قال الشاعر:
فجئت إليه والرماح تنوشه
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
والصيصة: شوكة الحائك وصياصي البقر قرونها لأنها تتمنع بها.(4/260)
قبلوا التحكيم فحكم فيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بقتل المقاتلة من الرجال وسبي النساء والذراري وهو معنى قوله تعالى {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} وهم الرجال {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وهم النساء والأطفال، وقوله {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} الزراعية {وَدِيَارَهُمْ} السكنية {وَأَمْوَالَهُمْ} الصامتة والناطقة وقوله {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} أي أورثكم أرضاً لم تطئوها بعد وهي أرض خيبر (1) حيث غزاهم رسول الله في السنة السادسة بعد صلح الحديبية وفتحها الله عليهم وقوله {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} تذييل المراد به تقرير ما أخبر تعالى به (2) من نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عاقبة الغدر فإن بني قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن
آخرهم ولم يبق إلا الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.
2- بيان صادق وعد الله إذ أورث المسلمين أرضاً لم يكونوا قد وطئوها وهي خيبر والشام والعراق وفارس
وبلاد أخرى كبيرة وكثيرة.
3- تقرير أن قدرة الله لا تحد أبداً فهو تعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
__________
1 - وقال مقاتل هي خيبر إذ لم يكونوا قد نالوها بعد فوعدهم الله إياها وقال الحسن فارس والروم، وقال عكرمة كل أرض تفتح إلى يوم القيامة والكل صالح ومقبول، وما في التفسير أقرب لأنها أرض اليهود فالسياق ساعد على أنها أرض خيبر، وقال صاحب التحرير إنها أرض بني النضير لأنهم ما فتحوها عنوة فلم تطأها حوافر الخيل ولا أقدام الأبطال.
2 - وفيه الإيحاء ببشرى فتوحات تعقب هذا الفتح.(4/261)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30)
شرح الكلمات:
قل لأزوجك: أي اللائي هن تحته يومئذ وهن تسع طلبن منه التوسعة في النفقة عليهن ولم يكن عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوسع به عليهن.
فتعالين: أي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يومئذ قد اعتزلهن شهرا.
أمتعكن: أي متعة الطلاق المشروعة على قدر حال المطلق سعة وضيقا.
أسرحكن سراحا جميلا: أي أطلقكن طلاقاً من غير إضرار بكن.
تردن الله ورسوله والدار الآخرة: أي تردن رضا الله ورسوله والجنة.
فإن الله أعد للمحسنات: أي عشرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيادة على الإحسان العام.
بفاحشة مبينة: أي بنشوز وسوء خلق يتأذى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يضاعف لها العذاب ضعفين: أي مرتين على عذاب غيرهن ممن آذين أزواجهن.
وكان ذلك على الله يسيراً: أي مضاعفة العذاب يسيرة هينة على الله تعالى.
معنى الآيات:
شاء الله تعالى أن يجتمع نساء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأين نساء الأنصار والمهاجرين قد وُسّع عليهن في النفقة لوجود يسر وسعة رزق بين أهل المدينة، أن يطالبن بالتوسعة في النفقة عليهن أسوة بغيرهن وكن يومئذ تسعا وهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أمية، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجورية بنت الحارث المصطلقية، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضريّة فأبلغت عائشة ذلك رسول الله صلى(4/262)
الله عليه وسلم فتأثر لذلك، لعدم القدرة على ما طُلب منه وقعد في مشربة له واعتزلهن شهراً كاملا حتى أنزل الله تعالى آية التخيير وهي هذه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ (1) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} من لذيذ الطعام والشراب وجميل الثياب وحلي الزينة ووافر ذلك كله فتعالين إلى مقام الرسول الرفيع {أُمَتِّعْكُنَّ} المتعة المشروعة في الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي أطلّقكن (2) {سَرَاحاً جَمِيلاً} أي لا إضرار معه، {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي رضاهما {وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} أي الجنة {فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ} أي هيأ وأحضر {لِلْمُحْسِنَاتِ} طاعة الله ورسوله {مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} وهو المقامات العالية في حضرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار السلام.
وخيرهن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثالا لأمر الله في قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} وبدأ بعائشة (3) فقال لها: إني أريد أن أذكر لك أمراً فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك أي تطلبين أمرهما في ذلك وقرأ عليها الآية فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، وتتابعن على ذلك فما اختارت منهنّ امرأة غير الله ورسوله والدار الآخرة فأكرمهن الله لذلك وأنزل على رسوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً}
وقوله تعالى {يَا نِسَاءَ (4) النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي بخصلة قبيحة ظاهرة كسوء عشرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن الله تعالى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} يوم القيامة لأن أذيّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبواب الكفر والعياذ بالله تعالى {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} أي وكان تضعيف العذاب على من أتت بفاحشة (5) مبينة شيئا يسيراً على الله لا يعجزه حتى لا يفعله وهذا لأمرين الأول لأن أذيّة الرسول من أبواب الكفر والثاني لعلو مقامهن وشرفهن فإن ذا الشرف والمنزلة العالية يستقبح منه القبيح أكثر مما يستقبح من غيره.
__________
1 - عامة أهل السنة والجماعة على أن الرجل إذا خير زوجته فاختارت الطلاق كان طلاقا أما إذا خيرها فاختارت عدم الطلاق فليس عليها شيء ولا يقع طلاق ما دامت لم تختره واختارت عدمه وهو البقاء.
2 - معنى إرادة الحياة الدنيا إيثارك ما في الحياة الدنيا من متع وترف على الاشتغال بالطاعات والزهد في زينة الحياة الدنيا ومظاهرها الساحرة الخلابة.
3 - نص الحديث: "يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب ألا تتعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلى عليها الآية. قالت أفيك يا رسول الله أستشيري أبوي؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة".
4 - ناداهن الله تعالى بعنوان نساء النبي إعلان عن شرفهن وكمالهن بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
5 - إذا أطلق لفظ الفاحشة معرفاً بأل فهو الزنى، وإذا ورد نكرة فهو المعصية كما في هذه الآية.(4/263)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية تخيير الزوجات فإن اخترن الطلاق تطلّقن وإن لم تخترنه فلا يقع الطلاق.
2- كمال أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الدنيا وزينتها.
3- مشروعية المتعة بعد الطلاق وهي أن تعطى المرأة شيئا من المال بحسب غنى المطلق وفقره لقوله تعالى {عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُْقْتِرِ قَدَرُهُ}
4- وجوب الإحسان العام والخاص، الخاص بالزوج والزوجة والعام في طاعة الله ورسوله.
5- بيان أن سيئة العالم الشريف أسوأ من سيئة الجاهل الوضيع. ولذا قالوا سيئات الأبرار حسنات المقربين كمثل من الأمثال السائرة للعظة والاعتبار.(4/264)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
الجزء الثاني والعشرون
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (ا34)
شرح الكلمات:
ومن يقنت منكن لله ورسوله: أي ومن يطع منكن الله ورسوله.
نؤتها أجرها مرتين: أي نضاعف لها أجر عملها الصالح حتى يكون ضعف عمل امرأة أخرى من غير نساء النبي.
وأعتدنا لها رزقاً كريما: أي في الجنة.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء: أي لستن في الفضل كجماعات النساء.
إن اتقيتن: بل أنتن أشرف وأفضل بشرط تقواكن لله.
فلا تخضعن بالقول: أي نظراً لشرفكن فلا ترققن العبارة.
فيطمع الذي في قلبه مرض: أي مرض النفاق أو مرض الشهوة.
وقلن قولا معروفاً: أي جرت العادة أن يقال بصوت خشن لا رقة فيه.
وقرن في بيوتكن: أي أقررن في بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة.(4/265)
ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى: أي ولا تتزين وتخرجن متبخترات متغنجات كفعل نساء الجاهلية الأولى قبل الإسلام.
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس: أي إنما أمركّن بما أمركن به من العفة والحجاب ولزوم البيوت ليطهركن من الأدناس والرذائل.
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله الحكمة: أي الكتاب والسنة لتشكرن الله على ذلك بطاعته وطاعة رسوله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع أزواج النبي أمهات المؤمنين فبعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الحياة الدنيا وزينتها أصبحن ذوات رفعة وشأن عند الله تعالى، وعند رسوله والمؤمنين. فأخبرهن الرب تبارك وتعالى بقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي تطع الله بفعل الأوامر وترك النواهي وتطع رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تعص له أمراً ولا تسيء إليه في عشرة، وتعمل صالحاً من النوافل والخيرات نؤتها أجرها مرتين أي نضاعف لها أجر عملها فيكون ضعف أجر عاملة أخرى من النساء غير أزواج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {وَأَعْتَدْنَا (1) لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي في الجنة فهذه بشارة بالحنة لنساء النبي أمهات المؤمنين التسع اللائي نزلت هذه الآيات في شانهن.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (31) وقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ (2) لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (3) } أي يا زوجات النبي أمهات المؤمنين إنّكن لستن كجماعات النساء إن شرفكن أعظم ومقامكم أسمى وكيف وأنتن أمهات المؤمنين وزوجات خاتم النبيين فاعرفن قدركن بزيادة الطاعة لله ولرسوله، وقوله إن اتقيتن أي إن هذا الشرف حصل لكن بتقواكن لله فلازمن التقوى إنكن بدون تقوى لا شيء يذكر شأنكن شأن سائر النساء. وبناء عليه {فَلا تَخْضَعْنَ (4) بِالْقَوْلِ} أي لا تليّن الكلمات وترققن الصوت إذا تكلمتن مع الأجانب من الرجال. وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي
__________
1 - التاء في أعتدنا بدل عن أحد الدالين من أعد لقرب مخرجيهما وقصد التخفيف.
2 - أعيد خطابهن من قبل الله تعالى كما أعيد نداؤهن تشريفاً لهن وإظهاراً للاهتمام بالخبر. وأحد بمعنى واحد قلبت همزته واوا.
3 - هذا الشرط معتبر في التقوى، إذ بين لهن أن هذا الشرف وهذه البشرى بالجنة إنما كانت بشرط التقوى والتقوى اجتناب وامتثال.
4 - قال ابن عباس: المرأة تندب إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في القول من غير رفع صوت فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام.(4/266)
قَلْبِهِ مَرَضٌ} نفاق مع شهوة عارمة تجعله يتلذذ بالخطاب وقوله: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} وهو ما يؤدي المعنى المطلوب بدون زيادة ألفاظ وكلمات لا حاجة إليها. وقوله: {وَقَرْنَ (1) فِي بُيُوتِكُنَّ} أي اقررن فيها بمعنى أثبتن فيها ولا تخرجن إلا لحاجة لا بد منها وقوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ} أي إذا خرجتن لحاجة {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} أي قبل الإسلام إذ كانت المرأة تتجمل وتخرج متبخترة متكسرة متغنجة في مشيتها وصوتها تفتن الرجال.
وقوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} بأدائها مستوفاة الشروط والأركان والواجبات في أوقاتها مع الخشوع فيها {وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ} بفعل الأمر واجتناب النهي. أمرهن بقواعد الإسلام وأهم دعائمه. وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} أي إنما أمرناكن (2) ونهيناكن إرادة إذهاب الدنس والإثم إبقاءً على طهركن يا أهل البيت النبوي.
وقوله تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} أي كاملا تاماً من كل ما يؤثم ويدسى النفس ويدنسها. وقوله تعالى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} من الكتاب والسنة وهذا أمر لهن على جهة والموعظة وتعدد النعمة.
وقوله {إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً} أي بكم يا أهل البيت خبيراً بأحوالكم فثقوا به وفوضوا الأمر إليه. والمراد من أهل البيت هنا أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) وفاطمة وابناها الحسن والحسين وعليّ الصهر الكريم رضي الله عن آل بيت رسول الله أجمعين وعن صحابته أكتعين (4) أتبعين أيصعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا شرف إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
2- بيان فضل نساء النبي وشرفهن.
__________
1 - قرأ نافع وحفص وقرن بفتح القاف من قرر كعلم يقرر والأمر اقررن فحذفت الراء الأولى تخفيفا وألغيت حركتها على القاف، فسقطت همز الوصل لعدم الحاجة إليها عندما تحركت القاف الساكنة فصارت وقرن، وقرأ الجمهور بكسر القاف.
2 - المعنى العام للآية: ما يريد الله لكُن مما أمركن به ونهاكن عنه إلا عصمتكن من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوام ذلك لكن فلم يرد بكن مقتاً ولا نكاية.
3 - من جهل الرافضة وما وضع لهم من قواعد في دينهم لإخراجهم من الإسلام وإبعادهم عن جماعة المسلمين قصرهم هذه الآية على علي وفاطمة والحسين دون أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أن الخطاب في الآية لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحديث الكساء لا ينافي إدخال سائر نساء النبي في أهل بيته إذ ليس فيه صيغة من صيغ القصر المعروفة في لغة القرآن ونصه في صحيح مسلم عن عائشة قالت "خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداة وعليه مرط مرحل فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: "إ {نما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} ".(4/267)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
1- حرمة ترقيق المرأة صوتها وتليين عباراتها إذا تكلمت مع أجنبي.
2- وجوب بقاء النساء في منازلهن ولا يخرجن إلا من حاجة لا بد منها.
3- حرمة التبرج وهي أن تتزين المرأة وتخرج بادية المحاسن متبخترة في مشيتها.
4- على المسلم أن يذكر ما شرفه الله به من الإيمان والإسلام ليترفع عن الدنايا والرذائل.
5- بيان أن الحكمة هي السنة النبوية الصحيحة.
6- الإشارة إلى وجود جاهلية ثانية وقد ظهرت منذ نصف قرن وهي تبرج النساء بالكشف عن الرأس والصدور
والسيقان وحتى الأفخاذ.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) شرح الكلمات:
إن المسلمين والمسلمات: إن الذين أسلموا لله وجوههم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً والمسلمات أيضا.
والمؤمنين والمؤمنات: أي المصدقين بالله رباً وإلهاً والنبي محمد نبياً ورسولا والإسلام ديناً وشرعاً والمصدقات.
والقانتين والقانتات: أي المطيعين لله ورسوله من الرجال والمطيعات من النساء.
والصادقين والصادقات: أي الصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات.
والصابرين والصابرات: أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فلا يتركوها وعن المعاصي فلا يقربوها وعلى البلاء فلا يسخطوه ولا يشتكوا الله إلى عباده والحابسات.(4/268)
الخاشعين والخاشعات: أي المتذللين لله المخبتين له والخاشعات من النساء كذلك.
والمتصدقين والمتصدقات: أي المؤدين الزكاة والفضل من أموالهم عند الحاجة إليه والمؤديات كذلك.
والحافظين فروجهم: أي عن الحرام والحافظات كذلك إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم بالنسبة للرجال أما النساء فالحافظات فروجهن إلا على أزواجهن فقط.
والذاكرين الله كثيراً والذاكرات: أي بالألسن والقلوب فعلى أقل التقدير يذكرون الله ثلثمائة مرة في اليوم والليلة زيادة على ذكر الله في الصلوات الخمس.
أعد الله لهم مغفرة: أي لذنوبهم وذنوبهن.
وأجراً عظيما: أي الجنة دار الأبرار.
معنى الآيات:
هذه الآية وإن نزلت جواباً عن تساءل بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قلن للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل (1) الله تعالى هذه الآية المباركة إن المسلمين والمسلمات، فإن مناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي أنه لما أثنى على آل البيت بخير فإن نفوس المسلمين والمسلمات تتشوق لخير لهم كالذي حصل لآل البيت الطاهرين فذكر تعالى أن المسلمين (2) والمسلمات الذين انقادوا لأوامر الله ورسوله وأسلموا وجوههم لله فلا يلتفتون إلى غيره، كالمؤمنين والمؤمنات بالله رباً وإلهاً ومحمد نبياً ورسولاً والإسلام ديناً وشرعاً، كالقانتين أي المطيعين لله رسوله والمطيعات في السراء والضراء والمنشط والمكره في حدود الطاقة البشرية، كالصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات كالصابرين أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فعلاً، وعن المحرمات تركاً، وعلى البلاء رضاً وتسليماً والصابرات كالخاشعين في صلاتهم وسائر طاعاتهم والخاشعات لله تعالى كالمتصدقين بأداء زكاة أموالهم وبفضولها عند الحاجة إليها والمتصدقات كالصائمين رمضان والنوافل كعاشوراء والصائمات، كالحافظين فروجهم عما حرم الله تعالى عليهم من المناكح وعن
__________
1 - روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت الآية، وروى أحمد والنسائي وابن جرير عن أم سلمة أنها قالت قلت ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فنزلت.
2 - بدئ بذكر الإسلام لأنه علم على الملة المحمدية وهو يعم الإيمان وعمل الجوارح ثم ذكر الإيمان لأنه كالطاقة المحركة والدافعة إلى القول الحق والطاعة لله ورسوله.(4/269)
كشفها لغير الأزواج والحافظات (1) ، كالذاكرين الله كثيراً بالليل (2) والنهار ذكر القلب واللسان والذاكرات (3) الكل الجميع أعد الله تعالى لهم مغفرة لذنوبهم إذ كانت لهم ذنوب، وأجراً عظيماً أي جزاء عظيماً على طاعاتهم بعد إيمانهم وهو الجنة دار السلام جعلنا الله منهم ومن أهل الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بشرى المسلمين والمسلمات بمغفرة ذنوبهم ودخول الجنة إن اتصفوا بتلك الصفات المذكورة في هذه الآية وهي عشر صفات أولها الإسلام وآخرها ذكر الله تعالى.
2- فضل الصفات المذكورة إذ كانت سبباً في دخول الجنة بعد مغفرة الذنوب.
3- تقرير مبدأ التساوي بين الرجال والنساء في العمل والجزاء في العمل الذي كلف الله تعالى به النساء والرجال معاً وأما ما خص به الرجال أو النساء فهو على خصوصيته للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن والله يقول الحق ويهدي السبيل.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
__________
1 - حذف من الآخر لدلالة الأول والمحذوف فروجهن، ولأن ذكر فروج النساء غير لائق ذكره وسماعه لما عرف به أهل هذه الملة من عدم الرضا بذكر النساء لصيانتهن عن الابتذال والمهانة.
2 - وحذف المقابل في الذاكرات طلباً للإيجاز غير المخل لأن الذكر الآخر مع ذكر الأول مع العلم به إطناب لا داعي له قال الشاعر:
وكَمْتاً مدمّاة كأن متونها
جرى فوقها واستشعرت لون مذْهب
3 - قال مجاهد: لا يكون العبد ذاكرا لله تعالى كثيراً حتى يذكره قائما وجالساً ومضطجعاً، وقال أبو سعيد الخدري "من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كانا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.(4/270)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
شرح الكلمات:
ما كان لمؤمن ولا مؤمنة: أي لا ينبغي ولا يصلح لمؤمن ولا مؤمنة.
أن يكون لهم الخيرة من أمرهم: أي حق الاختيار فيما حكم الله ورسوله فيه بالجواز أو المنع.
فقد ضل ضلالا مبيناً: أي أخطأ طريق النجاة والفلاح خطأً واضحاً.
أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق وهو زيد بن حارثة.
واتق الله: أي في أمر زوجتك فلا تحاول طلاقها.
وتخفي في نفسك ما الله مبديه: أي وتخفي في نفسك وهو علمك بأنك إذا طلق زيد زينب زوجكها الله إبطالاً لما عليه الناس من حرمة الزواج من امرأة المتبنّى.
ما الله مبديه: أي مظهره حتماً وهو زواج الرسول من زينب بعد طلاقها.
وتخشى الناس: أي يقولون تزوج محمد مطلقة مولاه زيد.
والله أحق أن تخشاه: وهو الذي أراد لك ذلك الزواج.
فلما قضى زيد منها وطراً: أي حاجته منها ولم يبق له رغبة فيها لتعاليها عليه بشرف نسبها ومحتد آبائها.(4/271)
زوجناكها: إذ تولى الله عقد نكاحها فدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها بدون إذن من أحدٍ وذلك سنة خمس وأُشبع الناس لحماً وخبزاً في وليمة عرسها.
كيلا لا يكون على المؤمنين حرج: أي إثم في تزوجهم من مطلقات أدعيائهم.
وكان أمر الله مفعولا: أي وما قدره الله في اللوح المحفوظ لا بد كائن.
ولا يخشون أحداً إلا الله: أي يفعلون ما أذن لهم فيه ربهم ولا يبالون بقول الناس.
وكفى بالله حسيباً: أي حافظاً لأعمال عباده ومحاسباً لهم عليها يوم الحساب.
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم: أي لم يكن أباً لزيد ولا لغيره من الرجال إذ مات أطفاله الذكور وهم صغار.
وخاتم النبيين: أي لم يجيء نبي بعده إذ لو جاء نبي بعده لكان ولده أهلا للنبوة كما كان أولاد إبراهيم ويعقوب، وداود مثلا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ (1) } الآيات هذا شروع في قصة زواج زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزينب بنت جحش بنت عمة النبي أميمة بنت عبد المطلب إنه لما أبطل الله التبني وحرمه بقوله {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} وقوله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} تبع ذلك أن لا يرث الدعي ممن ادعاه، وأن لا تحرم مطلقته على من تبنّاه وادعاه وهكذا بطلت الأحكام التي كانت لازمة للتبني، وكون هذا نزل به القرآن ليس من السهل على النفوس التي اعتادت هذه الأحكام في الجاهلية وصدر الإسلام أن تتقبلها وتذعن لها بعد ليال بسهولة فأراد الله تعالى أن يخرج ذلك لحيز الوجود فألهم رسوله أن يخطب زينب لمولاه زيد، واستجابت زينت للخطبة فهماً منها أنها مخطوبة لرسول الله لتكون أماً للمؤمنين ولكن تبين لها بعد ليال أنها مخطوبة لزيد بن حارثة مولى رسول الله وليست كما فهمت وهنا أخذتها الحمية وقالت لن يكون هذا لن تتزوج شريفة مولى من موالي الناس ونصرها أخوها على ذلك وهو عبد الله بن جحش. فنزلت هذه الآية {وَمَا
__________
1 - روى قتادة وابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد في سبب نزول هذه الآية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب زينب بنت جحش وكانت بنت عمته خطبها لمولاه زيد بن حارثة فظنت أن الخطبة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما تبين أنها لمولاه زيد كرهت وأبت وامتنعت فنزلت الآية. فأذعنت وقبلت.(4/272)
كَانَ لِمُؤْمِنٍ (1) وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2) مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية فما كان منها إلا أن قبلت عن رضى الزواج من زيد وتزوجها زيد وبحكم الطباع البشرية فإن زينب لم تخف شرفها على زيد وأصبحت تترفع عليه الأمر الذي شعر معه زيد بعدم الفائدة من هذا الزواج فأخذ يستشير رسول الله مولاه ويستأذنه في طلاقها والرسول يأبى عليه وذلك علماً منه أنه إذا طلقها سيزوجه الله بها إنهاءً لقضية جعل أحكام الدعي كأحكام الولد من الصلب فكان يقول له: اتق الله يا زيد لا تطلق بغير ضرورة ولا حاجة إلى الطلاق واصبر على ما تجده من امرأتك، وهنا عاتب رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربُّه عز وجل إذ قال له: {وَإِذْ (3) تَقُولُ} أي اذكر إذ تقول {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} أي بنعمة الإسلام، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بأن عتقته {أَمْسِكْ (4) عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي (5) فِي نَفْسِكَ} وهو أمر زواجك منها، {مَا اللهُ مُبْدِيهِ} أي مظهره لا محالة من ذلك {وَتَخْشَى (6) النَّاسَ} أن يقولوا محمد تزوج امرأة ابنه زيد، {وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وقد أراد منك الزواج من زينب بعد طلاقها وانقضاء عدتها هدماً وقضاءً على الأحكام التي جعلت الدعي كابن الصُّلب.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} أي حاجته منها بالزواج بها وطلقها {زَوَّجْنَاكَهَا (7) } إذ تولينا عقد نكاحها منك دون حاجة إلى ولي ولا إلى شهود ولا إلى مهر أو صداق وذلك من أجل أن لا يكون على المؤمنين حرج أي إثم في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً} أي وما قضى به الله واقع لا محالة وقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ} أي من إثم أو تضييق في قول أو فعل شيء افترضه الله تعالى عليه وألزمه به سنة الله في الذين خلوا من قبل من الأنبياء، وكان أمر الله أي مقضيه قدرا مقدوراً أي واقعاً نافذاً لا محالة. وقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ} أي
__________
1 - هذه الصيغة هي لنفي الحال والشأن فهي أبلغ من صيغ النهي أي أن مثل هذا القول والعمل مما لا يكون ولا ينبغي أن يكون نحو قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً) وفي الآية دليل على أن الكفاءة تعتبر في الأديان لا في الأنساب بل هي نص في هذا.
2 - الخيرة اسم مصدر من تخيّر ومثلها الطيرة من تطير ولم يسمع على هذا الوزن غيرهما، ووقع لفظ مؤمن ومؤمنة نكرة في سياق النفي فأفادتا العموم.
3 - روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) الآية وكذا قالت في آية عبس وتولى وهو كما قالت رضي الله عنها وأرضاها.
4 - جاء زيد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل وتفعل! وإني أريد أن أطلقها فقال له: {أمسك عليك زوجك واتق الله} الآية.
5 - إن قيل كيف يأمر زيداً بعدم طلاق زينب وهو يعلم أنه سيطلقها ويزوجه الله تعالى بها؟ الجواب لا حرج في هذا ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان والإسلام وهو يعلم أنه لا يؤمن، لأن الأمر لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة.
6 - ما كان يخشاه هو إرجاف المنافقين واليهود قولهم: أينهى عن نكاح زوجة الابن ويتزوج زوجة ابنه زيد.
7 - وري أن زينب كانت تقول لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني لأدل عليك بثلاث! ما من نسائك امرأة تدل بهن: أن جدي وجدك واحد، وأن الله أنكحك إياي من السماء، وأن السفير في ذلك جبريل.(4/273)
هؤلاء الأنبياء السابقون طريقتهم التي سنها الله لهم هي أنهم ينفذون أمر الله ولا يلتفتون إلى الناس ويقولون ما يقولون، ويخشون ربهم فيما فرض عليهم ولا يخشون غيره، وكفى بالله حسيباً أي حافظاً لأعمال عباده ومحاسباً عليها ومجازٍ بها، وقوله تعالى في ختام السياق {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} لا زيد ولا غيره إذ لم يكن له ولد ذكر قد بلغ الحلم إذ مات الجميع صغاراً وهم أربعة ثلاثة من خديجة وهم القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وهو من مارية القبطية، فلذا، لا يحرم عليه أن يتزوج مطلقة زيد لأنه ليس ابنه وإن كان يدعى زيد بن محمد قبل إنهاء التبني وأحكامه ولكن رسول الله وخاتم النبيين فلا نبي بعده فلو كان له ولد ذكر رجلاً لكان يكون نبياً وسولاً كما كان أولاد إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود، ولما أراد الله أن يختم الرسالات برسالته لم يأذن ببقاء أحد من أولاد نبيه بل توفاهم صغاراً، أما البنات فكبرن فتزوجن وأنجبن ومتن حال حياته إلا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر وقوله تعالى: {وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فما أخبر به هو الحق وما حكم به هو العدل وما شرعه هو الخير فسلموا لله في قضائه وحكمه فإن ذلك خير وأنفع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن المؤمن الحق لا خيرة عنده في أمر يقضي فيه الله ورسوله بالجواز أو المنع.
2- بيان أن من يعص الله ورسوله يخرج عن طريق الهداية إلى طريق الضلالة.
3- جواز عتاب الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- بيان شدة حياء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5- بيان إكرام الله لزيد بأن جعل اسمه يقرأ على ألسنة المؤمنين إلى يوم الدين.
6- بيان إفضال الله على زينب لما سلمت أمرها لله وتركت ما اختارته لما اختاره الله ورسوله فجعلها زوجة لرسول الله وتولى عقد نكاحها في السماء فكانت تفاخر نساءها بذلك.
7- تقرير حديث ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه.
8- إبطال أحكام التبني التي كانت في الجاهلية.
9- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكونه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ(4/274)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً.
اذكروا الله ذكراً كثيرا ً: أي بقلوبكم وألسنتكم.
وسبحوه بكرة وأصيلاً: أي نزهوه بقول سبحان الله وبحمده صباحاً ومساء.
هو الذي يصلي عليكم: أي يرحمكم.
وملائكته: أي يستغفرون لكم.
ليخرجكم من الظلمات: أي يرحمكم ليديم إخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
تحيتهم يوم يلقونه سلام: أي سلام فالملائكة تسلم عليهم.
وأعد لهم أجراً كريما: أي وهيأ لهم أجراً كريماً وهو الجنة.
معنى الآيات:
هذا النداء الكريم من رب رحيم يوجه إلى المؤمنين الصادقين ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم، ويحفظون به من عدوهم وهو ذكر الله فقال تعالى لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (1) آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراًً} لا أحد له ولا حصر إذ هو الطاقة التي تساعد على الحياة الروحية، وسبحوه (2) بكرة وأصيلاً بصلاة الصبح صلاة العصر. وبقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر دبر كل صلاة من الصلوات الخمس. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي (3) عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} وصلاته تعالى عليهم
__________
1 - قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يعذر واحد في ترك ذكر الله إلا من غلب عليه عقله وورد في فضل الذكر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما هو يا رسول الله قال ذكر الله عز وجل- وقوله وقد جاءه أعرابيان فقال أحدهما يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله وقال الآخر إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فمرني بأمر أتشبث به. فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى.
2 - يجوز أن يراد بالتسبيح صلوات النوافل، وجائز أن يكون التسبيح نحو سبحان الله وبحمده إذ ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصح من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له ما تقدم من ذنبه.
3 - الصلاة الدعاء والذكر بخير وهي من الله تعالى ثناؤه على العبد بين الملائكة قاله البخاري وقيل صلاة الله تعالى على العبد الرحمة ويكون على النبي الثناء عليه وعلى غير النبي الرحمة وهذا أولى، ولا منافاة بين القولين لقوله تعالى: (فاذكروني أذكركم) . وهي من الملائكة دعاء واستغفار لقوله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا الآية من سورة المؤمن.(4/275)
رحمته لهم، وصلاة ملائكته الاستغفار لهم وقوله ليخرجكم من الظلمات أي من ظلمات الكفر والمعاصي إلى نور الإيمان والطاعات. فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هو سبب الإخراج من الظلمات إلى النور. وقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} وهذه علاوة أخرى زيادة على الإكرام الأول وهو الصلاة عليهم وإنه بالمؤمنين عامة رحيم فلا يعذبهم ولا يشقيهم. وقوله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه (1) ُ سَلامٌ} أي وتحيتهم يوم القيامة في دار السلامِ السلامُ إذ الملائكة يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم أي أمان وأمنة لكم فلا خوف ولا حزن. وقوله {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} أي هيأ لهم وأحضر أجراً كريماً وهي الجنة. فسبحان الله ما أكرمه وسبحان الله ما أسعد المؤمنين. فيا لفضيلة الإيمان وطاعة الرحمن طلب منهم أن يذكروه كثيراً وأن يسبحوه بكرة وأصيلاً وأعطاهم ما لا يقادر قدره فسبحان الله ما أكرم الله. والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب ذكر الله تعالى كثيراً ليل نهار ووجوب تسبيحه صباح مساء.
2- بيان فضل الله على المؤمنين بصلاته عليهم وصلاة ملائكته ورحمته لهم.
3- تقرير عقيدة البعث بذكر بعض ما يتم فيها من سلام الملائكة على أهل الجنة.
4- بشرى المؤمنين الصادقين بالجنة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (48)
__________
1 - ورد أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن إلا سلم عليه وروي عن البراء بن عازب في قوله تعالى: {تحيتهم يوم يقلونه سلام} قال فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه.(4/276)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
شرح الكلمات:
شاهداً: أي على من أرسلناك إليهم.
ومبشراً: أي من آمن وعمل صالحاً بالجنة.
ونذيراً: أي لمن كفر وأشرك بالنار.
وداعيا إلى الله بإذنه: أي وداعياً إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته بأمره تعالى.
وسراجاً منيراً: أي جعلك كالسراج المنير يهتدي به من أراد الهداية إلى سبيل الفلاح.
ولا تطع الكافرين والمنافقين: أي فيما يخالف أمر ربك وما شرعه لك ولأمتك.
ودع أذاهم: أي اترك أذاهم فلا تقابله بأذى آخر حتى تُأمر فيهم بأمر.
وتوكل على الله: أي فوض أمرك إليه فإنه يكفيك.
معنى الآيات:
هذا نداء خاص بعد ذلك النداء العام فالأول كان للمؤمنين والرسول إمامهم على رأسهم. وهذا نداء خاص لمزيد تكريم الرسول وتشريفه وتكليفه أيضاً فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ (1) } حال كونك شاهداً على (2) من أرسلناك إليهم يوم القيامة تشهد على من أجاب دعوتك ومن لم يجبها، ومبشراً لمن استجاب لك فآمن وعمل صالحاً بالجنة، ونذيراً لمن أعرض فلم يؤمن ولم يعمل خيراً بعذاب النار، وداعياً إلى الله تعالى عباده إليه ليؤمنوا به ويوحدوه ويطيعوه بأمره تعالى لك بذلك، وسراجا (3) منيراً يهتدي بك من أراد الهداية إلى سبيل السعادة والكمال.
وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (4) } أي أنظر بعد دعوتك إياهم، وبشر المؤمنين منهم أي الذين استجابوا لك وآمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم من الله فضلا كبيراً ألا وهو مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة دار النعيم المقيم والسلام والتام. وقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} فيما
__________
1 - قال القرطبي: هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وللمؤمنين وتكريم لجميعهم.
2 - قال قتادة شاهداً على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم.
3 - ورد في الصحيح والموطأ ومسلم أن للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة أسماء وهي محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وهل شاهد ومبشر ونذير ورؤوف ورحيم أسماء؟ الظاهر أنها صفات ومن عدها أسماء فقد ذكر ابن العربي في أحكامه أن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة وستين اسماً.
4 - عن عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيراً إلى اليمين فقال انطلقا فبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا إنه قد أنزل إنه قد أنزل عليّ (يا أيها النبي) الآية.(4/277)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
يقترحون عليك من أمور تتنافى مع دعوتك ورسالتك، ودع أذاهم أي اترك أذيتهم واصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم، وتوكل على الله في أمرك كله، فإنه يكفيك وكفى بالله وكيلاً أي حافظاً وعاصما يعصمك من الناس.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الكمال المحمدي الذي وهبه إياه ربه تبارك وتعالى.
2- مشروعية الدعوة إلى الله إذا كان الداعي متأهلا بالعلم والحلم وهما الإذن.
3- حرمة طاعة الكافرين والمنافقين والفجرة والظالمين فيما يتنافى مع مرضاة الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (49)
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي من صدقوا بالله ورسوله وكتابه وشرعه.
إذا نكحتم المؤمنات (1) : أي إذا عقدتم عليهن ولم تبنوا بهن.
من قبل أن تمسوهن: أي من قبل الخلوة بهن ووطئهن.
فما لكم عليهن من عدة: أي ليس لكم مطالبتهن بالعدة إذ العدة على المدخول بها.
فمتعوهن: أي أعطوهن شيئا من المال يتمتعن به جبْرا لخاطرهن.
وسرّحوهن سراحاً جميلا: أي اتركوهن يذهبن إلى أهليهن من غير إضرار بهن.
معنى الآيات:
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين المسلمين فيقول لهم معلماً مشرعاً لهم: {إِذَا نَكَحْتُمُ (2)
__________
1 - بمناسبة طلاق زيد لزينب أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وقد خطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوجه ربه بها وله الحمد ناسب ذكر حكم المطلقة قبل البناء وأنها لا عدة عليها، وأنه لا مهر لها ولكن لها المتعة إن لم يكن قد سمى لها مهراً.
2 - النكاح حقيقة في الوطء ويطلق ويراد به العقد كما في هذه الآية الكريمة ولم يرد في القرآن الكريم النكاح إلا والمراد منه العقد، لأنه في معنى الوطء، وهذا من أدب القرآن حيث يكنى عن الوطء بمثل المباشرة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان.(4/278)
الْمُؤْمِنَاتِ} أي عقدتم عليهن، {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ (1) مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي من قبل الدخول عليهن الذي يتم بالخلوة في الفراش، {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} تعتدونها عليهن لا بالإقراء ولا بالشهود إذ العدة لمعرفة ما في الرحم وغير المدخول بها معلومة أن رحمها خالية، فإن سميتم لهن مهراً فلهن نصف المسمّى والمتعة على سبيل الاستحباب، وإن لم تسموا لهن مهراً فليس لهن غير المتعة وهي هنا واجبة لهن بحسب يسار المطلّق وإعساره وقوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي خلوا سبيلهن يذهبن إلى ذويهن من غير إضرار بهن ولا أذى تلحقونه بهن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز الطلاق قبل البناء.
2- ليس على المطلقة قبل الدخول بها عدة بل لها أن تتزوج ساعة ما تطلق.
3- المطلقة قبل البناء إن سمى (2) لها صداق فلها نصفه، وإن لم يسم لها صداق فلها المتعة واجبة يقدرها القاضي بحسب سعة المطلق وضيقه.
4- حرمة أذية المطلقة بأي أذى، ووجوب تخلية سبيلها تذهب حيث شاءت.
5- مشروعية المتعة لكل مطلقة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ
__________
1 - استدل بعض العلماء بقوله تعالى {ثم طلقتموهن} لما في ثم من المهلة على أن الطلاق لا يكون إلا بعد بالنكاح أي العقد، وأن من طلق امرأة قبل البناء عليها طلاقه لاغ لا عبرة به، وإن عينها فإنه لا يلزمه هذا مذهب نحو من ثلاثين صحابيا وتابعيا وإماما سمى البخاري منهم اثنين وسبعين وفي الحديث "لا طلاق قبل النكاح" وقال الجمهور إن عينها تطلق إن لم يعينها فلا طلاق عليه.
2 - استدل الظاهرية بهذه الآية على أن من طلق طلاقاً رجعياً ثم راجع قبل أن تنقضي العدة ثم طلقها قبل أن يمسها أنه ليس عليها أن تتم عدتها وليس عليها عدة أخرى قياسا على المطلقة قبل البناء والجمهور على أنها تستقبل عدة أخرى وعليه مالك وجمهور فقهاء مكة والكوفة الكوفة والمدينة.(4/279)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
شرح الكلمات:
آتيت أجورهن: أي أعطيت مهورهن.
مما أفاء الله عليك: أي مما يسبى كصفية وجويرية.
اللاتي هاجرن معك: أي بخلاف من لم تهاجر وبقيت في دار الكفر.
وهبت نفسها للنبي: أي وأراد النبي أن يتزوجها بغير صداق.
خالصة لك من دون المؤمنين: أي بدون صداق.
قد علمنا ما فرضنا عليهم: أي على المؤمنين
في أزواجهم: أي من الأحكام كأن لا يزيدوا على الأربع، وأن لا يتزوجوا إلا بولي ومهر وشهود.
وما ملكت أيمانهم: أي بشراء ونحوه وأن تكون المملوكة كتابية، وأن تستبرأ قبل الوطء.
لكيلا يكون عليك حرج: أي ضيق في النكاح.
معنى الآيات:
هذا النداء الكريم لرسول رب العالمين يحمل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجازة ربانية تخفف عنه أتعابه التي يعانيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد علم الله ما يعاني رسوله وما يعالج من أمور الدين والدنيا فمنّ عليه بالتخفيف(4/280)
ورفع الحرج فقال ممتناً عليه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ (1) إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن وأحللنا لك {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ} من سبايا الجهاد كصفية بنت حبيب وجويرية بنت الحارث، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ (2) وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ (3) مَعَكَ} من مكة إلى المدينة.
أما اللاتي لم تهاجرن فلا تحلّ لك، وامرأة مؤمنة لا كافرة إن وهبت نفسها للنبي بدون مهر وأراد النبي أن يستنكحها حال كون هذه الواهبة خالصة لك دون المؤمنين فالمؤمن لو وهبت له امرأة نفسها بدون مهر لم تحل له بل لا بد من المهر والولي والشهود.
وقوله تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين في أزواجهم من أحكام كأن لا يزيد الرجل على الأربع، وأن لا يتزوج إلا بولي ومهر وشهود، والمملوكة لا بد أن تكون كتابية أو مسلمة، وأن لا يطأها قبل الاستبراء بحيضة قد علمنا كل هذا وأحللنا لك ما أحللنا خصوصية لك دون المؤمنين وذلك تخفيفاً عليك لكيلا يكون عليك حرج أي ضيق ومشقة وكان الله غفوراً لك ولمن تاب من المؤمنين رحيماً بك وبالمؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لنبيه (4) في التخفيف عليه رحمة به فأباح له أكثر من أربع، وقصر المؤمنين على أربع أباح له الواهبة نفسها أن يتزوجها بغير مهر ولا ولي ولم يبح ذلك للمؤمنين فلا بد من مهر وولي وشهود.
2- تقرير أحكام النكاح للمؤمنين وأنه لم يطرأ عليها نسخ بتخفيف ولا بتشديد.
3- بيان سعة رحمة الله ومغفرته لعباده المؤمنين.
__________
1 - هذه الآية من المتقدم في التلاوة المتأخر في النزول ونظيرها آيتي الوفاة في البقرة على رأي الجمهور. إذ مضمون هذه الآية التوسعة على الرسول صلى الله عيه وسلم أكراماً له لما تحمله من نكاح زينب ثم قصره في الآيات بعد على من تحته من النساء إكراماً لهن أيضا وذلك في قوله لا يحل لك النساء من بعد. ثم لم يقبض حتى رفع الله عنه الحظر إكراماً وإعلاءً من شأنه إذ قالت عائشة. مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل له النساء.
2 - واحد العم والخال وجمع العمات والخالات لأن العم والخال استعمل استعمال أسماء الأجناس الدالة على متعدد واللفظ موحد كالإنسان واللفظ واحد وهو دال على كل إنسان من بني آدم.
3 - المعية هنا "معك" هي الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة إذ أحل له من هاجرت سواء كانت في رفقته أو في رفقة أخرى. ولم يهاجر في رفقته امرأة قط.
4 - من جملة خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن فرض عليه أموراً لم تفرض على الأمة كقيام الليل مثلاً وأباح له أموراً لم تبح للأمة كنكاح الواهبة بدون مهر، وحرم عليه أموراً لم تحرم على الأمة كحرمة الصدقة ذكر هذه الخصائص القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية.(4/281)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
شرح الكلمات:
ترجي من تشاء منهن: أي تؤخر من نسائك.
وتؤوي إليك من تشاء: أي وتضم إليك من نسائك من تشاء فتأتيها.
ومن ابتغيت: أي طلبت.
ممن عزلت: أي من القسمة.
فلا جناح عليك: أي لا حرج عليك في طلبها وضمها إليك خيّره ربه في ذلك بعد أن كان القسم واجباً عليه.
ذلك أدنى أن تقر أعينهن: أي ذلك التخيير لك في إيواء من تشاء وترك من تشاء أقرب إلى أن تقر أعينهن ولا يحزن.
ويرضين بما آتيتهن: أي مما أنت مخير فيه من القسم وتركه، والعزل والإيواء.
والله يعلم ما في قلوبكم: أي من حب النساء – أيها الفحول – والميل إلى بعض دون بعض وإنما خير الله تعالى رسوله تيسيراً عليه لعظم مهامه.
وكان الله عليماً حليماً: أي عليماً بضعف خلقه حليماًً عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل التوبة.
لا يحل لك النساء من بعد: أي لا يجوز لك أن تتزوج بعد هؤلاء التسعة اللاتي اخترنك إكراماً لهن وتخفيفاً عنك.(4/282)
ولا أن تبدل بهن من أزواج: أي بأن تطلق منهن وتتزوج أخرى بدل المطلقة لا. لا.
ولو أعجبك حسنهن: ما ينبغي أن تطلق من هؤلاء التسع وتتزوج من أعجبك حسنها.
إلا ما ملكت يمينك: أي فالأمر في ذلك واسع فلا حرج عليك في التسري بالمملوكة، وقد تسرى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمارية المهداة إليه من قبل ملك مصر وولدت له إبراهيم ومات في سن الرضاعة عليه السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في شأن التيسير على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتخفيف فقد تقدم أنه أحل له النساء يتزوج من شاء مما ذكر له وخصه بالواهبة نفسها يتزوجها بدون مهر ولا ولي وفي هذه الآية الكريمة (51) {تُرْجِي (1) مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية وسع الله تعالى عليه بأن أذن له في أن يعتزل وطء من يشاء، وأن يرجئ من يشاء، وأن يؤوي إليه ويضم من يشاء وأن يطلب من اعتزلها إن شاء فلا حرج عليه في كل ذلك، ومع هذا فكان يقسم بين نسائه، ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك اللهم إلا ما كان من سودة رضي الله عنها فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها. هذا ما دلت عليه قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ (2) } وقوله ذلك أدنى أي ذلك التخيير لك في شأن نسائك أقرب أن تقر أعينهن أي يفرحن بك، ولا يحزن عليك، ويرضين بما تتفضل به عليهن من إيواء ومباشرة.
وقوله تعالى {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي أيها الناس من الرغبة في المخالطة، وميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، وإنما خير الله رسوله هذا التخيير تيسيراً عليه وتخفيفاً لما له من مهام لا يطمع فيها عظماء الرجال ولو كان في القوة والتحمل كالجبال أو الجمال.
وقوله تعالى {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً} أي بخلقه وحاجاتهم. حليماً عليهم لا يعاجل العقوبة ويقبل ممن تاب التوبة.
__________
1 - ترجي بدون همزة وترجئ مهموز لغتان فصيحتان من أرجى وأرجأ الأمر إذا أخره والآية تحمل التوسعة والتخفيف عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسقط عنه واجب القسم بين أزواجه ومع هذا فكان يقسم. لأن الآية تفيد التخيير والإذن لا غير.
2 - الجناح الميل يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى الأرض أي لا ميل عليك بلوم أو توبيخ أو عتاب. في الآية وجوب القسمة بين الزوجات والعدل بينهن فيعطي لكل زوجة يوماً وليلة فيقيم عندها في يومها ولو كانت مريضة أو نفساء أو حائضا وإن مرض هو فكذلك إلا أن يأذن له بالتمريض عند إحداهن كما استأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له في ذلك.(4/283)
وقوله تعالى في الآية (52) {لا يَحِلُّ لَكَ (1) النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي لا يحل لك يا رسولنا النساء بعد هؤلاء التسع اللائي خيرتهن فاخترن الله واخترنك وأنت رسوله واخترن الدار الآخرة فاعترافاً بمقامهن قصرك الله عليهن بعد الآن فلا تطلب امرأة أخرى ببدل أو بغير بدل، ومعنى ببدل: أن يطلق منهن واحدة أو أكثر ويتزوج بدلها. وهو معنى قوله تعالى {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} وقوله {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي فلا بأس بأن تتسرى بالجارية تملكها وقد تسرى بمارية القبطية التي أهداها له المقوقس ملك مصر مع بغلة بيضاء تسمى الدُّلدُل وهي أول بغلة تدخل الحجاز، وقد أنجبت مارية إبراهيم ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوفي في أيام إرضاعه عليه وعلى والده ألف ألف سلام.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} أي حفيظاً عليماً فخافوه وراقبوه ولا تطلبوا رضا غيره برضاه فإنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه به حياتكم وإليه مرجعكم بعد مماتكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوله بالتيسير والتسهيل عليه لكثرة مهامه.
2- ما خير الله فيه رسوله لا يصح لأحد من المسلمين اللهم إلا أن يقول الرجل للمرأة كبيرة السن أو المريضة أي فلانة إني أريد أن أتزوج أحصّن نفسي وأنت كما تعلمين عاجزة فإن شئت طلقتك، وإن شئت تنازلت عن ليلتك فإن اختارت البقاء مع التنازل عن حقها في الفراش فلا بأس بذلك.
3- في تدبير الله لرسوله وزوجاته من الفوائد والمصالح ما لا يقادر قدره.
4- تقرير مبدأ (ما ترك أحد شيئا لله إلا عوضه الله خيراً منه) تجلّى هذا في اختيار نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله ورسوله والدار الآخرة.
5- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم التفكير في الخروج عن طاعته بحال من الأحوال.
[تنبيه هام]
إذْنُ الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالزواج بأكثر من أربع كان لحكم عالية، وكيف والمشرع هو الله العليم الحكيم من تلك الحكم العالية ما يلي:
__________
1 - اختلف في أحكام هذه الآية ونسخها بالكتاب أو السنة والراجح أنها منسوخة بآية ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ورجح بعضهم نسخها بالسنة إذ قالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه حتى أحل له النساء.(4/284)
(1) اقتضاء التشريع الخاص بالنساء ومنه ما لا يطلع عليه إلا الزوجان تعدُّد الزوجات ليروين الأحكام الخاصة
بالنساء، ولصحة الرواية وقبولها في الأمة تعدد الطرق وكثرة الروايات.
(2) تطلُّب الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى مناصرين لها أقوياء ولا أفضل من أصهار الرجل الداعي فإنهم بحكم
العرف يقفون إلى جنب صهرهم محقاً أو مبطلاً كان.
(3) أن المؤمنين لا أحب إليهم من مصاهرة نبي الله ليظفروا بالدخول عليه في بيته والخلوة به وما أعزها. فأي
المؤمنين من لا يرغب أن تكون أمه أو أخته أو بنته أماً لكل المؤمنين إني والله لا أحب إليّ من أن أكون أنا وزوجتي وسائر أولادي خدماً في بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلذا وسع الله على رسوله ليتسع على الأقل للأرامل وربات الشرف حتى لا يدنس شرفهن.
(4) قد يحتاج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكافأة بعض من أحسن إليه ولم يجد ما يكافئه به ويراه راغباً في مصاهرته فيجيبه لذلك ومن هذا زواجه بكل من عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق رضي الله عنهم أجمعين.
(5) قد زوجه ربه بزينب وهو كاره لذلك يتهرب منه خشية قالة الناس وما كانوا يعدونه منكراً وهو التزوج
بامرأة الدعي المتبنى بعد طلاقها أو موت زوجها هذه بعض الحكم التي اقتضت الإذن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التزوج أكثر من أربع مع عامل آخر مهم وهو قدرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العدل والكفاية الأمر الذي لن يكون لغيره أبدا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (53) إِنْ(4/285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي من صدقوا بالله ووعده ووعيده وبالرسول وما جاء به.
إلا أن يؤذن لكم: أي في الدخول بأن يدعوكم إلى طعام.
غير ناظرين إناه: أي غير منتظرين وقت نضجه أي فلا تدخلوا قبل وقت إحضار الطعام وتقدم المدعوين إليه بأن يستغل أحدكم الإذن بالدعوة إلى الطعام فيأتي قبل الوقت ويجلس في البيت فيضايق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهله.
فإذا طعمتم فانتشروا: أي إذا أكلتم الطعام وفرغتم فانتشروا عائدين إلى بيوتكم أو أعمالكم ولا يبق منكم أحد.
ولا مستأنسين لحديث: أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث بعضكم بعضاً.
إن ذلكم كان يؤذي النبي: أي ذلكم المكث في بيوت النبي كان يؤذي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيستحيي منكم: أي أن يخرجكم.
والله لا يستحيي من الحق: أن يقوله ويأمر به ولذا أمركم أن تخرجوا.
من وراء حجاب: أي ستر كباب ورداء ونحوه.
أطهر لقلوبكم وقلوبهن: أي من الخواطر الفاسدة.
إن ذلك كان عند الله عظيماً: أي إن أذاكم لرسول الله كان عند الله ذنباً عظيماً.
إن تبدوا شيئا أو تخفوه: أي إن تظهروا رغبة في نكاح أزواج الرسول بعد وفاته أو تخفوه في نفوسكم فسيجزيكم الله به شر الجزاء.
لا جناح عليهن في آبائهن الخ: أي لا حرج على نساء الرسول في أن يظهرن لمحارمهن المذكورين في الآية.(4/286)
ولا نسائهن: أي المؤمنات أما الكافرات فلا.
ولا ما ملكت أيمانهن: أي من الإماء والعبيد في أن يرونهن ويكلمونهن من دون حجاب.
واتقين الله: أي يا نساء النبي فيما أمرتن به من الحجاب وغيره.
معنى الآيات:
لما بين تعالى لرسوله ما ينبغي له مراعاته من شأن أزواجه أمهات المؤمنين بين تعالى بهذه الآية (54) ما يجب على المؤمنين مراعاته أيضاً نحو أزواج النبي أمهاتهم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} حقاً وصدقاً {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} بالدخول إلى طعام تطعمونه غير (1) ناظرين إناه أي وقته، وذلك أن هذه الآية والمعروفة بآية الحجاب نزلت في شأن نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أكلوا طعام الوليمة التي أقامها رسول الله لما زوجه الله بزينب بنت جحش رضي الله عنها، وكان الحجاب ما فرض بعد على النساء مكثوا بعد انصراف الناس يتحدثون فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج أمامهم لعلهم يخرجون فما خرجوا وتردد رسول الله على البيت فيدخل ويخرج رجاء أن يخرجوا معه فلم يخرجوا واستحى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم هيا فاخرجوا. فانزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى غير ناظرين إناه (2) يعني ذلك النفر ومن يريد أن يفعل فعلهم فإذا وجه إليه أخوه استدعاء لحضور وليمة بعد الظهر مثلا أتى المنزل من قبل الظهر يضايق أهل المنزل فهذا معنى غير ناظرين إناه أي وقته لأن الإنى هو الوقت.
وقوله ولكن إذا دعيتم فادخلوا أي فلا تدخلوا بدون دعوة أو إذن فإذا طعمتم أي فرغتم من الأكل فانصرفوا منتشرين في الأرض فهذا إلى بيته وهذا إلى بيت ربه وهذا إلى عمله. وقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي لا تمكثوا بعد الطعام يحدث بعضكم بعضاً مستأنسين بالحديث. حرم تعالى هذا عليكم أيها المؤمنون لأنه يؤذي رسوله. وإن كان الرسول لكمال أخلاقه لا يأمركم بالخروج حياءً منكم فالله لا يستحي من الحق فلذا أمركم بالخروج بعد الطعام
__________
1 - غير ناظرين إناه غير منصوب على الحال والآية تضمنت الأدب في حال الجلوس والطعام كما تضمنت مشروعية الحجاب.
2 - أي غير منتظرين وقت نضجه، وإناه مقصور، وفيه لغات إني بكسر الهمزة وأني بفتح الهمزة والنون وأنا بفتح الهمزة والمد قال الحطيئة:
وأخرت العشاء إلى سهيل
أو الشعرى فطال بي الإناء
والفعل أنى يأنى أنى إذ حان وأدرك وفرغ.(4/287)
مراعاة لمقام رسوله محمد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ (1) مَتَاعاًً} أي طلبتم شيئاً من الأمتعة التي توجد في البيت كإناء ونحوه فاسألوهن من وراء حجاب أي باب وستر نحوهما لا مواجهة لحرمة النظر إليهن. وقوله {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} أنتم أيها الرجال وقلوبهن أيتها الأمهات أطهر أي من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإنسان إذا خاطب فحلٌ أنثى أو خاطبت امرأة فحلاً من الرجال.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ} أي ما ينبغي ولا يصح أن تؤذوا رسول الله أي أذى ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أي ولا أن تتزوجوا بعد وفاته نساءه فإنهن محرمات على الرجال تحريم الأمهات تحريماً مؤبداً لا يحل بحال، وقوله تعالى: {إِنَّ (2) ذَلِكُمْ} أي المذكور من المن أذى رسول الله والزواج من بعده بنسائه كان عند الله أي في حكمه وقضائه وشرعه ذنباً عظيماً لا يقادر قدره ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (53) وقوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً} أي تظهروه {أَوْ تُخْفُوهُ} أي تستروه يريد من الرغبة في الزواج من نساء الرسول بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن الله كان بكل شيء عليماً وسيجزيكم بتلك الرغبة التي أظهرتموها أو أخفيتموها في نفوسكم شرّ الجزاء وأسوه. فاتقوا الله وعظموا ما عظم من حرمات رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذا ما دلت عليه الآية (54) .
وقوله تعالى في الآية (55) لا جناح عليهن (3) أي لا تضييق ولا حرج ولا إثم على نساء المؤمنات من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهن من نساء المؤمنين في أن يظهرن وجوههن ويكلمن بدون حجاب أي وجها لوجه آباءهن الأب والجد وإن علا، وأبناءهن الابن وابن الابن وإن نزل وابن البنت كذلك وإن نزل. وإخوانهن وأبناء إخوانهن وإن نزلوا وأبناء أخواتهن وإن نزلوا، ومماليكهن من إماء وعبيد.
وقوله تعالى {وَاتَّقِينَ (4) اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} أمر من الله لنساء النبي ونساء المؤمنين بتقوى الله فيما نهاهن عنه وحرمه عليهن من إبداء الوجه للأجانب غير المحارم المذكورين في
__________
1 - روى أبو داود عن أنس بن مالك قال عمر: وافقت ربي في أربع الحديث وفيه قلت يا رسول الله لو ضرب الحجاب على نسائك يدخل عليهن البر والفاجر فأنزل الله عز وجل وإذا سألتموهن الآية.
2 - روي أن رجلا من المنافقين لما تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة قال: فما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده وجعل لهن حكم الأمهات وقال صلى الله عليه زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة وهذه علة من علل التحريم أيضاً.
3 - روي أنه لما نزلت آية الحجاب تساءل الآباء والأقارب: هل نحن أيضاً لا نكلمهن إلا من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية لا جناح عليهن في آبائهن الخ.
4 - لما ذكر تعالى الرخصة للمحارم أمر النساء بتقواه تعالى فأمرهن بذلك حتى لا يتجاوزن من أذن لهن بالنظر إليهم في المحارم إلى غيرهم وذلك لقلة تحفظ النساء وكثرة استرسالهن.(4/288)
الآية وتذكيرهم بشهود الله تعالى لكل شيء وإطلاعه على كل شيء ليكون ذلك مساعداً على التقوى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه.
2- بيان كمال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خلقه في أنه ليستحي أن يقول لضيفه أخرج من البيت فقد انتهى الطعام.
3- وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمره به عباده.
4- مشروعية مخاطبة الأجنبية من وراء حجاب ستر ونحوه.
5- حرمة أذية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنها جريمة كبرى لا تعادل بأخرى.
6- بيان أن الإنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا كلم المرأة ونظر إليها.
7- حرمة نكاح أزواج الرسول بعد موته وحرمة الخاطر يخطر بذلك.
8- بيان المحارم الذين للمسلمة أن تكشف وجهها أمامهم وتخاطبهم بدون حجاب.
9- الأمر بالتقوى ووعيد الله لمن لا يتقيه في محارمه.
إِِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)(4/289)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
شرح الكلمات:
يصلون على النبي: صلاة الله على النبي هي ثناؤه ورضوانه عليه، وصلاة الملائكة دعاء واستغفار له، وصلاة العباد عليه تشريف وتعظيم لشأنه.
صلوا عليه وسلموا تسليماً: أي قولوا: اللهم صل محمد وسلم تسليماً.
يؤذون الله ورسوله: أي بسب أو شتم أو طعن أو نقد.
يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا: أي يرمونهم بأمور يوجهونها تهماً باطلة لم يكتسبوا منها شيئا.
فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً: أي تحملوا كذباً وذنباً بيناً ظاهراً.
يدنين عليهن من جلابيبهن: أي يرخين على وجوههن الجلباب حتى لا يبدو من المرأة إلا عين واحدة تنظر بها الطريق إذا خرجت لحاجة.
ذلك أدنى أن يعرفن: أي ذلك الإدناء من طرف الجلباب على الوجه أقرب.
فلا يؤذين: أي يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذى.
وكان الله غفوراً رحيما: أي غفورا لمن تاب من ذنبه رحيماً به بقبول توبته وعدم تعذيبه بذنب تاب منه.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة ما يجب على المؤمنين من تعظيم نبيّهم واحترامه حياً وميتاً أعلن في هذه الآية (56) عن شرف نبيّه الذي لا يدانيه شرف وعن رفعته التي لا تدانيها رفعة فأخبر أنه هو سبحانه وتعالى يصلي عليه وأن ملائكته كذلك يصلون (1) عليه وأمر المؤمنين كافة أن يصلوا عليه فقال: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فكان واجباً على كل مؤمن ومؤمنة أن يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو مرة في العمر يقول:
__________
1 - اختلف في الضمير في يصلون على من يعود والصحيح أنه عائد على الله تعالى والملائكة معاً ولا حرج لأنه قول الله تعالى ولله أن يرفع من يشاء من عباده لجمع ضمير الملائكة مع ضميره، وليس هذا من باب ومن يعصهما الذي أنكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذاك من قول الخطيب وهذا قول الله تعالى وليس من حقنا أن نعترض على الله تعالى وروي أن ابن عباس قرأ الملائكة بالرفع أي يصلون وعليه فانفصل الضمير وأصبح خاصاً بالله تعالى وهو وجه وما تقدم أولى لقراءة الكافة بالنصب.(4/290)
اللهم صل على محمد وسلم تسليماً. وقد بينت السنة أنواعاً من صيغ الصلاة والسلام على الرسول أعظمها أجراً الصلاة الإبراهيمية (1) وهي واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة (2) فريضة أو نافلة، وتستحب استحباباً مؤكداً عند ذكره (3) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مواطن أخرى. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (56) أما الآية الثانية (57) فقد أخبر تعالى عباده أن الذين يؤذون الله بالكذب (4) عليه أو انتقاصه بوصفه بالعجز أو نسبة الولد إليه أو الشريك وما إلى ذلك من تصوير الحيوان إذ الخلق اختص به الله فلا خالق إلا هو فلا تجوز محاكاته في الخلق، ويؤذون (5) رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسب أو شتم أو انتقاص أو تعرض له أو لآل بيته أو أمته أو سنته أو دينه هؤلاء لعنهم الله في الدنيا والآخرة أي طردهم من رحمته، وأعد لهم أي هيأ وأحضر لهم عذاباً مهيناً لهم يذوقونه بعد موتهم ويوم يبعثهم يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (58) أما الآية الرابعة (59) فإنه لما كان المؤمنات يخرجن بالليل لقضاء الحاجة البشرية إذ لم يكن لهم مراحيض في البيوت وكان بعض سفهاء المنافقين يتعرضون لهن بالغمز والكلمة السفيهة وهم يقصدون على عادتهم الإماء لا الحرائر فتأذى بذلك المؤمنات وشكون إلى أزواجهن ما يلقين من تعرض بعض المنافقين لهن فأنزل الله تعالى هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ (6) وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} والجلباب هو الملاءة أو العباءة تكون فوق الدرع السابغ الطويل، أي مُرْهُنَّ بأن يدنين طرف الملاءة على الوجه حتى لا يبقى إلا عين واحدة ترى بها الطريق، وبذلك يعرفن أنه حرائر عفيفات فلا يؤذيهن بالتعرض لهن أولئك المنافقون السفهاء عليهم لعائن الله. وقوله تعالى {وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} أخبر عباده أنه تعالى كان وما زال غفوراً لمن تاب من عباده رحيماً به فلا يعذبه بعد توبته.
__________
1 - صيغة الصلاة الإبراهيمية هي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
2 - غير ضار أن يقول المالكية الصلاة سنة مؤكدة في التشهد الأخير إذ السنة المؤكدة عند المالكية هي الواجب عند الشافعي وأحمد وإذاً فلا فرق.
3 - من هذه المواطن بدء الدعاء وختمه وافتتاح الخطبة بعد حمد الله والثناء عليه ويوم الجمعة وليلتها ورد في فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث منها، حديث مسلم: "من صلى عليّ مرة صلى الله بها عشراً" وروى النسائي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عليهم يوماً والبشر يرى في وجهه فقالوا إنا لنرى البشر في وجهك فقال: أتاني الملك فقال: "يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً".
4 - روى البخاري في صحيحه قال قال الله تعالى: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة "يقول الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإن شئت قبضتهما".
5 - من أفظع أنواع الأذى الذي تعرض له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يوماً يصلى حول الكعبة فجاء عقبة بن أبي معيط بسلي جزور ووضعه على ظهره بين كتفيه الشريفتين فجاءت فاطمة وهي جويرية صغيرة فألقته بعيداً عن ظهر أبيها ونالت من المشركين وانصرفت فرضي الله عنها وأرضاها.
6 - تقدم ذكر أزواجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأما بناته ففاطمة الزهراء وزينب ورقية وأم كلثوم.(4/291)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شرف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجوب الصلاة والسلام عليه في التشهد الأخير في الصلاة.
2- بيان ما يتعرض له من يؤذي الله ورسوله من غضب وعذاب.
3- بيان مقدار ما يتحمله من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالقول فينسب إليهم ما لم يقولوا أو لم يفعلوا ويؤذيهم بالفعل بضرب جسم أو أخذ مال أو انتهاك عرض.
4- وجوب تغطية المؤمنة وجهها إذا خرجت لحاجتها إلا ما كان من عين ترى بها الطريق، واليوم بوجود الأقمشة الرقيقة لا حاجة إلى إبداء العين إذ تسبل قماشاً على وجهها فيستر وجهها وترى معه الطريق واضحاً والحمد لله.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (62)
شرح الكلمات:
لئن لم ينته المنافقون: أي عن نفاقهم وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
والذين في قلوبهم مرض: أي مرض حب الفجور وشهوة الزنا.
والمرجفون في المدينة: أي الذين يأتون بالأخبار الكاذبة لتحريك النفوس وزعزعتها كقولهم العدو على مقربة من المدينة أو السرية الفلانية قتل أفرادها وما إلى ذلك.
لنغرينك بهم: أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.
ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا: أي في المدينة إلا قليلاً من الأيام ثم يخرجوا منها أو يهلكوا.(4/292)
ملعونين: أي مبعدين عن الرحمة.
أينما ثقفوا أخذوا: أينما أخذوا أسروا وقتلوا تقتيلاً.
سنة الله في الذين خلوا من قبل: أي سن الله هذه السنة في الأمم الماضية أينما ثقف المنافقون والمرجفون أخذوا وقتلوا تقتيلاً.
ولن تجد لسنة الله تبديلاً: أي منه تعالى إذ هي ليست أحكاماً يطرأ عليها التبديل والتغيير بل هي سر التشريع وحكمته.
معنى الآيات:
لقد تقدم أن بعض النسوة اشتكين ما يلقينه من تعرض المنافقين لهن عند خروجهن ليلاً لقضاء الحاجة، وأن الله تعالى أمر نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وعلة ذلك أن يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون وكان ذلك إجراءً وقائياً لا بد منه، ثم أقسم الجبار بقوله {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ (1) } أي وعزتي وجلالي لئن لم ينته هؤلاء المنافقون من نفاقهم وأعمالهم الاستفزازية والذين في قلوبهم مرض الشهوة وحب الفجور والمرجفون الذين يكذبون الأكاذيب المرجفة أي المحركة للنفوس كقولهم: العدو زاحف على المدينة والسرية الفلانية انهزمت أو قتل أكثر أفرادها لئن لم ينته هؤلاء لنغرينك (2) بهم أي لنحرشنّك بهم ثم لنسلطنَّك عليهم. ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة إلا قليلاً، ثم يخرجوا منها أو يهلكوا ملعونين أي يخرجون ملعونين أي مطرودين من الرحمة الإلهية التي تصيب سكان المدينة النبوية، وحينئذ أينما ثقفوا أي وجدوا وتمكن منهم أخذوا أي أسرى وقتلوا تقتيلاً حتى لا يبقى منهم أحد.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (60) {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ..} والثانية (61) {مَلْعُونِينَ ... } الخ. أما الآية الثالثة (62) {سُنَّةَ اللهِ (3) فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي لقد سن الله تعالى هذا سنةً في المنافقين من أنهم إذا لم ينتهوا يلعنون ثم يسلط عليهم من يأخذهم ويقتلهم تقتيلاً، وقوله: {وَلَنْ (4) تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} يخبر تعالى أن ما كان من قبل السنن كالطعام
__________
1 - يرى الكثيرون أن الصفات الثلاث لجنس واحد وهم المنافقون قد اجتمعت فيهم هذه الصفات الثلاث والواو مقحمة وليست للعطف وشاهده قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
فهو رجل واحد بثلاث صفات.
2 - لنغرينك اللام للقسم أي وعزتنا وجلالنا لنغرينك.
3 - سنة منصوب على المصدر أي سن الله تعالى ذلك سنة ثم أضيف المصدر إلى فاعله.
4 - الجملة تذييلية المراد بها تأكيد العذاب الحائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا أو لم يتوبوا والمعنى لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلاً.(4/293)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
يشبع والماء يروي والنار تحرق والحديد يقطع لا يبدله تعالى بل يبقى كذلك لأنه مبني على أساس الحكم التشريعية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالمنافقين وتهديدهم بإمضاء سنة الله تعالى فيهم إذا لم يتوبوا.
2- مشروعية إبعاد أهل الفساد من المدن الإسلامية أو يتوبوا بترك الفساد والإفساد، وخاصة المدينة النبوية الشريفة.
3- بيان ما كان من الأشياء من قبل السنن لا يتبدل بتبدل الأحوال والظروف بل يبقى كما هو لا يبدله الله تعالى ولا يغيره.
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
شرح الكلمات:
يسألك الناس عن الساعة: أي يهود المدينة كما سأله أهل مكة فاليهود سألوه امتحاناً والمشركون سألوه تكذيباً بها واستعجالاً لها.
قل إنما علمها عند الله: أي أجب السائلين قائلا إنما علمها عند ربي خاصة فلم يعلمها غيره.
وما يدريك: أي لا أحد يدريك أيها الرسول أي يخبرك بها إذ علمها لله وحده.(4/294)
لعل الساعة تكون قريبا: أي وما يشعرك أن الساعة قد تكون قريبة القيام.
وأعد لهم سعيرا: أي ناراً متسعرة.
خالدين فيها: أي مقدراً خلودهم فيها إذ الخلود يكون بعد دخولهم فيها.
تقلب وجوههم في النار: أي تصرف من جهة إلى جهة كاللحم عند شيّه يقلب في النار.
يا ليتنا أطعنا الله: أي يتمنون بأقوالهم لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول.
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا: هذا قول الأتباع يشكون إلى الله سادتهم ورؤساءهم.
فأضلونا السبيلا: أي طريق الهدى الموصل إلى رضا الله عز وجل بطاعته.
آتهم ضعفين من العذاب: أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا لأنهم أضلونا.
والعنهم لعنا كبيراً: أي أخزهم خزياً متعدد المرات في عذاب جهنم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ (1) } أي ميقات مجيئها السائلون مشركون وأهل الكتاب فالمشركون يسألون عنها استبعاداً لها فسؤالهم سؤال استهزاء واليهود يسألون امتحانا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره تعالى أن يجيب السائلين بجواب واحد ألا وهو إنما علمها عند الله، أي انحصر علمها في الله تعالى إذ أخفى الله تعالى أمرها عن الملائكة والمقربين منهم والأنبياء والمرسلين منهم كذلك فضلا عن غيرهم فلا يعلم وقت مجيئها إلا هو سبحان وتعالى. وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} أي لا أحد يعلمك بها أيها الرسول، وقوله {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} أي وما يشعرك يا رسولنا لعل الساعة تكون قريبة القيام وهي كذلك قال تعالى {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} وقال {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فأعلم بالقرب ولم يعلم بالوقت لحكم عالية منها استمرار الحياة كما (2) هي حتى آخر ساعة.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} المكذبين بالساعة المنكرين لرسالتك الجاحدين بنبوتك لعنهم فطردهم من رحمته وأعد لهم ناراً مستعرة في جهنم خالدين فيها إذا دخلوها لم
__________
1 - شاهد قرب الساعة في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى". وحذفت التاء من قريبا ذهاباً بالساعة إلى اليوم كما حذفت من قريب في قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين) ذهاباً بالرحمة إلى العفو.
2 - من الحكم العالية لإخفاء الساعة أن يكون العبد مستعدا لها بالإيمان وصالح الأعمال في كل وقت وكذلك ساعة الفرد وهي الموت.(4/295)
يخرجوا منها أبدا {لا يَجِدُونَ وَلِيّاً} أي يتولاهم فيدفع عنهم {وَلا نَصِيراً} أي ينصرهم ويخلصهم من محنتهم في جهنم. وقوله {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} (1) تصرف من جهة إلى جهة كما يقلب اللحم عند شيه يقولون عند ذلك يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول يتحسرون متمنين لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا ولم يكونوا عصوا الله والرسول. وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} (2) هذه شكوى منهم واعتذاراً وأنى لهم أن تقبل شكواهم وينفعهم اعتذارهم. أطعناهم فيما كانوا يأمروننا به من الكفر والشرك وفعل الشر فأضلونا السبيلا أي طريق الهدى فعشنا ضالين ومتنا كافرين وحشرنا مع المجرمين {رَبَّنَا} أي يا ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي ضاعف يا ربنا لسادتنا وكبرائنا الذين أضلونا ضاعف لهم العذاب فعذبهم ضعفي عذابنا، والعنهم أي واخزهم في العذاب خزياً كبيراً يتوالى (3) عليهم دائماً وأبداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن علم الساعة استأثر الله به فلا يعلم وقت مجيئها غيره.
2- بيان أن الساعة قريبة القيام، ولا منافاة بين قربها وعدم علم قيامها.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الكافرين فيها.
4- بيان أن طاعة السادة والكبراء في معاصي الله ورسوله يعود بالوبال على فاعليه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
__________
1 - وجائز أن تقلب الوجوه أيضا من لفح النار من الاسوداد إلى الاخضرار.
2 - قرئ ساداتنا بكسر التاء جمع سيد.
3 - الضعف بكسر الضاد العدد المماثل للمعدود فالأربعة ضعف الاثنين وقرئ كثيراً وكبيراً وكثيراً يناسب قولهم ضعفين.(4/296)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي يا من صدقوا بالله ورسوله ولقاء الله وما جاء به رسول الله.
لا تكونوا كالذين آذوا موسى: أي لا تكونوا مع نبيكم كما كان بنو إسرائيل مع موسى إذ آذوه بقولهم إنه ما يمنعه من الاغتسال معنا إلا أنه آدر.
فبرأه الله مما قالوا: أي أراهم أنه لم يكن به أدرة وهي انتفاخ إحدى الخصيتين.
وكان عند الله وجيها: أي ذا جاهٍ عظيم عند الله فلا يخيّب له مسعى ولا يرد له مطلباً.
وقولوا قولا سديداً: أي صدقاً صائباً.
يصلح لكم أعمالكم: أي الدينية والدنيوية إذ على الصدق والموافقة للشرع نجاح الأعمال والفوز بثمارها.
فقد فاز فوزاً عظيماً: أي نال غاية مطلوبه وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
إنا عرضنا الأمانة: أي ما ائتمن عليه الإنسان من سائر التكاليف الشرعية وما ائتمنه عليه أخوه من حفظ مال أو قول أو عرض أو عمل.
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها: أي رفضن الالتزام بها وخفن عاقبة تضييعها.
وحملها الإنسان: أي آدم وذريته.
إنه كان ظلوماً جهولاً: أي لأنه كان ظلوماً أي كثير الظلم لنفسه جهولاً بالعواقب.(4/297)
ليعذب الله المنافقين: أي وتحملها الإنسان قضاء وقدراً ليرتب الله تعالى على ذلك عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات فيغفر لهم ويرحمهم وكان الله غفوراً رحيماً.
معنى الآيات:
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ينادي الله تعالى مؤمني هذه الأمة ناهياً لهم عن أذى نبيهم بأدنى أذى، وأن لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى في غير موطن ومن ذلك ما ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه في قوله من رواية مسلم (1) "أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده فقالوا: ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب يوماً يغتسل فوضع ثوبه (2) على حجر وأخذ يغتسل وإذا بالحجر يهرب بالثوب فيجري موسى وراءه حتى وقف به على جمع من بني إسرائيل فرأوا أنه ليس به أدرة ولا برص كما قالوا فهذا معنى فبرأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها أي ذا جاه عظيم.
ومما حصل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أذى أذاه في اتهام زوجه بالفاحشة من قبل أصحاب الإفك وقول بعضهم له وقد قسم مالا هذه قسمة ما أريد به وجه الله.
وقول بعضهم أعدل فينا يا رسول الله فقال له ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟
وكان يقول يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر!! هذا ما دلت عليه الآية الأولى (69) أما الآية الثانية (70) فقد نادى تعالى عباده المؤمنين الذين نهاهم عن أذية نبيهم وأن لا يكونوا في ذلك كقوم موسى بن عمران ناداهم ليأمرهم بأمرين الأول بتقواه عز وجل إذ قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا الله ورسوله. {اتَّقُوا اللهَ} أي خافوا عقابه. فأدوا فرائضه واجتنبوا محارمه. والثاني بالتزام القول الحق الصائب (3) السديد، ورتب على الأمرين صلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم إذ قول الحق والتزام الصدق مما يجعل الأقوال والأعمال مثمرة نافعة، فتثمر زكاة النفس وطهارة الروح. ثم أخبرهم مبشراً إياهم بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} في الأمر والنهي فقد فاز فوزاً عظيماً وهي سعادة الدارين: النجاة من كل مخوف والظفر بكل محبوب مرغوب ومن
__________
1 - رواه البخاري بمعناه أيضاً.
2 - قال أهل العلم في وضع موسى ثوبه على الحجر ودخوله الماء عرياناً دليل على جواز مثل هذا الصنيع وهو كذلك، وهذا الجواز لا يتنافى الاستحباب إذ التستر مستحب بلا خلاف.
3 - القول السديد هو لا إله إلا الله وهو القصد الحق وهو الذي يوافق ظاهره باطنه، وهو ما أريد به وجه الله دون سواه فالقول السديد الصائب يشمل كل هذا الذي ذكر.(4/298)
ذلك النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما تضمنه قوله تعالى {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} يخبر تعالى منبهاً محذراً فيقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} (1) وهي شاملة للتكاليف الشرعية كلها ولكل ما ائتمن عليه الإنسان من شيء يحفظه لمن ائتمنه عليه حتى يرده إليه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال بعد أن خلق الله لها عقلاً ونطقاً ففهمت الخطاب وردت الجواب فأبت تحملها بثوابها وأشفقت وخافت من تبعتها، وعرضت على الإنسان آدم فحملها بتبعتها من ثواب وعقاب لأنه كان ظلوماً لنفسه يوردها موارد السوء جهولاً بعواقب الأمور. هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (72) وهي قوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً (2) جَهُولاً} . وقوله تعالى {لِيُعَذِّبَ (3) اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ (4) وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي بتبعة النفاق والشرك، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي تمّ عرضُ الأمانة وقبولُ آدم لها ليؤول الأمر إلى أن يكفر بعض أفراد الإنسان فيعذبوا بكفرهم الذي نجم عن تضييع الأمانة، ويؤمن بعض آخر فيفرط بعض التفريط ويتوب الله عليه فيغفر له ويدخله الجنة وكان الله غفوراً رحيماً ومن آثار ذلك أن تاب الله على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم ورحمهم بإدخالهم الجنة فسبحان الله المدبر الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تقوى الله عز وجل بفعل الأوامر واجتناب المناهي.
2- صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس، وطيب الحياة متوقف على التزام الصدق في
__________
1 - روى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال قالت وما فيها؟ قيل لها إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فقالت لا قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال وما هي؟ قال إن أحسنت أجرتُك وإن أسأت عذبتك قال فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر.
2 - فكان الإنسان فريقين فريق ظلوم وفريق راشد عالم.
3 - ليعذب اللام متعلقة بحمل أي حملها ليعذب العاصي ويثاب المطيع فهي لام التعليل وتعذيبهم نتيجة إضاعتهم الأمانة، ورحمة المؤمنين والمؤمنات نتيجة محافظتهم على الأمانة برعايتهم لها وسر ذلك أن التكاليف عملها يزكي النفس ويطهرها فتتأهل للجنة، وعدم عملها بتركها يسبب خبث النفس وهو يؤهل للنار وعذابها.
4 - ذكر المنافقات والمشركات لأن المقام كمقام الإشهاد يتطلب ذكر الشاهد إقامة للحجة وإظهاراً للعدالة ولأن الجزاء العادل يتطلب التنصيص على من يقضى له أو عليه.(4/299)
القول والعمل وهو القول السديد المنافي للكذب والانحراف في القول والعمل
3- طاعة الله ورسوله سبيل الفوز والفلاح في الدين
4- وجوب رعاية الأمانة وأدائها، ولم يخل احد من أمانة
5- وصف الإنسان بالظلم والجهل وبالكفر والمهانة والضعف ف آيات أخرى يستلزم طلب علاج لهذه الصفات وعلاجها جاء مبيناً في سورة المعارج في قوله {إِلا الْمُصَلِّينَ} إلي قوله {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(4/300)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سورة سبأ (1)
مكية
وآياتها أربع وخمسون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
شرح الكلمات:
الحمد لله: أي الوصف بالجميل واجب لله مستحق له.
الذي له ما في السموات وما في الأرض: أي خلقاً وملكاً وتصريفاً وتدبيراً.
وله الحمد في الآخرة: أي يحمده فيها أولياؤه وهم في رياض الجنان، كما له الحمد في الدنيا.
وهو الحكيم الخبير: أي الحكيم في أفعاله الخبير بأحوال عباده.
يعلم ما يلج في الأرض: أي ما يدخل فيها من مطر وأموات وكنوز.
وما يخرج منها: أي من نبات وعيون ومعادن.
وما ينزل من السماء: أي من ملائكة وأمطار وأرزاق ونحوها.
__________
1 - هذه السورة "الحمد لله" هي إحدى خمس سور مفتتحة بالحمد لله وهن كلهن مكيات أولهن الفاتحة وآخرهن فاطر.(4/300)
وما يعرج فيها: أي وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد وأرواحهم بعد الموت.
وهو الرحيم الغفور: أي الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده بأن له الحمد (1) والشكر الكاملين التامين، دون سائر خلقه، فلا يُحمد على الحقيقة إلا هو أما مخلوقاته فكل ما يحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها فلا يستحق الحمد على الحقيقة إلا الله، كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وتدبيراً وتصريفاً وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا، {وَلَهُ (2) الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السلام فيحمدونه على ذلك {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} وقوله تعالى {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها الخبير بأحوالها العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.
وقوله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} أي ما يدخل (3) في الأرض من مطر وكنوز وأموات، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي من الأرض من نبات ومعادن ومياه، وما ينزل من السماء من أمطار وملائكة وأرزاق (4) ، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي يصعد من ملائكة وأعمال العباد. وهو مع هذه القدرة والجلال والكمال هو وحده الرحيم بعباده المؤمنين الغفور للتائبين. بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية وهي صفات جلال وجمال كمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه فكل تأليه لغيره هو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلي عنه، والتنديد بفاعله حتى يتركه ويتخلى عنه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى (5) وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان.
__________
1 - الحمد الكامل والثناء الشامل كله لله، إذ النعم كلها منه وله الحمد في الأولى لأنه المالك وله الحمد في الآخرة كذلك.
2 - الجملة عطف على الصلة أي والذي له الحمد في الآخرة، وفيها إشارة إلى أنه مالك الأمر في الآخرة.
3 - الذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم من باب أولى ما يدب على سطحها وما يزحف فوقها والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها يعلم من باب أولى ما يجول في أرجائها ويعلم سير كواكبها.
4 - وكذا من الثلوج والبرد والصواعق.
5 - حمده تعالى نفسه دليل على أنه محب الحمد. ولذا كان الحمد رأس الشكر وشاهده قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى حتى إنه حمد نفسه.(4/301)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
2- بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال.
3- لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى.
4- بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه.
5- تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
شرح الكلمات:
لا تأتينا الساعة: أي القيامة.
لا يعزب عنه: أي لا يغيب عنه.
مثقال ذرة: أي وزن ذرة: أصغر نملة.(4/302)
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر: أصغر من الذرة ولا أكبر منها.
إلا في كتاب مبين: أي موجود في اللوح المحفوظ مكتوب فيه.
ليجزي الذين: أي أثبته في اللوح المحفوظ ليحاسب به ويجزي صاحبه.
والذين سعوا في آياتنا: أي عملوا على إبطالها وسعوا في ذلك جهدهم.
معاجزين: أي مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم, وأنهم يفوتوننا فلا نبعثهم ولا نحاسبهم ولا نجزيهم.
عذاب من رجز أليم: أي عذاب من أقبح العذاب وأسوأه.
ويرى الذين أوتوا العلم: أي ويعلم الذين أوتوا العلم وهم علماء أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأصحابه.
الذي أنزل إليك من ربك هو الحق: أي القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد: أي القرآن يهدي إلى صراط الله الموصل إلى رضاه وجواره الكريم وهو الإسلام. والعزيز ذو العزة والحميد المحمود.
معنى الآيات:
بعد ما قررت الآيات السابقة توحيد الله في ربوبيته وألوهيته ذكر تعالى في هذه الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى مخبراً بما قاله منكروا البعث والجزاء: {وَقَالَ الَّذِينَ (1) كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} (2) وهو إنكار منهم للبعث إذ الساعة هي ساعة الفناء والبعث بعدها، وأمر رسوله أن يقول لهم: {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي أقسم لهم بالله تعالى ربه ورب كل شيء لتأتينهم أحبوا أم كرهوا ثم أثنى الرب تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم إذ البعث يتوقف على العلم كما يتوقف على القدرة والقدرة حاصلة، إذ خلقهم ورزقهم ويميتهم. فذكر تعالى أنه عالم الغيب وهو (3) كل ما غاب في السموات وفي الأرض. وأخبر أنه لا يعزب أي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة أي (4) وزن ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر أيضاً إلا في كتاب مبين أي
__________
1 - روي أن أبا سفيان هو الذي قال هذه المقالة حيث قال لإخوانه من أهل الكفر بمكة واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً ولا نبعث فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليه دعواه بقوله (قل بلى وربي لتبعثن) الآية.
2 - الساعة علم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة النشر والحشر.
3 - قرأ نافع وعنه ورش عالم بالرفع على الابتداء وقرأ حفص بالخفض نعت لاسم الجلالة.
4 - قال القرطبي مثقال ذرة أي قدر نملة صغيرة.(4/303)
بين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل أحداث العالم فلا حركة ولا سكون وقع أو يقع في الكون إلا وله صورته ووقته في اللوح المحفوظ.
هذا ما تضمنته الآية الثالثة وقوله تعالى في الآية (4) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي إذ الحكمة من كتابة الأحداث صغيرها وكبيرها ومن البعث الآخر هي ليجزي تعالى الذين آمنوا أي صدقوا الله رسوله وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض والسنن بما ذكر من جزائهم في قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الجنة وقوله في الآية (5) {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} بين فيه جزاء الكافرين بعد أن بين جزاء المؤمنين ذلك الجزاء الذي هو حكمة وعلة البعث وكتابة الأعمال في اللوح المحفوظ فقال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ (1) } أي والذين عملوا جهدهم في إبطال آيات الله إذ قالوا فيها أنها من كلام الكهان وأنها شعر وأساطير الأولين حتى لا يؤمنوا ولا يوحدوا أولئك البعداء في الخسّة والانحطاط لهم جزاء، عذاب من رجز أليم (2) والرجز سيء العذاب وأشده ومعنى أليم أي ذي ألم وإيجاع شديد.
وقوله تعالى: في الآية (6) {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، أي ويعلم علماء أهل الكتاب كعبد الله (3) بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب. الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، وعلم أهل الكتاب بأن القرآن حقّ ناتج عن موافقته لما في كتاب الله التوراة من عقيدة القدر وكتابة الأعمال دقيقها وجليلها في اللوح المحفوظ ليجزي بها الله تعالى المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه الآية (6) والأخيرة وهي قوله تعالى: {وَيَرَى} أي وليعلم {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وهو الإسلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير توحيد الألوهية.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر وكتابة الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ.
3- طلب شهادة أهل الكتاب على صحة الإسلام والحصول عليها لموافقة التوراة للقرآن.
4- تقرير النبوة إذ القرآن فرع نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودليلها المقرر لها.
__________
1 - قال القرطبي أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا وما في التفسير أشمل وأوضح.
2 - قرأ نافع بجر أليم نعت لرجز وقرأ حفص برفع أليم نعت لعذاب المرفوع.
3 - على هذا التفسير أن الآية مدنية كما قال بعضهم حيث استثناها من آيات السورة وجائز أن يراد بالذين أوتوا العلم أبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب والأصحاب رضوان الله عليهم إذ هم من أولي العلم.(4/304)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
شرح الكلمات:
وقال الذين كفروا: أي قال بعضهم لبعض على جهة التعجيب.
هل ندلكم على رجل: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا مزقتم كل ممزق: أي قطعتم كل التقطيع.
إنكم لفي خلق جديد: أي تبعثون خلقاً جديداً لم ينقص منكم شيء.
أم به جنة: أي جنون تخيل له بذلك.
بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد: أي ليس الأمر كما يقول المشركون من افتراء الرسول أو جنونه بل الأمر الثابت والواقع أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في الآخرة والضلال البعيد في الدنيا.
أفلم يروا: أي ينظروا.
إلى ما بين أيديهم وما خلفهم: أي من أمامهم وورائهم وفوقهم وتحتهم إذ هم محاطون من كل جهة من السماء والأرض.
أو نسقط عليهم كسفاً: أي قطعاً جمع كسفة أي قطعة.
إن في ذلك لآية: أي علامة واضحة ودليلاً قاطعا على قدرة الله عليهم.(4/305)
لكل عبد منيب: أي لكل مؤمن منيب إلى ربّه رجّاع إليه في أمره كله.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء إنه لما قررها تعالى في الآيات قبل أورد هنا ما يتقاوله المشركون بينهم في تهكم واستهزاء واستبعاد للحياة الآخرة. فقال تعالى حاكياً قولهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم مشركو مكة أي بعضهم لبعض متعجبين {هَلْ نَدُلُّكُمْ (1) عَلَى رَجُلٍ} يعنون محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُنَبِّئُكُمْ} أي يخبركم بأنكم إذا متم وتمزقت لحومكم وتكسرت عظامكم وذهبتم في الأرض تراباً تبعثون في خلق جديد بعد أن مزقتم كل ممزق (2) أي كل التمزيق فلم يبق لكم شيء متصل ببعضه بعضاً. {أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي (3) محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم؟! أم به جنة أي مس من جنون فهي تخيل له صور البعث وما يجري فيه وهو يخبر به ويدعو إلى الإيمان به؟ وهنا رد الله تعالى عليهم كذبهم وباطلهم فقال {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (4) بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} أي ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذباً، أو به جنون فتخيل له بالبعث وإنما الأمر الثابت والواقع المقطوع به أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة.
ثم قال تعالى مهدداً لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفَلَمْ يَرَوْا} أي أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم (5) وما خلفهم من السماء والأرض أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم أي الأرض تحتهم والسماء فوقهم {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} فيعودون فيها {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ (6) كِسَفاً} أي قطعا من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهربا والجواب لا، لأنهم مهما جروْا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم. وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ
__________
1 - الاستفهام مستعمل في العرض مثل: (فقل هل لك إلى أن تزكى) أي يعرض عليه ما هو صالح له. والاستفهام في الآية وإن كان للعرض فهو مكنى به عن التعجب أي هل ندلكم على أعجوبة وهي رجل ينبئكم بهذا النبأ.
2 - التمزق والتفرق والتشتيت.
3 - هذه الجملة (افترى) صفة ثابتة لرجل والصفة والصفة الأولى هي قوله ينبئكم.
4 - في الجملة إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا إذ أخبر أنهم في الآخرة في العذاب وفي الدنيا في الضلال البعيد.
5 - المراد بما بين أيديهم هو ما يستقبله الإنسان من الكائنات السماوية والأرضية، وبما خلفهم وهو ما وراء الإنسان من الكائنات الأرضية والسماوية.
6 - قرأ نافع كسفاً بسكون السين وقرأ حفص بفتحها.(4/306)
لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم وإسقاط كسف من السماء على من شاء ذلك لهم آية وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفر بالله وبرسوله وكذبوا بلقائه. وكون المذكور آية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه كلما أذنب آب لخشيته من ربه فالخائف الخاشي هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإنسان وقدرة الله على خسف الأرض به وإسقاط السماء كسفا عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان المشركون عليه من استهزاء وتكذيب وسخرية بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه.
3- لفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى المحيطة بالإنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده.
4- فضل الإنابة إلى الله وشرف المنيب. والإنابة الرجوع إلى التوبة بعد الذنب والمعصية، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ(4/307)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
شرح الكلمات:
ولقد آتينا داود منا فضلاً: أي نبوة وملكاً.
يا جبال أوِّبي معه: أي وقلنا يا جبال أوِّبي معه أي رجّعي بالتسبيح.
والطير: أي والطير تسبح أيضاً معه.
وألنا له الحديد: أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء.
أن اعمل سابغات: أي دروعاً طويلة تستر المقاتل وتقيه ضربة السيف.
وقدر في السرد: أي اجعل المسمار مناسباً للحلقة، فلا يكن غليظاً ولا دقيقاً، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدروع وعدم الانتفاع بها.
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر: أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها شهر من منتصف النهار إلى الليل شهر كذلك أي مسافة شهر.
وأسلنا له عين القطر: أي وأسلنا له عين النحاس.
ومن يزغ منهم: أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير.
من محاريب: جمع محراب المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها.
وجفان كالجواب: أي وقصاع في الكبر كالحياض التي حول الآبار يجبى إليها الماء.
وقدور راسيات: أي وقدور كبار على الأثافي لكبرها لا تحول.(4/308)
إلا دابة الأرض: أي الأرضة.
تأكل منسأته: أي عصاه بلغة الحبشة.
فلما خرّ: أي سقط على الأرض ميتاً.
تبيّنت الجن: أي انكشف لها فعرفت.
في العذاب المهين: وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة.
معنى الآيات:
يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيباً لهم في طاعته وترهيباً من معصيته فيقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا (1) فَضْلاً} وهو النبوة والزبور "كتاب" والملك. وقلنا للجبال {أَوِّبِي} مع سليمان أي ارجعي صوت تسبيحه (2) والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير. وهذا تسخير لا يقدر عليه إلا الله. وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (3) } وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء، وقلنا له اعمل دروعاً طويلة سابغات تستتر بها في الحروب، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ (4) } وقوله {وَاعْمَلُوا صَالِحاً (5) } أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الإثم والمحرمات. وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيه وعد ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة.
وقوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي سخرنا لسليمان بن داود الريح {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي تقطع مسافة شهر في الصباح، وأخرى في المساء أي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد، وذلك أنه كان لسليمان مركب من خشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفعت جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول إلى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماما. وقوله تعالى {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} وهو النحاس فكما ألان لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس.
__________
1 - بين تعالى بهذه الآية أن إرسال نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن أمراً خارقاً للعادة ولا منافياً لمقتضيات العقول إذ أرسل من قبله رسلاً وآتى داود من الإنعام ما قرر به رسالته وأثبت به نبوته وكذا ولده سليمان عليهما السلام.
2 - والطير منصوب بالعطف على المنادى "يا جبال" لأن المعطوف المعرف على المنادى يجوز نصبه ورفعه والنصب أولى.
3 - الحديد تراب معدني إذا صهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولان وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب.
4 - قدر الشيء جعله على قدر معيّن والسرد هو تركيب حلقها ومساميرها بصورة متناسبة بحيث لا يعظم المسمار فيغلق الحلقة، ولا يرق فلا تمسكه.
5 - لمّا عدد عليه نعمه أمره بشكره وهو العمل الصالح الشامل للحمد والشكر والطاعة والصبر.(4/309)
وقوله تعالى {وَمِنَ الْجِنِّ} أي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا. وذلك بإذن ربه تعالى القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء. وقوله {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ} أي ومن يعدل من الجن {عَنْ أَمْرِنَا} أي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} وذلك يوم القيامة (1) . وقوله {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} بيان لما في قوله {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها، وتماثيل أي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة، كالجواب أي في الكبر والجابية (2) حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات أي ويعملون له قدوراً ضخمة لا تتحول بل تبقى دائما موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي.
وقوله تعالى {اعْمَلُوا} أي قلنا لهم اعملوا آل داود شكراً أي اعملوا الصالحات شكرًا لله تعالى على هذا الإفضال والإنعام أي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكراً لله على نعمه. روي أنه لما أمروا بهذا الأمر قال داود عليه السلام لآله أيكم يكفيني النهار فإني أكفيكم الليل فصلوا لله شكراً فما شئت أن ترى في مسجدهم راكعاً أو ساجداً في أية ساعة من ليل أو نهار إلا رأيت. ويكفي شاهداً أن سليمان مات وهو قائم يصلي في المحراب. وقوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لاستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى.
وقوله تعالى في الآية (14) {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أي توفيناه: ما دلهم على موته إلا دابة في الأرض الأرضة المعروفة تأكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض، وذلك أنه سأل ربه أن يعمي خبر موته عن الجن، حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون، فمات وهو متكئ على عصاه يصلي في محرابه، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل الشاق وهم لا يدرون. هذا معنى
__________
1 - وجائز أن يكون هناك ملك بيده سوط من نار أو شهاب يضرب به الشيطان إن عصى سليمان كما روي عن السلف.
2 - قال الشاعر:
تروح على آل المحلق جفنة
كجابية الشيخ العراقي تفهق
أي لامتلائها.(4/310)
قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} -كما يدعي بعضهم- {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات.
2- فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله.
3- مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين.
4- شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصه الدليل كتحريم الصور (1) والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم.
5- وجوب الشكر على النعم، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإكثار منها.
6- تقرير أن علم الغيب لله وحده.
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)
__________
1 - لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصورين ولم يستثن فقال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم. وفي البخاري أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون. وحديث الموطأ. إلا ما كان رقما في الثوب فهو وإن خص جميع الصور فإن حديث عائشة رضي الله عنها دل على كراهيته إذ قال لها أخرجيه عني فهتكته والرخصة في لعب البنات لما في الصحيح على شرط أن لا تكون كأشباه التماثيل.(4/311)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
شرح الكلمات:
لقد كان لسبأ في مسكنهم: أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.
آية: أي علامة على قدرة الله وهي جنتان عن يمين وشمال.
بلدة طيبة ورب غفور: أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها، والله رب غفور.
فاعرضوا: أي عن شكر الله وعبادته.
سيل العرم: أي سد السيل العرم.
ذواتي أكل خمط وأثل: أي صاحبتي أكل مرّ وبشع وشجر الأثل.
ذلك: أي التبديل جزيناهم بكفرهم.
القرى التي باركنا فيها: هي قرى الشام المبارك فيها.
قرى ظاهرة: أي متواصلة من اليمن إلى الشام.
وقدرنا فيها السير: أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.
ومزقناهم كل ممزق: أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.
إن في ذلك لآيات: أي في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبراً.
لكل صبّار شكور: أي صبار على الطاعات وعن المعاصي شكور على النعم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته(4/312)
وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ (1) آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحميروكندة ومذحج وأنمار، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى {في مسكنهم} أي في مساكنهم {آيَةٌ} أي علامة على قدرة الله وإفضاله على (2) عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادي أي جنتان عن يمين الوادي وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضر، تسقى بماء سد مأرب. {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي هذا الإنعام بالإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله.
وقوله {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها، {وَرَبٌّ غَفُورٌ (3) } يغفر ذنوبكم متى أذببتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أبطرتْهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروها كما قال تعالى {فَأَعْرَضُوا} بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإعراضهم وعدم شكرهم كما هي سنته في عباده. قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} وذلك بأن خرب السد، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمْحلَت الأرض، وتبدلت قال تعالى {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} أي مرٍّ بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء، وشيء من سدر قليل. هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى {ذَلِكَ} أي الجزاء {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} بسبب كفرهم وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (4) } أي وهل نجازي بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة إلى نقمة غير الكفور.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ (5) وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي مدن الشام {قُرىً ظَاهِرَةً} أي مدناً ظاهرة على المرتفعات من الأرض، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة، وقوله {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بحيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل إلا في مدينة ويخرج بعد
__________
1 - قرأ نافع مساكنهم بالجمع وقرأ حفص بالإفراد مسكنهم وجمعه مساكن.
2 - إذ لو اجتمعت البشرية كلها على إخراج شجرة من خشبة يابسة لما استطاعت فكيف بأنواع النوار وألوانه واختلاف طعومه وروائحه وأزهاره.
3 - في الآية إشارة إلى أن الذنب ملازم للإنسان لا يعصم منه إلا من أراد الله عصمته كأنبيائه، ولذا أعلمهم أن المنعم بهذه النعم رب غفور يغفر ذنب عباده إذا تابوا إليه فدعاهم بهذا إلى التوبة وأن الذنب مع التوبة لا يسبب الهلاك العام أو سلب النعم ما دام هناك توبة تعقب الذنب.
4 - قرأ حفص وهل نجازي بنون العظمة والبناء للفاعل والكفور مفعول به منصوب وقرأ نافع والجمهور وهل يجازى بياء الغيبة مضمومة والفعل مبني للمفعول والكفور نائب فاعل والمعنى ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور أي الشديد الكفر عظيمه.
5 - هذه الآية والتي بعدها ذكرتا تتميماً للقصة.(4/313)
القيلولة فلا ينام إلا في مدينة أخرى حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقولهم تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم إلا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم وقالهم أن يباعد بين (1) مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب هذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل (2) . قال تعالى {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعُرِّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وقوله تعالى {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عود اتصال أبداً فذهب الأوس والخزرج إلى يثرب "المدينة النبوية" وهم الأنصار، وذهب غسان إلى (3) الشام، والأزد إلى عُمان، وخزاعة إلى تهامة وأصبحوا مضرب المثل يقال: ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} أي إن في إنعام الله على أبناء سبأ ثم نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبراً يعتبر بها كل صبور على الطاعات فعلاً وعن المعاصي تركاً، {شَكُورٍ} أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من الإعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم. وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.
2- التحذير من كفر النعم بالإسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عز وجل.
3- خطر الحسد وأنه داء لا دواء له، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
4- فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.
__________
1 - قوله تعالى وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا قرأ الجمهور باعد فعل أمر من باعَد يباعِد وقرأ بعض بعّدْ فعل أمر من بعّد يبعّد على وزن جدّد، وقرأ بعض آخر باعَد فعلاً ماضياً.
2 - قيل أن المسافة التي يقطعونها بين تلك المدن آمنين من الجوع والخوف مسيرة أربعة أشهر ذهاباً وإياباً وحالهم كحال بني إسرائيل كما قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض حيث ملوا أكل اللحم والعسل.
3 - قال الشعبي فلحقت الأوس والخزرج (الأنصار) بيثرب (المدينة) وغسان وجذام ولخم بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة. فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول. تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ أي مذاهب سبأ وطرقها.(4/314)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
شرح الكلمات:
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه: أي صدق ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.
فاتبعوه: في الكفر والضلال والإضلال.
إلا فريقا منهم: أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة.
وما كان له عليهم من سلطان: أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإغراء بالشهوات.
إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك: أي لكن أذنّا له في إغوائهم - إن استطاع – بالتزيين والإغراء لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحاً ممن يكفر ويعمل سوءا.
وربك على كل شيء حفيظ: أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزي الناس بما كسبوا.(4/315)
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله: أي أنهم شركاء لله في ألوهيته.
لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض: أي ملكاً استقلالياً لا يشاركهم الله فيه.
وما لهم فيهما من شرك: أي وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض.
وما له منهم من ظهير: أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء.
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له: أي ولا تنفع الشفاعة أحداً عنده حتى إذا يأذن هو له بها.
حتى إذا فزع عن قلوبهم: أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى.
قالوا ماذا قال ربكم؟ : أي قال بعضهم لبعض استبشاراً ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق أي في الشفاعة.
وهو العلي الكبير: العلي فوق كل شيء علوّ ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ (1) إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم {فَاتَّبَعُوهُ} فيما دعاهم إليه من الشرك والإسراف والمعاصي {إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإغوائهم فإنهم لم يتبعوه. هذا ما دلت عليه الآية (20) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ} أي للشيطان {عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من (2) يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة، والذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينهضون بواجب ولا يتجنبون حراماً فيخسرون أنفسهم
__________
1 - قرأ نافع والجمهور صدق بتخفيف الدال وقرأ حفص صدّق بالتضعيف والجملة يبدوا أنها معطوفة على قوله تعالى: {وقال الذين كفروا هل ندلكم} وهو قول كفار مكة وما بين هذه الآيات وتلك اعتراض للعظة والاعتبار والمقصود من هذه الآية تنبيه المؤمنين إلى مكايد الشيطان وسوء عاقبة من يتبعه حتى يلعنوه ولا يتبعوه. قال الحسن لما أهبط آدم وحواء عليهما السلام من الجنة إلى الأرض وهبط إبليس قال إبليس أما إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف فكان ذلك ظناً من إبليس فأنزل الله تعالى لقد صدق عليهم إبليس ظنه.
2 - أي علم الشهادة والظهور الذي يتم به الثواب والعقاب فأما علم الغيب فقد علمه تبارك وتعالى، (إلا لنعلم) الخ.. جواب لقوله وما كان له عليهم من سلطان.(4/316)
وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. وقوله تعالى {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} فهو يحصي أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها.
وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا (1) الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} أي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافي الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعون ويضرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها - وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون- هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة أي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالاً ولا يملكونها شركة مع الله المالك الحق، وهو معنى قوله تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا} أي في السموات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدنى نسبة. وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده. وشيء آخر وهو أن الشفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضي الله تعالى بالشفاعة لمن أريد أن الشفاعة له، وبعد أن يأذن أيضا لمن أراد أن يشفع. فلم يبق إذاً أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذاً فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة. وقوله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عندما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم (2) البعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا: الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العلي الكبير أي العلي فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن إبليس صدق ظنّه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم.
__________
1 - هذا الأمر للتحدي والتوبيخ وهو خطاب للمشركين المؤلهين الأصنام بعد ما ساق من دلائل التوحيد فيما عرفوا من حياة داود وسليمان وأهل سبأ أمر رسوله أن يتحداهم ويوبخهم على شركهم وباطلهم.
2 - الظاهر أن من طلبوا الشفاعة لما أذن الله تعالى لهم وأصابهم الفزع والخوف فلما ذهب ذلك من قلوبهم سألوا الملائكة عما قال الله تعالى فتجيبهم الملائكة قال الحق أي قبل شفاعتكم.(4/317)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
2- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه.
3- بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة، وليس لله تعالى من ظهير أي ولا معينين يمكن التوسل بهم، وأخيراً والشفاعة لا تتم إلا بإذنه ولمن رضي له بها. ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو وليّ أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهي الدعاء، والعياذ بالله تعالى.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
شرح الكلمات:
قل من يرزقكم من السموات والأرض: من السموات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع.
قل الله: أي إن لم يجيبوا فأجب أنت فقل الله، إذ لا جواب عندهم سواه.
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين: وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقطعاً فالموحدون هم الذين على هدى(4/318)
والمشركون هم في الضلال المبين، وإنما شككهم تلطفاً بهم لعلهم يفكرون فيهتدون.
قل لا تسألون عما أجرمنا: أي إنكم لا تسألون عن ذنوبنا.
ولا نسأل عما تعملون: أي ولا نسأل نحن عما تعملون. وهذا تلطفا بهم أيضاً ليراجعوا أمرهم، ولا يحملهم الكلام على العناد.
قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق: أي قل لهم سيجمع بيننا ربنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضاً تلطف بهم وهو الحق.
قل أروني الذين ألحقتم به شركاء: أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناما لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم. وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟!.
كلا بل هو الله العزيز الحكيم: كلا: لن تكون الأصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم.
كافة للناس: أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم.
بشيراً ونذيراً: بشيراً للمؤمنين بالجنة، ونذيراً للكافرين بعذاب النار.
قل لكم ميعاد يوم: هو يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سل قومك مبكتا لهم: {قُلْ مَنْ (1) يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلاً الله. إذ ليس من جواب عندهم سواه.
وقوله {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً (2) أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف
__________
1 - لما أبطل بتلك الحجج آلهة المشركين حيث دعاؤها لا يجدي نفعاً للداعين لأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا شفاعتها تنفع عابديها قرّر بهذه الآيات استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره، واستعمل أسلوب الجدل لإقامة الحجة على الخصم فقال: قل من يرزقكم.
2 - وإياكم معطوف على محل اسم إن المنصوب والجملة معطوفة على الاستفهام "قل من يرزقكم الخ" وهذا يقال له أسلوب المنصف وهو أن لا يذكر المجادل لمن يجادله ما يغيظه أو يثير حفيظته رجاء هدايته إلى الحق.(4/319)
بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر في الأمر الذي يجادل فيه، وإلاّ فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدى، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع. وقوله تعالى {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا (1) أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} وهذا أيضاً من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه، فقوله: {لا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطف في الخطاب، وأما المشركون فإن لهم أعمالاً من الشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعاً لا يسألون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا. وقوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} أي يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} أي يحكم ويفصل بيننا {بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ} أي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهراً وباطناً. وفي هذا جذب لهم بلطف وبدون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة. وقوله {قُلْ أَرُونِيَ (2) الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين أوروني آلهتكم التي أشركتموها بالله وألحقتموها به وقلتم في تلبيتكم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك. إلا شريكاً تملكه وما ملك. وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون وينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإتيان بهم غير أصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال: {كَلَّا، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين {الْعَزِيزُ} أي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده.
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ (3) إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (4) بَشِيراً وَنَذِيراً} أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو إليه.
__________
1 - هذا أيضا من الباب الأول وهو حمل الخصم على عدم اللجاج في الخصومة ليبقى قادراً على الفهم وقبول الحق متى ظهر له ولاح.
2 - الأمر هنا للتعجيز لإقامة الحجة عند ثبوت عجز المخاصم، ولما ثبت عجزهم زجرهم بكلمة كلا وردعهم بها، وحملهم على الاعتراف ببطلان آلهتهم.
3 - ولما تقرر مبدأ التوحيد عطف عليه تقرير النبوة المحمدية فقال وما أرسلناك. وبذلك ثبتت رسالته.
4 - في الكلام تقديم وتأخير إذ الأصل وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة.(4/320)
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (1) } فيه تعزية للرسول أيضاً إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفاً مما لديه. وقوله: {وَيَقُولُونَ} أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ (2) } أي العذاب الذي تهددنا به وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به. وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ (3) } يوم معيّن عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم محكمٌ لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التلطف مع الخصم فسحاً له في مجال التفكير لعله يثوب إلى رشده.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوي في ذلك.
3- تقرير عقيدة النبوة المحمدية، وعموم رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس كافة.
4- يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
وَقَالَ الَّذِينَ
__________
1 - إذ كانوا يوم نزول هذه الآية أكثرية والمؤمنون أقلية وحتى اليوم أكثر الناس لا يعلمون جلال الله وجماله وأسماءه وصفاته وما عنده وما لديه، ولا محابه ولا مكارهه.
2 - الاستفهام للاستبعاد مشوباً بالتعجب من كثرة سؤالهم عن هذا الوعد.
3 - الميعاد مصدر ميمي وهو الوقت المعين لحدوث الشيء وهو هنا إما يوم القيامة أو حضور الموت وجائز أن يكون يوم هلاكهم وهو يوم بدر وإضافته بيانية.(4/321)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
شرح الكلمات:
ولا بالذي بين يديه: أي من الكتب السابقة وهي التوراة والإنجيل.
يرجع بعضهم إلى بعض القول: أي يقول الأتباع كذا ويرد عليهم المتبوعون بكذا وهو المبيّن في الآيات.
أنحن صددناكم عن الهدى: أي ينكر المستكبرون وهم المتبوعون أن يكونوا صدوا التابعين لهم عن الهدى بعد إذ جاءهم بواسطة رسوله.
بل كنتم مجرمين: أي ظلمة فاسدين مفسدين.
بل مكر الليل والنهار: أي ليس الأمر كما ادعيتم بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي جعلنا نكفر بالله.
ونجعل له أنداداً: أي شركاء نعبدهم معه فننادُّه بهم.
وأسروا الندامة: أي أخفوها إذ لا فائدة منها أو أظهروها أي أظهروا الندم إذ أسروا الندامة له معنيان أخفى وأظهر.
وجعلنا الأغلال في أعناق: أي وجعلنا الأغلال جمع غل حديدة تجعل في عنق المجرم.
هل يجزون إلا ما كانوا يعملون: أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء فيخبر تعالى فيقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي من مشركي مكة قالوا للرسول والمؤمنين لن نؤمن (1) بهذا القرآن الذي أنزل على محمد، ولا بالذي أنزل على من تقدمه من الأنبياء كالتوراة والإنحيل، وذلك لما احتج عليهم
__________
1 - القائل هذا أبو جهل بن هشام وذلك أن المشركين سألوا أهل الكتاب من اليهود فلما أعلموهم بما يوافق ما يقول الرسول ويدعوا إليه من التوحيد والبعث والجزاء والرسالة قالوا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه أي من التوراة والإنجيل.(4/322)
بتقرير التوراة والإنجيل للتوحيد والنبوات والبعث والجزاء قالوا لن نؤمن بالجميع عناداً ومكابرة وجحوداً وظلما. ولازم هذا أنهم ظلمة معاندون ومن باب دعوتهم إلى الهدى ستعرض الآيات لهم حالهم يوم القيامة فيقول تعالى لرسوله وهم يستمعون {وَلَوْ تَرَى} (1) يا رسولنا {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي يتحاورون متلاومين. يقول الذين استضعفوا وهم الفقراء المرءوسين الذين كانوا أتباعاً لكبرائهم وأغنيائهم، يقولون للذين استكبروا عليهم في الدنيا: لولا أنتم أي صرفتمونا عن الإيمان واتباع الرسول لكنا مؤمنين فيرد عليهم الكبراء بما أخبر تعالى عنهم في قوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ (2) صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} أي ما صددناكم أبدا بل كنتم مجرمين أي أصحاب إجرام وفساد ويرد عليهم المستضعفون قائلين بما أخبر تعالى به عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ (3) اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (4) } أي بل مكركم (5) بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً. قال تعالى {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ (6) } أي أخفوها لما رأوا العذاب. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي شدت أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال وهي جمع غل حديدة يشد بها المجرم، ثم أدخلوا الجحيم إذ كانوا في موقف خارج جهنم، وقوله تعالى: {هَلْ (7) يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيراً فخيرٌ وإن كان شراًّ فشرٌّ، وكانت أعمالهم كلها شرّاً وظلماً وباطلاً.
هذا وجواب لولا في أول السياق محذوف يقدر بمثل: لرأيت أمراً فظيعاً واكتفي بالعرض لوقفهم عن ذكره فإنه أتم وأشمل.
__________
1 - جواب لو محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً مدهشاً ومحيراً.
2 - الاستفهام إنكاري. أنكر عليهم قولهم إنهم صدوا عن الإيمان.
3 - المكر في اللغة الاحتيال والخديعة يقال مكر به يمكر فهو ماكر ومكار.
4 - مكر الليل والنهار الإضافة بمعنى في.
5 - مكرٌ مبتدأ والخبر محذوف تقديره ضدنا وهو جملة فعلية.
6 - الضمير في أسروا عائد على الجميع المستضعفين والمستكبرين والمعنى أنهم لما انكشف لهم العذاب المعد والمهيأ لهم وذلك عقب المحاورة التي دارت بينهم، فعلموا أن حوارهم لبعضهم غير نافع لهم أسروا الندامة أي أخفوها لعدم جدواها.
7 - الاستفهام إنكاري بقرينة الاستثناء بعده أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون أي من الشرك والظلم والشر والفساد إذ الجزاء من جنس العمل هو العدل المطلوب.(4/323)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تشابه الظلمة والمجرمين فالعرب المشركون كانوا يركنون إلى أهل الكتاب يحتجون بما عندهم على الرسول والمؤمنين، ولما وجدوا التوراة والإنجيل يقرران عقيدة البعث والجزاء والنبوة تبرأوا منهما وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالتوراة والإنحيل.
واليهود كانوا يحتجون بالتوراة على المسلمين ولما وجدوا التوراة تقرر ما يقرره القرآن تركوا الاحتجاج بالتوراة وأخذوا يحتجون بالسحر كما تقدم في البقرة في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} .
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض كامل لموقف من مواقف يوم القيامة، ومشهد من مشاهده.
3- بطلان احتجاج الناس بعمل العلماء أو الحكماء وأشراف الناس إذا كان غير موافق لشرع الله تعالى وما جاء به رسله من الحق والدين الصحيح.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)(4/324)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
شرح الكلمات:
إلا قال مترفوها: أي رؤساؤها المنعمون فيها من أهل المال والجاه.
نحن أكثر أموالاً وأولاداً: أي من المؤمنين.
يبسط الرزق لمن يشاء: امتحاناً أيشكر العبد أم يكفر.
ويقدر: أي يضيق ابتلاء أيصبر المرء أم يسخط.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: أي الحكمة في التوسعة على البعض والتضييق على البعض.
تقربكم عندنا زلفى: أي قربى بمعنى تقريباً.
إلا من آمن وعمل صالحاً: أي لكن من آمن وعمل صالحاً هو الذي تقربه تقريباً.
وهم في الغرفات آمنون: أي من المرض والموت وكل مكروه.
والذين سعوا في آياتنا: أي عملوا على إبطال القرآن والإيمان به وتحكيمه.
معاجزين: أي مقدرين عجزنا وأنهم يفوتوننا فلم نعاقبهم.
وما أنفقتم من شيء: أي من مال في الخير.
وهو خير الرازقين: أي المعطين الزرق. أما خلق الرزق فهو لله تعالى وحده.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير} هذا شروع في تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيان حال من سبق من الأمم وما واجهت به رسلها فقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} أي مدينة من المدن {مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا (1) } أي أهل المال والثروة المتنعمون بألوان المطاعم والمشارب والملابس والمراكب. قالوا لرسل الله {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} فردوا بذلك دعوتهم. {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} فاعتزوا بقوتهم، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كذبوا بالبعث والجزاء كما أن كلامهم مشعر بأنهم مغترون بأن ما أعطاهم الله من مال وولد كان لرضاه عنهم وعدم سخطه عليهم. وقوله تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ (2) الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي قل يا نبينا لأولئك المغترين بأن ما لديهم من مال وولد ناجم عن رضا الله عنهم قل لهم إن ربي جل جلاله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً له لا لرضى عنه ولا لبغض له، كما أنه يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء له لا لبغضه ولا لمحبته، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (3) } ومن بينهم مشركو قريش لا يعلمون أن بسط الرزق
__________
1 - المترفون الذين أعطاهم الله الترف وهو النعيم وسعة العيش في الدنيا وفي بناء المترفون للمجهول تعريض وتذكير لهم بالمنعم تعالى علهم يذكرون فيشكرون.
2 - بسط الرزق تيسيره وتكثيره مأخوذ من بسط الثوب وهو نشره ليتسع لصاحبه وتقدير الرزق معناه إعطاؤه مقدّراً، ويقابله ما يعطى بغير حساب.
3 - مفعول لا يعلمون محذوف وقد ذكر في التفسير وهو أنهم لا يعلمون الحكمة في بسط الرزق وتضييقه.(4/325)
كتضييقه عائد إلى تربية الناس بالسراء والضراء امتحاناً وابتلاء. وقوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} يخبر تعالى المشركين المغترين بالمال والولد يقول لهم وما أموالكم ولا أولادكم بالحال التي تقربكم منا وتجعلنا نرضى عنكم وندنيكم منا زلفى أي قربى. {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي لكن من فعلوا الوجبات والمندوبات {فَأُولَئِكَ} أي المذكورون لهم جزاء الضعف (1) ، أي جزاء تضاعف لهم حسناتهم فيه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، وذلك بسبب عملهم الصالحات {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} أي غرفات الجنة آمنون من الموت ومن كل مكروه ومنغص لسعادتهم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} يخبر تعالى أن الذين يعملون بجد وحرص في إبطال آياتنا وإطفاء نور هدايتنا في كتابنا وقلوب عبادنا المؤمنين ويظنون أنهم معجزون لنا أي فائتون لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبدا.
فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي} أي قل يا رسولنا مرة أخرى تقريراً لهذه الحقيقة العلمية التي خفيت على الناس وجهلها قومك وهي أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً لا حباً فيه ولا بغضاً له. وإنما امتحاناً له هل يشكر أو يكفر فإن شكر زدناه وأكرمناه وإن كفر سلبناه ما أعطيناه وعذبناه، {وَيَقْدِرُ لَهُ} أي لمن يشاء من عباده ابتلاءً له لا بغضاً له ولا حباً فيه. وإنما لننظر هل يصبر على الابتلاء أو يسخط ويضجر فنزيد في بلائه وشقائه.. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ (2) مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} في هذا دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فإن التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه. وختم هذا بوعده الصادق وهو أن من أنفق في سبيل الله شيئاً أخلفه الله عليه وهو تعالى خير من قيل إنه يرزق ووصف به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في الأمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء.
2- بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين أن ذلك من رضا الله تعالى عليهم.
__________
1 - الضعف بمعنى المضاعف المكرر مرة وأكثر حتى يبلغ أضعافاً مضاعفة إلى سبعمائة ضعف هي سنة الإنفاق في الجهاد.
2 - من في قوله "من شيء" بيانية وجملة فهو يخلفه جواب الشرط وجملة وهو خير الرازقين تذييل للكلام يحمل معنى الترغيب في الإنفاق في سبيل الله وفي الحديث الصحيح " يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك"، و"ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفاً " في الصحيح".(4/326)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
3- بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض، وأنها الامتحان والابتلاء فلا تدل على حبّ الله ولا
على بغضه للعبد.
4- بيان ما يقرب إلى الله ويدني منه وهو الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله لا كثرة المال
والولد كما يظن المغرورون المفتنون بالمال والولد.
5- بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة.
6- بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالاً.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
شرح الكلمات:
ويوم يحشرهم جميعا: أي اذكر يوم نحشرهم جميعاً أي جميع المشركين.
أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ : أي يقول تعالى هذا للملائكة تقريعاً للمشركين وتوبيخاً لهم.
قالوا سبحانك: أي قالت الملائكة سبحانك أي تقديساً لك عن الشرك وتنزيهاً.
أنت ولينا من دونهم: أي لا موالاة بيننا وبينهم أي يتبرأوا منهم.
بل كانوا يعبدون الجن: أي الشياطين التي كانت تتمثل لهم فيحسبونها ملائكة فيطيعونها فتلك عبادتهم لها.
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض: أي لا يملك المعبودون للعابدين.
نفعاً ولا ضراً: أي لا يملكون نفعهم فينفعونهم ولا ضرهم فيضرونهم.
ونقول للذين ظلموا: أي أشركوا غير الله في عبادته من الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين.(4/327)
عذاب النار التي كنتم بها تكذبون: أي كنتم في الدنيا تكذبون بالبعث والجزاء وهو الجنة أو النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء والتوحيد. قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ (1) } أي المشركين {جَمِيعاً} فلم نبق منهم أحدا، ثم نقول للملائكة وهم أمامهم تقريعاً للمشركين وتأنيباً: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (2) } فتتبرأ الملائكة من ذلك وينزهون الله تعالى عن الشرك فيقولون: {سُبْحَانَكَ} أي تنزيهاً لك عن الشرك وتقديساً {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أما هم فلا ولاية بيننا وبينهم {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ (3) } أي الشياطين {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} أي مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك.
وقوله تعالى {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّا} أي يقال لهم هذا القول تيئيساً وإبلاساً أي قطعاً لرجائهم في أن يشفعوا لهم. وقوله تعالى {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي كنتم تكذبون بها في الدنيا فذوقوا اليوم عذابها. والعياذ بالله من عذاب النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض أحوالها.
2- أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين كانوا يعبدون الشياطين إذ هي التي زينت لهم الشرك. أما الملائكة والأنبياء والأولياء فلم يرضوا بذلك منهم فضلاً عن أن يأمروهم به.
3- بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة.
__________
1 - هذا الكلام متصل بما قبله وهو قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون إذ السياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض أحوال أهل النار وما يجري لهم من أمور.
2 - هذا كقوله تعالى {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟} وهو سؤال تقريع وتوبيخ لا للمسئول ولكن لعابديه من الإنس والجن.
3 - روي أن بني مُليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أن الجن تتراءى لهم وأنهم الملائكة وأنهم بنات الله، وهو قوله تعالى في سورة الصافات "وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا".(4/328)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
شرح الكلمات:
آياتنا بيّنات: أي آيات القرآن الكريم واضحات ظاهرة المعنى بينة الدلالة.
قالوا ما هذا إلا رجل: أي ما محمد إلا رجل من الرجال.
يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم: أي يريد أن يصرفكم عن عبادتكم لآلهتكم التي كان يعبدها آباؤكم من قبل.
إلا إفك مفترى: أي إلا كذب مختلق مزور.
وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: أي قالوا للقرآن لما جاءهم به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إن هذا إلا سحر مبين: أي ما هذا أي القرآن إلا سحر مبين أي محمد ساحر والقرآن سحر.
من كتب يدرسونها: أي يقرأونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه.
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير: أي ولم نرسل إليهم قبلك من رسول فدعاهم إلى الشرك.
وما بلغوا معشار ما آتيناهم: أي ولم يبلغ أولئك الأمم الذين أهلكناهم معشار ما آتينا هؤلاء من الحجج والبينات.(4/329)
فكيف كان نكير: أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة إلا هلاك والجواب كان واقعا موقعه لم يخطئه بحال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مواقف المشركين المخزية والتنديد بهم والوعيد الشديد لهم. قال تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي مشركي قريش وكفارها {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي يتلوها رسولنا واضحات الدلالة بينات المعاني فيما تدعوا إليه من الحق وتندد به من الباطل. كان جوابهم أن قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. أي ما محمد إلا رجل أي ليس بملك يريد أن يصدكم أي يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم من الأوثان والأحجار. فسبحان الله أين يذهب بعقول المشركين أما يخجلون لما يقولون عما كان يعبد آباؤكم من الأصنام والأوثان، إنه يصدهم حقاً عن عبادة الأوثان ولكن إلى عبادة الرحمن. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى به عنهم في قوله {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ (1) } أو كذب {افْتَرَاهُ} أي اختلقه وتخرصه من نفسه أي قالوا في القرآن وما يحمل من تشريع وهدى ونور قالوا فيه إنه كذبه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله ما أشد سخف هؤلاء المشركين. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى به عنهم في قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي قالوا في الرسول وما جاءهم به من الدعوة إلى التوحيد والإصلاح {إِنْ هَذَا} أي ما هذا إلا سحر مبين، وذلك لما رأوا من تأثير الرسول والقرآن في نفوسهم إذ كان يحرك نفوسهم ويهزها هزاً.
بعد هذا العرض لمواقف المشركين قال تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ (2) } أي مشركي قريش {مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي أصروا على الشرك وما أعطيناهم من كتب يقرأونها فوجدوا فيها الإذن بالشرك أو مشروعيته فتمسكوا به، {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي رسول فأجاز لهم الشرك أو سنه لهم فهم على سنته، اللهم لا ذا ولا ذاك. فكيف إذاً هذا الإصرار على الشرك وهو باطل لم ينزل به كتاب ولم يبعث به رسول (3) .
وقوله تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (4) } أي من الأمم البائدة {وَمَا بَلَغُوا} أي ولم يبلغ
__________
1 - ما هذا يعنون القرآن الكريم وكذا قولهم إن هذا إلا سحر فإنهم يعنون القرآن الكريم أيضاً وإن بمعنى ما النافية والإسناد بعدها دال عليها.
2 - الجملة حالية من ضمير قالوا ما هذا.
3 - أي أنه ليس لهم ما يتثبتون به من أقل دليل وأدنى شبهة كما هي الحال عند أهل الكتاب إذ قالوا عندنا كتابنا وجاءتنا رسلنا أما المشركون فليس لهم من ذلك شيء.
4 - في الآية تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تكذيبهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهديد لهم. التسلية في قوله "كذب الذين من قبلهم" والتهديد في "فكذبوا رسلي فكيف كان نكير" والفاء للتفريع أي في قوله فكذبوا رسلي.(4/330)
هؤلاء من القوة معشار (1) ما كان لأولئك الأقوام الهالكين، ومع ذلك أهلكناهم، فكيف كان نكيري أي كيف كان إنكاري عليهم الشرك وتكذيب رسلي كان بإبادتهم واستئصالهم. أما يخاف هؤلاء الضعفاء أن تحل بهم عقوبتنا فنهلكهم عن آخرهم كما أهلكنا من قبلهم ولما لم يرد الله إبادتهم بعد أن استوجبوها بالتكذيب لرسوله والإصرار على الشرك والكفر قال لرسوله قل لهم {إِنَّمَا (2) أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي بخصلة واحدة وهي أن تقوموا لله متجردين من الهوى والتعصب {مَثْنَى} ، أي اثنين اثنين، {وَفُرَادَى} أي واحداً واحداً، ثم تتفكروا في حياة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومواقفه الخيّرة معكم وبعده عن كل أذى وشر وفساد فإنكم تعلمون يقينا أنه ما بصاحبكم محمد من جنّة ولا جنون {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ، أي ما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا نذير لكم أمام عذاب شديد قد ينزل بكم وهو مشفق عليكم في ذلك خائف لا يريده لكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عناد المشركين وسخف عقولهم وهبوطهم الفكري.
2- ضعف كفار قريش وتشددهم وعتوهم إذا قيسوا بالأمم السابقة فإنهم لا يملكون من القوة نسبة واحد إلى
ألف إذ المعشار هو عشر عشر العشر (3) .
3- تقرير النبوة المحمدية وإثباتها وذلك ينفي الجِنّة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإثبات أنه نذير.
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
__________
1 - المعشار العشر إذ هو الجزء العاشر كالمرباع الذي يعطى لقائد الكتيبة من الغنائم وهو ربعها.
2 - هذا انتقال من حكاية أقوال المشركين والرد عليهم إلى دعوتهم للإنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطأهم وهذا من باب الإعذار لهم في المجادلة ليهلك من يهلك عن بينة ويحيى من يحي عن بينة.
3 - قال القرطبي: وقيل المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزاء من ألف جزء قال الماوردي وهو أظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل وما فسرت به الآية في التفسير أرجح وأوضح، وإن أريد به ما أتى الله هذه الأمة من العلم والبيان فهذا المعنى صحيح غير أنه لا يتلاءم مع سياق الآيات.(4/331)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
شرح الكلمات:
قل إن ربي يقذف بالحق: أي يلقي بالوحي الحق إلى أنبيائه. ويقذف الباطل بالحق أيضاً فيدمغه.
وما يبدئ الباطل وما يعيد: أي وما يبدئ الباطل الذي هو الكفر، وما يعيد أي إنه لا أثر له.
فإنما أضل على نفسي: أي إثم ضلالي على نفسي لا يحاسب ولا يعاقب به غيري.
إنه سميع قريب: أي سميع لما أقول لكم قريب غير بعيد فلا يتعذر عليه مجازاة أحد من خلقه.
إذ فزعوا فلا فوت: أي إذ فزعوا للبعث أي خافوا ونفروا فلا فوت لهم منا بل هم في قبضتنا.
وأنى لهم التناوش من مكان بعيد: أي لما شاهدوا العذاب قالوا آمنا بالقرآن وكيف لهم ذلك وهم بعيدون إنهم في الآخرة والإيمان في الدنيا. (التناوش) التناول من مكان بعيد.
كما فعل بأشياعهم من قبل: أي فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم من أمم الكفر والباطل.
في شك مريب: أي في شك بالغ من نفوسهم فأصبحوا به مضطربين لا يطمئنون إلى شيء أبداً.(4/332)
معنى الآيات:
لما لج المشركون في الخصومة والعناد ودعاهم الله تعالى إلى أمثل حل وهو أن يقوموا لله متجردين لله تعالى من الهوى والتعصب يقوموا اثنين اثنين أو واحداً واحداً لأن الجماعة من شأنها أن تختلف مع الآراء ثم يتفكروا في حياة الرسول وما دعاهم إليه من الهدى والحق فإنكم تعلمون أنه ليس كما اتهمتموه بالجنون وإنما هو نذير لكم بين يدي عذاب شديد يخاف وقوعه بكم ونزوله عليكم هنا أمره تعالى أن يقول لهم وكوني نذيراً لكم مما أخاف عليكم لا أسألكم على إنذاري لكم أجراً (1) {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي مطلع عليّ عالم بصدقي ويجزيني على إنذاري لكم إذ كلفني به فقمت به طاعة له. وقوله تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ (2) بِالْحَقِّ} أي قل لهم يا رسولنا إن ربي يقذف بالحق أي يلقي بالوحي على من يشاء من عباده {عَلَّامُ (3) الْغُيُوبِ} أي وهو علام الغيوب يعلم من هو أهل للوحي إليه والإرسال فيوحي إليه ويرسله كما أوحى إليّ وأرسلني إليكم نذيراً وبشيراً. وقوله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي قل لهم يا رسولنا جاء الحق وهو الإسلام الدين الحق، فلم يبق للباطل الذي هو الشرك والكفر مكان ولا مجال، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ أي أنه كما لا يبدئ لا يعيد فهو ذاهب لا أثر له أبداً وقوله: {قُلْ (4) إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي أعلمهم بأنك إن ضللت فيما أنت قائم عليه تدعوا إليه فإنما عائد ضلالك عليك لا عليهم، وإن اهتديت فهدايتك بفضل ما يوحي إليك ربك من الهدى والنور {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} سميع لأقوالك وأقوال غيرك غير بعيد فيتعذر عليه مجازاة عباده صاحب الإحسان بالإحسان وصاحب السوء بالسوء. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي لرأيت أمراً فظيعاً يقول تعالى لرسوله ولو ترى (5) إذ فزع المشركون في ساحات فصل القضاء يوم القيامة فزعوا من شدة الهول والخوف وقد أخذوا من مكان قريب وألقوا في جهنم لرأيت أمراً فظيعاً في غاية الفظاعة. وقوله {فَلا فَوْتَ}
__________
1 - أي جُعلاً على تبليغ الرسالة فإن سألتكموه فهو لكم.
2 - جائز أن يكون المعنى يقذف الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق كذا روي عن ابن عباس وقال قتادة بالحق أي بالوحي وعنه أن الحق القرآن والكل صحيح وما في التفسير أقرب وأوضح.
3 - علاّم مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو علاّم الغيوب والغيوب جمع غيب وقرأ الجمهور بضم الغين وكسرها بعضهم كبيوت إذ يجوز لها الضم والكسر والآية فيها معنى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وفيها رد على المعترضين على الوحي إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 - لما أفحمهم في الآيات السابقة وقطع طريق الاستدلال عليهم وتركهم في غيهم حيارى أمر رسوله أن يقول لهم تاركاً جدالهم لعدم الفائدة منه بعد وضوح الحق (إن ضللت) الآية فعل هذا إنهاءً لجدل عقيم.
5 - الخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل ذي أهلية وجواب لو محذوف كأن اللفظ لا يقدر على تصويره على حقيقته لفظاعته وهو كذلك.(4/333)
لهم لا يفوتون الله تعالى ولا يهربون من قبضته. وقوله تعالى: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ (1) } أي قالوا بعد ما بعثوا وفزعوا من هول القيامة قالوا آمنا به أي بالله وكتابه ولقائه ورسوله، قال تعالى {وَأَنَّى لَهُمُ (2) التَّنَاوُشُ} أي التناول للإيمان من مكان بعيد إذ هم في الآخرة والإيمان كان في الدنيا فكيف يتناولونه بهذه السهولة ويقبل منهم وينجون من العذاب هذا بعيد جداً ولن يكون أبداً وقد كفروا به من قبل أي لا سيما وأنهم قد عرض عليهم الإيمان وهم قادرون عليه فرفضوه فكيف يمكنون منه الآن. وقوله {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ (3) مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي وها هم اليوم في الدنيا يقذفون بالغيب محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقواصم الظهر مرة يقولون كاذب ومرة ساحر ومرة شاعر وأخرى مجنون وكل هذا رجما بالغيب لا شبهة لهم فيه ولا أدنى ريبة تدعوهم إليه وأخيراً قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} وهو الإيمان الموجب للنجاة كما فعل بأشياعهم (4) أي أشباههم وأنصارهم من أهل الكفر والتكذيب لما جاءهم العذاب قالوا آمنا ولم ينفعهم إيمانهم وأهلكوا فألقوا في الجحيم، وقوله {إِنَّهُمْ (5) كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} أي مشركو قريش وكفارها أخبر تعالى أنهم كانوا في الدنيا في شك من توحيدنا ونبينا ولقائنا مريب أي موقع لهم في الريب والاضطراب فلم يؤمنوا فماتوا على الكفر والشرك وهذا جزاء من يموت على الشرك والكفر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الله تعالى ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجراً، ويحتسب أجره على الله عز وجل.
2- بيان صدق الله تعالى في قوله جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد إذ ما هو إلاّ سنيّات والإسلام ضارب
بجرانه في الجزيرة فلا دين فيها إلا الإسلام.
3- الإيمان الاضطراري لا ينفع صاحبه كإيمان من رأى العذاب.
4- الشك كفر ولا إيمان مع رؤية العذاب.
__________
1 - صالح أن يكون الضمير للوعيد أو ليوم البعث أو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو القرآن إذ الكل واجب الإيمان وقد كفروا بالكل وكذبوا.
2 - أنى استفهام عن المكان وهو مستعمل هنا للإنكار والتناوش التناول السهل وأكثر وروده في شرب الإبل شرباً خفيفاً من الحوض ونحوه قال الشاعر:
باتت تنوش الحوض نوشاً من علا
نوشاً به تقطع أجواز الفلا
أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.
3 - القذف الرمي باليد من بعد ويستعار للقول بدون تروّ ولا دليل وهو كقولهم في الأصنام هم شفعاؤنا عند الله وكتكذيبهم بالبعث والتوحيد والنبوة.
4 - الأشياع المتشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين وأصل المشايعة المتابعة في العمل.
5 - هذه الجملة تعليلية لكل ما سبق في تكذيبهم وعنادهم وجهلهم وضلالهم إذ الشك وعد اليقين هو الذي يوقع صاحبه في أودية الضلال والباطل.(4/334)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
سورة فاطر
مكية
وآياتها خمس وأربعون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
شرح الكلمات:
الحمد لله: أي قولوا الحمد لله فإنه واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد.
فاطر السموات والأرض: أي خالقهما على غير مثال سابق.
جاعل الملائكة رسلا: أي جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل عليه السلام.
أولي أجنحة: أي ذوي أجنحة جمع جناح كجناح الطير.
يزيد في الخلق ما يشاء: أي يزيد على الثلاثة ما يشاء فإن لجبريل ستمائة جناح.
وما يمسك: أي الله من الرحمة فلا أحد يرسلها غيره سبحانه وتعالى.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.
اذكروا نعمة الله عليكم: أي اذكروا نعمه تعالى عليكم في خلقكم ورزقكم وتأمينكم في حرمكم.
هل من خالق غير الله: أي لا خالق لكم غير الله ولا رازق لكم يرزقكم.
من السماء والأرض: أي بإنزال المطر من السماء وإنبات الزروع في الأرض.(4/335)
لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا هو إذاً فاعبدوه ووحدوه.
فأنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن توحيده مع اعترافكم بأنه وحده الخالق الرازق.
معنى الآيات:
قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ (1) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي الشكر الكامل والحمد التام لله استحقاقاً، والكلام خرج مخرج الخبر ومعناه الإنشاء أي قولوا الحمد لله. واشكروه كما هو أيضاً إخبار منه تعالى بأن الحمد له ولا مستحقه غيره ومقتضى حمده فطره السموات والأرض أي خلقه لهما على غير مثال سابق ولا نموذج حاكاه في خلقهما. وجعله الملائكة (2) رسلاً إلى الأنبياء وإلى من يشاء من عباده بالإلهام والرؤيا الصالحة. وقوله {أُولِي أَجْنِحَةٍ} صفة للملائكة أي أصحاب أجنحة مثنى أي اثنين اثنين، وثلاث أي ثلاثة ثلاثة، ورباع أي أربعة أربعة. وقوله {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ} أي خلق الأجنحة ما يشاء فقد خلق لجبريل عليه السلام ستمائة جناح كما أخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحاح ويزيد في خلق (3) ما يشاء من مخلوقاته وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ (4) فَلا مُمْسِكَ لَهَا} يخبر تعالى أن مفاتيح كل شيء بيده فما يفتح للناس من أرزاق وخيرات وبركات لا يمكن لأحد من خلقه أن يمسكها دونه وما يمسك من ذلك فلا يستطيع أحد من خلقه أن يرسله، وهو وحده العزيز الغالب على أمره ومراده فلا مانع لما أعطى ولا راد لما قضى الحكيم في صنعه وتدبير خلقه. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} هذا نداؤه تعالى لأهل مكة من قريش يأمرهم (5) بعده بأن يذكروا نعمه تعالى عليهم حيث خلقهم ووسع أرزاقهم وجعل لهم حرماً آمنا والناس يتخطفون من
__________
1 - يصح في فاطر الجر على النعت والرفع على القطع أي هو فاطر والنصب على المدح أي أمدح فاطر، والفطر: الشق يقال فطرته فانفطر وتفطر، وفطر ناب البعير إذا شق اللحم وطلع، والفاطر: الخالق، قال ابن عباس كنت لا أدري ما "فاطر السموات والأرض" حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها والمراد بالسموات والأرض العالم كله.
2 - المراد بالملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزائيل "وملك الموت" وما شاء الله.
3 - جائز أن يكون في ملاحة العين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم، وفي الصوت الحسن والشعر الحسن والحظ الحسن كل هذا مذكور وداخل في العبارة فإنها عامة.
4 - لفظ الرحمة نكرة دال على الكثرة والشيوع فهو يتناول كل ما هو رحمة من النبوة والعلم إلى المطر والرزق إلى النصر والفوز.
5 - أي بعد أن ناداهم أمرهم بأن يذكروا نعمه عليهم إذ نداء المأمور يلفت نظره ويحضر حواسه لاستقبال ما يلقى إليه ويؤمر به أو يحذر منه.(4/336)
حولهم خائفون يأمرهم بذكر نعمه لأنهم إذا ذكروها شكروها بالإيمان به وتوحيده. وقوله {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} والجواب لا أحد إذ لا خالق إلا هو ولا رازق سواه فهو الذي خلقهم ومن السماء والأرض رزقهم. السماء تمطر والأرض تنبت بأمره. إذاً فلا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو فكيف تصرفون عن الحق بعد معرفته إن حالكم لعجب.
هذا ما دل عليه قوله تعالى {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ (1) اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى وشكره على إنعامه.
2- تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلاً.
3- وجوب اللجوء إلى الله تعالى في طلب الخير ودفع الضر فإنه بيده خزائن كل شيء.
4- وجوب ذكر النعم ليكون ذلك حافزاً على شكرها بطاعة الله ورسوله.
5- تقرير التوحيد بالأدلة العقلية التي لا ترد.
6- العجب من حال المشركين يقرون بانفراد الله تعالى بخلقهم ورزقهم ويعبدون معه غيره.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
__________
1 - قرئ غير الله بالجر وقرأ الجمهور بالرفع على محل خالق المرفوع محلاً في الآية دليل على أن الخير والشر كلاهما من خلق الله تعالى.(4/337)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
شرح الكلمات:
وإن يكذبوك: أي يا رسولنا فيما جئت به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء ولم يؤمنوا بك.
فقد كذبت رسل من قبلك: أي فلست وحدك كذبت إذاً فلا تأس ولا تحزن واصبر كما صبر مَن قبلك.
وإلى الله ترجع الأمور: وسوف يجزي المكذبين بتكذيبهم والصابرين بصبرهم.
ولا يغرنكم بالله الغرور: أي ولا يغرنكم بالله أي في حلمه وإمهاله الغرور أي الشيطان.
فاتخذوه عدواً: أي فلا تطيعوه ولا تقبلوا ما يغركم به وأطيعوا ربكم عز وجل.
إنما يدعوا حزبه: أي أتباعه في الباطل والكفر والشر والفساد.
ليكونوا من أصحاب السعير: أي ليؤول أمرهم إلى أن يكونوا من أصحاب النار المستعرة.
لهم مغفرة وأجر كبير: أي لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير في الجنة وذلك لإيمانهم وعملهم الصالحات.
معنى الآيات:
لما أقام تعالى الحجة على المشركين في الآيات السابقة قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ (1) } بعدما أقمت عليهم الحجة فلست وحدك المكذَّب فقد كذبت قبلك رسل كثيرون جاءوا أقوامهم بالبينات والزبر وصبروا إذاً فاصبر كما صبروا {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ (2) الْأُمُورُ} وسوف يقضي بينك وبينهم بالحق فينصرك في الدنيا ويخذلهم، ويرحمك في الآخرة ويعذبهم.
وقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أي يا أهل مكة وكل مغرور من الناس بالحياة الدنيا اعلموا أن وعد الله بالبعث والجزاء حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا بطول أعماركم وصحة أبدانكم وسعة أرزاقكم، فإن ذلك زائل عنكم لا محالة {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ} أي حلمه وإمهاله {الْغَرُورُ (3) } وهو الشيطان حيث يتخذ من حلم الله تعالى عليكم وإمهاله لكم طريقا إلى إغوائكم وإفسادكم بما يحملكم عليه من تأخير التوبة والإصرار على المعاصي، والاستمرار عليها {إِنَّ الشَّيْطَانَ
__________
1 - في هذه الآية تعزية الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتسليته له بالتأسي بمن قبله من الرسل وتكذيب أممهم لهم.
2 - قرأ الجمهور ترجع بضم التاء وقرأ بعض بفتحها والكل صحيح ومآل المعنى واحد.
3 - الغرور بالضم مصدر غره يغره غرورا، وبالفتح الشيطان وهو المراد هنا وصيغته من صيغ المبالغة "فعول" إذ هو كثير الغرور يأتيهم من حيث حلم الله وإمهاله فيصرفهم عن الحق مغرراً إياهم بأنهم لو كانوا على باطل لأهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم، ويسوّف آخرين بحلم الله فيصرفهم عن التوبة.(4/338)
لَكُمْ عَدُوٌّ (1) } بالغ العداوة ظاهرها فاتخذوه أنتم عدواً كذلك فلا تطيعوه ولا تستجيبوا لندائه، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} أي أتباعه {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي النار المستعرة، إنه يريد أن تكونوا معه في الجحيم. إذ هو محكوم عليه بها أزلاً وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا (2) لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي في الآخرة، والذين آمنوا وعملوا الصالحات {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي لذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هو الجنة وما فيها من النعيم المقيم. هذا حكم الله في عباده وقراره فيهم: وهم فريقان مؤمن صالح وكافر فاسد ولكل جزاء عادل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدخل فيها كل دعاة الحق إذا كذّبوا وأوذوا فعليهم أن يصبروا.
2- تقرير البعث والجزاء المتضمن له وعد الله الحق.
3- التحذير من الاغترار بالدنيا أي من طول العمر وسعة الرزق سلامة البدن.
4- التحذير من الشيطان ووجوب الاعتراف بعداوته، ومعاملته معاملة العدو فلا يقبل كلامه ولا يستجاب لندائه ولا يخدع بتزيينه للقبيح والشر.
5- بيان جزاء أولياء الرحمن أعداء الشيطان، وجزاء أعداء الرحمن أولياء الشيطان.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً
__________
1 - يكفي في إثبات عداوته أنه أخرج أبوينا من الجنة، وأنه تعهد بإضلالهم وإغوائهم كقوله لأغوينهم أجمعين وقوله ولأضلنهم ولأمنينهم.
2 - الذين كفروا: الجملة مستأنفة بيانياً لأنه بعد التحذير من طاعة الشيطان يلوح في الأذهان سؤال: ما جزاء من أطاع الشيطان وما جزاء من عصاه؟ فالجواب الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ويرى بعضهم أنها ابتدائية ذكرت فذلكة لما تقدم من الكلام.(4/339)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (11)
شرح الكلمات:
أفمن زين له سوء عمله: أي قبيح عمله من الشرك والمعاصي.
فرآه حسنا: أي رآه حسناً زيناً لا قبح فيه.
فلا تذهب نفسك عليهم: أي على أولئك الذين زين لهم الشيطان قبيح أعمالهم.
حسرات: أي لا تهلك نفسك بالتحسر عليهم لكفرهم.
إن الله عليم بما يصنعون: وسيجزيهم بصنيعهم الباطل.
فتثير سحاباً: أي تزعجه وتحركه بشدة فيجتمع ويسير.
فسقناه إلى بلد ميت: أي لا نبات فيه.
فأحيينا به الأرض: أي بالنبات والعشب والكلأ والزرع.
كذلك النشور: أي البعث والحياة الثانية.
فلله العزة جميعا: أي فليطلب العزة بطاعة الله فإنها لا تنال إلا بذلك.
إليه يصعد الكلم الطيب: أي إلى الله تعالى يصعد الكلم الطيب وهو سبحان الله والحمد لله والله أكبر.
والعمل الصالح يرفعه: أي أداء الفرائض وفعل النوافل يرفع إلى الله الكلم الطيب.
يمكرون السيئات: أي يعملونها ويكسبونها.
مكر أولئك هو يبور: أي عملهم هو الذي يفسد ويبطل.
خلقكم من تراب: أي أصلكم وهو آدم.
ثم من نطفة: أي من ماء الرجل وماء المرأة وذلك كل ذرّية آدم.(4/340)
ثم جعلكم أزواجاً: أي ذكراً وأنثى.
وما تحمل من أنثى: أي ما تحمل من جنين ولا تضعه إلا بإذنه.
وما يعمر من معمر: أي وما يطول من عمر ذي عمر طويل إلا في كتاب.
ولا ينقص من عمره: أي بأن يجعل أقل وأقصر من العمر الطويل إلا في كتاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقوية روح الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشد من عزمه أمام تقلبات المشركين وعنادهم ومكرهم فقال تعالى: {أَفَمَنْ (1) زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً (2) } أي أفمن زين له الشيطان ونفسه وهواه قبيح عمله وهو الشرك والمعاصي فرآه حسنا كمن هداه الله فهو على نور من ربه يرى الحسنة حسنة والسيئة سيئة والجواب: لا، لا. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يضل بعدله وحسب سنته في الإضلال من يشاء من عباده، ويهدي بفضله من يشاء هدايته إذاً فلا تذهب (3) نفسك أيها الرسول على عدم هدايتهم حسرات فتهلك نفسك تحسّراً على عدم هدايتهم. وقوله {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فلذا لا داعي إلى الحزن والغمّ ما دام الله تعالى وهو ربهم قد أحصى أعمالهم وسيجزيهم بها وقوله تعالى {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي تزعجه وتحركه. {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} (4) أي لا نبات ولا زرع به {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها كذلك يحيى الموتى إذ بعد فناء العالم ينزل الله تعالى من تحت العرش ماء فينبت الإنسان من عظم يقال له عجُبُ الذَنَّب فيتم خلقه، ثم يرسل الله تعالى الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فلا تخطئ روح جسدها. هكذا كما تتم عملية إحياء الأرض بالنبات تتم عملية إحياء الأموات ويساقون إلى المحشر ويجزى كل نفس بما كسبت والله سريع الحساب.
__________
1 - الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للتفريع فالجملة متفرعة عما سبقها من قوله تعالى {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} والمزين الشيطان والمزين له سوء عمله (من) الموصولية وهي من ألفاظ العموم تتناول من قيل إن الآية نزلت فيه وهو أبو جهل ثم هي صادقة على كل من زين له الشيطان الشرك والشر والفساد فرآها حسنة، (ومن) مبتدأ والخبر محذوف قد يقدر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وقد يقدر كمن هداه الله كما في التفسير وقد يقدر بغير ما ذكر.
2 - ذكر القرطبي لأهل العلم أقوالا فيمن زين له سوء عمله وفي عمله الذي زين له قيل إنهم اليهود والنصارى والمجوس، وسوء عمله معاداة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل إنهم الخوارج وسوء عمله تحريف التأويل وقيل الشيطان وعمله الإغراء وقيل كفار قريش وهو الظاهر.
3 - قرأ الجمهور فلا تذهب نفسك بفتح التاء ورفع السين من نفسك وقرئ بضم التاء ونصب نفسك على أنها مفعول به.
4 - الراجح من الأقوال لغة أن ميت مشددة وميت مخفف لا فرق بينهما وشاهده قول الشاعر:
ليس من مات واستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء.(4/341)
وقوله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} فليطلبها من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله فإن العزة لله جميعا فالعزيز من أعزه الله والذليل من أذله، إنهم كانوا يطلبون العزة بالأصنام فاعلموا أن من يريد العزة فليطلبها من مالكها أما الذي لا يملك العزة فكيف يعطيها لغيره إن فاقد الشيء لا يعطيه. وقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أي إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إلى الله تعالى فإذا كان قول بدون عمل فإنه لا يرفع إلى الله تعالى ولا يثيب عليه، وقد ندد الله تعالى بالذين يقولون ولا يعملون فقال {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} . وقوله {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي يعملونها وهي الشرك والمعاصي {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} هذا جزاؤهم، {وَمَكْرُ (1) أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي ومكر الذين يعملون السيئات {هو يبور} أي يفسد ويبطل.
وقوله تعالى {وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي خلق أصلنا من تراب وهو آدم، ثم خلقنا نحن ذريتة من نطفة وهي ماء الرجل وماء المرأة، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أي ذكراً وأنثى. هذه مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وتوحيده والمقتضية للبعث والجزاء، وقوله {وَمَا تَحْمِلُ (2) مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي يزاد في عمره، ولا ينقص من عمره فلا يزاد فيه إلا في كتاب وهو كتاب المقادير. هذا مظهر من مظاهر العلم، وبالعلم والقدرة هو قادر على إحياء الموتى وبعث الناس للحساب والجزاء. ولذا قال تعالى {إِنَّ ذَلِكَ} أي المذكور من الخلق والتدبير ووجوده في كتاب المقادير على الله يسير أي سهل لا صعوبة فيه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من اتباع الهوى والاستجابة للشيطان فإن ذلك يؤدي بالعبد إلى أن يصبح يرى الأعمال القبيحة حسنة ويومها يحرم هداية الله فلا يهتدي أبداً وهذا ينتج عن الإدمان على المعاصي والذنوب.
2- عملية إحياء الأرض بعد موتها دليل واضح على بعث الناس أحياء بعد موتهم.
__________
1 - المكر: تدبير إلحاق الضرر بالغير في خفية. والمراد هنا أن الذين يمكرون بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين مكرهم يذهب سدى ولا يفلحون فيه كما أن الآية تشير إلى أن كل من يمكر مكر السوء فإن عاقبة مكره تعود عليه وبالاً وخسراناً كقوله تعالى ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
2 - فما يكون حمل ولا وضع أي ولادة إلا بعلمه، فلا يخرج شيء عن تدبيره وحكمته وما يعمر سماه معمراً باعتبار ما هو صائر إليه وفي الحديث الصحيح: "من أحب أن يسط له في رزقه وينسأ له في أثره أي أجله فليصل رحمه. "(4/342)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
1- مطلب العزة مطلب غال، وهو طاعة الله ورسوله ولا يعز أحد عزاًّ حقيقيا بدون طاعة الله ورسوله.
2- علم الله المتجلي في الخلق والتدبير يضاف إليه قدرته تعالى التي لا يعجزها شيء بهما يتم الخلق والبعث والجزاء.
3- تقرير البعث والجزاء وتقرير كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ.
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
شرح الكلمات:
عذب فرات: أي شديد العذوبة.
وهذا ملح أجاج: أي شديد الملوحة.
ومن كل تأكلون: أي ومن كل منهما.
لحماً طرياً: أي السمك.
حلية تلبسونها: أي اللؤلؤ والمرجان.(4/343)
مواخر: أي تمخر الماء وتشقه عند جريانها في البحر.
لتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا الرزق بالتجارة من فضل الله تعالى.
ولعلكم تشكرون: أي رجاء أن تشكروا الله تعالى على ما رزقكم.
يولج الليل في النهار: أي يدخل الليل في النهار فيزيد.
ويولج النهار في الليل: أي يدخل النهار في الليل فيزيد.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما.
كل يجري لأجل مسمى: أي في فلكه إلى يوم القيامة.
والذين تدعون: أي تعبدون بالدعاء وغيره من العبادات وهم الأصنام.
ما يملكون من قطمير: أي من لفافة النواة التي تكون عليه وهي بيضاء رقيقة.
ولو سمعوا: أي فرضاً ما استجابوا لكم.
يكفرون بشرككم: أي يتبرأون منكم ومن عبادتكم إياهم.
ولا ينبئك مثل خبير: أي لا ينبئك أي بأحوال الدارين مثلي فإني خبير بذلك عليم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعمله وحكمة تدبيره لخلقه وهي مظاهر موجبة لله العبادة وحد دون غيره، ومقتضية للبعث الذي أنكره المشركون قال تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} أي لا يتعادلان. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ (1) شَرَابُهُ} أي ماؤه عذب شديد العذوبة {وَهَذَا مِلْحٌ (2) أُجَاجٌ} أي ماؤه شديد الملوحة لمرارته مع ملوحته، فهل يستوي الحق والباطل هل تستوي عبادة الأصنام مع عبادة الرحمن؟ والجواب لا. وقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ} أي ومن كل من البحرين العذب والملح تأكلون لحماً طرياً وهو السمك {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي اللؤلؤ والمرجان. وهي حلية يتحلى بها النساء للرجال، وقوله {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أي وترى أيها السامع لهذا الخطاب {الْفُلْكَ} أي السفن مواخر في البحر تمخر عباب البحر وتشق ماءه غادية رائحة تحمل الرجال والأموال، سخرها وسخر البحر {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي الرزق بالتجارة، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي سخر لكم البحر لتبتغوا من فضله ورجاء أن تشكروا. لم يقل لتشكروا كما قال
__________
1 - معنى سائغ شرابه أن شربه لا يكلف النفس كراهة وهو مشتق من الإساغة وهو استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة قال الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
أكاد أغص بالماء الفرات
2 - المالح من الطعام والشراب: هو الذي يجعل فيه الملح والملح بكسر الميم وسكون اللام الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء الملح فيه والأجاج الشديد الملوحة.(4/344)
لتبتغوا لأن الابتغاء حاصل من كل راكب، وأما الشكر فليس كذلك بل من الناس من يشكر ومنهم من لا يشكر، ولذا جاء بأداة الرجاء وهي لعل وقوله {يُولِجُ اللَّيْلَ (1) فِي النَّهَارِ} أي يدخل جزءاً من الليل في النهار فيطول، ويقصر الليل {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي يدخل جزءا منه في الليل فيطول كما أنه يدخل النهار في الليل، والليل في النهار بالكلية فإنه إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ويشهد له قوله {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ولازمه والنهار نسلخ منه الليل، فإذا الليل ليل والنهار نهار.
وقوله {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما فهما يسيران الدهر كله بلا كلل ولا ملل لصالح العباد إذ بهما كان الليل والنهار، وبهما تعرف السنون والحساب وقوله {كُلٌّ يَجْرِي} أي كل منهما يجري {لِأَجَلٍ مُسَمّىً} أي إلى وقت محدود وهو يوم القيامة. ولما عرف تعالى نفسه بمظاهر القدرة قدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته قال للناس {ذَلِكُمُ (2) اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أي بعد أن أقام الحجة وأظهر الدليل لم يبق إلا الإعلان عن الحقيقة التي ينكر لها الكافرون فأعلنها بقوله {ذَلِكُمُ} ذو الصفات العظام والجلال والإكرام هو الله ربكم الذي لا رب لكم سواه له الملك، وليس لغيره فلا يصح طلب شيء من غيره، إذ الملك كله لله وحده، وأما الذين تدعون من دونه أي تعبدونهم من دونه وهي الأصنام والأوثان وغيرها من الملائكة والأنبياء والأولياء فإنهم لا يملكون من قطمير فضلاً عن غيره تمرة فما فوقها لأن الذي لا يملك قطميراً – وهو القشرة الرقيقة على النواة (3) - لا يملك بعيراً.
وقوله {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} نعم لا يسمعون لأنهم جمادات وأصنام من حجارة فكيف يسمعون وعلى فرض لو أنهم سمعوا ما استجابوا لداعيهم لعدم قدرتهم على الاستجابة. وقوله تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فهم إذاً محنة لكم في الدنيا تنحتونهم وتحمونهم وتعبدونهم ويوم القيامة يكونون أعداء لكم وخصوماً فيتبرءون من شرككم إياهم في عبادة الله، فتقوم عليكم الحجة بسببهم فما الحاجة إذاً إلى الإصرار على عبادتهم وحمايتهم والدفاع عنهم. وقوله تعالى {وَلا يُنَبِّئُكَ} أيها السامع {مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وهو الله تعالى فالخبير أصدق من ينبئ
__________
1 - هذا استدلال بمظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة بما في العالم العلوي بعد الاستدلال بما ي العالم السفلي من ذلك.
2 - هذا استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة السابقة وهي أدلة مفصلة في غاية القوة والوضوح.
3 - جاء في القرآن ذكر النقير والقطمير والفتيل واضطربت أقوال أهل اللغة في تحديدها والصحيح: أن النقير النقرة في وسط النواة، وأن الفتيل الخيط الأبيض في وسط النواة، وأن القطمير اللفافة البيضاء على النواة.
4 - خبير صفة مشبهة مشتقة من خبر بضم الباء فلان الأمر إذا علمه علماً لا شك فيه وأجريت هذه الجملة مجرى المثل يقال (ولا ينبئك مثل خبير) .(4/345)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
وأصح من يقول فالله هو العليم الخبير وما أخبر به عن الآلهة في الدنيا والآخرة في الدنيا عن عجزها وعدم غناها وفي الآخرة عن براءتها وكفرها بعبادة عابديها. فهو الحق الذي لا مرية فيه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله المستلزمة لألوهيته.
2- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة وبها تقرر ربوبيته تعالى وألوهيته لعباده.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر يوم القيامة وبراءة الآلهة من عابديها.
4- بيان عجز الآلهة عن نفع عابديها في الدنيا وفي الآخرة.
5- تقرير صفات الكمال لله تعالى من الملك والقدرة والعلم، والخبرة التامة الكاملة وبكل شيء.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18)
شرح الكلمات:
أنتم الفقراء إلى الله: أي المحتاجون إليه في كل حال.
والله هو الغني الحميد: أي الغني عنكم أيها الناس وعن سائر خلقه، المحمود بأفعاله وأقواله وحسن تدبيره فكل الخلائق تحمده لحاجتها إليه وغناه عنها.
ويأت بخلق جديد: أي بدلا عنكم.(4/346)
وما ذلك على الله بعزيز: أي بشديد ممتنع بل هو سهل جائز الوقوع.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي في حكم الله وقضائه بين عباده أن النفس المذنبة الحاملة لذنبها لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها.
وإن تدع مثقلة: أي بأوزارها حتى لم تقدر على المشي أو الحركة.
لا يحمل منه شيء: أي لا تجد من يستجيب لها ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم، بهذا حكم الله سبحانه وتعالى.
يخشون ربهم بالغيب: أي لأنهم ما رأوه بأعينهم.
ومن تزكى: أي طهّر نفسه من الشرك والمعاصي.
فإنما يتزكى لنفسه: أي صلاحه واستقامته على دين الله ثمرتهما عائدة عليه.
معنى الآيات:
بعد تلك الأدلة والحجج التي سيقت في الآيات السابقة وكلها مقررة ربوبية الله تعالى وألوهيته وموجبة توحيده وعبادته نادى تعالى الناس بقوله {يأَيُّهَا النَّاسُ} ليعلمهم بأنه وإن خلقهم لعبادته وأمرهم بها وتوعد بأليم العذاب لمن تركها ولم يكن ذلك لفقر منه إليها ولا لحاجة به إليهم فقال {يأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ (1) إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} إن عبادة الناس لربهم تعود عليهم فيكملون عليها في أخلاقهم وأرواحهم ويسعدون عليها في دنياهم وآخرتهم أما الله جل جلاله فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية. وهو الغني عن كل ما سواه {الْحَمِيدُ} أي المحمود بنعمه فكل نعمة بالعباد موجبة له الحمد والشكر. وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ (2) بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا دليل غناه؛ وافتقارهم كما هو دليل قدرته وعلمه، وقوله: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} أي إذهابهم والإتيان بخلق جديد غيرهم ليس بالأمر العزيز الممتنع ولا بالصعب المتعذر بل هو اليسير السهل عليه تعالى.
__________
1 - في قوله تعالى أنتم الفقراء قصر صفة على موصوف أي قصر صفة الفقر على الناس وهو قصر إضافي بالنسبة إلى الله تعالى أي أنتم المفتقرون إلى الله وليس هو بمفتقر إليكم ووصفه تعالى نفسه بالحميد إشعار بأن غناه مقترن بجوده فهو يحمد لما يسديه من المعروف إلى عباده.
2 - الجملة بيانية فيه مبينة لغناه وموجب حمده والثناء عليه ببيان قدرته على إهلاك الموجود من عباده والإتيان بخلق جديد غيرهم ومن كان هكذا هو الغني الحق والمحمود الحق فلله الحمد وله المنة.(4/347)
وقوله تعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) هذا مظهر عدالته تعالى فهو مع قدرته وقهره لعباده ذو عدل فيهم فلا يؤاخذ بغير جرم، ولا يحمل وزر نفس نفسا أخرى لم تذنب ولم تزر بل كل نفس تؤخذ بذنبها إن كانت مذنبة هذه عدالته تتجلى لعباده يوم يعرضون عليه في يوم كله هول وفزع يدل عليه قوله {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ (2) } أي بذنوبها {إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ} (3) من تدعوه {ذَا قُرْبَى} كالولد (4) والبنت. وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ (5) يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي إنما تنذر يا رسولنا ويقبل إنذارك وينتفع به من يخشون ربهم ويخافون عذابه بالغيب وأقاموا الصلاة، أما غيرهم من أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم لا يقبلون إنذارك ولا ينتفعون به لظلمة جهلهم وكفرهم وقساوة قلوبهم، ومع هذا فأنذر ولا عليك في ذلك شيء فإن من تزكى بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي فإنما يتزكى لنفسه لا لك ولا لنا، ومن أبى فعليه إباؤه، وإلينا مصير الكل وسنجزي كلاً بما كسب من خير وشر. هذا ما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} (6)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فقر العباد إلى ربهم وحاجتهم إليه وإزالة فقرهم وسد حاجتهم يكون باللجوء إليه والاطراح بين يديه يعبدونه ويسألونه.
2- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة.
3- بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة لا سيما عند وضع الميزان ووزن الأعمال.
__________
1 - وازرة صفة لمحذوف أي نفس وازرة وكذا وإن تدع مثقلة أي نفس مثقلة وتزر أصلها توزر فحذت الواو تخفيفاً إذ الفعل وزر يوزر فحذفت الواو كما حذفت وعد يعد ووزن يزن.
2 - وإن تدع مثقلة أي أحدا إلى حملها.
3 - أي المدعو ذا قربى.
4 - قال الفضيل بن عياض هي المرأة تلقى ولدها فتقول يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثدي لك سقاء ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول بلى يا أماه فتقول يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنباً واحداً، فيقول إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول.
5 - الجملة مستأنفة بيانياً لأن الحال تستدعي سؤالاً وهو لِم لَمْ يتأثر المشركون بالإنذار فالجواب إنما يقبل النذارة ويستجيب للمنذر أهل الإيمان والخشية لله تعالى لأنهم أحياء وأما الكافرون فهم أموات وهل يستجيب غير الحي؟ وفي الآية دليل على قوة تأثير الصلاة في تزكية النفوس وتطهير الأرواح.
6 - هذه الجملة تذييل للجملة المذيل بها قبلها وهي قوله تعالى: {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} وهي تفيد تقرير البعث والجزاء وهما مما ينكر المشركون كما يفيد التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتهديد للكافرين أيضاً فإن من صار إلى الله أخذه بذنبه.(4/348)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
4- بيان أن الإنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.
6- تقرير حقيقة وهي أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها.
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
شرح الكلمات:
وما يستوي الأعمى والبصير: أي لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.
ولا الظلمات ولا النور: أي لا يستويان فكذلك الكفر والإيمان لا يستويان.
ولا الظل ولا الحرور: أي لا يستويان فكذلك الجنة والنار لا يستويان.
وما يستوي الأحياء ولا الأموات: فكذلك لا يستوي المؤمنون والكافرون.
وما أنت بمسمع من في القبور: أي فكذلك لا تسمع الكفار فإنهم كالأموات.(4/349)
إن أنت إلا نذير: ما أنت إلا منذر فلا تملك أكثر من الإنذار.
إنا أرسلناك بالحق: أي بالدين الحق والهدى والكتاب.
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير: أي سلف فيها نبي ينذرها.
جاءتهم رسلهم بالبينات: أي بالحجج والأدلة الواضحة.
وبالزبر والكتاب المنير: أي وبالصحف كصحف إبراهيم وبالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل.
فكيف كان نكير: أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك والجواب هو واقع موقعه والحمد لله.
معنى الآيات:
لما تقدم في السياق الكريم أن إنذار الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينتفع به إلا المؤمن المقيم للصلاة وأن الكافر المكذب الجاحد لا ينتفع به ذكر تعالى هنا مثلاً للكافر والمؤمن وأنهما لا يستويان فقال {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (1) } فالأعمى الكافر والبصير المؤمن وهما لا يستويان في عقل ولا شرع {وَلا الظُّلُمَاتُ (2) وَلا النُّورُ} أي ولا يستوي الظلمات ولا النور كما لا يستوي الكفر والإيمان ولا الظل ولا الحرور (3) ، فبرودة الجو، لا تستوي مع حرارته فكذلك الجنة لا تستوي مع النار، وقوله {وما يستوي الأحياء ولا أموات} أي ولا المؤمنون مع الكافرين كذلك وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (4) هذا شروع في تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل ما يجد في نفسه من إعراض قومه وعدم استجابتهم لدعوته، فأخبره ربه بأنه تعالى قادر على أن يسمع من يشاء إسماعه وذلك لقدرته على خلقه أما أنت أيها الرسول فإنك لا تسمع الأموات وإنما تسمع الأحياء، والكفار شأنهم شأن الأموات في القبور فلا تقدر على إسماعهم. ولا يحزنك ذلك فإنك ما أنت إلا نذير، والنذير ينذر ولا يُسأل عمن أجابه ومن لم يجبه.
وقوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} بهذا الخبر يقرر تعالى رسالة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً لمن آمن به واتبع هداه بالجنة، ونذيراً لمن كفر به وعصاه
__________
1 - قال القرطبي الكافر والمؤمن والعالم والجاهل.
2 - قيل لا زائدة في كل من قوله تعالى ولا الظل ولا الحرور ولا الأموات واختلف في أيهما يكون بالليل وأيهما يكون بالنهار الحرور أو السموم وفي حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان ذلك وأن كلاهما يقع في النهار كما يقع في الليل إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها.
3 - قال قطرب أحد أعلام اللغة: الحرور: الحر والظل البرد.
4 - قرأ الجمهور بتنوين بمسمعٍ بكسرة واحدة والمراد بمن في القبور الكفار حيث أمات الكفر قلوبهم أي كما لا تسمع من مات فإنك لا تسمع من مات قلبه بالجهل وظلمة الكفر.(4/350)
بالنار. وقوله {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (1) ، يخبر تعالى أن رسوله محمداً ليس الرسول الوحيد الذي أرسل في أمة بل إنه ما من أمة من الأمم إلا مضى فيها نذير، فلا يكون إرساله عجباً لكفار قريش إذ هذه سنة الله تعالى في عباده يرسل إليهم من يهديهم إلى نجاتهم وسعادتهم ثم قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معزياً له مسلياً {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} فلم (2) يكونوا أول من كذب فقد كذب الذين من قبلهم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي جاءتهم رسلهم بالحجج القواطع والبراهين السواطع، والمعجزات الخوارق، وبالصحف والكتب المنيرة لسبيل الهداية وطريق النجاة والفلاح. ومنهم من آمن ومنهم من كذب وكفر بعد إمهال وإنظار دلّ عليه العطف بثم أخذ الذين كفروا بعذاب ملائم لكفر الكافرين. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (3) } أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة الشديدة والإهلاك التام إنه كان واقعاً موقعه، موافياً لطالبه بكفره وعناده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للكشف عن الحال وزيادة البيان.
2- الكفار عمى لا بصيرة لهم، وأموات لا حياة فيهم، والدليل عدم انتفاعهم بحياتهم ولا بأسماعهم ولا أبصارهم.
3- تقرير نبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأكيد رسالته.
4- تسلية الدعاة ليتدرّعوا بالصبر ويلتزموا الثبات.
5- بيان سنة الله في المكذبين الكافرين وهي أخذهم عند حلول أجلهم.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
__________
1 - أي سلف فيها نبي قال ابن جرير إلا العرب. إذا أراد أنه لم يخل فيهم نذير مطلقاً فهذا غير صحيح إذ بعث فيهم إسماعيل وتبع وغيرهما وإن أراد في الزمن القريب فهذا صحيح.
2 - في الآيات تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهرة تطلبها المقام حيث أصر المشركون على تكذيبه وعدم الإيمان بما جاءهم به من الهدى والدين الحق.
3 - استفهام مستعمل في التعجب من حالهم مفرع بالفاء على قوله أخذت الذين كفروا والنكير اسم لشدة الإنكار وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب وحذفت ياء المتكلم في نكيري تخفيفاً ولرعاية الفواصل في الوقف.(4/351)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
شرح الكلمات:
ثمرات مختلفاً ألوانها: أي كأحمر وأخضر وأصفر وأزرق وغيره.
ومن الجبال جدد: أي طرق في الجبال إذ الجدة الطريق ومنه جادة الطريق.
بيض وحمر مختلف ألوانه: أي طرق وخطط في الجبال ذات ألوان كالجبال أيضاً.
وغرابيب سود (1) : منها الأبيض والأصفر والأسود الغربيب.
ومن الناس والدواب والأنعام: فمنها أبيض وهذا أحمر وهذا أسود.
مختلف ألوانه كذلك: أي كاختلاف الثمار والجبال والطرق فيها.
إنما يخشى الله من عباده العلماء: أي العالمين بجلاله وكماله، إذ الخشية متوقفة على معرفة المخشيّ.
يتلون كتاب الله: أي يقرأونه تعبداً به.
تجارة لن تبور: أي لن تهلك ولن تضيع بدون ثواب عليها.
غفور شكور: أي غفور لذنوب عباده التائبين شكور لأعمالهم الصالحة.
معنى الآيات:
هذا السياق الكريم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ (2) مَاءً} في بيان تفاوت المخلوقات واختلافاتها فمن مؤمن إلى كافر، ومن صالح إلى فاسد ومن أبيض إلى أحمر أو أسود وابتدأه تعالى بخطاب رسوله مقرراً له بقوله {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تبصر بعينك أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ما بين تمر أصفر وآخر أحمر، وآخر أسود وهذا واضح في التمر
__________
1 - الغربيب: الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير إذ المعنى ومن الجبال سود غرابيب إذ العرب تقول للأسود شديد السواد كلون الغراب أسود غربيب.
2 - من هداية هذه الآية الإشارة الواضحة إلى وجود اختلاف بشري جبلّي فطري كما هو في سائر الكائنات الأرضية، وفي النباتات والحيوانات وحتى الجبال والمعادن ومن عرف عليه هان عليه اختلاف الناس ولم يحزن له ولم يهتم ويكرب.(4/352)
والعنب والفواكه والخضر، ومن الجبال كذلك. فإن فيها جدد (1) أي خطط حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء والجبال نفسها كذلك، ومن الناس والدواب والأنعام ففي جميعها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر كما في جدد الجبال نفسها وكما في الثمار. ولما كان هذا لا يدركه إلا المفكرون ولا يجني منه العبرة إلا العالمون قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى (2) اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وأهل مكة جهال لا يفكرون ولا يهتدون فلا غرابة إذا لم يخشوا الله تعالى ولم يوحدوه وذلك لجهلهم وعدم تفكيرهم.
وقوله تعالى في ختام هذا السياق: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (3) كشف عن حقيقة ينبغي أن يعرفها أهل مكة المصرون على الكفر والتكذيب وهي أن الله قادر على أخذهم والبطش بهم فإنه عزيز لا يمانع فيما يريده وغفور لذنوب التائبين من عباده ومهما كانت ذنوبهم ألا فليتب أهل مكة فإن توبتهم خير لهم من إصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب إذ في التوبة نجاة، وفي الإصرار هلاك.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ (4) } وهم المؤمنون {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أدوها أداء وافياً لا نقص فيه {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} الزكاة والصدقات بحسب الأحوال والظروف سراً أحياناً وعلانية أخرى. يخبر تعالى عنهم بعدما وصفهم بما شرفهم به من صفات أنهم يرجون تجارة لن تبور أي لن تهلك ولن تخسر وذلك يوم القيامة وقوله {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ (5) وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي هداهم لذلك ووفقهم إليه تعالى ليوفهم أجورهم ويزيدهم من فضله. وعلة ذلك أنه غفور لعباده المؤمنين التائبين فيغفر ذنوبهم ويدخلهم جنته شكور لطاعاتهم وصالح أعمالهم فلذا يضاعف لهم أجورهم ويزيدهم من فضله وله الحمد المنة.
__________
1 - الجدد جمع جدّة وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه.
2 - في الجملة قصر صفة على موصوف أي قصر صفة الخشية على العلماء دون الجهلة وبهذا علا شأن العلماء وعظم قدرهم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا إنما يخشى الله من عباده العلماء والمراد بالعلماء العالمون بالله أي بأسمائه وصفاته ومحابه ومكارهه وما عنده من نعيم لأوليائه وما لديه من عذاب لأعدائه، وآية العالم الخشية لله والمحبة له تعالى فمن لم يخش الله تعالى فليس بعالم.
3 - الجملة تذييلية مشعرة بغنى الله تعالى عن عباده قدير على أخذهم متى أراد بهم ذلك، ذو مغفرة لهم متى تابوا إليه وطلبوا مرضاته ولو عرف المشركون هذا ما أصروا على الشرك ولكنهم لا يعلمون.
4 - لما أثنى على العلماء بما وصفهم به من الخشية وكان في الكلام إيجاز أوضحه بهذه الجملة فقال إن الذين يتلون كتاب الله، وما تلا كتاب الله غير مؤمن عالم ولا أقام الصلاة وأنفق سراً وعلانية إلا ذو خشية ومحبة بعدما وصفهم وحدهم بشرهم بقوله يرجون تجارة لن تبور.
5 - التوفية جعل الشيء وافياً أي تاماً لا نقيصة فيه ولا غبن.(4/353)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر القدرة والعلم الإلهي في اختلاف الألوان والطباع والذوات.
2- العلم سبيل الخشية فمن لا علم له بالله فلا خشية له إنما يخشى الله من عباده العلماء.
3- فضل تلاوة القرآن الكريم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات.
4- في وصف الله تعالى بالغفور والشكور ترغيب للمذنبين أن يتوبوا، وللعاملين أن يزيدوا.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
شرح الكلمات:
من الكتاب: أي القرآن الكريم.
مصدقا لما بين يديه: أي من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل.
ثم أورثنا الكتاب: أي الكتب التي سبقت القرآن إذ محصلها في القرآن الكريم.
الذين اصطفينا: أي اخترنا المؤمنين من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/354)
فمنهم ظالم لنفسه: بارتكاب الذنوب.
ومنهم مقتصد: مؤد للفرائض مجتنب للكبائر.
ومنهم سابق بالخيرات: مؤد للفرائض والنوافل مجتنب للكبائر والصغائر.
بإذن الله: أي بتوفيقه وهدايته.
ذلك: أي إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير.
ولؤلؤاً: أي أساور من لؤلؤ مرصع بالذهب.
أحلنا دار المقامة: أي الإقامة وهي جنات عدن.
لا يمسنا فيها نصب: أي تعب.
ولا يمسنا فيها لغوب: أي إعياء من التعب، وذلك لعدم التكليف فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ (1) } أي القرآن الكريم هو {الْحَقُّ} أي الواجب عليك وعلى أمتك العمل به لا ما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل، {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أمامه من الكتب السابقة، وقوله {إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (2) } فهو تعالى يعلم أن الكتب السابقة لم تصبح تحمل هداية الله لعباده لما داخلها من التحريف والتغيير فلذا مع علمه بحاجة البشرية إلى وحي سليم يقدم إليها فتكمل وتسعد عليه متى آمنت به وأخذته نوراً تمشي به في حياتها المادية هذه أرسلك وأوحى إليك هذا الكتاب الكريم وأوجب عليك وعلى أمتك العمل به.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ (3) الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} يخبر تعالى أنه أورث أمة الإسلام الكتاب السابق إذ كل ما في التوراة والإنجيل من حق وهدى قد حواه القرآن الكريم فأمة القرآن قد ورّثها الله تعالى كل الكتاب الأول. وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ (4) } بالتقصير في العمل وارتكاب بعض الكبائر، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وهو المؤدي للفرائض المجتنب للكبائر،
__________
1 - في الآية الإشادة بالكتاب الذي يتلوه المؤمنون فيثابون ويزادون لأنه الكتاب الحق الخالي من الزيادة والنقص المصدق لما تقدمه من الكتب الإلهية السابقة وضمن هذا يقرر النبوة المحمدية وإثباتها والإشادة بصاحبها.
2 - الخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية وصاحب هذه الصفة هو الذي يجب أن يعبد ويتقى.
3 - حاول كثير من المفسرين البعد عن الحقيقة التي تضمنتها هذه الآية وهي أن الآية في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ هي التي قال الله تعالى فيها هو اجتباكم والاجتباء كالاصطفاء والظالم لنفسه لا يكون الكافر ولا المنافق وإنما هو المؤمن يغشى بعض الكبائر وما في التفسير هو الحق فتأمله.
4 - فمنهم: هذه الفاء التفريعية التفصيلية حيث فصل بها مجمل الذين أوتوا الكتاب والبداية بالظالمين لأنفسهم إيماء إلى أنهم غير محرومين من جنات عدن دفعاً لمن يتوهم أنهم لما كانوا ظالمين لا يدخلون الجنة.(4/355)
{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ} وهو المؤدي للفرائض والنوافل المجتنب للكبائر والصغائر. وقوله: {ذَلِكَ} أي الإيراث للكتاب هو الفضل الإلهي الكبير وهو {جَنَّاتُ عَدْنٍ (1) يَدْخُلُونَهَا} يوم القيامة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} جمع سوار ما يجعل في اليد {مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} أي أساور من لؤلؤ، ولباسهم فيها حرير.
وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ (2) الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي كل الحزن فلا حزن يصيبهم إذ لا موت في الجنة ولا فراق ولا خوف ولا همَّ ولا كرب فمِن أين يأتي الحزن. وقولهم {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} قالوا هذا لأنه تعالى غفر للظالم وشكر للمقتصد عمله فأدخل الجميع الجنة فهو الغفور الشكور حقاً حقاً.
وقولهم: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} أي الإقامة من فضله هذا ثناء منهم على الله تعالى بإفضاله عليهم، وقولهم {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي تعب {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي إعياء من التعب وصف لدار السلام وهي الجنة الخالية من النصب واللغوب جعلنا الله من أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآداباً وأخلاقاً وقضاء وحكماً.
2- بيان شرف هذه الأمة، وأنه المرحومة فكل من دخل الإسلام بصدق وأدى الفرائض واجتنب المحارم فهو ناج
فائز ومن قصر وظلم نفسه بارتكاب الكبائر ومات ولم يشرك بالله شيئاً فهو آئيل إلى دخول الجنة راجع إليها بإذن الله.
3- بيان نعيم أهل الجنة وحلية أهلها وهي الأساور (3) من الذهب واللؤلؤ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
__________
1 - جنات عدن بدل اشتمال من قوله ذلك الفضل الكبير.
2 - لما دخلوا جنات عدن حمدوا الله تعالى وأثنوا عليه وإن قيل كيف دخل الظالم لنفسه الجنة وهو ظالم قلنا هذا الظلم ليس ظلما لربه بأن عبد غير الله ولا هو ظلم لغيره وإنما ظلم لنفسه بارتكاب بعض الذنوب وهذا غير مانع من دخول الجنة إذ هو وارث بوصفه مؤمنا والجنة تورث والورثة يستوي فيهم البار مع العاق فلا يمنع من الإرث العاق بل يرث كالبار سواء بسواء.
3 - ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".(4/356)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39)
شرح الكلمات:
لا يقضى عليهم: أي بالموت فيموتوا ويستريحوا.
كذلك نجزي كل كفور: أي كذلك الجزاء نجزي كل كفور بنا وبآياتنا ولقائنا.
وهم يصطرخون فيها: أي يصيحون بأعلى أصواتهم يطلبون الخروج منها.
يقولون: أي في عويلهم وصراخهم ربنا أخرجنا أي منها نعمل صالحا.
أو لم نعمركم ما يتذكر فيه: أي وقتا يتذكر فيه من تذكر.
وجاءكم النذير: أي الرسول فلم تجيبوا وأصررتم على الشرك والمعاصي.
إنه عليم بذات الصدور: أي بما في القلوب من إصرار على الكفر ولو عاش الكافر طوال الحياة.
خلائف في الأرض: يخلف بعضكم بعضا. والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره.
فعليه كفره: أي وبال كفره.
إلا مقتا: أي إلا غضبا شديداً عليهم من الله عز وجل.
إلا خساراً: أي في الآخرة إذ يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح ذكر جزاء أهل الكفر والمعاصي فقال:(4/357)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا (1) } أي بالله وآياته ولقائه {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} أي جزاء لهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا (2) } أي بالموت فيموتوا حتى يستريحوا ولا يخفف عنهم من عذابها ولا طرفة عين. وقوله {كَذَلِكَ} أي الجزاء {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي مبالغ في الكفر مكثر منه. وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ (3) فِيهَا} أي في جهنم أي يصرخون بأعلى أصواتهم في بكاء وعويل يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} أي من النار وردنا إلى الحياة الدنيا {نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي من الشرك والمعاصي. فيقال لهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ (4) } أي أتطلبون الخروج من النار لتعملوا صالحا ولم نعمركم أي نطل أعماركم بحيث يتذكر فيها من يريد أن يتذكر وجاءكم النذير (5) فلم تجيبوه وأصررتم على الشرك والمعاصي، إذاً فذوقوا عذاب النار {فَمَا لِلظَّالِمِينَ} أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي من نصير ينصرهم فيخرجهم من النار. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي كل ما غاب في السموات والأرض {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ومن ذلك أنه عليم بما في قلوبكم وما كنتم مصرين عليه من الشرك والشر والفساد ولو عشتم الدهر كله.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ (6) } أي يخلف بعضكم بعضاً وفي ذلك ما يمكّن من العظة والاعتبار إذ العاقل من اعتبر بغيره فقد هلكت قبلكم أمم بذنوبهم فلم لا تتعظون بهم وقد خلفتموهم وجئتم بعدهم إذاً فلا عذر لكم أبداً.
وبعد هذا البيان فمن كفر فعليه كفره هو الذي يتحمل جزاءه، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم {إِلَّا مَقْتاً} أي بعداً عن الرحمة وبعضاً شديداً، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ} أي المصرين على الكفر كفرهم {إِلَّا خَسَاراً} أي هلاكاً في الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مُرّ العذاب وأليمه الذي هو جزاء الكافرين.
2- الإعذار لمن بلّغه الله من العمر أربعين سنة.
__________
1 - قال القرطبي لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم.
2 - هذا كقوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} من سورة الأعلى.
3 - يصطرخون مبالغة في يصرخون افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد أي يصيحون من شدة ما أصابهم.
4 - الاستفهام للتقريع والتوبيخ والواو عاطفة قولا محذوفاً تقديره يقولون ربنا أخرجنا ونقول ألم نعمركم والتعمير تطويل العمر.
5 - هل النذير القرآن أو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الشيب قال الشاعر:
رأيت الشيب من نُذُر المنايا
لصاحبه وحسبك من نذير.
وما في التفسير أصح.
6 - أي خلفاً بعد خلف وقرناً بعد قرن، والخلف هو التالي للمتقدم.(4/358)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
1- الكافر يعذب أبدا لعلم الله تعالى به وأنه لو عاش آلاف السنين ما أقلع عن كفره ولا حاول أن يتوب منه فلذا يعذب أبداً.
2- في كون البشرية أجيالا جيلا يذهب وآخر يأتي مجال للعظة والعبرة والعاقل من اعبر بغيره.
3- الاستمرار على الكفر لا يزيد صاحبه إلا بعداً عن الرحمة ومقتاً عند الله تعالى والمقت أشد الغضب.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (43)
شرح الكلمات:
قل أرأيتم: أي أخبروني
تدعون من دون الله: أي تعبدون من غير الله وهي الأصنام.
أروني ماذا خلقوا: أي أخبروني ماذا خلقوا من الأرض أي أيّ جزء منها خلقوه.
أم لهم شرك: أي لهم شركة في خلق السموات.
إلا في غروراً: أي باطلاً إذ قالوا إنها آلهتنا تشفع لنا عند الله يوم القيامة وتقربنا(4/359)
إلى الله زلفى.
يمسك السموات والأرض أن تزولا: أي يمنعهما من الزوال.
إن أمسكهما من أحد من بعده: أي ولو زالتا ما أمسكهما أحد من بعده لعجزه عن ذلك.
إنه كان حليماً غفوراً: أي حليماً لا يعجل بالعقوبة غفوراً لمن ندم واستغفر.
لئن جاءهم نذير: أي رسول.
من إحدى الأمم: أي اليهود والنصارى.
فلماء جاءهم نذير: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ما زادهم إلا نفوراً: أي مجيئه إلا تباعداً عن الهدى ونفرة منه.
ومكر السيء: أي الشرك والمعاصي.
ولا يحيق المكر السيء: أي ولا يحيط إلا بأهله العاملين له.
سنة الأولين: أي سنة الله فيهم وهي تعذيبهم بكفرهم وإصرارهم عليه.
ولن تجد لسنة الله تبديلاً: أي فلا يبدل العذاب بغيره.
ولن تجد لسنة الله تحويلاً: أي تحويل العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل للمشركين من قومك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ (1) الَّذِينَ تَدْعُونَ} أي تعبدون من دون الله أخبروني: ماذا خلقوا من الأرض حتى استحقوا العبادة مع الله فعبدتموهم معه؟ أم لهم شرك (2) في السموات بأن خلقوا جزءاً وملكوه بالشركة. والجواب قطعاً لم يخلقوا شيئاً من الأرض وليس لهم في خلق السموات شركة أيضاً إذاً فكيف عبدتموهم مع الله؟ وقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ} أي أم آتينا هؤلاء المشركين كتاباً يبيح لهم الشرك ويأذن لهم فيه فهم لذلك على بينة بصحة الشرك. والجواب ومن أين لهم هذا الكتاب الذي يبيح لهم الشرك؟ بل إن يعد (3) الظالمون بعضهم بعضاً {إِلَّا غُرُوراً} أي باطلاً إذ الحقيقة أن المشركين لم يكن لهم كتاب يحتجون به على صحة الشرك،
__________
1 - هذا شروع في بطلان الشرك وتحقيق التوحيد بالأسلوب العقلي والاستفهام تقريري في قوله أرأيتم شركاءكم أروني أي أروني شيئاً خلقوه من الأرض.
2 - الشرك اسم للنصيب المشترك به في ملك الشيء، والمعنى ألهم شرك مع الله في ملك السموات وتصريف أحوالها كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وإنزال المطر.
3 - إن نافية بمعنى "ما" بقرينة الاستثناء والغرور الأباطيل تغرو وهي قول السادة للسفلة إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم وتشفع لكم كما أن الشياطين توحي لهم بذلك من طريق الوسوسة.(4/360)
وإنما هو أن الظالمين وهم المشركون ما يعد بعضهم بعضاً وهو أن الآلهة ستشفع لنا وتقربنا إلى الله زلفى إلا غروراً وباطلاً فالرؤساء غرّوا المرءوسين وكذبوا عليهم بأن الآلهة تشفع لهم عند الله وتقربهم منه زلفى فلهذا عبدوها من دون الله وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ (1) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} يخبر تعالى عن عظيم قدرته ولطفه بعباده، ورحمته بهم وهي أنه تعالى يمسك السموات السبع والأرض أن تزولا أي تتحولا عن أماكنهما، إذ لو زالتا لخرب العالم في لحظات، وقوله: {وَلَئِنْ زَالَتَا} أي ولو زالتا {إِنْ (2) أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي لا يقدر على ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، وقوله إن كان حليما غفوراً إذ حلمه هو الذي غرّ الناس فعصوه، ولم يطيعوه، وأشركوا به ولم يوحدوه ومغفرته هي التي دعت الناس إلى التوبة إليه، والإنابة إلى توحيده وعبادته.
وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (42) {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} يخبر تعالى عن المشركين العرب بأنهم في يوم من الأيام كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم أي غاية اجتهادهم فيها لئن جاءهم رسول يرشدهم ويعلمهم لكانوا أهدى أي أعظم هداية من إحدى الطائفتين اليهود والنصارى. هكذا كانوا يحلفون ولما جاءهم نذير (3) أي الرسول وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زادهم مجيئه {إِلَّا نُفُوراً} أي بعداً عن الدين ونفرة منه، واستكباراً في الأرض، ومكر السيء الذي هو عمل الشرك والظلم والمعاصي.
وقوله تعالى {وَلا يَحِيقُ (4) الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} إخبار منه تعالى بحقيقة يجهلها الناس وهي أن عاقبة المكر السيء تعود على الماكرين بأسوأ العقاب وأشد العذاب وقوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون وهم مصرون على المكر السيء وهو الشرك ومحاربة الرسول وأذية المؤمنين. إلا سنة الأولين وهي إهلاك الماكرين الظالمين {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ} أيها (5)
__________
1 - لما بين لهم عجز آلهتهم وعدم قدرتها على خلق شيء في السموات والأرض بين لهم أن خالقها وممسكها هو الله فلا يوجد شيء إلا بإيجاده ولا يبقى شيء إلا بإبقائه.
2 - إن نافية بمعنى ما أي ما أمسكهما أحد سواه.
3 - هذا كان منهم قبل البعثة النبوية فقد بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فلعنوا من كذب نبيه منهم وأقسموا بالله جل اسمه لئن جاءهم نذير أي نبي ليكونن أهدى من إحدى الأمم يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب وكانوا يتمنون أن يكون منهم رسول فلما جاءهم ما تمنوه نفروا عنه ولم يؤمنوا به.
4 - حاق به: أحاط والحوق الإحاطة روي أن كعباً قال لابن عباس إني أجد في التوراة: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها. فقال ابن عباس فإني وجدت في القرآن ذلك قال وأين؟ قال اقرأ {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} ومن أمثال العرب: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً" وجملة لا يحيق المكر السيء إلا بأهله تذييل لما سبق وتحمل موعظة.
5 - السنة الطريقة والجمع سنن.(4/361)
الرسول {تَبْدِيلاً} بأن يتبدل العذاب بغيره بالرحمة مثلا {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً} بأن يتحول العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه إذاً فليعاجل قومك الوقت بالتوبة وإلا فهم عرضة لأن تمضي فيهم سنة الله بعذابهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
2- بيان أن المشركين لا دليل لهم على صحة الشرك لا من عقل ولا من كتاب.
3- بيان قدرة الله ولطفه بعباده ورحمته بهم في إمساك السموات والأرض عن الزوال.
4- بيان كذب المشركين، ورجوعهم عما كانوا يتقالونه بينهم من أنه لو أرسل إليهم رسول لكانوا أهدى من
اليهود أو النصارى.
5- تقرير حقيقة وهي أن المكر (1) السيء عائد على أهله لا على غيرهم وفي هذا يُرى أن ثلاثة على أهلها
رواجع، وهي المكر السيء، والبغي، والنكث لقوله تعالى {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقوله {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} وقوله {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45)
__________
1 - المكر إخفاء الأذى وهو سيء لأنه غدر وخديعة.(4/362)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
شرح الكلمات:
وكانوا أشد منهم قوة: أي وأهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسلهم.
وما كان الله ليعجزه من شيء: أي ليسبقه ويفوته فلم يتمكن منه.
إنه كان عليماً قديراً: أي عليماً بالأشياء كلها قديراً عليها كلها.
بما كسبوا: أي من الذنوب والمعاصي.
ما ترك على ظهرها: أي ظهر الأرض من دابة نسمة تدب على الأرض وهي كل ذي روح.
إلى أجل مسمى: أي يوم القيامة.
فإن الله كان بعباده بصيراً: فيحاسبهم ويجزيهم بحسب كسبهم خيراً كان أو شراً.
معنى الآيات:
لما هدد الله المشركين بإمضاء سنته فيهم وهي تعذيب وإهلاك المكذبين إذا أصروا على التكذيب ولم يتوبوا. قال {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} أي المشركون المكذبون لرسولنا {فِي الْأَرْضِ} شمالاً وجنوباً {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كقوم صالح وقوم هود، إنها كانت دماراً وخساراً {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ (1) قُوَّةً} أي من هؤلاء المشركين اليوم قوة وقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ (2) مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} أي لم يكن ليعجز الله شيء فيفوت الله ويهرب منه ولا يقدر عليه بل إنه غالب لكل شيء وقاهر له وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} تقرير لقدرته وعجز كل شيء أمامه، فإن العليم القدير لا يعجزه شيء بالاختفاء والتستر، ولا بالمقاومة والهرب.
وقوله تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وهي الآية (3) الأخيرة من هذا السياق (45) أي ولو كان الله يؤاخذ الناس بذنوبهم فكل من أذنب ذنباً انتقم منه فأهلكه ما ترك على ظهر الأرض من نسمة ذات روح تدب على وجه الأرض، ولكنه تعالى يؤخر الظالمين {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} (4) أي معين الوقت محدده إن كان في الدنيا ففي الدنيا، وإن كان يوم القيامة ففي القيامة. وقوله:
__________
1 - الجملة في محل نصب حالية أي كان عاقبتهم الاضمحلال وكانوا أشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب.
2 - أي هبكم أنكم أقوى ممن كان قبلكم وأشد حيلة وتصرفاً في الحياة فإن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وذلك لعلمه وقدرته، إذاً فلا مهرب لكم منه إذا أراد إهلاككم.
3 - قال ابن مسعود، يريد جميع الحيوان مما دبّ ودرج وقال قتادة وقد فعل ذلك زمن نوح عليه السلام: قال ابن جرير هنا الناس وحدهم وهو كذلك.
4 - قال مقاتل الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ وقيل هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين إذ يوم القيامة مكتوب في اللوح المحفوظ.(4/363)
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ (1) فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرا} يخبر بأنه إذا جاء أجل الظالمين فإنه تعالى بصير بهم لا يخفي عليه منهم أحد فيهلكهم ولا يبقى منهم أحد لكامل علمه وعظيم قدرته، ألا فليتق الله الظالمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية السير في الأرض للعبرة لا للتنزه واللهو واللعب.
2- بيان أن الله لا يعجزه شيء وذلك لعلمه وقدرته وهي حال توجب الترهيب منه تعالى والإنابة إليه.
3- حرمة استعجال العذاب فإن لكل شيء أجلاً ووقتاً معيناً لا يتم قبله فلا معنى للاستعجال بحال.(4/364)
سورة يس (2)
مكية
وآياتها ثلاث وثمانون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى
__________
1 - قوله فإن الله كان بعباده بصيراً هو كالجواب لمن قال وكيف يهلك كل من في الأرض فيهم الصالحون والمؤمنون فقال إنه كان بعباده بصيراً فقد ينجي من لا يستحق الهلاك ويهلك من يستحقه.
2 - ورد في فضل هذه السورة حديث أبي داود عن معقل بن يسار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اقرأوا يس على موتاكم" ورود عن أبي الدرداء أو أم الدرداء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه، " وأخرج الدارمي عن أبي هريرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة" وخرجه الحافظ أبو نعيم أيضاً.(4/364)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
شرح الكلمات:
يس: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا يس، ويقرأ هكذا ياسين والله أعلم بمراده به.
والقرآن الحكيم: أي ذي الحكمة إذ وضع القرآن كل شيء في موضعه فهو لذلك حكيم ومحكم أيضا بعجيب النظم وبديع المعاني.
إنك لمن المرسلين: أي يا محمد من جملة الرسل الذين أرسلناهم إلى أقوامهم.
على صراط مستقيم: أي طريق مستقيم الذي هو الإسلام.
تنزيل العزيز الرحيم: أي القرآن (1) تنزيل العزيز في انتقامه ممن كفر به الرحيم بمن تاب إليه.
ما أنذر آباؤهم: أي لم ينذر آباؤهم إذ لم يأتهم رسول من فترة طويلة.
فهم غافلون: أي لا يدرون عاقبة ما هم فيه من الكفر والضلال، ولا يعرفون ما ينجيهم من ذلك وهو الإيمان وصالح الأعمال.
لقد حق القول على أكثرهم: أي وجب عليهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون.
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا: أي جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالأغلال.
فهي إلى الأذقان: أي أيديهم مجموعة إلى أذقانهم، والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين.
فهم مقمحون: أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، فلذا هم لا يكسبون بأيديهم خيراً، ولا يذعنون برؤوسهم إلى حق.
__________
1 - هذا على قراءة أهل المدينة وهي رفع تنزيل. أما على قراءة النصب فالتقدير أقرأ تنزيل العزيز الرحيم أو أمدح تنزيل.(4/365)
فأغشيناهم فهم لا يبصرون: أي جعلنا على أبصارهم غشاوة فهم لذلك لا يبصرون.
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون: أي استوى إنذارك لهم وعدمه في عدم إيمانهم.
من اتبع الذكر: القرآن.
وأجر كريم: أي بالجنة دار النعيم والسلام.
إنا نحن نحيي الموتى: أي نحن ربّ العزة نحيي الموتى للبعث والجزاء.
ونكتب ما قدموا وآثارهم (1) : أي ما عملوه من خير وشر لنحاسبهم، وآثارهم أي خطاهم إلى المساجد وما استن به أحد من بعدهم.
في إمام مبين: أي في اللوح المحفوظ.
معنى الآيات:
{يس} الله أعلم (2) بمراده به {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (3) } أي المحكم نظماً ومعنىً وذي الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه أقسم تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبييٌّ ورسولٌ فقال {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الذي هو الإسلام. وقوله {تَنْزِيلَ (4) الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن هو تنزيل الله {الْعَزِيزِ} في الانتقام ممن كفر به وكذب رسوله {الرَّحِيمِ} بأوليائه وصالحي عباده. وقوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} أي أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب لأجل أن تنذر قوماً ما أنذر آباؤهم من فترة طويلة وهم مشركو العرب إذ لم يأتهم رسول من بعد إسماعيل عليه السلام {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي لا يدرون عاقبة ما هم عليه من الشرك والشر والفساد، ومعنى تنذرهم تخوفهم عذاب الله تعالى المترتب على الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أي أكثر خصوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كفار قريش كأبي جهل حق عليهم القول الذي هو قوله تعالى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فوجب لهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون إذ لو آمنوا لما عذبوا، وعدم إيمانهم لم يكن مفروضاً عليهم
__________
1 - وَهِم بعض فقال هذه الآية نزلت بالمدينة في بني سلمة والصحيح أن السورة كلها مكي وليس فيها مدني وإنما قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية محتجا بها على بني سلمة لما أرادوا النزول قرب المسجد فقال لهم بني سلمة دياركم تكتب آثاركم. وقرأ هذه الآية، ونكتب ما قدموا وآثارهم.
2 - كره مالك رحمه الله تعالى التسمية بيس وهو كذلك لعدم علمنا بالمراد منه وليس هو باسم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذكر أسماءه الخمسة ولم يذكر بينها يس ولا حجة في قول الرافضي:
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة
على المودة إلا آل ياسين
3 - والقرآن الواو للقسم والقرآن مقسم به وجواب القسم: إنك لمن المرسلين وعلى صراط مستقيم خبر ثان لإن.
4 - قرأ نافع والجمهور تنزيل بالرفع على أنه خبر محذوف المبتدأ أي هو تنزيل والضمير عائد على القرآن المقسم به وقرأ حفص تنزيل بالنصب على المصدرية أو على تقدير أعني أو أخص فيكون مدحاً وإشادة بشأنه وهو أليق.(4/366)
وإنما هو باختيارهم وحرية إرادتهم إذ لو كان جبراً لما استحقوا العذاب عليه. وقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ} أي أيديهم {إِلَى الْأَذْقَانِ} مشدودة بالأغلال {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، وهذا تمثيل لحالهم في عدم مدّ أيديهم للإنفاق في الخير، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق (1) وقوله {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم زينت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم مانع لهم من الإيمان وترك الشرك والمعاصي، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سداً من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة وقوله تعالى {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغض ما جاء به من فهم لذلك عمى لا يبصرون. وقوله تعالى {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ (2) أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} هذا إخبار منه تعالى بأن هذه المجموعة من خصوم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكابر مجرمي مكة استوى فيهم الإنذار النبوي وعدمه فهم لا يؤمنون فكأن الله تعالى يقول لرسوله إن هؤلاء العتاة من خصومك إنذارك لهم لا ينفعهم فأنذر الذين ينفعهم إنذارك ودع من سواهم وهو قوله تعالى {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي القرآن {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي خافه فلم يعصه وهو لا يراه، كما لم يعصه عندما يخلو بنفسه ولا يراه غيره فمثل هذا بشره بمغفرة منا لذنوبه وأجر كريم على صالح عمله وهو الجنة دار المتقين وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي للبعث والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير وشر، {وَآثَارَهُمْ} أي ونكتب آثارهم وهو ما استُن به (3) من سننهم الحسنة أو السيئة. {وَكُلَّ شَيْءٍ} أي من أعمال العبادة وغيرها {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، وسنجزي كلاً بما عمل. وفي هذا الخطاب تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 - وجائز أن يكون هذا بيان لحالهم في النار يوم القيامة ولكن ما في التفسير أولى وأحق والسياق يؤكده.
2 - أنذرتهم أصل الهمزة الاستفهام ولكنها هنا للتسوية متمحضة لها.
3 - شاهده حديث مسلم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" وكذا حديثه الآخر: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده.(4/367)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وتأكيد رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- بيان الحكمة من إرسال الرسول وإنزال الكتاب الكريم.
3- بيان أن الرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث على فترة من الرسل.
4- بيان أن حب الدنيا والإقبال عليها والإعراض عن الآخرة وعدم الالتفات إليها يضعان الإنسان بين حاجزين
لا يستطيع تجاوزهما والتخلص منهما.
5- بيان أن الذنوب تقيد صاحبها وتحول بينه وبين فعل الخير أو قبول الحق.
6- بيان أن من سن سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده يجزى بها كما يجزى على عمله الذي باشره بيده.
7- تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن كل شيء في كتاب المقادير المعبر عنه بالإمام. ومعنى المبين أي أن ما كتب
فيه بين واضح لا يجهل منه شيء.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
شرح الكلمات:
واضرب لهم مثلاً: أي واجعل لهم مثلاً.
أصحاب القرية: أي أنطاكية عاصمة بلاد يقال لها العواصم بأرض الروم.(4/368)
إذ جاءها المرسلون: أي رسل عيسى عليه السلام.
فعززنا بثالث: أي قوينا أمر الرسولين ودعوتهما برسول ثالث وهو حبيب النجار.
وما علينا إلا البلاغ المبين: أي التبليغ الظاهر البين بالأدلة الواضحة وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الموتى.
إنا تطيرنا بكم: أي تشاءمنا بكم وذلك لانقطاع المطر عنا بسببكم.
قالوا طائركم معكم: أي شؤمكم معكم وهو كفركم بربكم.
أئن ذكرتم: أوعظتم وخوفتم تطيرتم وهذا توبيخ لهم.
بل أنتم قوم مسرفون: أي متجاوزون للحد في الشرك والكفر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً (1) } أي واضرب أيها الرسول لقومك المصرين على الشرك والتكذيب لك ولما جئتهم به من الهدى ودين الحق {مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} فإن حالهم في التكذيب والغلّو في الكفر والعناد كحال هؤلاء. إذ جاءها المرسلون وهم رسل عيسى (2) عليه السلام إذ بعث برسولين ثم لما آذوهما بالضرب والسجن بعث بشمعون الصفي رأس الحواريين تعزيزاً لموقفهما كما قال تعالى {فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} (3) ، فقالوا لأهل أنطاكية (4) {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} من قبل عيسى عليه السلام ندعوكم إلى عبادة الرحمن وترك عبادة الأوثان فـ {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا تكذبون علينا في دعواكم أنكم رسل إلينا فقال الرسل {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فواجهوا شك القوم فيهم بما يدفع الشك من القسم وتأكيد الخبر بالجملة الاسمية ولام التوكيد فقالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي البين الواضح فإن قبلتم ما دعوناكم إليه فذلك حظكم من الخير والنجاة وإن أبيتم فذلك حظكم من الهلاك والخسار. ورد أهل أنطاكية على الرسل قائلين: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي تشاءمنا (5) بكم حيث انقطع المطر بسببكم* فرد عليهم المرسلون بقولهم {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي شؤمكم في كفركم وتكذيبكم، ولذ حبس الله عنكم المطر
__________
1 - اضرب أي اجعل والمثل للتشبيه والمعنى اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شبهاً لأهل مكة وإرسالك إليهم.
2 - كان هذا بعد رفع عيسى إلا أنه كان بإذن الله تعالى فلذا قال تعالى أرسلنا إليهم.
3 - قرئ عززنا بالتخفيف والمعنى واحد.
4 - كان أهل أنطاكيا من اليهود ومن اليونان.
5 - وجائز أن يكون قد حدث بينهم تشاجر وتشاحن نتيجة قبول الدعوة من أفراد منهم فحصل بينهم شجار وخلاف لم يألفوه فقالوا ما قالوا متشائمين، وفي الحديث: لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير.
* لئن لم تنتهوا من دعواكم بأنكم رسل إلينا بترك آلهتنا لنرجمنكم بالحجارة وليمسنكم منا عذاب أليم.(4/369)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
عليكم. ثم قالوا لهم موبخين لهم: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ (1) } أي وعظتم وخوّفتم بالله لعلكم تتقون تطيرتم. بل أنتم أيها القوم {مُسْرِفُونَ} أي متجاوزون الحد في الكفر والشرك والعدوان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب المثل وهو تصوير حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما هنا في قصة حبيب بن النجار.
2- تشابه الكفار في التكذيب والإصرار في كل زمان ومكان.
3- لجوء أهل الكفر بعد إقامة الحجة عليهم إلى التهديد والوعيد.
4- حرمة التطير والتشاؤم في الإسلام.
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
شرح الكلمات:
وجاء رجل: أي حبيب بن النجار صاحب يس (2) .
من أقصى المدينة: أي من أقصا دور المدينة وهي أنطاكيا العاصمة.
__________
1 - الاستفهام إنكاري وبل للإضراب الانتقالي أضرب عن دعواهم لبطلانها وانتقل بهم إلى الحقيقة وهي إسرافهم في الشرك والشر والفساد.
2 - ما جاء في التفسير من كون الرسل هم رسل عيسى عليه السلام، وأن القرية هي أنطاكية – هو ما عليه أكثر المفسرين مثل قتادة وابن جرير وغيرهما، إلا أن ابن كثير رحمه الله تعالى رجّح أن الرسل رسل من الله تعالى، وأن القرية ليست أنطاكية، وحجته فيما رآه أن الله تعالى لم يهلك أمة بعد نزول التوراة، وهذه القرية أهلك أهلها. وهذه غفلة منه رحمه الله تعالى إذ أهلك الله أهل قرية كانت حاضرة البحر، ومسخ أهلها قردة وخنازير على عهد داود بعد نزول التوراة بقرن وإنما رفع هلاك العامّة بعد بعثة النبي محمد نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/370)
يسعى: أي يشتد مسرعا لما بلغه أن أهل البلد عزموا على قتل رسل عيسى الثالثة.
قال يا قوم اتبعوا المرسلين: أي رسل عيسى عليه السلام.
اتبعوا من لا يسألكم أجراً: اتبعوا من لا يطلبكم أجراً على إبلاغ دعوة الحق.
وهم مهتدون: أي الرسل إنهم على هداية من ربهم ما هم بكذابين.
فطرني: أي خلقني.
إن يردن الرحمن بضر: أي بمرض ونحوه.
ولا ينقذون: أي مما أراد الله لي من ضر في جسمي وغيره.
إني إذا لفي ضلال مبين: أي إن إذا اتخذت من دون الله آلهة أعبدها لفي ضلال مبين.
إني آمنت بربكم فاسمعون: أي صارح قومه بهذا القوم وقتلوه.
قيل ادخل الجنة: قالت له الملائكة عند الموت ادخل الجنة.
يا ليت قومي يعلمون: قال هذا لما شاهد مقعده في الجنة.
بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين: وهو الإيمان والتوحيد والصبر على ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مَثَلِ أصحاب القرية إنه بعد أن تعزز موقف الرسل الثلاثة وأعطاهم الله من الكرامات ما أبرأوا به المرضى بل وأحيوا الموتى بإذن الله وأصبح لهم أتباع مؤمنون غضب رؤساء البلاد وأرادوا أن يبطشوا بالرسل، وبلغ ذلك حبيب بن النجار وكان شيخا مؤمناً موحداً يسكن في طرف المدينة الأقصى فجاء يشتد سعيا على قدميه فأمر ونهى وصارح القوم بإيمانه وتوحيده فقتلوه رفساً بأرجلهم قال تعالى {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} - أنطاكية- {رَجُلٌ يَسْعَى (1) } أي يمشي بسرعة لما بلغه من أن أهل البلاد قد عزموا على قتل الرسل الثلاثة وما إن وصل إلى الجماهير الهائجة حتى قال بأعلى صوته: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (2) } وسأل الرسل هل طلبتم على إبلاغكم
__________
1 - هذا الرجل هو حبيب بن النجار صاحب ياسين كما في الحديث والرجل كان مصاباً بالجذام سنين وشفاه الله تعالى على يد رسل عيسى وبذلك آمن وأسلم وبفي في أرض أنطاكيا يعبد الله تعالى حتى بلغه هَمُّ أهل المدينة بالبطش بالرسل جاء مسرعاً لينقذ دعوتهم ويدعوا إلى الله تعالى بما أخبر به تعالى في هذه الآيات.
2 - المراد بالمرسلين رسل عيسى الذين أرسلهم بالوصية إليهم إلى أنطاكيا من بينهم شمعون الذي عزز به الرسولين قبله.(4/371)
دعوة عيسى أجراً قالوا لا. فقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فاتبعوهم تهتدوا بهدايتهم. وقال له القوم وأنت تعبد الله مثلهم ولا تعبد آلهتنا؟ فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي وأيّ شيء يجعلني لا أعبده وهو خلقني {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي بعد موتكم فيحاسبكم ويجزيكم بعملكم. ثم اغتنم الفرصة ليدعوا إلى ربه فقال مستفهما {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي أصناماً وأوثاناً لا تسمع ولا تبصر {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} (1) وإن قلّ ولا ينقذون مما أراده بي من ضر ونحوه {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) } أي إني إذا أنا عبدت هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لفي ضلال مبين واضح لا يحتاج إلى دليل عليه. ورفع صوته مبلغاً {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} أي بخالقكم ورازقكم ومالك أمركم دون هذه الأصنام والأوثان {فَاسْمَعُونِ} وهنا وثبوا عليه فقتلوه. ولما قيل له ادخل الجنة ورأى نعيمها ذكر قومه ناصحاً لهم فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي (3) رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (4) } أي يعلمون بما غفر له وجعله من المكرمين وهو الإيمان والتوحيد حتى يؤمنوا ويوحدوا فنصح قومه حياً وميتاً وهذا شأن المسلم الحسن الإسلام والمؤمن الصادق الإيمان ينصح ولا يغش ويرشد ولا يضل ومهما قالوا له وفيه ومهما عاملوه به من شدة وقسوة حتى الموت قتلاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان كرامة حبيب بن النجار الذي نصح قومه حياً وميتاً.
2- بيان ما يلاقي دعاة التوحيد والدين الحق في كل زمان ومكان من شدائد وأهوال.
3- وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ومهما كان العذاب قاسياً.
4- بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين.
__________
1 - إن يردن ولا يغن ولا ينقذون، فاسمعون حذفت منها كلها ياء المتكلم مراعاة للتخفيف ولظهورها وعدم اللبس مع حذفها، وجملة إن يردن في محل نصب نعت.
2 - إن إذاً لفي ضلال مبين الجملة جواب للاستفهام الإنكاري في قوله أأتخذ من دونه آلهة أي إن اتخذت من دون الله آلهة إني في ضلال مبين.
3 - بما غفر: ما مصدرية تسبك بمصدر نحو بمغفرة ربي لي.
4 - من المكرمين الملائكة والأنبياء والشهداء والصالحين.(4/372)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
الجزء الثالث والعشرون
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
شرح الكلمات:
وما أنزلنا على قومه: أي على قوم حبيب بن النجار وهم أهل أنطاكية.
من بعده: أي من بعد موته.
من جند من السماء: أي من الملائكة لإهلاكهم.
وما كنا منزلين: أي الملائكة لإهلاك الأمم التي استوجبت الهلاك.
إن كانت إلا صيحة واحدة: أي ما هي إلا صيحة واحدة وهي صيحة جبريل عليه السلام.
فإذا هم خامدون: أي ساكنون لا حراك لهم ميتون.
يا حسرة على العباد: أي يا حسرة العباد هذا أوان حضوركِ فاحضري وهذا غاية التألم. والعباد هم المكذبون للرسل الكافرون بتوحيد الله.
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون: هذا سبب التحسر عليهم.
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون: أي ألم ير أهل مكة المكذبون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإن كل لماّ جميع لدينا محضرون: أي وإن كل الخلائق إلا لدينا محضرون يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم.(4/373)
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} أي (1) قوم حبيب بن النجار {مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد موته {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} للانتقام من قومه الذين قتلوه لأنه أنكر عليهم الشرك ودعاهم إلى التوحيد وما كنا منزلين إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك. إن كانت إلا صيحة واحدة من جبريل (2) عليه السلام فإذا هم خامدون أي هلكى ساكنون ميتون لا حراك لهم ولا حياة فيهم وقوله تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا حسرة العباد (3) على أنفسهم احضري أيتها الحسرة (4) هذا أوان حضورك {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ (5) يَسْتَهْزِئُونَ} هذا موجب الحسرة ومقتضاها وهو استهزاؤهم بالرسل. وقوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا} أي أهل مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي ألم يعلموا القرون الكثيرة التي أهلكناها قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين، {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} فيكون هذا هاديا لهم واعظاً فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويسعدوا. وقوله تعالى {وَإِنْ كُلٌّ} (6) أي من الأمم الهالكة وغيرها من سائر العباد {لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي إلا لدينا محضرون لفصل القضاء يوم القيامة فينجو المؤمنون ويهلك الكافرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك أهل أنطاكية بصيحة واحدة.
2- إبداء التحسر على العباد من أنفسهم إذ هم الظالمون المكذبون فالحسرة منهم وعليهم.
3- حرمة الاستهزاء بما هو من حرمات الله تعالى التي يجب تعظيمها.
4- طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم، والعاقل من اعتبر بغيره.
5- تقرير المعاد والحساب والجزاء.
__________
1 - هذا تابع لقصة حبيب بن النجار صاحب ياسين والجملة معطوفة على جملة قيل ادخل الجنة.
2 - كون جبريل هو الذي صاح فيهم وراد عند أهل التفسير فإن ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب الإيمان به وإلا فلا يجب ولا يلزم الإيمان به إذ جائز أن يكون ملكاً آخر غير جبريل.
3 - العباد جمع عبد من عباد الله تعالى والعبيد جمع عبد مملوك للناس.
4 - الحسرة شدة الندم مشوباً بتلهف على نفع فائت.
5 - الاستثناء مفرغ من أحوال عامة من الضمير في "يأتيهم" أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا استهزأوا به.
6 - قرأ نافع وإن كل لما بتخفيف الميم وشددها حفص فعلى تخفيفها تكون إن مخففة من الثقيلة واللام هي اللام الفارغة وما مزيدة للتوكيد. وإن قدرت ما نافية وجب تشديد لما إذ تكون بمثابة الاستثناء أي وما كلهم إلا محضرون لدينا.(4/374)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
شرح الكلمات:
وآية لهم الأرض الميتة: أي على صحة البعث ووجوده لا محالة.
أحييناها: بإنزال المطر عليها فأصبحت حيّة بالنبات والزروع.
وجعلنا فيها جنات: أي بساتين.
وما عملته أيديهم: أي لم تصنعه أيديهم وإنما هو صنع الله وخلقه.
أفلا يشكرون: أي أفيرون هذه النعم ولا يشكرونها إنه موقف مخز منهم.
سبحان الذي خلق الأزواج كلها: أي تنزيهاً وتقديساً لله الذي خلق الأصناف كلها.
ومن أنفسهم: أي الذكور والإناث.
ومما لا يعلمون: من المخلوقات كالتي في السموات وتحت الأراضين.
معنى الآيات:
لما تقدم في الآيات قبل هذه تقرير عقيدة البعث والجزاء في قوله وإن كل لما جميع لدينا محضرون ذكر هنا الدليل العقلي على صحة إمكان البعث فقال {وَآيَةٌ لَهُمُ (1) } أي على صحة البعث الأرضُ الميتة التي أصابها المحل فلا نبات فيها ولا زرع أحييناها بالمطر فأنبتت من كل زوج بهيج فهذه آية أي علامة كبرى وحجة واضحة على إمكان البعث إذ الخليقة تموت ولم يبق إلا الله تعالى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} ثم ينزل الله تعالى ماء
__________
1 - وآية لهم مبتدأ والخبر الأرض الميتة. قرأ نافع الميتة بتشديد الياء وسكنها حفص.(4/375)
من تحت العرش فتحيا البشرية على طريقة الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا بالنبات. وهذه المرة تحيا البشرية إذ يركب خلقهم من عظم يقال له عجب الذنب هو في بطن الأرض لا يتحلل ومنه يركب الخلق كما أخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح. هذا معنى قوله تعالى في الاستدلال على البعث {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} أي حبّ البر فمنه أي من ذلك يأكلون الخبز: وقوله {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الأرض الميتة جنات أي بساتين من نخيل وأعناب، وفجرنا فيها من العيون أي عيون الماء، هذه مظاهر القدرة والعلم الإلهي وكلها تشهد بصحة البعث وإمكانه وأن الله تعالى قادر عليه وعلى مثله. وقوله تعالى {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} أي من ثمر المذكور (1) من النخل والعنب وغيره. وقوله {وَمَا (2) عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي لم تخلقه ولم تكونه أيديهم بل يد الله هي التي خلقته أفلا يشكرون يوبخهم على عدم شكره تعالى على ما أنعم به عليهم من نعمة الغذاء. وقوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ (3) كُلَّهَا} أي تنزيهاً وتقديساً لله الذي خلق الأزواج كلها {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} يقدس الله تعالى نفسه وينزهها عن العجز عن إعادة الخلق ويذكر بآيات القدرة والعلم وهي نظام الزوجية إذ كل المخلوقات أزواج أي أصناف من ذكر وأنثى فالنباتات على سائر اختلافها ذكر وأنثى والناس كذلك وما هو غائب عنا في السموات وفي بطن الأرض أزواج كذلك ولا وتْرَ أي لا فرد إلا الله تعالى فقد تنزه عن صفات الخلائق، ومنها كان للحياة الدنيا نوع آخر هو لها كالزوج وهي الحياة الآخرة فهذا دليل عقلي من أقوى الأدلة على الحياة الثانية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي هي القوة الدافعة للإنسان على فعل الخيرات وترك الشرور المنكرات.
2- دليل نظام الزوجية وهو آية على أن القرآن وحي الله وكلامه إذ قرر القرآن نظام الزوجية قبل معرفة الناس
لهذا النظام في الذرة وغيرها في القرن العشرين.
__________
1 - الثمر بمنزلة الحب للسنبل وهو ما يغله النخل والعنب، وقرأ الجمهور بفتحتين. وقرأه خلافهم بضمتين.
2 - جائز أن يكون ما نافية أي ولم تعمله أيديهم وإنما الله جل جلاله هو الذي أنبته وسخره لهم وجائز أن تكون ما موصولة أي والذي عملته أيديهم من أصناف الحلاوات والأطعمة وما يتخذونه كالخبز والجبن وما إلى ذلك وما في التفسير أرجح وأدل على نعم الله وقدرته وقرأ الجمهور ومما عملته بهاء الضمير وقرأ بعضٌ عملت بدونه.
3 - الأزواج جمع زوج ويطلق على كل من الذكر والأنثى، وعلى الأصناف المختلفة فإن أريد بالأزواج الذكر والأنثى فمن ابتدائية في المواقع الثلاثة وإن أريد بها الأصناف فمن بيانية في المواطن الثلاثة: لقوله: ومما لا يعلمون مقابل محذوف تقديره وما يعلمون وهذا من دلالة الإشارة.(4/376)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
1- وجوب شكر الله تعالى بالإيمان وبطاعته وطاعة رسوله على نعمه ومنها الإيجاد ونعمة الإمداد أي بالغذاء
والماء والهواء.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
شرح الكلمات:
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار: وآية لهم على إمكان البعث الليل نسلخ منه النهار أي نزيل النهار عن الليل فإذا هم مظلمون بالليل.
لمستقر لها: أي مكان لها لا تتجاوزه.
ذلك تقدير العزيز العليم: أي جريها في فلكها تقدير أي تقنين العزيز في ملكه العليم بكل خلقه.
والقمر قدرناه منازل: وآية أخرى هي تقدير منازل القمر التي هي ثمان وعشرون منزلة.
حتى عاد كالعرجون القديم: أي حتى رجع كعود العذق الذي أصله في النخلة وآخره في الشماريخ وهو أصفر دقيق مقوس كالقمر لما يكون في آخر الشهر.
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر: أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر فيجتمعان في الليل.
ولا الليل سابق النهار: أي بأن يأتي قبل انقضائه.
وكل في فلك يسبحون: أي كل من الشمس والقمر والنجوم السيارة في فلك يسبحون أي يسيرون والفلك دائرة مستديرة كفلكة المغزل وهو مجرى النيرين والكواكب السيارة.(4/377)
معنى الآيات:
ما زال السياق في البرهنة على إمكان البعث ووقوعه لا محالة فقال تعالى {وَآيَةٌ لَهُمُ} أي علامة لهم أخرى على قدرة الله على البعث {اللَّيْلُ نَسْلَخُ (1) مِنْهُ النَّهَارَ} أي نفصل عنه النهار بمعنى نزيله عنه فإذا هم في الليل مظلمون أي داخلون في الظلام فهذه آية على قدرة الله على البعث وقوله {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ (2) لَهَا} أي تجري في فلكها منه تبتدئ سيرها وإليه ينتهي سيرها وذلك مستقرها، ولها مستقر آخر وهو نهاية الحياة الدنيا، وإنها لتسجد كل يوم تحت (3) العرش وتستأذن باستئناف دورانها فيؤذن لها كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكونها تحت العرش فلا غرابة فيه فالكون كله تحت العرش وكونها تستأذن فيؤذن لها لا غرابة فيه إذا كانت النملة تدبر أمر حياتها بإذن ربها وتقول وتفكر وتعمل فالشمس أحرى بذلك وأنها تنطق بنطقها الخاص وتستأذن ويؤذن لها وقوله تعالى {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} أي الغالب على مراده العليم بكل خلقه، وتقدير سير الشمس في فلكها بالثانية وتقطع فيه ملايين الأميال أمر عجب ونظام سيرها طوال الحياة فلا يختل بدقيقة ولا يرتفع مستواها شبراً ولا ينخفض شبراً يترتب على ذلك خراب العالم الأرضي كل ذلك لا يقدر عليه إلا الله، أليس المبدع هذا الإبداع في الخلق والتدبير قادر على إحياء من خلق وأمات؟ بلى، بلى إن الله على كل شيء قدير. وقوله تعالى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ (4) مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} هذه آية أخرى على إمكان البعث وحتميته والقمر كوكب منير يدور حول الأرض ينتقل في منازله الثمانية والعشرين منزلة بدقة فائقة وحساب دقيق ليعرف بذلك سكان الأرض عدد السنين والحساب إذ لولاه لما عرف يوم ولا أسبوع ولا شهر ولا سنة ولا قرن. فالقمر يبدأ هلالاً صغيرا ويأخذ في الظهور فيكبر بظهوره شيئاً فشيئاً حتى يصبح
__________
1 - السلخ الكشط والنزع كسلخ الشاة من جلدها فيبقى اللحم أبيض كذلك يسلخ تعالى النهار من الليل فيبقى الناس في ظلام حالك.
2 - جائز أن يكون في الكلام حذف أي وآية لهم الشمس تجري وجائز أن يكون الشمس مبتدأ وتجري الجملة خبر أي آية أخرى.
3 - لمستقر لها جائز أن يكون اللام بمعنى إلى وجائز أن يكون اللام لام الصيرورة والمآل أي يصير أمرها فتؤول إلى مستقرها، والمستقر مكان الاستقرار روى البخاري ومسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أبا ذر حين غربت الشمس "أتدري أين تذهب" قال قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع في مغربها فذلك قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} .
4 - جائز أن يكون قدرنا له منازل أو قدرناه منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة بها بمنزل وهي: السرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الخراتان، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانيان، الاكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرع المقدم، الفرع المؤخر، بطين الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها.(4/378)
في نصف الشهر بدارً كاملاً، ثم يأخذ في الأفول والاضمحلال بنظام عجب حتى يصبح في آخر الشهر كالعرجون القديم أي كعود العرجون الأصفر دقيق مقوس كل ذلك لفائدة الإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض أليس هذا آية كبرى على قدرة الله العزيز العليم على إعادة الحياة لحكمة الحساب والجزاء؟ بلى إنها لآية كبرى فقوله {لا الشَّمْسُ (1) يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي لا يسهل على الشمس ولا يصح منها أن تدرك القمر فيذهب نوره بل لكل سيره فلا يلتقيان إلا نادراً في جزء معين من الأفق فيحصل خسوف القمر وكسوف الشمس. وقوله {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بل كل من الليل والنهار يسير في خط مرسوم لا يتعداه فلذا لا يسبق الليل النهار ولا النهار الليل فلا يختلطان إلا بدخول جزء من هذا في هذا وجزء من ذاك في ذا وهو معنى {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} وقوله {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2) } أي كل واحد من الشمس والقمر والكواكب السيارة في فلك يسبحون فلذا لا يقع فيها خلط ولا ارتطام (3) بعضها ببعض إلى نهاية الحياة فيقع ذلك ويخرب الكون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إقامة الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إمكان البعث ووقوعه حتماً.
2- ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزء يسير آية عظمى على أنه وحي الله وأن من أوحي إليه هو رسول الله قطعاً.
3- ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ
__________
1 - هذا لأن سير القمر سريع وسير الشمس دونه فلا تدركه.
2 - لم يقل تسبح لأنه وصفها بوصف العقلاء يسبحون، أي يجرون وجيء بضمير الجمع وهما اثنان الشمس والقمر لا غير لإفادة تعميم هذا الحكم فيشمل الكواكب أيضا.
3 - هذا لما بين بينها من أبعاد لا يقادر قدرها ولا يعرف مداها إلا الله خالقها فلذا لا يدرك بعضها بعضاً لشدة الأبعاد بين مداريها.(4/379)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
شرح الكلمات:
وآية لهم: أي وعلامة لهم على قدرتنا على البعث.
أنا حلمنا ذريتهم: أي ذريات قوم نوح الذين أهلكناهم بالطوفان: نجينا ذريتهم لأنهم مؤمنون موحدون وأغرقنا آباءهم لأنهم مشركون.
في الفلك المشحون: أي في سفينة نوح المملوءة بالأزواج من كل صنف.
وخلقنا لهم من مثله: أي من مثل فلك نوح ما يركبون.
فلا صريخ لهم: أي مغيث ينجيهم فيكف صراخهم.
ومتاعاً إلى حين: أي وتمتيعاً لهم بالطعام والشراب إلى نهاية آجالهم.
اتقوا ما بين أيديكم: أي من عذاب الدنيا أي بالإيمان والاستقامة.
وما خلفكم: من عذاب الآخرة إذا أصررتم على الكفر والتكذيب.
وما تأتيهم من آية: أي وما تأتيهم من آية أو من حجة من حجج القرآن وبينّة من بيناته الدالة على توحيد الله وصدق الرسول إلا كانوا عنها معرضين غير ملتفتين إليها ولا مبالين بها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض الآيات الكونية للدلالة على البعث والتوحيد والنبوة فقال تعالى {وَآيَةٌ لَهُمْ} أي أخرى غير ما سبق {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (1) } أي حملنا ذرية قوم نوح
__________
1 - قرأ نافع ذرياتهم جمع ذرية وقرأ حفص بالإفراد ذريتهم اسم جمع فهو بمعنى ذرياتهم. لفظ الذرية وإن كان أساساً يطلق على الأولاد فإنه أطلق على الآباء والأجداد إذ الكل هم ذرية لآدم عليه السلام والمشحون الموقر بما حمل فيه من سائر المخلوقات.(4/380)
المؤمنين فأنجيناهم بإيمانهم وتوحيدهم وأغرقنا المشركين فهي آية واضحة عن رضا الله تعالى عن المؤمنين الموحدين وسخطه على الكافرين المشركين المكذبين إن في هذا الإنجاء للموحدين والإغراق للمشركين آية وعبرة لو كان مشركو قريش في مكة يفقهون. وقوله تعالى {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وهذه آية أخرى أيضاً وهي أن الله أنجى الموحدين في فلك لم يسبق له مثيل ثم خلق لهم مثله ما يركبون إلى يوم القيامة ولو شاء عدم ذلك لما كان لهم فلك إلى يوم القيامة وآية أخرى {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} وهي قدرته تعالى على إغراق ركاب السفن الكافرين وإن فعلنا لم يجدوا صارخاً (1) ولا معيناً يغيثهم وينجيهم من الغرق {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا (2) } الله إلا رحمتنا فإنها تنالهم فتنديهم ليتمتعوا في حياتهم بما كانوا يتمتعون به إلى حين حضور آجالهم المحدودة لهم. وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (3) } أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بآيات الله المعرضين عن دينه المشركين به اتقوا ما بين أيديكم من العذاب حيث موجبه قائم وهو كفركم وعنادكم، وما خلفكم من عذاب الآخرة إذ مقتضيه موجود وهو الشرك والتكذيب رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أعرضوا كأنهم لم يسمعوا. وقوله {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ} كلام ربهم القرآن الكريم تحمل الحجج والبراهين على صحة ما يدعون إليه من الإيمان والتوحيد إلا كانوا عنها معرضين تمام الإعراض كأن قلوبهم قُدت من حجر والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله على البشرية في إنجاء ذرية قوم نوح الكافرين ومنهم كان البشر وإلا لو أغرق الله الجميع المؤمنين الذرية والكافرين الآباء لم يبق في الأرض أحد.
2- حماية الله تعالى للعباد ورعايته لهم وإلا لهلكوا أجمعين ولكن أين شكرهم؟
3- بيان إصرار كفار قريش وعنادهم الأمر الذي لم يسبق له مثيل.
4- الإشارة بالمثلية في قوله {من مثله} إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية.
__________
1 - الصريخ هو الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب جاءهم الصريخ أي المنكوب المستنجد لينقذوه وهو فعيل بمعنى فاعل.
2 - الاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن لأن الرحمة ليست من جنس المستثنى منه وهو الصريخ.
3 - الجملة واقعة موقع التذيل وتحمل معنى التأكيد لما سبق من معنى وهو أنهم إذا دُعوا إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء أعرضوا ولم يستجيبوا.(4/381)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
شرح الكلمات:
وإذا قيل لهم أنفقوا: أي وإذا قال فقراء المؤمنين في مكة للأغنياء الكافرين أنفقوا علينا.
مما رزقكم الله: أي من المال.
أنطعم من لو يشاء الله أطعمه: أي قالوا للمؤمنين استهزاءً بهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه.
إن أنتم إلا في ضلال مبين: أي ما أنتم أيها الفقراء إلا في ضلال مبين في اعتقادكم الذي أنتم عليه.
متى هذا الوعد: أي البعث الآخر إن كنتم صادقين فيه.
ما ينظرون إلا صيحة واحدة: أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل.
تأخذهم وهم يخصمون: أي تأخذهم الصيحة وهم يتخاصمون في البيع والشراء والأكل(4/382)
والشرب إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
فلا يستطيعون توصية: أي فلا يقدر أحدهم أن يوصي وصيّة.
ولا إلى أهلهم يرجعون: بل يهلكون في أماكنهم من الأسواق والمزارع والمصانع أو المقاهي والملاهي.
فإذا هم من الأجداث: أي القبور إلى ربهم ينسلون أي يخرجون بسرعة.
قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا: أي قال الكفار: من بعثنا من قبورنا؟
هذا ما وعد الرحمن: أي هذا ما وعد به الرحمن وصدق المرسلون أي فيما أخبروا به.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ (1) } أي وإذا قيل لأولئك المشركين المكذبين الملاحدة والقائل هم المؤمنون فقد روي أن أبا بكر الصديق كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لا يطعمهم؟ قال ابتلى قوماً بالفقر وقوماً بالغنى وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء، فقال أبو جهل، والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال مبين. أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء، وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت هذه الآية وبهذه الرواية اتضح معنى الآية الكريمة {وإذا قيل لهم} أي للكفار {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} على المساكين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآمرين لهم بالإنفاق {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} قالوا هذا استهزاءً وكفراً {إِنْ أَنْتُمْ} أي ما أنتم أيها المسلمون {إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إلا في ذهاب عن الحق وجور عن الرشد مبين لمن تأمله وتدبّر فيه.
وقوله {وَيَقُولُونَ مَتَى (2) هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول أولئك الملاحدة المكذبون بالبعث استهزاء واستعجالاً: متى هذا الوعد الذي تعدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين في دعواكم.
__________
1 - اختلف في من هذه قولته؟ وما في التفسير وأنها قولة أبي جهل لأبي بكر أرجحها وأقربها إلى واقع الحال وألصق بالسياق ولا مانع أن يقولها الزنادقة والملاحدة والمستهزئون في كل زمان ومكان.
2 - الاستفهام للاستبعاد وهو مشوب بالسخرية والاستخفاف لأنه ناجم عن قلوب مظلمة من جراء الكفر والإلحاد قال الشاعر:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة
لنفس إلا قد قضيت قضاءها.
والشاهد في الاستخفاف.(4/383)
قال تعالى {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة إسرافيل في الصور وهي نفخة الفناء {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (1) } أي يختصمون في أسواقهم يبيعون ويشترون، وفي مجالسهم العامة والخاصة إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون قال تعالى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} يوصي بها أحدهم لابنه أو أخيه، ولا إلى أهلهم أي منازلهم وأزواجهم وأولادهم يرجعون بل يصعقون في أماكنهم. وقوله تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} أي صور إسرفيل وهو قرن ويقال له البوق أيضاً نفخة البعث من القبور أحياء فإذا هم من الأجداث جمع جدث وهو القبر ينسلون (2) أي ماشين مسرعين إلى ربهم لفصل القضاء والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في هذه الحياة الدنيا من إيمان وكفر وإحسان وإساءة وعدل وظلم. قالوا يا ويلنا أي نادوا ويلهم وهلاكهم لما شاهدوا من أهوال الموقف {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا (3) } وأجابهم المؤمنون بقولهم {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} إذ وعدنا الله بلقائه وأخبرنا الرسل به وبتفاصيله وقوله تعالى {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي ما هي إلا صحية واحدة لإسرافيل فإذا الكل واقف بين يدي الله تعالى ليحاسب ويجزي قال تعالى {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي في هذا اليوم الذي وقفت الخليقة فيه بين يدي ربها لا تظلم نفس شيئا لا بنقص حسنة من حسناتها ولا بزيادة سيئة على سيئاتها. ولا تجزون أيها العباد إلا ما كنتم تعملون من خير وشر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان علو الكافرين وطغيانهم وسخريتهم واستهزائهم، وذلك لظلمة الكفر على قلوبهم.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مبادئها ونهاياتها.
3- الساعة لا تأتي إلا بغتة.
4- الانقلاب الكوني الذي يحدث لعظمه اختلفت آراء أهل العلم في تحديد النفخات فيه
__________
1 - يخصمون بمعنى يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في أماكنهم وقد أدغمت التاء في الصاد فنتج عن ذلك قراءات أشهرها قراءة نافع يخصّمون بفتح الخاء وكسر الصاد مشددة وقرأ حفص يخصّمون بكسر الخاء والصاد المشددة وقرأ قالون يخصمون بسكون الخاء مع الاختلاس.
2 - قال ابن عباس وقتادة ينسلون يخرجون ومنه قول امرؤ القيس "فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي" ومنه قيل للولد نسل لأنه يخرج من بطن أمه وقيل يسرعون، والنسلان والقسلان الإسراع في السير ومنه مشية الذئب قال:
عسلان الذئب أمسى قارباً
برد الليل عليه فنسل
3 - جائز أن يكون هذا ما وعد الرحمن الخ من كلامهم لما يجدون أنفسهم واقفين أحياء قد خرجوا من قبورهم صرّحوا بالحقيقة التي كانوا يكذبون بها فاعترفوا قائلين: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، وجائز أن يقال لهم كما في التفسير، فإن قلنا بالقول الأول لا يصح الوقف على من مرقدنا، وإن قلنا بالقول المثبت في التفسير صح الوقف ويصبح هذا ما وعد الرحمن كلاماً مستأنفاً.(4/384)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
والظاهر أنها أربع الأولى نفخة الفناء والثانية نفخة البعث والثالثة نفخة الفزع (1) والصعق والرابعة نفخة القيام بين يدي رب العالمين.
5- تقرير العدل الإلهي يوم الحساب والجزاء ليطمئن كل عامل على أنه يجزى بعمله لا غير.
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
شرح الكلمات:
في شغل فاكهون: أي أهل الجنة في شغل عما فيه أهل النار من عذاب وشقاء. وشغلهم الشاغل لهم هو النعيم المقيم في دار السلام.
فاكهون: أي ناعمون بالتلذذ بالنعم وذلك لطيب العيش.
على الأرائك: أي الأسِرة ذات الحجلة.
ولهم ما يدعون: أي ما يتمنون ويطلبون.
سلام قولاً من رب رحيم: أي سلام بالقول من رب رحيم أي يسلم عليهم ربهم سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
ما إن حضروا بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء حتى أعلن عما يلي: إن أصحاب الجنة اليوم (2) في شغل فاكهون (3) اي إنهم في شغل عما فيه أصحاب النار إنهم في شغل بالنعيم المقيم فاكهون أي ناعمون ناعمون بالتلذذ بألوان المطاعم والمشارب والحور العين إنهم وأزواجهم في ظلال الجنة على الأرائك (4) أي الأسرة ذات الحجلة متكئون. لهم فيها أي في دار السلام فاكهة
__________
1 - هذه النفخة مختلف فيها ودليلها حديث البخاري إذ فيه يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فأكون أول من يفيق فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ولا أدري أرفع رأسه قبل أو كان ممن استثنى الله تعالى".
2- قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى وقيل شغلهم زيارة بعضهم بعضاً، والشغل بضم الشين وسكون الغين ويجوز ضم الغين مع الشين.
3- فاكهون بالألف وفكهون بدونه كفرحين لغتان وفسر بفرحين ومعجبين وبمسرورين والكل صحيح إذ هو من جملة النعيم الذي هم فيه.
4 - الأرائك جمع أريكة كسفينة وسفائن قال الشاعر:
كأن احمرار الورد فوق غصونه
بوقت الضحى في روضه المتضاحك
خدود عذارى قد خجلن من الحياء
تهادين بالريحان فوق الأرائك(4/385)
من كل زوج ولون ونوع ولهم ما يدعون أي ما يتمنون ويطلبون، وأعظم من ذاك سلام الربّ تعالى عليهم (1) سلام قولاً من رب رحيم أي سلام من الله بالقول لا بغيره من أنواع السلامة والسلام. فقد روى البغوي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ يسطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله تعالى {سلام قولا من رب رحيم} فينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير المعاد.
2- بيان نعيم الجنة.
3- سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ
__________
1 - استئناف قطع من أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه وسلام مرفوع بالابتداء وهو نكرة وتنكيره للتعظيم ولذا صح الابتداء به وحذف الخبر لدلالة المصدر وهو قولاً عليه، والتقدير سلام يقال لهم قولاً من الله تعالى، ومن ابتدائية، وتنوين رب للتعظيم.(4/386)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
شرح الكلمات:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون: أي انفردوا عن المؤمنين وانحازوا على جهة وسيروا أيها الصالحون إلى الجنة.
ألم أعهد إليكم: أي ألم أوصكم بترك عبادة الشيطان وهي طاعته.
وأن اعبدوني: أي وبأن تعبدوني وحدي وذلك في كتبي وعلى ألسنة رسلي.
هذا صراط مستقيم: أي بترك عبادة الشيطان والقيام بطاعة الرحمن. هو الإسلام الموصل إلى دار السلام.
ولقد أضل منكم جبلا كثيراً: أي ولقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقاً كثيراً.
أفلم تكونوا تعقلون: أي أطعتموه فلم تكونوا تعقلون عداوته لكم.
هذه جهنم التي كنتم توعدون: أي تقول الملائكة هذه جهنم ... الخ.
اليوم نختم على أفواههم (1) : أي عندما يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم: أي ولو أردنا طمس أعين هؤلاء المشركين المجرمين لفعلنا، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة منا.
فاستبقوا الصراط: أي فابتدروا الطريق كعادتهم فكيف يبصرون.
ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم: أي بدلنا خلقهم حجارة أو قردة أو خنازير في أمكنتهم التي هم فيها فلا يستطيعون مضياً ولا يرجعون.
ومن نعمره ننكسه في الخلق: أي ومن نطل عمره ننكسه في الخلق فيكون بعد قوته ضعيفاً عاجزاً.
أفلا يعقلون: أي أن القادر على ما ذكرنا لكم قادر على بعثكم بعد موتكم. فتؤمنون وتوحدون فتنجون من العذاب وتسعدون.
__________
1 - روى مسلم عن أنس بن مالك قال: "كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتدرون مما أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى فيقول لا أجير عليّ إلا شاهداً من نفسي فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً والكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي بعمله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل.(4/387)
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَامْتَازُوا (1) الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي يأمر تعالى المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك وارتكاب المعاصي فأسدوها يأمرهم بأن يتميّزوا عن المؤمنين فينفردوا وحدهم ويسار بأهل الجنة إلى الجنة، ثم يوبخ تعالى المجرمين أهل النار بقوله {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} (2) موصياً إياكم على ألسنة رسلي وفي كتبي بأن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وبأن تعبدوني وحدي، ولا تعبدوا الشيطان معي فتشركوه في عبادتي هذا صراط مستقيم أي ترك عبادة الشيطان والقيام بعبادة الرحمن هذا هو الإسلام الصراط المستقيم الذي لا ينتهي بالسالكين إلا إلى باب دار السلام. وقوله {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً} أي خلقاً كثيراً هذا من كلام الله الموبخ به للمجرمين. وقوله {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (3) } وهذا تقريع وتوبيخ أيضاً أي أطعتموه وهو عدوكم وعصيتموني وأنا ربكم فلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم، وواجب عبادتي عليكم لأني خلقتكم ورزقتكم وكلأتكم الليل والنهار إذاً فهذه جهنم (4) التي كنتم بها تكذبون اصلوها أي احترقوا بها بما كنتم تكفرون بالله وآياته ولقائه وتكذبون رسله. وقوله تعالى {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا يحدث لما يعرضون على ربهم فيعرض عليهم أعمالهم فينكرون فعندئذ يختم الله على أفواههم فلا يستطيعون الكلام وتنطق باقي جوارحهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون قوله تعالى {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} فأعميناهم {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} أي ابتدروا الطريق كعادتهم فأنى يبصرون الطريق وقد طمس على أعينهم فلا مقلة فيها ولا حاجب، ولكن الله لم يشأ ذلك لرحمته وحلمه على عباده، وقوله {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ (5) } أي ولو نشاء مسخ هؤلاء المجرمين من المشركين لمسخناهم في أماكنهم من منازلهم فلا يستطيعون مضياً في الطريق ولا رجوع إلى خلف أي لا ذهاباً ولا إياباً، وقوله تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ (6) فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} فنرده رأساً على عقب
__________
1 - يقال مازه فانماز وامتاز، وميره فتميّز وامتاز أمر من امتاز ويمتاز إذا انفرد عما كان مختلطاً به، والمراد بذلك سوقهم إلى النار بعد أن دخل المؤمنون الجنة.
2 - الاستفهام للتقرير والتوبيخ على إهمالهم وصيته تعالى إليهم بأن لا يعبدوا الشيطان.
3 - قوله تعالى أفلم تكونوا تعقلون الاستفهام للتقريع والتأنيب.
4 - قوله تعالى {هذه جهنم التي كنتم توعدون} أي على ألسنة رسلي فكذبتم بها وواصلتم شرككم وكفركم. {اصلوها اليوم} أي احترقوا بها {بما كنتم تكفرون} أي بسبب كفركم الذي دسَّى نفوسكم وخبثها فحرمتم بذلك دار السلام.
5 - المكانة تأنيث المكان على تأويله بالبقعة.
6 - قرأ الجمهور ننكسه بفتح النون الأولى وسكون الثانية مضارع نكس رأسه وقرأها عاصم نُنكسه بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة.(4/388)
فكما كان طفلاً ينموا شيئا فشيئاً في قواه العقلية والبدنية حتى شبّ واكتهل فكذلك ننكسه في خلقه فيأخذ يضعف (1) في قواه العقلية والبدنية يوماً فيوماً حتى يصبح أضعف عقلاً وبدناً منه وهو طفل. وقوله أفلا تعقلون أيها المكذبون المجرمون أن القادر على هذا وغيره وعلى كل شيء يريده قادر على أن يحييكم بعد موتكم ويبعثكم من قبوركم ويحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير المعاد وبيان مواقف منه.
2- تأكيد عداوة الشيطان للإنسان.
3- عجز الإنسان يوم القيامة عن كتمان شيء من سيء أعماله وفاسدها.
4- التحذير من عقوبة الله في الدنيا بالمسخ ونحوه.
5- مظاهر قدرة الله تعالى في رد الإنسان بعد القوة إلى حالة الضعف الأولى.
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
__________
1 - قال سفيان إذا بلغ المرء ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته قال الشاعر:
من عاش أخلقت الأيام جدته
وخانه ثقتاه السمع والبصر.(4/389)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
شرح الكلمات:
وما علمناه الشعر: أي وما علمنا رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشعر فما هو بشاعر.
وما ينبغي له: أي وما يصلح له ولا يصح منه.
إن هو إلا ذكر وقرآن مبين: أي ليس كما يقول المشركون من أن القرآن شعر ما هو أي القرآن الذي يقرأه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ذكر أي عظة وقرآن مبين لا يشك من يسمعه أنه ليس بشعر لما يظهر من الحقائق العلمية.
لينذر من كان حياً: أي يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون.
ويحق القول على الكافرين: أي ويحق القول بالعذاب على الكافرين لأنهم ميتون لا يقبلون النذارة.
أنعاماً فهم له مالكون: الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.
وذللناها لهم: أي سخرناها لهم وجعلناهم قاهرين لها يتصرفون فيها.
فمنها ركوبهم ومنها يأكلون: أي من بعضها يركبون وهي الإبل ومنها يأكلون أي ومن جميعها يأكلون.
ولهم فيها منافع ومشارب: المنافع كالصوف والوبر والشعر، والمشارب الألبان.
أفلا يشكرون: أي يوبخهم على عدم شكرهم الله تعالى على هذه النعم بالإيمان والطاعة.
واتخذوا من دون الله آلهة: أي أصناماً يعبدونها زعماً منهم أنها تنصرهم بشفاعتها لهم عند الله.
لا يستطيعون نصرهم: أي لا تقدر تلك الأصنام على نصرهم بدفع العذاب عنهم.
وهم لهم جند محضرون: أي لا يقدرون على نصرتهم والحال أنهم أي المشركين جندٌ محضرون لتلك الآلهة ينصرونها من أن يمسها أحد بسوء فبدل أن تنصرهم هم ينصرونها كجند معبئون لنصرتها.
فلا يحزنك قولهم: أي إنك لست مرسلاً إنك شاعرٌ وكاهن ومفترٍ.
إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون: أي إنهم ما يقولون ذلك إلا حسداً وهم يعلمون أنك رسول الله وما جئت به هو الحق وسوف نجزيهم بتكذيبهم لك وكفرهم بنا وبلقائنا وديننا الحق.(4/390)
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ (1) } رد على المشركين الذين قالوا في القرآن شعر وفي الرسول الله شاعر فقال تعالى {وما علمناه} أي نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الشِّعْرَ (2) وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي لا يصح منه ولا يصلح له. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} أي ما هو الذي يتلوه إلا ذكر يذكر به الله وعظة يتعظ به المؤمنون {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} مبين للحق مظهر لمعالم الهدى أنزلناه على عبدنا ورسولنا لينذر به من كان حياً أي القلب والضمير لإيمانه وتقواه لله ويحق أي به القول وهو العذاب على الكافرين لأنهم لا يهتدون به فيعيشون على الضلال ويموتون عليه فيجب لهم العذاب في الدار الآخرة. وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي أعمي أولئك المشركون ولم يروا مظاهر قدرتنا وإحساننا الموجبة لعبادتنا وهي {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ (3) أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، والمراد بالأنعام الماشية من إبل وبقر وغنم وقوله {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} أي سخرناها لهم بحيث يركبون ويحلبون ويحملون وينحرون ويذبحون ويأكلون، ولولا هذا التسخير لما قدروا عليها أبداً. وقوله {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} المنافع كالصوف والوبر والشعر والمشارب جمع مشرب وهي الألبان في ضروعها يحلبون منها ويشربون. وقوله {أَفَلا يَشْكُرُونَ} يوبخهم على أكل النعم وعدم الشكر عليها، وشكر الله عليها هو الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً} أي اتخذ أولئك المشركون آلهة هي أصنامهم التي يعبدونها لعلهم ينصرون أي رجاء نصرتها لهم وذلك بشفاعتها لهم عند الله تعالى كما يزعمون. قال تعالى في إبطال هذا الرجاء وقطعه عليهم {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر وقوله {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي والحال أن المشركين هم جند تلك الأصنام محضرون عندها يدافعون عنها ويحمونها ويغضبون لها فكيف ينصرك من هو مفتقر إلى نصرتك. وقوله تعالى {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ (4) } أي لا تحزن لما يقول قومك من أنك لست مرسلاً، وأنك شاعر
__________
1 - إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصالته في الأدب الرفيع وكيف وهو قرشي مضري لا يحسن إنشاد بيت من الشعر حتى إنه أنشد يوماً بيت طرفة فقال:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك من لم تزوده بالأخبار.
فقال أبو بكر والله إنك لرسول الله إذ عجز البيت هكذا: ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
2 - وما علمناه الشعر أي وما أوحينا إليه شعراً وما علمناه إياه.
3 - مما عملت (ما) موصولة بمعنى الذي وحذف العائد وهو الضمير لطول الاسم أي عملته. وإن قلنا "ما" مصدرية فلا حاجة إلى مراعاة العائد ولا تقديره.
4 - قرئ يحزنك بضم الياء من أحزنه يحزنه وقرئ يحزنك بفتح الياء وضم الزاي، والنهي عن الحزن نهي عن أسبابه الموجبة له، إذ الحزن لا يملك الإنسان دفعه ولكن يستطيع تجنب مثيراته والمراد من هذا النهي تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يواجهه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر وما إلى ذلك.(4/391)
وساحر وكاهن إلى غير ذلك من أقاويلهم، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (1) } وسنجزيهم عن قولهم الباطل ونأخذهم بكذبهم وافترائهم عليك كما نحن نعلم أنهم ما قالوا الذي قالوا إلا حسداً لك، وإلا فهم يعلمون أنك رسول الله وما أنت بالساحر ولا الشاعر ولا المجنون، ولكن حملهم على ما يقولون الحسد والعناد والكبر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن ذكر وليس شعر كما يقول المبطلون.
2- الحكمة من نزول القرآن هي أن ينذر به الرسول الأحياء من أهل الإيمان.
3- بيان خطأ الذين يقرأون القرآن على الأموات ويتركون الأحياء لا يقرأونه عليهم وعظاً لهم وإرشاداً وتعليماً
وتذكيراً.
4- وجوب ذكر النعم وشكرها بالاعتراف بها، وصرفها في مرضاة واهبها وحمده عليها.
5- بيان سخف المشركين في عبادتهم أصناماً يرجون نصرتها وهم جند معبأ لنصرتها من أن يمسها أحد بسوء.
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
__________
1 - جملة إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون جملة تذييلية المراد منها أمران تطمين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كفاية الله تعالى له وأن كيدهم لا يضره وتهديد المشركين بإعلامهم أن الله مطلع على ما يمكرون وسيجزيهم به.(4/392)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
شرح الكلمات:
أولم ير الإنسان: أي المنكر للبعث كالعاص بن وائل السهمي، وأبيّ بن خلف.
أنا خلقناه من نطفة: أي من منيّ إلى أن صيرناه رجلاً قوياً.
فإذا هو خصيم مبين: أي شديد الخصومة بيّنها في نفي البعث.
وضرب لنا مثلاً: أي في ذلك، إذ أخذ عظماً وفته أمام رسول الله وقال أيحيى ربك هذا؟
ونسي خلقه: أي وأنه مخلوق من ماء مهين وأصبح رجلاً يخاصم فالقادر على الخلق الأول قادر على الثاني.
من يحيى العظام وهو رميم: أي وقد رمّت وبليت.
من الشجر الأخضر ناراً: أي من شجر المرخ والعفار يحك أحدهما على الآخر فتشتعل النار.
بقادر على أن يخلق مثلهم: أي مثل الأناسي.
بلى: أي قادر على ذلك إذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.
إذا أراد شيئاً: أي خلق شيء وإيجاده.
بيده ملكوت: أي ملك كل شيء، زيدت التاء للمبالغة في كبر الملك واتساعه.
وإليه ترجعون: أي تردون بعد الموت وذلك في الآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء تلك العقيدة التي يتوقف عليها غالباً هداية الإنسان وإصلاحه فقال تعالى ردّاً على العاص بن وائل السهمي وأبي بن خلف حيث جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يده عظم ففته وذراه وقال أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله(4/393)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم يميتك ثم يحييك ثم يحشرك إلى جهنم ونزلت هذه الآيات {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ (1) } أي أينكر البعث وهو يعلم أنا خلقناه من نطفة أي من ماء مهين وسويناه رجلاً فإذا هو خصيم لنا أي مخاصم يرد علينا ويشرك بنا وينكر إحياءنا للأموات وبعثهم يوم القيامة فكيف يعمى هذا العمى ويجهل هذا الجهل القبيح، إذ القادر على البدء قادر عقلاً على الإعادة وهي أهون عليه. وقوله {وَضَرَبَ لَنَا} أي هذا المنكر للبعث مثلاً أي جعل لنا مثلا وهو إنكاره علينا قدرتنا على البعث حيث جعل إعادتنا للخلق أمراً عجباً وغريباً إذ قال {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (2) } أي قد رمّت وبليت. ونسي خلقه من ماء حقير كيف جعله الله بشراً سوياً يجادل ويخاصم فلو ذكر أصل نشأته لخجل أن ينكر إحياء العظام وهي بالية رميم؟ ولما قال من يحيي العظام وهي رميم؟. وقوله تعالى {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا هو القياس العقلي الجلي الواضح إذ بالبداهة أن من أوجد شيئاً من العدم قادر على إيجاد مثله. وقوله {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي مخلوق عليم فالعلم والقدرة إذا اجتمعا كان من السهل إيجاد ما أُعدم بعد أن كان موجوداً فأعدم لا سيما أن الموجد من العدم هو المخبر بالإعادة وبقدرته عليها.
هذا برهان قطعي وثاني برهان في قوله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ (3) مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي النار تشعلونها، ووجه الاستدلال أن البعث لو كان مستحيلاً عقلاً وما هو بمستحيل بل هو واجب الوقوع لكان على الله غير مستحيل لأن الله تعالى قد أوجد من المستحيل ممكناً وهو النار من الماء، إذ الشجر الأخضر (4) ماء سار في أغصان الشجرة. ومع هذا يوجد منها النار، فكان هذا برهاناً عقلياً يسلم به العقلاء ولا ينازعون فيه أبداً، وبرهان ثالث وهو في قوله {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ؛؟ ووجه البرهنة فيه أننا ننظر إلى السموات السبع وما فيها من خلق عجيب وإلى الأرض وما فيها كذلك وننظر إلى الإنسان فنجده
__________
1- روي أيضاً أن العاص بن وائل أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظم حائل فقال يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم ويبعثك الله ويدخلك النار فنزلت هذا الآية.
2 - يقال رمّ العظم يرم فهو رميم ورمام وقال رميم ولم يقل رميمة لأنها معدولة عن فاعله نحو بغياً لم يقل بغيةً لأنه معدول عن باغية.
3 - هذا الكلام مستأنف ابتدائياً الغرض إقامة الحجة العقلية على صحة البعث وإمكانه وهو ما أنكره المشركون واستبعدوه فذكر لهم أن الذي يخرج من الماء الرطب البارد النار وهما لا يجتمعان، قادر على إخراج الضد من الضد وهو على كل شيء قدير.
4 - قال القرطبي يعني بالآية مع في المرخ والعفار وهي زنادة العرب التي يشعلون بها النار، ومن ذلك قولهم في كل شجر نار واستمجد الرمخ والعفار.(4/394)
لا شيء إذا قوبل بالسموات والأرض فنحكم بأن من خلق السموات والأرض على عظمها قادر من باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى بعد موته وبلاه وفنائه. ولذا أجاب تعالى عن سؤاله بنفسه فقال {بَلَى (1) وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} أي الخلاق لكل ما أراد خلقه العليم بكل مخلوقاته لا يخفى عليه شيء منها، وبرهان رابع في قوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ووجه الاستدلال أن من كان شأنه في إيجاد ما أراد إيجاده أن يقول له كن فهو يكون لا يستنكر عليه عقلاً أن يحيي الأموات بكلمة كونوا أحياء فيكونون كما طلب منهم.
وأخيراً ختم هذا الرد المقنع بتنزيه نفسه عن العجز فقال {فَسُبْحَانَ (2) الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) أي ملك كل شيء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أحببتم أم كرهتم أيها الآدميون منكرين كنتم للبعث أم مقرين به مؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بإيراد أربعة براهين قاطعة.
2- مشروعية استعمال العقليات في الحجج والمجادلة.
3- تنزيه الله تعالى عن العجز والنقص وعن الشريك والولد وسائر النقائص.
4- تقرير أن الله تعالى بيده وفي تصرفه وتحت قهره كل الملكوت فلذا لا يصح طلب شيء من غيره إذ هو المالك الحق وغيره لا ملك له.
__________
1 - بلى لنقص النفي أي بل هو قادر على أن يخلق مثلهم كقوله أليس الله بأحكم الحاكمين؟ فالجواب بلى أي هو أحكم الحاكمين إبطال لما نفته ليس إذ هي حرف نفي.
2 - فسبحان: نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشرك والعجز. والملكوت، والملكوتى: بمعنى نحو جبروتي وجبروتى ورحموتي من الجبروت والرحموت والعرب تقول جبروتى خير من رحموتى.
3 - الملكوت مبالغة في الملك بكسر الميم من ذلك قولهم رهبوت خير من رحموت أي ليرهبك الناس خير من يرحموك لأن مع الرهبة العزة ومع الرحمة الضعف والعجز.(4/395)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
سورة الصافات
مكية
وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
شرح الكلمات:
الصافات صفاً: أي الملائكة تصف أنفسها في الصلاة وأجنحتها في الهواء.
فالزاجرات زجراً: أي الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه حيث يأذن الله.
فالتاليات ذكراً: أي فالجماعات التاليات (1) للقرآن ذكرا.
إن إلهكم لواحد: أي إن إلهكم المعبود الحق لكم أيها الناس لواحد.
رب السموات والأرض وما بينهما: أي هو رب السموات والأرض وما بينهما أي خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما.
ورب المشارق: أي والمغارب وهي مشارق الشمس ومغاربها إذ للشمس كل يوم مشرق ومغرب.
__________
1 - جائز أن تكون الجماعات التالية لكلام الله تعالى من الملائكة ومن البشر روى مسلم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعل لنا ترابها طهوراً إذا لم نجد الماء".(4/396)
وحفظاً من كل شيطان مارد: أي وحفظناها حفظاً من كل شيطان مارد خارج عن الطاعة.
لا يسمعون إلى الملأ الأعلى: أي لا يستمعون إلى الملائكة في السموات العلا.
ويقذفون من كل جانب دحوراً: أي يرمون بالشهب من كل جوانب السماء دحوراً أي إبعاداً لهم.
عذاب واصب: أي دائم لا يفارقهم.
إلا من خطف الخطفة: أي اختطف الكلمة من الملائكة بسرعة وهرب.
فأتبعه شهاب ثاقب: أي كوكب مضيء ثاقب يثقبه أو يحرقه أو يخلبه أي يفسده.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَالصَّافَّاتِ (1) صَفّاً} هذا قسم إلهي يؤكد به تعالى إلهيته على عباده فقد أقسم بالصافات والزاجرات والتاليات ذكراً أي قرآناً، وسواء قلنا أقسم بهذه المخلوقات إذ لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وإنما الممنوع أن يقسم العبد بغير ربه تعالى. أو قلنا أقسم تعالى بنفسه أي ورب الصافات الخ فالقسم حاصل من أجل تقرير التوحيد، وهذا الإقسام جار على عرف البشر في أنهم إذا أخبروا بشيء يشكون في صحته فيؤكد لهم المخبر الخبر باليمين ليزيل الشك من نفوسهم. وقوله {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} (2) هو المقسم عليه وهو أن إله البشرية كلها واحد وهو الله خالقها ورازقها وليس من إله غيره، وما عندها من آلهة فهي آلهة باطلة ويكفي في بطلانها أنها أصنام وصور وتماثيل وصلبان لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر. وقوله {رَبُّ السَّمَاوَاتِ (3) وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} تدليل على وحدانية الله تعالى إذ هو خالق السموات والأرض وما بينهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما، ورب المشارق أيضاً والمغارب أي مشارق الشمس ومغاربها إذ كل يوم تشرق وتغرب في درجة معينة فالإله الحق هو الخالق للعوالم والمدبر لها لا الذي ينحته الرجل بيده ويقول هو إلهي زوراً وباطلاً. ألا فليتحرر المشركون من أسر الشيطان ويعبدوا الرحمن. وقوله تعالى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ (4) الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (5) } هذه مظاهر القدرة والعلم
__________
1 - روى مسلم وغيره عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف.
2 - هذا جواب القسم وهو المقسم عليه والصافات الملائكة تصف أجنحتها في السماء أو تصف للصلاة كما يصف المؤمنون للصلاة في الدنيا، وجائز أن يراد بالصافات صفوف المؤمنين في الصلاة وفي الجهاد.
3 - رب السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رب السموات الخ.
4 - هذه الجملة بمثابة الدليل على ربوبية الله تعالى الموجبة للإلهية له سبحانه وتعالى دون سواه.
5 - قرأ الجمهور بزينة الكواكب بإضافة زينة إلى الكواكب وقرأ حفص بتنوين زينة وجر الكواكب على البدلية ومنهم من نصب الكواكب على الاختصاص والكواكب جمع كوكب وهي تلك الأجرام الكريّة السماوية ومنها الثوابت ومنها السيارة وهي كل ما يرى في السماء ما عد الشمس والقمر وتسمى النجوم وهي تختلف في أحجامها.(4/397)
والحكمة إنه وحده تعالى زين السماء الدنيا أي القريبة من الأرض بزينة هي الكواكب المشرقة المنيرة. وقوله {وَحِفْظاً (1) مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} أي وحفظنا السماء حفظاً تاماً من كل شيطان عادٍ متمرد عن الطاعة. وقوله {لا يَسَّمَّعُونَ (2) إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} أي لا يستمعون إلى الملائكة في السماء حتى لا ينقلوا أخبار الغيب إلى أوليائهم من الكهان في الأرض. وقوله {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أي ويرمى أولئك المردة من الشياطين من قبل الملائكة من كل جهة من جهات السماء دحوراً أي لدَحرهم وإبعادهم. وقوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (3) } لأولئك المردة من الشياطين عذاب واصب موجع دائم وقوله {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي اختطف الكلمة بسرعة {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ (4) ثَاقِبٌ} أي كوكب مضيء فثقبه فقتله أو أحرقه أو خبله أي أفسده، وبهذا حُمِيت السماء بالملائكة من دخول الشياطين إليها واستراق السمع. والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته إما تنويهاً بعظمتها المقرر ضمناً لعظمة خالقها وإما بياناً لفضلها وإما لفتا لنظر العباد إلى ما فيها من الفوائد.
2- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله.
3- بيان الحكمة من وجود النجوم في السماء الدنيا.
4- بيان أن الشياطين حرموا من استراق السمع، ولم يبق مجال لكذب الشياطين على الناس بعد أن منعوا من استراق السمع (5) .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ
__________
1 - قال أهل العلم النجوم لثلاثة للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكزينة للسماء بما فيها من أنوار وللحفظ من الشياطين أن يسترق السمع من الملائكة فمن طلبها لغيرها فقد أساء واعتدى.
2 - قرأ الجمهور لا يسمعون بسكون السين وتخفيف الميم وقرأ حفص عن عاصم لا يسمعون بتشديد السين والميم مفتوحتين الأصل لا يتسمعون من التسمع فقلبت التاء سيناً وأدغمت في السين.
3 - الواصب: الدائم يقال وصب يصب وصوبا إذا دام وهو عذاب الآخرة.
4 - يقال له في علم الهيئة النيزك وعن ابن عباس الشهاب لا يقتل ولكن يخترق ويخبل.
5 - صح في الحديث أن من الجائز أن ينجوا مسترق السمع من شهب الملائكة، ويلقي بالكلمة التي استرقها إلى الكاهن أو الساحر بعدما يضيف إليها تسعا وتسعين كلمة.(4/398)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
شرح الكلمات:
فاستفتهم: أي استخبر كفار مكة تقريراً وتوبيخاً.
أهم أشد خلقاً أم من خلقنا: أي خلقهم في ذواتهم وإعادتهم بعد موتهم، أم من خلق تعالى من الملائكة والسموات والأرض وما فيها من سائر المخلوقات.
من طين لازب: أي يلصق باليد.
بل عجبت ويسخرون: أي عجبت يا نبي الله من إنكارهم للبعث، وهم يسخرون من دعوتك إلى الإيمان به.
وإذا ذكّروا لا يذكرون: أي وإذا وعظوا لا يتعظون.
وإذا رأوا آية يستسخرون: أي إذا رأوا حجة من الحجج التي تحمل الآيات القرآنية تقرر البعث والتوحيد والنبوة يسخرون أي يستهزئون.
قل نعم وأنتم داخرون: أي قل لهم يا رسولنا نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء.
فإنما هي زجرة واحدة: أي صيحة تزجرهم وهي نفخة إسرافيل في الصور النفخة الثانية.
هذا يوم الدين: أي يوم الحساب والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء وقوله تعالى فاستفتهم (1) أي استخبرهم واطلب جوابهم أي بقولك آنتم أشد خلقاً أي في ذواتكم وفي إحيائكم بعد مماتكم أم من خلقه الله من الملائكة والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما؟ والجواب معلوم وهو أن خلق غيرهم
__________
1 - مأخوذ من استفتاء المفتي والفتيا هي إخبار عن أمر يخفى عن غير الخواص في غرض ما والاستفهام هنا تقريري.(4/399)
من العوالم أشد خلقا إذا فكيف ينكرون البعث بدعوى استحالة وجوده لصعوبته قال تعالى {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} أي خلقنا أباهم آدم من طين لازب أي لاصق يلصق باليد ثم خلقناهم بطريق التناسل أفيعجزنا إعادة خلقهم مرة أخرى والجواب لا. لا وقوله تعالى {بَلْ (1) عَجِبْتَ} أي من تكذيبهم بالبعث لوضوح الأدلة على إمكانه ووجوب وجوده {وَيَسْخَرُونَ} أي وهم يسخرون من ذلك أي يستهزئون من قولك بالبعث وإمكانه. وقوله تعالى {وَإِذَا ذُكِّرُوا} أي بالآيات لعلهم يذكرون فيؤمنون ويوحدون لا يذكرون لقساوة قلوبهم وظلمة ذنوبهم بالشرك والمعاصي. وقوله {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (2) } أي يسخرون ويستهزئون {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القول والعمل إلا سحر مبين أي بيّن ظاهر وهم في ذلك كاذبون قطعاً للفرق بين السحر الذي هو تخيل باطل وبين الحق الثابت عقلاً ووحيا من دقائق الشرع وأصول الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر وقوله {أَإِذَا مِتْنَا (3) وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} هذا قول المكذبين من المشركين يقولونه متعجبين مستبعدين للبعث قال تعالى ردّا عليهم قل يا رسولنا لهم {نَعَمْ} تبعثون أحياء {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أي صاغرون ذليلون وأمر إعادتكم لا يتطلب أكثر من أن ينفخ إسرافيل في الصور فإذا أنتم أحياء تخرجون من قبوركم {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ} أي صحية {وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ} قيام {يَنْظُرُونَ} ويقولوا أي عند قيامهم من قبورهم {يَا وَيْلَنَا} أي هلاكنا احضر هذا أوان حضورك أي يدعون على أنفسهم بالهلاك لشدة ما شاهدوا من هول القيامة كقول أحدهم يا ليتها كانت القاضية. وقولهم هذا يوم الدين اعتراف منهم بالبعث والجزاء ولكن في وقت ما هو بنافع لهم الاعتراف فيه أي هذا يوم الحساب والجزاء فيقال لهم {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ (4) } الذي يفصل الله تعالى فيه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون فيحكم بينهم بالعدل، وقوله تعالى {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فيه توبيخ لهم أي هذا يوم البعث الذي كنتم تكذبون به وتقولون مستبعدين له أئذا متنا وكنا تراباً وعظاما أئنا لمبعثون أو أباؤنا الأولون أي وآباؤنا الأولون أيضاً.
__________
1 - بل للإضراب الانتقالي من التقرير التوبخي إلى حالهم العجب قرأ الجمهور عجبت بفتح التاء والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرأ ابن مسعود بضم التاء ونسبة العجب إلى الله تعالى ليست كنسبته إلى خلقه كسائر صفاته تعالى.
2 - سخريتهم هذه من محاجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أتاهم بالآيات القرآنية الحاملة للأدلة العقلية وهم لجهلهم وعجزهم يدفعونها بالاستسخار والإنكار وهذا غاية الجهل والضلال.
3 - الاستفهام إنكاري وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال.
4 - جائز أن يكون {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} من قول الله تعالى والملائكة لهم وجائز أن يكون من قول بعضهم لبعض.(4/400)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين اللازب أي اللاصق باليد.
2- بيان موقفين متضادين الرسول يعجب من كفر المشركين وتكذيبهم والمشركون يسخرون من دعوته إياهم إلى الإيمان وعدم التكذيب بالله ولقائه.
3- تقرير البعث وبيان طريقة وقوعه.
4- عدم الانتفاع بالإيمان عند معانيه العذاب.
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30)
شرح الكلمات:
احشروا الذين ظلموا: أي أنفسهم بالشرك والمعاصي.
وأزواجهم: أي قرناءهم من الشياطين.
من دون الله: أي من غير الله من الأوثان والأصنام.
فاهدوهم: أي دلوهم وسوقوهم. -
إلى صراط الجحيم: أي إلى طريق النار.
وقفوهم إنهم مسؤولون: أي احبسوهم عند الصراط إنه مسؤولون عن جميع أقوالهم وأفعالهم.
ما لكم لا تناصرون: أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا توبيخا لهم.(4/401)
إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين: أي عن يمين أحدنا تزينون له الباطل وتحسنون له الشر فتأمرونه بالشرك وتنهونه عن التوحيد.
قالوا بل لم تكونوا مؤمنين: أي قال قرناؤهم من الجن ردّا عليهم بل لم تكونوا أساسا مؤمنين.
وما كان لنا عليكم من سلطان: أي من حجة ولا قوة على حملكم على الشرك والشر والباطل.
بل كنتم قوماً طاغين: أي بل كنتم طغاة ظلمة تعبدون غير الله تعالى وتجبرون الناس على ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في موقف عرصات القيامة إنهم بعد اعترافهم بأن هذا يوم الدين ورد الله تعالى عليهم بقوله {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} يقول الجبار عز وجل {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي احشروا الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي (1) ، وقوله {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي قرناؤهم (2) من الجن {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} من الأصنام والأوثان. وقوله تعالى {فَاهْدُوهُمْ (3) إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} يقول الله عز وجل فاهدوهم أي دلوهم إلى طريق النار. ويقول {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} ثم يسألون {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (4) } أي لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا. كيف ينصر بعضهم بعضا في مثل هذا الموقف الرهيب بل هم اليوم مستسلمون أي منقادون ذليلون وقوله تعالى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي أقبل الأتباع على المتبوعين يتساءلون أي يتلاومون كل يلقي بالمسؤولية على الآخر. فقال الأتباع من الإنس لقرنائهم من الجن ما أخبر تعالى به عنهم {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (5) } أي والشمال أي توسوسون لنا فتحسّنون لنا الشرك والشر بل تأمروننا به وتحضوننا عليه. فرد عليهم قرناؤهم بما أخبر تعالى به عنهم {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي ما كنتم مؤمنين فكفرناكم ولا
__________
1 - ظلموا بمعنى أشركوا لأن الشرك أقبح أنواع الظلم شاهده قوله تعالى إن الشرك لظلم عظيم والآمر في قوله (احشروا) الله عز وجل والمأمور الملائكة والمأمور بحشرهم المشركون.
2 - وفسر أزواجهم أيضا بأشياعهم وقرنائهم وهم من الجن وما في التفسير أولى.
3 - أي سوقوهم إلى النار والمأمور الملائكة كما تقدم.
4 - ما لكم لا تناصرون أي ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا ولاستفهام للتقريع والتوبيخ.
5 - اضطرب أهل التفسير في تفسير تأتوننا عن اليمين وأقوالهم متضاربة فمنهم من قال تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها قاله قتادة، ومنهم من قال اليمين بمعنى القوة أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر وهذا ينسجم مع السياق وما في التفسير شامل لهذه الأقوال إذ معناه إنكم تأتوننا من كل جهة تحاولون إغواءنا وإضلالنا.(4/402)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
صالحين فأفسدناكم، ولا موحدين فحملناكم على الشرك. هذا أولا وثانياً ما كان لنا عليكم من سلطان أي من حجج قوية أقنعناكم بها، ولا قدرة لنا أرهقناكم بها فأتبعتمونا، بل كنتم قوماً طاغين أي ظلمة متجاوزين الحد في الإسراف والظلم الشر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان صور لموقف من مواقف القيامة.
2- بيان أن الأشباه في الكفر والفجور أو في الفسق تحشر مع بعضها بعضا.
3- عدم جدوى براءة العابدين من المعبودين واحتجاج التابعين على المتبوعين.
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وََقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
شرح الكلمات:
فحق علينا قول ربنا: أي وجب علينا العذاب.
إنا لذائقون: أي العذاب نحن وأنتم.
فأغويناكم إنا كنا غاوين: أي أضللناكم إنا كنا ضالين.
فإنهم يومئذ: أي يوم القيامة.
في العذاب مشتركون: لأنهم كانوا في الغواية مشركين.
إنا كذلك نفعل بالمجرمين: كما عذبنا هؤلاء التابعين والمتبوعين نعذب التابعين والمتبوعين في كل ضلال وكفر وفساد.
إنهم كانوا إذا قيل لهم: أي إن أولئك المشركين من عبدة الأوثان إذا قال لهم الرسول.(4/403)
لا إله إلا الله يستكبرون: أي قولوا لا إله إلا الله ولا تعبدوا إلا الله يستكبرون ولا يقولون ولا يوحدون.
لشاعر مجنون: يعنون محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بل جاء بالحق وصدق المرسلين: أي جاء بلا إله إلا الله وهو الحق الذي جاءت به الرسل وقد صدقهم فيما أخبروا به من قبله وهو التوحيد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما ذكر تعالى من تساؤلات الظالمين وما قاله الأتباع للمتبوعين وما قاله المتبوعون للأتباع فقوله تعالى {فَحَقَّ عَلَيْنَا (1) قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} هذا قول المتبوعين لأتباعهم قالوا لهم فبسبب غوايتنا وضلالنا وجب علينا العذاب إنا وأنتم لذائقوه لا محالة. وقالوا لهم أيضاً معترفين بإغوائهم لهم فأغويناكم إنا كنا غاوين هذا قول الجن للإنس قال تعالى {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وذلك لاشتراكهم في الشرك والشر والفساد وقوله تعالى {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} من سائر الأصناف كالزناة وأكلة الربا وسافكي الدماء فنعذب الصنف مع صنفه وهذا عائد إلى قوله احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي أشياعهم وأضرابهم وقوله تعالى {إِِنَّهُمْ كَانُوا (2) إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} يخبر تعالى عن مشركي قريش أنهم كانوا في الدنيا إذا قال لهم رسول الله أو أحد المؤمنين قولوا لا إله إلا الله يستكبرون (3) ويشمئزون ولا يقولونها بل ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر (4) مجنون يعنون النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصفون القرآن بالشعر ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تاليه وقارئه بالشعر ولما يدعوهم إليه من الإيمان بالبعث والجزاء بالجنون والرسول في نظرهم مجنون. فرد تعالى عليهم بقوله {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ (5) } أي لم يكن رسولنا بشاعر ولا مجنون بل جاء بالحق فأنكرتموه وكذبتم به تقليدا وعناداً فقلتم ما قلتم. وإنما هو قد جاء بالحق الذي هو لا إله إلا الله {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} الذين جاءوا قبله بكلمة لا إله إلا الله والدعوة إليها والحياة والموت عليها.
__________
1 - أي وجب علينا قول ربنا فكلنا ذائقوا العذاب شاهده قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إن الله عز وجل كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم.
2 - إنهم كانوا: هذه الجملة تعليلية للحكم السابق وهو بيان العلة منه وفي الكلام حذف تقديره أنهم كانوا إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله فحذف القول للعلم به.
3 - شاهده حديث ابن أبي حاتم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه إلى الله" وهو في الصحيح بأوسع منه.
4 - أي لقول شاعر فحذف القول لظهوره.
5 - بل للإضراب الانتقالي عن قولهم: شاعر مجنون الباطل وقد سبق الحق المبين وهو شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله.(4/404)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان هلاك الضال ومن أضله والغاوي ومن أغواه.
2- بيان ما كان يوجهه المشركون لرسول الله من التهم الباطلة ورد الله تعالى عليها.
3- التعظيم من شأن لا إله إلا الله وأنها دعوة كل الرسل التي سبقت النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- تقرير التوحيد والبعث والجزاء والنبوة المحمدية.
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
شرح الكلمات:
وما تجزون إلا ما كنتم تعملون: أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه من الشرك والمعاصي.
إلا عباد الله المخلصين: أي لكن عباد الله المخلصين أي العبادة لله وحده فإنهم يجزون أعمالهم إذ الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.
لهم رزق معلوم: أي في الجنة بكرة وعشيا.
فواكه: أي طعامهم وشرابهم فيها للتلذذ به كما يتلذذ بالفواكه فليس هو لحفظ أجسامهم حية كما في الدنيا.
وهم فيها مكرمون: أي لا تلحقهم فيها إهانة بل يقال لم هنيئاً بخلاف أهل النار يقال لهم ذوقوا عذاب النار بما كنتم تعملون.(4/405)
من معين: أي يجري على وجه الأرض كعيون الماء الجارية على الأرض.
لذةٍ للشاربين: أي الخمرة موصوفة بأنها لذة للشاربين.
لا فيها غول: أي ما يغتال عقولهم وأجسامهم فيهلكهم.
ولا هم عنها ينزفون: أي لا يسكرون عنها أي بسببها كما هي خمر الدنيا.
قاصرات الطرف: أي لا ينظرون إلى غير أزواجهن لحسنهم وجمالهم عندهن.
عين: أي واسعات الأعين الواحدة عيناء.
بيض مكنون: أي كأنهن بيض مكنون أي مستور لا يصله غبارٌ ولا غيره.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو (1) الْعَذَابِ الْأَلِيم، وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هذا يقال لأهل النار وهم موقوفون يتساءلون ومن جملة ما يقال لهم عندئذ هذا القول فيخبرون بأنهم ذائقوا العذاب الأليم الموجع، وأنهم ما يجزون إلا بما كانوا يعملون فلا يظلمون بالجزاء بل هو جزاء عادل السيئة بمثلها. وهنا استثنى تعالى جزاء المؤمنين الذي استخلصهم لعبادته فعبدوه ووحدوه فإنهم يجزون بأكثر من أعمالهم فضلا منه عليهم وإحسانا إليهم فالحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة وأكثر، فقال {إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} وبين تعالى بعض جزائهم فقال {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي يأكلونه بكرة وعشيا (2) ، وقوله {فَوَاكِهُ} (3) فيه إشارة إلى أنهم لا يأكلون ولا يشربون لحفظ أجسادهم من الموت والفناء، وإنما يأكلون ما يأكلون ويشربون ما يشربون تلذذاً بذلك لا لدفع غائلة الجوع كما في الدنيا. {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أي في الجنة حيث لا تلحقهم إهانة أبداً، وقوله في جنات النعيم أضاف الجنة إلى النعيم مبالغة في وصفها بالنعيم حتى جعل الجنة جنة النعيم فجعل للنعيم وهو النعيم جنة، وأخبر أنهم متكئون فيها على سرر متقابلين ينظر بعضهم إلى بعض وهم في جلسات تنعم، وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين يسقون بواسطة خدم من الملائكة خاص فقال {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي من خمر تجري بها الأنهار كأنه عيون الماء، ووصف
__________
1 - الأصل لذائقون العذاب فحذفت النون تخفيفاً وأضيف لذائقوا إلى العذاب فخفض ولو نصب لجاز كقول الشاعر:
فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلاً.
2 - إلا عباد الله المخلصين: الاستثناء منقطع في معنى الاستدراك وهو تعقيب الكلام بما يضاده أو يرفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه وهو الغالب في الاستدراك قرأ الجمهور المخلصين باسم المفعول وقرأها غيرهم باسم الفاعل بكسر اللام والمراد بهم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روي عن الشافعي قوله:
ومما زادني شرفاً وفخراً
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن أرسلت أحمد لي نبيا
3 - عطف بيان من رزق معلوم والمعنى أن طعامهم كله من الأطعمة التي يتفكه بها لا مما يؤكل للشبع.(4/406)
الخمر بأنها بيضاء وأنها لذة عظيمة للشاربين لها، وأنها لا فيها غول وهو ما يغتال أبدانهم كالصداع ووجع البطن فقال {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (1) } أي لا يسكرون بها فتذهب بعقولهم. وقوله {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} يعني أن لهم نساء هن أزواج لهم ومعنى قاصرات الطرف أي على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم وذلك لحسنهم وجمالهم فلا تنظر الواحدة منهن إلا إلى زوجها. وقوله {عِينٌ} أي واسعات الأعين {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ (2) مَكْنُونٌ} هذا وصف لنساء الجنة وأنهن بيض الأجسام بياضاً كبياض بيض النعام إذ هو أبيض مشرب بصفرة وهو من أحسن أنواع الجمال في النساء ومعنى {مَكْنُونٌ} مستور لا يناله غبار ولا أي أذى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عدالة الحق تبارك وتعالى في أنه يجزي السيئة بمثلها ولا يؤاخذ أحداً بغير كسبه في الحياة الدنيا.
2- بيان فضل الله تعالى إذ يجزي المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من سبعمائة.
3- تقرير البعث وبيان بعض ما يجري فيه من قول وعمل.
4- وصف نعيم أهل الجنة طعاما وشراباً وجلوسا واستمتاعا.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي
__________
1 - ينزفون بالبناء للمجهول قراءة الجمهور من نزف الشارب فهو منزوف ونزيف شبهوا عقل الشارب بالدم يقال نزف دم الجريح أي أفرغ وأصله من نزف الرجل ماء البئر إذا نزحه ولم يبعد منه شيئاً. وقرأ البعض ينزفون من أنزف الرباعي الشارب إذا ذهب عقله بالسكر أي صار ذا نزف فالهمزة للصيرورة لا للتعدية.
2 - العرب تشبه النساء بالبيض لصفائهن وبياضهن قال امرؤ القيس الشاعر الجاهلي:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
أطلق لفظ البيضة على المرأة.(4/407)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
شرح الكلمات:
فأقبل بعضهم على بعض: أي أقبل أهل الجنة.
يتساءلون: عما مرّ بهم في الدنيا وما جرى لهم فيها.
إني كان لي قرين: أي كان لي صاحب ينكر البعث الآخر.
يقول أئنك لمن المصدقين: أي يقول تبكيتاً لي وتوبيخاً أي بالبعث والجزاء.
أئنا لمدينون: أي محاسبون ومجزيون بأعمالنا في الدنيا إنكارا وتكذيبا.
هل أنتم مطلعون: أي معي إلى النار لننظر حاله وما هو فيه من العذاب.
فاطلع فرآه في سواء الجحيم: أي في وسط النار.
تالله إن كدت لتردين: أي قال هذا تشميتاً به، ومعنى تردين تهلكني.
لكنت من المحضرين: أي المسوقين إلى جهنم المحضرين فيها.
أفما نحن بميتين: أمخلدون فما نحن بميتين، والاستفهام للتقرير أي نعم.
إلا موتتنا الأولى: التي ماتوها في الدنيا.
لمثل هذا فليعمل العاملون: أي لمثل هذا النعيم من الخلود في الجنة والنعم فيها فليعمل العاملون وذلك بكثرة الصالحات واجتناب السيئات.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان نعيم أهل الجنة فقد قال بعضهم لبعض بعد أن جلسوا على السرر متقابلين يتجاذبون أطراف الحديث متذكرين ما مرّ بهم من أحداث في الحياة الدنيا فقال أحدهم إني كان لي في الدنيا قرين أي صاحب يقول لي استهزاء وإنكاراً للبعث الآخر {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أي بالبعث والجزاء على الأعمال في الدنيا. ويقول أيضا مستبعداً منكرا {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي محاسبون ومجزيون. ثم قال ذلك القائل لبعض(4/408)
أهل مجلسه {هَلْ أَنْتُمْ (1) مُطَّلِعُونَ} أي معي على أهل النار لنرى صاحبي فيها ونسأله عن حاله فكأنهم أبوا عليه ذلك وأبوا أن يطلعوا أما هو فقد اطّلع فرآه في سواء الجحيم أي في وسطها (2) ، وقال له ما أخبر به تعالى عنه في قوله {قَالَ تَاللهِ} أي والله {إِنْ كِدْتَ (3) لَتُرْدِينِ} أي تهلكني لما كنت تنكر عليّ الإيمان بالبعث وتسخر مني وتشمت بي لإيماني وعملي الصالح الذي كنت أرجو ثوابه وهو حاصل الآن وقال أيضا {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} عليّ بالعصمة والحفظ لكنت من المحضرين الآن في جهنم معك. ثم قال له {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} والاستفهام تقريري فهو يقرره ليقول نعم (4) مخلدون نحن في الجنة وأنتم في النار. ثم قال إن هذا أي الخلود في دار النعيم {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} إذ كان نجاة من النار وهي أعظم مرهوب مخوف، ودخولا للجنة دار السلام والنعيم المقيم. قال تعالى {لِمِثْلِ هَذَا} أي هذا الفوز العظيم بالنجاة من النار والخلود في دار الأبرار {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أي فليواصلوا عملهم وليخلصوا فيه لله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عظمة الله تعالى في إقدار المؤمن على أن يتكلم مع من هو في وسط الجحيم ويرى صورته ويتخاطب معه ويفهم بعضهم بعضا، والعرض التلفازي اليوم قد سهل إدراك هذه الحقيقة.
2- التحذير من قرناء السوء كالشباب الملحد وغيره.
3- بيان كيف كان المكذبون يسخرون من المؤمنين ويعدونهم متخلفين عقلياً.
4- لا موت في الآخرة (5) وإنما حياة أبدية في النعيم أو في الجحيم.
5- الحث على كثرة الأعمال الصالحة، والبعد عن الأعمال الفاسدة.
__________
1 - أورد البخاري إيرادات لا حاجة إليها منها: قيل القرين هو من الشياطين. وقرئ من المصدقين بتشديد الصاد والدال من التصدق بالمال، وجعل أنتم مطلعون أنه من قول الله تعالى أو قول ملك. وما في التفسير هو الصواب ولا داعي لإيراد ما بخلافه إذ لا فائدة منه إلا تذبذب الرأي واضطراب الفكر.
2 - قال ابن مسعود رضي الله عنه يقال تعبت حتى انقطع سوائي أي وسطي وقال بعض العلماء، لولا أن الله عرفه إياه لما عرفه إذ تغير حبره وسبره أي اللون والهيئة.
3 - إن كدت إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير ثان محذوف واللام في لتردين هي الدالة على أن إن ليست نافية ولذا تسمى باللام الفارقة.
4 - وجائز أن يكون هذا القول موجهاً إلى أصحاب الأرائك أهل النعيم بعد أن فرغ المؤمن من الحديث مع قرينه في سواء الجحيم قال لرفاقه في النعيم مقرراً أفما نحن بميتين ... الآية. والسياق يساعد على جواز هذا.
5 - قيل لأحد الحكماء: ما شر من الموت؟ قال الذي يتمنى فيه الموت وقال الشاعر:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وكون لا موت في الآخرة صح فيه الحديث إذ يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح بين الجنة والنار وينادي مناد يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت.(4/409)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
شرح الكلمات:
أذلك خير نزلا: أي ذلك المذكور لأهل الجنة خير نزلاً وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره.
أم شجرة الزقوم: المعدة لأهل النار وهي من أخبث الشجر طعماً ومرارة.
إنا جعلناها فتنة للظالمين: أي امتحاناً واختباراً لهم في الدنيا وعذابا لهم في الآخرة.
تخرج في أصل الجحيم: أي في قعر الجحيم وأغصانها في دركاتها.
طلعها كأنه رؤوس الشياطين: أي ما يطلع من ثمرها أولا كالحيات القبيحة المنظر.
إن لهم عليها لشوباً من حميم: أي بعد أكلها يسقون ماء حميما فذلك الشوب أي الخلط.
إنهم ألفوا آباءهم: أي وجدوا آباءهم.
فهم على آثارهم يهرعون: أي يسرعون مندفعين إلى أتباعهم بدون فكر ولا روية.
ولقد أرسلنا فيهم منذرين: أي رسلا منذرين لهم من العذاب.
فانظر كيف كان عاقبة المنذرين: إنها كانت عذابا أليما لإصرارهم على الكفر.
إلا عباد الله المخلصين: فإنهم نجوا من العذاب ولم يهلكوا.(4/410)
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما أعد لأهل الإيمان به وطاعته وطاعة رسوله من النعيم المقيم في الجنة دار الأبرار قال أذلك (1) المذكور من النعيم في الجنة خير نزلا والنزل ما يعد (2) من قرى للضيف النازل وغيره أم شجرة الزقوم، أي ثمرها وهو ثمر سمج مرّ قبيح المنظر. ثم أخبر تعالى أنه جعلها فتنة للظالمين من كفار قريش إذ قالوا لما سمعوا بها كيف تنبت الشجرة في النار والنار تحرق الشجر، فكذبوا بها فكان ذلك فتنة لهم. ثم وصفها تعالى بقوله {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي في قعرها تمتد فروعها في دركات النار. وقوله طلعها أي ما يطلع من ثمرها في قبح منظره {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ (3) الشَّيَاطِينِ} لأن العرب تضرب المثل بالشيطان في القبح كما أن هناك حيات يسمونها بالشيطان قبيحة المنظر وقوله فإنهم أي الظلمة المشركين لآكلون منها أي من شجرة (4) الزقوم لشدة جوعهم فمالئون منها البطون أي بطونهم {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} وذلك أنهم لما يأكلون يعطشون فيسقون من حميم فذلك الشوب من الحميم إذ الشوب الخلط والمزج يُقال شاب اللبن بالماء أي خلطه به وقوله {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} أي مردهم إلى الجحيم بعدما يأكلون ويشربون في مجالس خاصة بالأكل والشرب يردون إلى نار الجحيم.
وقوله تعالى {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} أي وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى والرشاد {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (5) } أي يهرولون مسرعين وراءهم يتبعونهم في الشرك والكفر والضلال وقوله تعالى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} أي فليس هؤلاء أول من ضل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي في أولئك الضالين من الأقوام السالفين منذرين أي رسلاً ينذرونهم فلم يؤمنوا فأهلكناهم فانظر كيف كانت عاقبة المنذرين إنها كانت هلاكاً ودماراً للكافرين. وقوله تعالى {إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (6) } استثناء منه تعالى لعباده المؤمنين الصالحين وهم الذين استخلصهم لعبادته بذكره وشكره فآمنوا وأطاعوا فإنه تعالى نجاهم وأهلك أعداءهم الكافرين المكذبين وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بما لا مزيد عليه.
__________
1 - أذلك خير: مبتدأ وخبر ونزلا تمييز، والمعنى أنعيم الجنة خير نزلاً أم شجرة الزقوم خير نزلا؟
2 - قرى الضيف هو ما يعد له من طعام وشراب وفراش ويسمى النزل بضم النون والزاي ويجوز تسكين الزاي.
3 - مما تعارف عليه العرب أنهم يصورون كل قبيح (بصورة الشياطين) قال امرؤ القيس:
أيقتلونني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوالي
انظر كيف صور سهامه المحددة بصورة أنياب الأغوال ولا يوجد أغوال في الواقع وإنما مجرد تصور وتقدير لا غير.
4 - هذا الطعام والشراب مقابل ما لأهل الجنة من رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم.
5 - الإهراء الإسراع من شخص يستحثه بشيء على الإسراع والهرولة.
6 - الاستثناء متصل لأن المخلصين كانوا من جملة المنذرين فصدقوا المنذرين واتبعوهم وذلك باستخلاص الله تعالى لهم لعبادته والدعوة إليه.(4/411)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أحسن الأساليب في الدعوة وهو الترهيب والترغيب.
2- تقرير البعث والجزاء بأسلوب العرض للأحداث التي تتم في القيامة.
3- التنديد بالاتباع في الضلال للآباء والأجداد وأهل البلاد.
4- إهلاك الله تعالى للظالمين وإنجاؤه للمؤمنين عند الأخذ بالذنوب في الدنيا والآخرة.
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
شرح الكلمات:
ولقد نادانا نوح: أي قال إني مغلوب فانتصر "من سورة القمر"
فلنعم المجيبون: أي له إذ نجيناه وأهلكنا الكافرين من قومه.
من الكرب العظيم: أي عذاب الغرق بالطوفان.
وجعلنا ذريته هم الباقين: إذ عامة الناس كانوا من ذريته سام, وحام ويافث.
وتركنا عليه في الآخرين: أي أبقينا عليه ثناء حسناً عند سائر الأمم والشعوب.
سلام على نوح في العالمين: أي سلام على نوح في العالمين أي في الناس أجمعين.
إنا كذلك نجزي المحسنين: أي كما جزينا نوحاً بالذكر الحسن والسلام في العالمين نجزي المحسنين.
ثم أغرقنا الآخرين: أي كفار قومه المشركين بعد إنجاء المؤمنين في السفينة.(4/412)
معنى الآيات:
على إثر ذكره تعالى إهلاك المنذرين وإنجائه المؤمنين من عباده المخلصين ذكر قصة تاريخية لذلك وهي نوح وقوه حيث أنذرنوح قومه ولما جاء العذاب أنجى الله عباده المخلصين وأهلك المكذبين المنذرين فقال تعالى في ذكر هذه القصة الموجزة {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} أي دعانا لنصرته من قومه فـ {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} وقال {إَِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} نحن له {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} باستثناء امرأته وولده كنعان {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو عذاب الغرق. وقوله {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} إلى يوم القيامة وهذا جزاء له على صبره في دعوته وإخلاصه وصدقه فيها إذ كل الناس اليوم من أولاده الثلاثة وهم سام (1) وهو أبو العرب والروم وفارس، وحام وهو أبو السودان ويافث وهو أبو الترك والخزر وهم التتار ضيقوا العيون ولهذا سموا الخزر من خزر العين وهو ضيقها وصغرها، ويأجوج ومأجوج، وقوله {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (2) أي في أجيال البشرية التي أتت بعده وهو الذكر الحسن الثناء العطر المعبر عنه بقوله تعالى {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي كما جزينا نوحا لإيمانه وصبره وتقواه وصدقه ونصحه وإخلاصه نجزي المحسنين في إيمانهم وتقواهم وهذه بشرى للمؤمنين وقوله {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} ثناء عليه وبيان لعلة الإكرام والإنعام عليه. ودعوة إلى الإيمان بالترغيب فيه، وقوله {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أي أغرقناهم بالطوفان بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بعد أن أنجينا المؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله لأوليائه، وإهانته لأعدائه.
2- إجابة دعاء الصالحين لا سيما عندما يظلمون.
3- فضل الإحسان وحسن عاقبة أهله.
4- فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله في الدنيا والآخرة.
5- قول سلام على نوح في العالمين إذا قاله المؤمن حين يمسي (3) أو يصبح يحفظه الله تعالى من
__________
1 - عن سعيد بن المسيب قال ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام ويافث وحام وولد كل واحد من هؤلاء الثلاث ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر.
2 - قال ابن عباس رضي الله عنهما يُذكر بخير، قال مجاهد لسان صدق في الأنباء.
3 - وقال سعيد بن المسيب وبلغني انه من قال حين يمسي "سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب" ذكره أبو عمرو ابن عبد البر في التمهيد ونقله عنه القرطبي.(4/413)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
لسعة العقرب. وأصح منه قول: أعوذ بكلمات الله التامة (1) من شر ما خلق لصحة الحديث في ذلك.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
شرح الكلمات:
وإن من شيعته لإبراهيم: وإن من أشياع نوح على ملته ومنهاجه إبراهيم الخليل عليهما السلام.
إذ جاء ربه بقلب سليم: أي أتى ربه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب سبحانه وتعالى.
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ : أي حين قال لأبيه وقومه المشركين أي شيء تعبدون؟
أئفكاً آلهة دون الله تريدون؟ : أي كذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله؟
فما ظنكم برب العالمين: أي شيء هو؟ أترون أنه لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم فتعبدون
__________
1 - روى مالك في الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من نزل منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل".(4/414)
غيره وهو ربكم ورب العالمين.
فنظر نظرة في النجوم: أي إيهاما لهم إذ كانوا يؤلهون النجوم.
فقال إني سقيم: أي عليل أي ذو سقم وهو المرض والعلة.
فتولوا عنه مدبرين: أي رجعوا إلى ما هم فيه وتركوه قابلين عذره.
فراغ إلى آلهتهم: أي مال إليها خفية.
فراغ عليهم ضربا باليمين: أي بقوة يمينه فكسرها بفأس وحطمها.
فأقبلوا إليه يزفون: أي يمشون بقوة وسرعة.
ما تنحتون: من الحجارة والأخشاب والمعادن كالذهب والفضة.
وما تعملون: أي وخلق ما تعبدون من أصنام وكواكب.
فقالوا ابنوا له بنياناً: واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار فإذا التهب فألقوه فيه.
فجعلناهم الأسفلين: أي المقهورين الخائبين في كيدهم إذ نجّى الله إبراهيم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى قصة نوح مقررا بها نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ذكر قصة أخرى هي قصة إبراهيم وهي أكبر موعظة لكفار قريش لأنهم ينتمون إلى إبراهيم ويدّعون أنهم على ملته وملة ولده إسماعيل فلذا أطال الحديث فيها فقال سبحانه تعالى {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ (1) لَإِبْرَاهِيمَ} أي وإن من أشياع نوح عليه الذين هم على ملته ومنهجه إبراهيم خليل الرحمن {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي إذ أتى (2) ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب تعالى في الوقت الذي قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، منكراً عليهم عبادة الأصنام فلو كان في قلبه أدنى التفاتة إلى غيره طمعا أو خوفا ما أمكنه أن يقول الذي قال بل كان في تلك الساعة سليم القلب ليس فيه نظر لغير الله تعالى وقوله {أَإِفْكاً (3) آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} أي أكذباً هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله حيث جعلتموها بكذبكم بألسنتكم آلهة وهي أحجار وأصنام. وقوله {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} وقد عبدتم الكذب دونه إذ آلهتكم ما هي إلا كذب بحت. أترون أن الله لا يسخط عليكم ولا
__________
1 - وقيل هاء الضمير عائد إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكون المعنى وإن من شيعة محمد إبراهيم وهو حقاً من شيعته ولكن السياق يأباه بل المراد نوح عليه السلام.
2 - قيل في مجيئه ربه بقلب سليم إما أن يكون عند دعائه إلى توحيده، أو عند إلقائه في النار.
3 - الاستفهام إنكاري إذ هو أنكر على قومه عبادة وتأليه غير الله تعالى، وقوله {فما ظنكم برب العالمين} استفهام متفرع عما قبله وهما للإنكار الأول والثاني. فالأول أنكر عليهم اتخاذهم آلهة دونه تعالى والثاني أنكر عليهم سوء ظنهم بالله حتى عبدوا آلهة غيره.(4/415)
يعاقبكم؟ وقوله {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} هنا كلام محذوف دل عليه المقام وهو أن أهل البلد قد عزموا على الخروج إلى عيد لهم يقضونه خارج البلد، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر بقوله إني سقيم أي ذو سقم بعد أن نظر في النجوم موهماً لهم أنه رأى ما دله على أنه سيصاب بسقم وهو مرض الطاعون وكان القوم منجمين ينظرون إلى النجوم فيدعون أنهم يعرفون بذلك الخير والشر الذي ينزل إلى الأرض بواسطة الكواكب فأوهمهم بذلك فتركوه خوفا من عدوى الطاعون، أو تركوه قبولاً لعذره (1) هذا ما دل عليه قوله تعالى {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ} أي لذلك ورجعوا إلى أمورهم وما هم عازمون عليه من الخروج إلى العيد خارج البلد وهو معنى فتولوا عنه مدبرين وهنا وقد خلا له المكان الذي فيه الآلهة من الحراس والعباد والزوار للآلهة في بهوها الخاص فنفذ ما حلف على تنفيذه في مناظرة كانت بينه وبين بعضهم إذ قال {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} وبدأ المهمة فقال للآلهة وأنواع الأطعمة أمامها تلك الأطعمة من الحلويات وغيرها التي يتركها المشركون لتباركها الآلهة ثم يأكلونها رجاء بركتها {أَلا تَأْكُلُونَ} عارضا عليها الأكل سخرية بها فلم تجبه ولم تأكل فقال لها {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} ثم انهال عليها ضربا بفأس بيده اليمنى فكسرها وجعلها جذاذا أي قطعاً متناثرة. فلما رجعوا من عيدهم مساء وجاءوا بهو الآلهة ليأخذوا الأطعمة وجدوا الآلهة مكسرة {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي مسرعين بأن طلبوا من رجالهم إحضاره على الفور فأحضروه وأخذوا يحاكمونه فقال في دفاعه {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي بأيديكم من أصنام بعضها من حجر وبعض من خشب ومن فضة ومن ذهب أيضا، {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} من كل عمل من أعمالكم فلم لا تعبدونه، وتعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر، ولما غلبهم في الحجة وانهزموا أمامه أصدروا أمرهم بإحراقه بالنار فقالوا {ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً} أي فرنا عظيما واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار حتى إذا التهب فألقوه في جحيمه وهو معنى قوله تعالى {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} وقوله تعالى {فَأَرَادُوا} أي بإبراهيم {كَيْداً} أي شراً وذلك بعزمهم على إحراقه وتنفيذهم ما عزموا عليه {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} أي المتهورين المغلوبين إذ قال تعالى للنار {كوني بردا وسلاماً على إبراهيم} فكانت فخرج منها إبراهيم ولم يحرق سوى كتافيه الذي في يديه ورجليه وخيب الله سعي المشركين وأذلهم أمام إبراهيم وأخزاهم
__________
1 - شاهد هذا حديث الصحيح: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثا اثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله: إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا. وبينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال هي أختي الحديث.(4/416)
وهو معنى قوله تعالى {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (1) } وقد جمع الله تعالى لهم بين الخسران في كل ما أملوه من عملهم والذل الذي ما فارقهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أصل الدين واحد فالإسلام هو دين الله الذي تعبد به آدم فمن بعده إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- كمال إبراهيم في سلامة قلبه من الالتفات إلى غير الله تعالى حتى إن جبريل قد عرض له وهو في طريقه إلى الجحيم الذي أعده له قومه فقال [هل لك حاجة يا إبراهيم فقال أما إليك فلا] .
3- من أقبح الكذب ادعاء أن غير الله يعبد مع الله تبركا به أو طلباً لشفاعته.
4- وجوب تغيير المنكر عند القدرة عليه.
5- بيان ابتلاء إبراهيم وأنه ألقي في النار فصبر، ولذا أكرمه ربه بما سيأتي في السياق بيانه.
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ
__________
1 - هذه الجملة من سورة الأنبياء ذكرت هنا شاهداً مبيناً لغاية كيدهم وهو خسرانهم فيما دبروا وفعلوا.(4/417)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
شرح الكلمات:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين: أي إني مهاجر إلى ربي سيهدين إلى مكان أعبده فيه فلا أمنع فيه من عبادته.
رب هب لي من الصالحين: أي ولداً من الصالحين.
بغلام حليم: أي ذي حلم وصبر كثير يولد له.
فلما بلغ معه السعي: أي بلغ من العمر ما أصبح يقدر فيه على العمل كسبع سنين فأكثر.
فانظر ماذا ترى: أي من الرأي الرشد.
من الصابرين: أي على الذبح الذي أمرت به.
فلما أسلما: أي خضعا لأمر الله الولد والوالد وانقادا له.
وتله للجبين: أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض ولكل إنسان جبينان أيمن وأيسر والجبهة بينهما.
قد صدقت الرؤيا: أي بما عزمت عليه وفعلته من الخروج بالولد إلى منى وصرعه على الأرض وإمرار السكين على حلقه.
إن هذا لهو البلاء المبين: أي الأمر بالذبح اختبار عظيم.
وفديناه بذبح عظيم: أي كبش كبير.
وتركنا عليه في الآخرين: أي أبقينا عليه ذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الناس.
وباركنا عليه وعلى إسحاق: أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرية إسحاق حتى أن عامة الأنبياء من ذريتهما.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة إبراهيم الخليل إنه بعد أن ألقي به في النار وخرج بحمد الله سالماً(4/418)
قرر الهجرة وترك البلاد، وقال {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي إني ذاهب إلى حيث أذن لي ربي بالهجرة إليه حيث أتمكن من عبادته فذهب إلى بلاد الشام ونزل أولا بحران من الشام، وقوله سيهدين أي يثبتني بدوام هدايته لي. ودعا ربه قائلاً {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} أي ارزقني أولاداً صالحين. فاستجاب الله تعالى له وذلك أنه سافر في أرض القدس مع زوجته سارة وانتهى إلى مصر، وحدث أن وهب طاغية مصر جارية لسارة تسمى هاجر فوهبتها سارة لزوجها إبراهيم فتسراها فولدت له غلاما هو إسماعيل وهو استجابة الله تعالى لإبراهيم في دعائه عند هجرته {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} وهو قوله تعال {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} . وقد أخذ سارة ما يأخذ النساء من الغيرة لما رأت جارية إبراهيم أنجبت له إسماعيل فأمر الله إبراهيم بأن يأخذها وطفلها إلى مكة إبعاداً لها عن سارة ليقل تألمها. وهناك بمكة رأى إبراهيم رؤيته ورؤيا الأنبياء وحي وقال لإسماعيل ما أخبر تعالى به في قوله {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} كابن سبع سنين (1) فأكثر بمعنى أصبح قادرا على العمل معه {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} أي استشاره ليرى رأيه في القبول أو الرفض فأجاب إسماعيل قائلا {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي ما يأمرك به ربك {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وفعلا خرج به إبراهيم من حول البيت إلى منى (2) وانتهى إلى مكان تجاوز به مكان الجمرات الثلاث وتله للجبين أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض وأخذ المدية ووضعها على رقبته والتفت لأمر ما وإذا بكبش أملح والهاتف يقول اترك ذاك وخذ هذا فترك الولد وذبح الكبش وكانت آية. وهو قوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، وقوله تعالى {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي الاختبار البين وبذلك تأهل للخلة وأصبح خليل الرحمن، وقوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ} أي إسماعيل {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (3) أي بكش عظيم. هو الذي
__________
1 - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغ الثالثة عشرة من عمره وفي هذا أقوال ولهذا في التفسير قلنا سبع سنين فأكثر إذ بداية السعي من السابعة والبلوغ ينتهي إلى الخامسة عشر.
2 - قيل إن إبراهيم لما رأى الرؤيا كانت ليلة يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة فسمي اليوم يوم التروية إذ تروّى فيه ويوم التاسع عرف أن الرؤيا حق لذا سمي يوم عرفة ويوم العاشر خرج بإسماعيل ليذبحه فسمي يوم النحر لذلك والله أعلم.
3 - اختلف في أيهما الذبيح أهو إسماعيل أم إسحق والراجح انه إسماعيل لأن الذبح كان في مكة ولم يكن في الشام لأن إسماعيل عاش بمكة ولم يعش بالشام ولأن هاجر كانت في مكة وسارة كانت بالشام وبلغ الخلاف حتى قال بعضهم نفوض فكان التفويض مذهباً ثالثاً والذي أثار هذا الخلاف هم أهل الكتاب يريدون سلب هذا الفضل عن النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي الأبيات الآتية إشارة إلى ذلك:
إن الذبيح هديتَ إسماعيل
نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبيا
وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمّته فلا تنكر له
شرفا به قد خصه التفضيل(4/419)
ذبحه إبراهيم وترك إسماعيل (1) وقوله {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي أبقينا عليه ثناء عاطراً وذكر حسنا فيمن جاء بعده من الأمم والشعوب. {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي سلام من الله على إبراهيم كذلك أي كذلك الجزاء الذي جزى به الله تعالى إبراهيم على إيمانه وهجرته وصبره وطاعته يجزي المحسنين وقوله {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} وفي هذا ثناء عاطر على المؤمنين، وقوله {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} وهذا يوم جاءه الضيف من الملائكة وهم في طريقهم إلى المؤتفكات قرى قوم لوط، وذلك بعد أن بلغ من العمر عتياً وامرأته سارة كذلك إذ قالت ساعة البشرى {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} وعجبا لمن يقول إن الذبيح إسحاق وليس إسماعيل، وقوله تعالى {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرّية إسحاق حتى إن عامة الأنبياء من بعدهما من ذريّتهما. وقوله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} أي إبراهيم وإسحاق {مُحْسِنٌ} أي مؤمن صالح {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الهجرة في سبيل الله وأن أول هجرة كانت في الأرض هي هجرة إبراهيم من العراق إلى الشام.
2- بيان أن الذبيح هو إسماعيل وليس هو إسحاق كما يقول البعض وكما يدعي اليهود.
3- وجوب بر الوالدين وطاعتهما في المعروف.
4- فضل إبراهيم وعلو مقامه وكرامته عند ربه.
5- فضل الإحسان وجزاء المحسنين.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا
__________
1 - ضعف القرطبي رواية الرجل الذي نادى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً يا ابن الذبيحين فضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا أرى وجهاً صحيحاً لتضعيفها إذ صح أن الذبيح الأول هو إسماعيل والثاني عبد الله الوالد إذ كل منهما ذبحه والله فداه ولله الحمد والمنة.(4/420)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
شرح الكلمات:
ولقد مننا على موسى وهارون: أي بالنبوة والرسالة.
ونجيناهما وقومهما: أي بني إسرائيل.
من الكرب العظيم: أي استعباد فرعون إياهم واضطهاده لهم.
ونصرناهم: على فرعون وجنوده.
الكتاب المستبين: أي التوراة الموضحة الأحكام والشرائع.
وهديناهما الصراط المستقيم: أي الإسلام لله رب العالمين.
وتركنا عليهما في الآخرين: أي أبقينا عليهما في الآخرين ثناء حسنا.
سلام على موسى وهارون: أي سلام منا على موسى هارون.
إنا كذلك: أي كما جزيناهما نجزي المحسنين من عبادنا المؤمنين.
إنهما من عبادنا المؤمنين: أي جزيناهما بما جزيناهما به لإيمانهما.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إفضال الله وإنعامه على من يشاء من عباده فبعد ذكر إنعامه على إبراهيم وولده إسحاق ذكر من ذريّتهما المحسنين موسى وهارون فقال تعالى {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي بالنبوة والرسالة (1) ، {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} أي بني إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} الذي هو استعباد فرعون والأقباط لهم واضطهادهم زمنا طويلاً {وَنَصَرْنَاهُمْ} أي على فرعون وملائه (2) {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} {وَآتَيْنَاهُمَا (3) } أي أعطيناهما {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} وهو التوراة الواضحة
__________
1 - كانت النبوة والرسالة منة لأن موسى لم يكتسبها بعمل وهارون أعطيتها بدعوة أخيه موسى فلم يكتسبها بأي جهد فهي إذاً منة محضة.
2 - إذ خرج فرعون في جيش عرمرم قوامة مائة ألف من الفرسان فقط ثم نجى الله تعالى بني إسرائيل وأغرق فرعون وجنده أجمعين فكان نصراً عظيماً لموسى على فرعون وملائه أجمعين.
3 - موسى أوتي الكتاب أصالة وهارون بالتبعية لأخيه موسى.(4/421)
الأحكام البين الشرائع لا خفاء فيها ولا غموض. {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهو الدين الصحيح الذي هو الإسلام دين الله الذي بعث به كافة رسله {وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ} أي وأبقينا عليهما الذكر الحسن والثناء العطر فيمن بعدهما {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (1) أي كما جزيناهما لإحسانهما نجزي المحسنين {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} فيه بيان لعلة ما وهبهما من الإنعام والإفضال وهو الإيمان المقتضى للإسلام والإحسان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوليه موسى وهرون عليهما السلام.
2- بيان إنعام الله تعالى على بني إسرائيل بإنجائهم من آل فرعون ونصرته لهم عليهم.
3- بيان أن الإسلام دين سائر الأنبياء وليس خاصاً بأمة الإسلام.
4- بيان فضل الإحسان والإيمان.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
__________
1 - {إنا كذلك نجزي المحسنين} جملة تذييلية وإن كانت تحمل معنى التعليل والتوكيد، والمحسنون من أحسنوا طاعة الله فأطاعوه بما يحب من أفعال وتروك على نحو ما شرعه لهم وجملة إنهما من عبادنا المؤمنين تعليلية للإنعام السابق.(4/422)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
شرح الكلمات:
وإن إلياس لمن المرسلين: إلياس هو أحد أنبياء بني إسرائيل من سبط هرون أرسله الله تعالى إلى أهل مدينة بعلبك بالشام.
أتدعون بعلاً: أي صمنا يسمى بعلا.
وتذرون أحسن الخالقين: أي وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين.
فإنهم لمحضرون: أي في النار.
إلا عباد الله المخلصين: أي فإنهم نجوا من النار.
وتركنا عليه في الآخرين: أي أبقينا عليه في الآخرين ذكراً حسنا.
سلام على إل يا سين: أي سلام منا على إلياس.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إنعام الله تعالى على بعض أنبيائه ورسله فقال تعالى {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ (1) الْمُرْسَلِينَ} وهو من سبط هرون عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل أخبر تعالى أنه من المرسلين (2) أي اذكر إذ قال لقومه وهم أهل مدينة بعلبك وما حولها {أَلا تَتَّقُونَ} أي (3) الله تعالى بعبادته وترك عبادة غيره، وهذا دليل على أنه رسول. وقوله عليه السلام {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} (4) هذا إنكار منه لهم على عبادة صنم كبير لهم يسمونه بعلا، أي كيف تعبدون أصناماً بدعائه والعكوف عليه والذبح والنذر له، وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين، {اللهَ رَبَّكُمْ (5) وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} . قال تعالى {فَكَذَّبُوهُ} أي في أنه لا إله إلا الله فـ {مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} فاحضرو في جهنم فهم من المحضرين فيها، وقوله تعالى {إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} أي الموحدين فإنهم ليسوا في النار بل هم في الجنة. وقوله تعالى {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي وأبقينا له ذكراً حسناً في الذين جاءوا من بعده من الناس. وقوله تعالى {سَلامٌ} أي منا {عَلَى إِلْ يَاسِينَ} {إِنَّا كَذَلِكَ} أي كما جزينا إلياس لإحسانه في طاعتنا {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقوله {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي
__________
1 - قدم تعالى ذكر نوح وإبراهيم وموسى وكلهم رسل أصحاب شرائع وعقب عليهم بذكر ثلاثة آخرين ليست لهم شرائع مستقلة وهم إلياس ولوط ويونس ويوسف واسم إلياس في كتب بني إسرائيل "إيليا".
2 - عد في جملة المرسلين لأن الله تعالى أمره بتبليغ ملوك بني إسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام. فإطلاق اسم الرسول عليه كإطلاقه على اسم رسل عيسى عليه السلام في سورة يس.
3 - ألا تتقون الهمزة للاستفهام الإنكاري ينكر عليهم عدم تقواهم لله، ولا نافية وحذف مفعول يتقون للعلم به. أي ألا تتقون الله تعالى أو عذابه ونقمه.
4 - قرأ نافع آل سين كآل محمد، وقرأ حفص إل بكسر الهمزة وسكون اللام. واختلف هل إل ياسين معناه إلياس، أو معناه ذوو ياسين كآل بني فلان، والراجح أن المراد بآل ياسين أنصاره. نحو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آل محمد كل تقي.
5 - قرأ نافع والأكثرون الله بالرفع على الابتداء، وقرأ حفص الله بالنصب على عطف البيان على أحسن الخالقين.(4/423)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
استحق تكريمنا والجزاء الحسن لأنه من عبادنا المؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد، والتنديد بالشرك.
2- هلاك المشركين (1) ونجاة الموحدين يوم القيامة.
3- فضل الإحسان ومجازاة أهله بحسن الجزاء.
4- فضل الإيمان وأنه سبب كل خير وكمال.
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
شرح الكلمات:
وإن لوطا لمن المرسلين: أي وإن لوطا وهو ابن هاران أخي إبراهيم الخليل لمن جملة الرسل أيضا.
إذ نجيناه وأهله أجمعين: أي اذكر يا رسولنا ممن أنعمنا عليهم بالنبوة والرسالة لوطا إذ نجيناه وأهله أجمعين من عذاب مطر السوء.
إلا عجوزا في الغابرين: أي إلا امرأته الكافرة هلكت في الغابرين أي الباقين في العذاب.
ثم دمرنا الآخرين: أي أهلكنا الآخرين ممن عدا لوطا والمؤمنين معه.
وإنكم لتمرون عليهم: أي في أسفاركم إلى فلسطين وغزة ومصر بالليل والنهار.
أفلا تعقلون: أي يا أهل مكة ما حل بهم فتعتبرون وتتعظون فتؤمنوا وتوحدوا.
__________
1 - سياق قصة إلياس فيها تذكير للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولقريش أيضاً إذ على الرسول أن يبلغ وليس عليه أن يأتي قومه بالعذاب ولو طالب به المدعوون فإن إلياس لم يعذب الله قومه في الدنيا وترك عذابهم إلى الآخرة.(4/424)
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إنعام الله تعالى على من اصطفى من عباده فقال تعالى {وَإِنَّ لُوطاً} وهو ابن هاران أخي إبراهيم (1) عليهما السلام {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي لمن جملة رسلنا {إِذْ نَجَّيْنَاهُ} أي اذكر إنعامنا عليه إذ نجيناه من العذاب وأهله أجمعين {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وهي امرأته إذ كانت مع الكافرين فبقيت معهم فهلكت بهلاكهم. وقوله تعالى {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أي ممن عدا لوطاً ومن آمن به من قومه. وقوله {وَإِنَّكُمْ (2) لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ (3) مُصْبِحِينَ} هذا خطاب لأهل مكة المشركين إذ كانوا يسافرون للتجارة إلى الشام وفلسطين ويمرون بالبحر الميت وهو مكان الهالكين من قوم لوط وأصبح بعد الخسف بحراً ميتاً لا حياة فيه البتة. وقوله {أَفَلا تَعْقِلُونَ (4) } توبيخ لهم وتقريع على عدم التفكر والتدبر إذ لو فكروا لعلموا أن الله تعالى أهلكهم لتكذيبهم برسولهم وكفرهم بما جاءهم به من الهدى والدين الحق، وقد كذب هؤلاء فأي مانع يمنع من وقوع عذاب بهم كما وقع بقوم لوط من قبلهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة لوط ورسالته.
2- بيان العبرة في إنجاء لوط والمؤمنين معه وإهلاك الكافرين المكذبين به.
3- بيان أن لا شفاعة تنفع (5) ولو كان الشافع أقرب قريب إلا بعد أن يأذن الله للشافع وبعد رضائه (6) عن المشفوع له.
4- وجوب التفكر والتعقل في الأحداث الكونية للاهتداء بذلك إلى معرفة سنن الله تعالى في الكون والحياة.
__________
1 - يقال مر به ومر عليه بمعنى إلا أن التمكن والمباشرة بالممرور به بعلى أكثر منه بالباء ومصبحين حال منصوب على الحالية بالياء والنون لأنه جمع سلامة للمذكر.
2 - جيء بالمضارع في لتمرون للإيقاظ والاعتبار لا في حقيقة الإخبار.
3 - خرج لوط مع عمه إبراهيم عليه السلام بعد حادثة إلقاء إبراهيم في النار ونجاته منها فآمن له لوط وخرج معه مهاجراً فأرسله الله تعالى إلى أصحاب المؤتفكات وهي قرى سدوم وعمورية.
4 - الاستفهام للإنكار والتقريع على جهالتهم وغفلتهم وعدم استعمال عقولهم للاهتداء.
5 - أخذا هذا الحكم من كون لوط عليه السلام لم يشفع لزوجه في النجاة من الهلاك الذي أصاب المفسدين وذلك لكفرها وفسادها.
6 - الرضاء: الاسم من رضي، يرضى، رضىً فهو راض.(4/425)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
شرح الكلمات:
وإن يونس لمن المرسلين: أي وإن يونس بن متى الملقب بذي النون لمن جملة المرسلين.
إذ أبق إلى الفلك المشحون: أي إذ هرب إلى السفينة المملوءة بالركاب.
فساهم فكان من المدحضين: أي اقترع مع ركاب السفينة فكان من المغلوبين.
فالتقمه الحوت وهو مليم: أي ابتلعه الحوت وهو آت بما يلام عليه.
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون: أي لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
فنبذناه بالعراء: أي فألقيناه من بطن الحوت بالعراء أي بوجه الأرض بالساحل.
وهو سقيم: أي عليل كالفرخ المنتوف الريش.
شجرة من يقطين: أي الدباء: القرع.
إلى مائة ألف أو يزيدون: أي أرسلناه إلى مائة ألف نسمة بل بزيدون بكذا ألف.
فآمنوا فمتعناهم إلى حين: أي فآمن قومه عند معاينة أمارات العذاب فأبقاهم الله إلى آجالهم.(4/426)
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإنعام. فقال عز وجل عطفاً عما سبق {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جملة من مننّا عليهم بالنبوة والرسالة. {إِذْ أَبَقَ} أي في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به وواعدهم العذاب وتأخر عنهم فاستعجل فهرب من المدينة وهي نينوى (1) من أرض الموصل بالعراق، فوصل الميناء فوجد سفينة مبحرة فركب وكانت حمولتها أكبر من طاقتها فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر فرأى ربّان السفينة أنه لا بد من تقليل الشحنة وإلاّ غرق الجميع، وشح كل راكب بنفسه فاقترعوا (2) فكان يونس من المدحضين أي المغلوبين في القرعة فرموه في البحر فالتقمه حوته، وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدورهم ولم يطق البقاء معهم. وهذا معنى قوله تعالى {إِذْ أَبَقَ (3) إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (4) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (5) . وقوله تعالى {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} أي بطن الحوت {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي يوم القيامة بأن يصير بطن الحوت قبراً له أي فلولا أن يونس كان من المسبحين أي المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يُلهم قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ولما كان يستجاب له ولذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"، فإن صوت يونس سمع تحت العرش فعرفه بعض الملائكة فذكروا ذلك لربهم تعالى فأخبرهم أنه عبده يونس، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء فلذا استجاب الله تعالى ونجاه من الغم، وهو معنى قوله تعالى {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} أي بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل وهو كالفرخ المنتوف الريش نضج لحمه من حرارة جوف الحوت وأنبت تعالى عليه شجرة من يقطين أي قرع تظلله بأوراقها
__________
1 - نينوى كانت مدينة عظيمة من مدن الآشوريين وكان بها مائة ألف أسير من بني إسرائيل أسرهم الآشوريون فأرسل الله تعالى إليهم يونس من فلسطين.
2 - اقترعوا هو معنى قوله تعالى فساهم والمساهمة مشتقة من السهام التي واحدها سهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتسمى الأزلام أيضاً والفاء في فساهم للتقريع.
3 - أبق يأبق إباقاً العبد إذا فر من مالكه.
4 - الاقتراع مشروع فقد فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاثة مواطن منها القرعة بين نسائه إذا أراد السفر بواحدة منهن وشرع الاقتراع فيما إذا تساوت الحقوق والمصالح لأجل دفع الضغائن كالاستهام على من يلي أمر كذا من خلافة أو أذان أو الصف الأول وما إلى ذلك من قسمة دار أو أرض.
5 - المليم اسم فاعل من ألآم يليم إذا فعل ما يلومه عليه الناس فهو جعلهم لائمين له بفعله فهو ألامهم على نفسه.(4/427)
الحريرية الناعمة والتي لا ينزل بساحتها الذباب، وسخر له أُروية "غزالة" فكانت تأتيه صباح مساء فتفشح عليه أي تفتح رجليها وتدني ضرعها منه فيرضع حتى يشبع إلى أن تماثل للشفاء وعاد إلى قومه فوجدهم مؤمنين لتوبة أحدثوها عند ظهور أمارات العذاب فتاب الله عليهم. وقوله تعالى {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (1) } أي أرسلناه إلى قومه وهم أهل نينوى وكان تعدادهم مائة ألف وزيادة كذا ألفاً فآمنوا أي بالله رباً وبالإسلام دينا وبيونس نبيا ورسولاً وتابوا بترك الشرك والكفر فجزيناهم على إيمانهم وتوبتهم بأن كشفنا عنهم العذاب الذي أظلهم، ومتعناهم أي أبقينا عليهم يتمتعون بالحياة إلى نهاية آجالهم المحدودة لهم في كتاب المقادير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة يونس ورسالته وضمن ذلك تقرير رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- مشروعية الركوب في السفن البحرية.
3- مشروعية الاقتراع لفض النزاع في قسمة الأشياء ونحوها.
4- فضل الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح (2) وعظيم نفعها عند الوقوع في البلاء.
5- تقرير مبدأ "تعرف على الله في (3) في الرخاء يعرفك في الشدة".
6- بركة أكل اليقطين أي الدباء القرع إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكلها ويلتقطها من حافة القصعة.
7- فضل قوم يونس إذ آمنوا كلهم ولم تؤمن أمة بكاملها إلا هم.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
__________
1 - أو بمعنى بل على قول الكوفيين واستشهدوا بقول جرير:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم
لم أحص عدتهم إلا بعدّاد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
2 - روى أبو داود عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال دعاء ذي النون في بطن الحوت "ولا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" لم يدع به مسلم في شيء قط إلا استجيب له.
3 - بعض حديث صحيح رواه مسلم وغيره.(4/428)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
شرح الكلمات:
فاستفتهم: أي استخبر كفار مكة توبيخا لهم وتقريعا.
ولهم البنون: أي فيختصون بالأفضل الأشرف.
ليقولون ولد الله: أي لقولهم الملائكة بنات الله.
أصطفى البنات: أي اختار البنات على البنين.
أفلا تذكرون: أي إن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد.
أم لكم سلطان مبين: أي ألكم حجة واضحة على صحة ما تدعون.
فأتوا بكتابكم: أي الذي تحتجون بما فيه، ومن أين لكم ذلك.
وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً: إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون: أي في العذاب.
سبحان الله عما يصفون: أي تنزيها لله تعالى عما يصفونه به من كون الملائكة بنات له.
إلا عباد الله المخلصين: أي فإنهم ينزهون ربهم ولا يصفونه بالنقائص كهؤلاء المشركين.
معنى الآيات:
بعد تقرير البعث والتوحيد والنبوة في السياق السابق بالأدلة والحجج والبراهين القاطعة أراد تعالى إبطال فرية من أسوأ الفرى التي عرفتها ديار الجزيرة وهي قول (1) بعضهم إن الله تعالى قد أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وهم بنات الله، وهذا لا شك أنه من إيحاء الشيطان لإغواء الإنسان
__________
1 - قال القرطبي في بيان من قال هذه القولة القذرة الفاسدة الباطلة قال: ذلك جهينة وخزاعة وبني مليح وبني سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله.(4/429)
وإضلاله فقال تعالى لرسوله استفتهم أي استخبرهم موبخا لهم مقرّعا قائلاً لهم {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} أي أما تخجلون عندما تنسبون لكم الأسنى والأشرف وهو البنون، وتجعلون لله الأخس والأدنى وهو البنات وقوله تعالى {أَمْ (1) خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} أي حضروا يوم خلقنا الملائكة فعرفوا بذلك أنهم إناث، والجواب لا إنهم لم يشهدوا خلقهم إذاً فلم يكذبون وقوله تعالى {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي ألا إن هؤلاء المشركين الضالين من كذبهم الذي عاشوا عليه واعتادوه يقولون ولد الله وذلك بقولهم الملائكة بنات الله، وإنهم ورب العزة لكاذبون في قيلهم هذا الذي هو صورة لأفكهم الذي يعيشون عليه. وقوله تعالى {أَصْطَفَى (2) الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} هذا توبيخ لهم وتقريع أصطفى أي هل الله اختار البنات على البنين فلذا جعلهم إناثاً كما تزعمون. مالكم كيف (3) تحكمون هذا الحكم الباطل الفاسد. أفلا تذكرون (4) فتذكروا أن الله منزه عن الصاحبة والولد أم لكم سلطان مبين أي ألكم حجة قوية تثبت دعواكم والحجة القوية تكون بوحي من الله في كتاب أنزله يخبر فيه بما تقولون إذاً {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} الذي فيه ما تدعون {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم.
ومن أين لكم الكتاب، وقد كفرتم بكتابكم الذي نزل لهدايتكم وهو القرآن الكريم. وهكذا أبطل الله هذه الفرية بأقوى الحجج. وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} أي بين الله تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} (5) بقولهم أصهر الله تعالى إلى الجن فتزوج سروات الجن إذ سألهم أبو بكر: من أمهات الملائكة فقالوا سروات الجن وقوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (6) } أي في العذاب، فكيف يكون لهم نسب ويعذبهم الله بالنار. فالنسيب يكرم نسيبه لا يعذبه بالنار، وبذلك بطلت هذه الفرية الممقوتة، فنزه الله تعالى نفسه عن مثل هذه الترهات والأباطيل فقال {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . {إِلَّا (7) عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} أي فإنهم لا يصفون ربهم بمثل هذه النقائص التي هي من صفات العباد العجزة المفتقرين إلى الزوجة والولد أما رب كل شيء ومالكه وخالقه فلا يقبل
__________
1 - الاستفهام للتوبيخ والتقريع والتأنيب.
2 - أصطفى. الهمزة للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع واصطفى بمعنى اختار البنات على البنين وقرأ الجمهور بهمزة القطع للاستفهام وقرأ بعض بهمزة الوصل دون همزة القطع إلا أنها منوية.
3 - ما لكم ما اسم استفهام عن ذات وهي مبتدأ ولكم خبر، والمعنى: أي شيء حصل لكم؟.
4 - أفلا تذكرون قرأ نافع تذكرون بتشديد الدال والكاف معاً إذ الأصل تتذكرون فأدغمت إحدى التائين في الذال. وقرأ حفص تذكرون بتخفيف الذال لحذف التاء الثانية والاستفهام إنكاري.
5 - النسب القرابة العمودية بالآباء والأمهات والأفقية كالإخوان والأعمام والمعنى ذوي النسب لله تعالى وهو نسب البنوة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
6 - المحضرون المجلوبون للحضور، والمراد المحضرون للعقاب والعذاب.
7 - الاستثناء منقطع وجائز أن يكون من الحضور للعقاب فإن عباد الله لا يحضرون للعقاب ولا يعاقبون وجائز أن يكون منقطع من سبحان الله عما يصفون فإن عباد الله لا يصفون الله بالنقائص كما في التفسير وهو أولى من الأول.(4/430)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
العقل أن ينسب إليه الصاحبة والولد. فلذا عباد الله الذين استخلصهم لمعرفته والإيمان به وعبادته لا يصفون ربهم جل جلاله بصفات المحدثين من خلق الله. ولا يكون من المحضرين في النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال فرية بَني ملحان من العرب الذين زيّن لهم الشيطان فكرة الملائكة بنات الله، ووجود نسب بين الله تعالى وبين الجن.
2- مشروعية دحض الباطل بأقوى الحجج وأصح البراهين.
3- الحجة الأقوى ما كانت من وحي الله في كتاب من كتبه التي أوحى بها إلى رسله.
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
شرح الكلمات:
وما تعبدون: أي من الأصنام.
إلا من هو صال الجحيم: أي مقدر له عذاب النار.
إلا له مقام معلوم: أي مكان في السماء يعبد الله تعالى فيه لا يتعداه.
وإنا لنحن الصافون: أي أقدامنا في الصلاة.
وإنا لنحن المسبحون: أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به.
لو أن عندنا ذكرا: أي كتابا من كتب الأمم السابقة.
فكفروا به: أي بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن.
فسوف يعلمون: أي عاقبة كفرهم إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا.(4/431)
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل المشركين فقد قال لهم تعالى {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (1) } من أصنام أيها المشركون. ما أنتم بمضلين أحداً إلا أحدا هو صال (2) الجحيم حيث كتبنا عليه ذلك في كتاب المقادير فهو لا بد عامل بما يوجب له النار فهذا قد يفتتن بكم وبعبادتكم فيضل بضلالكم. وقوله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا (3) لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (4) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} هذا قول جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره بأن الملائكة تصف في السماء للصلاة كما يصف المؤمنون من الناس في الصلاة، وأنهم من المسبحين لله الليل والنهار وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه ما من موضع شبر في السماء إلا عليه ملك ساجد أو قائم وقوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (5) } أي مشركو العرب {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لكنا عباد الله المخلصين أي لكنا عباداً لله تعالى نعبده ونوحده ولا نشرك به أحداً. فرد تعالى على قولهم هذا إذ هو مجرد تمنٍ كاذب بقوله فكفروا به أي فكفروا بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن الكريم. إذاً فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم إن لم يتوبوا وهو هلاكهم وخسرانهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ من كتب الله عليه النار فسوف يصلاها.
2- تقرير عبودية الملائكة وطاعتهم لله وأنهم لا يتجاوزون ما حد الله تعالى لهم.
3- فضل الصفوف في الصلاة وفضل تسويتها.
4- بيان كذب المشركين إذ كانوا يدعون أنهم لو أنزل عليهم كتابٌ كما أنزل على من قبلهم لكانوا عباد الله المخلصين أي الذين يعبدونه ويخلصون له العبادة.
__________
1- جائز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي وجائز أن تكون مصدرية أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام ما تفتنون على الله عبداً من عباده بإضلاله أو إفساده إلا عبداً قضى الله بعذابه فهو صال الجحيم، وفي الآية رد على نفاة القدر، ومن أحسن ما قيل شعراً قول لبيد بن ربيعة:
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثى والعجل
أحمد الله فلا ند له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبيل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل
2 - الأصل صالي الجحيم وحذفت الياء لعدم النطق بها لوجود همزة الوصل.
3 - هذا من قول الملائكة. قال مقاتل هذه الآيات الثلاث نزلت ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند سدرة المنتهى فتأخر جبريل فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهنا تفارقني؟ فقال ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم.
4 - روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أصحابه وهم في المسجد فقال ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقالوا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف.
5 - وإن كانوا ليقولون: إن مخففة من الثقيلة واللام للابتداء وهي الفارقة بين المخففة والنافية.(4/432)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
5- تهديد الله تعالى للمشركين على كذبهم بقوله فسوف يعلمون.
شرح الكلمات:
سبقت كلمتنا: هي قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي.
وإن جندنا لهم الغالبون: أي للكافرين بالحجة والنصرة.
فتول عنهم حتى حين: أي أعرض عنهم حتى تؤمر فيهم بالقتال.
وأبصرهم: أي أنظرهم.
فإذا نزل بساحتهم: أي العذاب.
وتول عنهم: أي أعرض عنهم.
سبحان ربك: أي تنزيها لربك يا محمد.
عما يصفون: أي تنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد والشريك.
وسلام على المرسلين: أي أمَنَةٌُ من الله لهم في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين: أي الثناء بالجميل خالص لله رب الثقلين الإنس والجن على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه.
معنى الآيات:
لما ختم السياق الأول بتهديد الكافرين بقوله تعالى {فكفروا به فسوف يعلمون} أخبر تعالى(4/433)
رسوله بما يطمئنه على نصر الله تعالى له فقال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا (1) الْمُرْسَلِينَ} وهي قوله {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي بالحجة والبرهان، وبالرمح (2) والسنان. وقوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} يأمر رسوله أن يعرض عن المشركين من قومه حتى حين يأمره فيهم بأمر (3) ، أو ينزل بهم بلاء أو بأساً وقوله {وَأَبْصِرْهُمْ} أي أنظرهم فسوف يبصرون لا محالة ما ينزل بهم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ينكر تعالى عليهم استعجالهم العذاب الدال على سفههم وخفة أحلامهم إذ ما يستعجل العذاب إلا أحمق جاهل وعذاب من استعجلوا إنه عذاب الله!! قال تعالى {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي بفناء دارهم {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أي بئس صباحهم من صباح إنه صباح هلاكهم ودمارهم ثم أمر تعالى مرة أخرى رسوله أن يتول عنهم وينتظر ما يحل بهم فقال {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ (4) فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} وفي الآية من التهديد والوعيد لهؤلاء المشركين ما لا يقادر قدره. وأخيراً نزه تعالى نفسه عما يصفه به المشركون من الولد والشريك وسلّم على المرسلين، وحمد نفسه مشيرا إلى مقتضى الحمد وموجبه وهو كونه رب العالمين فقال {سُبْحَانَ (5) رَبِّكَ} يا محمد {رَبِّ الْعِزَّةِ} ومالكها يعز بها من يشاء ويذل من يشاء {عَمَّا يَصِفُونَ (6) } من الصاحبة والولد والشريك، {وَسَلامٌ} منا {عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وأنت منهم {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على نصره أولياءه وإهلاكه أعداءه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- وعد الله تعالى لرسوله بالنصر وقد أنجزه ما وعده والحمد لله.
3- استحباب ختم الدعاء أو الكلام بقراءة جملة {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ (7) عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لورود ذلك في السنة.
__________
1 - جائز أن يكون المراد قوله تعالى {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} الآية.
2 - قال الحسن: "لم يقتل من أصحاب الشرائع أحد قط".
3 - كإذن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجهادهم، وجائز أن يكون حتى يجيء أجلهم أو يأتي يوم بدر أو الفتح.
4 - كرر للتأكيد، وكذا وتول عنهم مكرر للتأكيد.
5 - سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى (سبحان الله) فقال هو تنزيه الله عن كل سوء.
6 - يصفون الله عز وجل بأن له صاحبة وله ولداً وشريكاً.
7 - ذكر القرطبي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يختم صلاته غير مرة بقوله: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين".(4/434)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
سورة ص
...
سور ص
مكية
وآياتها ثمان وثمانون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
شرح الكلمات:
ص: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب ص ويقرأ صاد الله أعلم بمراده به.
والقرآن ذي الذكر: أي أقسم بالقرآن ذي الذكر إذ به يذكر الله تعالى ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون من أن النبي ساحر وشاعر وكاذب.
بل الذين كفروا في عزة وشقاق: أي أهل مكة في عزة نفس وشقاق مع النبي والمؤمنين وعداوة(4/435)
فلذا قالوا في الرسول ما قالوا، وإلا فهم يعلمون براءته مما قالوا فيه.
وكم أهلكنا قبلهم من قرن: أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناهم.
فنادوا ولات حين مناص: أي صرخوا واستغاثوا وليس الوقت وقت مهرب ولا نجاة.
وعجبوا: أي وما اعتبر بهم أهل مكة وعجبوا أن جاءهم منذر منهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا ساحر كذاب: أي لما يظهره من الخوارق ولما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال.
أجعل الآلهة إلها واحدا: أي لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله، فقالوا كيف يسع الخلائق إله واحد؟
إن هذا لشيء عجاب: أي جعل الآلهة إلها واحداً أمر عجيب.
وانطلق الملأ منهم أن امشوا: أي خرجوا من بيت أبي طالب حيث كانوا مجتمعين بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعوا منه قوله لهم قولوا لا إله إلا الله.
إن هذا لشيء يراد: أي إن هذا المذكور من التوحيد لأمر يراد منا تنفيذه.
في الملة الآخرة: أي ملة عيسى عليه السلام.
إن هذا إلا اختلاق: أي ما هذا إلا كذب مختلق.
أأنزل عليه الذكر من بيننا: أي كيف يكون ذلك وليس هو بأكبر منا ولا أشرف.
بل هم في شك من ذكري: أي بل هم في شك من القرآن والوحي ولذا قالوا في الرسول ما قالوا.
بل لما يذوقوا عذاب: أي بل لم يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوه لما كذبوا بل آمنوا ولا ينفعهم إيمان.
أم عندهم خزائن رحمة ربك: أي من النبوة وغيرها فيعطوا منها من شاءوا ويحرموا من شاءوا.
أم لهم ملك السماوات والأرض: أي ليس لهم ذلك.
فليرتقوا في الأسباب: أي الموصولة إلى السماء فيأتوا بالوحي فيخصوا به من شاءوا أو يمنعوا الوحي النازل على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنى لهم ذلك.
جند ما هنالك مهزوم: أي هم جند حقير في تكذيبهم لك مهزوم أمامك وفي بدر.
من الأحزاب: أي من الأمم الماضية التي تحزبت على رسلها وأهلكها الله تعالى.
معنى الآيات:
قوله تعالى {ص (1) والقرآن ذي الذكر} أما ص فإنه أحد حروف الهجاء ومذهب السلف فيه أن
__________
1 - قرأ الجمهور ص بالسكون وقرأ الحسن وأبي بن كعب صاد بكسر الدال وبدون تنوين، وتوجيهها أنها من صادى يصادي إذا عارض نحو {فأنت له تصدى} أي تتعرض والمصادات المعارضة، والمعنى عارض القرآن بعملك وقابله به، فأعمل بأوامره وانته عن نواهيه أو اتله وتعرض لقراءته.(4/436)
يقال الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي يجب الإيمان به ويوكل أمر معناه إلى من أنزله، وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف قد أفادت فائدتين فليطلبهما من شاء من القراء الكرام من المفتتحة بمثل هذه الحروف نحو طس، ألم. وأما قوله {وَالْقُرْآنِ} هو كتاب الله هذا المنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و {ذِي الذِّكْرِ} معناه (1) التذكير إذ به يذكر الله تعالى والجملة قسم أقسم الله به فقال {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} وجواب القسم محذوف تقديره (2) ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون من أن النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساحر وشاعر وكاذب {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أي بل هم في عزة نفس وكبرياء وخلاف وعداوة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين فحملهم ذلك على أن يقولوا في الرسول ما قالوا، وإلا فهم يعلمون يقينا أن النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبعد الناس عن السحر والشعر والكذب والجنون. وقوله تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناها بتكذيبها لرسلها فلما جاءهم العذاب نادوا (3) صارخين مستغيثين {وَلاتَ (4) حِينَ مَنَاصٍ} أي ليست الساعة ساعة نجاة ولا هرب، فلم لا يعتبر مشركو مكة بمثل هؤلاء. لم يعتبروا {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ينذرهم عذاب الله في الدنيا والآخرة وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} أي لم يعتبروا وعجبوا وقالوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} . {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) } أي عجيب أي كيف يسع العباد إله واحد إن هذا لأمر يتعجب منه غاية العجب، لأنهم قاسوا الغائب وهو الله تعالى على الشاهد وهو الإنسان الضعيف فوقعوا في أفحش خطأ وأقبحه.
وقوله تعالى {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} وهم يقولون لبعضهم بعضاً امشوا واصبروا على آلهتكم {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي منا إمضاؤه وتنفيذه. قالوا هذا وما بعده من القول لما اجتمعوا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزل عمه أبي طالب لمفاوضة الرسول في شأن دعوته فلما قال لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولوا لا إله إلا الله قاموا من المجلس وانطلقوا يمشون ويقولون ما أخبر تعالى به عنهم {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي على عبادتها فلا تتخلوا عنها {إِنَّ هَذَا} أي الدعوة إلى لا إله إلا الله لشيء
__________
1 - في شرح هذه الكلمة عدة أوجه منها ذي الشرف أي من آمن به وعمل بما فيه كان شرفاً له في الدارين كما أنه شريف في نفسه لإعجازه، وقيل ذي الذكر أي فيه ذكر ما يحتاج إليه وقيل الموعظة وقيل فيه أسماء الله وتمجيده.
2 - وذُكر لجواب القسم أمور منها ما في التفسير وهو أمثلها وقيل الجواب بل الذين كفروا وقيل الجواب إنه لمن عند الله تعالى أي القرآن المؤلف من حروف ص وغيره.
3 - النداء رفع الصوت ومنه الحديث "ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً" القرن الأمة.
4 - ولات هي لا النافية زيدت فيها التاء كما زيدت في رُبت وثمت وهي مشبهة بليس وهي مختصة بنفي أسماء الزمان والمناص النجاء والغوث وهو مصدر ميمي من نَاصَهُ إذا فاته والمعنى فنادوا مبتهلين في حال ليس فيها وقت نجاة وغوث.
5 - العجاب وصف الشيء الذي يتعجب منه كثيراً لأن وزن فعال بضم أوله يدل على تمكن الوصف مثل طوال أو كرام.(4/437)
كبير يراد منا إمضاؤه وتنفيذه لصالح غيرنا. ما سمعنا بهذا أي بالتوحيد في الملة الآخرة أي الدين الأخير وهو ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام. {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} أي ما هذا الذي يدعو إليه محمد إلا كذب اختلقه لم ينزل عليه ولم يوح به إليه. وواصلوا كلامهم قائلين: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} أي القرآن {مِنْ بَيْنِنَا} وليس هو بأكبرنا سنا ولا بأشرفنا نسباً. فكيف يكون هذا؟ وقوله تعالى {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} أي لم يكن بالقوم جهل بصدق محمد في قوله وسلامة عقله، وإنما حملهم على ذلك هو شكهم في القرآن وما ينزل به من الحق ويدعو إليه من الهدى، وهذا أولاً وثانيا إنهم لما يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوا عذاب الله على تكذيبهم ما كذبوا، وسوف يذوقونه ولكن لا ينفعهم يومئذ تصديق ولا إيمان. وقوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك يا رسولنا العزيز أي الغالب الوهاب أي الكثير العطاء من النبوة وغيرها وعندئذ لهم أن يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولكن فهل لهم من خزائن ربك شيء والجواب لا إذاً فلم ينكرون هبة الله لمحمد بالنبوة والوحي والرسالة.
وقوله تعالى {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي بل لهم ملك السموات والأرض وما بينهما؟ إذا كان هذا لهم {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} سببا بعد سبب حتى ينتهوا إلى السماء السابعة ويمنعوا الوحي النازل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه سبحانه وتعالى. ومن أين لهم ذلك وهم الضعفاء الحقيرون إنهم كما قال تعالى فيهم {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ (1) مِنَ الْأَحْزَابِ} أي جند حقير من جملة أحزاب الباطل والشر مهزوم هنالك ببدر ويوم الفتح بإذن الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لله تعالى أن يقسم بما شاء بخلاف العبد لا يقسم إلا بربّه تعالى.
2- بيان ما كان عليه المشركون من كبرياء وعداء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- بيان جهل المشركين في استنكارهم للا إله إلا الله محمد رسول الله.
4- تحدي الرب تعالى للمشركين إظهاراً لعجزهم ودعوته لهم إلى النزول إلى الحق وقبوله.
5- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.
6- ذم كلمة الأحزاب ومدلولها إذ لا تأتي الأحزاب بخير.
__________
1 - جند ما هنالك (ما) مزيدة للتأكيد أي تأكيد حقارة جند إن قيل التنكير للتحقير وإن كان للتعظيم فهي لتوكيده وهنالك إشارة إلى مكان بعيد، ومهزوم مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم وذهبت قوتهم وفي الخطاب تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعنى لا تحفل بهم ولا تغتم لشأنهم.(4/438)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
شرح الكلمات:
كذبت قبلهم: أي قبل هؤلاء المشركين من قريش.
وفرعون ذو الأوتاد: أي صاحب أوتاد أربعة يشد إليها من أراد تعذيبه.
وأصحاب الأيكة: أي الغيضة وهم قوم شعيب.
إن كل إلا كذب الرسل: أي ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل ولم يصدقهم فيما دعوا إليه.
فحق عقاب: أي وجبت عقوبتي عليهم.
صحية واحدة: هي نفخة إسرافيل في الصور نفخة.
مالها من فواق: أي ليس لها من فتور ولا انقطاع حتى تهلك كل شيء.
عجل لنا قطنا: أي صك أعمالنا لنرى ما أعدت لنا إذ القط الكتاب.
ذا الأيد: أي القوة والشدة في طاعة الله تعالى.
إنه أواب: أي رجاع إلى الله في كل أموره.
بالعشي والإشراق: أي بالمساء بعد العصر إلى الغروب والإشراق من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى.(4/439)
والطير محشورة: أي والطيور مجموعة.
وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب: أي وأعطينا داود الحكمة. وهي الإصابة في الأمور والسداد فيها وفصل الخطاب: الفقه (1) في القضاء ومن ذلك البينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
معنى الآيات:
السياق الكريم في تسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهديد المشركين علهم يتوبون إلى الله ويرجعون قال تعالى {كَذَّبَتْ (2) قَبْلَهُمْ} أي قبل قومك يا محمد {قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} أي (3) صاحب الأوتاد التي كان يشد إليها من أراد تعذيبه ويعذبه عليها كأعواد المشانق، {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ} أي الغيضة وهي الشجر الملتف وهم قوم شعيب {أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} أي الطوائف الكافرة الهالكة {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي ما كل واحدة منها إلا كذبت الرسل {فَحَقَّ عِقَابِ} أي وجب عقابي لهم فعاقبتهم، وما ينظر هؤلاء من قومك {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} (4) أي من فتور ولا انقطاع حتى يهلك كل شيء ولا يبقى إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام. وقوله تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا (5) قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} قالوا هذا لما نزل {فأما من أوتي كتابه بيمنه} الآيات من سورة الحاقة. قال غلاة الكافرين كأبي جهل وغيره استهزاءً، ربنا عجل لنا قطنا أي كتابنا لنرى ما فيه من حسنات وسيئات قبل يوم القيامة والحساب والجزاء وهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء، وإنما قالوا هذا استهزاء وعناداً أو مكابرة فلذا قال تعالى لرسوله {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ (6) } أي القوة في دين (7) الله {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع إلى الله تعالى
__________
1 - صورة من فصل الخطاب الذي هو الفقه والبصيرة في القضاء روي أن ابن أبي ليلى جلد امرأة مجنونة قذفت رجلاً فقالت له يا ابن الزانيين جلدها وهي قائمة في المسجد فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال أخطأ ابن أبي ليلى من ستة وجوه وهي: 1- المجنون لا حد عليه لأنه غير مكلف. 2- إن كان القذف حقاً لله تعالى فلا يقام على القاذف إلا حداً واحد كما هو مذهب أبي حنيفة. 3- أقام الحد بدون مطالبة المقذوف به. 4- إنه والى بين الحدين والواجب أن يفرق بينهما. 5- أنه حدها قائمة والمرأة تحد جالسة مستورة. 6- أنه أقام الحد في المسجد والإجماع أن الحدود لا تقام في المساجد.
2 - مفعول كذبت محذوف سيدل عليه ما يأتي من قوله: {إن كل إلا كذب الرسل} فالمفعول المحذوف هو الرسل والجملة بيان لسابقتها تحمل التسلية والعزاء للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - جائز أن يكون المراد بالأوتاد القوة والبطش أو الأهرام لأنها بناء راسخ في الأرض كالأوتاد جمع وتد بكسر التاء وهو عود غليظ له رأس مفلطح يدق في الأرض ليشد به ظنب الخيمة أو حبالها قال الشاعر:
والبيت لا يبنى إلا على عمد
ولا عماد إذا لم تُرْسَ أوتاد
4 - الفواق اسم للزمن الذي بين الحلبتين والرضعتين إذ الحالب يجلب الناقة ثم يترك ولدها يرضعها حتى تدر اللبن ثم يبعده ويحلبها مرة ثانية فالفواق هو ما بين الحلبتين والرضعتين.
5 - القط: هو القسط من الشيء ويطلق كما هنا على قطعة الورق أو ما يكتب عليه العطاء لأحد يسمى بالصك.
6 - الأيد ليست جمع يد إنما المراد بها القوة والشدة وهو مصدر آد يئيد أيداً. إذا قوى واشتد ومنه التأييد الذي هو التقوية. قال تعالى {فآواكم وأيدكم بنصره} .
7 - شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى وإنه كان أواباً" "في الصحيحين".(4/440)
اذكره لتتأسى به في صبره وقوته في الحق وقوله تعالى {إِنَّا سَخَّرْنَا} الآيات بيان لإنعام الله تعالى على داود لتعظم الرغبة في الاقتداء به، والرغبة إلى الله تعالى فيما لديه من إفضالات {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ (1) } أي إذا سبح داود في المساء من بعد العصر إلى الغروب وفي الإشراق وهو وقت الضحى سبحت الجبال معه أي رددت تسبيحه كرامة له والطير محشورة أي وسخرنا الطير محشورة أي مجموعة تردد التسبيح معه، وقوله {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} أي كل من الجبال والطير أواب أي رجاع يسبح لله تعالى. وقوله {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي وقوينا ملك داود بمنحنا إياه كل أسباب القوة المادية والروحية. {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} وهي النبوة والإصابة في الأمور والسداد فيها قولا كان أو فعلاً. {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي حسن القضاء والبصيرة فيه، والبيان الشافي في كلامه، فبه اقتده يا رسولنا.
هداية الآيات
من هداة الآيات:
1- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر على أذى قريش وتكذيبها وعنادها.
2- تهديد قريش إذا أصرت على التكذيب بأشد أنواع العقوبات.
3- بيان استهزاء المشركين واستخفافهم بأخبار الله تعالى وشرائعه.
4- مشروعية الأسوة والاقتداء بالصالحين.
5- بيان آية تسخير الله تعالى الجبال والطير لداود تسبح الله تعالى معه.
6- حسن (2) صوت داود في قراءته وتسبيحه.
7- مشروعية صلاة الإشراق والضحى.
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ
__________
1 - قال ابن عباس رضي الله عنهما كنت أمر بهذه الآية بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى (الضحى) وقال: "يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. وروى البخاري عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي بثلاث خصال لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر.
2 - شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي موسى الأشعري وقد سمعه يقرأ القرآن ويرتل بحسن صوت لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود. والمزمار والمزمور الصوت الحسن وبه سميت آلة الزمر مزماراً.(4/441)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
شرح الكلمات:
هل أتاك: الاستفهام هنا للتعجب أي حمل المخاطب على التعجب.
نبأ الخصم: أي خبر الخصم الغريب في بابه العجيب في واقعه.
إذ تسوروا المحراب: أي محراب مسجده إذ منعوا من الدخول من الباب فقصدوا سوره ونزلوا من أعلى السور.
بغى بعضنا على بعض: أي تعدّى بعضنا على بعض.
فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط: أي احكم بالعدل ولا تجر في حكمك.
واهدنا إلى سواء الصراط: أي أرشدنا إلى العدل في قضيتنا هذه ولا تمل بنا إلى غير الحق.
إن هذا أخي: أي على ديني في الإسلام.
فقال أكفلنيها: أي اجعلني كافلها بمعنى تنازل لي عنها وملكنيها.
وعزني في الخطاب: أي غلبني في الكلام الجدلي فأخذها مني.
لقد ظلمك بسؤال نعجتك: أي بطلبه نعجتك وضمها إلى نعاجه.
من الخلطاء ليبغي بعضهم: أي الشركاء يظلم بعضهم بعضا.
وظن داود أنما فتناه: أي أيقن داود أنما فتنه ربه أي اختبره.
فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب: أي طلب المغفرة من ربه بقوله أستغفر الله وسقط ساجداً على الأرض وأناب أي رجع تائباً إلى ربه.
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب: أي وحسن مرجع عندنا وهي الجنة والدرجات العلا فيها.(4/442)
معنى الآيات:
ما زال السياق في تسلية الرسول وحمله على الصبر على ما يعاني من كفار قريش من تطاول وأذى فقال له ربه تعالى {هَلْ أَتَاكَ} إلى آخر الآيات. وذلك أن داود (1) عليه السلام ذكر مرة في نفسه ما أكرم الله تعالى به إبراهيم وإسحق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس، فتمنى مثله فقيل له إنهم امتحنوا فصبروا فسأل أن يبتلى كالذي ابتلوا به ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر فاختبره الله تعالى بناء على رغبته فأرسل إليه ملكين (2) في صورة رجلين فتسورا عليه المحراب كما يأتي تفصيله في الآيات وهو قوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ} يا رسولنا نبأ الخصم (3) وهما ملكان في صورة رجلين، ولفظ الخصم يطلق على الواحد والأكثر كالعدو فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي، وهذا عدوي وهؤلاء عدوي. وقوله {إِذْ تَسَوَّرُوا (4) الْمِحْرَابَ} أي اطلعوا على سور المنزل الذي هو المحراب في عرف بني إسرائيل ولم يدخلوا من الباب لأن الحرس منعهم من ذلك، لأن لداود وقتاً ينقطع فيه للعبادة فلا يسمح بمقابلة أحد وقوله {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ} وهو في محرابه {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} أي ارتاع واضطرب نفسا {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ} أي نحن خصمان {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي اعتدى بعضنا على بعض جئنا نتحاكم إليك {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} أي ولا تجر في الحكم {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أي إلى وسط (5) الطريق فلا تمل بنا عن الحق. ثم عرضا عليه القضية فقال أحدهما وهو المظلوم عارضاً مظلمته {إِنَّ هَذَا أَخِي} أي في الإسلام {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي ملكنيها أضمها إلى نعاجي، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي وغلبني في الكلام والجدال وأخذها مني. فقال داود على الفور وبدون أن يسمع من الخصم الثاني {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وعلل لذلك بقوله {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} أي الشركاء في زرع أو ماشية أو تجارة {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهم أهل الإيمان والتقوى فإنهم يسلمون من
__________
1 - ذكر المفسرون هنا نقلاً عن كتب بني إسرائيل عجائب وغرائب في قصة داود هذه من أبشعها أنه نظر من كوة المحراب فرأى امرأة تغتسل فأحبها وطلبها بأن أرسل زوجها إلى الجهاد ليموت قتيلاً حتى يتزوج داود امرأته بعد موته أعرضنا عن هذه الأباطيل منزهين نبي الله عن هذه الأكاذيب الممجوجة التي لا يرتكبها أقل الناس إيماناً وشأناً كما نسبوا إلى يوسف ما نسبوا، رواية عن اليهود وهم أكذب خلق الله تعالى بعد أن لعنوا بظلمهم.
2 - لا خلاف بين المفسرين أن الخصمين كانا ملكين. انتهى.
3 - شاهده قول الشاعر:
وخصم غضاب ينفضون لحاهم
كنفض البراذين العراب المخاليا
4 - إذ ظرف للزمان الماضي متعلق بمحذوف تقديره: تحاكم الخصم إذ تسوروا الخ.
5 - سواء الصراط أي وسط الطريق وهذا كناية عن الحكم بالعدل عدم الجور عن الحق أي الميل كمن يميل إلى جانب الطريق.(4/443)
مثل هذه الاعتداءات، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي وهم قليل جداً، وهنا طار الملكان من بين يدي داود عرجا إلى السماء فعلم عندئذ أنما فتنه ربه كما رغب إليه وأنه لم يصبر حيث قضى بدون أن يسمع من الخصم الثاني فكانت زلة أرته أن ما ناله إبراهيم وإسحق ويعقوب من الكمال كان نتيجة ابتلاء عظيم، وهنا استغفر داود ربه {وَخَرّ (1) َ رَاكِعاً وَأَنَابَ} يبكي ويطلب العفو وأناب إلى ربه في كل أمره كله، وذكر تعالى أنه قبل توبته وعفا عنه فقال تعالى {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} أي لقربة عندنا {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي مرجع وهو الدرجات العلا في دار الأبرار، جعلنا الله تعالى من أهلها بفضله ورحمته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فائدة عرض مثل هذا القصص تقوية قلب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتثبيت فؤاده وحمله على الصبر.
2- تقرير نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مثل هذا القصص لا يتأتى له قصه إلا بوحي إلهي.
3- تقرير جواز تشكل الملائكة في صورة (2) بني آدم.
4- حرمة إصدار القاضي أو الحاكم الحكم قبل أن يسمع الدعوى من الخصمين معاً إذ هذا محل الفتنة التي كانت لداود عليه السلام.
5- وجوب التوبة عند الوقوع في الذنب.
6- مشروعية السجود (3) عند قراءة هذه الآية {وخرّ راكعاً وأناب} .
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
__________
1 - أطلق الركوع وأريد به السجود وهو شائع كما في قوله الشاعر:
فخر على وجهه راكعا
وتاب إلى الله من كل ذنب
2 - وكثيرا ما كان جبريل يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة دحية بن خليفة الكلبي.
3 - في البخاري قال ابن عباس قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست من عزائم القرآن وقد رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد فيها قال ابن العربي: والذي عندي أنها ليست موضع سجود ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به وقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجود الشكر. ولما بشر بقتل أبي جهل قام فصلى ركعتين شكراً لله تعالى.(4/444)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
شرح الكلمات:
إنا جعلناك خليفة: أي خلفت من سبقك تدبر أمر الناس بإذننا.
ولا تتبع الهوى: أي هوى النفس وهو ما تميل إليه مما تشتهيه.
فيضلك عن سبيل الله: أي عن الطريق الموصل إلى رضوانه.
إن الذين يضلون عن سبيل الله: يخطئون الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإيمان والتقوى.
بما نسوا يوم الحساب: أي بنسيانهم يوم القيامة فلم يتقوا الله تعالى.
باطلاً: أي عبثاً لغير حكمة مقصودة من ذلك الخلق.
ذلك ظن الذين كفروا: أي ظن أن السموات والأرض وما بينهما خلقت عبثاً لا لحكمة مقصودة منها ظن الذين كفروا.
فويل للذين كفروا من النار: أي من واد في النار بعيد غوره كريه ريحه لا يطاق.
مبارك: أي لا تفارقه البركة يجدها قارئه والعامل به والحاكم بما فيه.
وليتذكر أولوا الألباب: أي ليتعظ به أصحاب العقول الراجحة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصة داود للعظة والاعتبار وتثبيت فؤاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى {يَا دَاوُدُ (1) } أي
__________
1 - افتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وعي المخاطب ليهتم بما سيقال له.(4/445)
وقلنا له أي بعد توبته وقبولها يا داود {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً (1) فِي الْأَرْضِ} خلفت من قبلك من الأنبياء تدبر أمر الناس {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي بالعدل الموافق لشرع الله ورضاه، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} وهو ما تهواه نفسك دون ما شرع الله، {فَيُضِلَّكَ (2) } أي اتباع الهوى يضلك عن سبيل الله المفضي بالعباد إلى الإسعاد والكمال وذلك أن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الإلهية انتظمت بها مصالح العباد ونفعت العامة والخاصة أما إذا كانت على وفق الهوى وتحصيل مقاصد النفس للحاكم لا غير أفضت إلى تخريب العالم بوقوع الهرج والمرج بين الناس وفي ذلك هلاك الحاكم والمحكومين، وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} القائم على الإيمان والتقوى وإقامة الشرع والعدل هؤلاء {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدنيا والآخرة {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (3) } أي بسبب نسيانهم ليوم القيامة فتركوا العمل له وهو الإيمان والتقوى، التقوى التي هي فعل الأوامر الإلهية واجتناب النواهي في العقيدة والقول والعمل. وقوله تعالى في الآية (27) {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ينفي تعالى ما يظنه المشركون وهو أن خلق الكون لم يكن لحكمة اقتضت خلقه وإيجاده وهي أن يعبد الله تعالى بذكره وشكره المتمثل في الإيمان والتقوى. وقوله {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظن أن الله خلق السماء والأرض وما بينهما لا لحكمة مقصودة وهي عبادة الله تعالى بما يشرع لعباده من العبادات القلبية والقولية والفعلية ظن الذين كفروا من كفار مكة وغيرهم. ثم توعدهم تعالى على كفرهم وظنهم الخاطئ الذي نتج عنه كفرهم وعصيانهم فقال {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أي ويل للذين كفروا من واد في جهنم بعيد الغور كريه الريح. وقوله تعالى في الآية (28) {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} هذا أولاً ردٌ لما زعمه المشركون من أنهم يعطون في الآخرة من النعيم مثل ما يعطى المؤمنون, وثانيا ينفي تعالى أن يسوى بين من آمن به واتبع هداه فأطاعه في الأمر والنهي, وبين من أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي كما نفى أن يجعل المتقين الذين آمنوا واتقوا فتركوا الشرك والمعاصي كالفجار الذين فجروا أي خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا فعاشوا كفاراً فجاراً وماتوا على ذلك. أي
__________
1 - لا يقال يا خليفة الله إلا لرسوله أما من عدا الرسل فإن الخليفة منهم هو خليفة لمن قبله وليس خليفة لله تعالى والصحابة قالوا لأبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - الفاء هي السببية والمضارع بعدها منصوب وفي الآية تحريم اتباع هوى النفس المسبب الخروج عن دائرة العدل والحق. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الحكم بعلم الحاكم بل بالبينة والشهود وقد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى فرساً فجحده البائع فلم لم يحكم عليه بعلمه وقال ومن يشهد لي؟ فقام خزيمة فشهد فحكم عليه.
3 - سمي يوم القيامة يوم الحساب لما يجري فيه من حساب الناس بما كسبوا من خير وشر وسمي يوم الدين للمجازاة التي تتم بعد الحساب، وسمي يوم الفصل للفصل بين الناس والحكم لهم فيما بينهم.(4/446)
فحاشا لله رب العالمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين أن يسوي بين أهل الإيمان والتقوى وبين أهل الشرك والمعاصي بل ينعم الأولين في دار النعيم، ويعذب الآخرين في سواء الجحيم وقوله تعالى في الآية (29) {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} أي هذا كتاب مبارك أنزلناه على رسولنا (1) ليدبروا آياته بمعنى يتأملوها ويترووها بعقولهم فيحصلوا على هداية القلوب والعقول فيؤمنوا بالله ويعملوا بطاعته فينجوا ويسعدوا. وليذكر أولوا (2) الألباب أي وليتعظ بمواعظه وينزجر بزواجره أولو الألباب أي العقول السليمة ووصف الكتاب وهو القرآن بالبركة هو كما أخبر الله لا تفارق القرآن البركة وهي الخير الدائم فكل من قرأه متدبراً عرف الهدى ومن قرأه تقرباً حصل على القرب وفاز به ومن قرأه حاكماً عدل في حكمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الحكم بالعدل على كل من حكم ولا عدل في غير الشرع الإلهي.
2- حرمة اتباع الهوى لما يفضي إليه بالعبد إلى الهلاك والخسار.
3- تقرير البعث والجزاء.
4- إبطال ظن من يظن أن الحياة الدنيا خلقت عبثاً وباطلا.
5- تنزيه الرب تعالى عن العبث والظلم.
6- فضيلة العقول لمن استعملها في التدبر والتذكر.
7- بركة (3) القرآن لا تفارقه أبداً وما طلبها أحد إلا وجدها.
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
__________
1 - ليدبروا أصلها ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما.
2 - الألباب العقول والواحد لب ويجمع على ألبّ كما يجمع بؤس على أبؤس قال أبو طالب قلبي إليه مشرف الألب، والتذكر هو استحضار الذهن ما كان يعلمه كاستحضار ما هو منسي أيضا.
3 - بركة القرآن تتجلى في صرفها النفس عن السوء ودفعها إلى الخير وذلك لمن يقرأ القرآن موقناً به متدبراً له فإن له في كل حرف عشر حسنات مع ما يفيضه على روحه من نور المعرفة وحب الآخرة.(4/447)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
شرح الكلمات:
ووهبنا لداود سليمان: أي ومن جملة هباتنا لداود الأواب أن وهبنا له سليمان ابنه.
نعم العبد إنه أواب: أي سليمان رجاع إلى ربه بالتوبة والإنابة.
الصافنات الجياد: أي الخيل الصافنات أي القائمة على ثلاث الجياد أي السوابق.
حب الخير: أي حب الخيل عن ذكر ربي وهي صلاة العصر لانشغاله باستعراض الخيل للجهاد.
حتى توارت بالحجاب: أي استترت الشمس في الأفق وتغطت عن أعين الناظرين.
ردوها علي: أي ردوا الخيل التي استعرضتها آنفا فشغلتني عن ذكر ربي.
فطفق مسحا بالسوق: أي فأخذ يمسح بسوق تلك الخيل وأعناقها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إفضال الله على داود (1) حيث قال {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} فذكر تعالى أنه وهبه سليمان وأثنى على سليمان بأنه نعم العبد لله، وعلل لتلك الأفضلية بقوله {إِنَّهُ أَوَّابٌ (2) } أي كثير الأوبة إلى الله تعالى، وهي الرجوع إلى الله بذكره واستغفاره عند الغفلة والنسيان العارض للعبد، وأشار تعالى إلى ذلك بقوله {إِذْ عُرِضَ (3) عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ (4) الْجِيَادُ} أي الخيل القوية على السير التي إذا وقفت تأبى أن تقف على أربع كالحمير بل تقف على ثلاث وترفع الرابعة، والجياد هي السريعة العدو، وهذا العرض كان استعراضاً منه لها إعداداً لغزو أراده فاستعرض خيله فانشغل بذلك عن صلاة العصر فلم يشعر إلا وقد غربت الشمس وهو معنى قوله تعالى {حَتَّى تَوَارَتْ} أي استترت الشمس {بِالْحِجَابِ} أي بالأفق الذي حجبها عن أعين الناظرين. فندم لذلك وقال {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أي الخيل {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} وصلى العصر، ثم عاد إلى إكمال الاستعراض فردها رجاله عليه فجعل يمسح بيده (5) سوقها وأعناقها حتى أكمل استعراضها هذا وجه الأوبة التي وصف بها سليمان عليه السلام في قوله تعالى {إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
__________
1 - جملة نعم العبد في محل نصب على الحال والمخصوص بالمدح محذوف أي سليمان.
2 - الجملة تعليلية لما سبقها.
3 - العارض هم سوّاس خيله. والعرض هو الإمرار والإحضار أمام الرائي والجياد جمع جواد وهو الفرس الشديد الحُضر، كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها. والجواد يجمع على أجواد وأجاود.
4 - الصافنات صفة لموصوف محذوف وهو الخيل أو الأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم والواحدة صافنة.
5 - ذكر كثير من المفسرين أن قوله فطفق مسحاً بالسوق والأعناق أنه ذبحها وأطمعها الفقراء لأنها ألهته عن الصلاة وما في التفسير هو اختيار ابن جرير وهو الحق والصواب.(4/448)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الولد الصالح هبة إلهية لوالده فليشكر الله تعالى من وهب ذلك.
2- الثناء على العبد بالتوبة الفورية التي تعقب الذنب مباشرة.
3- جواز استعراض الحاكم القائد قواته تفقداً لها لما قد يحدثه فيها.
4- إطلاق لفظ الخير على الخيل فيه تقرير أن الخيل إذا ربطت في سبيل الله كان طعامها وشرابها حسنات لمن ربطها في سبيل الله كما في الحديث الصحيح "الخيل لثلاث ... ".
5- ربط الطائرات النفاثة في الحظائر اليوم والمدرعات وإعدادها للقتال في سبيل الله حل محل ربط الجياد من الخيل في سبيل الله.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
شرح الكلمات:
ولقد فتنا سليمان: أي ابتليناه.
وألقينا على كرسيه جسداً: أي شق ولد ميت لا روح فيه.
ثم أناب: أي رجع إلى ربه وتاب إليه من عدم استثنائه في يمينه.
وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي: أي أعطني ملكاً لا يكون لسواي من الناس.
فسخرنا له الريح: أي استجبنا له فسخرنا له الريح تجري بأمره.(4/449)
رخاء حيث أصاب: أي لينة حيث أراد.
والشياطين كل بناء وغواص: أي وسخرنا له الشياطين من الجن منهم البناء ومنهم الغواص في البحر.
مقرنين في الأصفاد: أي مشدودين في الأصفاد أيديهم إلى أعناقهم في السجون المظلمة وذلك إذا تمردوا وعصوا أمراً من أوامره.
هذا عطاؤنا: أي وقلنا له هذا عطاؤنا.
فامنن أو أمسك: أي أعط من شئت وما شئت وامنع كذلك.
بغير حساب: أي منّا لك.
وإن له عندنا لزلفى: أي وإن لسليمان عندنا لقربة يوم القيامة.
وحسن مآب: أي مرجع في الجنة في الدرجات العلا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إنعام الله على آل داود فقد أخبر تعالى هنا عما منّ به على سليمان فأخبر تعالى أنه ابتلاه كما ابتلى أباه داود وتاب سليمان كما تاب داود ولم يسقط ذلك من علو منزلتهما وشرف مقامهما قال تعالى في الآية (34) {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ (1) } أي ابتليناه، وذلك أنه كما أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح أنه قال لأطأن الليلة مائة جارية (2) تلد كل جارية ولداً يصبح فارساً يقاتل ي سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله أي لم يستثن ووطئ نساءه في تلك الليلة فعوقب لعدم استثنائه فلم يلدن إلا واحدة جاءت بولد مشلول بالشلل النصفي فلما وضعته أمه أتوا به إلى سليمان ووضعوه على كرسيه. وهو معنى قوله تعالى {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} سليمان إلى ربه فاستغفر وتاب فتاب الله عليه وقال {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي (3) لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي لا يكون مثله لسواي من الناس وتوسل إلى الله في قبول دعائه بقوله {إِنَّكَ أَنْتَ
__________
1 - ذكر المفسرون لهذه الفتنة عدة أمور وهي قصص أشبه بالخرافات الإسرائيلية أمثلها ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اختصم إلى سليمان فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم ثم قضى بينهما بالحق فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى وما في التفسير أصح وأقرب إلى تفسير الآيات.
2 - نص الحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون.
3 - روى البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "إن عفريت من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع على صلاتي فحماني الله تبارك وتعالى منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام {رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} فرددته خاسئا.(4/450)
الْوَهَّابُ} فاستجاب الله تعالى له فسخر له الريح تجري بأمره حيث يريدها لأنها تحمل بساطه أو سفينته الهوائية التي غدوها شهر ورواحها شهر رخاء أي ليّنة حيث أصاب أي أراد، كما سخر له شياطين الجن منهم البناء الذي يقوم بالبناء للدور والمصانع ومنهم الغواص في أعماق البحر لاستخراج اللآلي، ومنهم من إذا عصاه وتمرد عليه جمع يديه إلى عنقه بصفد ووضعه تحت الأرض. هذا ما جاء في قول الله تعالى {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (1) } وقوله تعالى {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي أعطيناه ما طلب منا وقلنا له هذا عطاؤنا لك فامنن أي أعط ما شئت لمن شئت وامنع ما شئت عمن شئت بغير حساب منا عليك. وفوق هذا وإن لك عندنا يوم القيامة للقربة وحسن المرجع وهو قوله تعالى {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قول بعضهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إذ عدم الاستثناء في قوله لأطأن الليلة مائة جارية الحديث
عوقب به فلم تلد امرأة من المائة إلا واحدة وولدت طفلاً مشلولاً، وعوقب به نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانقطع عنه الوحي نصف شهر وأكربه ذلك لأنه لم يستثن عندما سئل عن ثلاث مسائل وقال غدا أجيبكم.
2- مشروعية التوبة من كل ذنب صغيراً كان أو كبيرا.
3- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى.
4- بيان إنعام الله تعالى على عبده سليمان.
5- بيان تسخير الله تعالى لسليمان الريح والجن وهذا لم يكن لأحد غيره من الناس.
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
__________
1 - الأصفاد جمع صفد بفتح الصاد والفاء القيد من حديد.(4/451)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
شرح الكلمات:
واذكر عبدنا أيوب: أي اذكر يا نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدنا أيوب بن عيصو بن إسحق بن إبراهيم.
بنصب وعذاب: أي بضر وألم شديد نسب هذا للشيطان لكونه سببا وتأدبا مع الله تعالى.
اركض برجلك: أي اضرب برجلك الأرض تنبع عين ماء.
هذا مغتسل بارد وشراب: أي وقلنا له هذا ماء بارد تغتسل منه، وتشرب فتشفى.
ضغثا: أي حزمة من حشيش يابس.
ولا تحنث: بترك ضربها.
نعم العبد: أي أيوب عليه السلام.
إنه أواب: أي رجاع إلى الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصص الأنبياء ليثبت به فؤاد نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى له {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا (1) أَيُّوبَ} وهو أيوب بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي دعاه قائلاً {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ (2) وَعَذَابٍ} (3) أي ألم شديد، وذلك بعد مرض شديد دام مدة تزيد على كذا سنة وقال في ضراعة أخرى ذكرت في سورة الأنبياء {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} قال تعالى {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} وقوله {ارْكُضْ (4) بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي لما أراد الله كشف الضر عنه قال له اركض برجلك أي اضرب برجلك الأرض ينبع منها ماءٌ فاشرب (5) منه واغتسل تشف ففعل فشفي كأن لم
__________
1 - قال القرطبي أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره.
2 - قرأ الجمهور بنصب بضم النون وتسكين الصاد وقرئ بنصب بفتحها كحزن وحزن والنصب الشر والبلاء الشديد والنصب بالتحريك التعب والإعياء
3 - الباء في بنصب سببية أي مسني نصب وعذاب بسبب وسوسة الشيطان لي فنسب النصب والعذاب إلى الشيطان لأنهما كانا بسبب وسواسه.
4 - الركض التحريك يقال ركب الدابة إذا حركها برجليه فركضت أي تحركت بسرعة وجملة اركض مقولة لقول محذوف أي قلنا له اركض برجلك.
5- أي ماء فيه شفاء ومغتسل اسم مفعول أي مغتسل به هو من باب الحذف والإيصال مثل تمرون الديار ولا تعرجوا: فكلامكم إذا عليّ حرام. أي تمرون بالديار فحذف الباء.(4/452)
يكن به ضر البتة. وقوله تعالى {وَوَهَبْنَا (1) لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أي عوضه الله تعالى عما فقد من أهل وولد، وقوله {رَحْمَةً مِنَّا} أي كان ذلك التعويض لأيوب {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي عبرة لأولي القلوب الحية الواعية يعلمون بها أن الله قد يبتلي أحب عباده إليه ليرفعه بذلك درجات عالية ما كان ليصل إليها دون ابتلاء في ذات الله والصبر عليه. وقوله {وَخُذْ بِيَدِكَ (2) ضِغْثاً} أي قلنا له خذ بيدك ضغثا أي حزمة من حشيش يابس واضرب به امرأتك ضربة واحدة إذ في الحزمة مائة عود وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة لما حصل منها من تقصير في يوم من أيام حياتهما، فأفتاه ربه تعال بما ذكر في هذه الآية. وقوله تعالى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ (3) صَابِراً} أي قد اختبرناه بالمرض وفقد الأهل والمال والولد فوجدناه صابراً، وبذلك أثنى عليه بقوله {نِعْمَ الْعَبْدُ} أي أيوب {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع إلى ربه في كل أمره لا يعرف إلا الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بالوحي الإلهي.
2- قد يبتلي الله تعالى من يحبه من عباده ليزيد في علو مقامه ورفعة شأنه.
3- فضل الصبر وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة.
4- مشروعية الفتيا وهي خاصة بأهل الفقه والعلم.
5- وجوب الكفارة على من حنث في يمينه.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ
__________
1 - لم تشر الآيات إلى أن أيوب رزئ بموت أهله ولا بفقد ماله وسياق الآيات يدل على أن أيوب مات أهله من بنين وأحفاد وما يذكر هنا من كونه فقد أهله بموتهم ثم أحياهم الله تعالى له من أحاديث بني إسرائيل، والظاهر أن الله تعالى حفظ لأيوب أهله ووهبه مثلهم أي أعطاه أهله وزاده ضعفهم ولو أراد ما تقوله الناس لقال وأحيينا له أهله ووهبنا له مثلهم والله أعلم.
2 - هذه الفتيا مما خص الله تعالى بها عبده أيوب فلا تتعداه إلى غيره والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير وما روى أبو داود من أن رجلا مريضا وجب عليه حد فأفتاهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضربه بعثكول نخل به مائة عود فضربوه به ضربة واحدة فإن الخبر إن صح فالعلة هي مرضه الشديد وعلته القائمة به.
3 - الجملة تعليلية لما تقدم من إنعام الله تعالى على أيوب أي وهبه الله ذلك الإنعام لصبره على ما ابتلاه به وكذا جملة إنه أواب.(4/453)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
شرح الكلمات:
واذكر عبادنا: أي اذكر صبرهم على ما أصابهم فإن لك فيه أسوة.
أولي الأيدي: أي أصحاب القوى في العبادة.
والأبصار: أي البصائر في الدين بمعرفة الأسرار والحكم.
بخالصة: أي هي ذكر الدار الآخرة والعمل لها.
لمن المصطفين الأخيار: أي من المختارين الأخيار جمع خيّر.
هذا ذكر: أي لهم بالثناء الحسن الجميل هنا في الدنيا.
وإن للمتقين: أي هم وغيرهم من سائر المؤمنين والمؤمنات.
لحسن مآب: أي مرجع أي عندما يرجعون إلى ربهم بالوفاة.
متكئين فيها: أي على الأرائك.
يدعون فيها بكل فاكهة: أي يطالبون فيها بفاكهة وذكر الفاكهة دون الطعام والشراب إيذاناً بأن طعامهم وشرابهم لمجرد التلذذ لا للتغذية كما في الدنيا.
قاصرات الطرف: أي حابسات العيون على الأزواج فلا ينظرون إلى غيرهم.
أتراب: أي أسنانهن متساوية وهي ثلاث وثلاثون سنة.
ماله من نفاد: أي ليس له انقطاع أبداً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر الأنبياء وما أكرموا به على صبرهم ليكون ذلك مثبتا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على دعوته والصبر عليها والتحمل في سبيل الوصول بها إلى غاياتها فقال تعالى له {وَاذْكُرْ} أي يا نبينا(4/454)
{عِبَادَنَا} لتتأسى بهم وهم {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ (1) } ولد و {وَيَعْقُوبَ} حفيده {أُولِي} أي أصحاب {الْأَيْدِي (2) } أي القوى في العبادة والطاعة {وَالْأَبْصَارِ} أي أبصار القلوب وذلك بالفقه في الدين ومعرفة أسرار التشريع، وقوله تعالى {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} أي خصصناهم {بِخَالِصَةٍ (3) } أي بخاصة امتازوا بها هي ذكر الدار أي الدار الآخرة بالعمل لها والدعوة إليها بالإيمان والتقوى، وقوله {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} أي المختارين {الْأَخْيَارِ} جمع خيّر (4) وهو المطبوع على الخير وقوله {وَاذْكُرْ} أي نبينا للائتساء {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ} وقوله {وَكُلٌّ} أي من داود ومن ذكر بعده من الأنبياء كانوا من الأخيار، وقوله {هَذَا ذِكْرٌ} أي لهم بالثناء الحسن لهم في الدنيا، {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} (5) هم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات {لَحُسْنَ مَآبٍ} أي مرجع وهو الجنة حيث يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت، وفسر ذلك المرجع بقوله تعالى {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي إقامة {مُفَتَّحَةً (6) لَهُمُ الْأَبْوَابُ} {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي على الأرائك الأسرة بالحجلة، {يَدْعُونَ فِيهَا} أي يطالبون فيها {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} ولم يذكر الطعام إشارة إلى أن مآكلهم ومشاربهم لمجرد التلذذ لا للتغذي بها كما في الدنيا، وقوله {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} يخبر تعالى أن لأولئك المتقين في الجنة قاصرات الطرف أي نساء قاصرات الطرف حابسات له على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم من الأزواج وقوله {أَتْرَابٌ} أي في سن واحدة وهي ثلاث وثلاثون سنة. وقوله {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} أي يقال لهم هذا ما توعدون {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} أي هذا المذكور من النعيم هو ما يعدكم به ربكم يوم القيامة. وقوله {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي ليس له انقطاع ولا فناء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة القوة في العبادة والبصيرة في الدين وفي الحديث (7) "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير".
2- فضل ذكر الدار الآخرة وتذكرها دائماً لأنها تساعد (8) على الطاعة.
__________
1 - أما إبراهيم فقد ذكر الله تعالى ما ابتلاه به من إلقائه في النار وكذا يعقوب من فقده ليوسف عليهم السلام وأما إسحاق فلم يذكر له في القرآن ابتلاء ولعله ذكر بين مبتلين وهما أصله وفرعه فكان ذلك ابتلاء له أيضا.
2 - جمع يد والمراد بها القوة لا الجارحة نحو والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون.
3 - قرأ نافع بخالصة ذكر الدار بإضافة خالصة إلى الدار وقرأ حفص بتنوين خالصة فتكون ذكر الدار عطف بيان على خالصة.
4 - جائز أن يكون الأخيار جمع خير بإسكان الياء وجمع خير بتشديدها مكسورة نحو أموات جمع ميت وميت.
5 - اللام للاختصاص ليس للملك ولا للتعليل بل للاختصاص إذ هي مختصة بالمتقين دون غيرهم.
6 - مفتحة منصوبة على الحال والأبواب مرفوع بمفتحة لأنه نائب فاعل.
7 - أخرجه مسلم في صحيحه.
8 - شاهده حديث " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة " حديث صحيح".(4/455)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
3- فضل التقوى وأهلها وبيان ما اعد لهم يوم الحساب.
4- نعيم الآخرة لا ينفد كأهلها لا يموتون ولا يهرمون.
5- فضيلة الائتساء بالصالحين والاقتداء في الخير بهم وهم أولوا القوة في العبادة والبصيرة في الدين.
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
شرح الكلمات:
هذا: المذكور للمتقين.
وإن للطاغين: أي الذين طغوا في الكفر والشر والفساد.
لشر مآب: أي جهنم يصلونها.
فبئس المهاد: أي الفراش الذي مهدوه لأنفسهم في الدنيا بالشرك والمعاصي.
هذا فليذوه: أي العذاب المفهوم مما بعده فليذوقوه.
حميم: أي ماء حار محرق.
وغساق: أي قيح وصديد يسيل من لحوم وفروج الزناة في النار.
وآخر من شكله أزواج: أي وعذاب آخر كالحميم والغساق أصناف.(4/456)
هذا فوج مقتحم معكم: أي يقال لهم عند دخولهم النار هذا فوج مقتحم معكم.
لا مرحبا بهم: أي لا سعة عليهم ولا راحة لهم إنهم صالوا النار.
قالوا: أي الأتباع للطاغين: بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا.
قالوا ربنا من قدم لنا هذا: أي الأتباع أي من كان سببا في عذابنا هذا في جهنم فزده عذابا.
وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً: أي قال الطاغون وهم في النار ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار في الدنيا يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمار وصهيب.
أتخذناهم سخرياً: أي كنا نسخر منهم في الدنيا.
أم زاغت عنهم الأبصار: أي أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ فلم نرهم.
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار: أي إن ذلك المذكور لأهل النار لحق ثابت وهو تخاصم أهل النار.
معنى الآيات:
بعد ذكر نعيم أهل الإيمان والتقوى ناسب ذكر شقاء أهل الكفر والفجور وهو أسلوب الترهيب والترغيب الذي امتاز به القرآن الكريم في هداية العباد. فقال تعالى {هَذَا (1) } أي ما تقدم ذكره من نعيم أهل السعادة {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} وهم المشركون الظلمة كأبي جهل وعتبة بن معيط والعاص بن وائل {لَشَرَّ مَآبٍ} أي لأسوأ مرجع وأقبحه وهو {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (2) } هي يمهدها الظالمون لأنفسهم. وقوله تعالى {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أي هذا حميم وغساق (3) فليذوقوه والحميم الماء الحار المحرق والغساق ما سال من جلود ولحوم وفروج الزناة من أهل النار كالقيح والصديد وقوله {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ (4) } أي وعذاب آخر من شكل الأول {أَزْوَاجٌ} أي أصناف عديدة وقوله تعالى {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} أي يقال (5) عند دخولهم النار هذا فوج أي فريق مقتحم معكم في النار، فيقول الطاغون {لا مَرْحَباً (6) بِهِمْ} أي لا سعة ولا راحة لهم {إِنَّهُمْ صَالُو
__________
1 - هذا مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تثنية للغرض قبله شبيهة بكلمة وبعد.
2 - الفاء في فبئس المهاد للترتيب والسبب.
3 - الغساق سائل في جهنم يقال غسق الجرح إذا سال منه ماء أصفر. قرأ الجمهور "غساق" بالتخفيف وقرأه حفص وبعض بالتشديد فهما لغتان فيه والتشديد للمبالغة في غاسق وهو أقرب.
4 - وآخر صفة لموصوف محذوف أي وعذاب آخر من شكله أي من مثله أزواج أي أصناف متعددة.
5 - يبدوا أن القائل هم الزبانية يخاطبون الطغاة وهم يعذبونهم هذا فوج.
6 - لا مرحبا نفي للكلمة التي يقولها المزور لمن زاره وهي إنشاء دعاء للوافد. وهي مصدر بوزن مفعل، والعامل فيه محذوف تقديره أتيت رحبا أي مكاناً ذا رحب، فإذا أراداو نفيه قالوا لا مرحباً بكم. قال الشاعر:
لا مرحبا بغدٍ ولا أهلا به
إذا كان تفريق الأحبة في غدٍ(4/457)
النَّارِ} أي داخلوها محترقون بحرها ولهبها، فيرد الأتباع عليهم قائلين: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً (1) بِكُمْ} أي لا سعة ولا راحة {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} إذ كنتم تأمروننا بالشرك والكفر والفجور قال تعالى {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي الذي انتهى إليه الطاغون وأتباعهم في النار، وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} أي العذاب {فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} أي يا ربنا ضاعف لهم العذاب مرتين لأنهم هم الذين قدموه لنا يوم كانوا يدعوننا إلى الشرك والباطل ويحضوننا عليه. وقوله تعالى {وَقَالُوا} أي الطغاة {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} (2) بيننا {أَتَّخَذْنَاهُمْ} (3) في الدنيا {سِخْرِيّاً} (4) نسخر منهم يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمّار وصهيب وخبيب، أمفقودون هم {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ} أبصارنا فلم نرهم، قال تعالى {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أي إن ذلك الكلام الذي دار بين أهل النار حق وصدق هو تخاصم أهل النار فاسمعوه أيها المشركون اليوم آيات تتلى وغدا يوم الحساب حقائق تشاهدوه وغصص تتجرع وحسرات تمزق الأكباد والقلوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الظلم والكفر وبيان جزاء أهله ويوم القيامة.
2- بيان ما يجري من خصام بين أهل النار للعظة والاعتبار.
3- شكوى الأتباع ممن اتبعوهم في الضلال ومطالبتهم بمضاعفة العذاب لهم.
4- تذكر أهل النار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدونهم متخلفين ورجعيين لأنهم كانوا لا يأتون الفجور والشرور مثلهم.
__________
1 - بل للإضراب الإبطالي لرد الشتم عليهم، وأنهم هم أولى به منه، والباء في بهم للبيان فهي بمعنى اللام أي لا مرحباً لهم يستحقونه عندنا.
2 - جمع شر بمعنى أشر كالأخيار جمع خير بمعنى أخير.
3 - قرأ نافع وحفص والجمهور اتخذناهم بهمزة الاستفهام وحذفت همزة الوصل والجملة بدل من جملة "ما لنا لا نرى رجالاً ... اتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار، وأم بمعنى بل أي بل زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم وزاغت بمعنى مالت.
4 - قرأ نافع سخرياً بضم السين وقرأ حفص بكسرها كما في سورة المؤمنون والسخرية الاستهزاء.(4/458)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
شرح الكلمات:
قل: أي يا رسولنا لمشركي قومك أي مخوفاً من عذاب الله.
وما من إله إلا الله الواحد القهار: أي وليس هناك من إله قط إلا الله الواحد القهار.
العزيز الغفار: أي الغالب الذي لا يمانع في مراده الغفار للتأئبين من عباده.
قل هو نبأ عظيم: أي قل يا رسولنا لكفار مكة القرآن نبأ عظيم وخبر جسيم.
أنتم عنه معرضون: لا ترغبون في سماعه ولا في تدبر معانيه.
بالملأ الأعلى: أي بالملائكة عندما شووِروا في خلق آدم.
إذ قال ربك للملائكة: أي اذكر لهم تدليلا على أنه يوحى إليك القرآن إذ قال ربك للملائكة.
خالق بشرا من طين: أي خالق آدم من مادة الطين وقيل فيه بشر لبدوّ بشرته.
من روحي: الروح جسم لطيف يسري في الجسم سريان النار في الفحم أو الماء في الشجر أو الكهرباء في الأسلاك.
إلا إبليس: أي لم يسجد.
استكبر: عن السجود لآدم كبراً وحسداً له.(4/459)
معنى الآيات:
بعد كل ذلك العرض للقصص ولما في الجنة والنار وما تقرر به من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء أمر تعالى رسوله أن يقول لمشركي قريش {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ (1) } أي مخوف من عذاب الله الواجب لكل من كفر به وكذب بآياته ولقائه وترك عبادته وعبد الشيطان عدوه، كما أخبركم مقررا أنه ليس هناك من إله قط إلا الله الواحد في ذاته وصفاته وربوبيته وعبادته القهار لكل قاهر والجبار لكل جبار رب السموات والأرض وما بينهما أي مالك لها متصرف فيها دون شريك له في ذلك. العزيز الانتقام ممن كفر به وعصاه الغفار لمن أناب إليه واتبع هداه. وقوله تعالى {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي يأمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين من أهل مكة هو أي (2) القرآن وما حواه من تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وعرض القصص والأحداث ووصف الجنة والنار نبأ عظيم أي خبر ذو شأن عظيم أنتم عنه معرضون تأبون سماعه والإيمان به والاهتداء بهديه. بدعوى أني اختلقته وافتريته وهي حجة داحضة وأدلتكم في ذلك واهية. كيف يكون ما أتلوه عليكم من القرآن افتراء مني عليكم وعلى الله ربي وربكم، وإنه ما كان لي (3) من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون (4) عندما قال الله للملائكة {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} وقال {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقال الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} كيف عرفت أنا هذا وحدثت به لو لم يكن وحياً من الله أوحاه إليّ. يا قوم إنه ما يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين أي
__________
1 - في هذه الآيات الثلاث الترهيب والترغيب ببيان قدرة الله وجبروته وبيان ربوبيته الموجبة للألوهية المستلزمة لمغفرته ورحمته لمن تاب إليه بتوحيده وطاعته بعد الإيمان به وبرسوله ولقائه.
2 - كون النّبأ هو القرآن هذا ما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله تعالى، ومن فسره بما سبق ذكره من الإنذار وما عرض من أحوال أهل الجنة وأهل النار فإن ما في التفسير شامل لكل ذلك هاد إليه ودال عليه والحمد لله.
3 - قوله تعالى: ما كان لي من علم الخ استئناف لأجل الاستدلال على صدق القرآن بأنه وحي من الله تعالى ولولا أنه وحي لما كان للرسول علم به لا إجمالا ولا تفصيلا ولهذا الاستدلال نظائر نحو ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا.
4 - قال بعض المفسرين تخاصم الملأ الأعلى هو أشراف قريش فيما بينهم سراً وقال آخرون هو تخاصم أهل النار وقيل والصواب ما في التفسير وهو أن الملأ الأعلى الملائكة وما جرى بينهم في شأن السجود لآدم وامتناع إبليس عن ذلك وفي الآية بعد تفسير هذا الاختصام وأما حديث السنن فلم يرد به ما في هذه الآيات ونصه "إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري يا رب - أعادها ثلاثاً- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات. قال وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات قال وما الدرجات؟ قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام. قال سل قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك هذا "حديث المنام".(4/460)
بين النذارة. فلم يوح إليّ الأمر بالتسلط عليكم وأخذكم بالشدة لأستعبدكم وتكونوا خولا لي وخدماً لا، لا. إنما يوحى إليّ لتقرير حقيقة واحدة وهي أني نذير لكم ولغيركم من عذاب الله المعدّ لمن كفر به وأشرك في عبادته، وفسق عن طاعته. وقوله تعالى في الآية (71) {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} هو آدم عليه السلام {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فحيى وصار بشراً سوياً {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي خروا على الأرض ساجدين له طاعة لأمرنا وتحيّة لعبدنا، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} سواء من كان منهم في السموات أو في الأرض {إِلَّا إِبْلِيسَ} استكبر عن السجود لآدم لزعمه الكاذب أنه خير منه لكونه من النار وآدم من طين، ولحسده أيضاً حيث فضله وفُضّل عليه، وكان بذلك الكبر والحسد من الكافرين إذ جحد معلوماً من طاعة الله بالضرورة وكيف وهو يتلقى الخطاب من الله تعالى بلا واسطة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بأدلته.
2- تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى.
3- عداوة إبليس لآدم وأن الحامل عليها الحسد والكبر وهما من شر صفات العبد.
4- تقرير أن من القياس ما هو شر وباطل كقياس إبليس إذ قاس النار على التراب فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك، إذ التراب أفضل، النار تحرق والتراب يحيي، وشتان ما بين الموت والحياة.
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ(4/461)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
شرح الكلمات:
لما خلقت بيدي: أي للذي خلقته بيدي وهو آدم فدل ذلك على شرفه.
أستكبرت أم كنت من العالين: أستكبرت الآن أم كنت من قبل من العالين المتكبرين والاستفهام للتوبيخ والتقريع لإبليس.
فاخرج منها: أي من الجنة.
فإنك رجيم: أي مرجوم مطرود.
وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين: أي طرده من الجنة وألحقه لعنة وهي الطرد من الرحمة إلى يوم الدين أي الجزاء وهو يوم القيامة.
قال رب فأنظرني: أي أخر موتي وأبق عليّ حيّا إلى يوم يبعثون أي الناس.
إلى يوم الوقت المعلوم: أي إلى النفخة الأولى وهي نفخة الموت والفناء.
إلا عبادك منهم المخلصين: أي الذين استخلصهم للإيمان بك وعبادتك ومجاورتك في الجنة.
قل ما أسألكم عليه من أجر: لا أسألكم على البلاغ أجراً تعطونه لي.
وما أنا من المتكلفين: أي المتقولين القرآن وما أنذركم به من تلقاء نفسي.
إن هو إلا ذكر للعالمين: أي ما أتلوه من القرآن وما أقوله من الهدى إلا ذكر للعالمين.
ولتعلمن نبأه بعد حين: أي ولتعلمن أيها المكذبون نبأ القرآن الذي أنبأ به من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بعد حين.(4/462)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما دار بين الرب تعالى وعدوه إبليس من حديث في الملأ الأعلى إذ قال تعالى بعد أن امتنع إبليس من السجود لآدم {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ (1) أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (2) } أي أيُّ شيء جعلك تمتنع من السجود لآدم وقد أمرتك بذلك {أَسْتَكْبَرْتَ} أي الآن {أَمْ كُنْتَ} من قبل {مِن (3) َ الْعَالِينَ} أي المستكبرين، وهذا الاستفهام من الله تعالى توبيخ لإبليس وتقريع له. وأجابه إبليس بما أخبر تعالى به عنه في قوله {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فاستعمل اللعين القياس الفاسد المردود عند أرباب العقول، إذ النار لم تكن أبداً خيرا من الطين، النار تحرق ونهايتها رماد، والطين لا يحرق ومنه سائر أنواع المغذيات التي بها الحياة الحبوب والثمار والفواكه والخضر واللحوم وحسبه أنه أصل الإنسان ومادة خلقته. فأيّ شرف للنّار أعظم لو كان اللعين يعقل. وهنا قال تعالى له {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي مطرد مبعد لا ينبغي أن تبقى في رحمة الله، {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} لا تفارقك على مدى الحياة وهي بُعد من رحمتي طوال الحياة.
وهنا قال اللعين لما آيس من الرحمة {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} أي أبق عليّ حياً لا تمتني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} حتى يتمكن من إغواء بني آدم، ولا يموت إذا ماتوا في النفخة الأولى فلا يذوق هو الموت وعلم الله ما أضمره في نفسه فرد عليه بقوله {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي الممهلين المبقى على حياتهم {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهو النفخة الأولى حتى يموت مع سائر الخلائق ولما علم اللعين أنه أنظر قال في صفاقة وجه ووقاحة قول مقسماً بعزة الله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فاستثنى اللعين عباد الله المؤمنين المتقين الذين استخلصهم الله لطاعته وجواره في دار كرامته. وهنا قال تعالى رداً على اللعين {قَالَ (4) فَالْحَقُّ} أي أنا الحق {وَالْحَقَّ أَقُولُ} {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من الإنس والجن أجمعين. وإلى هنا انتهى ما دار من خصومة في الملأ الأعلى، وكيف عرف محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وأخبر به لولا أنه
__________
1 - ذكر صاحب تفسير التحرير أن خطاب الله تعالى لإبليس بعد إبلاسه كان بواسطة ملك من الملائكة معللاً ذلك بعدم أهلية إبليس بعد إبلاسه لذلك لما فيه من الشرف والكمال ولم أقف على من رأى هذا الرأي غيره والله أعلم بصحته أو خطأه.
2 - في قوله بيدي إثبات صفة اليدين لله تعالى وقد وردت أحاديث صحيحة تقرر ذلك وتثبته فوجب الإيمان بهذه الصفة الذاتية لله تعالى مع تنزيهه تعالى أن يكون يداه تشبه يدي من له يدان من خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
3 - العلو الشرف فمعنى قوله تعالى من العالين أي من أهل علو المراتب وشرف المنازل فلذا امتنعت من السجود لآدم عليه السلام.
4 - قرأ الجمهور قال فالحق بنصب الحق على أنه مفعول مطلق تقديره أحق الحق، وقرأ حفص بالرفع على تقدير فالحق قولي، أو أنا الحق أي على الابتداء، وأما الحق الثاني فهو منصوب إجماعاً لفعل أقول.(4/463)
وحي يوحى إليه. وهنا قال تعالى لرسوله قل لقومك المكذبين برسالتك {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على البلاغ {مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (1) } الذين يتقولون على الله ويقولون ما لم يقل {إِنْ هُوَ} أي القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} من الإنس والجن يذكرون به فيؤمنون ويهتدون {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي ولتعرفن صدق ما أخبر به من وعد ووعيد وصلاحية ما تضمنه من تشريع بعد حين، وقد عرف بعضهم ذلك يوم بدر، ويوم الفتح، ويوم مؤتة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما.
2- مشروعية القياس إن كان قياساً صحيحاً، وبيان أخطار القياس الفاسد.
3- مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه.
4- بيان أن من كتب الله سعادتهم لا يقوى الشيطان على إغوائهم وإضلالهم.
5- لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين.
6- ذم التكلّف (1) المفضي إلى الكذب والتقول على الله والرسول والمؤمنين.
7- ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل.
__________
1 - التكلف: معالجة الكلفة وهو ما يشق على المرء عمله أو علمه أو قوله لعدم قدرته على ذلك روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من سئل عما لا يعلم فليقل لا أعلم، ولا يتكلف فإن قوله لا أعلم علم وقد قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} . روي أن للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم. وروى الدارقطني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر في بعض أسفاره على رجل جالس على مقراة له وقال له عمر يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك*؟ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلف، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور، كما روى مالك في الموطأ أن عمر خرج في ركب معهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد السباع حوضك؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.
* المقراة: الحوض يجمع فيه الماء.(4/464)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
سورة الزمر (1)
مكية
وآياتها خمس وسبعون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
شرح الكلمات:
تنزيل الكتاب: أي القرآن من الله.
العزيز الحكيم: أي العزيز في مُلكه وانتقامه الحكيم في صنعه وتدبير خلقه.
مخلصاً له الدين: أي مفرداً إياه بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحداً.
لله الدين الخالص: أي له وحده خالص العبادة لا يشاركه في ذلك أحد سواه.
أولياء: أي شركاء وهي الأصنام.
ليقربونا إلى الله زلفى: تقريباً وتشفع لنا عند الله.
من هو كاذب كفار: أي كاذب على الله كفار بعبادته غير الله تعالى.
سبحانه: أي تنزيهاً له عن الولد والشريك.
__________
1- سميت بالزمر لذكر لفظ الزمر فيها ولم يذكر في غيرها قط والزمر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر.(4/465)
هو الله الواحد القهار: أي المعبود الحق الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه القهار لخلقه.
معنى الآيات:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ (1) مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} يخبر تعالى أن تنزيل القرآن كان منه سبحانه وتعالى وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه. ولم يكن عن غيره بحال من الأحوال وقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (2) يخبر تعالى رسوله بقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ (3) } أي القرآن العظيم {بِالْحَقِّ} في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه {فَاعْبُدِ (4) اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أي العبادة فلا تعبد معه غيره فإن العبادة لا تصلح لغيره أبداً {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ (5) } أي شركاء يعبدونهم ويقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي تقريبا ويشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا هؤلاء يحكم الله بينهم في ما هم فيه مختلفون مع المؤمنين الموحدين وذلك يوم القيامة وسيجزي بعدله كلا بما يستحقه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب. وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} يخبر تعالى بحرمان أناس من هدايته وهم الذين توغلوا في الفساد فكذبوا على الله تعالى وعلى عباده وأصبح الكذب وصفاً لازماً لهم، وكفروا وبالغوا في الكفر بالله وآياته ورسوله ولقائه فأصبح الكفر وصفاً ثابتاً لهم، إذ هذه سنته في حرمان العبد من الهداية ليمضي فيه حكم الله بإشقائه وتعذيبه يوم القيامة. وقوله تعالى {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} كما يزعم المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، وكما قال النصارى المسيح ابن الله، وكما قال اليهود عزير ابن الله، ولو أراد الله أن يكون له ولد لاصطفى واختار مما يخلق ما يشاء، ولا يتركهم ينسبون إليه الولد افتراء عليه وكذباً، ولكنه تعالى منزه عن صفات المحدثين وافتقار المخلوقين إذ هو الله ذو الألوهية على سائر خلقه الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه وحكمه القهار لسائر خلقه فسبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
1 - تنزيل الكتاب، أي القرآن – جائز أن يكون تنزيل الكتاب مبتدأ والخبر من الله وجائز أن يكون تنزيل خبر والمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل.
2 - بالحق الباء للملابسة أي ملابساً للحق فلا باطل معه.
3 - فيه تقرير نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإعلان عن شرفه بإنزال الكتاب عليه.
4 - الفاء للتفريع، أي فبناء على إنزالنا عليك الكتاب فاعبد الله، ومخلصاً حال، والدين العبادة، وإخلاص العبادة تجريدها من الالتفات إلى غير الله تعالى لطلب مدح أو نفع أو دفع مكروه أو اتقاء ذم.
5 - ألا لله الدين الخالص افتتاح الجملة بألا للتنبيه على شرف ما دخلت عليه والتنويه به. اللام في لله للملك والاستحقاق وفي الآية دليل على وجوب الإخلاص في العبادة ووجوب النية فيها ولا عبادة بدون نية صحيحة ولا يضر النية الخاطر يخطر بالقلب لا يملك المرء دفعه.(4/466)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- تقرير التوحيد.
3- بطلان الشرك والتنديد بالمشركين.
4- تقرير البعث والجزاء يوم القيامة.
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
شرح الكلمات:
خلق السموات والأرض بالحق: أي من أجل أن يذكر ويشكر لا من أجل اللهو والعبث.
يكور الليل على النهار: أي يدخل أحدهما في الآخر فإذا جاء الليل ذهب النهار والعكس كذلك.(4/467)
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما فلا يزالان يدوران في فلكيهما إلى نهاية الحياة وبدورتهما تتم مصالح سكان الأرض.
خلقكم من نفس واحدة: هي آدم عليه السلام.
ثم جعل منها زوجها: هي حواء خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.
وأنزل لكم من الأنعام: أي أنزل المطر فأنبت العشب فخلق الأنعام فهذا وجه لإنزالها.
ثمانية أزواج: أي من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين.
يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق: أي أطواراً طوراً بعد طورٍ نطفة فعلقة فمضغة.
في ظلمات ثلاث: أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس ذات وزر وزرَ نفس أخرى.
إنه عليم بذات الصدور: أي ما يخفيه المرء في صدره وما يسره في ضميره.
معنى الآيات:
هذه الآيات الكريمة في تقرير التوحيد بذكر الأدلة والبراهين التي لا تدع للشك مجالاً في نفوس العقلاء فقال تعالى في الآية (5) {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ (1) وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما خلقاً على غير مثال سابق وخلقهما بالحق لغايات سامية شريفة وليس للباطل والعبث ومن تلك الغايات أن يعبد فيها فيذكر ويشكر. وقوله {يُكَوِّرُ (2) اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يغشي هذا هذا فيغطيه به ويستره كأنما لفّه عليه وغشاه به وهذا برهان ثان فالأول برهان الخلق للسموات والأرض وبرهان ثالث في قوله {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ (3) مُسَمّىً} يدوران في فلكيهما إلى قيام الساعة وفي ذلك من الفوائد والمصالح للعباد ما لا يقادر قدره من ذلك معرفة عدد السنين والحساب. وقوله {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (4) } إعلان وتنبيه بأنه تعالى عزيز في بطشه وانتقامه من أعدائه غفّار لعباده التائبين إليه. وقوله تعالى في الآية (6) {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي آدم عليه السلام فقد صح أنه
__________
1 - هذه الجملة بيان لجملة هو الله الواحد القهار.
2 - وهذه الجملة بيان ثان أيضاً وحقيقة التكوير أنه اللف واللي يقال كور العمامة على رأسه إذا لفها ولوّاها وهذا تمثيل بديع لتعاقب الليل والنهار.
3 - كل التنوين للعوض أي كل واحد منهما يجري لأجل مسمى هو أجل فنائهما.
4 - استئناف ابتدائي وجملة فإنكم الخ استدلال على صفة العزة والمغفرة في العزيز الغفار.(4/468)
لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذرّيته وأشهدهم على أنفسهم، ولهذا جاء العطف بثم إذ {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذرّيته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه الأيسر، وهذا برهان وآخر في قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم ضأن وماعز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء، (1) وجائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض. وبرهان رابع في قوله {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ (2) خَلْقٍ} أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم نكسوا العظام لحماً فإذا هو إنسان كامل وقوله {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} هي ظلمة بطن الأم، ثم ظلمة الرحم، ثم ظلمة المشيمة، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السَّلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال {ذَلِكُمُ اللهُ (3) رَبُّكُمْ} أي خالقكم ومعبودكم الحق {لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود إلا هو غذ لا تصلح العبادة إلا له {فَأَنَّى (4) تُصْرَفُونَ} أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجبٌ. وقوله في الآية (7) {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي بعد أن بين بالأدلة القاطعة وجوب الإيمان به ووجوب عبادته، وأنه الرب الحق وإله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره أبداً لأنه غنيّ عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران، كما أنهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثيبهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء. وقوله {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها. وقوله تعالى {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد الموت {فَيُنَبِّئُكُمْ
__________
1 - ووجه ثالث وهو جائز أن يكون الإنزال بمعنى التسخير نحو وأنزلنا الحديد أي ذللناه لكم تصنعون منه السيوف والرماح وهذ كقولك نزل فلان على رأي فلان قال الشاعر:
أنزلني الدهر على حكمه
من شاهق عال إلى خفض.
2 - أي طوراً بعد طور لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويأمر بكتب أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" الحديث (مسلم) .
3 - هذه الجملة كالفذلكة والنتيجة لما سبق من ذكر آيات العلم والقدرة والرحمة الموجبة للألوهية الحقة للرب الحق سبحانه وتعالى.
4 - فأنى تصرفون الاستفهام للإنكار مشوباً بالتعجب من حال انصرافهم عن الحق بعد ظهور أدلته وسطوع براهينه، عجبا لكم كيف صرفتم وبناء الفعل للمجهول إشارة واضحة إلى أنهم يصرفون بقوى غير قواهم وهي قوى الشياطين التي تزين لهم الباطل وتبغض لهم الحق.(4/469)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم بأعمالكم خفيها وجليها صغيرها وكبيرها {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فضلا عما كان عملاً ظاهرا غير باطن ويجزيكم بذلك الخير بمثله والشر بمثله. فهذا ربكم الحق وإلهكم الصدق فآمنوا به ووحدوه ولا تشركوا به وأطيعوه ولا تعصوه تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة. ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان آيات الله في الكون وإيرادها أدلة على التوحيد.
2- بيان إفضال الله تعالى على العباد في خلقهم ورزقهم.
3- بيان أن الكفر أعجب من الإيمان إذ أدلة الإيمان لا تعد كثرة وأما الكفر فلا دليل عليه البتة ومع هذا أكثر الناس كافرون.
4- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وافتقار الخلق إليه.
5- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة وتقريرها.
6- بيان إحاطة علم الله بالخلق وعلمه بأفعالهم وأحوالهم ظاهراً وباطناً.
وَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
شرح الكلمات:
وإذا مس الإنسان: الإنسان أي المشرك.
ضرّ: أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه.(4/470)
دعا ربه منيبا إليه: أي سأل ربه كشف ما أصابه من ضر راجعا إليه معرضاً عمن سواه.
إذا خوله نعمة منه: أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر.
نسي ما كان يدعو إليه من قبل: أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى.
وجعل لله أنداداً: أي شركاء.
ليضل عن سبيله: أي ليضل نفسه وغيره عن الإسلام.
قل تمتع بكفرك قليلا: أي قل يا نبينا لهذا الكافر الضال المضل تهديداً تمتع بكفرك بقية أجلك.
إنك من أصحاب النار: أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.
قانت آناء (1) الليل: أي مطيع لله آناء الليل أي ساعات الليل ساجدا وقائماً في الصلاة.
إنما يتذكر أولوا الألباب: أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيّرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد، فقال تعالى مخبراً عن حال المشرك بربه المتخذ له أنداداً يعبدها معه {وَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ (2) ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} أي سأل ربّه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه يا رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ (3) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} حتى إذا فرّج الله كربه ونجاه، ترك دعاء الله، وأقبل على عبادة غير الله، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} أي شركاء {لِيُضِلَّ} (4) نفسه وغيره. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلاً أي مدة بقية عمرك إنك من أصحاب النار، هكذا هدده ربّه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعاً حسناً
__________
1 - الآناء جمع أنىً مثل أمعاء ومَعىً وأقفاء وقفىً والأنى الساعة.
2 - الإنسان هو اسم جنس دال على غير معين بل هو عام في كل مشرك بالله تعالى كافر به.
3 - قوله أعطاه إذ التخويل الإعطاء والتمليك دون قصد عوض مأخوذ من الخول وهو اسم للعبد والخدم وفي الحديث "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم" (الحديث) .
4 - اللام لام العاقبة، أي هو لم يقصد إضلال نفسه.(4/471)
جميلا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (8) أما الآية الثانية (9) فيقول تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ (1) } أي مطيع لله ورسوله في أمرهما ونهيهما {آنَاءَ اللَّيْلِ} أي ساعات الليل تراه ساجدً في صلاته أو قائماً يتلوا آيات الله في صلاته، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى أن يقيه منه، ويرجو رحمة ربّه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها هذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار، والجواب معلوم للعقلاء (2) وقوله تعالى {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإتيان بمحابّ الله تقرباً إليه، وعلى ترك مكارهه تحبّباً إليه، هل يستوي هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التوجيه الإلهي والإرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
2- الكشف عن داخلية الإنسان قبل أن يؤمن ويُسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإيمان والتوحيد.
3- بشرى الضالين عن سبيل الله المضلين عنه بالنار.
4- مقارنة بين القانت المطيع، والعاصي المضل المبين، وبين العالم والجاهل، وتقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي. وأفضلية العالم بالله وبمحابه ومكارهه والجاهل بذلك.
5- فضل العالم على الجاهل لعمله بعلمه ولولا العمل بالعلم لاستويا في الخسة والانحطاط.
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
__________
1 - قرأ نافع أمن هو قانت بتخفيف الميم – وقرأ حفص أمن بتشديدها وجائز أن تكون الهمزة همزة استفهام ومن مبتدأ والخبر مقدر نحو أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر وعلى قراءة التشديد فالهمزة للاستفهام وأمن كلمتان أم المعادلة أدغمت في من المبتدأ وجائز أن تكون أم منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي.
2 - وهو أنهما لا يستويان بحال من الأحوال.(4/472)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإيمان والتقوى.
للذين أحسنوا: أي أحسنوا العبادة.
حسنة: أي الجنة.
أرض الله واسعة: أي فهاجروا فيها لتتمكنوا من عبادة الله إن منعتم منها في دياركم.
أمرت: أي أمرني ربي عز وجل.
مخلصاً له الدين: أي مفرداً إياه بالعبادة.
أول المسلمين: أي أول من يسلم في هذه الأمة فينقاد لله بعبادته والإخلاص له فيها.
عذاب يوم عظيم: أي عذاب يوم القيامة.
قل: أي يا رسولنا للمشركين.
الله أعبد: أي لا أعبد معه سواه.
مخلصا له ديني: أي مفرداً إياه بطاعتي وانقيادي.
فاعبدوا ما شئتم: أي إن أبيتم أيها المشركون عبادة الله وحده فاعبدوا ما شئتم من الأوثان فإنكم خاسرون.
خسروا أنفسهم: أي فحرموها الجنة وخلدوها في النار.
وأهليهم: أي الحور العين اللائي كن لهم في الجنة لو آمنوا واتقوا بفعل الطاعات وترك المنهيات.
ظلل من النار: أي دخان ولهب وحر من فوقهم ومن تحتهم.(4/473)
ذلك: أي المذكور من عذاب النار.
يا عباد فاتقون: أي يا من أنا خالقهم ورازقهم ومالكهم وما يملكون فلذلك اتقون بالإيمان والتقوى.
معنى الآيات:
لقد تضمنت هذه الآيات الخمس توجيهات وإرشادات ربّانيّة للمؤمنين والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففي الآية الأولى (10) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين اتقوا ربكم أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذلك بطاعته وطاعة رسوله، ويعلمهم معللا أمره إياهم بالتقوى بأن للذين أحسنوا الطاعة المطلوبة منهم الجنة، كما يعلمهم أنهم إذا لم يقدروا على الطاعة بين المشركين فليهاجروا إلى أرض يتمكنون فيها من طاعة الله ورسوله فيقول {وأرض الله واسعة} أي فهاجروا فيها ويشجعهم على الهجرة لأجل الطاعة فيقول {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ (1) } أي على الاغتراب والهجرة لأجل طاعة الله والرسول {وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بلا كيل ولا وزن ولا عد لأنه فوق ذلك. وفي الآية الثانية (11) والثالثة (12) يأمر تعالى رسوله موجهاً له بأن يقول للناس {إِنِّي أُمِرْتُ} أي أمرني ربي أن أعبد الله باعتقاد وقول وفعل ما يأمرني به وترك ما ينهاني عنه من ذلك مخلصاً له الدين، فلا أشرك في دين الله أحداً أي في عبادته أحداً، كما أمرني أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة أي أول من يسلم قلبه وجوارحه الظاهرة والباطنة لله تعالى وفي الآيات الرابعة (13) والخامسة (14) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين إني أخاف إن عصيت ربي، فرضيت بعبادة غيره وأقررتها عذاب (2) يوم عظيم كما يأمره أن يقول اللهَ أَعْبدُ أي الله وحده لا شريك له أعبد حال كوني مخلصا له ديني. وأما أنتم أيها المشركون إن أبيتم التوحيد فاعبدوا ما شئتم (3) من آلهة دونه تعالى ويأمره أن يقول لهم إن الخاسرين بحق ليسوا بأولئك الذين يخسرون دنياهم فيفقدون الدار والبعير أو المال والأهل والولد بل هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم (4) القيامة، وذلك
__________
1 - وفسر بعضهم الصبر بالصوم وحقاً الصوم من الصبر وحسب الصوم أجراً أن يقول الله تعالى "الصوم لي وأنا أجزي به". إلا أن الآية عامة في الصبر في مواطنه الثلاث وهي صبر على الطاعات وصبر دون المعاصي وصبر على البلاء. ومن ذلك الهجرة إلى دار الإسلام.
2 - ذهب بعضهم إلى أن الآية منسوخة بقوله تعالى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ولا معنى لهذا النسخ إذ النسخ لا يكون في الأخبار. وإنما الآية من باب الفرض والتقدير إذ الرسول معصوم ولا يعصي وإذاً لا خوف عليه وإنما من باب طلب الهداية للآخرين قال له قل لهذا.
3 - الأمر هنا للتهديد والوعيد والتوبيخ وليس للإذن بعبادة غير الله إذ القرآن كله نزل ليعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه سواه فكيف يأذن بعبادة ما شاءوا من آلهة.
4 - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. وهو كذلك لقوله تعالى {أولئك هم الوارثون} أي يرث المسلم الكافر يرثه في أهله ومكانه في الجنة وسبب الإرث الإيمان والتقوى بإذن الله تعالى.(4/474)
بتخليدهم في النار، وبعدم وصولهم إلى الحور العين المعدة لهم في الجنة لو أنهم آمنوا واتقوا. ألا ذلك أي هذا هو الخسران المبين ثم يوضح ذلك الخسران بالحال التالية وهي أن لهم وهم في النار من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي طبقات من فوقهم طبقة ومن تحتهم أخرى وكلها دخان ولهب وحر وأخيراً قوله تعالى {ذَلِكَ} أي المذكور من الخسران وعذاب الظلل يخوف الله تعالى به عباده المؤمنين ليواصلوا طاعتهم وصبرهم عليها فينجوا من النار ويظفروا بالجنان وقوله يا عباد فاتقون أي يا عبادي المؤمنين فاتقون ولا تعصون يحذرهم تعالى نفسه، والله رءوف بالعباد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم.
2- وجوب التقوى والصبر على الأذى في ذلك.
3- تقرير التوحيد بأن يعبد الله وحده.
4- فضل الإسلام وشرف المسلمين.
5- تقرير البعث والجزاء ببيان شيء من أهوال الآخرة وعذاب النار فيها.
6- كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يعد خسراناً أبدا.
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ (20)(4/475)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
شرح الكلمات:
والذين اجتنبوا الطاغوت (1) أن يعبدوها: أي تركوا عبادة الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله.
وأنابوا إلى الله: أي بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
لهم البشرى: بالجنة عند الموت وفي القبر وعند القيام من القبور.
فيتبعون أحسنه: أي أوفاه وأكمله وأقربه إلى مرضاة الله تعالى.
أولو الألباب: أي العقول السليمة.
أفمن حق عليه كلمة العذاب: أي وجب عليه العذاب بقول الله تعالى لأملأن جهنم.
أفأنت تنقذ من في النار: أي تخلصه منها وتخرجه من عذابها.
لكن الذين اتقوا ربهم: أي خافوه فآمنوا به وأطاعوه موحدين له في ذلك.
تجري من تحتها الأنهار: أي من خلال قصورها وأشجارها.
وعد الله: أي وعدهم الله تعالى وعداً فهو منجزه لهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار من عبدة الأوثان وأن لهم من فوقهم ظللا من النار ومن تحتهم ظللا ذكر تعالى حال الذين اجتنبوا تلك الطواغيت فلم يعبدوها، وما أعد لهم من النعيم المقيم فجمع بذلك بين الترهيب والترغيب المطلوب لهداية البشر وإصلاحهم فقال عز وجل {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} أي أن يعبدوها وهي الأوثان وكل ما زين الشيطان عبادته ودعا الناس إلى عبادته وأضافوا إلى اجتناب الطاغوت الإنابة إلى الله تعالى بعبادته وتوحيده فيها هؤلاء لهم البشرى وهي في كتاب الله (2) وعلى لسان رسول الله ويرونها عند نزول الموت وفي القبر وفي الحشر وكل هذا في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} يأمر تعالى رسوله أن يبشر صنفاً من عباده بما بشر به الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا
__________
1 - الطاغوت مصدر أو اسم مصدر فعله طغا وهل هو واوي أو يائي خلاف والأشهر أنه واوي نحو طغا طغواً كعلا يعلو علواً وقولهم الطغيان دال على أنه يائيّ وتاؤه زائدة كما زيدت في رحموت وملكوت وقيل هو اسم أعجمي كجالوت وطالوت.
2 - شاهده قوله تعالى {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} (البقرة) ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له في بيان قوله تعالى {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} من سورة يونس ومن القرآن {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} فهذه عند الموت.(4/476)
إلى الله وهم الذين يستمعون القول من قائله فيتبعون أحسن ما يستمعون، ويتركون حسنه (1) وسيئه معاً فهؤلاء لهم همم عالية ونفوس تواقة للخير والكمال شريفة فاستوجبوا بذلك البشرى على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والثناء الجميل من رب العالمين إذ قال تعالى فيهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} فحسبهم كمالاً أن أثنى تعالى عليهم. اللهم اجعلني منهم ومن سأل لي وله ذلك. وقوله {أَفَمَنْ (2) حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي وجب له العذاب قضاء وقدراً فأسرف في الكفر والظلم والإجرام والعدوان كأبي جهل والعاص بن وائل فأحاطت به خطيئاته فكان من أصحاب النار فهل تستطيع أيها الرسول إنقاذه من النار وتخليصه منها؟ والجواب لا. إذاً فهوّن على نفسك واتركهم لشأنهم وما خلقوا له وحكم به عليهم. وقوله تعالى {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا} فآمنوا وعملوا الصالحات لهم غرف في الجنة من فوقها غرف وهي العلية تكون فوق الغرفة تجري من تحتها الأنهار من تحت القصور والأشجار أنهار الماء واللبن والعسل والخمر. وقوله {وَعْدَ اللهِ} أي وعدهم الله تعالى بها وعداً حقاً فهو منجزه لهم إذ هو تعالى لا يخلف الميعاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإسلام ثم أنابوا إلى ربهم فصدقت الآية عليهم.
2- فضيلة أهل التمييز والوعي والإدراك الذين يميزون بين ما يسمعون فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء.
3- إعلام من الله تعالى أن من وجبت له النار أزلاً لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل.
4- بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها.
__________
1 - جائز أن يراد بكلمة أحسن حسنه فهم يستمعون القول من قائله ويفهمونه فإن كان حقاً وهدى أخذوا به وإن كان باطلاً وضلالاً تركوه وابتعدوا عنه. فقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص جاءوا إلى أبي بكر حين أسلم فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
2 - الاستفهام الأول والثاني كلاهما إنكاري ينكر تعالى على رسوله حزنه وألمه على عدم إيمان عمه أبي لهب وولده ومن لم يؤمن من قرابته ممن وجبت لهم النار في سابق علم الله فهم لا يؤمنون، ولذا فرع عنه قوله أفأنت تنقذ من في النار؟ إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك.(4/477)