أسبابه كان بوعد من الله تعالى منجزاً فوفاه لهم، لأنه قضاه وأعلمهم به قي كتابهم. وقوله: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} أي بعد سنين طويلة وبنو إسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم نابتة وطالبت بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة البقرة جاهدوا وقتل داود جالوت وهذا معنى {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} وقوله: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً} أي رجالاً في الحروب وكثرت أموالهم وأولادهم وتكونت لهم دولة سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهما السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إفضال الله تعالى على الأمتين الإسلامية والإسرائيلية.
! - بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس عبادة الله تعالى وتوحيده فيها.
3- وجوب شكر الله تعالى على نعمه إذ كان نوح عليه السلام إذا أكل الأكلة قال الحمد لله، وإذا شرب الشربة قال الحمد لله، وإذا لبس حذاءه قال الحمد لله وإذا قضى حاجة قال الحمد لله فسمي عبداً شكوراً وكذا كان رسول الله والصالحون من أمته إلى اليوم.
4- ما قضاه الله تعالى كائن، وما وعد به ناجز، والإيمان بذلك واجب.
5- التنديد بالإفساد والظلم والعلو في الأرض، وبيان سوء عاقبتها.
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)(3/176)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
شرح الكلمات:
إن أحسنتم: أي طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها.
أحسنتم لأنفسكم: أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم.
وإن أسأتم: أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة.
وعد الآخرة: أي المرة الآخرة المقابلة للأولى وقد تقدمت.
ليسوءوا وجوهكم: أي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل.
وليدخلوا المسجد: أي بيت المقدس.
وليتبروا ما علو تتبيرا: أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميراً.
وإن عدتم عدنا: أي وإن رجعتم إلى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم.
حصيراً: أي محبساً وسجناً وفراشاً يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن تحتهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل فبعد أن أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين ويعلون علواً كبيراً. وأنه إذا جاء ميقات أولى المرتين بعث عليهم عباداً أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم، أنه تعالى رد لهم الكرة عليهم فانتصروا عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر الدول رجالاً واوسعها سلطاناً وذلك لرجوعهم إلى الله تعالى بتطبيق كتابه والتزام شرائعه وهناك قال تعالى لهم: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} أي إن أحسنتم بإتباع الحق والتزام الطاعة لله ورسوله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والأخذ بسنن الله تعالى في الإصلاح البشري وإن أسأتم تعطيل الشريعة والانغماس في الملاذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب سنة الله تعالى: {من يعمل سوءاً يجزيه ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الأخرة} أي وقتها المعين لها، وهي المرة الآخرة بعد الأولى بعث أيضاً عليهم عباداً له وهم بختنصّر وجنوده بعثهم عليهم ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم به من الهم والحزن والمهانة والذل {وليدخلوا المسجد} أي بيت المقدس كما دخلوه أول مرة {وليتبروا} أي يدمروا ما علوا أي ما غلبوا عليه من ديارهم {تتبيرا} أي تدميراً كاملاً وتحطيماً تاماً وحصل لهم هذا لما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وكثيراً من العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي. كما أخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/177)
وقوله تعالى: {عسى ربكم أن1 نرحمكم} فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم أعرضوا عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان لله ورسله. وقوله وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم إلى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فأنجزهم الله تعالى ما وعدهم فسلط عليهم رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين فأجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة وقتل بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردوهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سؤ العذاب في قرون طويلة وقوله تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً2} أي إن كان عذاب الدنيا بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم وإذاقتهم عذاب القتل والأسر والتشريد فإن عذاب الآخرة هو الحبس والسجن في جهنم تكون حصيراً للكافرين لا يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون شرائع الله ونعمه عليهم بتعطيل الأحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والانغماس في الملاذ والشهوات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله تعالى.
2- تقرير نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مثل هذه الأنباء لا يقصها إلا نبي يوحى إليه.
3- تقرير قاعدة {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} .
4- وجوب الرجاء في الله وهو انتظار الفرج والخير منه وإن طال الزمن.
5- قد يجمع الله تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وكذا الفاسقون من المؤمنين.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)
__________
1 تقدم أن الله تعالى أنجز لهم وعده في قوله {عسى ربكم أن يرحمكم} وأنه رحمهم فصلحوا واستقاموا، وأعادوا بناء دولتهم وسعدوا فيها زمناً ثم عادوا إلى الفسق والفجور فعاد تعالى عليهم فسلط الرومان فتقلوهم وشردوهم وذلك سنة 135 بعد الميلاد، ومن يومئذ انتهى ملك اليهود، واستمرت أورشليم تحت يد الرومان إلى الفتح الإسلامي حيث فتحت على يد عمر رضي الله عنه سنة 16 صالحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذ (إلياء) .
2 الحصير المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ففعيل (حصير) إمَّا أن يكون بمعنى فاعل أي: حاصر أو بمعنى مفعول أي: محصور فيه، وفسّر في التفسير بالسجن وهو كذلك إذ السجن يحصر مَنْ فيه فلا يقدر على الخروج منه.(3/178)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)
شرح الكلمات:
للتي هي أقوم: أي للطريقة التي هي أعدل وأصوب.
أن لهم أجراً كبيراً: إنه الجنة دار السلام.
أعتدنا لهم عذاباً أليما: انه عذاب النار يوم القيامة.
ويدع الإنسان بالشر: أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب.
وكان الإنسان عجولا: أي سريع التأثر بما يخطر على باله فلا يتروى ولا يتأمل.
آيتين: أي علامتين دالتين على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
فمحونا آية الليل: أي طمسنا نورها بالظلام الذي يعقب غياب الشمس.
مبصرة: أي يبصر الإنسان بها أي بسبب ضوء النهار فيها.
عدد السنين والحساب: أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن هذا القران الكريم1 الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يهدي بما فيه من الدلائل والحجج والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقوم2 أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل إنها الدين القيم الإسلام سبيل السعادة والكمال في الدارين، {ويبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي ويبشر القران الذين آمنوا بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجراً كبيراً ألا وهو الجنة، كما يخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن الله تعالى
__________
1 قوله: {هذا القرآن} الإشارة بهذا إلى القرآن الحاضر بين أيدي الناس المحفوظ في الصدور المكتوب في السطور، وفي الإشارة إليه تنويه بشأنه وعلو مقامه بين الكتب الإلهية.
2 {أقوم} اسم تفضيل من القويم، وأقوم: صفة لمحذوف وهو الطريق أي: الطريق التي هي أقوم من هدي كتاب بني إسرائيل إذ قال فيه: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} فالقرآن أكثر هداية إلى السبيل الأقوم من التوراة.(3/179)
أعد أي هيا لهم عذاباً أليمًا في جهنم.
وقوله تعالى {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير1} يخبر تعالى عن الإنسان في ضعفه وقلة إدراكه لعواقب الأمور من أنه! ذا ضجر أو غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في عاقبة دعائه لو استجاب الله تعالى له. يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير، وقوله: {وكان الإنسان عجولا2} أي كثير العجلة يستعجل في الأمور كلها هذا طبعه ما لم يتأدب بآداب القرآن ويتخلق بأخلاقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح ذا توأدة وحلم وصبر وأناة، وقوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} أي علامتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا، وقوله {فمحونا3 آية الليل} أي بطمس نورها، وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين علة ذلك بقوله: {لتبتغوا فضلا من ربكم} أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار. هذا من جهة ومن جهة أخرى {لتعلموا عدد السنين والحساب} أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور. لتوقف مصالحكم الدينية4 والدنيوية على ذلك. وقوله تعالى: {وكل شيء فصلناه تفصيلا} أي وكل شيء يحتاج إليه في كمال الإنسان وسعادته بيناه تبييناً أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل القرآن الكريم، بهدايته إلى الإسلام الذي هو سبيل السعادة للإنسان.
2- الوعد والوعيد بشارة المؤمنين العاملين للصالحات، ونذارة الكافرين باليوم الآخر.
3- بيان طبع الإنسان قبل تهذيبه بالآداب القرآنية والأخلاق النبوية.
4- كون الليل والنهار آيتين على الله تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره.
5- مشروعية علم الحساب وتعلمه.
__________
1 قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما يحب ألا يستجاب له: اللهم أهلكهم ونحوه. وحذفت الواو من {يدعُ} كما حذفت من {سندع الزبانية} و {يمح الله الباطل} : لأنه لا ينطق بها لأصلها الساكن.
2 روي أن آدم عليه السلام لما نفخ الله تعالى فيه الروح فانتهت الروح إلى سرّته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر فذلك قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا} قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومن مظاهر عجلة الإنسان انه يؤثر العاجل وإن قل على الآجل وإن كثر.
3 قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة رحمه الله: المراد بالمحو: اللطخة السوداء في القمر ليكون ضوء القمر أقلّ من ضوء الشمس فيتميّز الليل من النهار وما في التفسير أولى أي: جعل الله الليل مظلماً، والنهار مضيئاً لما يترتب على ذلك من مصالح العباد.
4 كمعرفة أوقات الصلاة، وشهر الصيام، والحج، وما إلى ذلك من آجال الديون ونحوها كالعِدد للنساء.(3/180)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا (17)
شرح الكلمات:
طائره: أي عمله وما قدر له من سعادة وشقاء.
في عنقه: أي ملازم له لا يفارقه حتى يفرغ منه.
عليك حسيبا: أي كفى نفسك حاسباً عليك.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
مترفيها: منعميها من أغنياء ورؤساء.
فحق عليها القول: أي بالعذاب.
وكم أهلكنا: أي أهلكنا كثيراً.
من القرون: أي من أهل القرون السابقة.
خبيرا بصيرا: أي عليماً بصيراً بذنوب العباد.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه عز وجل لعظيم قدرته، وسعة علمه، وحكمته في تدبيره ألزم كل إنسان ما قضى به له من عمل وما يترتب على العمل من سعادة أو شقاء في الدارين، الزمه ذلك بحيث لا يخالفه ولا(3/181)
يتأخر عنه بحال حتى كأنه مربوط بعنقه. هذا معنى قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره1 في عنقه} . وقوله تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً2} أي وفي يوم القيامة يخرج الله تعالى لكل إنسان كتاب عمله فيلقاه منشوراً أي مفتوحاً أمامه. ويقال له: إقرأ كتابك الذي أحصى لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ولا كبيرة. وقوله {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} أي يكفيك نفسك حاسباً لأعمالك محصياً لها عليك أيها الإنسان. وقوله تعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} ، أي بعد هذا الإعلام والبيان ينبغي أن يعلم أن من اهتدى اليوم فآمن بالله ورسوله، ولقاء الله، ووعده ووعيده وعمل صالحاً وتخلّى عن الشرك والمعاصي فإنما عائد ذلك له، هو الذي ينجو من العذاب، ويسعد في دار السعادة، وان من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن، وأشرك ولم يوحِّد، وعصى ولم يطع فإن ذلك الضلال عائد عليه، هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب والشقاء. وقوله {ولا تزر وازرة وزر3 أخرى} الوزر الإثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به ومعنى الكلام ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل كل نفس تتحمل مسئوليتها بنفسها4، والكلام تقرير لقوله: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} . وقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا5} أي لم يكن من شأن الله تعالى وهو العدل الرحيم أن يهلك أمة بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسولاً يعرفها بربها وبمحابه ومساخطه، ويأمرها بفعل المحاب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية} أي أهل قرية {أمرنا مترفيها} أي أمرنا منعميها من أغنياء ورؤساء وأشراف من أهل الحل والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الإثم والفواحش فلم يستجيبوا للأمر ولا النهي وهو معنى {ففسقوا6 فيها فحق عليها القول} أي وجب عليها العذاب {فدمرناها تدميراً} أي أهلكناها إهلاكاً كاملاً، وهذا الكلام بيان لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث
__________
1 قال الزجّاج ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق، وقال ابن عباس طائره: عمله وما قدّر عليه من خير وشر وهو ملازمه أينما كان.
2 قالوا في علة: نشره أنه تعجيل للبشرى بالحسنات والتوبيخ بالسيئات.
3 قيل في هذه الآية {ولا تزر وازرة ... } نزلت في الوليد بن المغيرة إذ قال لأهل مكة اتبعوني واكفروا بمحمد وعليَّ أوزاركم. وإن لم تنزل فيه فهي شاملة لكل من يقول بقوله تضليلاً وباطلاً.
4 استدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على بطلان حديث ابن عمر إذ قال: إنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله، وردّ اعتراضها بأنّ الميت إذا أوصى بالبكاء كان ذلك من وزره لا من وزر غيره، وقد كانوا يوصون بذلك، قال طرفة بن العبد:
إذا مت فأتبعيني بما أنا أهله
وشُقّي عَلَيَّ الجيب يا بنت معبد
ومن الجائز أن يعذّب وإن لم يوص، إذا هو أهمل تأديب أهله.
5 أول المعتزلة الرسول (رسولا) بالعقل، وقالوا: العقل يحسن ويقبح ويبيح ويحظر، وهو تأويل باطل لا يتفق مع اللغة ولا مع الشرع.
6 شاهده حديث زينب في الصحيح: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث".(3/182)
رسولا} إذ الرسول يأمر وينهى بإذن الله تعالى فإن لم يُطَعْ استوجب الناس العذاب فعذبوا. وقوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} هو تقرير لهذا الحكم أيضاً إذ علمنا تعالى أن ما أخبر به كان واقعاً بالفعل فكثيراً من الأمم أهلكها من بعد هلاك قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وآل فرعون.. وقوله: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً} : فإن القول وإن تضمَّن علم الله تعالى بذنوب عباده فإن معناه الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، فإنه تعالى لا يرضى باستمرار الجرائم والآثام إنه يمهل لعل القوم يستفيقون، لعل الفساق يكفون، ثم إذا استمروا بعد الإعلام إليهم والتنديد بذنوبهم والتخويف بظلمهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ألا فليحذر ذلك المصرون على الشرك والمعاصي!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- تقرير العدالة1 الإلهية يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً.
4- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم غير أنها لا تهلك إلا بعد الإنذار والإعذار إليها.
5- التحذير من كثرة التنعم والترف فإنه يؤدي إلى الفسق بترك الطاعة ثم يؤدي الفسق إلى الهلاك والدمار.
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ
__________
1 تجلّت عدالة الله تبارك وتعالى في أنه عز وجل لا يعذِّب أمة من الأمم عذاب إبادة واستئصال إلا بعد أن يبعث إليها رسوله ينذرها ويبشرها، فإذا أصرّت على الكفر والتكذيب عذّبها. ومنا يرد موضوع أهل الفترة بين الرسل فهل يعذبون ولم تبلغهم دعوة الله أولا يعذبون فيكون حالهم أحسن ممن جاءتهم الرسل؟ والجواب على هذا الإشكال هو: فيما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصح: " أن أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة فأمّا الأصم فيقول يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأمّا الأحمق فيقول ربّ قد جاء الصبيان يقذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربّ قد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأمّا الذي مات في الفترة فيقول: ربّ ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن: ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً. ومن لم يدخلها يسحب إليها" فظاهر الحديث أن من كان من أهل الجنة يطيع يوم القيامة ويدخل النار ثم لا يعذّب بها ويدخل الجنة، ومن كان من أهل النار يعصى يوم القيامة ويدخل النار يخلد فيها، والطاعة والعصيان في هذا الامتحان دالان على حال أهلهما في الدنيا لو توفرت لهم شروط التكليف التي هي: البلوغ، والعقل، والسمع، والبصر، وبلوغ الدعوة. فأولاد المشركين يدخلون ضمن هؤلاء الأربعة أيضاً.(3/183)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً (22)
شرح الكلمات
العاجلة: أي الدنيا لسرعة انقضائها.
يصلاها مذموما مدحورا: أي يدخلها ملوما مبعداً من الجنة.
وسعى لها سعيها: أي عمل لها العمل المطلوب لدخولها وهو الإيمان والعمل الصالح.
كان سعيهم مشكوراً: أي عملهم مقبولاً مثاباً عليه من قبل الله تعالى.
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء: أي كل فريق من الفريقين نعطي.
وما كان عطاء ربك محظورا: أي لم يكن عطاء الله في الدنيا محظوراً أي ممنوعا عن أحد.
كيف فضلنا بعضهم على بعض: أي في الرزق والجاه.
لا تجعل مع الله إلها آخر: أي لا تعبد مع الله تعالى غيره من سائر المعبودات الباطلة.
فتقعد ملوماً مخذولاً: أي فتصير مذموماً من الملائكة والمؤمنين مخذولاً من الله تعالى.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في أخبار الله تعالى الصادقة والمتضمنة لأنواع من الهدايات الإلهية التي لا يحرمها إلا هالك، فقال تعالى في الآية الأولى (18) {من كان يريد العاجلة} أي الدنيا {عجلنا له فيها ما نشاء} ، لا ما يشاؤه العبد، وقوله {لمن نريد} لا من يريد غيرنا فالأمر كله لنا، {ثم} بعد ذلك {جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً} أي ملوماً {مدحوراً1} أي مطروداً من رحمتنا التي هي الجنة دار الأبرار أي المطيعين الصادقين. وقوله تعالى في الآية الثانية (19) {ومن أراد الآخرة} يخبر
__________
1 قال القرطبي: {مذموماً مدحوراً} أي: مطروداً مبعداً من رحمة الله، وهذه صفة المنافقين الفاسقين والمرائين والمدّاحين يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلاّ ما قُسم لهم.(3/184)
تعالى أن من أراد الآخرة أي سعادة الآخرة {وسعى لها سعيها} أي عمل، لها عملها اللائق بها وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الموافق لما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله، واجتنب الشرك والمعاصي وقوله {وهو مؤمن} قيد في صحة العمل الصالح أي لا يقبل من العبد صلاة ولا جهاد إلا بعد إيمانه بالله وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله وأخبر به من الغيب.
وقوله {فأولئك} أي المذكورون بالإيمان والعمل الصالح {كان سعيهم مشكوراً1} أي كان عملهم متقبلاً يثابون عليه بالجنة ورضوان الله تعالى. وقوله تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} إي أن كلا من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة يمد الله هؤلاء وهؤلاء من عطائه أي فضله الواسع فالكل يأكل ويشرب ويكتسي بحسب ما قدر له من الضيق والوسع ثم يموت وثَمَّ يقع التفاضل بحسب السعي الفاسد أو الصالح وقوله {وما كان عطاء ربك محظورا2} يعني أن من أراد الله إعطاءه شيئاً لا يمكن لأحد أن يصرفه منه ويحرمه منه بحال من الأحوال وقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} أي انظر يا رسولنا ومن يفهم خطابنا كيف فضلنا بعض الناس على بعض في الرزق الذي شمل الصحة والعافية والمال والذرية والجاه، فإذا عرفت هذا فاعرف أن الآخرة أكبر درجات3 وأكبر تفضيلا وذلك عائد إلى فضل الله أولا ثم إلى الكسب صلاحاً وفساداً وكثرة وقِلًَّةً كما هي الحال أيضاً في الدنيا فبقدر كسب الإنسان الصالح للدنيا يحصل عليها ولو كان كافراً لقوله تعالى من سورة هود4 {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} أي لا ينقصون ثمرات عملهم لكونهم كفاراً مشركين.
وقوله تعالى: {لا تجعل مع5 الله إلهاً آخر} أي لا تجعل يا رسولنا مع الله إلها آخر تؤمن به وتعبده وتقرر إلهيته دوننا فإنك إن فعلت- وحاشاه أن يفعل لأن الله لا يريد له ذلك {فتقعد في جهنم مذموماً} أي ملوماً يلومك المؤمنون والملائكة مخذولاً من قبل ربك لا ناصر لك والسياق وإن كان في خطاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن المراد به كل إنسان فالله تعالى ينهى عبده أن يعبد معه غيره فيترتب على ذلك شقاؤه والعياذ بالله تعالى.
__________
1 وجائز أن يكون مضاعفاً أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر إلى سبعين إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، فقد قيل لأبي هريرة، أسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة؟ قال: سمعته يقول: "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة".
2 لفظ الحظر لغة: المنع، محظوراً أي ممنوعاً يقال: حظره كذا يحظره حظراً وحظاراً: إذا حبسه عنه ومنعه منه.
3 ورد أن أهل الجنة يتفاوتون في درجاتهم إذ الجنة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، وفي الصحيح: "أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء".
4 آية 15.
5 الخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به أمّته.(3/185)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كلا الدارين السعادة فيها أو الشقاء متوقف على الكسب والعمل هذه سنة الله تعالى في العباد.
2- سعى الدنيا التجارة والفلاحة والصناعة.
3- سعى الآخرة الإيمان وصالح الأعمال والتخلية عن الشرك والمعاصي.
4- يعطي الله تعالى الدنيا من يحب ومن لا يحب وعطاؤه قائم على سنن له في الحياة يجب معرفتها والعمل بمقتضاها لمن أراد الدنيا والآخرة.
5- ما أعطاه الله لا يمنعه أحد فوجب التوكل على الله والإعراض عما سواه.
6- تحريم الشرك والوعيد عليه بالخلود في نار جهنم.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
شرح الكلمات:
وقضى ربك: أي أمر وأوصى.
وبالوالدين إحساناً: أي وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً وذلك ببرورهما.
فلا تقل لهما أف: أي تباً أو قبحاً أو خسراناً.(3/186)
ولا تنهرهما: أي ولا تزجرهما بالكلمة القاسية.
قولاً كريما: جميلاً ليناً.
جناح الذل: أي ألن لهما جانبك وتواضع لهما.
كان للأوابين: أي الرجاعين إلى الطاعة بعد المعصية.
وآت ذا القربى: أي أعط أصحاب القرابات حقوقهم من البر والصلة.
ولا تبذر تبذيرا: أي ولا تنفق المال في غير طاعة الله ورسوله.
لربه كفورا: أي كثير الكفر كَبِيرَهُ لنعم ربه تعالى، فكذلك المبذر أخوه.
معنى الآيات:
لما حرم الله تعالى الشرك ونهى عنه رسوله بقوله {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولا} أمر بالتوحيد فقال: {وقضى1 ربك} أي حكم وأمر ووصى {ألا تعبدوا إلا إياه} أي بأن لا تعبدوا إلا الله عز وجل، وقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا2} أي وأوصى بالوالدين وهما الأم والأب إحساناً وهو برهما وذلك بإيصال الخير إليهما وكف الأذى عنهما، وطاعتهما في3 غير معصية الله تعالى. وقوله تعالى: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما4} أي إن يبلغ سن الكبر عندك واحد منهما الأب أو الأم أو يكبران معاً وأنت حي موجود بينهما في هذه الحال يجب أن تخدمهما خدمتهما لك وأنت طفل فتغسل بولهما وتطهر نجاستهما وتقدم لهما ما يحتاجان إليه ولا تتضجّر أو تتأفف من خدمتهما كما كانا هما يفعلان ذلك معك وأنت طفل تبول وتخرأ وهما يغسلان وينظفان ولا يتضجران أو يتأففان، وقوله: {ولا تنهرهما} أي لا تزجرهما بالكلمة العالية النابية {وقل لهما قولاً كريماً5} أي جميلاً سهلا لينا يشعران معه بالكرامة والإكرام لهما وقوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة6} أي ألن لهما وتطامن وتعطف عليهما وترحم. وادع لهما طوال
__________
1 فعل قضي يكون لمعان عدّة منها قضى بمعنى: أمركما هنا، وقضى بمعنى: فرغ كقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} أي فرغتم منها، ويكون بمعنى حكم نحو: {فاقض ما أنت قاض} وبمعنى العهد نحو: {إذ قضينا إلى موسى الأمر} ويكون بمعنى الخلق نحو: {فقضاهن سبع سموات} أي: خلقهن.
2 هذه الآية نص في برّ الوالدين وحرمة عقوقهما، وشاهد ذلك من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سئل عن أحب الأعمال إلى الله تعالى فقال: "بر الوالدين" وقال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسبّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه".
3 من شواهد الطاعة أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت تحتي امرأة أحبّها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عبد الله بن عمر طلّق امرأتك" وللأم ثلاثة أرباع الطاعة وللأب الربع لحديث الصحيح: رواه الترمذي وصححه: "من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمّك قال: ثم من قال أمّك. قال: ثم من قال: أمّك. قال: ثم قال: أبوك".
4 أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم وعدم رضا، وأف: اسم فعل كصَه ومَهْ منوّن وفيه لغات.
5 الكريم من كل شيء أرفعه في نوعه.
6 ال: في الرحمة نابت عن المضاف، إذ التقدير: من رحمتك إياهما.(3/187)
حياتك بالمغفرة والرحمة إن كانا موحدين وماتا على ذلك لقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} وهو معنى قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} ، وقوله تعالى: {ربكم أعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين1 فإنه كان للأوابين غفوراً} .
يخبر تعالى بأنه أعلم بنا من أنفسنا فمن كان يضمر عدم الرضا عن والديه والسخط عليهما فالله يعلمه منه، ومن كان يضمر حبهما واحترامهما والرضا بهما وعنهما فالله تعالى يعلمه ويجزيه به فالمحسن يجزيه بالإحسان والمسيء يجزيه بالإساءة، وقوله: {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين2 غفوراً} بحكم ضعف الإنسان فإنه قد يضمر مرة السوء لوالديه أو تبدر منه البادرة السيئة من قول أو عمل وهو صالح مؤدٍ لحقوق الله تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس فهذا العبد الصالح يخبر تعالى أنه غفور له متى آب إلى الله تعالى مستغفراً مما صدر منه نادماً عليه.
وقوله تعالى: {وآت ذا القربى3 حقه والمسكين وابن السبيل} هذا أمر الله للعبد المؤمن بإيتاء قرابته حقوقهم من البر والصلة وكذا المساكين وهم الفقراء الذي مسكنتهم الفاقة وأذلهم الفقر فهؤلاء أمر تعالى المؤمن بإعطائهم حقهم من الإحسان إليهم بالكساء أو الغذاء والكلمة الطيبة، وكذا ابن السبيل وهو المسافر يعطي حقه من الضيافة والمساعدة على سفره إن احتاج إلى ذلك مع تأمينه وإرشاده إلى طريقه. وقوله تعالى {ولا تبذر4 تبذيرا} أي ولا تنفق مالك ولا تفرقه في غير طاعة الله تعالى. وقوله {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} لأنهم بتبذيرهم المال في المعاصي كانوا عصاة لله فاسقين عن أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخواناً، وقوله إن الشيطان كان لربه كفوراً لأنه عصى الله تعالى وكفر نعمه عليه ولم يشكره بطاعته فالمبذر للمال في المعاصي فسق عن أمر ربه ولم يشكر نعمه عليه فهو إذاً شيطان فهل يرضى عبد الله المسلم أن يكون شيطانا؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب عبادة الله تعالى وحده ووجوب بر الوالدين، وهو الإحسان بهما، وكف الأذى عنهما، وطاعتهما في المعروف.
__________
1 {صالحين} : أي: مؤدين لحقوق الله تعالى وافية وحقوق عباده كذلك.
2 الأوّاب: الذي كلما أذنب تاب. والأوّاب، الحفيظ: الذي كلما ذكر ذنبه استغفر ربّه. وصلاة الأوّابين: صلاة الضحى حين ترمض الفصلان أي تحترق أخفافها من الرمضاء فتبرك من شدة الحر.
3 هم قرابة المرء من قبل أبيه وأمّه معاً. قاله ابن عباس والحسن.
4 قال مجاهد: لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذرا، ولو أنفق مُداً في غير حق كان مبذراً.(3/188)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
2-وجوب الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة. 1
3- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم إضمار أي سوء في النفس.
4- من كان صالحاً وبدرت منه البادرة وتاب منها فإن الله يغفر له ذلك.
5- وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة، وكذا المساكين وابن السبيل.
6- حرمة التبذير وحقيقته إنفاق المال في المعاصي والمحرمات.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
شرح الكلمات:
وإما تعرضن عنهم: أي عن المذكورين من ذي القربى والمساكين وابن السبيل فلم تعطهم شيئاً.
ابتغاء رحمة من ربك ترجوها: أي طلباً لرزق ترجو من الله تعالى.
__________
1 روى أبو داود وغيره أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله: "هل بقي من برّ والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به؟ قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلاّ من قِبلهما فهذا الذي بقي عليك" وفي الصحيح عن ابن عمر قال: "سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنّ من أبرّ البِرّ صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يولي".(3/189)
قولا ميسوراً: أي ليناً سهلاً بأن تعدهم بالعطاء عند وجود الرزق.
مغلولة إلى عنقك: أي لا تمسك عن النفقة كأن يدك مربوطة إلى عنقك فلا تستطيع أن تعطي شيئاً.
ولا تبسطها كل البسط: أي ولا تنفق كل ما بيدك ولم تبق شيئاً.
فتقعد ملوما: أي يلومك من حرمتهم من الإنفاق.
محسورا: أي منقطعا عن سيرك في الحياة إذ لم تبق لك شيئاً.
ويبسط الرزق ويقدر: أي يوسعه، ويقدر أي يضيقه امتحانا وابتلاء.
خشية إملاق: أي خوف الفقر وشدته.
خطئاً كبيراً: أي إثماً عظيماً.
فاحشة وساء سبيلاً: أي خصلة قبيحة شديدة القبح،، وسبيلا بئس السبيل.
لوليه سلطان: أي لوارثه تسلطاً على القاتل.
فلا يسرف في القتل: أي لا يقتل غير القاتل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في وصايا الرب تبارك تعالى والتي هي حكم أوحاها الله تعالى إلى رسوله للاهتداء بها، والكمال والإسعاد عليها. فقوله تعالى: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً} أي إن أعرضت عن قرابتك أو عن مسكين سألك أو ابن سبيل احتاج إليك ولم تجد ما تعطيهم فأعرضت عنهم بوجهك أيها الرسول {فقل لهم قولاً ميسوراً1} أي سهلا ليناً وهو العدة الحسنة كقولك إن رزقني الله سأعطيك أو عما قريب سيحصل لي كذا وأعطيك وما أشبه ذلك من الوعد الحسن، فيكون ذلك عطاء منك عاجلاً لهم يسرون به، ولا يحزنون. وقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} أي لا تبخل بما آتاك الله فتمنع ذوي الحقوق حقوقهم كأن يدك مشدودة إلى عنقك فلا تستطيع أن تنفق، وقوله: {ولا تبسطها كل البسط} أي تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما بجيبك أو خزانتك فلا تبق شيئاً لك ولأهلك. وقوله: {فتقعد ملوماً محسوراً} أي إن أنت أمسكت ولم تنفق لامك سائلوك إذ لم تعطهم، وإن أنت أنفقت كل
__________
1 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظاراً للرّزق يأتي من الله تعالى كراهة الردّ فنزلت هذه الآية. فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سئل وليس عنده ما يعطى قال: "يرزقنا الله وإياكم من فضله" فالرحمة في الآية: الرزق المنتظر ولقد أحسن مَنْ قال:
إلاّ تكن ورِق يوماً أجود بها
للسائلين فإني ليّن العودِ
لا يعدم السائلون الخير من خلقي
إمّا نوالي وإمّا حسن مردودي(3/190)
شيء عندك انقطعت بك الحياة ولم تجد ما تواصل به سيرك في بقية عمرك فتكون كالبعير الذي أعياه السير فانقطع عنه وترك محسوراً في الطريق لا يستطيع صاحبه رده إلى أهله، ولا مواصلة السير عليه إلى وجهته. وقوله: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء} أي يوسع على من يشاء امتحاناً له أيشكر أم يكفر ويقدر لمن يشاء أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط، {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} فلذا هو يوسع ويضيق بحسب علمه وحكمته، إذ من عباده من لا يصلحه إلا السعة، ومنهم من لا يصلحه إلا الضيق، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} أي ومما حكم به وقضى ووصى {ألا تقتلوا أولادكم} أي أطفالكم1 {خشية إملاق} أي مخافة الفاقة والفقر، إذ كان العرب يئدون البنات خشية العار ويقتلون الأولاد الذكور كالإناث مخافة الفقر فأوصى تعالى بمنع ذلك وقال متعهداً متكفلاً برزق الأولاد وآبائهم فقال: {نحن نرزقهم وإياكم} وأخبر تعالى أن قتل الأولاد {كان خطئاً2 كبيراً} أي إثماً عظيماً فكيف يقدم عليه المؤمن؟.
وقوله: {ولا تقربوا3 الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً4} أي ومن جملة ما حكم به ووصى أن لا تقربوا أيها المؤمنون الزنا مجرد قرب منه قبل فعله، لأن الزنا كان في حكم الله فاحشة أي خصلة قبيحة شديدة القبح ممجوجة طبعاً وعقلاً وشرعاً، وساء طريق هذه الفاحشة سبيلاً أي بئس الطريق الموصل إلى الزنا طريقا للآثار السيئة والنتائج المدمرة التي تترتب عليه أولها أذية المؤمنين في أعراضهم وآخرها جهنم والاصطلاء بحرها والبقاء فيها أحقاباً طويلة. وقوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} أي ومما حكم تعالى به وأوصى أن لا تقتلوا أيها المؤمنون النفس التي حرم الله أي قتلها إلا بالحق، وقد بيّن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحق الذي تقتل به نفس المؤمن وهو واحدة من ثلاث: القتل العمد العدوان، الزنا بعد الاحصان، الكفر بعد الإيمان. وقوله: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً5} أي من قتل له قتيل ظلماً وعدواناً أي غير خطأ فقد أعطاه تعالى سلطة كاملة على قاتل وليه إن شاء قتله وإن شاء أخذ دية منه، وإن شاء عفا عنه لوجه الله تعالى: وقوله: {فلا يسرف6 في القتل إنه كان منصوراً7} أي لا يحل لولي الدم أي لمن قتل له
__________
1 الإملاق: الفقر، وعدم الملك، يقال: أملق الرجل: إذا لم يبق له إلا الملقات، وهي الحجارة العظام المُلس.
2 يقال: خطىء يخطأ خطئاً، وخطأ: إذا أذنب. وأخطأ يُخطىء: خطأً إذا سلك سبيل خطإٍ عمداً.
3 قالت العلماء: قول: {ولا تقربوا الزنى} : أبلغ من قول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى والزنى يمدّ ويقصر لغتان.
4 قبح سبيلا إي: طريقاً لأنه يؤدي إلى النار.
5 الولي: هو المستحق الدّم رجلاً كان أو امرأة، والسلطان معناه التسليط فهو إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
6 أي: فلا يقتل غير قاتله، ولا يمثّل بالقتيل، ولا يقتل بالواحد اثنين أو أكثر ولا بالعبد الحر.
7 جملة: إنه كان منصورا: تعليلية أي: علّة للنهي عن الإسراف في القتل.(3/191)
قتيل أن يسرف في القتل فيقتل بدل الواحد أكثر من واحد أو بدل المرأة رجلا. أو يقتل غير القاتل، وذلك أن الله تعالى أعطاه سلطة تمكنه من قتل قاتله فلا يجوز أن يقتل غير قاتله كما كانوا في الجاهلية يفعلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- العدة الحسنة تقوم مقام الصدقة لمن لم يجد ما يتصدق به على من سأله.
2- حرمة البخل، والإسراف معاً وفضيلة الاعتدال والقصد.
3- تجلى حكمة الله تعالى في التوسعة على أناس، والتضييق على آخرين.
4- حرمة قتل الأولاد بعد الولادة أو إجهاضاً قبلها خوفا من الفقر أو العار.
5- حرمة مقدمات الزنا كالنظر بشهوة والكلام مع الأجنبية ومسها وحرمة الزنا وهو أشد.
6- حرمة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق والحق قتل عمد عدواناً، وزناً بعد إحصان، وكفر بعد إيمان1.
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39)
__________
1 لحديث الصحيحين: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة" وفي السنن: "لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم".(3/192)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
شرح الكلمات:
إلا بالتي هي أحسن: أي ألا بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي تنميته والإنفاق عليه منه بالمعروف.
حتى يبلغ أشده: أي بلوغه سن التكليف وهو عاقل رشيد.
وأوفوا بالعهد: أي إذا عاهدتم الله أو العباد فأوفوا بما عاهدتم عليه.
إن العهد كان مسئولا: أي عنه وذلك بأن يسأل العبد يوم القيامة لم نكثت عهدك؟
أوفوا الكيل: أي اتموه ولا تنقصوه.
بالقسطاس المستقيم: أي الميزان السوي المعتدل.
وأحسن تأويلاً: أي مآلاً وعاقبة.
ولا تقف: أي ولا تتبع.
والفؤاد: أي القلب.
كان عنه مسئولاً: أي عن كل واحد من هذه الحواس الثلاث يوم القيامة.
مرحاً: أي ذا مرح بالكبر والخيلاء.
لن تخرق الأرض: أي لن تثقبها أو تشقها بقدميك.
من الحكمة: أي التي هي معرفة المحاب لله تعالى للتقرب بها إليها ومعرفة المساخط لتتجنبها تقربا إليه تعالى بذلك.
ملوما مدحوراً: أي تلوم نفسك على شركك بربك مبعداً من رحمة الله تعالى.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في بيان ما قضى به الله تعالى على عباده المؤمنين ووصاهم به فقال تعالى: {ولا تقربوا} أي أيها المؤمنون {مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} أي بالفعلة التي هي أجمل وذلك بأن تتصرفوا فيه بالتثمير له والإصلاح فيه، والإنفاق منه على اليتيم بالمعروف أما أن تقربوه لتأكلوه إسرافاً وبداراً فلالا. وقوله: حتى يبلغ أشده أي حتى يبلغ سن الرشد فتحاسبوه وتعطوه ماله يتصرف فيه حسب المشروع من التصرفات المالية. وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد1} أي ومما أوصاكم به أن توفوا بعهودكم التي بينكم وبين ربكم وبينكم وبين سائر الناس مؤمنهم وكافرهم فلا يحل لكم أن لا توفوا بالعهد وأنتم قادرون على الوفاء بحال من الأحوال. وقوله: {إن العهد كان مسئولاً2} تأكيد للنهي عن نكث العهد إذ أخبر تعالى أن العبد
__________
1 التعريف في "العهد" للجنس ليشمل سائر العهود.
2 الجملة تعليلية علل بها الأمر بالوفاء بالعهود، وحذف متعلق مسئولا لظهوره: وهو عنه أي مسئولا عنه.(3/193)
سيسأل عن عهده الذي لم يف به يوم القيامة، ومثل العهد سائر العقود من نكاح وبيع وإيجار وما إلى ذلك لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} أي العهود، وقوله: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس1 المستقيم} هذا مما أمر الله تعالى وهو إيفاء الكيل والوزن أي توفيتهما وعدم بخسهما ونقصهما شيئاً ولو يسيراً ما دام في الإمكان عدم نقصه، أما ما يعسر التحرز منه فهو من العفو لقوله تعالى: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} . وقوله {ذلك خير وأحسن تأويلا} أي ذلك الوفاء والتوفية في الكيل والوزن خير لبراءة الذمة وطيب النفس به وأحسن تأويلا أي عاقبة إذ يبارك الله تعالى في ذلك المال بأنواع من البركات لا يعلمها إلا هو عز وجل. ومن ذلك أجر الآخرة وهو خير فإن من ترك المعصية وهو قادر عليها أثابه الله تعالى على ذلك بأحسن ثواب. وقوله تعالى: {ولا تقف2 ما ليس لك به3 علم} أي لا تتبع بقول ولا عمل ما لا تعلم، ولا تقل رأيت كذا وأنت لم تر، ولا سمعت كذا وأنت لم تسمع. وقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد} أي القلب {كل أولئك كان عنه4 مسئولاً} أي لا تقف ما ليس لك به علم، لأن الله تعالى سائل هذه الأعضاء يوم القيامة عما قال صاحبها أو عمل فتشهد عليه بما قال أو عمل مما لا يحل له القول فيه أو العمل. ومعنى أولئك أي تلك المذكورات من السمع والبصر والفؤاد. وقوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحاً} أي خيلاء وتكبراً أي مما حرم تعالى وأوصى بعدم فعله المشي في الأرض مرحاً أي تكبراً واختيالاً، لأن الكبر حرام وصاحبه لا يدخل الجنة، وقوله {إنك لن تخرق الأرض} أي برجليك أيها المتكبر لأن المتكبر يضرب الأرض برجليه اعتزازاً واهتزازاً، ولن تبلغ الجبال طولا مهما تعاليت وتطاولت فإنك كغيرك من الناس لا تخرق الأرض أي تثقبها أو تقطعها برجليك ولا تبلغ علو الجبال فلذا أترك مشية الخيلاء والتكبر، لأن ذلك معيب ومنقصة ولا يأتيه إلا ذو حماقة وسفه. وقوله تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} أي كل ذلك المأمور به
__________
1 القسطاس بضم القاف قراءة الجمهور وبكسرها قراءة حفص وهو اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل أيضاً وقيل هو معرب من الرومية مركب من قسط أي عدل وطاس وهو كفة الميزان والأصل ضم القاف وكسره العرب لأنه أعجمي وهم يقولون أعجمي العب به ما شئت.
2 القفو: الاتباع يقال قفاه يقفوه إذا اتبعه وهو مشتق من القفا وهو وراء العنق.
3 بهذه الحكمة وهي ولا تقف ما ليس لك به علم: وضع حد لكثير من المفاسد التي كانت تقع لسبب القول بدون علم منها: الطعن في الأنساب لمجرد ظن. ومنها القذف بالفاحشة. ومنها الكذب، ومنها شهادة الزور إلى غير ذلك من الأضرار التي تتم بسبب القول بالظن وبدون علم.
4 كل أولئك: المفروض أن يقال: كلها ولكن عدل إلى أولئك لأهمية تلك الحواس ونظير هذا في كلام العرب قول الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام(3/194)
والمنهي عنه من قوله تعالى: {وقضى ربك} إلى قوله {كل ذلك كان سيئه1 عند ربك مكروها} سيئة كالتبذير والبخل وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس وأكل مال اليتيم، وبخس الكيل والوزن، والقول بلا علم كالقذف وشهادة الزور، والتكبر كل هذا الشيء مكروه عند الله تعالى إذا فلا تفعله يا عبد الله وما كان من حسن فيه كعبادة الله تعالى وحده وبر الوالدين والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل والعدة الحسنة فكل هذا الحسن هو عند ألله حسن فأته يا عبد الله ولا تتركه ومن قرأ كنافع كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها فإنه يريد ما اشتملت عليه الآيات من التبذير والبخل وقتل النفس إلى آخر المنهيات.
وقوله تعالى: {ذلك2 مما أوحى إليك ربك من الحكمة} أي ذلك الذي بيَّنَّا لك يا رسولنا من الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة التي أمرناك بالأخذ بها والدعوة إلى التمسك بها، ومن الخلال القبيحة والخصال الذميمة التي نهيناك عن فعلها وحرمنا عليك إتيانها مما أوحينا إليك في كتابنا هذا من أنواع الحكم وضروب العلم والمعرفة، فلله الحمد وله المنة.
وقوله: {ولا تجعل3 مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً4} هذه أم الحكم بدأ بها السياق وختمه بها تقريراً وتأكيداً إذ تقدم قوله تعالى: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} . والخطاب وإن كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كل أحد معني به فأي إنسان يشرك بربه أحداً من خلقه في عبادته فقد جعله إلهاً مع الله، ولابد أن يلقى في جهنم ملوماً من نفسه مدحوراً مبعداً من رحمة ربه التي هي الجنة. وهذا إذا مات قبل أن يتوب فيوحد ربه في عباداته. إذ التوبة إذا صحت جَبَّت ما قبلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة مال اليتيم أكلا أو إفساداً أو تضييعاً وإهمالاً.
2- وجوب الوفاء بالعهود وسائر العقود.
! - وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة بخس الكيل والوزن.
__________
1 قرأ الجمهور: سيئة، وقرأ حفص: سيئه، والسيئة ضد الحسنة.
2 الإشارة إلى ما تقدم، والجملة مذيّل بها الكلام تنبيها على ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرة من الحكمة تحريضاً على إتباع ما فيها وانه خير عظيم كما فيها الامتنان على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أمته بهذه الحكم والمعارف النافعة في الدنيا والآخرة.
3 هذه الجملة معطوفة على مثيلاتها المتضمنة للنهي عن كبائر الذنوب وهي مؤكدة لمضمون جملة: {وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه} .
4 المدحور: هو المطرود من رحمة الله المغضوب عليه من الله تعالى.(3/195)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
4- حصول البركة لمن يمتثل أمر الله في كيله ووزنه.
5- حرمة القول أو العمل بدون علم لما يُقْضِي إليه ذلك من المفاسد ولأن الله تعالى سائل كل الجوارح ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة.
6- حرمة الكبر ومقت المتكبرين.
7- انتظام هذا السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة.
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
شرح الكلمات:
أفأصفاكم: الاستفهام للتوبيخ والتقريع ومعنى أصفاكم خصكم بالبنين واختارهم لكم.
ولقد صرفنا في هذا القرآن: أي بينا فيه من الوعد والوعيد والأمثال والعظات والأحكام والعبر.
ليذكروا: أي ليذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويطيعوا.
لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا: أي لَطَلَبوا طريقا إلى الله تعالى للتقرب إليه وطلب المنزلة عنده.
ومن فيهن: أي في السموات من الملائكة والأرض من إنسان وجان وحيوان.(3/196)
وإن من شيء إلا يسبح: أي وما من شيء إلا يسبح بحمده من سائر المخلوقات.
حليما غفوراً: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على معصيتكم إياه وعدم طاعتكم له.
معنى الآيات:
يقول تعالى مقرعاً موبخاً المشركين الذين يئدون البنات ويكرهونهنّ ثم هم يجعلون الملائكة إناثاً {أفأصفاكم ربكم1 بالبنين} أي أخصكم بالبنين {واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولا عظيماً} أيها المشركون إذ تجعلون لله ما تكرهون افترءً وكذباً على الله تعالى، وقوله تعالى: {ولقد صرفنا2 في هذا القرآن} أي من الحجج والبينات والأمثال والمواعظ الشيء الكثير من أجل أن يُذّكروا فيذكروا ويتعظوا فيُنيبوا إلى ربهم فيوحدونه وينزهونه عن الشريك والولد، ولكن ما يزيدهم القرآن وما فيه من البينات والهدى إلا نفوراً وبعداً عن الحق. وذلك لغلبة التقليد عليهم، والعناد والمكابرة والمجاحدة. وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما تقولون} أي قل يا نبينا لهؤلاء المشركين المتخذين لله أنداداً يزعمون أنها آلهة مع الله قل لهم لو كان مع الله آلهة كما تقولون وإن كان الواقع يكذبكم إذ ليس هناك آلهة مع الله ولكن على فرض أنه لو كان مع الله آلهة {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} أي لطلبوا طريقاً إلى ذي العرش سبحانه وتعالى يلتمسون فيها رضاه ويطلبون القرب منه والزلفى إليه لجلاله وكماله، وغناه وحاجتهم وافتقارهم3 إليه. ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه أن يكون معه آلهة فقال {سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً} . وقوله: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن4} فأخبر تعالى منزهاً نفسه مقدّساً ذاته عن الشبيه والشريك والولد والعجز، فأخبر أنه لعظمته وكماله تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن بكلمة: سبحان الله وبحمده {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} كما أخبر أنه ما من شيء من المخلوقات إلا ويسبح بحمده
__________
1 الجملة متفرعة عن جملة: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر} وهي متضمنة للإنكار على المشركين في تسميتهم الملائكة إناثاً ونسبتهم إلى الله تعالى إذ قالوا: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك، كما هي متضمنة توييخ المشركين على سوء فهمهم وقبيح قولهم بدليل قوله: {انكم لتقولون قولاً عظيماً} .
2 من الجائز أن تكون (في) مزيدة، والقرآن: معمول لصرّفنا، إذ التصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة، والمراد به هنا: البيان والتكرير والانتقال من حكمة إلى حكمة ومن عبرة إلى موعظة.
3 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لطلبوا مع الله منازعة وقتالاً كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، وقال سعيد بن جبير المعنى: إذاً لطلبوا طريقاً إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه لأنهم شركاؤه، وما قاله ابن عباس كالذي قاله سعيد جائز لكن ما ذهبنا إليه في التفسير أولى وألصق بمعنى الآيات والسياق.
4 من الملائكة والجنّ والإنس.(3/197)
بلسان قَالِهِ وحَالِه1 معاً فيقول سبحان الله وبحمده وقوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم2} لاختلاف الألسنة واللغات. وقوله إن كان أي {الله حليماً} : أي لا يعاجل بالعقوبة من عصاه {غفوراً} يغفر ذنوب وزلات من تاب إليه وأناب طالباً مغفرته ورضاه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة القول على الله تعالى بالباطل ونسبة النقص إليه تعالى كاتخاذه ولداً أو شريكاً.
2- مشروعية الاستدلال بالعقليات، على إحقاق الحق وإبطال الباطل.
3- فضيلة التسبيح وهو قول: سبحان الله وبحمده حتى إن من قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر.
4- كل المخلوقات في العوالم كلها تسبح الله تعالى أي تنزهه كن الشريك والولد والنقص والعجز ومشابهة الحوادث إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
5- حلم الله يتجلى في عدم تعجيل عقوبة من عصاه ولولا حلمه لعجل عقوبة مشركي مكة وأكابر مجرميها. ولكن الله أمهلهم حتى تاب أكثرهم.
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48)
__________
1 المراد من لسان الحال: هو تسبيح الدلالة، إذ كل محدث شاهد على أن الله خالق قادر، ولا مانع من أن يسبّح كل شيء من إنسان وحيوانات ونبات وجماد والجن والملائكة إلا ذرية إبليس فإنهم لا يسبّحون بلسان القال ولكن بلسان الحال.
2 قوله: {لا تفقهون تسبيحهم} دليل على أن تسبيح كل شيء بلسان قاله ويؤيد هذا تسبيح الطعام، وسلام الحجر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدل من هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يسمع صوت مؤذن من جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة".(3/198)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
شرح الكلمات:
حجابا مستورا: أي ساتراً لهم فلا يسمعون كلام الله تعالى.
وجعلنا على قلوبهم أكنة: أي أغطية على القلوب فلا تعي ولا تفهم.
وفي آذانهم وقراً: أي ثقلاً فلا يسمعون القرآن ومواعظه.
ولو على أدبارهم نفوراً: أي فراراً من السماع حتى لا يسمعوا.
بما يستمعون به: أي بسببه وهو الهزء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذ هم نجوى: أي يتناجون بينهم يتحدثون سراً.
رجلا مسحوراً: أي مغلوياً على عقله مخدوعاً.
ضربوا لك الأمثال: أي قالوا ساحر، وقالوا كاهن وقالوا شاعر.
فضلوا: أي عن الهدى فلا يستطيعون سبيلاً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن} 1 يخبر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا قرأ القرآن على المشركين ليدعوهم به إلى الله تعالى ليؤمنوا به ويعبدوه وحده جعل الله تعالى بينه وبين المشركين حجاباً2 ساتراً، أو مستوراً لا يُرى وهو حقاً حائل بينهم وبين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يسمعوا القرآن الذي يقرأ عليهم فلا ينتفعون به. وهذا الحجاب ناتج عن شدة بغضهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكراهيتهم لدعوته فهم لذلك لا يرونه ولا يسمعون قراءته. وقوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن3 يفقهوه} جمع كنان وهو الغطاء حتى لا يصل المعنى المقروء من الآيات إلى قلوبهم فيفقهوه، وقوله: {وفي آذانهم وقراً} أي وجعل تعالى في آذان أولئك المشركين الخصوم ثقلاً في آذانهم فلا يسمعون القرآن الذي يتلى عليهم، وهذا كله من الحجاب الساتر والأكنة، والوقر في الآذان عقوبة من الله تعالى لهم حرمهم بها من الهداية بالقرآن لسابقة الشر لهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ببغضهم للرسول وما جاء به وحربهم له ولما جاء به من التوحيد والدين الحق، وقوله
__________
1 روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت (سورة تبّت يدا أبي لهب) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها (حجر ملء الكف) وهي تقول مذمّما عصينا وأمره أبينا، ودينه قلينا، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في المسجد ومعه أبو بكر قال: يا رسول الله: لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنها لن تراني فقرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرآنا، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت لأبي بكر بلغني أنّ صاحبك هجاني قال لا ورب هذا البيت ما هجاك فولّت.
2 ساتراً أي: للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يراه من أراده بسوء، ومستوراً أي: الحجاب لا يراه المشركون وهو موجود فعلاً، ولكن لا يُرى.
3 أن يفقهوه أي: لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه.(3/199)
تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} بأن قلت لا إله إلا الله1، أو ما أفهم معنى2 لا إله إلا الله ولى المشركون على أدبارهم3 نفوراً من سماع التوحيد لحبهم الوثنية وتعلق قلوبهم بالشرك. وقوله تعالى {نحن أعلم بما يستمعون به} يقول تعالى لرسوله نحن أعلم بما يستمع به المشركون أي بسبب أنهم يستمعون من أجل الاستهزاء بك والسخرية منك ومما تتلوه لا أنهم يستمعون للعلم والمعرفة ولطلب الحق والاهتداء إليه. وقوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} أي يناجي بعضهم بعضا {إذ يقول الظالمون4} أي المشركون {إن تتبعون} أي لا تتبعون {إلا رجلاً مسحوراً} أي مخدوعاً مغلوباً على أمره، فكيف تتبعونه إذاً؟.
وقوله تعالى: {انظر كيف5 ضربوا لك الأمثال} أي انظر يا رسولنا كيف ضرب لك هؤلاء المشركون المعاندون الأمثال فقالوا عنك: ساحر، وشاعر، وكاهن ومجنون فضلوا في طريقهم {فلا يهتدون سبيلا} إنهم عاجزون عن الخروج من حيرتهم هذه التي أوقعهم فيها كفرهم وعنادهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة حبك الشيء يعمى ويصم: فإن الحجاب المذكور في الآية وكذا الأكنة والثقل في الآذان هذه كلها حالت دون سماع القرآن من أجل بغضهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللقرآن وما جاء به عن الدعوة إلى التوحيد.
2- بيان مدى كراهية المشركين للتوحيد وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
3- بيان مدى ما كان عليه المشركون من السخرية والاستهزاء بالرسول والقرآن.
4- بيان اتهامات المشركين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسحر مرة والكهانة ثانية والجنون ثالثة بحثاً عن الخلاص من دعوة التوحيد فلم يعثروا على شيء كما قال تعالى: {فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} .
__________
1 أي: وأنت تقرأ القرآن.
2 أي: دلّ على معنى لا إله إلا الله.
3 يجوز أن يكون نفور جمع نافر كشهود جمع شاهد، ويجوز أن يكون مصدراً من نفر نفوراً أي: نفروا نفوراً.
4 قولهم هذا وهم يتناجون يقولون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً أي: مطبوباً قد خبله السحر فاختلط عليه أمره. يقولون هذا حتى ينفروا الناس عنه ولا يتبعوه.
5 عجّبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وأخرى شاعر فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا يرجعون معه من حيرتهم أو يتمكنون به من صدّ الناس عنك وصرفهم عن دعوتك.(3/200)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
شرح الكلمات:
وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتاً: الاستفهام للإنكسار الاستبعاد والرُّفات الأجزاء المتفرقة.
مما يكبر في صدوركم: أي يعظم عن قبول الحياة في اعتقادكم.
فطركم: خلقكم.
فسينغضون: أي يحركون رؤوسهم تعجباً.
متى هو؟ : الاستفهام للاستهزاء أي متى هذا البعث الذي تعدنا.
يوم يدعوكم: أي يناديكم من قبوركم على لسان إسرافيل.
فتستجيبون: أي تجيبون دعوته قائلين سبحانك اللهم وبحمدك.
وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً: وتظنون أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير العقيدة ففي الآيات قبل هذه كان تقرير التوحيد والوحي وفي هذه الآيات تقرير البعث والجزاء الآخر ففي الآية (47) يخبر تعالى عن إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له بقوله: {وقالوا1 أئذا كنا عظاماً ورفاتاً2} أي أجزاء متفرقة كالحطام {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً3} وفي الآية الثانية (48) يأمر تعالى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم
__________
1 هذا من قولهم الذي قالوا وهم يسمعون القرآن، ويتناجون بينهم فيقولون كذا وكذا.
2 الرفات: ما تكسّر ويَلي من كل شيء كالفتات، والحطام والرّضاض يقال: رُفِت الشيء رفتا أي: حطم والاستفهام إنكاري.
3 الاستفهام للاستهزاء مع الجحد والإنكار، و {خلقاً} : منصوب على الحال من ضمير {لمبعوثون} .(3/201)
كونوا ما شئتم فإن الله تعالى قادر على إحيائكم وبعثكم للحساب والجزاء وهو قوله تعالى: قل كونوا حجارة أو حديداً1 أو خلقا مما يكبر في2 صدوركم أي مما يعظم في نفوسكم أن يقبل الحياة كالموت3 مثلا فإن الله تعالى سيحييكم ويبعثكم. وقوله تعالى: فسيقولون من يعيدنا؟ يخبر تعالى رسوله أن منكري البعث سيقولون له مستبعدين البعث: من يعيدنا وعلمه الجواب فقال له قل الذي فطركم أي خلقكم أول مرة وهو جواب مسكت فالذي خلقكم ثم أماتكم هو الذي يعيدكم كما بدأكم وهو أهون عليه. وقوله تعالى {فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو} يخبر تعالى رسوله بما سيقوله منكروا البعث له فيقول تعالى {فسينغضون} أي يحركون إليك رؤوسهم خفضاً ورفعاً استهزاء ويقولون: {متى هو؟} أي متى البعث أي في أي يوم هو كائن. وقوله تعالى: {قل عسى أن يكون قريباً} علمه تعالى كيف يجيب المكذبين. وقوله {يوم يدعوكم فتستجيبون4 بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} أي يكون بعثكم الذي تنكرونه يوم يدعوكم بأمر الله تعالى إسرافيل من قبوركم فتستجيبون أي فتجيبونه بحمد5 الله {وتظنون إن لبثتم} أي لبثتم إلا قليلاً أي ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا6 من اللبث وذلك لما تعاينون من الأهوال وتشاهدون من الأحوال المفزعة المرعبة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء وبيان حتميتها.
2- بيان ما كان عليه المشركون من شدة إنكارهم للبعث الآخر.
3- تعليم الله تعالى لرسوله كيف يجيب المنكرين المستهزئين بالتي هي أحسن.
4- بيان الأسلوب الحواري الهادي الخالي من الغلظة والشدة.
__________
1 الحديد: تراب معدني لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ وأصنافه ثمانية وأشهر أنواعه الأحمر وهو صنفان، ذكر وأنثى.
2 قال مجاهد: يعني السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس.
3 لأنّ الموت لا شيء أكبر منه في نفوس بني آدم، قال أمية بن الصلت:
وللّموت خلق في النفوس فظيع
وخلقاً بمعنى مخلوق،، ومن يكبر في صدوركم صفة له.
4 روي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "انكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم".
5 قال سعيد بن جبير يخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون: سبحانك وبحمدك.
6 وقيل: هذا ما بين النفختين، وذلك أنّ العذاب يكفّ عن المعذّبين بين النفختين وذلك أربعين عاماً فينامون فإذا نفخ النفخة الثانية قالوا: من بعثنا من مرقدنا وظنّوا أنهم ما لبثوا إلاّ قليلا.(3/202)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
5- استقصار مدة اللبث في القبور مع طولها لما يشاهد من أهوال البعث.
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
شرح الكلمات:
التي هي أحسن: أي الكلمة التي هي أحسن من غيرها للطفها وحسنها.
ينزغ: أي يفسد بينهم1.
عدواً مبيناً: أي بيّن العداوة ظاهرها.
ربكم أعلم بكم: هذه هي الكلمة التي هي أحسن.
وما أرسلناك عليهم وكيلا: أي فيلزمك إجبارهم على الإيمان.
فضلنا بعض النبيين: أي بتخصيص كل منهم بفضائل أو فضيلة خاصة به.
وآتينا داود زبورا: أي كتابا هو الزبور هذا نوع من التفضيل.
معنى الآيات:
مازال السياق في طلب هداية أهل مكة، من طريق الحوار والمجادلة وحدث أن بعض المؤمنين واجه بعض الكافرين أثناء الجدال بغلظة لفظ كان توعده بعذاب النار فأثار ذلك حفائظ المشركين فأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين إذا خاطبوا المشركين أن لا يغلظوا لهم القول فقال تعالى: {وقل لعبادي2} أي المؤمنين {يقولوا التي هي أحسن} من الكلمات لتجد طريقاً إلى قلوب الكافرين، وعلل لذلك تعالى فقال {إن الشيطان ينزغ بينهم} بالوسواس فيفسد العلائق التي
__________
1 روي أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلاً من العرب شتمه وسبه عمر وهم بقتله فكادت تثير فتنة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلذا الآية دعوة عامة لإحسان القول في أثناء دعوة الناس وهدايتهم.
2 أي بالكلمات التي هي أحسن.(3/203)
كان في الامكان التوصل بها إلى هداية الضالين، وذلك أن الشيطان كان ومازال للإنسان عدواً مبيناً أي بين العداوة ظاهرها فهو لا يريد للكافر أن يسلم، ولا يريد للمسلم أن يؤجر ويثاب في دعوته. وقوله تعالى: {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم} فيتوب عليكم فتسلموا. {أو إن يشأ يعذبكم} بأن يترككم تموتون على شرككم فتدخلوا النار. مثل هذا الكلام ينبغي أن يقول المؤمنون للكافرين لا أن يصدروا الحكم عليهم بأنهم أهل النار والمخلدون فيها فيزعج ذلك المشركين فيتمادوا في العناد والمكابرة. وقوله تعالى: {وما أرسلناك عليهم1 وكيلا} . يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك رقيبا عليهم فتجبرهم على الإسلام وإنما أرسلناك مبلغا دعوتنا إليهم بالأسلوب الحسن وهدايتهم إلينا، وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يدعون الكافرين إلى الإسلام. وقوله تعالى: {وربك أعلم بمن في السموات والأرض} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين ضمناً أنه تعالى أعلم بمن في السموات والأرض فضلا عن هؤلاء المشركين فهو أعلم بما يصلحهم وأعلم بما كتب لهم أو عليهم من سعادة أو شقاء، وأسباب ذلك من الإيمان أو الكفر، وعليه فلا تحزنوا على تكذيبهم ولا تيأسوا من إيمانهم، ولا تتكلفوا ما لا تطيقون في هدايتهم فقولوا التي هي أحسن واتركوا أمر هدايتهم لله تعالى هو ربهم وأعلم بهم وقوله تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً2} ، يخبر تعالى عن انعامه بين عباده فالذي فاضل بين النبيين وهم أكمل الخلق وأصفاهم فهذا فضله بالخلة كإبراهيم وهذا بالتكليم كموسى، وهذا بالكتاب الحافل بالتسابيح والمحامد والعبر والمواعظ كداود، وأنت يا محمد بمغفرته لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وبإرسالك إلى الناس كافة إلى غير ذلك من الإفضالات وإذا تجلت هذه الحقيقة لكم وعرفتم أن الله أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق الضلالة، وكذا الرحمة والعذاب ففوضوا الأمر إليه، وادعوا عباده برفق ولين وبالتي هي أحسن من غيرها من الكلمات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- النهي عن الكلمة الخشنة المسيئة إلى المدعو إلى الإسلام.
__________
1 الرقيب والحفيظ والوكيل والكفيل كلها بمعنى واحد في هذا السياق ومن إطلاق الوكيل وإرادة الرقيب قول الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبتّ كأنني
برد الأمور الماضيات وكيل
2 الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود لعدم الحاجة إلى ذلك لوجود التوراة بينهم، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد والآية صالحة لحجاج اليهود منكري نزول القرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/204)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
2- بيان أن الشيطان يسعى للإفساد دائماً فلا يمكن من ذلك بالكلمات المثيرة للغضب والحاملة على اللجج والخصومة الشديدة.
3- بيان نوع الكلمة التي هي أحسن مثل {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم} .
4- بيان أن الله تعالى أعلم بخلقه فهو يهب كل عبد ما أهله له حتى إنه فاضل بين أنبيائه ورسله عليهم السلام في الكمالات الروحية والدرجات العالية.
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
شرح الكلمات:
فلا يملكون: أي لا يستطيعون.
كشف الضر: أي إزالته بشفاء المريض.
ولا تحويلا: أي للمرض من شخص مريض إلى آخر صحيح ليمرض به.(3/205)
يدعون: أي ينادونهم طالبين منهم أو متوسلين بهم.
يبتغون إلى ربهم الوسيلة: أي يطلبون القرب منه بالطاعات وأنواع القربات.
كان محذورا: أي يحذره المؤمنون ويحترسون منه بترك معاصي الله تعالى.
في الكتاب مسطورا: أي في كتاب المقادير الذي هو اللوح المحفوظ مكتوبا.
أن نرسل بالآيات: أي بالآيات التي طلبها أهل مكة كتحويل الصفا إلى جبل ذهب. أو إزالة جبال مكة لتكون أرضاً زراعية وإجراء العيون فيها.
إلا ان كذب بها الأولون: إذ طالب قوم صالح بالآية ولما جاءتهم كفروا بها فأهلكهم الله تعالى.
الناقة مبصرة: أي وأعطينا ثمود قوم صالح الناقة آية مبصرة واضحة بينة.
فظلموا بها: أي كفروا بها وكذبوا فأهلكهم الله تعالى.
إلا تخويفا: إلا من أجل تخويف العباد بأنا إذا أعطيناهم الآيات ولم يؤمنوا أهلكناهم.
أحاط بالناس: أي قدرة وعلما فهم في قبضته وتحت سلطانه فلا تخفهم.
وما جعلنا الرؤيا1: هي ما رآه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء والمعراج من عجائب خلق الله تعالى.
والشجرة الملعونة2: هي شجرة الزقوم الوارد لفظها في الصافات والدخان.
ونخوفهم: بعذابنا في الدنيا بالإهلاك والإبادة وفي الآخرة بالزقوم والعذاب الأليم.
فما يزيدهم: أي التخويف إلا طغيناناً وكفراً.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد فيقول تعالى لرسوله قل يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأولئك المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله سبحانه وتعالى فإنهم لا يملكون أن يكشفوا الضر عن مريض ولا يستطيعون تحويله عنه إلى آخر عدو له يريد أن يمسه الضر لأنهم أصنام وتماثيل لا يسمعون
__________
1 لفظ الرؤيا يطلق في لب على الرؤيا في المنام، ويطلق على رؤية العين كما في هذه الآية رواية صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا..} الخ قال هي رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به إلى بيت المقدس.
2 قيل فيها ملعونة جرياً على عادة العرب في كل طعام مكروه يقولون فيه ملعون، وجائز أن يكون المراد باللعن لعن آكلها أي: الشجرة الملعون آكلها.(3/206)
ولا يبصرون فضلا عن أن يستجيبوا دعاء من دعاهم لكشف ضر أو تحويله إلى غيره، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (54) {قل أدعوا1 الذين زعمتم من دونه، فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} .
وقوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته} {ويخافون عذابه} . يخبرهم تعالى بأن أولئك الذين يعبدونهم من الجن2 أو الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هم أنفسهم يدعون ربهم ويتوسلون للحصول على رضاه. بشتى أنواع الطاعات والقربات فالذي يَعْبُدُ لا يُعْبَد، والذي يتقرب إلى الله بالطاعات لا يتقرب إليه وإنما يتقرب إلى من هو يتقرب إليه ليحظى بالمنزلة عنده، وقوله {يرجون رحمته ويخافون3 عذابه} ، أي أن أولئك الذين يدعوهم الجهال من الناس ويطلبون منهم قضاء حاجاتهم هم أنفسهم يطلبون الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. لأن عذابه تعالى كان وما زال يحذره العقلاء، لأنه شديد لا يطاق. فكيف يُدعى ويرجى ويخاف من هو يدعو ويرجو ويخاف لو كان المشركون يعقلون.
وقوله تعالى: {وإن من قرية} أي مدينة من المدن {إلا نحن مهلكوها} أي بعذاب إبادة قبل يوم القيامة، {أو معذبوها عذاباً شديداً} بمرض أو قحط أو خوف من عدو {كان ذلك في الكتاب مسطورا} أي مكتوباً في اللوح المحفوظ، فلذا لا يستعجل أهل مكة العذاب فإنه إن كان قد كتب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة وإن لم يكن قد كتب عليهم فلا معنى لاستعجاله فإنه غير واقع بهم وهم مرجون للتوبة أو لعذاب يوم القيامة وقوله تعالى: {وما منعنا4 أن نرسل بالآيات} أي بالمعجزات وخوارق العادات {إلا أن كذب بها} أي بالمعجزات الأولون من الأمم فأهلكناهم5 بتكذيبهم بها، فلو أرسلنا نبينا محمداً بمثل تلك الآيات وكذبت بها قريش
__________
1 قيل: إنه لما ابتليت قريش بالقحط، وشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل الله تعالى هذه الآية أي: ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة لكم.
2 روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله تعالى: {أولئك الذين يدعون} قال: نفر من الجنّ أسلموا، وكانوا يُعْبَدون فبقي الذين كانوا يعبدونهم على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجنّ، وفي رواية قال: أنزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجنّ فأسلم الجنيّون، والذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون أي: بإسلامهم فبقوا يعبدونهم.
3 في الآية الجمع بين الخوف والرجاء وهما كجناحي الطائر إن انكسر أحدهما لم يطر بالأخر،. ولذا فلابد للمؤمن منهما فالخوف يحمل على أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والرجاء يحمل على المسابقة في الخيرات، وبذلك تتم ولايته لربه ويأمن عاقبة أمره.
4 {وإن من قرية} أي: ظالمة حذفت الصفة للعلم بها إذ لا يأخذ الله أهل قرية إلاّ بعد ظلمهم إذ هو أعدل من يعدل وعدل، وأرحم من يرحم ورحم وقد جاء هذا الوصف في عدّة آيات منها: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} وفي الآية تهديد ووعيد عرفه ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم.
5 أي: وما صرفنا عن إرسالك يا رسولنا بالمعجزات التي يطالب بها المشركون إلاّ تكذيب الأولين بها وهؤلاء مثلهم لو أرسلناك بها فكذبوا بها واستحقوا الهلاك ونحن لا نريد لهم ذلك.(3/207)
لأهلكهم، وهو تعالى لا يريد إهلاكهم بل يريد هدايتهم ليهتدي على أيديهم خلقاً كثيراً من العرب والعجم والأبيض والأصفر فسبحان الله العليم الحكيم وقوله تعالى {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} أي آية مبصرة أي مضيئة بينة فظلموا بها أي كذبوا بها فعقروها فظلموا بذلك أنفسهم وعرضوها لعذاب الإبادة فأبادهم الله فأخذتهم الصيحة وهم ظالمون هذا دليل على أن المانع من الإرسال بالآيات هو ما ذكر تعالى في هذه الآية وقوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً1} يخبر تعالى أنه ما يرسل الرسل مؤيدين بالآيات التي هي المعجزات والعبر والعظات إلا لتخويف الناس عاقبة الكفر والعصيان لعلهم يخافون فيؤمنون ويطيعون قوله تعالى {وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} أي اذكر يا محمد إذ قلنا لك بواسطة وحينا هذا إن ربك أحاط بالناس. فهم في قبضته وتحت قهره وسلطانه فلا ترهبهم ولا تخش منهم أحداً فإن الله ناصرك عليهم، ومنزل نقمته بمن تمادى في الظلم والعناد، وقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} يريد رؤيا الإسراء والمعراج حيث أراه الله من آياته وعجائب صنعه وخلقه، ما أراه {إلا فتنة للناس} أي لأهل مكة اختباراً لهم هل يصدقون أو يكذبون، إذ ليس لازماً لتقرير نبوتك وإثبات رسالتك وفضلك أن نريك الملكوت الأعلى وما فيه من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة.
وقوله تعالى: {والشجرة الملعونة} أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وهي شجرة الزقوم وأنها {تخرج في أصل الجحيم} إلا فتنة كذلك لأهل مكة حيث قالوا كيف يصح وجود نخلة ذات طلع في وسط النار، كيف لا تحرقها النار قياساً للغائب على الشاهد وهو قياس فاسد، وقوله تعالى {ونخوفهم} بالشجرة الملعونة وأنها {طعام الأثيم تغلي في البطون كغلي الحميم} وبغيرها من أنواع العذاب الدنيوي والأخروي، وما يزيدهم ذلك إلا طغياناً كبيراً أي ارتفاعاً وتكبراً عن قبول الحق والاستجابة له لما سبق في علم الله من خزيهم وعذابهم فاصبر أيها الرسول وامض في دعوتك فإن العاقبة لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالحكم على عدم استجابة الآلهة المدعاة لعابديها.
! - بيان حقيقة عقليه وهي أن دعاء الأولياء والاستغاثة بهم والتوسل إليهم بالذبح والنذر هو أمر
__________
1 في السياق ما يدل على أن هناك رغبة في المعجزات من الكافرين والمؤمنين ولذا ذكر تعالى علل عدم إعطائها لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالعلة الأولى تكذيب الأولين بها ودلل بتكذيب ثمود بها والثانية أنه ما يرسل بالمعجزات من أرسلهم بها إلا لعلة التخويف فقط والثالثة إعلامه تعالى رسوله بأن ربك محيط بعباده قادر عليهم فلا تخفهم ولا تطلب الآية لهم، والرابعة: أن معجزة الإسراء والمعراج لم تكن للهداية وإنما هي للفتنة لا غير.(3/208)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
باطل ومضحك في نفس الوقت، إذ الأولياء كانوا قبل موتهم يطلبون الوسيلة إلى ربهم بأنواع الطاعات والقربات ومن كان يَعْبُدْ لا يُعْبَدْ. ومن كان يَتَقرب لا يُتقَرَّب إليه، ومن كان يَتَوَسَّلْ لا يُتَوسلْ إليه بل يعبد الذي كان يُعْبَد ويَتُوَسل إلى الذي كان يُتَوسل إليه ويتقرب إلى الذي كان يتقرب إليه، وهو الله سبحانه وتعالى.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
4- بيان المانع من عدم إعطاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات على قريش.
5- بيان علة الإسراء والمعراج، وذكر شجرة الزقوم في القرآن الكريم.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
شرح الكلمات:
لمن خلقت طيناً: أي من الطين.
أرأيتك: أي أخبرني.
كرمت على: أي فضّلْته علي بالأمر بالسجود له.
لأحتنكن: لأستولين عليهم فأقودهم إلى الغواية كالدابة إذا جعل الرسن في(3/209)
حنكها، تقُاد حيث شاء راكبها!.
اذهب: أي منظراً إلى وقت النفخة الأولى.
جزاءً موفوراً: أي وافراً كاملاً.
واستفزز: أي واستخفف.
بصوتك: أي بدعائك إياهم إلى طاعتك ومعصيتي بأصوات المزامير والأغاني واللهو.
وأجلب عليهم: أي صِحْ فيهم بركبانك ومُشاتك.
وشاركهم في الأموال: بحملهم على أكل الربا وتعاطيه.
والأولاد: بتزيين الزنا ودفعهم إليه.
وعدهم: أي بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء.
إلا غرورا: أي باطلاً.
ليس لك عليهم سلطان: أي إن عبادي المؤمنين ليس لك قوة تتسلط عليهم بها.
وكفى بربك وكيلاً: أي حافظاً لهم منك أيها العدوّ.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين الجهلة الذين أطاعوا عدوهم وعدو أبيهم من قبل، وعصوا ربهم، اذكر لهم كيف صدّقوا ظنّ إبليس فيهم، واذكر لهم {إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فامتثلوا أمرنا {فسجدوا إلا إبليس} قال منكراً أمرنا، مستكبراً عن آدم عبدنا {أأسجد1 لمن خلقت طيناً} ؟ أي لمن خلقته من الطين لأن آدم خلقه الله تعالى من أديم الأرض عذبها وملحها ولذا سمى آدم آدم ثم قال في صلفه وكبريائه {أرأيتك} أي أخبرني أهذا {الذي كرمت علي2} ؟ ! قال هذا استصغار لآدم واستخفافا بشأنه، {لئن أخرتني} أي وعزتك لئن أخرْت موتي {إلى يوم يبعثون لأحتنكن ذريته} أي لأستولين عليهم وأسوقهم إلى أودية الغواية والضلال حتى يهلكوا مثلي {إلا قليلاً} 3 منهم ممن
__________
1 الاستفهام انكاري.
2 أي: فضلت، والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد، وفي الكلام حذف تقديره أخبرني عن هذا الذي فضلته عليَّ لمَ فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، ويصح بدون تقدير المحذوف أي: أترى هذا الذي كرمته عليَّ لأفعلن به كذا وكذا.
3 {إلا قليلا} : يعني المعصومين وهم الذين قال تعالى فيهم: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} واستثناء إبليس القليل كان ظنا منه فقط كما قال تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه} وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس لآدم في الجنة ولم يجد له عزماً فحصل له بذلك هذا العلم المعبّر عنه بالظنّ إذ يطلق لفظ الظن، ويراد به العلم.(3/210)
تستخلصهم لعبادتك فأجابه الرب تبارك وتعالى: {قال اذهب1} أي مُنَظراً وممهلاً إلى وقت النفخة الأولى وقوله تعالى: {فمن تبعك منهم} أي عصاني وأطاعك {فإن جهنم جزآؤكم جزآءً موفوراً} أي وافراً كاملاً.
وقوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} قال هذا لإبليس بعد أن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم أذن له في أن يعمل ما استطاع في إضلال أتباعه، {واستفزز2 من استطعت منهم بصوتك} أي واستخفف منهم بدعائك إلى الباطل بأصوات المزامير والأغاني وصور الملاهي وأنديتها وجمعياتها، {وأجلب3 عليهم} أي صِح على خيلك ورجلك4 الركبان والمشاة وسقهم جميعاً على بني آدم لإغوائهم وإضلالهم {وشاركهم في الأموال} بحملهم على الربا وجمع الأموال من الحرام وفي {الأولاد} بتزيين الزنا وتحسين الفجور وعدهم بالأماني الكاذبة وبأن لا بعث يوم القيامة ولا حساب ولا جزاء قال تعالى: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} أي باطلاً وكذباً وزوراً. وقوله تعالى: {إن عبادي} أي المؤمنين بي، المصدقين بلقائي ووعدي ووعيدي ليس لك عليهم قوة تتسلط عليهم بها، {وكفى بربك وكيلا} أي حافظاً لهم: منك فلا تقدر على إضلالهم ولا إغوائهم يا عدوي وعدوهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بالأحداث الماضية للتحذير من الوقوع في الهلاك.
2- ذم الكبر وأنه من شر الصفات.
3- تقرير عداوة إبليس والتحذير منها.
4- بيان مشاركة إبليس أتباعه في أموالهم وأولادهم ونساءهم.
5- بيان أن أصوات الأغاني والمزامير والملاهي وأندية الملاهي وجمعياتها الجميع من جند إبليس الذي يحارب به الآدمي المسكين الضعيف.
6- بيان حفظ الله تعالى لأوليائه، وهم المؤمنون المتقون، جعلنا الله تعالى منهم وحفظنا بما يحفظهم به إنه بركريم.
__________
1 الأمر هنا: للإهانة والطرد والاحتقار والصغار.
2 الاستفزاز: طلب الفز، وهو الخفة والانزعاج، وترك التثاقل، والسين والتاء فيه لشدة طلب الاستخفاف والإزعاج.
3 الإجلاب: جمع الجيوش وسوقها مشتق من الجلبة التي هي الصياح إذ الجيوش تجمع بالجلبة فيهم والصياح بهم.
4 قرأ حفص: {ورَجِلِك} بكسر الجيم لغة في رجل وقرأ غيره و {رجْلك} بسكون الجيم، والمعنى بخيلك: أي فرسانك ورجالك.(3/211)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)
شرح الكلمات:
يزجي لكم الفلك: أي يسوقها فتسير فيه.
لتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا رزق الله بالتجارة من إقليم إلى آخر.
وإذا مسكم الضُر: أي الشدة والبلاء والخوف من الغرق.
ضل من تدعون إلا إياه: أي غاب عنكم من كنتم تدعونهم من آلهتكم.
أعرضتم: أي عن دعاء الله وتوحيده في ذلك.
أو يرسل عليكم حاصباً: أي ريحاً ترمى بالحصباء لشدتها.
ثم لا تجدوا لكم وكيلا: أي حافظاً منه أي من الخسف أو الريح الحاصب.
قاصفاً من الريح: أي ريحاً شديدة تقصف الأشجار وتكسرها لقوتها.
علينا به تبيعاً: أي نصيراً ومعيناً يتبعنا ليثأر لكم منا.
ولقد كرمنا بني آدم: أي فضلناهم بالعلم والنطق واعتدال الخلق.
حملناهم في البر والبحر: في البر على البهائم والبحر على السفن.(3/212)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه. فقوله تعالى: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله} يخبرهم تعالى بأن ربهم الحق الذي يجب أن يعبدوه ويطيعوه بعد أن يؤمنوا به هو الذي {يزجي1 لهم الفلك} أي السفينة {في البحر} أي يسوقها فتسير بهم في البحر إلى حيث يريدون من أجل أن يطلبوا رزق الله لهم بالتجارة من إقليم لآخر. هذا هو إلهكم2 الحق، أما الأصنام والأوثان فهي مخلوقة لله مربوبة له، لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها، نفعاً ولا ضراً.
وقوله تعالى: {إنه كان بكم رحيماً} ومن رحمته تعالى تسخيره البحر لهم وإزجاء السفن وسوقها فيه ليحصلوا على أقواتهم عن طريق السفر والتجارة. وقوله تعالى: {وإذا مسكم الضر3 في البحر ضل من تدعون إلا إياه} يذكرهم بحقيقة واقعة لهم وهي أنهم إذا ركبوا في الفلك وأصابتهم شدة من مرض أو ضلال طريق أو عواصف بحرية اضطربت لها السفن وخافوا الغرق دعوا الله وحده ولم يبق من يدعوه سواه تعالى لكنهم إذا نجاهم من الهلكة التي خافوها ونزلوا بشاطئ السلامة اعرضوا عن ذكر الله وذكروا آلهتهم ونسوا ما كانوا يدعونه وهو الله من قبل {وكان الإنسان كفوراً} هذا طبعه وهذه حاله سرعة النسيان، وشدة الكفران. قوله تعالى: وهو يخاطبهم لهدايتهم {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر} يقرعهم على إعراضهم فيقول {أفأمنتم} الله تعالى {أن يخسف4 بكم} جانب الأرض الذي نزلتموه عند خروجكم من البحر {أو يرسل عليكم حاصباً} أي ريحاً شديدة تحمل الحصباء5 فيهلككم كما أهلك عادا {ثم لا تجدوا لكم} من غير الله {وكيلاً} يتولى دفع العذاب عنكم ويقول: {أم أمنتم} الله تعالى {أن يعيدكم فيه} أي في البحر {تارة أخرى} أي مرة أخرى {فيرسل عليكم قاصفاً من الريح} أي ريحاً شديدة تقصف الأشجار وتحطمها {فيغرقكم بما كفرتم} أي بسبب كفركم كما أغرق آل فرعون {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} أي تابعاً يثأر لكم منا ويتبعنا مطالباً بما نلنا منكم من العذاب.
__________
1 الإزجاء: السوق قال تعالى: {ألم تر أنّ الله يزجي سحاباً} وقال الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
سائل بني أسد ما هذه الصوت
2 أي: الذي يجب أن يشكروه بعبادته وحده دودن من سواه.
3 لفظ الضرّ يعم المرض وخوف الغرق والإمساك عن الجري وأهوال حالة اضطراباته.
4 الخسف: انهيار الأرض بالشيء فوقها، وجانب البر: ناحية الأرض إذ البحر جانب والأرض جانب.
5 يقال لكل ريح تحمل التراب والحصباء: حاصب، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور(3/213)
فما لكم إذاً لا تؤمنون وتوحدون وبالباطل تكفرون. وقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} أي فضلناهم بالنطق والعقل والعلم واعتدال الخلق {وحملناهم في البر والبحر} على ما سخرنا لهم من المراكب {ورزقناهم من الطيبات1} أي المستلذات من اللحوم والحبوب والفواكه والخضر والمياه العذبة الفرات. وقوله تعالى: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} فالآدميون أفضل من الجن وسائر الحيوانات، وخواصهم أفضل من الملائكة، وعامة الملائكة أفضل من عامة الآدميين ومع هذا فإن الآدمي إذا كفر ربه وأشرك في عبادته غيره، وترك عبادته، وتخلى عن محبته ومراقبته أصبح شر الخليقة كلها. قال تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها، أولئك هم شر البرية} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تعريف الله تعالى بذكر صفاته الفعلية والذاتية.
2- تذكير المشركين بحالهم في الشدة والرخاء حيث يعرفون الله في الشدة ويخلصون له الدعاء، وينكرونه في الرخاء ويشركون به سواه.
3- تخويف المشركين بأن الله تعالى قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من الريح فيهلكهم أو يردهم إلى البحر مرة أخرى ويرسل عليهم قاصفاً من الريح فيغرقهم بسبب كفرهم بالله، وعودتهم إلى الشرك بعد دعائه تعالى والتضرع إليه حال الشدة.
4- بيان منن الله تعالى على الإنسان وأفضاله عليه في تكريمه وتفضيله.
5- حال الرخاء أصعب على الناس من حال الشدة بالقحط والمرض، أو غيرهما من المصائب.
6- الإعلان عن كرامة الآدمي وشرفه على سائر المخلوقات الأرضية.
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ2 أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ
__________
1 في الآية دليل على إبطال الزهد في لذيد الطعام كالعسل والسمن واللحم والفواكه والاكتفاء بالخبز بالملح ونحوه مع توفر طيب الطعام والشراب لأنه مخالف لمنهج السلف وفيه كفر ما أنعم الله تعالى به على عباده من طيب الرزق.
2 {فمن أوتي} معطوف على مقدر اقتضاه قوله: {تدعو كل اناس بإمامهم} أي فيؤتون كتبهم {فمن أوتي كتابه ... } الخ.(3/214)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77)
شرح الكلمات:
بإمامهم: أي الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه في الخير أو الشر.
فتيلا: أي مقدار فتيل وهو الخيط الذي يوجد وسط النواة.
ومن كان في هذه أعمى: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله تعالى الدالة على وجوده وعلمه وقدرته، فلم يؤمن به ولم يعبده فهو في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا.
وإن كادوا: أي قاربوا.
ليفتنونك: أي يستنزلونك عن الحق، أي يطلبون نزولك عنه.
لتفتري علينا غيره: أي لتقول علينا افتراء غير الذي أوحينا إليك.
إذاً لاتخذوك خليلاً: أي لو فعلت الذي طلبوا منك فعله لاتخذوك خليلاً لهم.
ضعف الحياة وضعف الممات: أي لعذبناك عذاب الدنيا مضاعفاً وعذاب الآخرة كذلك.
ليستفزونك من الأرض: أي ليستخفونك من الأرض أرض مكة.
لا يلبثون خلافك: أي لا يبقون خلفك أي بعدك إلا قليلاً ويهلكهم الله.
سنة من قد أرسلنا من قبلك: أي لو خرجوك لعذبناهم بعد خروجك بقليل، سنتنا في الأمم.
ولا تجد لستتنا تحويلاً: أي عما جرت به في الأمم السابقة.(3/215)
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله في تقرير عقيدة البعث والجزاء، اذكر يا رسولنا، {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} الذي كانوا يقتدون به ويتبعون فيتقدم ذلك الإمام ووراءه أتباعه وتوزع الكتب عليهم واحداً واحداً فمن أعطى كتابه بيمينه تشريفاً له وتكريماً، فأولئك الذين أكرموا بإعطائهم كتبهم بإيمانهم، يقرأون كتابهم ويحاسبون بما فيه {ولا يظلمون} أي لا ينقصون مقدار فتيل لا تنقص حسناتهم، ولا بزيادة سيئاتهم1. واذكر هذا لهم تعضهم به لعلهم يتعظون، وقوله تعالى: {ومن كان في هذه} أي الدنيا {أعمى} ، لا يبصر هذه الحجج والآيات والدلائل وأصر على الشرك، والتكذيب والمعاصي {فهو في الآخرة أعمى} أي أشد عمى {وأضل سبيلا} فلا يرى طريق النجاة ولا يسلكه حتى يقع في جهنم. وقوله: {وان كادوا ليفتنونك2} أي يصرفونك {عن الذي أوحينا3 إليك} من توحيدنا والكفر بالباطل وأهله. {لتفتري علينا غيره} أي لتقول علينا غير الحق الذي أوحيناه إليك، وإذاً لو فعلت بأن وافقتهم على ما طلبوا منك، من الإغضاء على شركهم والتسامح معهم إقراراً لباطلهم، ولو مؤقتاً، {لاتخذوك خليلاً} لهم وكانوا أولياء لك، وذلك أن المشركين في مكة والطائف، واليهود في المدينة كانوا يحاولون جهدم أن يستنزلوا الرسول على شيء من الحق الذي يأمر به ويدعو إليه مكراً منهم وخديعة سياسية إذ لو وافقهم على شيء لطالبوا بآخر، ولقالوا قد رجع إلينا، فهو إذًا يَتَقَوَّل، وليس بالذي يوحى إليه بدليل قبوله منا كذا وكذا وتنازله عن كذا وكذا. وقوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك} أي على الحق حيث عصمناك {لقد كدت} أي قاربت {تركن} 4، أي تميل {إليهم شيئاً قليلاً} بقبول بعض اقتراحاتهم {إذاً} أي لو ملت إليهم، وقبلت منهم ولو شيئاً يسيراً {لأذقناك ضعف5 الحياة وضعف الممات6} ، أي لضاعفنا عليك العذاب في الدنيا والآخرة ثم لا تجد لك نصيراً ينصرك إذا نحن خذلناك وعذبناك وقوله تعالى في حادثة أخرى وهي أنهم لمّا فشلوا في المحاولات السلمية أرادوا استعمال القوة فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الحياة فأخبر تعالى
__________
1 لم يذكر من أوتي كتبهم بشمائلهم إذ هم الذين خسروا أنفسهم اكتفاء بذكر من أوتوا كتبهم بأيمانهم، وقد ذكر في أول السورة: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وذكر في سورتي الحاقة والانشقاق.
2 عدي فعل يفتنونك بعن لأنه مضمن معنى فعل يتعدّى بها وهو الصرف يقال: صرفه عن كذا. أي يصرفونك.
3 الآية مسوقة مساق الامتنان على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث عصمه، وفيها بيان مدى ما كان المشركون يريدونه من صرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحق الذي جاءه وهو يدعو إليه من التوحيد.
4 الركون: الميل بالركن الذي هو الجانب من جسد الإنسان واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب.
5 هذه الجملة جزاء لجملة: {لقد كدت تركن إليهم} إذ تقدير الكلام لو ركنت إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات.
6 جائز أن يكون المراد بعذاب الدنيا: تراكم المصائب والأزراء في مدّة الحياة وعذاب الممات أن يموت مكموداً مستذلاً بين من فازوا عليه بشرف سقوطه بينهم وضياع ما كان يأمله ويدعو إليه.(3/216)
رسوله بذلك إعلاماً وإنذاراً، فقال: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} أرض مكة {ليخرجوك منها وإذاً} ، أي لو فعلوا لم يلبثوا بعد إخراجك إلا زمنا قليلاً ونهلكهم كما هي سنتنا في الأمم السابقة التي أخرجت أنبياءها أو قتلتهم هذا معنى قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك1} أي يستخفونك {من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثوا خلافك2 إلا قليلاً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} أي عما جرت به في الأمم السابقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الإقتداء بالصالحين ومتابعتهم والترهيب من الإقتداء بأهل الفساد ومتابعتهم.
2- عدالة الله تعالى في الموقف بإقامة الحجة على العبد وعدم ظلمه شيئاً.
2- عمى الدنيا عن الحق وشواهده سبب عمى الآخرة وموجباته من السقوط في جهنم.
3- حرمة الركون أي الميل لأهل الباطل بالتنازل عن شيء من الحق الثابت إرضاءً لهم.
4- الوعيد الشديد لمن يرضى أهل الباطل تملقاً لهم طمعاً في دنياهم فيترك الحق لأجلهم.
6- إمضاء سنن الله تعالى وعدم تخلفها بحال من الأحوال.
أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء
__________
1 الاستفزاز: الحمل على الترحل، وهو استفعال من فزّ يفزّ بمعنى: بارح المكان، والمعنى: كادوا: أن يخرجوك من بلدك كرهاً ثم صرفهم الله عنك حتى خرجت برضاك واختيارك فلذا لم تنزل بهم العقوبة بخروجك من بلدك.
2 قرأ نافع: {خلفك} أي بعدك، وقرأ حفص {خلافك} وهي لغة في خلف بمعنى: بعد.(3/217)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84)
شرح الكلمات:
لدلوك الشمس: أي زوالها من كبد السماء ودحوضها إلى جهة الغرب.
إلى غسق الليل: أي إلى ظلمة الليل، إذ الغسق الظلمة.
وقرآن الفجر: صلاة الصبح.
كان مشهوداً: تشهده الملائكة، ملائكة الليل وملائكة النهار.
فتهجد به1: أي بالقرآن.
نافلة: أي زائدة عن الغرض وهي التهجد بالليل.
مقاماً محموداً: هو الشفاعة العظمى يوم القيامة حيث يحمده الأولون والآخرون.
أدخلني مدخل صدق: أي المدينة، إدخالاً مرضياً لا أرى فيه مكروهاً.
وأخرجني مخرج صدق: أي من مكة إخراجاً لا ألتفت بقلبي إليها.
وقل جاء الحق وزهق الباطل: أي عند دخولك مكة فاتحاً لها بإذن الله تعالى.
زهق الباطل: أي ذهب واضمحل.
أعرض ونأ بجانبه: أعرض عن الشكر فلم يشكر، ونأ بجانبه: أي ثنى عطفه متبختراً في كبرياء.
على شاكلته: أي طريقته ومذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلال.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الهائل لتلك الأحداث الجسام أمر تعالى رسوله بإقام الصلاة فإنها مأمن الخائفين، ومنار السالكين، ومعراج الأرواح إلى ساحة الأفراح فقال: {أقم الصلاة لدلوك
__________
1 تهجّد: إذا ألقى الهجود عنه، وهو النوم، وقام يصلّي، والتهجّد من الهجود وهو من الأضداد هجد: نام، وهجد: سهر.(3/218)
الشمس} أي لأول دلوكها1 وهو ميلها من كبد السماء إلى الغرب وهو وقت الزوال ودخول وقت الظهر، وقوله {إلى غسق2 الليل} أي إلى ظلمته، ودخلت صلاة العصر3 فيما بين دلوك الشمس وغسق الليل، ودخلت صلاة المغرب وصلاة العشاء في غسق الليل الذي هو ظلمته، وقوله: {وقرآن الفجر4} أي صلاة الصبح وهذه هي الصلوات الخمس المفروضة على أمة الإسلام، النبي وأتباعه سواء وقوله {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} يعني محضوراً، تحضره ملائكة النهار لتنصرف ملائكة الليل، لحديث الصحيح "يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ... " وقوله {ومن الليل فتهجد5 به نافلة لك} أي صلاة زائدة على الفرائض الخمس وهي قيام الليل، وهى واجب عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الآية، وعلى أمته مندوب إليه، مرغب فيه.
وقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} عسى من الله تعالى تفيد الوجوب، ولذا فقد أخبر تعالى رسوله مبشراً إياه بأن يقيمه يوم القيامة {مقاماً محموداً} يحمده عليه الأولون والآخرون. وهو الشفاعة العظمى حيث يتخلى عنها ادم فمن دونه ... حتى تنتهي إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: أنا لها، أنا لها، ويأذن له ربه فيشفع للخليقة في فضل القضاء، ليدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وتستريح الخليقة من عناء الموقف وطوله وصعوبته.
وقوله تعالى: {وقل رب6 أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} . هذه بشارة أخرى أن الله تعالى أذن لرسوله بالهجرة من تلقاء نفسه لا بإخراج قومه وهو كاره. فقال له: قل في دعائك ربي أدخلني المدينة دار هجرتي {مدخل صدق} بحيث لا أرى فيها مكروها، وأخرجني من مكة يوم تخرجني {مخرج صدق} غير ملتفت إليها بقلبي شوقاً وحنيناً إليها. {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} أي وسلني أن أجعل لك من لدني سلطاناً نصيراً لك على من بغاك بسوء، وكادك بمكر وخديعة، وحاول منعك من إقامة دينك، ودعوتك إلى ربك،
__________
1 ما في التفسير أشهر وأولى بالأخذ به وهو ما ذهب إليه عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس ومالك، ويرى غير هؤلاء من بعض الصحابة والتابعين: أن دلوك الشمس هو غروبها وعليه فلم تشمل الآية أوقات الصلوات الخمس بخلاف القول بدلوك الشمس: زوالها عن كبد السماء.
2 غسق الليل: سواده وظلمته قال ابن قيس الرّقيّات:
إنّ هذا الليل قد غسقاَ
واشتكيت الهمّ والأرقا
3 وقت العصر إذا زاد ظل كل شيء مثله، ووقت المغرب: غروب الشمس، ووقت العشاء: ذهاب الشفق الأحمر، ووقت الصبح طلوع الفجر ووقت الظهر: زوال الشمس عن كبد السماء.
4 {قرآن} : منصوب على الاغراء أي: والزم قرآن الفجر لأهميته ويصح أن ينصب على العطف أي: أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر أي: صلاته.
5 {نافلة لك} : أي نافلة لأجلك خاصة بك دون سائر أمتك.
6 روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ثمّ أمر بالهجرة فنزلت: {وقل ربّ أدخلني..} الخ وهو تعليم من الله لرسوله هذا الدعاء يقوله في صلاته وخارجها.(3/219)
وقوله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} هذه بشارة أخرى بأن الله تعالى سيفتح له مكة، ويدخلها ظافراً منتصراً وهو يكسر الأصنام حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين صنماً ويقول جاء الحق وزهق الباطل أي ذهب الكفر واضمحل. {إن الباطل كان زهوقاً} . لا بقاء له ولا ثبات إذا صاول الحق، ووقف في وجهه، وجائز أن يكون المراد بالحق، القرآن وبالباطل الكذب والافتراء، وجائز أن يكون الحق الإسلام والباطل الكفر والشرك وأعم من ذلك، أن الحق هو كل ما هو طاعة لله عز وحل، والباطل كل طاعة للشيطان من الشرك والظلم وسائر المعاصي. وقوله تعالى: {وننزل من1 القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} أي وننزل عليك يا رسولنا محمد من القرآن ما هو شفاء2 أي ما يستشفى به من مرض الجهل والضلال والشك والوساوس ورحمة للمؤمنين دون الكافرين، لأن المؤمنين يعملون به فيرحمهم الله تعالى بعملهم بكتابه، وأما الكافرون، فلا رحمة لهم فيه، لأنهم مكذبون به تاركون للعمل بما فيه. وقوله: {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} أي ولا يزيد القرآن الظالمين وهم المشركون المعاندون الذين أصروا على الباطل عناداً ومكابرة، هؤلاء لا يزيدهم ما ينزل من القرآن ويسمعونه إلا خساراً لازدياد كفرهم وظلمهم وعنادهم. وقوله تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض3 ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوساً} يخبر الله تعالى عن الإنسان الكافر المحروم من نور الإيمان وهداية الإسلام أنه إذا أنعم عليه بنعمة النجاة من الهلاك وقد أشرف عليه بغرق أو مرض أو جوع أو نحوه أعرض عن ذكر الله ودعائه كما كان يدعوه في حال الشدة، ونأى بجانبه أي، بعد عنا فلا يلتفت إلينا بقلبه، وذهب في خيلائه وكبريائه وقوله تعالى: {وإذا مسه الشر كان4 يؤوساً} أي قنوطاً. هذا هو الكافر، ذو ظلمة النفس لكفره وعصيانه. إذا مسه الشر من جوع أو مرض أو خوف أحاط به كان يؤوساً أي كثير اليأس والقنوط تامهما، لعدم إيمانه بالله ورحمته وقدرته على إنجائه وخلاصه. وقوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} أي قل يا رسولنا للمشركين، كل منا ومنكم يعمل على طريقته ومذهبه بحسب حاله هداية وضلالاً، والله تعالى ربكم أعلم بمن هو أهدى منا ومنكم سبيلا. ويجزي الكل بحسب عمله وسلوكه. وهذه كلمة
__________
1 {من} : بيانية أي: مبينة للموصول، ما هو شفاء وليست للابتداء ولا هي زائدة أي: وننزّل القرآن الذي هو شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين.
2 وقد يستشفى بالقرآن من الأمراض الجسمية ففي البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثهم وكانوا ثلاثين راكباً فنزلوا على قوم من العرب فسألوهم أن يضيفوهم فأبوا فلدغ سيد الحي فأتاهم آت وقال لهم: فيكم من يرقي من العقرب؟ قلنا: نعم لكن حتى تعطونا فقالوا: إنا نعطيكم ثلاثين شاة فرقاه بفاتحة الكتاب قرأها عليه سبع مرات فشفي فأخذوا الثلاثين شاة فأتوا بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم "كلوا وأطعمونا من الغنم".
3 المراد بالإنسان هنا: الكافر لا المؤمن وال فيه للجنس فيشمل اللّفظ كل إنسان كافر لم يهتد إلى الإسلام.
4 كونه يؤوساً: لا يتعارض مع كثرة دعائه كما في قوله تعالى: {فذو دعاء عريض} إذ يدعو وهو قانط.(3/220)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
مفاصلة قاطعة، للنزاع الناجم عن كون كل يدعى أنه على الحق وأن دينه أصوب، وطريقته أمثل وسبيله أجدى وأنفع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب إقامة الصلاة وبيان أوقاتها المحددة لها.
2- الترغيب في النوافل، وخاصة التهجد أي "نافلة الليل".
3- تقرير الشفاعة العظمى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- ضعف الباطل وسرعة تلاشيه إذا صاوله الحق ووقف في وجهه.
5- القرآن شفاء لأمراض القلوب عامة ورحمة بالمؤمنين خاصة.
6- بيان طبع المرء الكافر وبيان حال الضعف الملازم له.
7- تعليم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين كيف يتخلصون من الجدال الفارغ والحوار غير المثمر.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89)
شرح الكلمات:
يسألونك: أي يسألك المشركون بواسطة أهل الكتاب عن الروح الذي يحيا به البدن.(3/221)
من أمر ربي: أي من شأنه وعلمه الذي استأثر به ولم يعلمه غيره.
لنذهبن بالذي أوحينا إليك: أي القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف لفعلنا.
لك به علينا وكيلا: يمنع ذلك منا ويحول دون ما أردناه منك.
إلا رحمة من ربك: أي لكن أبقيناه عليك رحمة من ربك فلم نذهب به.
بمثل هذا القرآن: من الفصاحة والبلاغة والمحتوى من الغيوب والشرائع والأحكام.
ظهيراً: أي معيناً ونصيراً.
صرفنا: بينا للناس مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا به فيؤمنوا ويوحدوا.
فأبى أكثر الناس: أي أهل مكة إلا كفوراً أي جحوداً للحق وعناداً فيه.
معنى الآيات:
يقول تعالى: {ويسألونك1 عن الروح} إذ قد سأله المشركون عن الروح وعن أصحاب الكهف، وذي القرنين بإيعاز من يهود المدينة فأخبره تعالى: بذلك وعلمه الرد عليهم فقال: {قل الروح من أمر ربي2} وعلمه الذي لا يعلمه إلا هو، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً لأن سؤالهم هذا ونظائره دال على إدعائهم العلم فأعلمهم أن ما أوتوه من العلم إلا قليل بجانب علم الله تعالى3 وقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن4 بالذي أوحينا إليك} هذا امتنان من الله على رسوله الذي أنزل عليه القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بأنه تعالى قادر على محوه من صدره. وسطره، فلا تبقى منه آية ثم لا يجد الرسول وكيلاً له يمنعه من فِعْلِ الله به ذلك ولكن رحمة منه تعالى لم يشأ ذلك بل يبقيه إلى قرب قيام الساعة حجة الله على عباده وآية على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدق رسالته، وليس هذا بأول إفضال من الله تعالى على رسوله، بل فضل الله عليه كبير، ولنذكر من ذلك طرفاً وهو
__________
1 روى ابن إسحق أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود ويثرب يسألانهم عن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال اليهود لهما: سلوه عن ثلاثة وذكروا لهما أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح، فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي وإلاّ فروا رأيكم فيه فأنزل الله تعالى سورة الكهف وفيها الجواب عن أصحاب الكهف، وذي القرنين، وأنزل هذه الآية: {يسألونك عن الروح} .
2 يطلق الروح على ملك من الملائكة عظيم ويطلق على جبريل ويطلق على هذا الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير وهو المسؤول عنه في هذه الآية، وسؤالهم كان عن بيان حقيقته وماهيته.
3 لفظ الآية عام وإن كان سبب نزولها خاصاً إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإنه ما أوتي أحد علماً إلا وهو إلى جانب علم الله تعالى قليل.
4 روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: إن هذا القرآن الذي أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قالوا: كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وكتبناه في المصاحف قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء ثمّ قرأ: {ولئن شئنا لنذهبنّ} الآية.(3/222)
عموم رسالته، كونه خاتم الأنبياء، العروج به إلى الملكوت الأعلى، إمامته للأنبياء الشفاعة العظمى، والمقام المحمود.
وقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت1 الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} لاشك أن هذا الذي علم الله رسوله أن يقوله له سبب وهو ادعاء بعضهم أنه في إمكانه أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو آية صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك تبطل الدعوى، وينتصر باطلهم على الحق. فأمر تعالى رسوله أن يرد على هذا الزعم الباطل بقوله: قل يا رسولنا لهؤلاء الزاعمين الإتيان بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متظاهرين على الإتيان بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ذلك لأنه وحي الله وكتابه، وحجته على خلقه، وكفى. فكيف إذا يمكن للإنس والجن أن يأتوا بمثله؟!
وقوله: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} أي بينا مثلاً من جنس كل مثل من أجل هداية الناس وإصلاحهم علهم يتذكرون فيتعظون، فيؤمنون ويوحدون فأبى أكثر الناس إلا كفوراً أي جحوداً بالحق، وإنكارا للقرآن وتكذيباً به وبما جاء فيه من الحق والهدى والنور، لما سبق القضاء الالهي من امتلاء جهنم بالغاوين وجنود إبليس أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- علم الروح مما استأئر الله تعالى به.
2- ما علم أهل العلم إلى علم الله تعالى إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من ماء المحيط.
3- حفظ القرآن في الصدور والسطور إلى قرب الساعة.
4- عجز الإنس والجن عن الإتيان بقرآن كالقرآن الكريم.
5- لما سبق في علم الله من شقاوة الناس تجد أكثرهم لا يؤمنون.
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا
__________
1 نزلت هذه الآية ردَّاً على كفار قريش عندما قال النضر بن الحارث وغيره لو نشاء لقلنا مثل هذا. ومعنى ظهيراً: أي: عنوناً ونصيراً كما يتعاون الشعراء على قصيد الشعر.(3/223)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً (95)
شرح الكلمات:
ينبوعاً: عيناً لا ينضب ماؤها فهي دائمة الجريان.
جنة: بستان كثير الأشجار.
كسفاً: قطعاً جمع كسفة كقطعة.
قبيلاً: مقابلة لنراهم عياناً.
من زخرف: من ذهب.
ترقى: تصعد في السماء
مطمئنين: ساكنين في الأرض لا يبرحون منها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والبعث وتقرير ذلك. فقال تعالى مخبراً عن قيلهم لرسول الله وهم يجادلون في نبوته: فقالوا: {لن1 نؤمن لك} أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث والجزاء لنا {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} أي
__________
1 نزلت هذه الآية في رؤساء قريش مثل: عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم حيث اجتمعوا حول الكعبة ليلا وبعثوا إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان حريصاً على هدايتهم فأتاهم فقالوا له كلاماً طويلاً ثم خلصوا إلى ما ذكر تعالى في هذه الآية وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا الخ.(3/224)
عيناً يجري ماؤها على وجه الأرض لا ينقطع {أو تكون لك جنة} أي بستان من نخيل وعنب، {فتفجر الأنهار خلالها} أي خلال الأشجار تفجيراً، {أو تسقط السماء كما زعمت علينا1 كسفاً} أي قطعاً، {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا2} أي مقابلة نراهم معاينة، {أو يكون لك بيت من زخرف} أي من ذهب تسكنه بيننا {أو ترقى في السماء} أي تصعد بسلم ذي درج في السماء، {ولن نؤمن لرقيك3} إن أنت رقيت {حتى تنزل علينا كتاباً} من عند الله {نقرأه} يأمرنا فيه بالإيمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون، والله يعلم أنهم لا يؤمنون، فلذا لم يستجب لهم وقال لرسوله: قل يا محمد لهم. {سبحان الله} متعجباً من طلباتهم {هل كنت إلا بشراً رسولاً} ! ؟! أي هل كنت غير بشر رسول؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي طلبوا، إن ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي، وإنما يقدر عليه رب عظيم قادر، يقول للشيء كن.... فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية، وإنما أصرح دائماً بأني عبد الله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا بالبعث الآخر وتعملوا له بالطاعات وترك المعاصي. وقوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} أي وما منع أهل مكة أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى4 على يد رسولهم {إلا أن قالوا} أي إلا قولهم {أبعث الله بشراً رسولاً} منكرين على الله أن يبعث رسولاً من البشر!
وقوله تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشراً، المتعجبين من ذلك، قل لهم: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما يطلب منهم فعله بإذننا لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم لهم. ولذا بعثنا إليكم رسولاً من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم والبيان لكم فكيف إذا تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه؟!
__________
1 الكسف: بفتح السين جمع كسفة بإسكانها، قرأ نافع كسفاً بفتح السين وكذا عاصم وقرأ غيرهما كسفاً بإسكان السين أي: قطعة.
2 فسر قبيلاً بعدّة تفسيرات قال ابن عباس: كفيلا، وقال مقاتل: شهيداً، وقال مجاهد جمع القبيلة أي: بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، وقيل ضمناء يضمنون لنا إتيانك به وما في التفسير أولى وأظهر في تفسير الآية.
3 الرقى: مصدر رقى يرقي رقياً ورُقيا أي: صعد المنبر ونحوه.
4 الهدى: أي ما يحقق الهداية من الكتب والرسل من عند الله تعالى.(3/225)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- بيان شدة عناد مشركي قريش، وتصلبهم وتحزبهم إزإء دعوة التوحيد.
3- بيان سخف عقول المشركين برضاهم للألوهية بحجر وإنكارهم الرسالة للبشر!
4- تقرير أن التفاهم حسب سنة الله لا يتم إلا بين المتجانسين فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم إلا أن يشاء الله فلا يتفاهم إنسان مع حيوان أو جان.
قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا (99)
شرح الكلمات:
شهيداً: على أني رسول الله إليكم وقد بلغتكم وعلى أنكم كفرتم وعاندتم.
فلن تجد لهم أولياء: أي يهدونهم.
على وجوههم: أي يمشون على وجوههم.
عمياً وبكماً وصماً: لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون.(3/226)
كلما خبت: أي سكن لهبها زدناهم سعيراً أي تلهباً واستعاراً.
وقالوا: أي منكرين للبعث.
مثلهم: أي أناساً مثلهم.
أجلا: وقتاً محدداً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية إذ يقول تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لأولئك المنكرين أن يكون الرسول بشرًا، {كفى1 بالله شهيداً بيني وبينكم} على أني رسوله وأنتم منكرون عليَّ ذلك.
إنه تعالى كان وما زال {بعباده خبيراً} أي ذا خبرة تامة بهم {بصيراً} بأحوالهم يعلم المحق منهم من المبطل، والصادق من الكاذب وسيجزي كلاً بعدله ورحمته.
وقوله تعالى: {ومن يهد الله فهو المهتد2} يخبر تعالى أن الهداية بيده تعالى فمن يهده الله فهو المهتدي بحق، {ومن يضلل فلن تجد لهم3 أولياء من دونه} أي يهدونهم بحال من الأحوال، وفي هذا الكلام تسلية للرسول وعزاء له في قومه المصرين على الجحود والإنكار لرسالته.
وقوله: {ونحشرهم يوم القيامة} أي أولئك المكذبين الضالين الذين ماتوا على ضلالهم وتكذيبهم فلم يتوبوا نحشرهم يوم القيامة، يمشون على وجوههم4 حال كونهم عمياً لا يبصرون، بكماً لا ينطقون، صماً5 لا يسمعون وقوله تعالى: {مأواهم جهنم} أي محل استقرارهم في ذلك اليوم جهنم الموصوفة بأنها {كلما خبت} أي سكن لهبها عنهم زادهم الله سعيراً أي تلهباً
__________
1 روي أن نفراً من قريش قالوا حين سمعوا قوله: {هل كنت إلاّ بشراً رسولاً} فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} .
2 حذفت الياء ليوقف على الدّال بالسكون وهي لغة فصيحة وفي حال الوصل يؤتى بالياء نطقا بها.
3 جمع الضمير (لهم) مراعاة إلى أن (من) تكون للواحد والمتعدد.
4 أي: يسحبون على وجوههم إهانة لهم كما يفعل في الدنيا بمن ينتقم منه حيث يسحبونه على وجهه في الأرض إهانة، ومن سورة القمر قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر} وجائز أن يمشوا على وجوههم عند حشرهم إلى جهنم فإذا دخلوها سحبوا على وجوههم لحديث أنس: "أليس الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه؟ " في جواب سائل قال: أفيحشر الكفّار على وجوههم؟
5 هذا في حال حشرهم إلى جهنم وكانوا قبل ذلك يسمعون ويبصرون وينطقون ثم إذا دخلوها عادت إليهم حواسهم للآيات القرآنية المصرّحة بذلك منها: {ورأى المجرمون..} ومنها: {سمعوا لها تغيظاً وزفيرا} ومنها: {قالوا يا مالك ليقض علينا ربك..} .(3/227)
واستعاراً. وقوله تعالى: {ذلك جزاؤهم} أي ذلك العذاب المذكور جزاؤهم بأنهم كفروا بآيات الله أي بسبب كفرهم بآيات الله. وقولهم إنكارا للبعث الآخر واستبعاداً له: {أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً} أي تراباً {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} ورد الله تعالى على هذا الاستبعاد منهم للحياة الثانية فقال: {أو لم يروا} أي أينكرون البعث الآخر؟ ولم يروا بعيون قلوبهم {أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم} ؟؟! بلى إنه لقادر لو كانوا يعلمون!
وقوله تعالى: {وجعل1 لهم أجلاً} أي وقتاً محدوداً معينا لهلاكهم وعذابهم {لا ريب فيه} وهم صائرون إليه لا محالة، وقوله: {فأبى الظالمون إلا كفوراً} أي مع هذا البيان والاستدلال العقلي أبى الظالمون إلا الجحود والكفران ليحق عليهم كلمة العذاب فيذوقوه والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم شهادة الله تعالى ووجوب الاكتفاء بها.
2- الهداية والإضلال بيد الله فيجب طلب الهداية منه والاستعاذة به من الضلال.
3- فظاعة عذاب يوم القيامة إذ يحشر الظالمون يمشون على وجوههم كالحيات وهم صم بكم عمي والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.
4- جهنم جزاء الكفر بآيات الله والإنكار للبعث والجزاء يوم القيامة.
5- دليل البعث عقلي كما هو نقلي فالقادر على البدء، قادر عقلاً على الإعادة بل الإعادة - عقلاً- أهون من البدء للخلق من لاشيء.
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ
__________
1 جملة: {وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه} معطوفة على جملة {أو لم يروا} لتأويلها بمعنى: قد رأوا ذلك لو كانوا يعقلون. الأجل: الزمن المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال والمراد به هنا مدّة حياتهم.(3/228)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
شرح الكلمات:
خزائن رحت ربي: أي من المطر والأرزاق.
لأمسكتم: أي منعتم الإنفاق.
خشية الإنفاق: خوف النفاد.
قتوراً: أي كثير الإقتار أي البخل والمنع للمال.
تسع آيات بينات: أي معجزات بينات أي واضحات وهو اليد والعصا والطمس الخ.
مسحوراً: أي مغلوباً على عقلك، مخدوعاً.
ما أنزل هؤلاء: أي الآيات التسع.
مثبوراً: هالكاً بانصرافك عن الحق والخير.
فأراد أن يستفزهم: أي يستخفهم ويخرجهم من ديار مصر.
اسكنوا الأرض: أي أرض القدس والشام.
الآخرة: أي الساعة.
لفيفاً: أي مختلطين من أحياء وقبائل شتى.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قل يا محمد لأولئك الذين يطالبون بتحويل جبل الصفا إلى ذهب، وتحويل المنطقة حول مكة إلى بساتين من نخيل وأعناب تجري الأنهار من خلالها، قل لهم، لو كنتم أنتم تملكون خزائن رحمة ربي من الأموال والأرزاق لأمسكتم بخلا بها ولم تنفقوها خوفاً من نفادها إذ هذا طبعكم، وهو البخل، {وكان الإنسان} قبل هدايته وإيمانه {قتوراً} أي كثير التقتير بخلاً وشحاً نفسياً ملازماً له حتى يعالج هذا الشح بما وضع الله تعالى من دواء نافع جاء بيانه في سورة المعارج1 من هذا
__________
1 هو قوله تعالى: {إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسّه الشر جزوعاً وإذا مسّه الخير منوعاً إلاّ المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون} إلى قوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} .(3/229)
الكتاب الكريم.
وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات1} أي، ولقد أعطينا موسى بن عمران نبي بني إسرائيل تسع آيات وهي: اليد، والعصا والدّم2، وانفلاق البحر، والطمس على أموال آل فرعون، والطوفان والجراد والقمل والضفادع، فهل آمن عليها آل فرعون؟! لا، إذاً، فلو أعطيناك ما طالب به قومك المشركون من الآيات الست التي اقترحوها وتقدمت في هذه السياق الكريم مبينة، ما كانوا ليؤمنوا بها، ومن هنا فلا فائدة من إعطائك إياها.
وقوله تعالى: {فاسأل بني إسرائيل} أي سل يا نبينا علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره، إذ جاءهم موسى بطالب فرعون بإرسالهم معه ليخرج بهم إلى بلاد القدس، وأرى فرعون الآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما يطالب به فقال له فرعون: {إني لأظنك يا موسى مسحوراً} أي ساحراً لإظهارك ما أظهرت من هذه الخوارق، ومسحوراً بمعنى مخدوعاً مغلوباً على عقلك فتقول الذي تقول مما لا يقوله العقلاء فرد عليه موسى بقوله بما أخبر تعالى به في قوله {لقد علمت} أي فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات أي خالقها ومالكها والمدبر لها {بصائر} أي آيات واضحات مضيئات هاديات لمن طلب الهداية، فعميت عنها وأنت تعلم صدقها {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً3} ! أي من أجل هذا أظنك يا فرعون ملعوناً، من رحمة الله مبعداً مثبوراً هالكاً. فلما أعيته أي فرعون الحجج والبينات لجأ إلى القوة، {فأراد أن يستفزهم من الأرض} أي يستخفهم من أرض مصر بالقتل الجماعي استئصالاً لهم، أو بالنفي والطرد والتشريد، فعامله الرب تعالى بنقيض، قصده فأغرقه الله تعالى هو وجنوده أجمعين، وهو معنى قوله تعالى: {فأغرقناه ومن معه} أي من الجنود {أجمعين} وقوله تعالى:
__________
1 روى الترمذي وصححه والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي: " أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين، فأتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه عن قول الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات} فقال: لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وعليكم يا معشر يهود خاصة ألاّ تعدوا في السبت فقبّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي قال: ما يمنعكما أن تؤمنا؟ قالا: إن داود دعا الله ألاّ يزال في ذريته نبي وإنّا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود". وعليه فالمراد بالآيات: آيات التشريع في التوراة، وهذا وجه. ولا منافاة مع تفسير الآيات بالمعجزات التسع كما في التفسير.
2 لا خلاف في اليد والعصا والطوفان والجراد والقمّل والدم وإنما الخلاف في الثلاث الباقية وانفلاق البحر مجمع عليه وإنما في الطمس والحجر لأن الحجر كان في التيه بعد نجاة بني إسرائيل.
3 الظنّ هنا بمعنى التحقيق، وذكر لكلمة مثبور عدة معان كلها صحيحة منها: الهلاك والخسران والخبال والمنع من الخير، قال ابن الزّبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغيِّ ومَنْ مال مَيْلَةُ مثبورُ
أي هالك وخاسر.(3/230)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{وقلنا من بعده} أي من بعد هلاك فرعون وجنوده لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام {اسكنوا الأرض} أي أرض القدس والشام إلى نهاية آجالكم بالموت. {فإذا جاء وعد الآخرة} أي يوم القيامة بعثناكم أحياء كغيركم، {وجئنا بكم لفيفاً} أي مختلطين من أحياء وقبائل أجناس شتى لا ميزة لأحد على آخر، حفاة عراة لفصل القضاء ثم الحساب والجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الشح من طبع الإنسان إلا أن يعالجه بالإيمان والتقوى فيقيه الله منه1.
2- الآيات وحدها لا تكفي لهداية الإنسان بل لا بد من توفيق إلهي.
9- مظاهر قدرة الله تعالى وانتصاره لأوليائه وكبت أعدائه.
4- بيان كيفية حشر الناس يوم القيامة لفيفاً أخلاطاً من قبائل وأجناس شتى.
وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
شرح الكلمات:
وبالحق أنزلناه: أي القرآن.
وبالحق نزل: أي نزل ببيان الحق في العبادات والعقائد والأخبار والمواعظ والحكم والأحكام.
وقرآناً فرقناه: أن نزلناه مفرقاً في ظرف ثلاث وعشرين سنة لحكمة اقتضت ذلك.
على مكث: أي على مهل وتؤده ليفهمه المستمع إليه.
__________
1 قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} .(3/231)
ونزلناه تنزيلا: أي شيئاً فشيئاً حسب مصالح الأمة لتكمل به ولتسعد عليه.
أوتوا العلم من قبله: أي مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي.
للأذقان سجداً: أي سجداً على وجوههم، ومن سجد على وجهه فقد خرَّ على ذقنه ساجداً.
إن كان وعد ربنا لمفعولاً: منجزاً، واقعاً، فقد أرسل النبي الأمي الذي بشرت به كتبه وأنزل عليه كتابه.
معنى الآيات:
يقول تعالى: {وبالحق أنزلناه} أي ذلك الكتاب الذي جحد به الجاحدون، وكذب به المشركون أنزلناه بالحق الثابت حيث لا شك أنه كتاب الله ووحيه إلى رسوله، و {بالحق نزل} فكل ما جاء فيه ودعا إليه وأمر به. وأخبر عنه من عقائد وتشريع وأخبار ووعد ووعيد كله حق ثابت لا خلاف فيه ولا ريبة منه. وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} أي لم نرسلك لخلق الهداية في قلوب عبادنا ولا لإجبارهم بقوة السلطان على الإيمان بنا وتوحيدنا، وإنما أرسلناك للدعوة والتبليغ {مبشراً} من أطاعنا بالجنة ومنذراً من عصانا مخوفاً من النار. وفي هذا تقرير لرسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونبوته وقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} أي أنزلنا القرآن وفرقناه في خلال ثلاث وعشرين سنة لحكمة منا اقتضت ذلك وقوله {لتقرأه على الناس على مكث} آيات بعد آيات ليكون ذلك أدْعَى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه، وقوله تعالى: {ونزلناه1 تنزيلاً} أي شيئاً فشيئاً حسب2 مصالح العباد وما تتطلبه تربيتهم الروحية والإنسانية ليكملوا به، عقولاً وأخلاقاً وأرواحاً ويسعدوا به في الدارين وقوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} أي قل يا رسولنا للمنكرين للوحي القرآني من قومك، آمنوا به أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به كعدمه لا يغير من واقعه شيئاً فسوف يؤمن به ويسعد عليه غيركم إن لم تؤمنوا أنتم به وهاهم أولاء الذين أوتوا العلم من قبله من علماء أهل الكتابين اليهود والنصارى قد آمنوا به، يريد أمثال عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي أصحم الحبشي وإنهم {إذا يتلى عليهم} أي يُقرأ عليهم {يخرون للأذقان سجداً} أي يخرون ساجدين على أذقانهم ووجوههم ويقولون حال سجودهم {سبحان ربنا} 3
__________
1 قال القرطبي: لا خلاف في أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة.
2 {تنزيلا} : مصدر مؤكد لنزوله نجما بعد نجم وهو معنى مفرّقا آية بعد آية وسورة بعد سورة حتى اكتمل نزوله.
3 في الآية دليل على مشروعية التسبيح في السجود وشاهده من السنة رواية مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في سجوده وركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وورد أنه فعله استجابة لقول الله تعالى {فسبّح بحمد ربك واستغفره} آخر سورة النصر.(3/232)
أي تنزيهاً له أن يخلف وعده إذ وعد أنه يبعث نبي آخر الزمان وينزل عليه قرآناً، {إن كان وعد ربنا لمفعولا} إقراراً منهم بالنبوة المحمدية والقرآن العظيم، أي ناجزاً إذ وعد بإرسال النبي الخاتم وإنزال الكتاب عليه فأنجز ما وعد، وهكذا وعد ربنا دائماً ناجز لا يتخلف. وقوله {ويخرون1 للأذقان يبكون2} أي عندما يسمعون القرآن لا يسجدون فحسب بل يخرون يبكون ويزيدهم سماع القرآن وتلاوته خشوعاً في قلوبهم واطمئناناً في جوارحهم لأنه الحق سمعوه من ربهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- القرآن حق من الله وما نزل به كله حق.
2- الندب إلى ترتيل القرآن لاسيما عند قراءته على الناس لدعوتهم إلى الله تعالى.
3- تقرير نزول القرآن مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة.
4- تقرير النبوة المحمدية بنزول القرآن وإيمان من آمن به من أهل الكتاب.
5- بيان حقيقة السجود وأنه وضع الوجه على الأرض.
6- مشروعية السجود للقارىء أو المستمع وسنية ذلك عند قراءة هذه الآية وهي {يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} فيخر ساجداً مكبراً في الخفض وفي الرفع قائلاً: الله أكبر ويسبح ويدعو في سجوده بما يشاء.
قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
__________
1 {الأذقان} جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، والسجود على الجبهة والأنف وإنما ذكر الأذقان هنا لأنّ اللحية تصل إلى الأرض قبل الجبهة والأنف إذا كانت طويلة كما هي السنة.
2 دلت الآية على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها، والخلاف في النفخ والأنين والتنحنح والصحيح أنّ ما كان بحروف تسمع كان كلاماً ويقطع الصلاة وما لم يكن بحرف فلا فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبكي في صلاته ويسمع له أزير كأزير المرجل.(3/233)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
شرح الكلمات:
ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أي سموه بأيهما ونادوه بكل واحد منهما الله أو الرحمن.
أياما تدعوا: أي إن تدعوه بأيهما فهو حسن لأن له الأسماء الحسنى وهذان منها.
ولا تجهر بصلاتك: أي بقراءتك في الصلاة كراهة أن يسمعها المشركون فيسبوك ويسبوا القرآن ومن أنزله.
ولا تخافت بها: أي ولا تسر به إسراراً حتى ينتفع بقراءتك أصحابك الذين يصلون وراءك بصلاتك.
وابتغ بين ذلك سبيلا: أي اطلب بين السر والجهر طريقاً وسطاً.
لم يتخذ ولداً: كما يقول الكافرون.
ولم يكن له شريك: كما يقول المشركون.
ولم يكن له ولي من الذل: أي لم يكن له ولي ينصره من أجل الذل إذ هو العزيز الجبار مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
وكبره تكبيرا: أي عظمه تعظيماً كاملاً عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل.
معنى الآيات:
كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في دعائه يا الله. يا رحمن، يا رحمن يا رحيم فسمعه المشركون وهم يتصيدون له أية شبهة ليثيروها ضده فلما سمعوه يقول: يا الله، يا رحمن قالوا: أنظروا إليه كيف يدعو إلهين وينهانا عن ذلك فأنزل الله تعالى1: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} أي قل لهم يا نبينا أدعوا الله أو أدعوا الرحمن فالله هو الرحمن الرحيم فـ {أياما تدعوا} منهما الله أو الرحمن فهو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى وقوله تعالى: {ولا تجهر2 بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} أي وسطاً بين السر والجهر، وذلك أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبُّوا قارئه ومن أنزله، فأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون تابعون له إذا قرأوا في صلاتهم أن لا يجهروا حتى لا
__________
1 فنزلت الآية مبيّنة أنهما الله والرحمن اسمان لمسمى واحد فإن دُعي يا الله فهو ذاك وإن دعي يا رحمن فهو ذاك.
2 روى مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} الخ قوله نزلت ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوارٍ بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به". فقال الله تعالى: {ولا تجهر بصلات ك،} فيسمع المشركون قراءتك {ولا تخافت بها} عن أصحابك أي: أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر {وابتغ بين ذلك سبيلا} أي: بين الجهر والمخافتة كان هذا في مكة ثم استقرت السنة بالجهر في صلاة الصبح والمغرب والعشاء في الركعتين الأولتين والسر في صلاة الظهر والعصر وثالثة المغرب والأخيرتين من صلاة العشاء.(3/234)
يسمع المشركون قراءتهم ولا يسروا حتى لا يحرم سماع القرآن من يصلي وراءهم فأمر رسول الله بالتوسط بين الجهر والسر.
وقوله تعالى: {وقل الحمد لله1 الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} أي أمر الله تعالى الرسول أن يحمد الله الذي لم يتخذ ولداً كما زعم ذلك بعض العرب، إذ قالوا الملائكة بنات الله! وكما زعم ذلك اليهود إذ قالوا عزير بن الله والنصارى إذ قالوا عيسى بن الله! {ولم يكن له شريك في الملك} كما قال المشركون من العرب: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هولك، تملكه وما ملك! {ولم يكن له ولي من الذل} كما قال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل الله! {وكبره} أنت أو عظمه يا رسولنا تعظيماً من أن يكون له وصف النقص والافتقار والعجز.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إن لله الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسماً واحداً2 فيدعى الله تعالى وينادى بأيّها،: وكلها حسنى كما قال تعالى في سورة الأعراف: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} .
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للرسول والقرآن والمؤمنين.
3- مشروعية الأخذ بالاحتياط للدين كما هو للدنيا.
4- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه وتنزيهه عن كل عجز ونقص.
5- هذه الآية {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل} تسمى آية العز هكذا سماها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 روي عن عمر أنه قال: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها، وورد أنّ هذه الآية {وقل الحمد لله} الخ خاتمة التوراة وفاتحتها أوّل سورة الأنعام.
2 الإجماع على أنه لا يصح وضع اسم لله تعالى بالنظر والاجتهاد وإنما أسماؤه وصفاته توقيفية مصدرها الوحي الإلهي: الكتاب والسنة.(3/235)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
سورة الكهف1
مكية
وآياتها عشر ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
شرح الكلمات:
الحمد لله: الحمد الوصف بالجميل، والله عَلَم على ذات الرب تعالى.
الكتاب: القرآن الكريم.
ولم يجعل له عوجاً: أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه.
قيماً: أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام.
بأساً شديداً: عذاباً ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة.
__________
1 روى مسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وروى الدارمي في مسنده عن أبي سعيد الخدري رصي الله عنه: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق".. وروي أيضاً "أن من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نوراً يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال".(3/236)
من لدنه: من عنده سبحانه وتعالى.
أجراً حسناًَ: أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات.
كبرت كلمة: أي عظمت فريه وهي قولهم الملائكة بنات الله.
إن يقولون إلاّ كذباً: أي ما يقولون إلاّ كذباً بحتاً لا واقع له من الخارج.
باخع نفسك: قاتل نفسك كالمنتحر.
بهذا الحديث أسفاً: أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد.
معنى الآيات:
أخبر تعالى في فاتحة سورة الكهف1 بأنه المستحق للحمد، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك، وهو إنزاله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وقوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً2} أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجاً أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه فهو كلام مستقيم محقق للأخذ به كل سعادة وكمال في الحياتين. وقوله {قيماً} أي معتدلاً خالياً من الإفراط والتفريط قيماً على الكتب السابقة مهيمناً عليها الحق فيها ما أحقه والباطل ما أبطله.
وقوله: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} أي أنزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين من أهل الشرك والمعاصي عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ينزل بهم من عند ربهم الذين كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه. ومن أجل أن يبشر بواسطته أيضاً {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وقوله تعالى: {وينذر} بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه بنسبتهم الولد إليه فقالوا: {اتخذ الله ولداً} وهم اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} وهو قول تَوَارَثُوهُ لا علم لأحد منهم به، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه
__________
1 روى ابن اسحق في سبب نزول سورة الكهف حديثاً طويلاً خلاصته أن وفداً من قريش أتوا اليهود بالمدينة وقالوا لهم أنتم أهل الكتاب فأخبرونا عن صاحبنا هذا- محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل فإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوافة قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟؛ وسلوه عن الروح ما هي؟ فان أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوِّل فانظروا في أمره ما بدالكم وأتى الوفد مكة وسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أخبركم بما سألتم عنه غداً؛ ولم يستثن أي: لم يقل إن شاء الله فانقطع الوحي نصف شهر ثم نزلت سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا.
2 العوج: ضد الاستقامة وهو الانحراف في الذوات والمعاني وتكسر عينه وتقع، وقيل: الكسر في المعاني والفتح في الذّوات.(3/237)
بينهم لذا قبح الله قولهم هذا وعجّب منه العقلاء، فقال: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} أي عظم قولهم {اتخذ الله ولداً} كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير إذ لا واقع لها أبداً، وقرر الإنكار عليهم فقال: {إن يقولون إلاّ كذباً} أي ما يقولون إلاّ الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من الصحة البتة. وقوله: {فلعلك باخع1 نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من الحزن على عدم إيمان قومه واشتدادهم في الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر رفض قومك للإيمان بك وبكتابك وما جئت به من الهدى، حزناً عليهم، وجزعاً منهم، فلا تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده لك بالنصر على قومك المكذبين لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى على آلائه وعظيم نعمه.
2- لا يحمد إلاّ من له ما يقتضي حمده، وإلاّ كان المدح كذباً وزوراً.
3- عظم شأن القرآن الكريم وسلامته من الإفراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به.
4- بيان مهمة القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران.
5- التنديد بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه.
6- تحريم الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان.
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي
__________
1 {باخع} مهلك نفسك، قال ذو الرّمة:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
بشيء نحته عن يديه المقادر
وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما الباخع بقاتل نفسه من شدّة الحزن.(3/238)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
شرح الكلمات:
صعيداً جرزاً: أي تراباً لا نبات فيه، فالصعيد هو التراب والجرز1 الذي لا نبات فيه.
الكهف: النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له "غار".
والرقيم: لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف.
أوى الفتية إلى الكهف: اتخذوه مأوى لهم ومنزلاً نزلوا فيه.
الفتية: جمع فتى وهم شبان مؤمنون.
هيئ لنا من أمرنا رشداً: أي ييسر لنا طريق رشد وهداية.
فضربنا على آذانهم: أي ضربنا على آذانهم حجاباً يمنعهم من سماع الأصوات والحركات.
سنين عددا: أي أعواماً عدة.
ثم بعثناهم: أي من نومهم بمعنى أيقظناهم.
أحصى لما لبثوا: أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف.
أمداً: أي مدة محدودة معلومة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار، وقوله {لنبلوهم} أي لنختبرهم {أيهم أحسن عملا} أي أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي وإنا لمخربوها في يوم، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها وزينتها نجعلها {صعيداً2 جرزاً} أي تراباً لا نبات فيه، إذاً فلا تحزن يا رسولنا ولا تغتم مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة التي من أجلها عادوك وعصوننا إلى أن
__________
1 الجرز: القاحل الأجرد الذي لا نبات فيه.
2 الصعيد: وجه الأرض والجمع صُعُد، والصعيد: الطريق أيضاً لحديث الصحيح: "إياكم والقعود على الصعدات" أي: الطرق، وجمع الجرز: أجراز يقال سنين أجراز لا مطر فيها ولا عشب ولا نبات.(3/239)
تصبح صعيداً جرزاً. وقوله تعالى: {أم حسبت1 أن أصحاب الكهف والرقيم2 كانوا من آياتنا عجباً} أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم {كانوا من آياتنا عجباً3} أي كان أعجب من آياتنا في خلق ومخلوفات، السموات والأرض بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير. وقوله: {إذْ أوى الفتية إلى الكهف} هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة، أي اذكر للسائلين لك عن قصة هؤلاء الفتية، إذ أووا إلى الغار في الكهف فنزلوا فيه، واتخذوه مأوى لهم ومنزلاً هروباً من قومهم الكفار أن يفتنوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم فقالوا سائلين ربهم: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشداً} أي أعطنا من عندك رحمة تصحبنا في هجرتنا هذه للشرك والمشركين {وهيء لنا من أمرنا رشداً} أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفاً على ديننا {رشداً4} أي سداداً وصلاحاً ونجاة من أهل الكفر والباطل، قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً} أي فضربنا على آذانهم حجاباً5 يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره لهم من جنب إلى جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين: {ربنا آتنا من لدنك رحمة} وقوله تعالى: {ثم بعثناهم} أي من نومهم ورقادهم {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا} أي في الكهف {أمداً} أي لنعلم عِلّمَ مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين6 اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة لبثهم في الكهف حيث اختلف الناس إلى حزبين حزب يقول لبثوا في كهفهم كذا سنة وآخر يقول لبثوا إلى مدى أي غاية كذا من السنين.
__________
(أم) هذه هي المنقطعة التي تقدّر ببل والاستفهام للتعجيب.
2 ويجمع الرقيم على رُقُم، والرقيم: فعيل بمعنى مفعول أي: مرقوم بمعنى مكتوب.
3 إنّ إماتة الأحياء أعجب من إماتة أصحاب الكهف.
4 الرشد: بفتحتين: الخير، وإصابة الحق والنفع والصلاح أيضاً.
5 أي: حائلاً كغشاوة ونحوها مما يحول دون السمع، ومعنى ضربنا، جعلنا أو وضعنا كقوله: {ضربت عليهم الذلّة} أي: جعلت وألصقت بهم.
6 يبعد أن يكون المراد بالحزبين: هم أصحاب الكهف أنفسهم بل الذين اختلفوا فيهم حزبان من الأمة التي اكتشفتهم بعد مضيّ سنين عديدة.(3/240)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان العلة في وجود الزينة على هذه الأرض، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها، العارف بتفاهتها وسرعة زوالها، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله من أجلها.
2- تقرير فناء كل ما على الأرض حتى تبقى صعيداً جرزاً وقاعاً صفصفاً لا يرى فيها عوج ولا أمت.
3- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالإيجاز والتفصيل.
4- تقرير التواحيد ضِمْنَ قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفاً من الشرك والكفر.
5- استجابة الله دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الدار ورعاهم حتى بعثهم بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
شرح الكلمات:
نبأهم بالحق: أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين.
وزدناهم هدى: أي إيماناً وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على الهجرة.(3/241)
وربطنا على قلوبهم: أي شددنا عليها فقويت عزائم حتى قالوا كلمة الحق عند سلطان جائر.
لن ندعوا من دونه إلها: لن نعبد من دونه إلهاً آخر.
لولا يأتون عليهم بسلطان: أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم.
على الله كذباً: أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها.
فأووا إلى الكهف: أي انزلوا في الكهف تستترون به على أعين أعدائكم المشركين.
ينشر لكم ربكم من رحمته: أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه.
ويهيء لكم من أمركم: وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغم والكرب.
مرفقا: أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها فقال {نحن نقص عليكم نبأهم بالحق1} أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه {إنهم فتية2} ، جمع فتى {آمنوا بربهم} أي صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها وقوله {وزدناهم هدى} أي هداية إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.
وقوله تعالى: {وربطنا على قلوبهم} أي قوّينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر {ربنا رب السموات والأرض} أي ليس لنا رب سواه، لن ندعوا من دونه إلهاً مهما كان شأنه، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذاً شططاً من القول وهو الكذب والغلو فيه وقوله تعالى: {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة} يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا: {هؤلاء قومنا اتخذوا3 من دون الله آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بين} أي هلا يأتون عليهم بسلطان بيّن أي بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله؟ ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلاّ الله؟!
وقوله تعالى: {فمن أظلم4 ممن افترى} ينفي الله عز وجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى
__________
1 الحق هنا بمعنى الصدق في الإخبار والباء في قوله {بالحق} للملابسة أي: القصص المصاحب للصدق والنبأ: الخبر ذو الشأن والأهمية.
2 الجملة بيانية أي: مبينة للقصص.
3 {من} ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله تعالى.
4 {من} اسم استفهام، ومعناه الإنكار والنفي، الإنكار على من اتخذ آلهة دون الله تعالى، والنفي لوجود آلهة حق مع الله تعالى.(3/242)
على الله كذباً باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم1: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلاّ الله} من الأصنام والأوثان {فأووا إلى الكهف} أي فصيروا إلى غار الكهف المسمى "بنجلوس" {ينشر لكم ربكم من رحمته} أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكافر "دقينوس " {ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً} أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فراراً بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف.
2- تقرير زيادة الإيمان ونقصانه.
3- فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن.
4- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلاّ الله على لسان أصحاب الكهف.
5- بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها.
6- الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب.
7- تقرير فرض الهجرة في سبيل الله.
8- فضيلة الالتجاء إلى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم
__________
1 أي: قالوا ما قالوه على سبيل النصح والمشورة الصائبة.(3/243)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
شرح الكلمات:
تزاور: أي تميل.
تقرضهم: تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم.
في فجوة منه: متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.
من آيات الله: أي دلائل قدرته.
أيقاظاً: جمع يقظ أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة.
بالوصيد: فناء الكهف.
رُعباً: منعهم الله بسببه من الدخول عليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وترى الشمس إذا طلعت تزاور1 عن كهفهم} أي تميل عنه ذات اليمين {وإذا غربت تقرضهم} أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال. وقوله تعالى: {وهم في فجوة2 منه} أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها، وقوله {ذلك من آيات الله} أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضها لهم إذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم3، وقوله تعالى: {من يهد الله فهو المُهْتَدِ ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} يخبر تعالى أن الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من ربه الهداية إلى صراطه المستقيم، وليستعذ به من الضلال المبين إذ من يضله الله لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال، وقوله تعالى: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود4} أي انك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظاً
__________
1 {تزاور} : تتنحى أو تميل من الازورار والزور: الميل، والأزور من الناس: المائل النظر إلى ناحية وازورّ: مال ومنه قول عنترة:
فازورّ من وقع القّنا بلبانه
وشكا إليَّ بعبرة وتحمحم
الللّبان: الصدر، والتحمحم: صوت دون الصهيل.
2 الفجوة: والجمع فجوات وفجاء وهو المتسع.
3 والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء، وتغير الأبدان والأبدان والتأذي بحرّ أو برد.
4 {رقود} : جمع راقد كراكع وركوع، وساجد وسجود، والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه وفعل الله تعالى هذا لحكمة وهي: حتى لا تؤثر الأرض على أجسامهم فتبلى، ولم يعرف كم مرّة يقلبون فيها في الشهر أو العام أو في أقل أو أكثر.(3/244)
أي منتبهين لأن أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسّون بأحد ولا يشعرون، وقوله تعالى: {ونقلبهم ذات اليمين} أي جهة اليمين {وذات الشمال} أي جهة الشمال حتى لا تَعْدو التربة على أجسادهم فتبليها. وقوله: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} أي: وكلبهم الذي خرج معهم، وهو كلب صيد {باسط ذراعية بالوصيد1} أي: بِفناء الكهف. وقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم} أي لو شاهدتهم وهم رقود وأعينهم مفتحة {لوليت منهم فراراً} لرجعت فاراً منهم {ولملئت منهم رعباً} أي خوفاً وفزعاً، ذلك أن الله تعالى ألقى عليهم من الهيبة والوقار حتى لا يدنو منهم أحد ويمسهم بسوء إلى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب لهم، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره في خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان لطف الله تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه.
2- تقرير أن الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب الهداية من الله، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك.
3- بيان عجيب تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم.
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ
__________
1 فناء عند مدخل الكهف فشبّه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.(3/245)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)
شرح الكلمات:
كذلك بعثناهم: أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة بعثناهم1 من رقادهم بعثاً خارقاً للعادة أيضاً فكان في منامهم آية وفي إفاقتهم آية.
كم لبثتم: أي في الكهف نائمين.
يوماً أو بعض يوم: لأنهم دخلوا الكهف صباحاً واستيقظوا عشية.
بورقكم: بدراهم الفضة التي عندكم.
إلى المدينة: أي المدينة التي كانت تسمى أفسوس وهي طرسوس اليوم.
أزكى طعاماً: أي أيُّ أطعمة المدينة أحلُّ أي أكثر حِلِّيَّةً.
وليتلطف: أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء.
يرجموكم: أي يقتلوكم رمياً بالحجارة.
أعثرنا عليهم: أطلعنا عليهم أهل بلدهم.
ليعلموا: أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معاً.
إذ يتنازعون: أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم.
فقالوا: أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم.
وقال الذين غلبوا على أمرهم: وهم المؤمنون لنتخذن حولهم مسجداً يصلى فيه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله تعالى: {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم} أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعا وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى
__________
1 البعث: التحريك من سكون أي: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدىً وقلبناهم بعثناهم أيضاً أي: أيقظناهم من رقادهم على ما كانوا عليه من ثيابهم وأحوالهم.(3/246)
ومنعناهم من وصول أحد إليهم، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهماً كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلاً {لبثنا يوماً أو بعض يوم} لأنهم آووا إلى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في المساء وأجاب بعض آخر بقول مُرْضٍ للجميع وهو قوله: {ربكم أعلم بما لبثتم} فسلموا الأمر إليه، وكانوا جياعاً فقالوا لبعضهم {فابعثوا أحدكم بورقكم1 هذه} يشيرون إلى عملة من فضة كانت معهم {إلى المدينة} وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم. وقوله: {فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه} أي فلينظر الذي تبعثرنه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار {فليأتكم2 برزق منه} لتأكلوه سداً لجوعكم وليتلطف3 في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحداً وعلل لقوله هذا بقوله {إنهم إن يظهروا عليكم} أي يطلعوا {يرجموكم} أو يقتلوكم رجماً بالحجارة4 {أو يعيدوكم في ملتهم} ملة الشرك بالقسر والقوة. {ولن تفلحوا إذاً أبداً} أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم للكفر والشرك.. فكفرتم وأشركتم بربكم.
وقوله تعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم} أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا بينهم فيزدادوا إيماناً ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه {أعثرنا عليهم5} أهل مدينتهم الذين انقسموا إلى فريقين فريق يعتقد أن البعث حق وأنه بالأجسام، والأرواح، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي عقيدة النصارى إلى اليوم، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم المختلفين فأتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساماً وأرواحاً كما بعث أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى {وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا} أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم. {وأن الساعة لا ريب فيها} وقوله تعالى: {إذ
__________
1 قال ابن عباس كان معهم دراهم فضة عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم والورق: الفضة، وقرىء بكسر الراء وقرىء بسكونها.
2 في هذه الآية دليل على جواز الوكالة في كل مباح مأذون فيه وسواء كان الموكل عاجزاً أو قادراً ورأى بعضهم أنّ القادر لا يوكل، والصحيح جوازه، وقد وكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صحيح حاضر، ووكّل عليّ رضي الله عنه ووكل كثير من الصحابة من ينوب عنهم في أمورهم.
3 الجمهور على أن نصف حروف القرآن التاء من قوله: {وليتلّطف} أي: نصف القرآن من الفاتحة إلى {وليتلّطف} والنصف الآخر والأخير منها إلى الناس.
4 القتل بالرجم بالحجارة أشفى لصدور أهل الدين لأنهم يشاركون في القتل بالرجم.
5 أطعلنا عليهم. يقال عثر على كذا: وقف عليه برجله ومنه العثار للرجل وأعثر عليه: جعل غيره يعثر عليه بمعنى يقف عليه مطلعاً عليه ظاهراً.(3/247)
يتنازعون بينهم أمرهم} أي أعثرناهم عليهم في وقت كان أهل البلد يتنازعون في شأن البعث والحياة الآخرة هل هي بالأجسام والأرواح أو بالأرواح دون الأجسام. فتبين لهم بهذه الحادثة أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح معاً. وقوله تعالى: {فقالوا ابنوا عليهم بنياناً} واتركوهم في الكهف أي سدوا عليهم باب الكهف واتركوهم فيه لأنهم بعد أن عثروا عليهم ماتوا {ربهم أعلم بهم} وبحالهم.
وقوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً} أي قال الذين غلبوا على أمر الفتية لكون الملك كان مسلماً معهم {لنتخذن عليهم مسجداً1} أي للصلاة فيه وفعلاً بنو على مقربة من فم الغار بالكهف.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
2- وجوب طلب الحلال في الطعام والشراب وغيرهما.
3- الموت على الشرك والكفر مانع من الفلاح يوم القيامة أبداً.
4- تقرير معتقد البعث والجزاء الذي ينكره أهل مكة.
5- مصداق قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقوله "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة" (في الصحيحين) .
6- مصداق قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع". إذ قد بنى2 المسلمون على قبور الأولياء والصالحين المساجد. بعد القرون المفضلة حتى أصبح يندر وجود مسجد عتيق خال من قبر أو قبور. 3.
__________
1 اتخاذ المساجد على القبور من عمل أهل الكتاب قبل هذه الأمّة، وقد بيّن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذّر منه وحرّمه على أمته لما يفضي به إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى فقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". وروى مسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" وفي الصحيحين: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا".
2 روى الترمذي وصححه عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو يبنى عليها وأن توطأ" وروى أبو داود والترمذي وغيرهما أن علياً قال لأحد رجاله أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألاّ تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته ولا صورة إلاّ طمستها" والمراد بالمشرف: العالي المرتفع أما تسنيم القبر شبراً وأي ليعرف فلا بأس به.
3 ذكر القرطبي هنا أنّ الدفن في التابوت جائز لاسيما في الأرض الرخوة وقال: روي أنّ دانيال عليه السلام كان في تابوت من حجر وأنّ يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج.(3/248)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
شرح الكلمات:
رجماً بالغيب: أي قذفاً بالظن غير يقين علم.
ما يعلمهم إلاّ قليل: أي من الناس.
فلا تمار فيهم: لا تجادل في عدتهم.
ولا تستفت فيهم منهم أحداً: أي من أهل الكتاب، الاستفتاء: الاستفهام والسؤال.
إلاّ أن يشاء الله: أي إلاّ أن تقول إن شاء الله.
لأقرب من هذا رشداً: هداية وأظهر دلالة على نبوتي من قصة أصحاب الكهف.
له غيب السموات والأرض: أي علم غيب السموات والأرض وهو ما غاب فيهما.
أبصر به وأسمع: أي أبصر بالله واسمع به صيغة تعجب! والأصل ما أبصره وما أسمعه.
ما لم من دونه من ولي: أي ليس لأهل السموات والأرض من دون الله أي من ناصر.(3/249)
ولا يشرك في حكمه أحداً: لأنه غني عما سواه ولا شريك له.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الكهف يخبر تعالى بأن الخائضين في شان أصحاب الكهف سيقول بعضهم بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول بعض آخرهم خمسة سادسهم كلبهم1 {رجماً بالغيب} أي قذفاً بالغيب من غير علم يقيني، ويقول بعضهم هم سبعة وثامنهم كلبهم، ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأصحابه تلك الأقوال: {ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلاّ قليل} أي ما يعلم عددهم إلاّ قليل من الناس قال ابن عباس أنا من ذلك القليل فعدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ولعله فهم ذلك من سياق الآية إذ ذكر تعالى أن الفريقين الأول والثاني قالوا ما قالوه من باب الرجم بالغيب لا من باب العلم والمعرفة، وسكت عن الفريق الثالث، فدل ذلك على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم والله أعلم. وقوله تعالى: {فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً2} أي ولا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلاّ جدالاً بيناً ليناً بذكرك ما قصصنا عليك دون تكذيب لهم، ولا موافقة لهم. وقوله تعالى: {ولا تستفت فيهم3} أي في أصحاب الكهف {منهم} أي من أهل الكتاب {أحداً} وذلك لأنهم لا يعلمون عدتهم وإنما يقولون بالخرص والتخمين لا بالعلم واليقين. وقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء4 إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله} أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلاً أي سأفعل كذا إلاّ أن تقول إن شاء الله5 وذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله وفد قريش بإيعاز من اليهود عن المسائل الثلاث: الروح، وأصحاب الكهف وذي القرنين، قال لسائليه: أجيبكم غداً انتظاراً للوحي ولم يقل إن شاء الله، فأدبه ربه تعالى بانقطاع الوحي عنه نصف شهر، وأنزل هذه السورة وفيها هذا التأديب له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: {واذكر ربك إذا نسيت} أي إذا نسيت الاستثناء الذي علمناك فاذكره ولو بعد حين لتخرج من الحرج.
أما الكفارة فلازمة إلاّ أن يكون الاستثناء متصلاً بالكلام وقوله تعالى: {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً} أي وقل بعد النسيان والاستثناء المطلوب منك {عسى أن يهديني
__________
1 أصل الرجم هو الرجم بالحجارة ونحوها والمراد به هنا، رمي الكلام من غير روّية ولا تثبّت، والمراد أنّ ما قالوه في بيان عددهم هو من باب القول بالظن بدون علم.
2 المراد: بالظاهر هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه.
3 الاستفتاء: طلب الفتيا وهي الخبر عن أمر لا يعلمه إلاّ ذوو العلم روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل بعض نصارى نجران فنهي عن ذلك.
4 لشيء أي: في شيء أو لأجل شيء.
5 أي: إلاّ أن تذكر مشيئة الله تعالى.(3/250)
ربي لأقرب من هذا رشداً} أي لعل الله تعالى أن يهديني فيسددني لأَسَدَّ ما وعدتكم أن أخبركم به مما هو أظهر دلالة على نبوتي مما سألتموني عنه اختباراً لي. وقوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة1 سنين وازدادوا تسعا} يخبر تعالى أن الفتية لبثوا في كهفهم رقوداً من ساعة دخلوه إلى أن أعثر الله عليهم قومهم ثلاثمائة سنين بالحساب الشمسي وزيادة تسع سنين بالحساب القمري.
وقوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} رد به على من قال من أهل الكتاب إن الثلاثمائة والتسع سنين هي من ساعة دخولهم الكهف إلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبطل الله هذا بتقرير الثلثمائة والتسع أولاً وبقوله {الله أعلم بما لبثوا} ثانياً وبقوله: {له غيب السموات والأرض} أي ما غاب فيهما، ثالثاً، وبقوله: {أبصر به وأسمع} أي ما أبصره بخلفه وما أسمعه لأقوالهم حيث لا يخفى عليه شيء من أمورهم وأحوالهم خامساً، وقوله (ليس لهم} أي لأهل السموات والأرض من دونه تعالى {من ولي} أيْ ولا ناصر {ولا يشرك في حكمه أحداً} لغناه عما سواه ولعدم وجود شريك له بحال من الأحوال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان اختلاف أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية.
2- بيان عدد فتية أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
3- من الأدب مع الله تعالى أن لا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلاً إلاّ قال بعدها إن شاء الله.
4- من الأدب من نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلاّ إذا كان متصلاً بكلامه.
5- تقرير المدة التي لبثها الفتية في كهفهم وهي ثلاث مائة وتسع سنين بالحساب القمري.
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
__________
1 قرأ الجمهور {ثلثمائةٍ} بالتنوين و {سنين} منصوب على التمييز أو على البدلية، فهو مجرور، وقرأ خلافهم بإضافة ثلثمائة إلى سنين.(3/251)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
شرح الكلمات:
واتل ما أوحي إليك من الكتاب: أي اقرأ القرآن تعبداً ودعوة وتعليماً.
لا مبدل لكلماته: أي لا مغير لكلمات الله في ألفاظها ولا معانيها وأحكامها.
ملتحداً: أي ملجأ تميل إليه إحتماءاً به.
واصبر نفسك: أي إحبسها.
يريدون وجهه: أي طاعته ورضاه، لا عرضاً من عرض الدنيا.
ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم من أبناء الدنيا.
تريد زينة الحياة الدنيا: أي بمجالستك الأغنياء تريد الشرف والفخر.
من أغفلنا قلبه: أي جعلناه غافلاً عما يجب عليه من ذكرنا وعبادتنا.
وكان أمره فرطاً: أي ضياعاً وهلاكاً.
أحاط بهم سرادقها: حائط من نار أحيط بهؤلاء المعذبين في النار.(3/252)
بماء كالمهل: أي كعكر الزيت أي الدردي وهو ما يبقى في أسفل الإناء ثخناً رديئاً.
من سندس واستبرق: أي مَارَقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه أي من الديباج.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث عن أصحاب الكهف أمر تعالى رسوله بتلاوة كتابه فقال: {واتل1} أي واقرأ {ما أوحي إليك من كتاب ربك} تعبداً به ودعوة للناس إلى ربهم به وتعليماً للمؤمنين بما جاء فيه من الهدى.
وقوله: {لا مبدل لكلماته} أي لا تتركن تلاوته والعمل به والدعوة إليه فتكون من الهالكين فإن ما وعد ربك به المعرضين عنه المكذبين به كائن حقاً وواقع صدقاً فإن ربك {لاّ مبدل لكلماته} المشتملة على وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ممن كفروا به وكذبوا بكتابه فلم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.
وقوله تعالى: {ولن تجد من دون ملتحداً} أي انك إن لم تتل كتابه الذي أوحاه إليك وتعمل بما فيه فَنَالَكَ ما أوعد به الكافرين المعرضين عن ذكره. {لن تجد من دون الله ملتحداً} أي موئلاً تميل إليه وملجأ تحتمي به وإذا كان مثل هذا الوعيد الشديد يوجه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المعصوم فغيره ممن تركوا تلاوة القرآن والعمل به فلا أقاموا حدوده ولا أحلوا حلاله ولا حرموا حرامه أولى بهذا الوعيد وهو حائق بهم لا محالة إن لم يتوبوا قبل موتهم وقوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} نزل هذا التوجيه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما عرض عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء كبلال وصهيب وغيرهما ليجلسوا إليه ويسمعوا منه فنهاه ربه عن ذلك وأمره أن يحبس نفسه مع أولئك الفقراء المؤمنين {الذين يدعون} ربهم في صلاتهم في الصباح والمساء لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عرضاً من أعراض الدنيا وإنما يريدون رضا الله ومحبته بطاعته في ليلهم ونهارهم.
وقوله تعالى: {ولا تعد عيناك2 عنهم} أي لا تتجاوز ببصرك هؤلاء المؤمنين الفقراء إلى أولئك الأغنياء تريد مجالستهم للشرف والفخر وقوله {ولا تطع3 من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} فجعلناه غافلاً
__________
1 تضمنت هذه الآية: {واتل} الخ الرد على المشركين إذ المعنى: لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض القرآن لأن فيها التعريض بآلهتهم والتنديد بها حتى طالبوك بأن تجعل بعض القرآن للثناء عليها أو عليهم.
2 لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
3 روي أنها نزلت في أمية بن خلف الجمحي لأنه دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمر كرهه وهو إبعاد الفقراء وتقريب صناديد قريش.(3/253)
عن ذكرنا وذكر وعدنا ووعيدنا ليكون من الهالكين لعناده وكبريائه وظلمه. {وكان أمره فرطاً1} أي ضياعاً وهلاكاً، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن2 ومن شاء فليكفر} أي هذا الذي جئت به وأدعو إليه من الإيمان والتوحيد والطاعة لله بالعمل الصالح هو {الحق من ربكم} أيها الناس. {فمن شاء} الله هدايته فآمن وعمل صالحاً فقد نجاه ومن لم يشأ الله هدايته فبقي على كفره فلم يؤمن فقد خاب وخسر.
وقوله: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} أي جدرانها النارية. {وإن يستغيثوا} من شدة العطش {يغاثوا بماء كالمهل} رديئاً ثخناً {يشوي الوجوه} إذا أدناه الشارب من وجهه ليشرب شوى جلده ووجهه ولذا قيل فيه ذم له. {بئس الشراب وساءت} أي جهنم {مرتفقاً} في منزلها وطعامها وشرابها إذ كله سوء وعذاب هذا وعيد من اختار الكفر على الإيمان وأما وعد من آمن وعمل صالحاً وقد تضمنته الآيتان (31-32) إذ قال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} هذا حكمنا الذي لا تبديل له وبين تعالى أجرهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم فقال: {أولئك لهم جنات عدن} أي إقامة دائمة {تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق، متكئين فيها على الآرائك} وهي الأسرة بالحجلة () . ثم أثنى الله تعالى على نعيمهم الذي أعده لهم بقوله: {نعم الثواب} الذي3 أثيبوا به {وحسنت} الجنة في حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها وحورها ورضوان الله فيها {حسنت4 مرتفقاً} يرتفقون فيه وبه، جعلنا الله من أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان خيبة وخسران المعرضين عن كتاب الله فلم يتلوه ولم يعملوا بما جاء فيه من شرائع وأحكام.
__________
1 الفرط: الظلم والاعتداء وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأنّ الظلم سبق في الشر والظلم يؤدي إلى الهلاك والضياع والخسران.
2 الأمر في قوله {فليؤمن} و {فليكفر} للتسوية بينهما وليس في هذا إذن لهما بالكفر وإنما الخطاب للتهديد والوعيد لمن اختار الكفر على الإيمان بدليل الجملة التعليلية: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} الخ، والمراد بالظالمين المشركون لقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} .
3 {الأرائك} : جمع أريكة وهي مجموع سرير وحجلة، والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها ولذلك يقال للنساء ربات الحجال فإذا وضع فيها سرير فهي أريكة يجلس فيها وينام.
(المرتفق) : محل الارتفاق، وإطلاق المرتفق على النار تهكّم، إذ النار لن تكون محل راحة وارتفاق أبداً بل هي دار شقاء وعذاب.(3/254)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
2- الترغيب في مجالسة أبناء الآخرة وهم الفقراء الصابرون وترك أبناء الدنيا والإعراض عما هم فيه.
3- على الداعي إلى الله تعالى أن يبين الحق، والناس بعد بحسب ما كتب لهم أو عليهم.
4- الترغيب والترهيب بذكر جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين.
5- عذاب النار شر عذاب، ونعيم الجنة، نعم النعيم ولا يهلك على الله إلاّ هالك.
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
شرح الكلمات:
واضرب لهم مثلاً: أي اجعل لهم مثلاً هو رجلين.. الخ.
جنتين: أي بستانين.
وحففناهما بنخل: أي أحطناهما بنخل.
آتت أكلها: أي أعطت ثمارها وهو ما يؤكل.
ولم تظلم منهم شيئاً: أي وَلَمْ تنقص منه شيئاً بل أتت به كاملاً ووافياً.(3/255)
خلالهما نهراً: أي خلال الأشجار والنخيل نهراً جارياً.
وهو يحاوره: أي يحادثه ويتكلم معه.
وأعز نفراً: أي عشيرة ورهطاً.
تبيد: أي تفنى وتذهب.
خيراً منها منقلباً: أي مرجعاً في الآخرة.
أكفرت بالذي خلقك من تراب؟ ! : الاستفهام للتوبيخ والخلق من تراب باعتبار الأصل هو آدم.
من نطفة: أي مني.
ثم سواك: أي عدلك وصيرك رجلاً.
لكنا: أي لكن أنا، حذفت الألف وأدغمت النون في النون فصارت لكنا.
هو الله ربي: أي أنا أقول الله ربي.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك {اضرب1 لهم} أي اجعل لهم مثلاً: {رجلين} مؤمناً وكافراً {جعلنا لأحدهما} وهو الكافر {جنتين من أعناب وحففناهما بنخل} أي أحطناهما بنخل، {وجعلنا بينهما} أي بين الكروم والنخيل {زرعاً} {كلتا الجنتين2 آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} أي لم تنقص منه شيئاً {وفجرنا خلالهما نهراً} ليسقيهما. {وكان3 له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره} أي في الكلام يراجعه، ويُفاخره: {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً4} أي عشيرة ورهطاً، قال هذا فخراً وتعاظماً. {ودخل جنته} والحال أنه {ظالم لنفسه} بالكفر والكبر وقال: {ما أظن5 أن تبيد هذه} يشير إلى جنته {أبداً} أي لا تفنى {وما أظن الساعة
__________
1 اختلف في تحديد الفريقين الذين ضرب لهما المثل، وفي الرجلين اللّذين ضرب بهما المثل، والظاهر أنّ الفريقين الذين ضرب لهما المثل هم المؤمنون والكافرون المستنكفون عن مجالسة المؤمنين، وأما الرجلان فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما من بنى إسرائيل وهو الظاهر والله أعلم.
2 قال سيبويه: أصل كلا كِّلْوَ وأصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث.
3 {وكان له ثمر..} الجملة في محل نصب على الحال، والثمر بضم الثاء والميم المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع مأخوذ من: ثمر ماله: إذا كثر، وقرأ الجمهور بضم الثاء والميم وقرأ حفص بفتحهما.
4 أعزّ أي أشد عزّة، والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه للدفاع أو القتال والمراد بالنفر هنا أولاده.
5 الظنّ هنا بمعنى الاعتقاد ومعنى تبيد: تفنى وتهلك.(3/256)
قائمة ولئن رددت إلى ربي} كما تقول أنت {لأجدن خيراً منها1} أي من جنتي {منقلباً} أي مرجعاً إن قامت الساعة وبعث الناس وبعثت معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم {وهو يحاوره} أكفرت بالذي خلقك من تراب} ؟ وهو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من {تراب ثم من نطفة2} أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني {ثم سواك رجلاً} وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له: {لكنا هو الله ربي} أي لكن أنا أقول: هو الله ربي، {ولا أشرك بربي أحداً} من خلقه في عبادته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني االخفية إلى الأذهان.
2- بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
3- تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.
4- التنديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر.
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ
__________
1 قرأ الجمهور (منهما) بالتثنية وقرأ عاصم (منها) بالإفراد.
2 النطفة: ماء الرجال مشتقة من النطف الذي هو السيلان.(3/257)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
شرح الكلمات:
ما شاء الله: أي يكون وما لم يشأ لم يكن.
حسباناً من السماء: أي عذاباً ترمى به فتؤول إلى أرض ملساء دحضاً لا يثبت عليها قدم.
أو يصبح ماؤها غوراً: أي غائراً في أعماق الأرض فلا يَقْدِرُ على استنباطِه وإخراجه.
وأحيط بثمره: أي هلكت ثماره، فلم يبق منها شيء.
يقلب فكفيه: ندماً وحسرة على ما أنفق فيها من جهد كبير ومال طائل.
وهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على أعمدتها التي كان يُعرش بها للكرم، وعلى جدران مبانيها.
فئة: جماعة من الناس قوية كعشيرته من قومه.
هنالك: أي حين حل العذاب بصاحب الجنتين أي يوم القيامة.
الولاية: أي الملك والسلطان الحق لله تعالى.
خير ثواباً وخير عقباً: أي الله تعالى خير من يثيب وخير من يُعقب أي يحزي بخير.
معنى الآيات:.
ما زال السياق الكريم في المثل المضروب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله: {ولولا إذ دخلت جنتك} أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله {ما شاء الله} أي1 كان {لا قوة إلا2 بالله} أي لا قوة لأحد على فعل شيء
__________
1 هذا وجه في إعراب (ما شاء الله) ما: مبتدأ والخبر كان، وهناك وجه آخر حسّنه بعضهم وهو: هذه الجنة ما شاء الله. فما خبر عن مبتدأ محذوف ويجوز تقديره أيضاً: الأمر الذي شاء الله إعطاءه.
2 قال مالك.: ينبغي لكل من دخل داره أو بستانه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، وروي أنه كان مكتوباً على باب وهب بن منبّه ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله، وروى مسلم أن: لا حول ولا قوة إلاّ بالله كنز من كنوز الجنة وورد استحباب قول بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا قوة إلاّ بالله.(3/258)
أو تركه إلاّ بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قال هذا المؤمن نصحاً للكافر وتوبيخاً له. ثم قال له1 {إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً} اليوم {فعسى2 ربي} أي فرجائي في الله {أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها} أي على جنة الكافر {حسبانا3 من السماء} أي عذاباً ترمى به. {فتصبح صعيداً زلقاً} ؟ أي تراباً أملس لا ينبت زرعاً ولا يثبت عليه قدم. {أو يصبح ماؤها غوراً} الذي تسقى به غائراً في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى، وهو معنى {فلن تستطيع له طلباً} .
وقوله تعالى: في الآيات (40) ، (41) ، (42) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد أحيط فعلاً ببستان الكافر فهلك بكل ما فيه من ثمر {فأصبح يقلب كفيه} ندماً وتحسراً {على ما أنفق فيها} من جهد ومال في جنته {وهي خاوية على عروشها} أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول: {يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، ولم تكن له} جماعة قوية تنصره {من دون الله وما كان} المنهزم {منتصراً} لأن من خذله الله لا ناصر له. قال تعالى: في نهاية المثل الذي هو أشبه بقصة {هنالك} أي يوم القيامة {الولاية} أي القوة والملك والسلطان {لله} أي المعبود {الحق} لا لغيره من الأصنام والأحجار {هو} تعالى {خير ثواباً} أي خير من يثيب على الإيمان والعمل الصالح. {وخير عقباً4} أي خير من يعقب أي يجزي بحسن العواقب
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1 بيان مآل المؤمنين كصهيب وسلمان وبلال، وهو الجنّة ومآل الكافرين كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وهو النار.
2- استحباب قول من أعجبه شيء: {ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله} فإنه لا يرى فيه مكروهاً إن شاء الله.
__________
1 أنا: ضمير فصل وأقل مفعول ثانٍ لترن وحذفت ياء التكلم بعد نون الوقاية تخففاً.
(عسى) للرجاء وهو طلب الأمر القريب الحصول وأراد به هنا الدعاء لنفسه وعلى صاحبه الكافر المشرك.
3 الحسبان: مصدر كالغفران وهو هنا وصف لمحذوف تقديره: هلاكاً حسباناً أي: مقدراً من الله تعالى، وقيل هو اسم جمع حسبانة أي: صاعقة، وقيل: اسم للجراد وهو محتمل لكل ما ذكر.
4 العقب: بمعنى العاقبة وقرىء: بضمتين عُقُب وقرىء بضم العين وسكون القات بمعنى: عاقبة وهي آخرة الأمر وما يرجوه المرء من سعيه وعمله ولذا فسرت الآية بهو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه: أي آخره.(3/259)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
3- استجابة الله تعالى لعباده المؤمنين وتحقيق رجائهم فيه سبحانه وتعالى.
4- المخذول من خذلة الله تعالى فإنه لا ينصر أبداً.
5- الولاية بمعنى1 الموالاة النافعة للعبد هي موالاة الله تعالى لا موالاة غيره.
6- الولاية بمعنى الملك والسلطان لله يوم القيامة ليست لغيره إذ الملك والأمر كلاهما لله تعالى.
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
شرح الكلمات:
المثل: الصفة المعجبة.
هشيماً: يابساً متفتتاً.
تذروه الرياح: أي تنثره الرياح وتفرقه لخفته ويبوسته.
مقتدراً: أي كامل القدرة لا يعجزه شيء.
زينة الحياة الدنيا: أي يتجمل بما فيها.
والباقيات الصالحات: هي الأعمال الصالحة من سائر العبادات والقربات.
وخير أملاً: أي ما يأمله الإنسان وينتظره من الخير.
معنى الآيات:
هذا مثل آخر مضروب أي مجعول للحياة الدنيا حيث اغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.
__________
1 {الولاية} : بفتح الواو: الموالاة، وبكسرها: الملك والسلطان.(3/260)
قال تعالى: في خطاب رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واضرب لهم} أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان {مثل الحياة الدنيا} أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال {كماء أنزلناه من1 السماء، فاختلط به نبات الأرض} فَزَهَا وازدهر واخضرّ وأنظر، فأعجب أصحابه، وأفرحهم وسرهم ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحِفَة، محرقة، {فأصبح2 هشيماً} أي يابساً متهشماً متكسراً {تذروه الرياح} هنا وهناك {وكان الله على كل شيء مقتدراً} أي قادراً كامل القدرة، فأصبح أهل الدنيا مبلسين آيسين من كل خير.
وقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها، وهي أن {المال والبنون} أو الأولاد {زينة الحياة3 الدنيا} لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان، فلا يجوز الاغترار بهما، بحيث يصبحان همَّ الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية، والجزء الثاني هو أن {الباقيات الصالحات} والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله4، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أي هذه {خير ثواباً} أي جزاءً وثماراً، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة، {وخير أملاً} يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.
__________
1 بعض الحكماء شبّه الحياة الدنيا بالماء للاتصالات الآتية:
1- الماء لا يستقر في موضع والحياة كذلك.
2- الماء يتغيّر والدنيا كذلك.
3- الماء لا يبقى والدنيا كذلك.
4- الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل والدنيا لا يدخلها أحد ويسلم من فتنها وآفاتها.
5- الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.
وفي الصحيح "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه" رواه مسلم.
2 يقال: هشمه يهشمه إذا كسره وفتّته وهشيم بمعنى: مهشوم فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول، وهشم الثريد إذا فتته وبه سمي هاشم بن مناف وكان اسمه عمرو وفيه يقول عبد الله بن الزبعري:
عمر العُلا هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
3 قيل: في المال والبنين زينة الحياة الدنيا: لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي البنين قوة ودفعاً والمثال مضروب لحقارة الدنيا وسرعة زوالها ولذا قيل: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغداً مع غيرك ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغداً لغيرك.
4 روى مالك في الموطأ: أن الباقيات الصالحات هنّ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.(3/261)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حقارة الدنيا وسوء عاقبتها.
2- تقرير أن المال والبنين لا يعدوان كونهما زينة، والزينة سريعة الزوال وهما كذلك فلا يجوز الاغترار بهما، وعلى العبد أن يطلب ما يبقى على ما يفنى وهو الباقيات الصالحات من أنواع البر والعبادات من صلاة وذكر وتسبيح وجهاد، ورباط، وصيام وزكاة.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
شرح الكلمات:
نُسير الجبال: أي تقتلع من أصولها وتصير هباءً منبثاً.
بارزة: ظاهرة إذ فنى كل ما كان عليها من عمران.
فلم نغادر: لم نترك منهم أحداً.
موعداً: أي ميعاداً لبعثكم أحياء للحساب والجزاء.
ووضع الكتاب: كتاب الحسنات وكتاب السيئات فيؤتاه المؤمن بيمينه والكافر بشماله.
مشفقين: خائفين.
يا ويلتنا: أي يا هلكتنا احضري هذا أوَان حُضُورك.
لا يغادر صغيرة: أي لا يترك صغيرة من ذنوبنا ولا كبيرة إلاّ جمعها عَدَّاً.(3/262)
ما عملوا حاضراً: مثبتاً في كتابهم، مسجلاً فيها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى مآل الحياة الدنيا وأنه الْفَناء والزوال ورغِّب في الصالحات وثوابها المرجوا يوم القيامة، ناسب ذكر نبذة عن يوم القيامة، وهو يوم الجزاء على الكسب في الحياة الدنيا قال تعالى: {ويوم نسير الجبال} أي اذكر {يوم نسير} أي تقتلع1 من أصولها وتصير هباءً منبثاً، {وترى الأرض بارزة} ظاهرة ليس عليها شيء فهي قاع صفصف {وحشرناهم} أي جمعناهم من قبورهم للموقف {فلم نغادر2 منهم أحداً} أي لم نترك منهم أحداً كائناً من كان، {وعرضوا على ربك} أيها الرسول صفاً وقوفاً أذلاء، وقيل لهم توبيخاً وتقريعاً: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة3} لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حفاة عراة غُرلاً4، جمع أغرل، وهو الذي لم يختتن.
وقوله تعالى: {بل زعمتم5} أي ادعيتم كذباً أنا لا نجمعكم ليوم القيامة، ولن نجعل لكم موعداً فها أنتم مجموعون لدينا تنتظرون الحساب والجزاء، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما فيه، وقوله تعالى في الآية {ووضع الكتاب} يخبر تعالى عن حال العرض عليه فقال: {ووضع الكتاب6} أي كتاب الحسنات والسيئات وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن يأخذه بيمينه والكافر بشماله، {فترى المجرمين} في تلك الساعة {مشفقين} أي خائفين {مما فيه} أي في الكتاب من السيئات {ويقولون: يا وليتنا} 7 ندماً وتحسراً ينادون يا ويلتهم وهي هلاكهم قائلين:
__________
1 هذا على قراءة تُسير بالتاء المضمومة للبناء للمفعول وقراءة الجمهور {نُسير الجبال} والفاعل هو الله تعالى، وقرىء أيضاً: تسير الجبال بفتح التاء مضارع سار يسير كقوله تعالى: {وتسير الجبال سيراً} .
2 المغادرة الترك ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء، وسمي الغدير من الماء غديراً لأنه ترك بعد السيل، ومنه غدائر المرأة وهو شعرها تضفره وتتركه خلفها.
3 أخرج الحافظ أبو القاسم بن مندة في كتاب التوحيد له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رقيع غير فظيع: يا عبادي أنا الله لا إله إلاّ أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون احضروا حجتكم ويسروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أنامل أقدامهم للحساب" تضمن هذا الحديث تفسيراً كاملاً لهذه الآيات.
4 روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً" غير مختونين".
5 هذا الخطاب لمنكري البعث والجزاء من أهل الكفر والشرك.
6 {الكتاب} : اسم جنس يشمل كل الكتب التي يُعطاها العباد في المحشر.
7 الويلة: مؤنث الويل للمبالغة وهي سوء الحال والهلاك كما أنّت الدار على داره للدلالة على سعة المكان، ونداء الويلة معناه: الدعاء على أنفسهم بالهلاك لمشاهدتهم عظائم الأهوال وما ينتظرهم من صنوف العذاب نادوا ويلتهم طالبين حضورها.(3/263)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة1 ولا كبيرة} من ذنوبنا {إلاّ أحصاها} أي أثبتها عَدّاً.
وقوله تعالى في آخر العرض {ووجدوا ما عملوا حاضراً} أي من خير وشر مثبتاً في كتابهم، وحوسبوا به، وجوزوا عليه {ولا يظلم ربك أحداً} بزيادة سيئة على سيئاته أو بنقص حسنة من حسناته، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرضها على مسامع المنكرين لها.
2- يبعث الإنسان كما خلقه الله ليس معه شيء، حافياً عارياً لم يقطع منه غفلة الذكر.
3- تقرير عقيدة كتب الأعمال في الدنيا وإعطائها أصحابها في الآخرة تحقيقاً للعدالة الإلهية.
4- نفي الظلم عن الله تعالى وهو غير جائز عليه لغناه المطلق وعدم حاجته إلى شيء.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
شرح الكلمات:
اسجدوا لآدم: أي حيّوه بالسجود له كما أمرتكم طاعة لي.
إلا إبليس: أي الشيطان أبى السجود ورفضه وهو معنى {فسق عن أمر ربه} أي
__________
1 أصغر الصغائر: النظر بغير قصد وأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى ولا ضابط حق الكبيرة إلا أن هناك ضابطاً يستأنس به وهو: ما توعد عليه أو لعن عليه أو وضع حدّ له في الكتاب أو السنة فهو كبيرة.(3/264)
خرج عن طاعته، ولم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، لذا أمكنه أن يعصي ربه!
أفتتخذونه وذريته أولياء؟ : الاستفهام للاستنكار، ينكر تعالى على بني آدم اتخاذ الشيطان وأولاده أولياء يطاعون ويوالون بالمحبة والمناصرة، وهم لهم عدو، عجباً لحال بني آدم كيف يفعلون ذلك!؟.
بئس للظالمين بدلاً: قبح بدلاً طاعة إبليس وذريته عن طاعة الله ورسوله.
المضلين عضداً: أي ما كنت متخذ الشياطين من الإنس والجن أعواناً في الخلق والتدبير، فكيف تطيعونهم وتعصونني.
موبقاً: أي وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً هذا إذا دخلوا النار، أما ما قبلها فالموبق، حاجز بين المشركين، وما كانوا يعبدون بدليل قوله: {ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} .
مواقعوها: أي واقعون فيها ولا يخرجون منها أبداً.
ولم يجدوا عنها مصرفاً: أي مكاناً غيرها ينصرفون إليه لينجوا من عذابها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد بني آدم وتوجيههم إلى ما ينجيهم من العذاب ويحقق لهم السعادة في الدارين، قال تعالى في خطاب رسوله واذكر لَهُم {إذ قلنا للملائكة} وهم عبادنا المكرمون {اسجدوا لآدم} فامتثلوا أمرنا وسجدوا إلاّ إبليس. لكن إبليس الذي يطيعه الناس اليوم كان من الجن وليس من الملائكة لم يسجد، ففسق1 بذلك عن أمرنا وخرج عن طاعتنا. {أفتتخدونه2} أي أيصح منكم يا بني آدم أن تتخذوا عدو أبيكم وعدو ربكم وعدوكم أيضاً ولياً توالونه وذريته3 بالطاعة لهم والاستجابة لما يطلبون منكم من أنواع الكفر والفسق {بئس للظالمين} أنفسهم {بدلاً} طاعة الشيطان وذريته4 وولايتهم عن
__________
1 الفسق: مشتق من: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها، والفأرة من جحرها، وفسق العبد: خرج عن طاعة ربه متجاوزاً الطاعة إلى المعصية، فكل من ترك واجباً وفعل حراماً فقد فسق بذلك عن طاعة ربه أي خرج عنها.
2 الاستفهام للتوبيخ والإنكار، وذرية الشيطان بيّنت السنة كيفية وجودهم فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "لا تكن أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فيها باض الشيطان وفرَّخ"، فهذا دال على أن للشيطان ذرية من صلبه.
3 في مسلم: "أن للصلاة شيطاناً يسمى خنزب مهمته الوسوسة فيها" وروى الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان يوسوس فيه.
4 روى مسلم رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيدنيه وقال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت!! ".(3/265)
طاعة الله ورسوله وولايتهما.
وقوله تعالى: {ما أشهدتهم1 خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً} يخبر تعالى بأنه المنفرد بالخلق والتدبير ليس له وزير معين فكيف يُعْبَدُ الشيطان وذريته، وأنا الذي خلقتهم وخلقت السموات والأرض2 وخلقت هؤلاء الذين يعبدون الشيطان، ولم أكن {متخذ المضلين} وهم الشياطين من الجن والإنس الذين يضلون عبادنا عن طريقنا الموصل إلى رضانا وجنتنا، أي لم أكن لأجعل منهم معيناً لي يعضدنى ويقوي أمري وخلاصة ما في الآية أن الله تعالى ينكر على الناس عبادة الشياطين وهي طاعتهم وهم مخلوقون وهو خالقهم وخالق كل شيء.
وقوله تعالى: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} أي أذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين المعرضين عن عبادة الله إلى عبادة عدوه الشيطان، أذكر لهم يوم يقال لهم في عرصات القيامة {نادوا شركائي الذين} أشركتموهم في عبادتي زاعمين أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم فيخلصونكم من عذابنا.
قال تعالى {فدعوهم3} يا فلان!! يا فلان.. {فلم يستجيبوا لهم} إذ لا يجرؤ أحد ممن عبد من دون الله أن يقول رب هؤلاء كانوا يعبدونني. قال تعالى: {وجعلنا بينيهم موبقاً4} أي حاجزاً وفاصلاً من عداوتهم لبعضهم. وحتى لا يتصل بعضهم ببعض في عرصات القيامة. وقوله تعالى: {ورأى المجرمون النار} أي يؤتى بها تُجَرُّ بالسلاسل حتى تبرز لأهل الموقف فيشاهدونها وعندئذ يظن5 المجرمون أي يوقنوا {أنهم مواقعوها} أي داخلون فيها. {ولم يجدوا عنها مصرفاً6} أي مكاناً ينصرفون إليه لأنهم محاطون بالزبانية، والعياذ بالله من النار وعذابها.
__________
1 أي: ما أحضرتهم لأستعين بهم على خلق السموات والأرض ولا أحضرت بعضهم لأستعين به على خلق البعض الآخر.
2 في الآية رد على أهل الضلال كافة من شيطان وكاهن ومنجم وطبعيّ وملحد إذ الجميع مخلوق مربوب والله خالق كل شيء ومليكه وربّه ومدبّره.
3 أي: امتثلوا الأمر ودعوهم فلم يستجيبوا لهم.
4 فسّر الموبق ابن عباس رضي الله عنهما: بالحاجز، وفسره أنس بن مالك رضي الله عنه بواد في جهنم من قيح ودم، وفسر بالمهلك والتفسير بالمهلك يدخل فيه كل ما ذكر، ومن الجائز أن يتعدد الحاجز ويكون أنواعا منها: عداوة بعضهم لبعض فإنها حاجز والنار نفسها أعظم موبق ولعلها هي المراد بالموبق.
5 {ظنوا} أي: أيقنوا إذ يطلق الظن ويراد به اليقين وهو كثير في القرآن الكريم. قال الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج
سراتهم في الفارسيّ المسرد
6 {مصرفا} : أي: مهرباً لإحاطتها بهم من كل جانب ولا ملجأ ولا معدلا.(3/266)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عداوة إبليس وذريته لبني آدم.
2- العجب من بني آدم كيف يطيعون عدوهم ويعصون ربهم!!
3- لا يستحق العبادة أحد سوى الله عز وجل لأنه الخالق لكل معبود مما عُبِدَ من سائر المخلوقات.
4- بيان خزي المشركين يوم القيامة حيث يطلب إليهم أن يدعوا شركاءهم لإغاثتهم فيدعونهم فلا يستجيبون لهم.
5- جمع الله تعالى المشركين وما كانوا يعبدون من الشياطين في موبق واحد في جهنم وهو وادي من شر أودية جهنم وأسوأها.
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58)(3/267)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)
شرح الكلمات:
صرفنا: أي بيّنا وكررنا البيان
من كل مثل: المثل الصفة المستغربة العجيبة.
جدلاً: أي مخاصمة بالقول.
سنة الأولين: أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.
قبلا: عياناً ومشاهدة.
ليدحضوا به الحق: أي يبطلوا به الحق.
هزواً: أي مهزوءاً به.
أكنة: أغطية.
وفي آذانهم وقراً: أي ثقلاً فهم لا يسمعون.
موئلاً: أي مكاناً يلجأون إليه.
لمهلكهم موعداً: أي وقتاً معيناً لإهلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى: {ولقد صرفنا1 في هذا القرآن من كل مثل} أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبيّنا فيه الحجج العديدة، {وصرفنا فيه} من الوعد والوعيد ترغيباً وترهيباً، وقابلوا كل ذلك بالجحود والمكابرة، {وكان الإنسان2 أكثر شيء جدلاً} فأكثرهم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن للحق ويسلم به ويؤديه إن كان عليه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى: (54) أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن الناس ما منعهم {أن يؤمنوا إذ جاءهم
__________
1 قال القرطبي: يحتمل أي: هذا الكلام وجهين: أحدهما ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية والثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وما في التفسير لم يخرج عن هذا فتأمّله.
2 يحتمل اللفظ الكافر لقوله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل} ويحتمل المسلم إلاّ أنه في الكافر أظهر وأكثر وروي مسلم عن علي رضي الله عنه "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرقه وفاطمة فقال: ألا تصلون؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قلت له ذلك ثمّ سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} .(3/268)
الهدى} وهو بيان1 طريق السعادة والنجاة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الكفر والشرك وسوء الأعمال {ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين} بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة، {أو يأتيهم} عذاب يوم القيامة معاينة2 وهو معنى قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قبلاً3} وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين} أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحاً بالجنة وينذرون من كفر، وعمل سوءاً بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين، لكن الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون {بالباطل ليدحضوا به الحق} . {واتخذوا} آيات الله وحججه {وما أنذروا} به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءاً يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظلم الناس. وهو ما قررته الآية (57) إذ قال تعالى فيها: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه} أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد أظلم من هذا الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه كناناً يحيطه به فيصبح لا يفقه شيئاً. ويجعل في أذنيه ثقلاً فلا يسمع الهدى. ولذا قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً} أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر {أبداً} .
وقوله تعالى: {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا} أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين {لعجل لهم العذاب} ، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلاّ لعجل لهم العذاب فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون. ولكن {لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً4} يئلون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون ذلك يوم بدر لأن السياق في الظلمة المعاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل وعقبة ابن أبي معيط والأخنس بن شريق، هذا أولاً. وثانياً قوله تعالى: {وتلك5 القرى أهلكناهم لما ظلموا} يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
__________
1 أي: بواسطة القرآن والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 أي: عياناً، وفسّره بعضهم بعذاب السيف يوم بدر.
3 قراءة الجمهور: (قبلا) بكسر القاف أي: المقابل الظاهر، وقراء (قُبلا) بضم القاف والباء وهو جمع قبيل أي: يأتيهم العذاب أنواعاً متعدّدة.
4 {موئلا} : أي: منجىً أو محيصاً يقال: وأل يئل وألاّ وؤولاً أي: لجأ تقول العرب: لا وألت نفسه أي: لا نجت ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها
للعامريين ولم تكلَم
5 تلك: مبتدأ وأهلكناهم الخبر، ويصح أن تكون تلك في محل نصب والعامل: أهلكنا نحو: زيداً ضربته.(3/269)
{وجعلنا لمهلكهم موعداً} أي لهلاكهم موعداً محدداً فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، وقد أهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لقد أعذر الله تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.
2- بيان غريزة الجدل في الإنسان والمخاصمة.
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.
4- بيان عظم ظلم من يُذَكَّرُ بالقرآن فيعرض ويواصل جرائمه ناسياً ما قدمت يداه.
5- بيان سنة الله في أن العبد إذا اواصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية أبداً حتى يهلك كافراً ظالماً فيخلد في العذاب المهين.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ(3/270)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى لفتاه: أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليه السلام.
مجمع البحرين: أي حيث التقى البحران بحر فارس وبحر الروم.
حقباً: الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.
سبيله في البحر سرباً: أي طريقه في البحر سرباً أي طريقاً كالنفق.
فلما جاوزا: أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في البحرسرباً.
في البحر عجباً: أي عجباً لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت واتخاذه في البحر طريقاً كالنفق في الجبل.
قصصاً: أي يتتبعان آثار أقدامهما.
عبداً من عبادنا: هو الخضر عليه السلام.
مما علمت رشداً: أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.
ما لم تحط به خبراً: أي علماً.
ولا أعصي لك أمراً: أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقاً هواي.
معنى الآيات:
هذه قصة موسى1 مع الخضر عليهما السلام وهي تقرر نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأتى لأحد أن يقصه ما لم يتلقه وحياً من الله عز وجل. قال تعالى: {وإذ قال موسى} أي أذكر يا رسولنا تدليلاً على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ قال موسى بن عمران نبينا إلى بني إسرائيل لفتاه2 يوشع بن نون {لا أبرح} أي سائراً {حتى أبلغ مجمع3 البحرين} حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبدٍ هناك من عباده هو أكثر مني علماً حتى
__________
1 ذهب نوف البكالي إلى أن موسى هذا هو موسى بن منشا بن يوسف عليه السلام وردّ هذا عليه ابن عباس رضي الله عنهما رداً عنيفاً كما في البخاري فالصحيح أنه موسى بن عمران رسول الله إلى بني إسرائيل.
2 اختلف في فتى موسى مَنْ هو؟ قيل: إنه كان شاباً يخدمه ولذا أطلق عليه لفظ الفتى على جهة حسن الأدب، قال ابن العربي. ظاهر القرآن أنه عبد وما دام صح الحديث بأنه يوشع بن نون فلا حاجة إلى البحث والتنقيب.
3 أي ملتقاهما. وهما بحر الأردن وبحر القلزم على الراجح الصحيح.(3/271)
اتعلم منه علماً أزيده على علمي، {أو أمضي حقباً1} أي أواصل سيري زمناً طويلاً حتى أظفر بهذا العبد الصالح لأتعلم عنه. قوله تعالى: {فلما بلغا مجمع بينهما} أي بين البحرين وهما بحر الروم وبحر فارس عند باب المندب حيث التقى البحر الأحمر والبحر الأبيض. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله أعلم بأيهما أراد. وقوله {نسيا حوتهما} أي نسي الفتى الحوت، إذ هو الذي كان يحمله، ولكن نسب النسيان إليهما جرياً على المتعارف من لغة العرب2، وهذا الحوت قد جعله الله تعالى علامة لموسى على وجود الخضر حيث يفقد الحوت، إذ القصة كما في البخاري تبتدىء بأن موسى خطب يوماً في بنى إسرائيل فأجاد وأفاد فأعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا. فأوحى إليه ربه فوراً بلى عبدنا خضر، فتاقت نفسه للقياه للتعلم عنه، فسأل ربه ذلك، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين، وجعل له الحوت علامة فأمره أن يأخذ طعامه حوتاً وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبد الله خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى3 والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل "وعاء" ويشق طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية لموسى. ويغلب النوم على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين4 قال موسى للفتى {آتنا5 غداءنا} وعلل ذلك بقوله: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} أي تعباً. هنا قال الفتى لموسى ما قصَّ الله تعالى: قال مجيباً لموسي {أرأيت} أي أتذكر {إذ أوينا إلى الصخرة} التي استراحا عندها {فإني نسيت الحوت} وقال كالمعتذر، {وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره6، واتخذ سبيله} أي طريقه {في البحر عجباً} أي حيي بعد موت
__________
1 قال النحاس: الحقب: زمان من الدهر مبهم غير محدود وجمعه أحقاب وورد الحقب مقدراً بثمانين سنة، إلاّ أنه في قول موسى هذا مراده الأوّل وهو زمن غير محدود.
2 نحو قوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} مع أنه لا يخرج إلاّ من البحر الملح ونحو قوله: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} مع العلم أن الرسل من الإنس فقط.
3 في البخاري: أن موسى عليه السلام قال ليوشع لا أكلفك إلاّ أن تخبرني حيث يفارقك الحوت قال الفتى: ما كلّفت كثيراً.
4 هذا يُرجح أن يكون البحران: نهر الأردن وبحيرة طبريّة.
5 في الآية دليل على وجوب حمل الزاد في السفر ففي هذا رد على المتصوفة الذين يخرجون بلا زاد بدعوى التوكل ثمّ هم يسألون الناس، وشاهد هذا آية البقرة إذ نزلت في أناس من اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون فنزل قوله تعالى: {وتزودّوا..} الآية.
6 أن: وما دخلت عليه تسبك بمصدر فيقال: وما أنساني ذكره إلاّ الشيطان.(3/272)
ومشى حتى انتهى إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه مرسى بما قص تعالى: {قال ذلك ما كنا نبغ} وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان الخضر الذي يوجد فيه {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما قصصا} أي يتتبعان آثار أقدامهما {فوجدا} خضراً كما قال تعالى: {فوجدا عبداً1 من عبادنا} وهو خضر {آتيناه رحمة من عندنا} أي نبوة {وعلمناه من لدنا علماً} وهو علم غيب خاص به {قال له موسي} مستعطفاً له {هل أتبعك على أن تعلمني هما علمت رشداً} أي مما علمك الله رشداً أي رشاداً يدُلني على الحق وتحصل لي به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى: {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} يريد أنه يرى منه أموراً لا يقره عليها وخضر لابد يفعلها فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} أي علماً كاملاً. فأجابه موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم مهما كلفه الثمن فقال {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقاً لما أحب وأهوى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عتب الله تعالى على رسوله موسى عليه السلام عندما سئل هل هناك من هو أعلم منك فقال لا وكان المفروض أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذلك فكلف هذه الرحلة الشاقة.
2- استحباب الرفقة في السفر، وخدمة التلميذ للشيخ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.
3- طروء النسيان على الإنسان مهما كان صالحاً.
4- مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ {فارتدا على آثارهما قصصا} .
5- تجلى قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً. وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده هناك.
6- استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالماً وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار ذهباً لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه: قال رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبيدك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى
__________
1 في البخاري: "فوجدا خضراً على طنْفَسة خضراء على كبد البحر مسجىَّ بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه فسلّم عليه موسى فكشف عن وجهه فقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى.." الخ.(3/273)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74)
شرح الكلمات:
ذكراً: أي بياناً وتفصيلاً لما خفي عليك.
لقد جئت شيئاً إمراً: أي فعلت شيئاً منكراً.
لا ترهقني: أي لا تغشني بما يعسر علي ولا أطيق حمله فتضيق علي صحبتي إياك.
نفساً زكية: أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.
بغير نفس. أي بغير قصاص.
نكراً: الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو المنكر الشديد النكارة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله تعالى: {قال} أي خضر {فإن اتبعتني} مصاحباً لي لطلب العلم {فلا تسألني1 عن شيء} أفعله مما لا تعرف له وجهاً شرعياً {حتى أحدث لك منه ذكراً} أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله تعالى: {فانطلقا} أي
__________
1 في قول موسى: {هل أتبعك} من حسن الأدب والتلطف في السؤال وتواضع الطالب للشيخ الشيء الكثير، وفي الآية دليل على أن المتعلم تابع للعالم وإن تفاوتت مرتبتهما، وما كان موسى إلاّ أفضل من خضر ولكنه بحكم أنه تابع للخضر العالم تواضع في لطف.(3/274)
بعد رضا موسى بمطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض1 فوصلا ميناء من المواني البحرية، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة، وتوغلت في البحر أخذ خضر فأساً فخرق السفينة، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول: {أخرقتها لتغرق أهلها} على أنهما حملانا بدون نَوْل {لقد جئت شيئاً إمراً} أي أتيت يا عالم منكراً فظيعاً فأجابه خضر بما قص تعالى: {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً} فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه: {قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً} أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه من موسى2 نسياناً حقاً ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فأتضايق من صحبتي إياك.
قال تعالى: {فانطلقا} بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاماً جميلاً وسيماً يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانباً وأضجعه3 وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه: {أقتلت نفساً زكية بغير نفس} زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنباً تتلوث به ش روحه ولم يقتل نفساً يستوجب بها القصاص {لقد جئت شيئاً نكراً} أي أتيت منكراً عظيماً بقتلك نفساً طاهرة لم تذنب ولم تكن هذه نسياناً من موسى بل كان عمداً إذ لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجهاً4 ولا سبباً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز الاشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.
2- جواز ركوب السفن في البحر.
3- مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر.
4- رفع الحرج عن الناس.
5- مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس.
__________
1 في البخاري: "فانطلقا يسيران على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول أي (أجرة) ".
2 في البخاري: "قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت الأولى من موسى نسياناً قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة في البحر فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر" حرف السفينة: طرفها، وحرف كل شيء طرفه.
3 في الترمذي: "أنه أخذ رأسه بيده فاقتلعه فقتله" وفي بعض الروايات "أنه أخذ حجراً فضرب بها رأس الغلام فقتله" وما في التفسير أصح وأوضح.
4 سيأتي بيان علّة القتل وأنها حق والقتل كان بإذن الله تعالى وما مات أحد ولا قتل إلاّ بإذن الله تعالى.(3/275)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
الجزء السادس عشر
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)
شرح الكلمات:
قال ألم أقل لك: أي قال خضر لموسى عليهما السلام.
بعدها: أي بعد هذه المرة.
فلا تصاحبني: أي لا تتركني أتبعك.
من لدني عذراً: أي من قبلي (جهتي) عذراً في عدم مصاحبتي لك.
أهل قرية: مدينة أنطاكية.
استطعما أهلها: أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.
يريد أن ينقض: أي قارب السقوط لميلانه.
فأقامه: أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.
أجرًا: أي جعلا على إقامته لإصلاحه.
هذا فراق بيني وبينك: أي قولك هذا {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.
بتأويل: أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في محاورة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد تقدم إنكار موسى على(3/276)
الخضر قتله الغلام بغير نفس، ولا جرم إرتكبه، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال: {لقد جثت شيئاً نكراً1} فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله: {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} لما سألتني الصحبة للتعليم، فأجاب موسى بما أخبر تعالى به في قوله: {قال إن سألتك عني شيء بعدها} أي بعد هذه المرة {فلا تصاحبني} أي اترك صحبتي فإنك {قد بلغت من2 لدني} أي من جهتي وقبلي عذراً في تركك إياي.
قال تعالى: {فانطلقا} في سفرهما {حتى إذا أتيا أهل قرية} (أي مدينة) قيل إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلبا منهم طعام الضيف الواجب له {فأبوا أن يضيفوهما3، فوجدا فيها} أي في القرية {جداراً يريد أن ينقض} أي يسقط فأقامه الخضر وأصلحه فقال موسى له: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي جعل مقابل إصلاحه، لاسيما أن أهل هذه القرية لم يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى: {هذا فراق بيني وبينك} لأنك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شيء أن لا تطلب صحبتي وها أنت قد سألتني، فهذا وقت4 فراقك إذاً {سأنبئك} أي أخبرك {بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بما التزم به الإنسان لآخر.
2- وجوب الضيافة لمن استحقها.
3- جواز التبرع بأي خير أو عمل ابتغاء وجه الله تعالى.
__________
1 اختلف في أيهما أبلغ: إمراً أو نكراً، ورجّح بعضهم أن إمراً فيما لم يحدث من فعل منكر فيكون خاصاً بالمستقبل، ومعناه: أمر فظيع مهيل ونكراً: يكون فيما وقع فهو بيّن الفساد بالغ في النكر واجب الإنكار.
2 قرىء: {من لدني} بتخفيف الدال وقرىء في السبع بتشديدها وقرىء عذراً بسكون الذال وقرىء في السبع أيضاً بضمهما، وضمّ العين قبلها كنُذُر ونُذُر.
3 في الحديث: "إنهم كانوا لئاماً بخلاء" وهو تعليل لعدم استضافة موسى والخضر.
4 في البخاري: هنا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما".(3/277)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)
شرح الكلمات:
لمساكين: جمع مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب.
يعملون في البحر: أي يؤجرون سفينتهم للركاب.
أعيبها: أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.
غصباً: أي قهراً.
أن يرهقهما طغياناً وكفراً: أي يغشاهما: ظلماً وجحوداً
وأقرب رحما: أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.
وما فعلته عن أمري: أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله وعظم سلطانه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث موسى والخضر عليهما السلام، فقد واعد الخضر موسى عندما أعلن له عن فراقه أن يبين له تأويل ما لم يستطع عليه صبراً، وهذا بيانه، قال تعالى (حكاية عن(3/278)
الخضر) {أما السفينة} التي خرقتُها وأنكرتَ عليَّ ذلك {فكانت1 لمساكين يعملون في البحر} يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت {فأردت أن أعيبها2} لا لأغرق أهلها، {وكان وراءهم3 ملك4} ظالم {يأخذ كل سفينة} صالحة {غصباً} أي قهراً وإنما أردت أن أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا يأخذ إلاّ السفن الصالحة {وأمّا الغلام} الذي قتلته وأنكرتَ عليَّ قتله {فكان أبواه مؤمنين فخشينا} إن كبر {أن يرهقهما5} أي يُغشيهما {طغياً وكفراً فأردنا أن يبدلهما6 ربهما خيراً منه زكاة} أي طهراً وصلاحاً {وأقرب7 رحماً} أي رحمة وبراً بهما فلذا قتلته، {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} أي سن الرشد {ويستخرجا كنزهما رحمة من8 ربك} أي كان ذلك رحمة {وما فعلته عن أمري} أي عن إرادتي واختياري بل كان بأمر الله وتعليمه. {ذلك} أي هذا {تأويل ما لم تسطع عليه صبراً} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ضروب من خفي ألطاف الله تعالى فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضاراً.
2- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.
3- مراعاة صلاح الأباء في إصلاح حال الأبناء.
__________
1 بهذه الآية استدل من قال من الفقهاء بأنّ المسكين أقلّ فقراً من الفقير لأنّ من ملك سفينة لا يعتبر فقيراً، وردّ هذا بأنّ أصحاب السفينة كانوا سبعة أفراد، وخمسة منهم زمنى ورثوا السفينة من أبيهم وبذا هم فقراء مساكين.
2 أعيبها: أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب أي: صار ذا عيب فهو معيب.
3 جائز أن يكون الوراء على حقيقته أي: خلفهم، وإذا رجعوا أخذ السفينة منهم، وجائز أن يكون وراء بمعنى أمام، ويؤيده قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير: {وكان أمامهم ملِك} .
4 قيل: الملك هو هدد بن بدد، واسم الغلام المقتول: جيسور.
5 وفسّر أيضاً: يجشمهما ويحملهما على الرهق وهو الجهل والمعنى: أنه يحملهما حبه على الغلو فيه فيطغيان ويكفران.
6 الرحم والرحمة بمعنى واحد قال الشاعر:
وكيف بظلم جارية
ومنها اللّين والرُّحم
7 قيل: اسم الغلامين: أصرم وصريم، وكان الكنز ذهباً وفضة لحديث الترمذي عن أبي الدرداء، وشاهده من اللغة فإنّ الكنز: المال المدفون المدّخر، وجائز أن يكون مع المال كتاب فيه علم.
8 تسطع وتستطيع بمعنى..(3/279)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
4- كل ما أتاه الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جُهال الناس ويسمون بالعلم اللَّدنيِّ وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء، وقد يسمونه كشفاً، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الخضر قال لموسى: أنا على علم مما علمني ربي وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله إلاّ كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر.
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
شرح الكلمات:
ويسألونك: أي كفار قريش بتعليم يهود لهم.
ذي القرنين: الإسكندر باني الاسكندرية المصرية الحميري أحد الملوك التبابعة وكان عبداً صالحاً.(3/280)
سأتلوا عليكم منه ذكراً: سأقص عليكم من حاله خيراً يحمل موعظة وعلماً.
مكنا له في الأرض: بالحكم والتصرف في ممالكها.
من كل شيء سبباً: أي يحتاج إليه سبباً موصلاً إلى مراده.
فأتبع سبباً: أي فأتبع السبب سبباً آخر حتى انتهى إلى مراده.
تغرب في عين حمئة: ذات حماة وهي الطين الأسود وغروبها إنما هو في نظر العين وإلاّ فالشمس في السماء والبحر في الأرض.
قوماً: أي كافرين.
عذاباً نكراً: أي عظيماً فظيعاً.
يسرا: أي ليناً من القول سهْلا من العمل.
مطلع الشمس: أي مكاناً تطلع منه.
قوم لم نجعل لهم من دونها سترا: القوم هم الزِّنْج ولم يكن لهم يومئذ ثياب يلبسونها ولا منازل يسكنونها وإنما لهم أسراب في الأرض يدخلون فيها.
كذلك: أي الأمر كما قلنا لك ووصفنا.
بين السدين: السدان جبلان شمال شرق بلاد الترك سد ذو القرنين ما بينهما فقيل فيهما سدان.
قوماً لا يكادون يفقهون قولاً: لا يفهمون كلام من يخاطبهم إلاّ بشدة وبطء وهم يأجوج ومأجوج.
معنى الآيات:
هذه قصة العبد الصالح ذي القرنين الحمْيَري التُّبعي على الراجح من أقوال العلماء، وهو الأسكندر باني الأسكندرية المصرية، ولأمر ما لقَّب بذي القرنين1، وكان قد تضمن سؤال قريش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيعاذ من يهود المدينة ذا القرنين إذ قالوا لقريش سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فإن أجابكم عنها فإنه نبي، وإلاّ فهو غير نبي فَرَوْا رأيكم فيه فكان الجواب عن الروح في سورة الإسراء وعن الفتية وذي القرنين في سورة الكهف هذه وقد تقدم.
__________
1 اختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال هي: عبد الله أو الاسكندر أو عبّاس أو جابر، كما اختلفوا في تلقيبه بذي القرنين على عشرة أقوال أمثلها أنه ملك فارس والروم أو أنه كان له ضفيرتان من شعر رأسه فلقب لذلك بذي القرنين، واختلف في نبوته، والظاهر أنه كان نبيًّا يوحى إليه وكان ملكاً حاكماً.(3/281)
الحديث التفصيلي عن أصحاب الكهف في أول السورة وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي القرنين عليه السلام قال تعالى: {ويسألونك} يا نبينا {عن ذي القرنين قل} للسائلين من مشركي قريش {سأتلوا عليكم منه1 ذكراً} أي سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكراً خبراً يحمل الموعظة والعلم والمعرفة: وقوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً} هذه بداية الحديث عنه فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض بالملك والسلطان، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير فيها سبباً يوصله إلى ذلك، وقوله {فأتبع سبباً} 2 حسب سنة الله في تكامل الأشياء فمن صنع إبرة وتابع الأسباب التي توصل بها إلى صنع الإبرة فإنه يصنع المسلة، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو والفتح والسير في الأرض {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} وهي على ساحل المحيط الأطلنطي، وكونها تغرب فيها هو بحسب رأي العين، وإلاّ فالشمس في السماء والعين الحمئة3 والمحيط إلى جنبها في الأرض وقوله تعالى: {ووجد عندها} أي عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي {قوماً} أي كافرين غير مسلمين فأذن الله تعالى له في التحكم والتصرف فيهم إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم وهو معنى قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين} وقد يكون نبياً ويكون قوله الله تعالى هذا له وحياً وهو {إما أن تعذب} بالأسر والقتل، {وإما أن تتخذ فيهم حسنا} وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم فأجاب ذو القرنين ربه بما أخبر تعالى به: {أما من ظلم4} أي بالشرك والكفر {فسوف نعذبه} بالقتل والأسر، {ثم يرد إلى ربه} بعد موته {فيعذبه عذاباً نكراً} أي فظيعاً أليمًا. {وأما من آمن وعمل صالحاً} أي أسلم وحسن إسلامه {فله جزاء5} على إيمانه وصالح أعماله {الحسنى} أي الجنة في الآخرة {وسنقول له من أمرنا يسراً} فلا نغلظ له في
__________
1 {ذكراً} أي: خيراً يتضمن ذكره.
2 أصل: السبب: الحبل واستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء، وأوتي ذو القرنين من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد فتوصّل إلى فتح البلاد وقهر الأعداء وقرىء فأتبع سببا بقطع الهمزة وقرأ أهل المدينة فاتَّبع سبباً بهمزة وصل وتشديد التاء.
3 قرأ الجمهور: (حمئة) من الحماة أي كثيرة الحمأة وهي الطين الأسود وقرأ بعضهم حامية أي: حارة وجائز أن تكون حامية من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء.
4 أي: قال لأولئك القوم أمّا مَنْ ظلم.. الخ.
5 قراءة أهل المدينة (فله جزاءُ الحسنى) برفع جزاء بدون تنوين والحسني مضاف إليه والخبر تقديره: عند الله. وقرأ غيرهم بنصب جزاء على التمييز أي: فله الحسنى جزاء ًويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية.(3/282)
القول ولا نكلفه ما يشق عليه ويرهقه.
وقوله تعالى: {ثم أتبع سبباً} أي ما تحصل عليه من القوة في فتح المغرب استخدمه في مواصلة الغزو والفتح في المشرق {حتى إذا بلغ مطلع الشمس1 وجدها تطلع على2 قوم} بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعيشون عليها على التحضر فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات والسراديب وهو ما دل عليه قوله تعالى: {لم نجعل لهم من دونها} أي الشمس {سترا} . وقوله تعالى: {كذلك3} أي القول الذي قلنا والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي القرنين {وقد أحطنا بما لديه} من قوة وأسباب مادية وروحية {خبراً} أي علماً كاملاً. وقوله تعالى: {ثم أتبع} أي ذو القرنين {سبباً} أي واصل طريقه في الغزو والفتح {حتى إذا بلغ بين السدّين4} وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين بينهما سداً عظيماً حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم، وهم القوم الذين قال تعالى عنهم {وجد من دونهما5 قوماً لا يكادون يفقهون قولاً} فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلاّ بشدة وبطء كبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ هذا جواب آخر أسئلة قريش الثلاثة. قرأه عليهم قرآناً موحى به إليه.
2- إتباع السبب السبب يصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.
3- قول: ذو القرنين: {أما من ظلم....} الخ يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات لصدقها وإجابتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه، ومن الأسف أن
__________
1 المطلع: يجوز فيه كسر الميم وفتحها مثل المنسك والمجزر والمسكن والمنبت هذه يجوز فيها وجهان الكسر والفتح في ميمها.
2 قال صاحب النوير: والظاهر أنه بلغ ساحل اليابان في حدود منشورياً أو كورياً شرقاً.
3 جائز أن يكون المعنى: كذلك أمرهم كما قصصنا عليك وهو معنى ما في التفسير وجائز أن يكون كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها كذلك.
4 قرأ حفص بفتح السين، وقرأ نافع بضمها، ونظير السد في الفتح والضم الضعف والقر والقر.
5 قوله: من دونهما يعني أمام الدين لا خلفهما إذ خلفهما يأجوج ومأجوج.(3/283)
يعكس هذا القول السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات، وأهل الإيمان والاستقامة مهانين!!
4- بيان وجود أمم بدائية إلاّ عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثيابا ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات ويوجد في البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب، وإنما يضعون على فروجهم خيوط وسيور لا غير.
5- تقرير أن هذا الملك الصالح قد ملك الأرض فهو أحد أربعة1 حكموا الناس شرقاً وغرباً.
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
__________
1 هم: مسلمان وهما ذو القرنين وسليمان عليهما السلام، وكافران وهما: النمرود وبختنصر. كذا قيل والله أعلم.(3/284)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
شرح الكلمات:
يأجوج ومأجوج: قبيلتان من أولاد يافث بن نوح عليه السلام والله أعلم.
نجعل لك خرجاً: أي جعلاً مقابل العمل.
سداً: السد بالفتح والضم الحاجز المانع بين شيئين.
ردماً: حاجزاً حصيناً وهو السد.
زبر الحديد: جمع زبرة قطعة من حديد على قدر الحجرة التي يبنى بها.
بين الصدفين: أي صدف الجبلين أي جانبهما.
قطراً: القطر النحاس المذاب.
فما استطاعوا أن يظهروه: أي عجزوا عن الظهور فوقه لعلوه وملاسته.
نقبا: أي فتح ثغرة تحت تحته ليخرجوا معها.
جعله دكا: أي تراباً مساوياً للأرض.
وتركنا بعضهم: أي يأجوج ومأجوج أي يذهبون ويجيئون في اضطراب كموج البحر.
أعينهم في غطاء عن ذكري: أي عن القرآن لا يفتحون أعينهم فيما تقرأه عليهم بغضا له أو أعين قلوبهم وهي البصائر فهي في أكنة لا تبصر الحق ولا تعرفه.
لا يستطيعون سمعاً: لبغضهم للحق والداعي إليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حديث ذي القرنين إذ شكا إليه سكان المنطقة الشمالية الشرقية من الأرض بما أخبر تعالى به عنهم إذ قال: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج1 ومأجوج مفسدون في الأرض} أي بالقتل والأكل والتدمير والتخريب، {فهل نجعل لك خرجاً} أي أجراً2 {على
__________
1 يأجوج ومأجوج: اسمان أعجميان يهمزان ولا يهمزان ولذا قرىء في السبع بهما وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام ورد وصفهم أن صنفاً منهم يفرش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلاّ أكلوه، ومن مات منهم أكلوه مقدّمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، وذلك يوم يفتح سدهم ويهدم، وخروجهم من أشراط الساعة الكبرى.
2 الخرج والخراج: لغتان، وقيل الخرج: ما يعطى تطوعاً والخراج: ما يلزم عطاؤه والمراد به هنا الأجر مقابل العمل المطلوب من إقامة السدّ.(3/285)
أن تجعل بيننا وبينهم سداً} أي حاجزاً قوياً لا يصلون معه إلينا. فأجابهم ذو القرنين بما أخبر الله تعالى به في قوله: {قال ما مكني فيه ربي} من المال القوة والسلطان {خير} أي من جعلكم وخرجكم {فأعينوني1 بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً2} أي أي سداً قوياً وحاجزاً مانعاً {آتوني زبر الحديد} أي قطع الحديد كل قطعة كالَّلِبنة المضروبة، فجاءوا به إليه فأخذ يضع الحجارة وزبر الحديد ويبْني حتى ارتفع البناء فساوى بين الصدفين جانبي الجبلين، وقال لهم {انفحوا} أي النار على الحديد {حتى إذا جعله نارا} قال آتوني بالنحاس المذاب أفرغ عليه3 قطراً فأتوه به فأفرغ عليه من القطر ما جعله كأنه صفيحة واحدة من نحاس {فما استطاعوا} أي يأجوج ومأجوج {أن يظهروه} أي يعلوا فوقه، {وما استطاعوا له نقباً} أي خرقاً فلما نظر إليه وهو جبل شامخ وحصن حصين قال هذا من رحمة ربي أي من أثر رحمة ربي عليَّ وعلى الناس وأردف قائلاً {فإذا جاء وعد ربي} وهو خروج يأجوج ومأجوج عند قرب الساعة {جعله دكاً} أي تراباً مساوياً للأرض، {وكان وعد ربي حقاً} وهذا مما وعد به وأنه كائن لا محالة قال تعالى: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} أي مختلطين مضطربين إنسهم4 وجنهم {ونفخ في الصور} نفخة البعث {فجمعناهم} للحساب والجزاء {جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً} حقيقياً يشاهدونها فيه من قرب، ثم ذكر ذنب الكافرين وعلة عرضهم على النار فقال: وقوله الحق: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} أي أعين قلوبهم وهي البصائر فلذا هم لا ينظرون في آيات الله الكونية فيستدلون بها على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، ولا في آيات الله القرآنية فيهتدون بها إلى أنه لا إله إلاّ الله ويعبدونه بما تضمنته الآيات القرآنية، {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} للحق ولما يدعوا إليه رسل الله من الهدى والمعروف
__________
1 القوة: الرجال والمال.
2 الردم أعظم من السدّ.
3 جائز أن يكون المراد بالقطر النحاس المذاب وهذا الظاهر، وجائز أن يكون الحديد المذاب والثالث: أنه الصفر والرابع أنه الرصاص. روى أحمد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خلاصته أنّ يأجوج ومأجوج يحفران يومياً السدّ حتى إذا كادوا يخرقونه يقولون غدا نتم حفره وإذا جاء الغد حفروا ولم يقولوا إن شاء الله حتى إذا جاء وعد الله قالوا: إن شاء الله ففتح لهم.
4 جائز أن يكون المراد بمن يموج بعضهم في بعض: يأجوج ومأجوج وجائز أن يكون الإنس والجن وذلك يوم القيامة.(3/286)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال.
2- فضيلة التبرع بالجهد الذاتي والعقلي.
3- مشروعية التعاون على ما هو خير، أو دفع للشر.
4- تقرير وجود أمة يأجوج ومأجوج، وأن خروجهم من أشراط الساعة.
5- تقرير البعث والجزاء.
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
شرح الكلمات:
أفحسب الذين كفروا: الاستفهام للتقريع والتوبيخ.
أن يتخذوا عبادي: كالملائكة وعيسى بن مريم والعزير وغيرهم.
أولياء: أرباباً يعبدوهم بأنواع من العبادات.
نزلا: النزل: ما يعد للضيف من قرى وهو طعامه وشرابه ومنامه.
ضل سعيهم: أي بطل عملهم وفسد عليهم فلم ينتفعوا به.
يحسنون صنعا: أي بعمل يعمل يجازون عليه بالخير وحسن الجزاء.
وآيات ربهم: أي بالقرآن وما فيه من دلائل التوحيد والأحكام الشرعية.
ولقائه: أي كفروا بالبعث والجزاء.
وزناً: أي لا نجعل لهم قدراً ولا قيمة بل نزدريهم ونذلهم.(3/287)
ذلك: أي أولئك جزاؤهم جهنم وأطلق لفظ ذلك بدل أولئك، لأنهم بكفرهم وهبوط أعمالهم أصبحوا غثاء كغثاء السيل لا خير فيه ولا وزن له يستحسن أن يشار إليه بذلك.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المشركين شركهم ويوبخهم مقرعاً لهم على ظنهم أن اتخاذهم1 عِبادَهُ من دونه أولياء يعبدونهم كالملائكة حيث عبدهم بعض العرب والمسيح حيث عبده النصارى، والعزير حيث عبده بعض اليهود، لا يغضبه تعالى ولا يعاقبهم عليه. وكيف لا يغضبه ولا يعاقبهم عليه وقد أعد جهنم للكافرين نزلاً أي دار ضيافة لهم فيها طعامهم وفيها شرابهم وفيها فراشهم كما قال تعالى {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} هذا ما دلت عليه الآية الأولى (102) وهي قوله تعالى {أفحسب2 الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء 3 إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا} . وقوله تعالى في الآية الثانية (103) يخبر تعالى بأسلوب الاستفهام للتشويق للخبر فيقول {قل هل ننبئكم} أيها المؤمنون {بالأخسرين أعمالاً} إنهم {الذين ضل سعيهم4 في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} أي عملاً، ويعرفهم فيقول {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} فلم يؤمنوا بها، وبلقاء ربهم فلم يعملوا العمل الذي يرضيه عنهم ويسعدهم في وهو الدين الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله لعباده المؤمنين به يتقربون به إليه. فلذلك حبطت أعمالهم لأنها شرك وكفر وشر وفساد، {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً5} إذ لا قيمة لهم ولا لأعمالهم الشركية الفاسدة الباطلة فإن أحدهم لا يزن جناح بعوضة لخفته.
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم الشياطين. وهو صحيح إذ الشياطين هم الذين زينوا لهم عبادة الملائكة والأنبياء والأولياء والأصنام ودعوهم إلى عبادتهم.
2 قرىء: (أفحسب) بإسكان السين وضم الباء أي. أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟
3 جواب الاستفهام محذوف تقديره: كلا بل هم أعداء يتبرؤن منهم وجائز أن يكون: ولا أغضب ولا أعاقبهم، وكلا المعنيين يراد.
4 يدخل في هذا كل من المشركين واليهود والنصارى والحرورية والمراءون بأعمالهم، وكل من يعمل الأعمال، وهو يظن أنه محسن وقد حبطت أعماله لفساد اعتقاده ولمراءاته أو لعمله بما شرع الله كأنواع البدع المكفرّة.
5 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال: اقرأوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} .(3/288)
وأخيراً أعلن تعالى عن حكمه فيهم وعليهم فقال {ذلك1} أي المذكور من غثاء الخلق {جزاؤهم جهنم} وعلل للحكم فقال: {بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً} أي بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات ربهم وبرسله فكان الحكم عادلاً، والجزاء موافقاً والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير شرك من يتخذ الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء آلهة يعبدوهم تحت شعار التقرب إلى الله تعالى والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله تعالى بحبهم والتقرب إليهم.
2- تقرير هلاك أصحاب الأهواء الذين يعبدون الله تعالى بغير ما شرع ويتوسلون إليه بغير ما جعله وسيلة لرضاه وجنته. كالخوارج والرهبان من النصارى والمبتدعة الروافض والإسماعيلية، والنصيرية والدروز ومن إليهم من غلاة المبتدعة في العقائد والعبادات والأحكام الشرعية.
3- لا قيمة ولا ثقل ولا وزن لعمل لا يوافق رضا الله تعالى وقبوله له، كما لا وزن عند الله تعالى لصاحبه، وإن مات خوفا من الله أو شوقاً إليه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ
__________
1 وجائز أن تكون الإشارة بذلك إلى ترك الوزن وخسة القدر والخبر: جزاؤهم جهنم. و (جهنم) بدل من (جزاؤهم) بدلا مطابقاً فيه زيادة توكيد.(3/289)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
شرح الكلمات:
كانت لهم: أي جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.
الفردوس نزلاً: هو وسط الجنة وأعلاها ونزلاً منزل إكرام وإنعام.
لا يبغون عنها حولا: أي لا يطلبون تحولاً منها لأنها لا خير منها أبداً.
لو كان البحر: أي ماؤه مداداً.
قبل أن تنفد كلمات ربي: أي قبل أن تفرغ.
لنفد البحر: أي ولم تنفد هي أي لم تفرغ.
يرجو لقاء ربه: يأمل وينتظر البعث والجزاء يوم القيامة حيث يلقى ربه تعالى.
ولا يشرك بعبادة ربه أحدا: أي لا يرائي بعمله أحداً ولا يشرك في عبادة الله تعالى غيره تعالى.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الشرك والأهواء وأنه جهنم ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان والتقوى التي هي عمل الصالحات واجتناب المحرمات فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله، ووعده لأوليائه، ووعيده لأعدائه من أهل الشرك والمعاصي، وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض والواجبات وسارعوا في النوافل والخيرات هؤلاء {كانت لهم} في علم الله وحكمه {جنات الفردوس1} أي بساتين الفردوس منزلا ينزلونه ودار كرامة يكرمون فيها وينعمون، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واصفاً لها ومرغباً فيها وقد ارتادها وانتهى إلى مستوى فوقها ليلة الإسراء والمعراج قال: "إن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر أنهار الجنة"، كما في الصحيح2، وقوله تعالى {خالدين فيها لا يبغون
__________
1 روى الشيخان من حديث أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "جنان الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
2 وروى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس".(3/290)
عنها حولا} أي ماكثين فيها أبداً لا يطلبون متحولاً عنها إذ نعيمهما لا يمل وسعادتها لا تنقص، وصفْوها لا يكدر وسرورها لا ينغض بموت ولا بمرض ولا نصب ولا تعب جعلني الله ومن قال آمين من أهلها. آمين. وقوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا1 لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} تضمنت هذه الآية رداً على اليهود الذين لما نزل قول الله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً} في الرد عليهم لما سألوا عن الروح بواسطة وفد قريش إليهم. فقالوا: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مداداً الآية رداً عليهم وإبطالاً لمزاعمهم فأعلمهم وأعلم كل من يدعي العلم الذي ما فوقه علم بأنه لو كان ماء البحر مداداً وكان كل غصن وعود في أشجار الدنيا كلها قلماً، وكتب بهما لنفد ماء البحر وأغصان الشجر ولم تنفد كلمات ربي التي تحمل العلوم والمعارف الإلهية وتدل عليها وتهدي إليها فسبحان الله وبحمده، سبحانه الله العظيم سبحان الله الذي انتهى إليه علم كل شيء وهو على كل شيء قدير. وقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر2 مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} . يأمر تعالى رسوله بأن يقول للمشركين الذين يطلبون منه المعجزات كالتي أوتى موسى وعيسى: إنما أنا بشر مثلكم لا أقدر على ما لا تقدرون عليه أنتم، والفرق بيننا هو أنه يوحى إلي الأمر من ربي وأنتم لا يوحى إليكم يوحى إليّ أنما إلهكم أي معبودكم الحق وربكم الصدق هو إله واحد الله ربكم ورب آبائكم الأولين. وقوله {فمن3 كان يرجو4} أي يأمل وينتظر {لقاء ربه} خوفاً منه وطمعاً فيه {فليعمل عملاً صالحاً} وهو مؤمن موقن، {ولا يشرك بعبادة5 ربه أحداً} فإن الشرك محبط للعمل مبطل له، وبهذا يكون رجاءه صادقاً وانتظاره صالحاً صائباً.
__________
1 المداد في أوّل الآية والمداد في آخرها بمعنى واحد واشتقاقها لا يختلف.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما علّم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميٌ كغيره إلاّ أنه أكرم بالوحي.
3 روي في سبب نزول هذه الآية ما يلي: أتى جندب بن زهير الغامدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني أعمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرّني فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً ولا يقبل ما ررئي فيه. فنزلت هذه الآية.
4 فسر {يرجو} بمعنى: يأمل وبمعنى يخاف وكلاهما مطلوب الخوف من الله ومن عذاب الآخرة والأمل في فضل الله وإحسانه وثوابه في الدنيا والآخرة.
5 فسّر سعيد بن جبير رحمه الله {ولا يشرك} بأن لا يرائي. وهو صحيح ولفظ الشرك أعم من الرياء.(3/291)
-هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان أفضل الجنان وهو الفردوس الأعلى.
3- علم الله غير متناهي لأن كلماته غير متناهية.
4- تقرير صفة الكلام لله تعالى.
5- تقرير بشرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه ليس روحاً ولا نوراً فحسب كما يقول الغلاة الباطنية.
6- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
7- تقرير أن الرياء شرك لما ورد أن الآية نزلت في بيان حكم المرء يجاهد1 يريد وجه الله ويرغب أن يرى مكانه بين الناس، يصلى ويصوم ويحب أن يثنى عليه بذلك.
__________
1 قال ابن عباس وطاووس: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يُرى مكاني فنزلت هذه الآية وجائز تعدد النزول من أجل أن يجاب السائل بنفس الآية التي كانت جواباً لسؤال مماثل.(3/292)
سورة مريم
مكية
وآياتها ثمان وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)(3/292)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
شرح الكلمات:
كَهَيَعَص 1: هذه من الحروف المقطعة تكتب كهيعص وتُقرأ كاف، هاء يا عين صاد. ومذهب السلف أن يقال فيها: الله أعلم بمراده بذلك.
ذكر رحمة ربك: أي هذا ذكر رحمة ربك.
نادى ربه: أي قال: يا رب ليسأله الولد.
نداءً خفيا: أي سر بعداً عن الرياء.
وهن العظم مني: أي رق وضعف لكبر سني.
واشتعل الرأس شيبا: أي انتشر الشيب ثما شعر رأسي انتشار النار في الحطب.
ولم أكن بدعائك رب شقيا: أي إنك لم تخيبني فيما دعوتك فيه قبل، فلا تخيبني اليوم فيما أدعوك فيه.
وإني خفت الموالي: أي خشيت بني عمي أن يضيعوا الدين بعد موتي.
إمرأتي عاقراً: لا تلد واسمها أشاع فهي أخت حنة أم مريم.
فهب لي من لدنك وليا: أي ارزقي من عندك ولداً.
ويرث من آل يعقوب: أي جدي يعقوب العلم والنبوة.
واجعله رب رضيا: أي مرضياً عندك.
سميا: أي مسمى يحيى.
معنى الآيات:
أما قوله تعالى: {كَهَيَعص2} فإن هذا من الحروف المقطعة والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم معناه لمنزله سبحانه وتعالى فنقول: {كهيعص} ألله أعلم بمراده به.
وأما قوله تعالى: {ذكر3 رحمة ربك عبده زكريا} فإن معناه: مما تتلو4 عليك في هذا القرآن يا نبينا
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الكاف من كافٍ والهاء من هادٍ والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق. وعن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم للسورة وقيل: هي اسم الله الأعظم، وكان علي يقول: يا كهيعص اغفر لي.
2 كهيعص: هذه حروف هجاء مكتوبة بمسمياتها مقروءة بأسمائها.
3 {ذكر} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا ذكر رحمة ربك وعبده: منصوب بالمصدر الذي هو ذكر.
4 بناء على أن ذكر رحمة ربك: خبر والمبتدأ محذوف فإنه يصح تقديره. هذا ذكر وذكر رحمة ربك، وهذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك.(3/293)
فيكون دليلاً على نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه، وامرأته عاقر لا يولد لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات نظراً إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس بينهم كفؤ لذلك بل هم دعاة إلى السوء فنادى1 ربه نداء خفياً قائلاً: {رب إني وهن العظم مني} أي رق وضعف، {واشتعل الرأس شيباً} أي شاب شعر رأسي لكبر سني، {ولم أكن بدعائك رب شقياً} أي في يوم من الأيام بمعنى أنك عودتني الاستجابة لما أدعوك له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي. {وإني} يا ربي قد {خفت2 الموالي} أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت وحدك لا شريك لك، وذلك بعد موتي {فهب لي من لدنك} أي من عندك تفضلاً به علي إذ الأسباب غير متوفرة للولد: المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم، {ولياً} أي ولداً يلي أمر هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها {ويرث3 من آل يعقوب} جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم إبراهيم وهي الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له {واجعله رب رضيا} أي واجعل الولد الذي تهبني يا ربي {رضيا} أي عبداً صالحاً ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك، فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله: {يا زكريا4 إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى5، لم نجعل له من قبل سميا} أي من سمي باسمه يحيى قط.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخباره بهذا الذي أخبر به عن زكريا عليه السلام.
2- استحباب السرية في الدعاء لأنه أقرب إلى الاستجابة.
__________
1 النداء هنا: الدعاء والرغبة إلى الله تعالى، وفيه استحباب دعاء السرّ والمناجاة الخفية، وقد أسرّ مالك القنوت وجهر به الشافعي لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر به.
2 الموالي هنا: الأقارب وبنوا العم والعصبة الذين يلونه في النسب لأنّ العرب تسمّي بني العم موالي قال شاعرهم: مهلا بني عمّنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
3 المراد من الإرث هو: إرثه في دعوته لأنّ مواليه كانوا مهملين للدّين والدعوة فخاف ضياع ذلك فسأل ربه ولداً يقوم بذلك، أمّا المال فإنّ الأنبياء لا يورثون وما يتركونه فهو صدقة.
4 في الكلام حذف تقديره: فاستجاب الله دعاءه فقال: يا زكريا.. الخ.
5 تضمنت هذه البشرى ثلاثة أمور: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوّة له، والثالث: إفراده بتسمية لم يسمّ بها أحد قبله، قيل في قوله: {من قبل} إشارة إلى أنه سيخلف بعده من هو أشرف اسماً وذاتاً وحالاً وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/294)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
3- وجود العقم في بعض النساء.
4- قدرة الله تعالى فوق الأسباب وإن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها.
5- تقرير مبدأ أن الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاه والبعير1 وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
شرح الكلمات:
أنى يكون لي غلام؟ : أي ن أي وجهٍ وَجِهَةٍ يكون لي ولد.
عتيا: أي يبست مفاصي وعظامي.
آية: أي علامة تدلني على حمل امرأتي.
سويا: أي حال كونك سويَّ الخَلّقِ ما بك عليه خرس.
__________
1 والدينار والدرهم.(3/295)
من المحراب1: المصلى الذي يصلى فيه وهو المسجد.
فأوحى إليهم: أومأ إليهم وأشار عليهم.
وآتيناه الحكم صبيا: الحكم والحكمة بمعنى واحد وهما الفقه في الدين ومعرفة أسرار الشرع.
وحناناً من لدنا: أي عطفاً على الناس موهوباً له من عندنا.
وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام.
جباراً عصياً: أي متعالياً لا يقبل الحق عصياً لا يطيع أمر الله عز وجل وأمر والديه.
وسلام عليه: أي أمان له من الشيطان أن يمسه بسوء يوم يولد، وأمان له من فتاني القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال: ما أخبر به تعالى عنه في قوله: {قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيا 2} أي من أي وجه وجهة يأتيني الولد أمن إمرأة غير امرأتي، أم منها ولكن تهبني قوة على مباضعتها3 وتجعل رحمها قادرة على العلوق4، لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حداً بس فيه عظمي ومفاصلي وهو العتى كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله عز وجل: {قال كذلك} أي الأمر كما قلت يا زكريا، ولكن {قال ربك هو على هين} أي إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر وامرأتك من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه ويدلك على ذلك أني {قد خلقتك من5 قبل ولم تك شيئاً} ، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على هبتك الولد على ضعفك وعقر امرأتك وهنا طالب زكريا ربه بأن يجعل له علامة تدله على وقت حمل امرأته بالولد فقال ما أخبر به تعالى في قوله: {قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً} فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امرأته بالولد وهي أنه يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام
__________
1 المحراب: مكان مرتفع، ومن هنا كره مالك أن يصلي الإمام في مكان أرفع من المكان الذي يصلي فيه الناس وراءه خشية الكبر عليه، والكبر من كبائر الذنوب ولم يكره أحمد رحمه الله تعالى.
2 قرأ نافع (عُتيا) بضم أوله كما: بُكيَّا وصليَّا، وبكسرها قرأ حفص، والعتي: هو قحول العظم ويبوسته.
3 أي: جماعها من إدخال البضع في البضع.
4 أي: علوق النطفة في الرحم.
5 أي: فخلق الولد كخلقك.(3/296)
وهو سوي البدن ما به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام، {فخرج على قومه من المحراب} أي المصلى الذي يصلي فيه {فأوحى إليهم} أي أومأ وأشار1 إليهم {أن سبحوا2 بكرة وعشياً3} أي اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا علم بحمل امرأته إذ إمتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل. وقوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم وقوله {وآتيناه الحكم4 صبيا} أي وهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام. وقوله تعالى: {وحناناً5 من لدنا وزكاة وكان تقياً} أي ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبياً كما أنه عليه السلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين وقوله {وزكاة} أي طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عز وجل {وكان تقياً} أي خائفاً من ربه فلا يعصه بترك فريضة ولا يفعل حرام.
وقوله تعالى: {وبرا بوالديه} أي محسناً بهما مطيعاً لهما لا يؤذيهما أدنى أذى وقوله {ولم يكن جباراً عصياً} أي لم يكن عليه السلام مستكبراً ولا ظالماً، ولا متمرداً عاصياً لربه ولا لأبويه وقوله: {وسلام عليه يوم6 ولد} أي أمان له من الشيطان يوم ولد، وأمان له من فتانى القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً، فسبحان الله ما أعظم فضله وأجزل عطاءه على أوليائه، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طلب معرفة السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به الولد، كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى.
__________
1 أو كتب إليهم كتابة.
2 إذ كان يأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة بالإشارة لأنه لم يقدر على الكلام إذ جعل الله تعالى عجزه عن الكلام علامة الحمل لامرأته.
3 بكرة وعشياً ظرفان في الصباح والمساء.
4 يروى أنه قال له الأولاد: هيا بنا نلعب فقال لهم: ما للعب خلقت، فهذا مما أوتيه من الحكم صبياً.
5 الحنان: التعطف والترحم وأصله من حنين الناقة إلى فصيلها، ويقال: حنانك وحنانيك وهما بمعنى واحد. قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهو من بعض
6 وجائز أن يكون المراد بالسلام هنا: التحية منه تعالى وهي أشرف من غيرها.(3/297)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
2- جواز طلب العلامات الدالة على الشيء للمعرفة.
3- آية عجيبة أن يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط.
4- فضل التسبيح في الصباح والمساء.
5- وجوب أخذ القرآن بجد وحزم قراءة وحفظاً وعملاً بما فيه.
6- صدق قول أهل العلم من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبياً.
7- وجوب البر بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي القرآن مريم أي خبرها وقصتها.
مريم: هي بنت عمران والدة عيسى عليه السلام.
إذ انتبذت: أي حين اعتزلت أهلها باتخاذها مكاناً خاصاً تخلو فيه بنفسها.
شرقيا: أي شرق الدار التي بها أهلها.
حجابا: أي ساتراً يسترها عن أهلها وذويها.
روحنا: جبريل عليه السلام.(3/298)
بشراً سوياً: أي تام الخلق حتى لا تفزع ولا تروع منه.
إن كنت تقياً: أي عاملاً بإيمانك وتقواك لله فابتعد عنى ولا تؤذني.
غلاماً زكياً: ولداً طاهراً لم يتلوث بذنب قط.
ولم يمسسني بشر: أي لم أتزوج.
ولم أك بغيّاً: أي زانية.
قال كذلك: أي الأمر كذلك وهو خلق غلام منك من غير أب.
هو على هين: ما هو إلاّ أن ينفخ رسولنا في كم درعك حتى يكون الولد.
ولنجعله آية للناس: أي على عظيم قدرتنا.
ورحمة منا: أي وليكون الولد رحمة بمن آمن به واتبع ما جاء به.
أمراً مفضياً: أي حكم الله به وفرغ منه فهو كائن حتماً لا محالة.
معنى الآيات:.
هذه بداية قصة مريم عليها السلام إذ قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {واذكر في الكتاب} أي القرآن الكريم {مريم} أي نبأها وخبرها ليكون ذلك دليلاً على نبوتك وصدقك في رسالتك وقوله {إذ انتبذت} أي اعتزلت {من أهلها} هذا بداية القصة وقوله {مكاناً شرقياً} أي موضعاً شرقي دار قومها وشرق المسجد، ولذا اتخذ النصارى المشرق قبلة لهم في صلاتهم ولا حجة لهم في ذلك إلاّ الابتداع وإلاّ فقبلة كل مصلي لله الكعبة بيت الله الحرام قوله تعالى: {فاتخذت من دونهم} أي من دون أهلها {حجاباً} ساتراً لها عن أعينهم1، ولما فعلت ذلك أرسل الله تعالى إليها جبريل في صورة بشر سوي الخلقة معتد لها، فدخل عليها فقالت ما قص الله تعالى في كتابه {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} أي أحتمي بالرحمن الذي يرحم الضعيفات مثلي إن كنت مؤمناً تقياً فاذهب عني ولا تروعني أو تمسني بسوء. فقال لها جبريل عليه السلام ما أخبر تعالى به وهو {قال إنما أنا رسول ربك لأهب2 لك غلاماً زكياً} أي طاهراً لا يتلوث بذنب قط. فأجابت بما أخبر تعالى عنها في قوله: {أنى يكون لي
__________
1 قيل: استترت عن أهلها لتغتسل من حيضتها وتمتشط، وذلك لكمال حيائها.
2 قرأ ورش عن نافع: (ليهب) بالياء بغير همزة، وقرأ غيره: (لأهب) بالهمزة فعلى قراءة نافع المعنى: أرسلني ليهب لك، وعلى قراءة غيره أرسلني يقول لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك.(3/299)
غلام} أي من أي وجه يأتيني الولد، {ولم يمسسني بشر} أي وأنا لم أتزوج، {ولم أك بغيا1} أي ولم أكزانية، فأجابها جبريل بما أخبر تعالى به في قوله: {قال كذلك} أي الأمر كما قلت ولكن ربك قال: {هو علي هين} أي خلقه بدون أب من نكاح أو سفاح، لأنه هين علينا من جهة، {ولنجعله2 آية للناس} دالة على قدرتنا على خلق آدم بدون أب ولا أم، والبعث الآخر من جهة أخرى. وقوله تعالى {رحمة منا وكان أمراً مقضياً3} أي ولنجعل الغلام المبشر به رحمة منا لكل من آمن به واتبع طريقته في الإيمان والاستقامة وكان هذا الخلق للغلام وهبته لك أمراً مقضياً أي حكم الله فيه وقضى به فهو كائن لا محالة ونفخ جبريل في جيب قميصها فسرت النفخة في جسمها فحملت به كما سيأتي بيانه في الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها.
2- فضيلة العفة والحياء.
3- كون الملائكة يتشكلون كما أذن الله تعالى لهم.
4- مشروعية التعوذ بالله من كل ما يخاف من إنسان أو جان.
هـ – التقوى4 مانعة من فعل الأذى بالناس أو إدخال الضرر عليهم.
6- خلق عيسى آية مبصرة تتجلى فيها قدرة الله تعالى على الخلق بدأ وإعادة.
__________
1 لم تقل بغيّة لأنه وصف يغلب على النساء فقلما تقول العرب رجل بغي فجرى بغيا مجرى حائض وعاقر، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل والأوّل أولى.
2 {ولنجعله} متعلق بمحذوف تقديره: ونخلقه لنجعله.
3 أي: مقدرا في اللوح المحفوظ كتاب المقادير العام.
4 بخلاف الفجور فإنه مصدر كل ضرّ وشرّ.(3/300)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)
شرح الكلمات:
فانتبذت به: فاعتزلت به.
مكاناً قصيا: أي بعيداً من أهلها.
فأجاءها المخاض: أي ألجأها الطلق واضطرها وجع الولادة.
إلى جذع النخلة: لتعتمد عليها وهي تعاني من آلام الولادة.
نسياً منسياً: أي شيئاً متروكا لا يعرف ولا يذكر.
فناداها من تحتها: أي عيسى عليه السلام بعدما وضعته.
{نسياً منسياً} : أي شيئاً متروكاً لا يعرف بعدما وضعته.
{تحتك سرياً} : أي نهراً يقال له سري.
رطباً جنياً: الرطب الجني: ما طاب وصلح للإجتناء.
فكلي وأشربي: أي كل من الرطب واشربي من السري.
وقري عينا: أي وطيبي نفساً وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني.
نذرت للرحمن صوماً: أي إمساكاً عن الكلام وصمتاً.(3/301)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمراً مقضياً ونفخ في كم درْعها أو جيب قميصها فحملته1 فوراً {وانتبذت به مكاناً قصياً} أي فاعتزلت به في مكان بعيد2 {فأجاءها المخاض3} أي ألجأها وجع النفاس {إلى جذع النخلة} لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه، ولما وضعته قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به: {قالت يا ليتني4 مت قبل هذا} أي الوقت الذي. أصبحت فيه أم ولد، {وكنت نسياً منسياً5} أي شيئاً متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا {فنادها} عيسى6 عليه السلام {من تحتها ألاّ تحزني} يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سريا} أي نهر ماء يقال له سري، {وهزىء إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي} أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر، {وقري عينا} أي طيبي نفسا وافرحي بولدك، {فإما ترين من البشر أحداً} أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك {إني نذرت للرحمن صوماً} أي صمتاً {فلن أكلم اليوم إنسياً} هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلاّ أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي: هذا هو الظاهر لأنّ الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل: {فحملته فانتبذت به} والفاء للترتيب والتعقيب.
2 انتحت بالحمل إلى مكان بعيد قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال وإنما بعدت فراراً من تعيير قومها بالولادة من غير أب.
3 يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا: اضطره وألجأه.
4 تمني الموت لا يجوز لحديث: "لاّ يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به" الحديث وتمنّته مريم عليها السلام لا لصالح نفسها ولكن لله تعالى، وذلك أنها خافت أن يظنّ بها الشرّ في دينها وتُعَيَّر فتفتن بذلك، وهذا لله، وثانياً خافت أن يقع بعض الناس في البهتان والنسبة إلى الزنى فيهلكون. وهذا أيضاً لله لا لها.
5 النسي: الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يُتألم لفقده كالوتد والحبل ونحوهما، ويجمع النسي على أنساء قال الكميت رضي الله عنه:
أتجعلنا جسرا لكب قضاعة
ولست بنسي في معدّ ولا دخل
والنسي أيضاً: خرق الحيض التي ترمى بدمها من الحيض.
6 قرأ نافع (مِن) بكسر الميم حرف جر، وقرأ حفص مَن بفتحها، اسم موصول والمراد بالموصول عيسى عليه السلام ناداها قبل أن ترضعه من تحتها تعجيلا للمسرة والبشرى لها به فأنْ في ألا تحزني تفسيرية لأنّ النداء قول.(3/302)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مظاهر قدرة الله تعالى حملها ووضعها في خلال ساعة من نهار.
2- إثبات كرامات الله لأوليائه إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن، وأثمر لها النخلة فأرطبت وأجرى لها النهر بعد يبسه.
3- تقرير نظام الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها فإن الله تعالى قد أثمر لمريم النخلة إذ هذا لا يمكنها القيام به ثم أمرها أن تحرك النخلة من جذعها ليتساقط عليها الرطب1 الجني إذ هذا في استطاعتها.
4- مشروعية النذر إلاّ أنه بالامتناع2 عن الكلام منسوخ في الإسلام.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
__________
1 قالت العلماء: أكل الرطب للنفساء من أنفع الأغذية لها نظراً إلى أنّ الله تعالى اختاره لمريم عليها السلام.
2 قولها {إني نذرت للرحمن صوماً} فسر الصوم بالصمت كما في التفسير وأولى من هذا أن يكون صوم النذر في دينهم مستلزماً للصمت وعدم الكلام، والسياق دلّ عليه ظاهر فيه، وما زال النصارى يعتبرون الصمت عبادة فيصمتون دقائق على أرواح موتاهم ونسخ الإسلام هذا كما في الصحيح حيث أمر من نذر أن لا يتكلم أن يتكلم، ومن سنن الهدى في الإسلام الامتناع عن الكلام القبيح في الصيام لحديث الصحيح: "إذا كان صومٍ أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرئ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" وهو كقول مريم: {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسياً} .(3/303)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
شرح الكلمات:
قأتت به: أي بولدها عيسى عليه وعليها السلام.
جئت شيئاً فرياً1: أي عظيماً حيث أتيت بولد من غير أب.
يا أخت هارون: أي يا أخت الرجل الصالح هارون.
امرأ سوء: أي رجلاً يأتي الفواحش.
فأشارت إليه: أي إلى عيسى وهو في المهد.
آتاني الكتاب: أي الإنجيل باعتبار ما يكون مستقبلاً.
مباركاً أينما كنت: أي حيثما وجدت كانت البركة فيَّ ومعي ينتفع الناس بي.
وبرا بوالدتي: أي محسناً بها مطيعاً لها لا ينالها مني أدنى أذى.
جباراً شقيا: ظالماً متعالياً ولا عاصياً لربي خارجاً عن طاعته.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم مع قومها: إنها بعد أن تماثلت للشفاء حملت ولدها وأتت به قومها وَما ان رأوهما حتى قال قائلهم: {يا مريم لقد جئت شيئاً فريا} أي أمراً عظيماً وهو إتيانك بولد من غير أب. {يا أخت هارون2} نسبوها إلى عبد صالح يسمى هارون: {ما كان أبوك} عمران {امرأ سوء} يأتي الفواحش {وما كانت أمك} "حنة" {بغيا} أي زانية فكيف حصل لك هذا وأنت بنت البيت الطاهر والأسرة الشريفة. وهنا أشارت إلى عيسى الرضيع في قماطته أي قالت لهم سلوه يخبركم الخبر وينبئكم بالحق، لأنها علمت أنه يتكلم لما سبق أن ناداها ساعة وضعه من تحتها وقال لها ما ذكر تعالى في الآيات السابقة.
__________
(فريًّا) : أي: مختلقاً مفتعلاً من الافتراء الذي هو الكذب يقال: فرى وأفرى: كذب ومن كراماتها أن امرأة مدّت لها يدها لتضرّبها أصيبت بالشلل الفوري فحملت كذلك وقالت لها: أخرى ما أراك إلاّ زنيت فأخرسها الله فوراً فصارت لا تتكلم ومن ثم ألانوا لها الكلام واحترموها.
2 من الجائز أن يكون لمريم أخ صالح من أبيها أو من أبويها نسبوها إليه ومن الجائز أن تنسب إلى هارون الرسول عليه السلام كقول العرب يا أخا تميم ويا أخا العرب، وما في التفسير إجمال يشمل الكلّ فتأمّل، وفي الآية دليل على جواز التسمية بالأنبياء والصالحين، ولا خلاف في ذلك.(3/304)
فردوا عليها مستخفين بها منكرين عليها متعجبين منها: {كيف نكلم من كان1 في المهد صبيا؟} فأنطق الله عيسى الرضيع فأجابهم بما أخبر تعالى عنه في قوله: {قال إني عبد2 الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً3 بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً} 4 فأجابهم بكل ما كتب الله وأنطقه به، وكان عيسى كما أخبر عن نفسه لم ينقص من ذلك شيئاً كان عبداً لله وأنزل عليه الإنجيل ونبأه وأرسله إلى بني إسرائيل وكان مباركاً يشفي المرضى ويحيي الموتى بإذن الله تنال البركة من صحبته وخدمته والإيمان به وبمحبته وكان مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة طوال حياته وما كان ظالماً ولا متكبراً عاتياً ولا جباراً عصياً. فعليه كما أخبر السلام أي الأمان التام يوم ولد فلم يقربه شيطان ويوم يموت فلا يفتن في قبره ويوم يبعث حياً فلا يحزنه الفزع الأكبر، ويكون من الآمنين السعداء في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبودية عيسى ونبوته عليهما السلام.
2- آية نطق عيسى في المهد وإخباره بما أولاه الله من الكمالات.
3- وجوب بر الوالدين بالإحسان بهما وطاعتهما والمعروف وكف الأذى عنهما.
4- التنديد بالتعالى والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان.
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
__________
1 كان: هنا زائدة للتوكيد، ومن: مبتدأ والخبر في المهد وصبياً: حالي من الموصول.
2 قيل: لما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه وقال مشيراً بسبابته اليمنى: {إني عبد الله} فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى، وفي هذا ردّ على الذين ألّهوه وعبدوه من دون الله تعالى.
3 البر: بمعنى البار وخص بهذه الصفة لأن قومهم قل فيهم البرور بالوالدين وكثر فيهم العقوق نظراً إلى فشو الباطل فيهم ورقة حبل الدين بينهم، والجبّار: المتكبر على الناس الغليظ في معاملتهم، والشقي ضدّ السعيد.
4 لما قال ما قال في المهد: إني عبد الله.. إلى قوله: {ويوم أبعث حيًّا} لم يتكلم حتى بلغ سن التكلم.(3/305)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الامْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
شرح الكلمات:
ذلك عيسى ابن مريم: أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو عيسى بن مريم.
قول الحق: أي وهو قول الحق الذي أخبر تعالى به.
يمترون: يشكون.
ما كان لِله أن يتخذ من ولد: أي ليس من شأن الله أن يتخذ ولداً وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
سبحانه: أي تنزيهاً له عن الولد والشريك والشبيه والنظير.
صراط مستقيم: أي طريق مستقيم لا يضل سالكه.
فاختلف الأحزاب: أي في شأن عيسى فقال اليهود هو ساحر وابن زنا، وقال النصارى هو الله وابن الله تعالى الله عما يصفون.
من مشهد يوم عظيم: هو يوم القيامة.
أسمع بهم وأبصر: أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة عند معاينة العذاب.
وأنذرهم يوم الحسرة: أي خوفهم بما يقع في يوم القيامة من الحسرة والندامة وذلك عندما يشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها وهم ورثوا منازل أهل الجنة في النار فتعظم الحسرة ويشتد الندم.(3/306)
معنى الآيات:
بعد أن قص الله تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجاباً معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم فقال: إني عبد الله، فبين تعالى أن جبريل بشرها، وأنه نفخ في كم درعها فحملت بعيسى وأنه ولد في ساعة من حمله وأنها وضعته تحت جذع النخلة وأنه ناداها من تحتها: أن لا تحزني، وأرشدها إلى القول الذي تقول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب، وهو أن تشير إليه تطلب منهم أن يسألوه وسألوه فعلا فأجاب بأنه عبد الله وأنه آتاه الكتاب وجعله نبياً ومباركاً وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حياً وأنه بر بوالدته، ولم يكن جباراً شقياً فأشار تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية (34) {ذلك} أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو {عيسى ابن مريم} ، وما أخبرتكم به هو {قول1 الحق الذي فيه يمترون} أي يشكون إذ قال اليهود في عيسى أنه ابن زنا وانه ساحر وقال النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثة حسب فرقهم وطوائفهم المتعددة وقوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد وكيف يصح ذلك له أو ينبغي وهو الغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه، وأنه يقول للشيء كن فيكون فعيسى عليه السلام كان بكلمه الله تعالى له كن فكان وهو معنى قوله تعالى {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون2} . وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير، والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته بقوله: سبحانه أي تنزيها له عن صفات المحدثين وقوله تعالى: {وأن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم3} هذا من قول4 عيسى عليه السلام لبني إسرائيل أخبرهم أنه عبد الله وليس بابن لله ولا بإله مع الله وأخبرهم
__________
1 قرأ الجمهور برفع قول وقرأ عاصم بنصبها، فأما الرفع فهو خبر ثانٍ عن اسم الإشارة أو وصف لعيسىأ وبدل منه، وأمّا النصب فعلى الحال من اسم الإشارة.
2 في هذا ردّ على النصارى القائلين بأن المكوّن بأمر التكوين من غير سبب معتاد لا يكون إلاّ ابن الله تعالى فبيّنت الآية أن أصول الموجودات كلها كانت بأمر التكوين فهل يقال فيها أبناء الله؟! والجواب قطعاً لا، وعليه فقد بطل قولهم: عيسى ابن الله لأنّه كان بكلمة التكوين.
3 جملة: {هذا صراط مستقيم} تذييل وفذلكة لما سبق من الكلام وإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف وجوهه، في تقرير الحق وإبطال الباطل.
4 نعم الظاهر أنه من قول عيسى عليه السلام، والجمل قبله من قوله تعالى: {ذلك عيسى بن مريم} اعتراض بين قول عيسى الأوّل: {إني عبد الله} وبين قوله {وإن الله ربّي وربكم} .(3/307)
أن الله تعالى هو ربه وربهم فليعبدوه جميعاً بما شرع لهم ولا يعبدون معه غيره إذ لا إله لهم إلاّ هو سبحانه وتعالى، وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق المفضي بسالكه إلى السعادة ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى الخسران وقوله تعالى في الآية (37) {فاختلف الأحزاب من بينهم1} أي في شأن عيسى فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله ومن قائل هو وأمه الهين من دون الله والقائلون بهذه المقالات كفروا بها فتوعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم فقال {فويل للذين كفروا} بنسبَتِهم الولد والشريك لله، والويل واد في جهنم فهم إذا داخلوها لا محالة، وقوله {من مشهد يوم عظيم} يعني به يوم القيامة وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقادر قدرها.
وقوله تعالى في الآية (38) {أسمع2 بهم وأبصر يوم يأتوننا} يخبر تعالى أن هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن يبصروا آثاره الدالة عليه فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا، والمتصاممين عن سماع الحجج والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصاراً وسمعاً، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر، وقوله تعالى: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين أي عن طريق الهدى وهو سبب عدم إبصارهم للحق وسماعهم لحججه التي جاءت بها رسل الله ونزلت بها كتبه.
وقوله تعالى في آية (39) {وأنذرهم يوم الحسرة3 إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} يأمر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ينذر الكفار والمشركين أي يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم وضلالهم يوم القيامة حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة وذلك عندما يتوارث الموحدون مع المشركين فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة، والمشركون يرثون منازل
__________
(من) : زائدة واختلاف الأحزاب، وجهه: أن اليهود قادحون والنصارى مادحون، فاليهود قالوا: ساحر وابن زنية، والنصارى فرقة: قالت هو الله وأخرى قالت: ابن الله، وثالثة قالت: ثالث ثلاثة، وهذه الفرق هي الملكانية، واليعقوبية، والنسطورية ثم تشعبت وأشهرها الآن: الملكائية أي الكاثوليك واليعقويية: أي أرثذوكس والاعتراضية أي: البروتستانت.
2 هذا الكلام ظاهر أنه أمر لحمل السامع على التعجب من حال المذكورين، ومعناه الخبر أي: لا أحد أسمع منهم ولا أبصر يوم يقفون في عرصات القيامة، ويشاهدون النار ويسمعون زفيرها.
3 روي في مسند أحمد وفي الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت، كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرونه ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح. قال. ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، ثمّ قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأنذرهم يوم الحسرة..} الآية.(3/308)
الموحدين في النار، وعندما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، وينادي منادٍ يا أهل الجنة خلود فلا موت؟ ويا أهل النار خلود فلا موت عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم هذا معنى قوله تعالى {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة} عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم {وهم لا يؤمنون} بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم. وقوله تعالى: {إنا نحن1 نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون} يخبر تعالى عن نفسه بأنه الوارث للأرض ومن عليها ومعنى هذا أنه حكم بفناء، هذه المخلوقات وأن يوماً سيأتي يفنى فيه كل من عليها، والجميع سيرجعون إليه ويقفون بين يديه ويحاسبهم بما كتبت أيديهم ويجزيهم به، ولذا فلا تحزن أيها الرسول وامض في دعوتك تبلغ عن ربك ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك المشركين.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- تقرير أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس كما قال اليهود، ولا كما قالت النصارى.
2- استحالة اتخاذ الله الولد وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
3- تقرير التوحيد على لسان عيسى عليه السلام.
4- الإخبار بما عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليه السلام.
5- بيان سبب الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به.
6- تقرير فناء الدنيا، ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي تعالجها السور المكية في القرآن الكريم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لابِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ
__________
1 هذه الجملة ذيّل بها الكلام السابق فتمت به القصة وضمير (نحن) للتأكيد والأرض: المراد بها ما فيها من غير العقلاء (ومن عليها) المراد بهم العقلاء وهم البشر.(3/309)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
شرح الكلمات:
اذكر في الكتاب: أي في القرآن.
إنه كان صديقا: أي كثير الصدق بالغ الحد الأعلى فيه.
يا أبت: يا أبي وهو آزر.
صراطا سويا: أي طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى الجنة.
لا تعبد الشيطان: أي لا تطعه في دعوته إياك إلى عبادة الأصنام.
عصيا: أي عاصياً لله تعالى فاسقاً عن أمره.
فتكون للشيطان ولياً: أي قريباً منه قرينا له فيها أي النار.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع والده آزر عليه لعائن الرحمن قال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {واذكر} يا نبينا {في الكتاب} أي القرآن الكريم {إبراهيم} خليلنا {إنه كان صديقا} أي صادقاً في أقواله وأعماله بالغاً مستوى عظيماً في الصدق {نبياً} من أنبيائنا فهو جدير بالذكر في القرآن ليكون قدوة صالحة للمؤمنين. واذكره {إذ قال لأبيه} آزر {يا أبت1 لم تعبد} أي تسأله بالدعاء والتقرب بأنواع القربات ما لا يسمع ولا يبصر من الأصنام أي لا يبصرك ولا يسمعك {ولا يغني عنك شيئاً} لا يدفع عنك ضراً ولا يجلب لك نفعاً فأي حاجة لك إلى عبادته {يا أبت إني قد جاءني من العلم2} أي من قبل ربي تعالى {ما لم يأتك} أنت {فاتبعني} فيما أعتقده وأعمله وأدعو إليه {أهدك صراطا3 سويا} أي مستقيما يفضي
__________
1 الاستفهام للإنكار أي: لأيّ شيء تعبد.
2 أي: من اليقين والمعرفة بالله وبما يكون بعد الموت وأنّ من عبد غير الله يعذّب أبداً.
3 أرشدك إلى دين قيّم فيه نجاتك وسعادتك.(3/310)
بك إلى السعادة والنجاة، {يا أبت لا تعبد الشيطان} أي بطاعته فيما يدعوك إليه من عبادة غير الله تعالى من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي ولا تمنع، {إن الشيطان كان للرحمن عصياً1} أي عاصياً أمره فأبى طاعته وفسق عن أمره. {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن2} إن أنت بقيت على شركك وكفرك ولم تتب منهما حتى مت فيمسك عذاب من الرحمن {فتكون} أي بذلك {للشيطان ولياً} أي قريباً منه قريناً له في جهنم فتهلك وتخسر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالدعوة إليه.
! - كمال إبراهيم بذكره في الكتاب.
3- بطلان عبادة غير الله تعالى.
4- عبادة الأوثان والأصنام وكل عبادة لغير الله تعتبر عبادة للشيطان لأنه الآمر بها والداعي إليها.
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
__________
1 الجملة تعليلية للنهي عن عبادة الشيطان واتباع وسوسته وما يدعو إليه من الشرك.
2 أي: إني أخاف أن تموت على الكفر فيمسك العذاب الأليم.(3/311)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن التعرض لها وعيبها.
لأرجمنك: بالحجارة أو بالقول القبيح فاحذرني.
واهجرني مليا1: أي سليما من عقوبتي.
سلام عليك.: أي أمنةٌ مني لك أن أعاودك فيما كرهت مني.
إنه كان بي حفيا: أي لطيفاً بي مكرماً لي يجيبني لما أدعوه له.
عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا: بل يجيب دعائي ويعطني مسألتي.
فلما اعتزلهم: بأن هاجر إلى أرض القدس وتركهم.
وهبنا له اسحق ويعقوب: أي وهبنا له ولدين يأنس بهما مجازاة منا له على هجرته قومه.
ووهبنا لهم من رحمتنا: خيراً كثيراً المال والولد بعد النبوة والعلم.
لسان صدق عليا: أي رفيعاً بأن يُثنى عليهم ويذكرون بأطيب الخصال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة إبراهيم مع أبيه آزار إنه بعد تلك الدعوة الرحيمة بالألفاظ الطيبة الكريمة التي وجهها إبراهيم لأبيه آزر ليؤمن ويوحد فينجو ويسعد قال آزر راداً عليه بعبارات خالية من الرحمة والأدب بل ملؤها الغلظة والفظاظة والوعيد والتهديد وهي ما أخبر به تعالى عنه في قوله: في الآية (46) {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} أي أكاره لها تعيبها، {لئن لم تنته} أي عن التعرض لها بأي سوء2 {لأرجمنك} بأبشع الألفاظ وأقبحها، {واهجرني مليا3} أي وابعد عني ما دمت معافى سليم البدن سويه قبل أن ينالك مني ما تكره. كان هذا رد آزر الكافر المشرك. فيما أجاب إبراهيم المؤمن الموحد أجاب بما أخبر تعالى به عنه في قوله في آية (47) {قال سلام4 عليك5} أي أمان لك مني يا أبتاه فلا أعاودك
__________
1 {واهجرني مليا} أي: اتركني وشأني وابعد عنّي طويلا تسلم من عقوبتي.
2 أي: كعيبها وشتمها.
3 وقيل في معناه: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك عقوبتي، وقيل: اهجرني طويلا.
4 هذا يسمى سلام المتاركة، وليس هو بالتحية وهل يجوز بدء الكافر بالسلام؟ في المسألة خلاف، والراجح: جواز السلام إذا كان لغرض سليم ككونه جاراً لك أو رفيقاً أو مصاحباً لك في عمل أو لك إليه حاجة وما إلى ذلك إذ سلم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جماعة فيهم مشركون كما في الصحيح، وأمّا حديث: "لاّ تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام" فهو إذا لم يكن هناك غرض صحيح.
(سلام) : نكرة وصح الابتداء بها لما فيها من معنى التخصيص فقاربت لذلك المعرفة وصحّ الابتداء بها. وعليك الخبر.(3/312)
فيما كرهت مني قط وسأقابل إساءتك بإحسان {سأستغفر لك ربي} أي أطلب منه أن يهديك للإيمان والتوحيد فتتوب فيغفر لك {إنه كان} سبحانه وتعالى {بي حفيا} لطيفا بي مكرما لي لا يخيبني فيما أدعوه فيه.
وقوله تعالى حكاية عن قيل إبراهيم: {وأعتزلكم وما تدعون من دودن الله} أي أذهب بعيداً عنكم تاركاً لكم ولما تعبدون من دون الله من أصنام وأوثان، {وأدعو ربي عسى إلاّ أكون بدعاء ربي شقياً 1} أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام. قال تعالى مخبراً عنه فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم إلى ديار القدس تاركاً أباه وأهله وداره كافأناه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته وهما إسحق ويعقوب وكلا منهما جعلناه نبيا رسولاً، ووهبنا لجميعهم وهم ثلاثة الوالد إبراهيم وولداه اسحق ويعقوب بن اسحق عليهم السلام من رحمتنا الخير العظيم من المال والولدّ والرزق الحسن هذا معنى قوله تعالى: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب} وهو ابن ولده إسحق {وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا} . وقوله تعالى عنهم {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} هذا إنعام آخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث جعل الله تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الأديان الإلهية يثنون على إبراهيم وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظى به إبراهيم وولديه إكراماً من الله تعالى وإنعاماً عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته للأصنام وعابديها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الفرق بين ما يخرج من فم المؤمن الموحد من طيب القول وسلامة اللفظ ولين الجانب والكلام، وبين ما يخرج من فم الكافر المشرك من سوء القول وقبح اللفظ وقسوة الجانب وفظاظة الكلام.
2- مشروعية سلام المتاركة والموادعة وهو أن يقال للسيء من الناس سلام عليك وهو لا يريد
__________
1 أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلاً وولداً يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال، وفي قوله تعالى {فلما اعتزلهم} وهنا له دليل يرجح هذا القول. والله أعلم.(3/313)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
بذلك تحيته ولكن تركه وما هو فيه.
3- مشروعية الهجرة وبيان فضلها وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة كانت في الأرض.
4- الترغيب في حسن الأحدوثة بأن يكون للمرء حسن ثناء بين الناس لما يقدم من جميل وما يورث من خير وإفضال.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي في القرآن تشريفا وتعظيما.
موسى: أي ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام.
مخلصا: أي مختاراً مصطفى على قراءة فتح اللام "مخلَصاً" وموحداً لربه مفرداً إياه بعبادته بالغاً في ذلك أعلى المقامات على قراءة كسر اللام.
جانب الطور: الطور جبل بسيناء بين مدين ومصر.
وقربناه نجيا: أي أدنيناه إدناء تشريف وتكريم مناجياً لنا مكلما من قبلنا.
أخاه هارون نبيا: إذ سأل ربه لأخيه الرسالة فأعطاه فنبَّأهُ وأرسله معه إلى فرعون.
معنى الآيات:
هذا موجز قصة موسى عليه السلام قال تعالى في ذلك وهو يخاطب نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {واذكر} في هذه السلسلة الذهبية من عباد الله الصالحين أهل التوحيد واليقين موسى ابن عمران انه جدير بالذكر في القرآن وعلة ذلك في قوله تعالى: {إنه كان مخلصاً} أي مختاراً مصطفى للإبلاغ عنا عبادنا ما خلقناهم لأجله وهو ذكرنا وشكرنا ذكرنا بألسنتهم وقلوبهم وشكرهم لنا بجوارحهم وذلك بعبادتنا وحدنا دون مَن سوانا، وكان موسى كذلك، وقول تعالى: {وكان رسولاً نبيا} أي ومن افضالنا عليه وإكرامنا له أن جعلناه نبياً رسولاً نبأناه(3/314)
وأرسلناه إلى فرعون وملائه، {وناديناه} 1 وهو في طريقه من مدين إلى مصر في جانب الطور الأيمن2 حيث نبأناه وأرسلناه وبذلك {وقربناه نجيا} فصار يناجينا فنُسمعه كلامنا ونسمع3 كلامه وأعظم بهذا التكريم من تكريم، وقوله: {ووهبنا له من4 رحمتنا أخاه هارون نبيا} هذا إنعام آخر من الله تعالى على موسى النبي إذ سأل ربه أن يرسل معه أخاه هارون إلى فرعون فبرحمة من الله تعالى استجاب له ونبأ هارون وأرسله معه رسولاً وما كان هذا إلاّ برحمة خاصة إذ النبوة لا تطلب ولا يتوصل إليها بالاجتهاد والعبادة ولا بالدعاء والصراعة إذ هي هبة إلهية خاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإخلاص، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهراً وباطناً.
2- إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى.
3- بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى إذ أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين باستجابة دعائه بأن جعل أخاه هارون رسولاً نبياً.
4- تقرير أن كل رسول نبياً والعكس لا أي ليس كل نبي رسولاً.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
__________
1 قيل: كان هذا الكلام والمناجاة ليلة الجمعة. ذكره القرطبي.
2 هو بالنسبة إلى يمين موسى عليه السلام أما الجبل فلا يمين له ولا شمال "ابن جرير الطبري".
3 أي: من غير وحي بل كفاحاً وجها لوجه لا واسطة.
4 وذلك حين سأل ربه قائلاً: {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي} الآية.(3/315)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب إسماعيل: أي اذكر في القرآن تشريفا وتعظيما إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام.
صادق الوعد: لم يخلف وعد قط.
بالصلاة والزكاة: أي بإقامة الصلاة لإيتاء الزكاة.
مرضيا: أي رضى الله تعالى قوله وعمله ليقينه وإخلاصه.
إدريس: هو جد أبي نوح عليه السلام.
ورفعناه مكاناً عليا: إلى السماء الرابعة.
إسرائيل: أي يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
وممن هدينا واجتبينا: أي من جملة من هديناهم لطريقنا واجتبيناهم بنبوتنا.
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن: أي تقرأ عليهم وهم يستمعون إليها.
سجداً وبكيا: جمع ساجد وباك أي ساجدين وهم يبكون.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ذكرت من ذكرت من مريم وابنها وإبراهيم وموسى اذكر كذلك إسماعيل1 فإنه {كان صادق الوعد} 2 لم يخلف وعداً قط وكان ينتظر الموعود الليالي حتى يجىء وهو قائم في مكانه ينتظره، {وكان رسولاً نبيا} نبأه تعالى بمكة المكرمة إذ عاش بها وأرسله إلى قبيلة جرهم العربية ومنها تزوج وأنجب وكان من ذريته محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى:
__________
1 هو إسماعيل بن إبراهيم والذي أمّه هاجر عليهما السلام ولا التفات إلى قول من قال: إنه إسماعيل بن حزقيل الذي بعثه الله إلى قوم فسلخوا جلد رأسه.. الخ كما في القرطبي.
2 في الآية دليل على وجوب صدق الوعد وفي الحديث: "إنّ الخُلف من آيات النفاق". وقد انتظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أيام وهو مقيم في مكان ينتظر من واعده اللقاء فيه وذلك قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه أبو داود والترمذي، والرجل هو: أبو الحمساء وقال له: يا فتى لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك!!(3/316)
{وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة} المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في القرآن العظيم، وقوله: {كان عند ربه مرضيا} موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في سلسلة الأنبياء والمرسلين، ومعنى {كان عند ربه مرضيا} أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا من1 قبل ربه عز وجل. وقوله تعالى {واذكر في الكتاب إدريس2} وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه {كان صديقا} كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط، وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبياً من أنبياء الله، وقوله {ورفعناه مكاناً علياً} إلى السماء الرابعة3 في حياته كما رفع تعالى عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء السابعة. وقوله تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم} كإدريس4، {وممن حملنا مع نوح} أي في الفلك كإبراهيم، {ومن ذرية إبراهيم} كإسحاق وإسماعيل، {واسرائيل} أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، {وممن هدينا} لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والإخلاص لنا فيها {واجتبينا} لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً5} أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم. والاجتباء الاختيار والاصطفاء بأخذ الصفوة {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن} الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج {خروا سجدا} لله ربهم {وبكياً} عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم سلطانه.
__________
1 قيل: إن إسماعيل عليه السلام لم يعد شيئاً إلاّ وفىّ به وهو صحيح يقتضيه ظاهر الآية الكريمة، وقد قيل العِدة دَين، وفي الأثر: وأي المؤمن واجب. والوأي. الوعد. قال الشاعر:
متى يقل حرّ لصاحب حاجة
نعم يقضها والحر للرأي ضامن
وقال مالك: إذا سأل الرجل الرجل شيئاً فوعده ثم بدا له عدم إنجاز ما وعد لا شيء عليه ولا يقضي عليه بذلك لأنّ العدة بخير من باب الإحسان وليس على المحسنين من سبيل.
2 قيل: إنّ إدريس هو أوّل من خط بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر.
3 كما في حديث المعراج في رواية مسلم وجاء فيه: "لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة".
4 فنال ادريس الشرف بالقرب من آدم، ونال إبراهيم الشرف بالقرب من نوح ونال إسماعيل الشرف واسحق ويعقوب بالقرب من إبراهيم عليهم السلام أجمعين.
5 البكيّ: مصدر من مصادر بكى يبكي بكاء وبُكىً وبكيًّا، ويكون البكي جمع باكٍ نحو: قعود، وقاعد وسجود جمع ساجد وأصل بكي: بكوي على وزن فعول فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.(3/317)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة إذ الذي نبأ هؤلاء وأرسلهم لا ينكر عليه أن ينبىء محمداً ويرسله.
2- فضيلة الأمر بالصلاة والزكاة.
3- فضيلة الوفاء بالوعد والصدق في القول والعمل.
4- سنية السجود لمن تلا هذه الآية أو تليت وهو يستمع إليها. {خروا سجدا وبكيا} .
5- فضيلة البكاء حال السجود فقد كان عمر إذا تلا هذه الآية سجد ثم يقول هذا السجود فأين البكيُّ يعني البكاء.
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)
شرح الكلمات:
خلف1: أي عقب سوء.
أضاعوا الصلاة: أهملوها فتركوها فكانوا بذلك كافرين.
اتبعوا الشهوات: انغمسوا في الذنوب والمعاصي كالزنا وشرب الخمر.
يلقون غياً: أي وادياً في جهنم يلقون فيه.
ولا يظلمون شيئاً: أي لا ينقصون من ثواب حسناتهم.
__________
1 الخلف: بإسكان اللام خلف سوء وبفتحها خلف خير وصلاح.(3/318)
جنات عدن: أي إقامة دائمة.
بالغيب: أي وعدهم بها وهي غائبة عن أعينهم لغيابهم عنها إذ هي في السماء وهم في الأرض.
مأتياً: أي موعوده وهو ما يعد به عباده آتياً لا محالة.
لغواً: أي فضل الكلام وهو ما لا فائدة فيه.
بكرة وعشياً: أي بقدرهما في الدنيا وإلاّ فالجنة ليس فيها شمس فيكون فيها نهار وليل.
من كان تقياً: أي من كان في الحياة الدنيا تقياً لم يترك الفرائض ولم يغش المحارم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف} مخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين وذرياتهم، انه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم {أضاعوا1 الصلاة} فمنهم من أخرها عن أوقاتها ومنهم من تركها {واتبعوا الشهوات2} فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور وشهدوا الزور وأكلوا الحرام ولهوا ولعبوا وزنوا وفجروا، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين، فهؤلاء الخلف السوء يخبر تعالى أنهم {فسوف يلقون غياً} بعد دخولهم نار جهنم. والغي: ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود أنه واد في جهنم3، والكل صحيح إذ البئر توجد في الوادي وكثيراً ما توجد الآبار في الأودية.
وقوله تعالى: {إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} أي لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي حقق إيمانه وعمل صالحاً فأدى الفرائض. وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التائبون المنيبون {يدخلون الجنة} مع سلفهم
__________
1 جائز أن يراد بهذا الخلف السيء كل من أضاع الصلاة بتركها أو بعدم إقامتها بإخلاله بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، واتبع الشهوات من أهل الكتاب ومن المسلمين.
2 اتباع الشهوات لازم لإضاعة الصلاة لقول عمر: مَن أضاعها فهو لما سواها أضيع، ولأنّ اقام الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: غيّ: واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعدّ الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا لا ينزع عنه، ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً ليس منه.(3/319)
الصالح، {ولا يظلمون شيئاً} أي ولا ينقصون ولا يبخسون شيئاً من ثواب أعمالهم.
وقوله تعالى: {جنات عدن} أي بساتين إقامة أبدية {التي وعد الرحمن عباده بالغيب} أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم في الأرض.
وقوله: {إنه كان وعده مأتيا} أي كونهم ما رأوها غير ضار لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف أبداً لابد من الحصول عليه ومعنى مأتياً يأتيه صاحبه قطعاً.
وقوله تعالى في الآية (62) {لا يسمعون فيها لغواً} يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي في الجنة لغواً وهو الباطل من القول وما لا خير فيه من الكلام اللهم إلاّ السلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم وهو من النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.
وقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} أي ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسهم من لذيذ الطعام والشراب {بكرة وعشيا} أي في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا إذ لا ليل في الجنة ولا نهار1 وإنما هي أنوار وجائز إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير الأنوار من لون إلى آخر أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت الغداء والعشاء.
وقوله تعالى: {تلك الجنة2} آية (63) يشير تعالى إلى الجنة دار السلام تلك الجنة العالية {التي نورث من عبادنا من كان تقيا} منهم، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي كما أن منزل التقي في النار نورثه فاجراً من الفجار، إذ هذا معنى التوارث: هذا يرث هذا وذاك يرث ذا، إذ ما من إنسان إلاّ وله منزلة في الجنة ومنزل في النار فمن آمن وعمل صالحاً دخل الجنة ونزل في منزلته، ومن كفر وأشرك وعمل سوءاً دخل النار ونزل في منزله فيها، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة.
__________
1 روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبداً وإنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب". ذكره أبو الفرج ابن الجوزي، والمهدوي وغيرهما (القرطبي) .
2 الجملة مستأنفة، واسم الإشارة فيها للتنوبه بها وبعلو مقامها وعظم الكرامة فيها لأهل التقوى.(3/320)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- التنديد بخلف السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات.
2- الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك.
3- باب التوبة مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب.
4- بيان نعيم الجنة دار المتقين الأبرار.
5- تقرير مبدأ التوارث بين أهل الجنة وأهل النار.
6- بيان أن ورثة الجنة هم الأتقياء، وأن ورثة النار هم الفجار.
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
شرح الكلمات:
وما تتنزل: التنزل النزول وقتا بعد وقت.
إلاّ بأمر ربك: أي إلاّ بإذنه لنا في النزول على من يشاء.
له ما بين أيدينا: أي مما هو مستقبل من أمر الآخرة.
وما خلفنا: أي ما مضى من الدنيا.
وما بين ذلك: مما لم يمض من الدنيا إلى يوم القيامة أي له علم ذلك كله.
وما كان ربك نسيا: أي ذا نسيان فإنه تعالى لا ينسى فكيف ينساك ويتركك؟.
رب السموات والأرض: أي مالكهما والمتصرف فيهما.
واصطبر لعبادته: أي اصبر وتحمل الصبر في عبادته حتى الموت.
هل تعلم له سمياً: أي لا سميَّ له ولا مثل ولا نظير فهو الله أحد، لم يكن له كفوا أحد.(3/321)
معنى الآيتين:
لنزول هاتين الآيتين سبب وهو ما روى واستفاض أن الوحي تأخر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي يأتي بالوحي جبريل عليه السلام فلما جاء بعد بطءٍ قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله تعالى قوله: جواباً لسؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما نتنزل1} أي نحن الملائكة وقتا بعد وقت على من يشاء ربنا {إلاّ بأمر ربك} أيها الرسول أي إلاّ بإذنه لنا فليس لأحد منا أن ينزل من سماء إلى سماء أو إلى أرض إلاّ بإذن ربنا عز وجل، {له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} أي له أمر وعلم ما بين أيدينا أي ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا أي مما مضى من الدنيا علماً وتدبيراً، وما بين ذلك إلى يوم القيامة علماً وتدبيراً، وما كان ربك عز وجل يا رسول الله ناسيا2 لك ولا تاركاً فإنه تعالى لم يكن النسيان وصفاً له فينسى.
وقوله تعالى: {رب السموات والأرض وما بينهما} يخبر تعالى رسوله بأنه تعالى مالك السموات والأرض وما بينهما والمتصرف فيهما فكل شيء له وبيده وفي قبضته وعليه {فاعبده} أيها الرسول بما أمرك بعبادته به {واصطبر لعبادته3} أي تحمل لها المشاق، فإنه لا إله إلاّ هو، فـ {هل تعلم له سمياً 4} أي نظيراً أو مثيلاً والجواب لا: إذاً فاعبده وحده وتحمل في سبيل ذلك ما استطعت تحمله. فإنه لا معبود بحق إلاّ هو إذ كل ما عداه مربوب له خاضع لحكمه وتدبيره فيه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير سلطان الله على كل الخلق وعلمه بكل الحلق وقدرته على كل ذلك.
__________
1 روى البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل عليه السلام: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت: {وما نتنزّل إلاّ بأمر ربك} الآية، وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمّ أتاه فقال: ما الذي أبطأك؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون رواجبكم ولا تستاكون. قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا والمراد بالمعيب عليهم: بعض المؤمنين لا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحاشاه أن يكون معيباً وهو على أكمل الأحوال.
2 هذا تفسير لقوله تعالى: {وما كان ربك نسيّا} أي: ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل.
3 أي: لطاعته، واللام بمعنى: على أي: على طاعته، ولا تحزن لتأخّر الوحي عنك، وأصل اصطبر: اصتبر فقلبت التاء طاءً تخفيفاً في النطق.
4 ولذا إجماع أهل الإسلام من عهد آدم أنه لا يجوز أن يسمى مخلوق باسم الله عزّ وجل "الله".(3/322)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
2- استحالة النسيان على الله عز وجل.
3- تقرير ربوبية الله تعالى للعالمين، وبذلك وجبت له الألوهية على سائر العالمين.
4- وجوب عبادة الله تعالى ووجوب الصبر عليها حتى الموت.
5- نفي التشبيه والمثل والنظير لله إذ هو الله أحد لم يكن له كفواً أحد.
وَيَقُولُ الانسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الانسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
شرح الكلمات:
ويقول الإنسان: أي الكافر بلقاء الله تعالى.
ولم يك شيئاً: أي قبل خلقه فلا ذات له ولا اسم ولا صفة.
جثياً: أي جاثمين على ركبهم في ذل وخوف وحزن.
من كل شيعة: أي طائفة تعاونت على الباطل وتشيع بعضها لبعض فيه.
عتياً: أي تكبراً عن عبادته وظلماً لعباده.
أولى بها صلياً: أي أحق بها اصطلاء واحتراقاً وتعذيباً في النار.
إلاّ واردها: أي ماراً بها إن وقع بها هلك، وإن مر ولم يقع نجا.
حتماً مقضياً: أي أمراً قضى به الله تعالى وحكم به وحتَّمه فهو كائن لابد.
فيها جثياً: أي في النار جاثمين على ركبهم بضهم إلى بعض.(3/323)
معنى الآيات:
الآيات في سياق تقرير عقيدة البعث والجزاء يقول تعالى وقوله الحق: {ويقول الإنسان} أي المنكر للبعث والدار الآخرة وقد يكون القائل أُبي بن خلف أو العاص بن وائل وقد يكون غيرهما إذ هذه قولة كل من لا يؤمن بالآخرة يقول: {أإذا مت لسوف1 أخرج حياً} يقول هذا استنكاراً وتكذيباً قال تعالى: راداً على هذا الإنسان قولته الكافرة {أو لا يذكر2 الإنسان} أي المنكر للبعث الآخر {أنا خلقناه من3 قبل ولم يك شيئاً} أيكذب بالبعث وينكره ولا يذكر خلقنا له من قبل، ولم يك شيئاً.
أليس الذي قدر على خلقه قبل أن يكون شيئاً قادراً على إعادة خلقه مرة أخرى أليست الإعادة أهون من الخلق الأول والإيجاد من العدم، ثم يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله على أنه معيدهم كما كانوا ويحشرهم جميعاً مع شياطينهم الذين يضلونهم ثم يحضرنهم حول جهنم جثيا على ركبهم أذلاء صاغرين. هذا معنى قوله تعالى في الآية (68) {فوربك لنحشرنهم4 والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} .
وقوده تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} يخبر تعالى بعد حشرهم إلى ساحة فصل القضاء أحياء مع الشياطين الذين كانوا يضلونهم، يحضرهم حول جهنم جثياً، ثم يأخذ تعالى من كل طائفة من تلك الطوائف التي أحضرت حول جهنم وهي جاثية تنتظر حكم الله تعالى فيها أيهم كان أشد على الرحمن عتيا أي تمرداً عن طاعته وتكبراً عن الإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وهو معنى قوله تعالى في الآية (69) {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} وقوله تعالى: {ثم لنحن أعلم بالذين هم
__________
1 اللام في: (لسوف) للتأكيد والاستفهام: (أإذا) : للإنكار، واللام: لام الابتداء جاء بها المتكلم لتأكيد إنكاره للبعث بعد الموت والخروج من قبره حيًّا.
2 الاستفهام للإنكار على منكر البعث، والتعجب من عقليته وعمى قلبه من عدم النظر في عدم أصل خلقه فإنه لو أبصر وزالت غفلته لما أنكر البعث فالذي خلقه اليوم يخلقه غداً ولا عجب.
3 قبل كبعد: ملازمة للإضافة فإذا حذف المضاف بنيت على الضم، والمضاف المحذوف هنا تقديره: من قبل كونه شيئاً يذكر في الوجود وقد أوجده الآن ولعدمه غداً ويحييه بعد موته يوم يريد ذلك.
4 الفاء: للتفريع، والضمير في: (لنحشرنهم) عائد على جنس الإنسان المكذّب بالبعث الآخر، والمشرك بالله المصر على ذلك، وذكر حشو الشياطين معهم تحقيراً لشأنهم حيث يحشرون مع أخس الخلق وأحطه ثمّ أشار إلى أنّ شركهم وكفرهم كان بتزيين الشياطين لهم ذلك، والجثي: جمع جاثٍ مثل: قاعد وقعود، فجثي: أصلها جثوي قلبت الواو ياء، وأدغمت، والجاثي هو البارك على ركبتيه عجزاً عن القيام.(3/324)
أولى بها صليا} يخبر تعالى بعلمه بالذين هم أجدر وأحق بالاصطلاء بعذاب النار، وسوف يدخلهم النار قبل غيرهم ثم يدخل باقيهم بعد ذلك وهو معنى قوله عزّ وجلّ: {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا} 1.
وقوله: {وإن منكم إلاّ واردها كان على ربك حتما مقضيا} ، فإنه يخبر عز وجل عن حكمٍ حكم به وقضاء قضى به وهو أنه ما من واحد منا معشر بني آدم إلاّ وارد جهنم وبيان ذلك كما جاء في الحديث أن الصراط جسر يمد على ظهر جهنم والناس يمرون فوقه فالمؤمنون يمرون ولا يسقطون في النار والكافرون يمرون فيسقطون في جهنم. وهو معنى قوله في الآية (72) {ثم ننجي الذين اتقوا2} أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك واجب ولا بارتكاب محرم {ونذر الظالمين} بالتكبر والكفر وغشيان الكبائر من الذنوب {فيها جثياً} أي ونترك الظالمين فيها أي جهنم جاثمين على ركبهم يعانون أشد أنواع العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالحشر والإحضار حول جهنم والمرور على الصراط.
2 - تقرير معتقد الصراط في العبور عليه إلى الجنة.
3- تقديم رؤساء الضلال وأئمة الكفر إلى جهنم قبل الأتباع الضالين.
4- تقرير حتمية المرور على الصراط.
5 - بيان نجاة الأتقياء، وهلاك الفاجرين الظالمين بالشرك والمعاصي.
__________
1 يقال: صلى يصلى صُليّا كمضى يمضي مُضيا وهوى يهوي هويّا، وصِليّا بكسر الصاد: قراءة حفص، وبضمها: قراءة نافع، وهو مصدر صلي النار كرضي وهو مصدر سماعي بوزن فعول، قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء فصار صليَّا كما تقدّم في جثيا.
2 حاول صاحب التحرير أن يردّ مذهب الجمهور في ورود المؤمنين على الصراط كسائر الخلق ثمّ ينجي الله الذين اتقوا حيث يجتازونه بسلام ويقع فيه الكافرون فلا يخرجون وما هناك حاجة إلى ردّ مذهب الجمهور من أئمة الإسلام إذ حديث الصراط والمرور به ثابت قطعيّاً ففي صحيح مسلم: "ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة فيقولون: اللهم سلم سلم قيل: يا رسول الله: وما الجسر؟ قال: دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلّم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم، وبهذا الصراط.. فسّر السلف الورود على جهنم، ولم يقولوا بلازم الورود وهو الدخول، إذ قد يَرد المرء على الحوض ويقف على طرفه ولا يدخل فيه وورد وصحّ قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن مات له ثلاثة ولد لم يبلغوا الحنث لا تمسه النار إلاّ تحلة القسم" وهو الورود على متن جهنم نظراً إلى الآية {وإن منكم إلاّ واردها} .(3/325)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (76)
شرح الكلمات:
آياتنا بينات: أي آيات القرآن البينات الدلائل الواضحات الحجج.
خير مقاماً: نحن أم أنتم والمقام المنزل ومحل الإقامة والمراد هنا المنزلة.
وأحسن ندياً: أي ناديا وهو مجتمع الكرام ومحل المشورة وتبادل الآراء.
أحسن أثاثا ورئيا: أي مالا ومتاعا ومنظراً.
إما العذاب وإما الساعة: أي بالقتل والأسر وأما الساعة القيامة المشتملة على نار جهنم.
من هو شر مكانا: أي منزلة.
وأضعف جنداً: أي أقل أعواناً.
وخير مرداً: أي ما يرد إليه ويرجع وهو نعيم الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر يقول تعالى {وإذا تتلى1 عليهم آياتنا2 بينات} أي وإذا قرئت على كفار قريش المنكرين للتوحيد والنبوة المحمدية والبعث والجزاء
__________
1 المراد بهم الكفار الذين سبق ذكرهم في الآيات قبل هذه إذا قرئت عليهم الآيات تعزّزوا بالدنيا وقالوا فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالاً وأعز نفرا وقصدهم إدخال الشبهة على المستضعفين من المؤمنين
(بينات) حال مؤكدة.(3/326)
يوم القيامة إذا قرأ عليهم رسول الله أو أحد المؤمنين من أصحابه بعض الآيات من القرآن البينات في معانيها ودلائلها على التوحيد والنبوة والبعث {قال الذين1 كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا} ، وقولهم هذا هو رد فعل لا غير، إذ أنهم لما يسمعون الآيات تحمل الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين مثلهم لا يجدون ما يخففون به ألم نفوسهم فيقولون هذا الذي أخبر تعالى به عنهم {أي الفريقين} أي فريق المؤمنين أو فريق الكافرين خير مقاماً أي منزلاً ومسكناً وأحسن نديا أي نادياً ومجتمعاً يجتمع فيه، لأنهم يقارنون بين منازل فقراء المؤمنين ودار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون وبين دور ومنازل أبي سفيان وأغنياء مكة ونادي قريش وهو مجلس شوراهم فرد تعالى عليهم بقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً2} أي لا ينبغي أن يغرهم هذا الذي يتبجحون به ويتطاولون فإنه لا يدوم لهم ما داموا يحاربون دعوة الحق والقائمين عليها فكم من أهل قرون أهلكناهم لما ظلموا وكانوا أحسن من هؤلاء مالاً ومتاعاً ومناظرحسنة جميلة.
وقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} أي اذكر لهم سنتنا في عبادنا يا رسولنا وهى أن من كان في ضلالة الشرك والظلم والمكابرة والعناد فإن سنة الرحمن فيه أن يمد له بمعنى يمهله ويملي له استدراجا حتى إذا انتهوا إلى ما حدد لهم من زمن يؤخذون فيه بالعذاب جزاء كفرهم وظلمهم وعنادهم وهو إما عذاب دنيوي بالقتل والأسر ونحوهما أو عذاب الآخرة بقيام الساعة حيث يحشرون إلى جهنم عمياً وبكماً وصماً جزاء التعالي والتبجح بالكلام وهو معنى قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون3 من هو شر مكاناً وأضعف جنداً} أي شر منزلة وأقل ناصراً أهم الكافرون أم المؤمنون، ولكن حين لا ينفع العلم. إذ التدارك أصبح غير ممكن وإنما هي
__________
1 الذين كفروا كالنضر بن الحارث وأبي جهل والمؤمنون هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعمار وبلال وصهيب.
2 الأثاث: متاع البيت من فرش وغيرها مما هو جديد، فإن استعمل قيل فيه:. الخرثى قال الشاعر:
تقادم العهد من أم الوليد بنا
دهراً وصار أثاث البيت خرثياً
الرئي: المنظر الحسن. وفيه قراءات خمس أشهرها قراءة الجمهور ورئيا بالهمزة، وقراءة نافع ريّا بدون همزة واشتقاقه من الرؤية أي: المنظر، ومن الريّ ضد العطش، إذ الريّان هو المنعم ذو الحال الحسنة.
3 في الآية ردّ على قولهم: {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا} أي سوف تنكشف الحقائق في يوم القيامة، ويعلمون يقيناً من هو الأفضل حالاً والأحسن مآلاً.(3/327)
الحسرة والندامة لا غير.
وقوله تعالا: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى1} أي إذا كان تلاوة الآيات البينات تحمل المشركين على العناد والمكابرة وذلك لظلمة كفرهم فيزدادون كفراً وعناداً فإن المؤمنين المهتدين يزدادون بها هداية لأنها تحمل لهم الهدى في كل جملة وكلمة منها وهم لإشراق نفوسهم بالإيمان يرون ما تحمل الآيات من الدلائل والحجج والبراهين فيزداد إيمانهم وتزداد هدايتهم في السير في طريق السعادة والكمال بأداء الفرائض واجتناب المناهي.
وقوله تعالى: {والباقيات2 الصالحات خير عند ربك} أيها الرسول {ثواباً وخير مردّاً} في هذه الآية تسلية للرسول والمؤمنين بأن ما يتبجح به المشركون من المال والمتاع وحسن الحال لا يساوى شيئاً أمام الإيمان وصالح الأعمال لأن المال فانٍ، والصالحات باقية فثواب الباقيات الصالحات من العبادات والطاعات خير من كل متاع الدنيا وخير مرداً أي مردوداً على صاحبها إذ هو الجنة دار السلام والتكريم والإنعام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن نفسيات الكافرين وهي الإعتزاز بالمال والقوة إذا اعتز المؤمنون بالإيمان وثمراته في الدنيا والآخرة من حسن العاقبة.
2- بيان سنة الله تعالى في امهال الظلمة والإملاء لهم استدراجاً لهم حتى يهلكوا خاسرين.
3- بيان سنة الله تعالى في زيادة إيمان المؤمنين عند سماع القرآن الكريم، أو مشاهدة أخذ الله تعالى للظالمين.
4- بيان فضيلة الباقيات الصالحات ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
1 وفي الآية وجه آخر مشرق صالح وهو: أن الله تعالى يمدّ لأهل الضلالة في ضلالتهم، ويزيد لأهل الهداية في هدايتهم إذ قال: {من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًّا} . وقال: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً} وما في التفسير صالح ومشرق أيضاً.
2 أي: الأعمال الصالحة التي يعمل العبد إيماناً وإحساناً كالصلاة والصيام والصدقات والجهاد وذكر الله ثوابها لأهلها المدّخر لهم عند الله تعالى خير من أعمال أهل الكفر والشرك والظلم إذ هي ذاهبة هباء منثوراً فيم يتعزّز الكافرون؟(3/328)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
شرح الكلمات:
الذي كفر بآياتنا: هو العاص بن وائل.
لأوتين مالا وولداً: يريد في الآخرة.
أطلع الغيب: أي فعرف أنه يعطى مالاً وولداً يوم القيامة.
كلا: ردع ورد فإنه لم يطلع الغيب ولم يكن له عند الله عهداً.
ونمد له من العذاب مداً: أي نضاعف له العذاب يوم القيامة.
ونرثه ما يقول: أي نسلبه ما تبجح به من المال والولد ويبعث فرداً ليس معه مال ولا ولد.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجباً له {أفرأيت1 الذي كفر بآياتنا} أي كذب بالوحي وما يدعوا له من التوحيد والبعث والجزاء وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى أبو عمرو بن العاص. {وقال لأوتين مالاً وولداً} قال هذا لخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن يعطيه استصغاراً له لأنه قيِّن "حداداً" وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد فقال له خباب والله ما أكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تموت ثُم تبعث فقال له العاص إذا أنا مِتُّ ثم بُعثت كما تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عز وجل: {أطلع الغيب2} فعرف أن له يوم القيامة مالاً وولداً. {أم اتخذ عند
__________
1 الأئمة ومن بينهم مسلم في صحيحه على أن هذه الآية نزلت في الخباب والعاص بن وائل إذ كان لخباب دَين على العاص فطالبه فأجابه بما خلاصته في التفسير أعلاه.
2 {أطلع الغيب} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنظر في اللوح المحفوظ. وقال مجاهد: أعلِم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟(3/329)
الرحمن عهداً} بذلك بأن سيعطيه مالا وولداً يوم القيامة {كلا1} لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهداً. وقوله تعالى: {سنكتب ما يقول} من الكذب والإفتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب وهو معنى قوله تعالى: {ونمد له من العذاب مدا} ، وقوله تعالى: {ونرثه2 ما يقول ويأتينا فرداً} أي ونسلبه ما يقول من المال والولد حيث يموت ويترك ذلك أو ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد. ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فرداً لا مال معه ولا ولد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن نفسيات الكافرين لاسيما إذا كانوا أقوياء بمال أو ولد أو سلطان فإنهم يعيشون على الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم.
2- تقرير البعث والحساب والجزاء.
3- مضاعفة العذاب على الكافرين الظالمين لظلمهم بعد كفرهم.
4- تقرير معنى آية: إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.
وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
__________
1 كلا: ردّ عليه أي: لم يكن له ذلك. أي: لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهداً.
2 وقيل: نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد إذ قال: لأوتين مالاً وولداً ورد تعالى عليه قوله بقوله: {اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً} .(3/330)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
شرح الكلمات:
ليكونوا لهم عزاً: أي منعة لهم وقوة يشفعون لهم عند الله حتى لا يعذبوا.
سيكفرون بعبادتهم: أي يوم القيامة يجحدون أنهم كانوا يعبدونهم.
ضداً1: أي أعداء لهم وأعوانا عليهم.
تؤزهم أزاً: أي تزعجهم إزعاجاً وتحركهم حراكاً شديداً نحو الشهوات والمعاصي.
وفداً: أي راكبين على النُّجُب تحوطهم الملائكة حتى ينتهوا إلى ربهم فيكرمهم.
إلى جهنم ورداً: أي يساق المجرمون كما تساق البهائم مشاة عطاشاً.
عهداً: هو شهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مندداً بالمشركين فيقول: {واتخذوا من دون الله آلهة} أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات، {ليكونوا لهم} - في نظرهم الفاسد- {عزاً2} أي شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يُهانون، {كلا} 3 أي ليس الأمر كما يظنون {سيكفرون بعبادتهم} وذلك يوم القيامة حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم، {ويكونون عليهم ضداً} أي خصوماً، ومن ذلك قولهم4 {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} . وقولهم. {بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} .
وقوله تعالى في الآية الثانية (83) {ألم تر5 أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}
__________
1 الضدّ: ما يخالف ضده في الماهية أو المعاملة، ومن هذا تسمية العدو ضدّ لأن معاملته تخالف معاملة نظيره، ويكون ضدّ في معنى المصدرعاملوه معاملة المصدر فلا يثني ولا يجمع ولا يؤنث.
2 العزّ: ضد الذلّ، وأطلق العزّ هنا وأريد به سببه وهو الشفعاء والأعوان إذ بهم تحصل العزة وتكون المنعة.
3 {كلا} : جائز أن تكون نافية بمعنى: لا وليس وجائز أن تكون بمعنى: حقاً أي: حقاً سيكفرون بعبادتهم.. الخ.
4 أي: فيما أخبر تعالى به في قوله: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} فها هم قد وقفوا ضدّهم بتكذيبهم إياههم. ورأى بعض أهل التفسير أنّ من الجائز أن تكون الآية مبشرة بنصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يوماً سيأتي يكفر المشركون بآلهتهم وذلك بعد إسلامهم.
5 الاستفهام للتقرير وفيه معنى التعجب أي: كيف لم تَرَ ذلك والأمر واضح لوجود آثاره يشاهدها كل أحد. وأرسلنا بمعنى سلطناهم أو خلّيناهم يفعلون بهم ما أرادوا من الإغواء والفتنة.(3/331)
يقول تعالى لرسوله ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أنا أرسلّنا الشياطين أي شياطين الجن والإنس على الكافرين بنا وبآياتنا ورسولنا ولقائنا تؤزهم أزاً أي تحركهم بشدة نحو الشهوات والجرائم والمفاسد، وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجاً كبيراً. أي فلا تعجب من حال مسارعتهم إلى الشر والفساد ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم إنما نعد لهم كل أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم ونحاسبهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله تعالى: {فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا1} .
وقوله تعالى في الآية (85) {يوم نحشر المتقين} أي أذكر يا رسولنا يوم نحشر المتقين {إلى الرحمن وفداً} . والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته وتوحيده ومحبته وخشيته وطاعة رسوله ومحبته وفداً أي راكبين على النجائب من النوق عليها رِحال الذهب إلى الرحمن إلى جوار الرحمن عز وجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسلام.
وقوله تعالى: {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} : أي ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي مشاة على أرجلهم عطاشاً يُساقون سوق البهائم إلى جهنم وبئس2 الورد المورود جهنم.
وقوله تعالى {لا يملكون الشفاعة إلاّ من3 اتخذ عند الرحمن عهداً} 4 أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي فدسوها لا يملكون الشفاعة يوم القيامة لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين ولا يشفع لهم أحد أبداً لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض وترك المحرمات يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراماً له أو يشفع فيه غيره إكراما للشافع أيضاً وإنعاماً على المشفوع له. كما أن أهل لا إله إلاّ الله محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين رجهم يملكون الشفاعة إن دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها بشفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم.
__________
1 أي: لا تطالب بهلاكهم الفوري فإنا نعدّ لهم الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء آجالهم.
2 يطلق لفظ الورد على الماشية عندما تساق إلى الماء لترده، ويطلق على السير إلى الماء أيضاً كما يطلق على الماء المورود ومنه قوله تعالى: {وبئس الورد المورود} .
3 الاستثناء منقطع، والمنقطع هو: استثناء الشيء من غير جنسه، ولذا يؤتى بعده بلكن كما هو في التفسير أي: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفع.
4 من لهم عهد بالشفاعة حيث عهد الله تعالى إليهم بذلك هم الملائكة والأنبياء والشهداء أيضاً بدليل السنة الصحيحة، وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما العهد أيضاً بشهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله والقيام بحقها مع التبرؤ من الحول والقوة لله تعالى.(3/332)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- براءة سائر المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزياً لهم وإحقاقاً للعذاب عليهم.
2- لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى ذلك وتدفعهم إليه.
3- لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم لأنهم كلما ازدادوا ظلماً ازداد عذابهم شدة يوم القيامة إذ كل شيء محصىً عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.
4- بيان كرامة المتقين، ومهانة المجرمين.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
شرح الكلمات:
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا: أي قال العرب الملائكة بنات الله وقال النصارى عيسى ابن الله.
جئتم شيئاً إداً: أي منكراً عظيماً.
يتفطرن: يتشققن من عظم هذا القول وشدة قبحه.
وتخر الجبال هداً: أي تسقط وتتهدم وتنهدم.
أن دعوا للرحمن ولداً: أي من أجل إدعائهم أن للرحمن عز وجل ولدا.(3/333)
ولا ينبغي: أي لا يصلح ولا يليق به ذلك لأنه رب كل شيء ومليكه.
إلا آتى الرحمن عبداً: أي خاضعا منقاداً كائناً من كان.
فرداً: أي ليس معه شيء لا مال ولا سلطان ولا ناصر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مقولات أهل الشرك والجهل والرد عليها من قبل الحق تبارك وتعالى قال تعالى مخبراً عنهم: {وقالوا} أي أولئك الكافرون {اتخذ الرحمن ولداً} 1 إذ قالت بعض القبائل العربية الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله. يقول تعالى لهم بعد أن ذكر قولهم {لقد جئتم شيئاً إداً2} أي أتيتم بشيء منكر عظيم، {تكاد3 السموات يتفطرن منه} أي يتشققن منه لقبح هذا القول وسوئه، {وتنشق الأرض وتخر الجبال4 هدا} أي تسقط لعظم هذا القول لأنه مغضب للجبار عزّ وجلّ ولولا حلمه ورحمته لمس الكون كله عذاب أليم. وقوله: {أن دعوا للرحمن ولداً5} أي أن نسبوا للرحمن ولداً، {وما ينبغي للرحمن} أي لا يصلح له ولا يليق بجلاله وكماله الولد، لأن الولد نتيجة شهوة بهيمية عارمة تدفع الذكر إلى إتيان الأنثى فيكون بإذن الله الولد، والله عز وجل منزه عن مشابهته لمخلوقاته وكيف يشبههم وهو خالقهم وموجدهم من العدم؟
وقوله تعالى {إن كل من6 في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً} هذا برهان على بطلان قولة الكافرين الجاهلين، إذ الذي ما من أحد في السموات أو في الأرض من ملائكة
__________
1 قرىء: (وُلداً) بضم الواو وسكون اللام، وقراءة الجمهور (ولدا) بفتح الواو واللام وهما لغتان مثل: العُرب والعَرب. والعُجم والعَجم قال الشاعر:
ولقد رأيت معاشرا
قد ثمّروا مالا ووُلداً
وقال آخر:
مهلا فداءً لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن وَلَد
ففي البيت الأول شاهد وُلد بسكون اللام وفي الثاني شاهد لفتحها مع ضم الواو في الأول وفتحا في الثاني.
2 الإد والإدة: الداهية والأمر الفظيع. قال ابن عباس: الإدّ: المنكر العظيم.
(تكاد) بالتاء قراءة العامة، وقرأ نافع بالياء (يكاد) .
4 الهدّ: الهدم بصوت شديد، والهدّة: صوت وقع الحائط ونحوه.
5 روى البخاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "يقول الله تبارك وتعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأمّا تكذيبه إياي فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي: فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
(إنْ) نافية بمعنى ما. في الآية دليل على عدم جواز ملك الوالد للولد ولا الولد للوالد، وفي الحديث الصحيح: "لا.. ولد والدا إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". فإذا لم يملك الأب ابنه فلأن لا يملك الابن أباه من باب أولى.(3/334)
وإنس وجن إلاّ آتى الرحمن عبداً خاضعاً ذليلاً منقاداً يوم القيامة كيف يعقل اتخاذه ولداً1، إذ الولد يطلب للحاجة إليه، والغنى عن كل خلقه ها هي حاجته إلى عبد من عباده يقول هذا ولدي اللهم إنا نبرؤا إليك مما يقوله الجاهلون بك الضالون عن طريق هدايتك.
وقوله تعالى: {لقد أحصاهم وعدهم عدأعداً} أي علمهم واحداً واحداً فلو كان بينهم إله معه أو ولد له لعلمه، فهذا برهان آخر على بطلان تلك الدعوة الجاهلية الباطلة الفاسدة وقوله: {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} هذا رد على أولئك الذين يدعون أنهم إن بعثوا يكون لهم المال والولد والشفيع والنصير. فأخبر تعالى أنه ما من أحد إلاّ ويأتيه يوم القيامة فرداً ليس معه شافع ولا ناصر، ولا مال ولا سلطان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم الكذب على الله بنسبة الولد أو الشريك إليه أو القول عليه بدون علم.
2- بيان أن كل المخلوقات من أجلّها إلى أحقرها ليس فيها غير عبد لله فنسبة الإنسان أو الجان أو الملك إلى الله تعالى هي عبد لرب مالك قاهر عزيز حكيم.
3- بيان إحاطة الله بخلقه ومعرفته لعددهم فلا يغيب عن علمه أحد منهم، ولا يتخلف عن موقف القيامة فرد منهم إذ الكل يأتي الله تعالى يوم القيامة فردا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
__________
1 روي أحمد في المسند أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله أن يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم" أخرجاه في الصحيحين: وفي لفظ إ "نهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم.(3/335)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
شرح الكلمات:
وداً: أي حبا فيعيشون متحابين فيما بينهم ويحبهم ربهم تعالى.
فإنما يسرناه بلسانك: أي يسرنا القرآن أي قراءته وفهمه بلغتك العربية.
قوما لداً: أي ألداء شديدوا الخصومة والجدل بالباطل وهم كفار قريش.
وكم أهلكنا: أي كثيراً من أهل القرون من قبلهم أهلكناهم.
هل تحس منهم من أحد: أي هل تجد منهم أحداً.
أو تسمح لهم ركزاً: أي صوتا خفياً والجواب لا لأن الاستفهام إنكاري.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله وبرسوله وبوعد الله ووعيده فتخلوا عن الشرك والكفر وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض وكثير من النوافل هؤلاء يخبر تعالى أنه سيجعل لهم في قلوب عباده المؤمنين محبة1 ووداً وقد فعل سبحانه وتعالى فأهل الإيمان والعمل الصالح متحابون متوادون، وهذا التوادد بينهم ثمرة لحب الله تعالى لهم. وقوله تعالى: {فإنما يسرناه} أي هذا القرآن الذي كذب به المشركون سهلنا قراءته عليك إذ أنزلناه بلسانك {لتبشر به المتقين} من عبادنا المؤمنين وهم الذين اتقوا عذاب الله بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي، {وتنذر به قوما لداً} 2 وهم كفار قريش وكانوا ألداء أشداء في الجدل والخصومة، وقوله تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم3 من قرن} أي وكثيراً من أهل القرون السابقة لقومك أهلكناهم لما كذبوا رسلنا وحاربوا دعوتنا فـ {هل تحس4 منهم من أحد} فتراه بعينك أو تمسه بيدك، {أو تسمع5 لهم ركزاً} أي صوتاً خفياً اللهم لا فهلا يذكر هذا قومك
__________
1 روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنّ الله تعالى إذا أحبّ عبداً دعا جبريل عليه السلام فقال: إني أحب فلاناً فأحبّه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء- قال: ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبداً دعا جبريل عليه السلام وقال: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه قال: فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض".
(لُدًَّا) : جمع الألد، وهو: الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: {ألدّ الخصام} وقال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنني
أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا
3 في الآية تهديد وتخويف لأهل مكة المصرين على الكفر والشرك والتكذيب. وكم: خبرية، والقرن: الجيل والأمة. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمة وشاع إطلاقه على المائة سنة.
4 والإحساس: الإشراك بالحس. والاستفهام إنكاري.
5 قيل: الرّكز: ما لا يفهم من صوت أو حركة.(3/336)
فيتعظوا فيتوبوا إلى ربهم بالإيمان به وبرسوله ولقائه ويتركوا الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أعظم بشرى تحملها الآية الأولى وهي حب الله وأوليائه لمن آمن وعمل صالحاً.
2- بيان كون القرآن ميسراً أن نزل بلغة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل البشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح والنذارة لأهل الشرك والمعاصي.
3- إنذار العتاة والطغاة من الناس أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم من هلاك ودمار والواقع شاهد أين أهل القرون الأولى؟(3/337)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
سورة طه
مكية
وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى (8)
شرح الكلمات:
طه: أي يا رجل.
إلا تذكرة: أي يتذكر بالقرآن من يخشى عقاب الله عز وجل.(3/337)
على العرش استوى: أي ارتفع عليه وعلا.
وما تحت الثرى: الثرى التراب الندي يريد ما هو أسفل الأرضين السبع.
وأخفى: أي من السر، وهو ما علمه الله وقدر وجوده وهو كائن ولكن لم يكن بعد.
الحسنى: الحسنى مؤنث الأحسن المفضل على الحسن.
معنى الآيات:
قوله تعالى {طه} 1 لفظ طه جائز أن يكون من الحروف المقطعة، وجائز أن يكون معناه يا رجل2 ورجح الأمر ابن جرير لوجوده في لغة العرب طه بمعنى يا رجل وعلى هذا فمعنى الكلام يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى رداً على النضر بن الحارث الذي قال إن محمداً شقي بهذا القرآن الذي أنزل عليه لما فيه من التكاليف فنفى الحق عزّ وجلّ ذلك وقال {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى} وإنما أنزلناه ليكون3 تذكرة ذكرى يذكر بها من يخشى ربه فيقبل على طاعته متحملاً في سبيل ذلك كل ما قد يلاقي في طريقه من أذى قومه المشركين بالله الكافرين بكتابه والمكذبين لرسوله، وقوله: {تنزيلاً4 ممن خلق الأرض والسموات العلى} أي هذا القرآن الذي مما أنزلناه لتشقى به ولكن تذكرة لمن يخشى نُزِّل تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى: {الرحمن5 على العرش استوى} أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي استوى على عرشه استواءً يليق به يدبر أمر مخلوقاته، الذي {له6 ما في السموات وما في
__________
1 نزلت (طه) تبل إسلام عمر رضي الله عنه لما روي: أنه دخل على بيت ختنه سعيد بن زيد فوجده يقرأها مع زوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر رضي الله عنهم أجمعين فطلبها فلم يُعطها حتى اغتسل فلمّا قرأها لان قلبه ورق للإسلام.
2 قيل: إن طه بمعنى: يا رجل لغة معروفة في عكل حتى إنك إذا ناديت المرء بيا رجل لم يجبك حتى تقول: طه وأنشد الطبري في هذا قول الشاعر:
دعوت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون مزيلاً
3التذكرة: خطور المنسي بالذهن لأنّ التوحيد مستقر في الفطرة والإشراك مناف لها فسماع القرآن كقراءته يثير كامن التوحيد في فطرة الإنسان.
(تنزيلا) حال من القرآن، المراد منها التنويه بشأن القرآن والإعلان عن خطره.
(الرحمن) يجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرحمن جل جلاله. ويجوز أن تكون مبتدأ واختير اسم الرحمن لأن المشركين ينكرون اسم الرحمن جهلاً منهم وعناداً.
6 تقديم الجار والمجرور: مؤذن بالحصر، وهو كذلك، إذ ليس لأحد ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى سواه عزّ وجلّ.(3/338)
الأرض وما بينهما وما تحت الثرى1} من الأرضين السبع. وقوله {وإن تجهر بالقول} أيها الرسول أو تُسِر {فإنه يعلم السر وأخفى2} من السر؛ وهو ما قدره الله وهو واقع في وقته المحدد له فعلمه تعالى ولم يعلمه الإنسان بعد. وقوله: {الله لا إله إلاّ هو} أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق سواه {له الأسماء الحسنى} التي لا تكون إلاّ له، ولا تكون لغيره من مخلوقاته. وهكذا عرّف تعالى عباده به ليعرفوه فيخافونه ويحبونه فيؤمنون به ويطيعونه فيكملون على ذلك ويسعدون فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال نظرية أن التكاليف الشرعية شاقة ومرهقة للعبد.
2- تقرير عقيدة الوحي وإثبات النبوة المحمدية،
3- تقرير الصفات الإلهية كالاستواء ووجوب الإيمان بها بدون تأويل أو تعطيل أو تشبيه بر بل اثباتها على الوجه الذي يليق بصاحبها عزّ وجلّ.
4- تقرير ربوبية الله لكل شيء.
5- تقرير التوحيد وإثبات أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
__________
1 ما تحت الثرى: هو باطن الأرض كله.
2 وجائز أن يكون أخفى السر: حديث النفس إذ هو أخفى من السر إذ السر ينطق به، وخاطر النفس لا ينطق به.(3/339)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
شرح الكلمات:
هل أتاك: قد أتاك فالاستفهام للتحقيق..
حديث موسى: أي خبره وموسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل
إذ رأى ناراً: أي حين رؤيته ناراً.
لأهله: زوجته بنت شعيب ومن معها من خادم أو ولد.
آنست ناراً: أي أبصرتها من بعد.
بقبس1: القبس عود في رأسه نار.
على النار هدى: أي ما يهديني الطريق وقد ضل الطريق إلى مصر.
فلما أتاها: أي النار وكانت في شجرة من العوسج ونحوه تتلألؤ نوراً لا ناراً.
نودي يا موسى: أي ناداه ربه قائلاً له يا موسى....!
المقدس طوى2: طوى اسم للوادي المقدس المطهر.
اخترتك: من قومك لحمل رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل.
فاستمع لما يوحى: أي إليك وهو قوله تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا} .
لذكري: أي لأجل أن تذكرني فيها.
أكاد أخفيها3: أي أبالغ في اخفائها حتى لا يعلم وقت مجيئها أحد.
__________
1 القبس والمقباس يقال: قبست منه ناراً أقبس قبساً فقبسنى أي: أعطاني منه قبساً بتحريك السين مفتوحة، واقتبست منه علماً لأن العلم نور، من مادة النار التي هي الضياء والإشراق.
2 طوى بالكسر وبالضم أشهر وبه قراءة عامة القراء، وهو اسم للوادي وفي لفظه ما يشير إلى أنه مكان فيه ضيق كالثوب المطوي أو لأن موسى طواه سيراً.
3 لما كانت الساعة مخفية الوقوع أثار قوله تعالى {أكاد أخفيها} تساؤلات كثيرة أقربها إلى الواقع ثلاثة. الأول: إخفاء الحديث عنها لأن الحديث عنها لا يزيد المعاندين من منكري البعث إلاّ عناداً. والثاني: أنّ كاد زائدة والتقدير: أنّ الساعة آتية أخفيها، والثالث: أن أخفيها بمعنى: أزيل خفاءها بأن أظهرها فتكون الهمزة للسلب نحو أعجم الكتاب: أزال عجمته وأشكى زيداً: إذا أزال شكواه.(3/340)
بما تسعى: أي سعيها في الخير أو في الشر.
فتردى: أي تهلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ففي نهاية الآية السابقة (8) كان قوله تعالى {الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى} تقريراً للتوحيد وإثباتاً له وفي هذه الآية (9) يقرره تعالى عن طريق الإخبار عن موسى، وأن أول ما أوحاه إليه من كلامه كان إخباره بأنه لا إله إلاّ هو أي لا معبود غيره وأمره بعبادته. فقال تعالى: {وهل أتاك1} أي يا نبينا {حديث موسى2 إذ رأى ناراً} ، وكان في ليلة مظلمة شاتية وزنده الذي معه لم يقدح له ناراً {فقال لأهله} أي زوجته ومن معها وقد ضلوا طريقهم لظلمة الليل، {امكثوا} أي ابقوا هنا فقد آنست ناراً أي أبصرتها {لعلي آتيكم منها بقبس} فنوقد به ناراً تصطلون بها أي تستدفئون بها، {أو أجد على النار هدى} أي أجد حولها ما يهدينا طريقنا الذي ضللناه.
وقوله تعالى: {فلما أتاها} أي أتى النار ووصل إليها وكانت شجرة3 تتلألؤ نوراً {نودي يا موسى} أي ناداه ربه تعالى قائلاً يا موسى {إني4 أنا ربك} أي خالقك ورازقك ومدبر أمرك {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} وذلك من أجل أن يتبرك بملامسة الوادي المقدس بقدميه. وقوله تعالى {وأنا أخترتك} أي لحمل رسالتي إلى من أرسلك إليهم. {فاستمع لما يوحى5} أي إليك وهو: {إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا} أي أنا الله المعبود بحق ولا معبود بحق غيري وعليه فاعبدني وحدي، {وأقم الصلاة لذكري6} ، أي لأجل أن تذكرني فيها وبسببها. فلذا من لم يصل لم يذكر الله تعالى وكان بذلك كافراً لربه تعالى. وقوله {إن الساعة آتية7} أي ان الساعة التي يقوم فيها الناس أحياء من قبورهم للحساب والجزاء
__________
1 هذا الاستفهام أريد به التشويق لما يلقى لعظيم فائدته، وهل هنا بمعنى قد المفيدة للتحقيق هي كما في قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} أي قد أتى.
2 الحديث: الخبر، ويجمع على غير قياس: أحاديث، وقيل: واحده أحدوثة واستغنوا به عن جمع فعلاء لأن فعيل يجمع على فعلاء. كرحيم ورحماء وسعيد وسعداء وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر قد حدث في الخارج.
3 قيل: هي شجرة عنّاب.
4 قرأ حمزة وحده، وانَّا اخترناك بضمير العظمة.
5 في هذه الآية إشارة إلى أن التعارف بين المتلاقين حسن فقد عرفه تعالى بنفسه في أوّل لقاء معه، روى أنه وقف على حجر واستند على حجر ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره وهذه حالة الاستماع المطلوبة من صاحبها.
6 استدل مالك على أن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها مستدلا بقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} أي: لأول وقت ذكرك لها والسنة صريحة في هذا إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها فلا كفارة لها إلاّ ذاك"
7 الساعة علم بالغلبة على ساعة البعث والحساب.(3/341)
آتية لا محالة. من أجل مجازاة العبادّ على أعمالهم وسعيهم طوال أعمارهم من خير وشر، وقوله: {أكاد أخفيها} أي أبالغ في إخفائها حتى أكاد أخفيها عن نفسي. وذلك لحكمة أن يعمل الناس ما يعملون وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يبعثون فتكون أعمالهم بإراداتهم لا إكراه عليهم فيها فيكون الجزاء على أعمالهم عادلا، وقوله: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها فتردى} ينهى تعالى موسى أن يَقبل صدّ صادٍ من المنكرين للبعث متبعي الهوى عن الإيمان بالبعث والجزاء والتزود بالأعمال الصالحة لذلك اليوم العظيم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، فإن من لا يؤمن بها ولا يتزود لها يردى أي يهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- تقرير التوحيد وإثباته، وأن الدعوة إلى لا إله إلاّ الله دعوة كافة الرسل.
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
4- مشروعية التبرك بما جعله الله تعالى مباركاً، والتبرك التماس البركة حسب بيان الرسول وتعليمه.
5- وجوب إقام الصلاة وبيان علة ذلك وهو ذكر الله تعالى.
6- بيان الحكمة في إخفاء الساعة مع وجوب إتيانها وحتميته.
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولىَ (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ(3/342)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
شرح الكلمات:
وما تلك بيمينك يا موسى: الاستفهام للتقرير ليرتب عليه المعجزة وهي انقلابها حية.
أتوكأ عليها: أي أعتمد عليها.
وأهش بها على غنمي: أخبط بها ورق الشجر فيتساقط فتأكله الغنم.
ولي فيها مآرب أخرى: أي حاجات أخرى كحمل الزاد بتعليقه فيها ثم حمله على عاتقه، وقتل الهوام.
حية تسعى: أي ثعبان عظيم، تمشي على بطنها بسرعة كالثعبان الصغير المسمى بالجان.
سيرتها الأولى: أي إلى حالتها الأولى قبل أن تنقلب حيّة.
إلى جناحك: أي إلى جنبك الأيسر تحت العضد إلى الإبط.
بيضاء من غير سوء: أي من غير برص تضيء كشعاع الشمس.
اذهب إلى فرعون: أي رسولاً إليه.
إنه طغى.: تجاوز الحد في الكفر حتى ادعى الألوهية.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع موسى وربه تعالى إذ سأله الرب تعالى وهو أعلم به وبما عنده قائلاً: {وما تلك بيمينك يا موسى1؟} يسأله ليقرر بأن ما بيده عصا من خشب يابسة، فإذا تحولت إلى حية تسعى علم أنها آية له أعطاه إياها ربه ذو القدرة الباهرة ليرسله إلى فرعون وملائه. وأجاب موسى ربه قائلاً: {هي عصاي أتوكأ عليها وأهش2 بها على غنمي} يريد يخبّط بها الشجر اليابس فيتساقط الورق فتأكله الغنم {ولي فيها مآرب3} أي حاجات
__________
1 الجملة معطوفة على الجمل قبلها، وهي استفهامية أي: وما التي بيمينك؟ والمقصود تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي.
2 في هذه الآية دليل على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه. وفي الحديث وقد سئل عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فزاد جملة: "الحل ميتته" وقوله للتي سألته قائلة: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر" فزاد "ولك أجر" وفي البخاري: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل.
3 الواحد: مأربة مثلثة الراء.(3/343)
{أخرى1} كحمل الزاد والماء يعلقه بها ويضعه على عاتقه كعادة الرعاة وقد يقتل بها الهوام الضارة كالعقرب والحية. فقال له ربه عز وجل {ألقها يا موسى فألقاها} من يده {فإذا هي حية تسعى2} أي ثعبان عظيم تمشي على بطنها كالثعبان الصغير المسمى بالجان فخاف موسى منها وولى هارباً فقال له الرب تعالى: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى3} أي نعيدها عصا كما كانت قبل تحولها إلى حية وفعلا أخذها فإذا هي عصاه التي كانت بيمينه. ثم أمره تعالى بقوله: {واضمم يدك} أي اليمنى {إلى جناحك4} الأيسر {تحرج بيضاء من غير سوء} أي برص وفعل فضم يده تحت عضده إلى إبطه تم استخرجها فإذا هي تتلألؤ كأنها فلقة قمر، أو كأنها الثلج بياضا أو أشد، وقوله تعالى {آية أخرى} أي آية لك دالة على رسالتك أخرى إذ الأولى هي انقلاب العصا إلى حية تسعى كأنها جان. وقوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى} أي حولنا لك العصا حية وجعلنا يدك تخرج بيضاء من أجل أن نريك من دلائل قدرتنا وعظيم سلطاننا. وقوله تعالى: {إذهب إلى فرعون إنه طغى} لما أراه من عجائب قدرته أمره أن يذهب إلى فرعون رسولاً إليه يأمره بعبادة الله وحده وأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرج بهم إلى أرض المعاد بالشام وقوله {إنه طغى} أي تجاوز قدره، وتعدى حده كبشر إذ أصبح يدعي الربوبية والألوهية إذ فقال: {أنا ربكم الأعلى} وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} ، فأي طغيان أكبر من هذا الطغيان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبغ الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مثل هذه الأخبار لا تصح إلاّ ممن يوحى إليه.
2- استحباب تناول الأشياء غير المستقذرة باليمين.
3 - مشروعية حمل العصا5.
__________
1 أطنب موسى في الجواب طلبا لمزيد الأنس بالوقوف بين يدي ربّه يناجيه ويوحي إليه.
2 الحية: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عض بنابيه قتل المعضوض.
3 السيرة في الأصل: هيئة السير ونقلت إلى العادة والطبيعة.
4 الجناح: العضد وما تحته من الإبط فهو مع اليد كجناح الطائر.
5 كان خطاء العرب يحملونها في أثناء الخطاب يشيرون بها، وكره هذا الشعوبيون من غير العرب وهم محجوجون بفعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللّعصا فوائد كثيرة آخر فوائدها أنها تذكر بالسفر إلى الآخرة.(3/344)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
4- سنة رعي الغنم للأنبياء.
5- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله في المعارك.
6- آية موسى في انقلاب العصا حية وخروج اليد بيضاء كأنها الثلج أو شعاع شمس.
7- بيان الطغيان: وهو ادعاء العبد ما ليس له كالألوهية ونحوها.
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
شرح الكلمات:
اشرح لي صدري: أي وسعه لي لأتحمل الرسالة.
ويسر لي أمري: أي سهله حتى أقوى على القيام به.
واحلل عقدة من لساني1: أي حبسة حتى أُفهم من أُخاطب.
اشدد به أزري: أي قوي به ظهري.
وأشركه في أمري: أي اجعله نبياً كما نبأتني2.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حديث موسى عليه السلام مع ربه سبحانه وتعالى إنه بعد أن أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وإرسال بني إسرائيل مع موسى ليذهب به إلى أرض القدس قال موسى عليه السلام لربه تعالى {اشرح لي صدري} لأتحمل أعباء الرسالة {ويسر لي أمري} أي سهل مهمتي عليَّ وارزقني العون
__________
1 أصل العقدة: موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر وهي فُعلة كغرفة وشرفة أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف ويقال: حُبسة فشبه موسى حبسة لسانه بالعقدة في الحبل ونحوه.
2 يقال: ما برّ أخ أخاه كما برّ موسى أخاه هارون إذ طلب له أشرف مطلب الرسالة والنبوة.(3/345)
عليها فإنها صعبة شاقة. {واحلل عقدة من لساني} تلك العقدة التي نشأت بسبب الجمرة التي ألقاها في فمه بتدبير الله عزّ وجلّ حيث عزم فرعون على قتله لما وضعه في حجره يلاعبه فأخذ موسى بلحية فرعون ونتفها فغضب فقالت له آسية إنه لا يعقل لصغر سنه وقالت له تختبره بوضع جواهر في طبق وجمر في طست ونقدمهما له فإن أخذ الجواهر فهو عاقل ودونك افعل به ما شئت، وإن أخذ الجمر فهو غير عاقل فلا تحفل به ولا تغتم لفعله، وقدم لموسى الطبق والطست فمد يده إلى الطست بتدبير الله فأخذ جمرة فكانت سبب هذه العقدة فسأل موسى ربه أن يحلها من لسانه ليفصح إذا خاطب فرعون ويبين فيفُهم قوله، وبذلك يؤدي رسالته. هذا معنى قوله: {واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي} 1.
وقوله تعالى فيما أخبر عن موسى {واجعل لي وزيراً2 من أهلي هارون أخي} أي طلب من الله تعالى أن يجعل له من أخيه هارون معيناً على تبليغ الرسالة وتحمل أعبائها. وقوله: {اشدد به أزري3} أي قو به ظهري. وقوله: {وأشركه في أمري} وذلك بتنبئته وإرساله ليكون هارون نبياً رسولاً. وعلل موسى عليه الصلاة والسلام لطلبه هذا بقوله: {كي نسبحك4 كثيراً ونذكرك كثيراً} ، وقوله {إنك كنت بنا بصيرا} أي أنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا وهذا من موسى توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه وما طلبه من ربه توسل إليه بعلمه تعالى به وبأخيه وبحالهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب اللجأ إلى الله تعالى في كل ما يهم العبد.
2 مشروعية الأخذ بالأُهبة والاستعداد لما يعتزم العبد القيام به.
3- فضيلة التسبيح والذكر، والتوسل بأسماء الله وصفاته.
__________
1 اختلف في هل انحلّت تلك العقدة أو لم تنحل، والصحيح أنها انحلّت إجابة الله تعالى لدعوة موسى إذ قال: {قد أجيبت دعوتكما} وأما قول فرعون: ولا يكاد يبين فهو تكرار لما سبق ولأجل الانتقاص من كمال موسى عليه السلام.
2 الوزير: المؤزار كالأكيل للمؤاكل، وفي حديث النسائي: "من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه".
3 الأزر: الظهر من موضع الحقوين، والأزر: القوة أيضاً وآزره أي: قواه، وقيل: الأزر العون، ومنه قول أبي طالب.
أليس أبونا هاشم شدّ أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
4 في هذه الآية دليل على فضل التسبيح والذكر إذ لولا أن موسى علم حب الله تعالى لهما لما توسل بهما لقضاء حاجته.(3/346)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
شرح الكلمات:
قد أوتيت سؤلك1: أي مسؤولك من انشراح صدرك وتيسير أمرك وانحلال عقدة لسانك، وتنبئة أخيك.
ولقد مننا عليك مرة أخرى: أي أنعمنا عليك مع مرة أخرى قبل هذه.
مما يوحى: أي في شأنك وهو قوله: أن اقذفيه الخ.
في التابوت: أي الصندوق.
فاقذفيه في اليم: أي في نهر النيل.
ولتصنع على عيني2: تربى بمرأى مني ومحبة وإرادة.
على من يكفله: ليكمل له رضاعه.
وقتلت نفسا: هو القبطي الذي قتلته بمصر وهو في بيت فرعون.
فنجيناك من الغم-: إذ استغفرتنا فغفرنا لك وأئتمروا بك ليقتلوك فنجيناك منهم.
وفتناك فتونا: أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء عظيما.
__________
1 سؤل بمعنى مسؤول كخبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول.
2 الصنع هنا: بمعنى التربية والتنمية.(3/347)
جئت على قدر1: أي جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون.
واصطنعتك لنفسي: أي أنعمت عليك بتلك النعم اجتباءً منا لك لتحمل رسالتنا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حديث موسى مع ربه تعالى فقد تقدم أن موسى عليه السلام سأل ربه أموراً لتكون عوناً له على حمل رسالته فأجابه تعالى بقوله: في هذه الآية (36) {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} أي قد أعطيت ما طلبت، {ولقد مننا عليك مرة أخرى} أي قبل هذه الطلبات وهي أنه لما أمر فرعون بذبح أبناء بني إسرائيل2: {إذ أوحينا3 إلى أمك أن اقذفيه في التابوت} أي في الصدوق4 {فاقذفيه في اليم} أي نهر النيل {فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو5 له} فهذه النجاة نعمة، ونعمة أخرى تضمنها قوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} أي أضفيت عليك محبتي فأصبح من يراك يحبك، ونعمة أخرى وهي: من أجل أن تُربَّى وتغذى على مرأى مني وإرادة لي أرجعتك بتدبيري إلى أمك لترضعك وتقر عينها ولا تحزن على فراقك، وهو ما تضمنه قوله تعالى: {إذ تمشي أختك6} فتقول: {هل أدلكم على من يكفله} لكم أي لإرضاعه وتربيته. {فرجعناك إلى أمك كي تقرعينها ولا تحزن} ، ونعمة أخرى وهي أعظم إنجاؤنا لك من الغم الكبير بعد قتلك النفس وائتمار آل فرعون على قتلك {فنجيناك من الغم} من القتل وغفرنا لك خطيئة القتل. وقوله تعالى: {وفتناك فتوناً} 7 أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً وها هي ذي خلاصته في الأرقام التالية:
1- حمل أمك بك في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل.
2- إلقاء أُمك بك في اليم.
3- تحريم المراضع عليك حتى رجعت إلى أمك.
4- أخذك بلحية فرعون وهمه بقتلك.
__________
1 كما قال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى موسى ربه على قدر
2 أوحى الله تعالى إلى أم موسى: {أن اقذفيه..} الآية.
3 هذا إلهام لها أو منام إذ لم تكن نبيّة إجماعاً.
4 الساحل: الشاطىء، وهو ساحل معهود وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة. واللام في (فليلقه) لام التكوين الإلهي.
5 هذا العدو: فرعون عدو الله تعالى وعدو موسى وبني إسرائيل.
6 أخت موسى تسمى مريم بنت عمران.
7 الفتون: مصدر كالدخول والخروج وهو كالفتنة، وهي اضطراب حال المرء في مدة حياته.(3/348)
5- قتلك القبطي وائتمار آل فرعون بقتلك.
6- إقامتك في مدين وما عانيت من آلام الغربة.
7 - ضلالك الطريق بأهلك وما أصابك من الخوف والتعب.
هذه بعض ما يدخل تحت قوله تعالى: وفتناك فتوناً وقوله {فلبثت سنين في أهل مدين1} ترعى غنم شعيب عشراً من السنين {ثم جئت} من مدين إلى طور سينا {على قدر} منا مقدر ووعد محدد ما كنت تعلمه حتى لاقيته. واصطنعتك لنفسي أي خلقتك وربيتك وابتليتك واتيت بك على موعد قدَّرْته لك لأُحمِّلك عبء الرسالة إلى فرعون وبني إسرائيل: إلى فرعون لتدعوه إلى عبادتنا وإرسال بني إسرائيل معك إلى أرض المعاد. وإلى بني إسرائيل لهدايتهم وإصلاحهم وإعدادهم للإسعاد والإكمال في الدارين إن هم آمنوا واستقاموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر لطف الله تعالى وحسن تدبيره في خلقه.
2- مظاهر إكرام الله تعالى ولطفه بعبده ورسوله موسى عليه السلام.
3- آية حب الله تعالى لموسى، وأثر ذلك في حب الناس له.
4- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخباره في كتابه بمثل هذه الأحداث في قصص موسى عليه السلام.
اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
__________
1 مدين أحد أبناء إبراهيم عليه السلام، وأهل مدين: أي: البلاد التي سميت باسم ابن إبراهيم هم قوم شعيب، والبلاد على ساحل البحر الأحمر جنوب العقبة.(3/349)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
شرح الكلمات:
بآياتي: أي بالمعجزات التي آتيتك كالعصا واليد وغيرها.
ولا تنيا في ذكري: أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري فإنه سر الحياة وعونكما على أداء رسالتكما.
إنه طغى: تجاوز قدره بادعائه الألوهية والربوبية.
قولا لينا: أي خالياً من الغلظة والعنف.
لعله يتذكر: أي فيما تقولان فيهتدي إلى معرفتنا فيخشانا فيؤمن ويسلم ويرسل معكما بني إسرائيل.
يفرط علينا: أي يعجل بعقوبتنا قبل أن ندعو، ونبين له.
أو أن يطغى: أي يزداد طغيانا وظلما.
أسمع وأرى: أي اسمع ما تقولانه وما يقال لكما، وأرى ما تعملان وما يعمل لكما.
فأرسل معنا بني إسرائيل: أي لنذهب بهم إلى أرض المعاد أرض أبيهم إبراهيم.
بآية: أي معجزة تدل على صدقنا في دعوتنا وأنا رسولاً ربك حقاً وصدقاً.
والسلام على من اتبع الهدى: أي النجاة من العذاب في الدارين لمن آمن واتقى، إذ الهدى إيمانٌ وتقوى.
من كذب وتولى: أي كذب بالحق ودعوته وأعرض عنهما فلم يقبلهما.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في الحديث عن موسى مع ربه تبارك وتعالى فقد أخبره تعالى في(3/350)
الآية السابقة أنه صنعه لنفسه، فأمره في هذه الآية بالذهاب مع أخيه هارون مزودين بآيات الله وهي حججه التي أعطاهما من العصا واليد البيضاء، ونهاهما عن التواني في ذكر الله بأن يضعفا في ذكر وعده ووعيده فيقصرا في الدعوة إليه تعالى فقال: {اذهب أنت وأخوك بآياتي1 ولا تنيا في ذكرى2} وبين لهما إلى من يذهبا وعلة ذلك فقال: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي تجاوز قدره وتعدى حده من إنسان يعبد الله إلى إنسان كفار ادعى أنه رب وإله، وعلمهما اسلوب الدعوة فقال لهما: {فقولا له قولاً ليناً} أي خاليا من الغلظة والجفا وسوء الإلقاء وعلل لذلك فقال {لعله يتذكر أو يخشى3} أي رجاء أن يتذكر، معاني كلامكما وما تدعوانه إليه فيراجع نفسه فيؤمن ويهتدي4 أو يخشى العذاب إن بقى على كفره وظلمه فيسلم لكما بني إسرائيل ويرسلهم معكما، فأبدى موسى وأخو هارون تخوفاً فقال ما أخبر تعالى به عنهما في قوله: فقالا {إنا نخاف أن يفرط علينا} أي يعجل بعقوبتنا بالضرب أو القتل، {أو أن يطغى5} أي يزداد طغياناً وظلماً. فطمأنهما ربهما عز وجل بأنه معهما بنصره وتأييده وهدايته إلى كل ما فيه عزهما فقال لهما: {لا تخافا} أي من فرعون وملائه: {إنني معكما أسمع وأرى} اسمع ما تقولان لفرعون وما يقول لكما. وأرى ما تعملان من عمل وما يعمل فرعون وإني أنصركما عليه فأحق عملكما وأبطل عمله. فأتياه إذاً ولا تترددا فقولا أي لفرعون {إنا رسولاً ربك} أي إليك {فأرسل معنا بني إسرائيل} لنخرج بهما حيث أمر الله، {ولا تعذبهم} بقتل رجالهم واستحياء نسائهم واستعمالهم في أسوء الأعمال وأحطها، {قد جئناك بآية من6 ربك} أي بحجة من ربك دالة على أنا رسولا ربك إليك وأنه يأمرك بالعدل والتوحيد
__________
1 يروى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الآيات التسع. وهذا باعتبار ما يكون وإلاّ فما حصل هو آية العصا واليد لا غير.
2 ولا تنيا؛ أي: ولا تضعفا. يقال: وني يني ونىً أي: ضعف في العمل. أي: لا تني أنت وأبلغ هارون أن لا يني.
3 لعل: حرف ترج ولكن هي هنا بالنسبة إلى موسى وهارون معناه: لعل رجاءكما وطمعكما. فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر.
4 لقد تذكر فرعون وخشي وذلك ساعة غرقه ولم ينفعه ذلك إذ قال: آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل.
5 قوله تعالى: {قالا ربنا إنا نخاف} الخ هذه بداية كلام موسى وهارون بعد أن انتهى كلام موسى مع ربه وحده. قبل أن يصل إلى مصر، ومعنى: يفرط يبادر بعقوبتهما ويعجلها، يقال: فرط منه أمر أي: بدر، وأفرط: أسرف وفرط: ترك وأضاع، وفي الآية دليل عدم المؤاخذة بالخوف مما من شأنه أن يخاف، ولكن لا يمنع من عبادة الله تعالى التي هي علّة الخلق والوجود.
6 هي اليد والعصا.(3/351)
وينهاك عن الظلم والكفر ومنع بني إسرائيل من الخروج إلى أرض المعاد معنا. {والسلام على من اتبع الهدى} أي واعلم يا فرعون أن الأمان والسلامة يحصلان لمن اتبع الهدى الذي جئناك به، فاتبع الهدى تسلم1، وإلاّ فأنت عرصة للمخاوف والهلاك والدمار وذلك لأنه {قد أوحى إلينا} أي أوحى إلينا ربنا، {أن العذاب2 على من كذب} بالحق الذي جئناك به {وتولى} عنه فأعرض عنه ولم يقبله كبرياءً وعناداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم شأن الذكر بالقلب واللسان والجوارح أي بالطاعة فعلاً وتركاً.
2- وجوب مراعاة الحكمة في دعوة الناس إلى ربهم.
3- تقرير معية الله تعالى مع أوليائه وصالح عباده بنصرهم وتأييدهم.
4- تقرير أن السلامة من عذاب الدنيا والآخرة هي من نصيب متبعي الهدى.
5- شرعية إتيان الظالم وأمره ونهيه والصبر على أذاه.
6- عدم المؤاخذة على الخوف حيث وجدت أسبابه.
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
__________
1 والسلام هنا ليس سلام تحية.
2 قوله تعالى: {إن العذاب على من كذّب وتولّى} هذه أرجى أية للموحدين لأنهم لم يكذّبوا ولم يتولوا.(3/352)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
شرح الكلمات:
أعطى كل شيء خلقه: أي خلقه الذي هو عليه متميز به عن غيره.
ثم هدى: أي الحيوان منه إلى طلب مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه.
قال فما بال القرون الأولى: أي قال فرعون لموسى ليصرفه عن دلائه بالحجج حتى لا يفتضح فما بال القرون الأولى كقوم نوح وعاد وثمود في عبادتهم الأوثان؟
قال علمها عند ربي: أي لم علم أعمالهم وجزائهم عليها عند ربي دعنا من هذا فإنه لا يعنينا.
في كتاب لا يضل ربي: أي أعمال تلك الأمم في كتاب محفوظ عند ربي وسيجزيهم بأعمالهم إن ربي لا يخطىء ولا ينسى فإن عذب أو أخر العذاب فإن ذلك لحكمة اقتضت منه ذلك.
مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً: مهاداً، فراشا وسلك: سهل، وسبلاً طرقاً.
أزواجاً من نبات شتى: أزواجاً: أصنافاً: شتى: مختلفة الألوان والطعوم.
إن في ذلك لآيات: لدلائل واضحات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.
لأولى النهى: أي أصحاب العقول لأن النُهية العقل وسمي نهية لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح كالشرك والمعاصي.
منها خلقناكم: أي من الأرض وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم عند البعث يوم القيامة.
تارة أخرى: أي مرة أخرى إذ الأولى كانت خلقاً من طين الأرض وهذه إخراجاً من الأرض.
معنى الآيات:
السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون إذ وصل موسى وأخوه إلى فرعون وَدَعَوَاهُ إلى الله تعالى ليؤمن به ويعبده وبأسلوب هادىء لين كما أمرهما الله تعالى: فقالا له: {والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي علينا أن العذاب على من(3/353)
كذب وتولى} ؟ ولم يقولا له لا سلام عليك، ولا أنت مكذب ومعذب، وهنا قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله: {قال فمن ربكما يا موسى؟} أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله: {ربنا الذي أعطى1 كل شيء خلقه ثم هدى2} أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب، وطلب بقائها بما سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفاً موسى عن المقصود خشية الفضيحة من الهزيمة أمام ملائه قال: {فما3 بال القرون الأولى} أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان. وعرف موسى أن اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله: {علمها عند ربي في كتاب4، لا يضل ربي ولا ينسى5} فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطىء ولا ينسى وسيجزى كلاً بكسبه. ثم أخذ موسى يصف ربه ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال {الذي جعل لكم الأرص مهداً} أي فراشاً مبسوطة للحياة عليها {وسلك لكم فيها سبلا} أي سهل لكم للسير عليها طرقاً تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم فوقها، {وأنزل من السماء ماء} وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى: {فأخرجنا6 به أزواجاً من نبات شتى} أي بالمطر أزواجاً أي أصنافاً من نباتٍ شتى أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله
__________
1 أعلمه عليه السلام بأنّ ربه تعالى يعرف بصفاته لا بذاته ولا باسم يعرف به ولم يقل له موسى: إنه الله، لأنّ الاسم العلم لا يهدي إلى معرفته تعالى كما تهدي إليه الصفات العُلى التي لا يقدر فرعون على جحدها وإنكارها.
2 قال ابن عباس: أعطى كل زوج من جنسه ثمّ هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورته ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. قال الشاعر:
وله في كل شيء خلقه
وكذا الله ما شاء فعل
3البال: الحال أي: ما حالها وما شأنها؟ فأعلمه موسى عليه السلام أن علمها عند الله أي: إن ما سألت عنه من علم الغيب الذي استأثر الله به درن سواه.
4 في هذه الآية دليل على مشروعية كتابة العلوم وتدوينها، حتى لا تنسى فتضيع وفي الحديث مشاهد آخر ففي صحيح مسلم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده. إن رحمتي تغلب غضبي".
5 الضلال: الخطأ في العلم شبّه بخطإ الطريق، والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في الذهن.
6 في الكلام التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم والخطاب تنويعاً للأسلوب وتحريكاً للضمير الجامد.(3/354)
تعالى تتميماً لكلام موسى وتذكيراً لأهل مكة المتجاهلين لله وحقه في التوحيد. وقوله: {كلوا وارعوا أنعامكم} أي مما ذكرنا لكم من أزواج النبات. وارعوا إبلكم وأغنامكم وسائر بهائمكم واشكروا لنا هذا الإنعام بعبادتنا وترك عبادة غيرنا. وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} أي إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإنبات النبات لتغذية الإنسان والحيوان لدلالات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وانه بذلك مستحق للعبادة دون سواه إلاّ أن هذه الدلائل لا يعقلها إلاّ أصحاب العقول وذوو النهى فهم الذي يستدلون بها علم معرفة الله ووجوب عبادته وترك عبادة غيره. وقوله تعالى: {منها} أي من الأرض التي فيها حياة النبات والحيوان خلقناكم أي خلق أصلكم الأول وهو آدم، وفيها نعيدكم بالموت فتقبرون فيها، {ومنها1 نخرجكم تارة أخرى2} أي مرة أخرى وذلك يوم القيامة إذ نبعثكم من قبوركم أحياء للحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب المهين بحسب صفات نفوسكم فذو النفس الطاهرة ينعم وذو النفس الخبيثة من الشرك والمعاصي يعذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تعين إجابة السائل ولتكن بالعلم الصحيح النافع.
2- تقرير مبدأ من حسن3 إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
3- تنزه الرب تعالى عن الخطأ والنسيان.
4- الاستدلال بالآيات الكونية على الخالق عز وجل وقدرته وألوهيته.
5- احترام العقول وتقديرها لأنها تعقل4 صاحبها دون الباطل والشر.
6- تسمية العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.
__________
1 بمناسبة ذكر دلائل وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته دون سواه ذكّرهم بعقيدة البعث والجزاء مستدلاً عليها بقدرة الله تعالى وعلمه.
2 تجمع التارة على تارات كالمرة على المرّات، والتارة: اسم جامد غير مشتق.
3 هذا حديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
4 تعقل: أي: تحجزه أو تصرفه عما يضرّ حالاً أو مآلاً.(3/355)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
شرح الكلمات:
أريناه آياتنا كلها: أي أبصرناه حججنا وأدلتنا على حقيقة ما أرسلنا به رسولينا موسى وهارون إليه كلها فرفضها وأبى أن يصدق بأنهما رسولين إليه من رب العالمين.
من أرضنا: أي أرض مصر التي فرعون ملك عليها.
بسحرك يا موسى: يشير إلى العصا واليد البيضاء.
مكانا سوى: أي مكان عدل بيننا وبينك ونَصَفٍ، صالحاً للمباراة حيث يكون ساحة كبرى مكشوفة مستوية يرى ما فيها كل ناظر إليها.
يوم الزينة: أي يوم عيد يتزينون فيه ويقعدون عن العمل.
وأن يحشر الناس ضحى: أي وأن يؤتى بالناس من كل أنحاء البلاد للنظر في المباراة.
فتولى فرعون: أي انصرف من مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون في كبرياء وإعراض.
فيجمع كيده: أي ذوى كيده وقوته من السحرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملائه من جهة(3/356)
أخرى فقال تعالى: {ولقد أريناه} أي أرينا فرعون {آياتنا كلها} أي أدلتنا وحججنا1 على أن موسى وهارون رسولان من {قبلنا} أرسلناهما إليه، فكذب برسالتهما وأبى الاعتراف بهما، وقال ما أخبر تعالى به عنه: {قال أجئتنا2} أي يا موسى {لتخرجنا من أرضنا} أي منازلنا وديارنا ومملكتنا {بسحرك} الذي انقلبت به عصاك حية تسعى، {فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعداً} نتقابل فيه، {لاّ نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى} 3 عدلاً بيننا وبينك يكون من الاعتدال والاتساع بحيث كل من ينظر إليه يرى ما يجرى فيه من المباراة بيننا وبينك. فأجاب موسى بما أخبر تعالى به عنه فقال: {موعدكم يوم الزينة} وهو يوم عيد للأقباط يتجملون فيه ويقعدون عن العمل، {وأن يحشر الناس ضحى4} أي في يوم يجمع فيه الناس ضحى للتفرج في المباراة من كل أنحاء المملكة وهنا تولى فرعون بمعنى انصرف من مجلس المحاورة وكله كبر وعناد فجمع قواته من السحرة لإنفاذ كيده في موسى وهارون. وفي الآيات التالية تظهر الحقيقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان كبر فرعون وصلفه وطغيانه.
2- للسحر آثار وله مدارس يتعلم فيها ورجال يحذقونه ويعلمونه.
3- مشروعية المبارزة والمباراة لإظهار الحق وإبطال الباطل.
4- مشروعية اختيار المكان والزمان اللائق للقتال والمباراة ونحوهما.
قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ
__________
1 أي: الدالة على وجود الله تعالى ووجوب ألوهيته وعلى صحة نبوّة موسى وهارون.
2 لما رأى الآيات وبهرته احتال في دفعها اللعين بدعواه أن موسى جاء ليخرج فرعون وقومه من بلادهم ليستقل بها دونهم، وهذا من الكذب السياسي الممقوت.
3 قرأ حفص (سُوى) كطوى بضم السين، وقرأ نافع (سوى) بكسرها كطوى، والكسر أفصح. أي: وسطاً في المدينة لا يشق على من يأتيه.
4 اختار موسى اليوم والساعة، وهي: الضحى لعلمه أنه سيغلب السحرة ويهزمون أمامه، فأحب أن يكون الوقت مناسباً الكثرة المتفرّجين ووضوح الرأي لهم في شباب النهار (الضحى) .(3/357)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
شرح الكلمات:
ويلكم: دعاء عليهم معناه: ألزمكم الله الويل وهو الهلاك.
فيسحتكم بعذاب: أي يهلككم بعذاب من عنده.
فتنازعوا أمرهم: أي في شأن موسى وهارون أي هل هما رسولان أو ساحران.
وأسروا النجوى: وهي قولهم: ان هذان لساحران يريدان الخ....
بطريقتكم المثلى: أي ويغلبا على طريقة قومكم وهما أشرافهم وساداتهم.
فأجمعوا كيدكم: أي أحكموا أمر كيدكم حتى لا تختلفوا فيه.
قد أفلح من استعلى: أي قد فاز من غلب.
إما أن تلقي: أي عصاك.
فخيل إليه أنها تسعى: أي فخيل إلى موسى أنها حية تسعى، لأنهم طلوها بالزئبق فلما ضربت الشمس عليها اضطربت واهتزت فخيل إلى موسى أنها تتحرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام والسحرة الذين جمعهم فرعون(3/358)
للمباراة فأخبر تعالى عن موسى أنه قال لهم مخوفا إياهم علهم يتوبون: {ويلكم1 لا تفتروا على الله كذباً} أي لا تتقولوا على الله فتنسبوا إليه ما هو كذب {فيسحتكم2 بعذاب} أي يهلككم بعذاب إبادة واستئصال، {وقد خاب من افترى} أي خسر من كذب على الله أو على الناس. ولما سمعوا كلام موسى هذا اختلفوا فيما بينهم هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو كلام رسول من في السماء؟ وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله:
{فتنازعوا3 أمرهم بينهم} وقوله {وأسروا النجوى} أي أخفوا ما تناجوا به بينهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله: {إن4هذان لساحران} أي موسى وهارون {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم} أي دياركم المصرية، {ويذهبا بطريقتكم المثلى5} أي باشرافكم وساداتكم من بني إسرائيل وغيرهم فيتابعوهما على ما جاءا به ويدينون بدينهما، وعليه فأجمعوا أمركم حتى لا تختلفوا فيما بينكم، {ثم ائتوا صفا} واحداً متراصاً، {وقد أفلح اليوم من استعلى} أي غلب، وهذا بعد أن اتفقوا على أسلوب المباراة قالوا بأمر فرعون: {يا موسى إما أن تلقي} عصاك، وإما أن نلقي نحن فنكون أول من ألقى. فقال لهم موسى: {بل ألقوا} ، فالقوا عندئذ {فإذا حبالهم وعصيهم} وكانت ألوفاً فغطت الساحة وهي تتحرك وتضطرب لأنها مطلية بالزئبق فلما سخنت بحر الشمس صارت تتحرك وتضطرب الأمر الذي خيل فيه لموسى أنها تسعى (باقي الحديث في الآيات بعد) .
__________
1 الويل: الهلاك وهو شبه مصدر، ونصبه إما على تقدير: ألزمهم الله أو على النداء أي: يا ويلهم. كقوله: {يا ويلنا من بعثنا) .
2 سحت وأسحت بمعنى، وأصله من استقصاء الشعر في إزالته قرأ أهل الكوفة: (فيُسحتكم) بضم الياء من أسحت، وقرا أهل الحجاز بفتح الياء من: سحت قال الشاعر:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلاّ مُسحتا أو مجلّفا
والشاهد في: مسحت من أسحت.
3 التنازع: مشتق من جذب الدلو من البئر وجذب الثوب من الجسد والتنازع تفاعل إذ كل ذي رأي يريد نزع رأي صاحبه لرأيه لما يراه من الصواب.
4 قراءة الجمهور بكسر إنّ وتشديد النون، وبلغ الخلاف في هذا الحرف أشدّه فبلغوا فيه إلى ستة تخريجات أمثلها: أن (إن) حرف جواب بمعنى نعم قال الشاعر:
ويقلن شيب علا
ك وقد كبرت فقلت إنّه
والشاهد في إنه جواب لما في البيت من كلام، والهاء في إنه هاء السكت، وشاهد آخر وهو: أنّ عبد الله بن الزبير قال لأعرابي استجداه فلم يعطه: إنّ وراكبها. لما قال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك. فقوله: إن: أي: نعم وراكبها أي: ملعون كذلك.
5 المثلى: مؤنث: الأمثل، من المثالية التي هي حسن الحال. أراد فرعون إثارة الحمية في قومه ليدافعوا عن عاداتهم وشرائعهم وأخلاقهم.(3/359)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة الكذب على الله تعالى، وإنه ذنب عظيم يسبب دمار الكاذب وخسرانه.
2- من مكر الإنسان وخداعه1 أن يحول القضية الدينية البحتة إلى سياسة خوفاً من التأثير على النفوس فتؤمن وتهتدي إلى الحق.
3- معية الله تعالى لموسى وهارون تجلت في تصرفات موسى إذ الإذن لهم بالإلقاء أولا من الحكمة وذلك أن الذي يبقى في نفوس المتفرجين والنظارة هو المشهد الأخير والكلمة الأخيرة التي تقال لاسيما في موقف كهذا.
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
شرح الكلمات:
فأوجس في نفسه خيفة: أي أحس بالخوف في نفسه.
أنت الأعلى: أي الغالب المنتصر.
تلقف: أي تبتلع بسرعة ما صنع السحرة من تلك الحبال والعصي.
كيد ساحر: أي كيد ساحر لا بقاء له ولا ثبات.
__________
1 المراد به الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولقائه ولا يتحلى بالصبر والتقوى.(3/360)
لا يفلح الساحر: أي لا يفوز بمطلوبة حيثما كان.
فألقي السحرة سجداً: أي ألقوا بأنفسهم ورؤوسهم على الأرض ساجدين.
إنه لكبيركم: أي لمعلمكم الذي علمكم السحر.
من خلاف: أي يد يمنى مع رجل يسرى.
في جذوع النخل: أي على أخشاب النخل.
أينا أشد عذاباً وأبقى: يعني نفسه- لعنه الله- ورب مرسى اشد عذاباً وأدومه على مخالفته وعصيانه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المباراة التي بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون إنه لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم وتحركت واضطربت ومتلأت بها الساحة شعر موسى بخوف في نفسه فأوحى إليه ربه تعالى في نفس اللحظة: {لا تخف إنك أنت الأعلى} أي الغالب القاهر لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (67) فأوجس1 في نفسه خيفة موسى والثانية (68) {قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} وقوله تعالى: {وألق ما في يمنيك2 تلقف ما صنعوا} أي تبتلع بسرعة وعلل لذلك فقال: {إنما صنعوا كيد ساحر3} أي هو مكر وخدعة من ساحر {ولا يفلح الساحر حيث أتى} أي لا يفوز الساحر بما أراد ولا يظفر به أبداً لأنه مجرد تخيلات يريها غيره. وليس لها حقيقة ثابتة لا تتحول ولما شاهد السحرة ابتلاع العصا لكل حبالهم وعصيتهم عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً وإنما هو معجزة سماوية ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله رب العالمين لما بهر نفوسهم من عظمة المعجزة وقالوا في وضوح {آمنا برب هارون وموسى} . وهنا صاح فرعون مزمجراً مهدداً ليتلافى في نظره شر الهزيمة فقال
__________
(أوجس) : أي أحس ووجد أي: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي العصا.
2 لم يقل له: ألق العصا لأن فيها إكباراً لشأن العصا وأنها بحق قادرة على إبطال باطل السحرة.
3 قرأ الجمهور: {كيد ساحر} وقرأ بعضهم: {كيد سحر} بكسر السين أي: كيد ذي سحر، وكيد: خبر مرفوع، والمبتدأ: ما الموصولية في قوله: {إن ما صنعوا} وصنعوا: صلتها، وكيد: الخبر. وقرىء بنصب كيد على أنّ ما كافة. وكيد معمول لصنعوا.(3/361)
للسحرة {آمنتم له قبل أن آذن لكم} بذلك {إنه لكبيركم1} أي معلمكم العظيم {الذي علمكم السحر} فتواطأتم معه على الهزيمة. {فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} تعذيباً وتنكيلاً فاقطع يمين أحدكم مع يسرى رجليه، أو العكس {ولأصلبنكم2 في جذوع النخل} أي لأشدنكم على أخشاب النخل واترككم معلقين عبرة ونكالاً لغيركم {ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} أي أدومه: رب موسى الذي آمنتم به أو أنا "فرعون عليه لعائن الله" هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشعور بالخوف والإحساس به عند معاينة أسبابه لا يقدح في الإيمان.
2- تقرير أم ما يظهر السحرة من تحويل الشيء إلى آخر إنما هو مجرد تخييل لا حقيقة له.
3- حرمة السحر لأنه تزوير وخداع.
4- قوة تأثير المعجزة في نفس السحرة لما ظهر لهم من الفرق بين الآية والسحر.
5- شجاعة المؤمن لا يرهبها خوف بقتل ولا بصلب.
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ
__________
1 أراد فرعون بقوله هذا التشبيه على الناس والتمويه حتى لا يتبعوا السحرة فيؤمنوا كإيمانهم لا أنّ موسى استاذهم في السحر وأنه أحذق منهم له وأعلم منهم به.
2 حروف الجر تتناوب، والفاء هنا: (في جذع النخل) بمعنى: على. قال الشاعر:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة
فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا(3/362)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76)
شرح الكلمات:
لن نؤثرك: أي لن نفضلك ونختارك.
والذي فطرنا: أي خلقنا ولم نكن شيئا.
فاقض ما أنت قاض: أي اصنع ما قلت إنك تصنعه بنا.
والله خير وأبقى: أي خير منك ثواباً إذا أطيع وأبقى منك عذاباً إذا عصى.
مجرما: مجرما أي على نفسه مفسداً لها بآثار الشرك والكفر والمعاصي.
جزاء من تزكى: أي ثواب من تتطهر من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع فرعون والسحرة المؤمنين انه لما هددهم فرعون بالقتل والصلب على جذوع النخل لإيمانهم بالله وكفرهم به وهو الطاغوت قالوا له ما أخبر تعالى به عنهم في هذه الآية (72) {قالوا لن نؤثرك} يا فرعون {على ما جاءنا من البينات} الدلائل والحجج القاطعة على أن رب1 موسى وهارون هو الرب الحق الذي تجب عبادته وطاعته فلن نختارك على الذي خلقنا فنؤمن بك ونكفر به لن يكون هذا أبداً واقض ما أنت عازم على قضائه علينا من القتل والصلب. {إنما تقضى هذه الحياة الدنيا} في هذه الحياة الدنيا لما لك من السلطان فيها أما الآخرة فسوف يقضى عليك فيها بالخلد في العذاب المهين.
وأكدوا إيمانهم في غير خوف ولا وجل فقالوا: {إنا آمنا بربنا} أي خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا {ليغفر لنا خطايانا} أي ذنوبنا، {وما أكرهتنا عليه من السحر} أي من تعلمه والعمل به، ونحن لا نريد ذلك ولا شك أن فرعون كان قد ألزمهم بتعلم السحر والعمل به من أجل محاربة موسى وهارون لما رأى من معجزة العصا واليد. وقولهم {والله خير وأبقى}
__________
1 روي أن آسيا امرأة فرعون لما بدأت المباراة قالت لهم: أخبروني عمّن يغلب فأخبرت أن موسى وهارون غلبا فقالت: آمنت بربّ موسى وهرون. فأمر فرعون بأعظم صخرة فإذا أصرّت على قولها قألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فرأت منزلها في الجنة بعد أن قالت {ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} وخرجت روحها فألقيت عليها الصخرة وهي جسد لا روح فيها استجاب الله لها عليها السلام.(3/363)
أي خير ثواباً وجزاء حسناً لمن آمن به وعمل صالحاً، وأبقى عذاباً لمن كفر به وبآمن بغيره وعصاه. هذا ما دلت عليه الآيتان (72) و (73) .
أما الآية الثالثة (74) وهي قوله تعالى: {إنه من يأت ربه مجرماً1} أي على نفسه بإفسادها بالشرك والمعاصي {فإن له2 جهنم لا يموت فيها3} فيستريح من العذاب فيها، {ولا يحيى} حياة يسعد فيها.
وقولهم {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} أي مؤمناً به كافراً بالطاغوت قد عمل بشرائعه فأدى الفرائض واجتنب المناهي {فأولئك4 هم} جزاء إيمانهم وعملهم الصالح {الدرجات العلى جنات عدن} أي في جنات عدن {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لا يموتون ولا يخرجون منها، {وذلك جزاء من تزكى} أي تتطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد تخليه عن الشرك والخطايا والذنوب. لا شك أن هذا العلم الذي عليه السحرة كان قد حصل لهم من طريق دعوة موسى وهارون إذ أقاموا بينهم زمناً طويلاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يؤثر الكفر على الإيمان والباطل على الحق والخرافة على الدين الصحيح إلاّ أحمق جاهل.
2- تقرير مبدأ أن عذاب الدنيا يتحمل ويصبر عليه بالنظر إلى عذاب الآخرة.
3- الإكراه نوعان: ما كان بالضرب الذي لا يطاق يغفر لصاحبه وما كان لمجرد تهديد ومطالبة فإنه لا يغفر إلاّ بالتوبة الصادقة وإكراه السحرة كان من النوع الآخر.
4- بيان جزاء كل من الكفر والمعاصي، والإيمان والعمل الصالح في الدار الآخرة.
__________
1 المجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية، والفعل الخبيث، والمجرم في اصطلاح القرآن: الكافر غالباً.
2 اللام في: له جهنم لام الاستحقاق أي: هو صائر إليها لا محالة.
3 لا يموت فيها ولا يحيى، لأن عذابها متجدد فيها فلا هو ميّت لأنه يحس بالعذاب ولا هو حي لأنه في حالة الموت أهون منها، وهذا كقول عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تُدْرَءٍ
فلم أُعط شيئاً ولم أمنع
4 {فأولئك..} الآية أوتي باسم الإشارة إلى أنهم أحياء بهذا النعيم في جنات ويؤكده قوله {ذلك جزاء من تزكى} .(3/364)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
شرح الكلمات:
أن أسر بعبادي: أي سر ليلاً من أرض مصر.
طريقاً في البحر يبساً: طريقاً في وسط البحر يابساً لا ماء فيه.
لا تخاف دركاً: أي لا تخش أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقاً.
فغشيهم من اليم: أي فغطاهم من ماء البحر ما غطاهم حتى غرقوا فيه.
وأضل فرعون قومه: أي بدعائهم إلى الإيمان به والكفر بالله رب العالمين.
وما هدى: أي لم يهدهم كما وعدهم بقوله: {وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد} .
جانب الطور الأيمن: أي لأجل إعطاء موسى التوراة التي فيها نظام حياتهم دينا ودنيا.
المن والسلوى: المن: شيء أبيض كالثلج، والسلوى طائر يقال له السماني1.
ولا تطغوا فيه: أي بالإسراف فيه، وعدم شكر الله تعالى عليه.
__________
1 السُّمانى: بضم السين، وفتح النون ممدودة، والجمع سمانيات والواحدة سماناة كمناجاة: نوع من الطيور.(3/365)
ثم اهتدى: أي بالاستقامة على الإيمان والتوحيد والعمل الصالح حتى الموت.
معنى الآيات:
إنه بعد الجدال الطويل والخصومة الشديدة التي دامت زمناً غير قصير وأبى فيها فرعون وقومه قبول الحق والإذعان له أوحى تعالى إلى موسى عليه السلام بما أخبر به في قوله عز وجل: {ولقد أوحينا إلى موسى} وبأي شيء أوحى إليه. بالسرى ببني إسرائيل وهو قوله تعالى {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي} قوله {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا} 1 أي اجعل لهم طريقاً في وسط البحر، وذلك حاصل بعد ضربه البحر بالعصي فانفلق البحر فرقتين والطريق وسطه يابساً لا ماء فيه حتى اجتاز بنو إسرائيل البحر، ولما تابعهم فرعون ودخل البحر بجنوده أطبق الله تعالى عليهم البحر فأغرقهم أجمعين، بعد أن نجى موسى وبني إسرائيل، وهو معنى قوله تعالى: {فأتبعهم2 فرعون بجنوده فغشيهم من اليم} أي من ماء البحر {ما غشيهم3} أي الشيء العظيم من مياه البحر. وقوله لموسى {لا تخاف4 دركاً ولا تخشى} أي لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى غرقا في البحر.
وقوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى5} إخبار منه تعالى أن فرعون أضل أتباعه حيث حرمهم من الإيمان بالحق وإتباع طريقه، ودعاهم إلى الكفر بالحق وتجنب طريقه فاتبعوه على ذلك فضلوا وما اهتدوا، وكان يزعم أنه ما يهديهم إلاّ سبيل الرشاد وكذب.
وقوله تعالى: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم} أي فرعون، {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} أي مع نبينا موسى لإنزال التوراة لهدايتكم وحكمهم بشرائعها، وأنزلنا عليكم المن والسلوى غذاء لكم في التيه، {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أي قلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلال الطعام والشراب، {ولا تطغوا فيه} بترك
__________
1 اليبس: محرّك الياء والباء، وتسكن الباء أيضاً: وصف بمعنى اليابس وأصله مصدركالقدم، والعدم بفتح العين وضمها.
2 قرىء: (فأتبعهم) وبالياء في بجنوده للمصاحبة فهي بمعنى مع أي مع جنوده.
3 ما غشهم في هذا تهويل عظيم لما غشيهم من الماء الذي غمرهم وغطّاهم بحيث يستحيل النجاة معه.
4 {دركاً} أي: لحاقاً بك وبمن معك من بني إسرائيل.
5 {وما هدى} : توكيد لقوله: {فأضل قومه} لأن الهدى ضد الضلال فما دام قد أضلهم فإنه ما هداهم كقوله: {أموات غير أحياء} وكقول الشاعر:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا
إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وفي الآية: التهكم بفرعون إذ قال لهم: وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد.(3/366)
الحلال إلى الحرام وبالأسراف في تناوله وبعدم شكر الله تعالى، وقوله تعالى: {فيحل عليكم غضبي} أي أن أنتم طغيتم فيه. {ومن يحلل عليه غضبي} أي ومن يجب عليه غضبي {فقد هوى} أي في قعر جهنم وهلك.
وقوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى1} يعدهم تعالى بأن يغفر لمن تاب منهم ومن غيرهم فآمن وعمل صالحاً أي أدى الفرائض واجتنب المناهي ثم استمر على ذلك ملازماً له حتى مات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا القصص لا يقصه إلاّ بوحي إليه إذ لا سبيل إلى معرفته إلاّ من طريق الوحي الإلهي.
2- آية انفلاق البحر ووجود طريق يابس فيه لبني إسرائيل حتى اجتازوه دالة على جود الله تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
3- تذكير اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية بإنعام الله تعالى على سلفهم لعلهم يشكرون فيتوبون فيسلمون.
4- تحريم الإسراف والظلم، وكفر النعم.
5- الغضب صفة لله تعالى كما يليق ذلك بجلاله وكماله لا كصفات المحدثين.
وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
__________
1 ثم اهتدى بأن لزم طريق الهداية حتى مات على ذلك أما من تاب وعمل صالحاً ثم ضل بعد ذلك ومات على ضلالة، فلا يناله هذا الوعد ففي قوله: {ثم اهتدى} احتراس ممن يتوب ثم يعود فيموت على غير هداية.(3/367)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)
شرح الكلمات:
وما أعجلك: أي شيء جعلك تترك قومك وتأتي قبلهم.
هم على أثري: أي آتون بعدي وليسوا ببعيدين مني.
وعجلت إليك ربي لترضى: أي استعجلت المجىء إليك طلباً لرضاك عني.
قد فتنا قومك: أي ابتليناهم أي بعبادة العجل.
وأضلهم السامري: أي عن الهدى الذي هو الإسلام إلى الشرك وعبادة غير الرب تعالى.
غضبان أسفاً: أي شديد الغضب والحزن.
وعداً حسناً: أي بأن يعطيكم التوراة فيها نظام حياتكم وشريعة ربكم لتكملوا عليها وتسعدوا.
أفطال عليكم العهد: أي مدة الموعد وهي ثلاثون يوماً قبل أن يكملها الله تعالى أربعين يوما.
فأخلفتم موعدي: بترككم المجيء بعدي.
بملكنا1: أي بأمرنا وطاقنا، ولكن غلب علينا الهوى فلم نقدر على انجاز الوعد بالسير وراءك.
__________
1 ميم ملكنا مثلثة تفتح وتضم وتكسر والمعنى واحد كما في التفسير أي: لم يكن ذلك بإرادتنا واختيارنا.(3/368)
أوزاراً: أي أحمالاً من حلي نساء الأقباط وثيابهن.
فقذفناها: أي القيناها في الحفرة بأمر هارون عليه السلام.
ألقى السامري: السامري هو موسى بن ظفر من قبيلة سامرة1 الإسرائيلية، وما ألقاه هو التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل ألقاه أي قذفه على الحلي.
عجلاً جسداً: أي ذا جثة.
له خوار: الخوار صوت البقر.
فنسي: أي موسى ربه هنا وذهب يطلبه.
ألا يرجع إليهم قولاً: أنه لا يكلمهم إذا كلموه لعدم نطقه بغير الخوار.
معنى الآيات:
بعد أن نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملائه حيث اجتاز بهم موسى البحر وأغرق الله فرعون وجنوده أخبرهم موسى أن ربه تعالى قد أمره أن يأتيه ببني إسرائيل وهم في طريقهم إلى أرض المعاد إلى جبل الطور ليؤتيهم التوراة فيها شريعتهم ونظام حياتهم دنيا ودينا وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، واستعجل2 موسى في المسير إلى الموعد فاستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ليسير بهم وراء موسى ببطء حتى يلحقوا به عند جبل الطور، وحدث أن بني إسرائيل فتنهم السامري بصنع العجل ودعوتهم إلى عبادته وترك المسير وراء موسى عليه السلام فقوله تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى} هو سؤال من الله تعالى لموسى ليخبره بما جرى لقومه بعده وهو لا يدري فلما قال تعالى لموسى: {وما أعجلك} عن المجيء وحدك دون بني إسرائيل مع ان الأمر أنك تأتي معهم أجاب موسى بقوله
__________
1 نفى بعضهم أن تكون هناك قبيلة من بني إسرائيل تدعى السامرة وإنما السامرة أمة من سكان فلسطين في جهة نابلس قبل أن تكون فلسطين لبني إسرائيل، ثم امتزجوا ببني إسرائيل لما دخلوها واتبعوا معهم شريعة موسى، وبما أن السامري كان في مصر جائز أن يكون من قرية بمصر تسمى سامرة، والمراد من هذا أن السامري لم يكن من بني إسرائيل أصلاً ومحتداً ثم بمرور الأيام وجدت طائفة من بني إسرائيل تدعى السامرية، وهي عبارة عن طريقة ضالة تنتمي إلى شريعة التوراة وهي منحرفة فنشأت عن فتنة السامري الأولى كالطرق المنحرفة لدى المسلمين.
2 لهذا الاستعجال لامه ربّه وعتب عليه في قوله: {وما أعجلك من قومك يا موسى) حتى تركتهم وجئتنا وحدك، وقد ترتب على هذا الاستعجال شر كبير باتخاذ بني إسرائيل عجلاً عبدوه دون الله تعالى، ولذا قيل: تأن ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة.(3/369)
{هم أولاء على أثري1} آتون بعدي، وعجلت المجئ إليك لترضى عني. هنا أخبره تعالى بما حدث لقومه فقال عز وجل: {إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} أي بصنع العجل لهم ودعوتهم إلى عبادته بحجة انه الرب تعالى وأن موسى لم يهتد إليه. ولما انتهت المناجاة وأعطى الله تعالى موسى الألواح التي فيه التوراة {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً} أي حزيناً إلى قومه فقال لهم بما أخبر تعالى عنه بقوله: {قال يا قوم2 ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً} فذكرهم بوعد الله تعالى لهم بإنجائهم من آل فرعون وإكرامهم بالملك والسيادة موبخاً لهم على خطيئتهم بتخلفهم عن السير وراءه وانشغالهم بعبادة العجل والخلافات الشديدة بينهم، وقوله {أفطال عليكم3 العهد} أي لم يطل فالمدة هي ثلاثون يوماً فلم تكتمل حتى فتنتم وعبدتم غير الله تعالى، قوله {أم أردتم أن4 يحل عليكم غضب من ربكم} أي بل أردتم بصنيعكم الفاسد أن يجب عليكم غضب من ربكم فحل بكم، {فأخلفتم موعدي5} بعكوفكم على عبادة العجل وترككم السير على أثرى لحضور موعد الرب تعالى الذي واعدكم.
وقوله تعالى {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} هذا ما قاله قوم موسى كالمعتذرين به إليه فزعموا أنهم ما قدروا على عدم اخلاف الموعد لغلبة الهوى عليهم فلم يطيقوا السير وراءه مع وجود العجل وما ضللهم به السامري من أنه هو إلههم وأن موسى أخطأ الطريق إليه. هذا معنى قولهم: {ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي بأمرنا وقدرتنا إذ كنا مغلوبين على أمرنا. وقولهم: {ولكنا حملنا6 أوزاراً من زينة القوم فقذفناها} هذا بيان لوجه الفتنة وسببها وهي أنهم لما كانوا خارجين من مصر استعار نساؤهم حلياً من نساء القبط بدعوى عيد لهم،
__________
1 أثري، وإثري: لغتان، والأثر: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدم أو حافر أو خف، والمعنى: هم سائرون على مواضع أقدامي وقرىء (إثري) بكسر الهمزة والجمهور قرؤا بالفتح.
2 هذا ابتداء كلام يحمل اللوم والعتاب والتأديب حيث جمع موسى بني إسرائيل وفيهم هارون وخاطبهم قائلاً: يا قوم.. الخ.
3 الاستفهام تابع للاستفهام الأول: ألم يعدكم، وهو للتقرير والإنكار معاً.
4 {أم} بمعنى: بل والاستفهام بعدها إنكاري أي: أنكر عليهم إرادتهم حلول غضب الله عليهم بسبب شركهم بعبادة العجل.
5 المراد من موعده إياهم: هو ما عهد به إليهم بأن يلزموا طاعة هارون ويسيروا معه بدون تأخر حتى يلحقوا به في جبل الطور فأخلفوا ذلك فعصوا هارون وعكفوا على عبادة العجل وتركوا السير على إثره كما طلب منهم.
6 الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل والمراد بها: الحلي الذي استعاره نساؤهم من جاراتهن القبطيات بمصر بقصد الفرار به للنفع الخاص، وخافوا تلاشي الحلي فرأوا أن يصوغوه في قطع كبيرة يحفظ بها من الضياع.(3/370)
وأصبحوا خارجين مع موسى في طريقهم إلى القدس، وتم إنجاؤهم وإغراق فرعون ولما نزلوا بالساحل استعجل موسى موعد ربه وتركهم تحت إمرة هارون أخيه على أن يواصلوا سيرهم وراء موسى إلى جبل الطور غير أن موسى الملقب بالسامري استغل الفرصة وقال لنساء بني إسرائيل هذا الحلى الذي عندكن لا يحل لَكُنَّ أخذه إذ هي ودائع كيف تستحلونها وحفر لهم حفرة وقال ألقوها فيها وأوقد فيها النار لتحترق ولا ينتفع بها بعد، هذا ما دل عليه قولهم {ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم} أي قوم فرعون فقذفناها أي في الحفرة التي أمر بها السامري وقوله تعالى، {فكذلك ألقى السامري1} هو من جملة قول بني إسرائيل لموسى فكما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامري ما معه من التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل، فصنع السامري العجل فأخرجه لهم عجلاً جسداً2 له خوار أي صوت فقال بعضهم لبعض هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب إلى موعده فنسي3 وضل الطريق إليه فاعبدوه حتى يأتي موسى. قال تعالى موبخاً إياهم {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً} إذا كلموه، {ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} فكيف يعقلون أنه إله وهو لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يُعطيهم إذا طلبوه، ولا ينصرهم إذا استنصروه ولكنه الجهل والضلال وإتباع الهوى. والعياذ بالته تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم العجلة وبيان آثارها الضَّارة فاستعجال موسى الموعد وتركه قومه وراءه كان سبباً في أمر عظيم وهو عبادة العجل وما تترب عليها من آثار جسام.
2- مشروعية طلب رضا الله تعالى ولكن بما يحب أن يتقرب به إليه.
3- مشروعية الغضب لله تعالى والحزن على ترك عبادته بمخالفة أمره ونهيه.
4- مشروعية استعارة الحلي للنساء والزينة، وحرمة جحدها وأخذها بالباطل.
5- وجوب استعمال العقل واستخدام الفكر للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
__________
1 أي: فمثل قذفنا الزينة في النار لصوغها قذف السامري، وقالوا هذا اعتذاراً منهم لموسى عليه السلام.
2 الجسد: الجسم ذو الأعضاء وسواء كان حياً أو ميتا، والتعبير بأخرج الإشارة إلى أن السامري صنع العجل بحيلة مستورة خفية حتى أتمّه ثمّ أظهره أي: أخرجه ظاهراً لنا.
3 إطلاق النسيان على الضلال والغفلة والترك شائع وسائغ في اللغة.(3/371)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
شرح الكلمات:
فتنتم به: أي ابتليتم به أي بالعجل.
لن نبرح عليه عاكفين: أي لن نزال عاكفين على عبادته.
إذ رأيتهم ضلوا: أي بعبادة العجل واتخاذه إلهاً من دون الله تعالى.
لا تأخذ بلحيتي: حيث أخذ موسى من شدة غضبه بلحية أخيه وشعر رأسه يجره إليه يعذله ويلوم عليه.
ولم ترقب قولي: أي ولم تنتظر قولي فيما رأيته في ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى وقومه بعد رجوعه إليهم من المناجاة فقوله تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل} أي من قبل رجوع موسى قال لهم أثناء عبادتهم العجل يا قوم إن العجل ليس إلهكم ولا إله موسى وإنما هو فتنة فتنتم به ليرى الله تعالى صبركم على عبادته ولزوم طاعة رسوله، وليرى خلاف ذلك فيجزى كلاً بما يستحق وقال لهم: {وإن ربكم الرحمن} الذي شاهدتم آثار رحمته في حياتكم كلها فاذكروها(3/372)
{فاتبعون} في عبادة الله وحده وترك عبادة غيره {وأطيعوا أمري1} فإني خليفة موسى الرسول فيكم فأجاب القوم الضالون بما أخبر تعالى عنهم بقوله: {قالوا لن نبرح عليه عاكفين} أي لن نزول عن عبادته والعكوف حوله {حتى يرجع إلينا موسى2} ولما سمع موسى من قومه ما سمع التفت إلى هارون قائلاً معاتباً عاذلاً لائماً {يا هرون ما منعك3 إذ رأيتهم ضلوا} أي بعبادة العجل {ألا تتبعني} أي بمن معك من المسلمين وتترك المشركين، {أفعصيت4 أمري} ، ومن شدة الوجد وقوة اللوم والعذل أخذ بشعر رأس أخيه بيمينه وأخذ بلحيته بيساره وجره إليه وهو يعاتبه ويلوم عليه فقال هارون: {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} إن لي عذراً في عدم متابعتك وهو إني خشيت إن أنا أتيتك ببعض قومك وهم المسلمون وتركت بعضاً آخر وهم عباد العجل {أن تقول فرقت بين بني إسرائيل} وذلك لا يرضيك. {ولم ترقب قولي} أي ولم تنظر قولي فيما رأيت قي ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- معصية الرسول تؤدي إلى فتنة العاص في دينه ودنياه.
2- جواز العذل والعتاب للحبيب عند تقصيره فيما عهد به إليه.
3- جواز الاعتذار لمن اتهم بالتقصير وان حقا.
4- قد يخطىء المجتهد في اجتهاده وقد يصيب.
__________
1 أي: لا أمر السامر أو: فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل فعصوه.
2 روي أنّه لما قالوا هذه المقالة اعتزلهم هارون في اثنى عشر ألفاً من الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال: هذا صوت الفتنة فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وقال: يا هارون ... الآية.
3 الاستفهام إنكاري إذ أنكر عليه عدم متابعته لما شاهد القوم يعبدون العجل إذ كان المفروض أن يتركهم ويلحق بموسى يخبره.
4 أمره هو قوله له عند مغادرة بني إسرائيل إلى جبل الطور، {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره وهذا دليل على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لاسيما إذا كان راضياً حكمه كحكمهم، وفي هذه الآية دليل على بدعة الصوفية بدعة الرقص والتواجد، وأنها موروثة عن هؤلاء السامريين عَبَدة العجل والعياذ بالله تعالى.(3/373)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
شرح الكلمات:
فما خطبك: أي ما شأنك وما هذا الأمر العظيم الذي صدر منك.
بصرت بما لم يبصروا به: أي علمت من طريق الإبصار والنظر ما لم يعلموا به لأنهم لم يروه.
قبضة من أثر الرسول: أي قبضت قبضة من تراب أثر حافر فرس الرسول جبريل عليه السلام.
فنبذتها: أي ألقيتها وطرحتها على الحلى المصنوع عجلاً.
سولت لي نفسي: أي زينت لي هذا العمل الذي هو صنع العجل.
أن تقول لا مساس: أي اذهب تائها في الأرض طول حياتك وأنت تقول لا مساس أي لا يمسني أحد ولا أمسه لما يحصل من الضرر العظيم لمن تمسه أو يمسك.
إلهك: أي العجل.
ظلت: أي ظللت طوال الوقت عاكفاً عليه.
في اليم نسفاً: أي في البحر ننسفه بعد إحراقه وجعله كالنشارة نسفاً.
إنما إلهكم الله: أي لا معبود لكم إلاّ الله الذي لا إله إلاّ هو.(3/374)
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار بين موسى وقومه فبعد لومه أخاه وعذله له التفت إلى السامري المنافق إذ هو من عُبَّاد البقر وأظهر الإسلام في بني إسرائيل، ولما اتيحت له الفرصة عاد إلى عبادة البقر فصنع العجل وعبده ودعا إلى عبادته فقال له: في غضب {فما خطبك يا سامري} أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى فعلك القبيح الشنيع هذا فقال السامري كالمعتذر {بصرت بما لم يبصروا به} أي علمت ما لم يعلمه قومك {فقبضت قبضة من أثر} حافر فرس {الرسول1 فنبذتها} في الحلي المصنوع عجلاً فخار كما تخور البقر. {وكذلك سولت لي نفسي} ذلك أي زينته لي وحسنته ففعلته، وهنا أجابه موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به في قوله: {قال فاذهب2 فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس3} أي لك مدة حياتك أن تقول لمن أراد أن يقربك لا مساس أي لا تمسني ولا أمسك لتتيه طول عمرك في البرية مع السباع والحيوان عقوبة لك على جر يمتك، ولا شك أن فراره من الناس وفرار الناس منه لا يكون مجرد أنه لا يرقب في ذلك، بل لعله قيل إنها الحمى فإذا مس أحد حُمَّا معاً أي أصابتهما الحمى معاً كأنه اسلاك كهربائية مكشوفة من مسها تكهرب منها. وقوله له: {وإن لك موعداً لن تخلفه} ، أي ذاك النفي والطرد عذاب الدنيا، وإن لك عذاباً آخر يوم القيامة في موعد لن تخلفه أبداً فهو آت وواقع لا محالة.
وقوله: أي موسى للسامري: {وانظر إلى إلهك} المزعوم {الذي ظلت4 عليه عاكفاً} تعبده لا تفارقه، والله {لنحرقنه ثمّ لننسفنه5 في اليم نسفاً} وفعلاً حرقه ثم جعله كالنشارة
__________
1 الرسول هنا: جبريل عليه السلام قاله جمهور المفسرين، وقالوا: إن السامري فتنه الله تعالى فأراه جبريل راكباً فرساً فوطىء حافر الفرس مكاناً فإذا هو مخضرّ بالنبات، فعلم السامري أن أثر فرس جبريل إذا ألقي على جماد صار حياً، فقبض من تراب وطئه حافر الفرس واحتفظ به إلى اليوم، ولما صنع العجل ألقاه عليه فصار له خوار كالعجل الحيوان.
2 نفاه موسى عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله
ألا لا تريد السامري مِساسا
هذه المسألة أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألاّ يخالطوا وقد فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بالذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
(لا مساس) : المساس مصدر ماسه يماسه ومساسا. ولا: نافية للجنس ومساس: اسمها مبني على الفتح.
4 ظلت: أي: دمت وأقمت عليه عاكفاً أي: ملازماً وأصل ظلت: ظللت قال الشاعر:
خلا أنّ العتاق من المطايا
أحَسْن به فهن إليه شوس
فأحسن أصله: أحسسن حذفت إحدى السينين كما حذفت إحدى اللامين.
5 النسف: نقض الشيء ليذهب به الريح، وهو: التذرية، والمنسف آلة ينسف بها الشيء، والنسافة: ما يسقط منه.(3/375)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
وذره في البحر تذرية حتى لا يعثر له على أثر، ثم قال لأولئك الذين عبدوا العجل المغرر بهم المضللين: {إنما إلهكم} الحق الذي تجب له العبادة والطاعة {الله الذي لا إله إلاّ هو1 وسع كل شيء علماً} أي وسع علمه كل شيء فهو عليم بكل شيء وقديرعلى كل شيء وما عداه فليس له ذلك وما لم يكن ذا قدرة على شيء وعلم بكل شيء فكيف يُعبد ويُطاع..؟!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاستنطاق للمتهم والاستجواب له.
2- ما سولت النفس لأحد ولا زينت له شيئا إلاّ تورط فيه إن هو عمل بما سولته له.
3- قد يجمع الله تعالى للعبد ذي الذنب العظيم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
4- مشروعية هجران المبتدع ونفيه وطرده فلا يسمح لأحد بالاتصال به والقرب منه.
5- كسر الأصنام والأوثان والصور وآلات اللهو والباطل الصارفة عن عباد الله تعالى.
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (104)
شرح الكلمات:
كذلك: أي كما قصصنا عليك هذه القصة قصة موسى وفرعون وموسى وبني إسرائيل نقص عليك من أبناء الرسل.
من لدنا ذكراً: أي قرآناً وهو القرآن الكريم.
__________
1 لا العجل الذهبي الذي سولت نفس السامري الخبيثة صنعه.(3/376)
من أعرض عنه: أي لم يؤمن به ولم يقرأه ولم يعمل به.
وزراً: أي حملاً ثقيلاً من الآثام.
يوم ينفخ في الصور: أي النفخة الثانية وهي نفخة البعث، والصور هو القرن.
زرقاً: أي عيونهم زرق ووجوههم سود آية أنهم أصحاب الجحيم.
يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم يتسارون بينهم من شدة الهول.
أمثلهم طريقة: أي أعدلهم رأياً في ذلك، وهذا كله لعظم الموقف وشدة الهول والفزع.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث بين موسى وفرعون، وبين موسى وبني إسرائيل قال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كذلك نقص1 عليك} أي قصصنا عليك ما قصصنا من نبأ موسى وفرعون وخبر موسى وبني إسرائيل نقص عليك {من أنباء ما قد سبق} أي أحداث الأمم السابقة ليكون ذلك آية نبوتك ووحينا إليك، وعبرة وذكرى للمؤمنين. وقوله تعالى: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً2} أي وتد أعطيناك تفضلا منا ذكرا وهو القرآن العظيم يذكر به العبد ربه ويهتدي به إلى سبيل النجاة والسعادة، وقوله {من أعرض عنه} أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} أي إثماً عظيماً لأنه لم يعمل صالحاً وكل عمله كان سيئاً لكفره وعدم إيمانه، {خالدين فيه} أي في ذلك الوزر في النار، وقوله {وساء لهم يوم القيامة حملاً} أي قبح ذلك الحمل حملاً يوم القيامة إذ صاحبه لا ينجو من العذاب بل يطرح معه في جهنم يخلد فيها وقوله {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين} أي المكذبين بالدين الحق العاملين بالشرك والمعاصي {يومئذ} أي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية {زرقا} 3 أي الأعين مع اسوداد الوجوه وقوله: {يتخافتون بينهم} أي يتهامسون بينهم يسأل بعضهم بعضاً كم لبثتم في الدنيا وفي القبور فيقول البعض: {إن لبثتم4 إلاّ عشراً} أي ما لبثتم إلاّ
__________
1 الكاف من كذلك في محل نصب لأنها بمعنى مثل: نعت لمصدر محذوف تقديره: نقص عليك قصصا من أنباء ما قد سبق مثل ما قصصنا عليك هذا القصص.
2 ويطلق الذكر على الشرف أيضاً، وعلى ما يذكر به الله تعالى من قول والمراد به هنا القرآن الكريم.
3 الزّرَق: خلاف الكَحَل، والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه وسبب هذه الزرقة هو شدة العطش.
4 أي: في الدنيا أو في القبور.(3/377)
عشر ليال، وقوله تعالى: {نحن أعلم1 بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة} أي أعد لهم رأياً {إن لبثتم إلاّ يوماً} ، وهذا التقال للزمن الطويل سببه هول القيامة وعظم ما يشاهدون فيها من ألوان الفزع والعذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص تعالى عليه أنباء ما قد سبق بعد قصه عليه أنباء موسى وفرعون بالحق، وإيتائه القرآن الكريم.
2- كون القرآن ذكراً للذاكرين لما يحمل من الحجج والدلائل والبراهين.
3- سوء حال المجرمين يوم القيامة، الذين أعرضوا عن القرآن الكريم.
4- عظم أهوال يوم القيامة حتى يتقال معها المرء مدة الحياة الدنيا التي هي آلاف الأعوام.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112)
__________
1 {نحن أعلم بما يقولون} : جملة معترضة قول الأولين: {إن لبثتم إلا عشرا} نظروا فيه إلى أن تغير الأجسام يتم في عشرة أيام، والذي قال يوماً نظر إلى أن الأجسام ما تغيّرت إذ قد أعيدت كما كانت.(3/378)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
شرح الكلمات:
يسألونك عن الجبال: أي المشركون عن الجبال كيف تكون يوم القيامة.
فقل ينسفها ربي نسفاً: أي يفتتها ثم تذروها الرياح فتكون هباء منبثاً.
قاعا صفصفا: أي مستوياً.
عوجا ولا أمتا: أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً.
الداعي.: أي إلى المحشر يدعوهم إليه للعرض على الرب تعالى.
وخشعت الأصوات: أي سكنت فلا يسمع إلاّ الهمس وهو صوت الأقدام الخفي.
ورضي له قولا: بأن قال لا إله إلاّ الله من قلبه صادقاً.
ولا يحيطون به علما: الله تعالى ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهم لا يحيطون به علما.
وعنت الوجوه للحي القيوم: أي ذلت وخضعت للرب الحي الذي لا يموت.
من حمل ظلما: أي جاء يوم القيامة يحمل أوزار الظلم وهو الشرك.
ظلما ولا هضما: أي لا يخاف ظلما بأن يزاد في سيئاته ولا هضما بأن ينقص من حسناته.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله: {ويسألونك} أي المشركين من قومك المكذبين بالبعث والجزاء {عن الجبال} عن مصيرها يوم القيامة فقل1 له: {ينسفها ربي نسفاً2 فيذرها3 قاعا صفصفاً لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً} 4 أي أجبهم بأن الله تعالى يفتتها ثم ينسفها فتكون هباء منبثاً، فيترك أماكنها قاعاً صفصفاً أي أرضاً مستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً أي لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً. وقوله
__________
1 قال القرطبي كل سؤال في القرآن أجيب بقل إلاّ هذا فبـ: فقل لأن المعنى إن سألوك فقل فتضمن الكلام معنى الشرط، وهو يقترن بالفاء دائماً.
2 قال ابن الأعرابي وغيره يقلعها قلعاً من أصولها ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا أو هكذا ثم كالهباء المنثور.
(فيذرها) : أي: يذر مواضعها قاعاً صفصفاً، القاع: الأرض الملساء لا نبات فيها، ولا بناء عليها وهي مستو، وجمع القاع: أقواع وقيعان.
4 الأمت: المكان المرتفع كالنبك، وهو التل الصغير، والعوج: الوهدة وهي الانخفاض كالعوج في الشيء أي: ليس في الأرض انخفاض ولا ارتفاع بل هي مستوية.(3/379)
{يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً} أي يوم تقوم القيامة فيُنشرون يدعوهم الداعي هلموا إلى أرض المحشر فلا يميلون عن صوته يمنةً ولا يُسرة وهو معنى لا عوج له. وقوله تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن} أي ذلت وسكنت {فلا تسمع إلاّ همساً} وهو صوت خفي كأصوات خفاف الإبل إذا مشت وقوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة عنده، إلاّ من أذن له الرحمن ورضى له قولاً} أي يُخبر تعالى أنهم يوم جمعهم للمحشر لفصل القضاء لا تنفع شفاعة أحد أحداً إلاّ من أذن له الرحمن في الشفاعة، ورضى له قولاً أي وكان المشفوع فيه من أهل التوحيد أهل لا إله إلاّ الله وقوله {يعلم مابين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون به علماً} أي يعلم ما بين أيدي أهل المحشر أي ما يسيحكم به عليهم من جنة أو نار، وما خلفهم مما تركوه من أعمال في الدنيا، وهم لا يحيطون به عز وجل علماً، فلذا سيكون الجزاء عادلاً رحيماً، وقوله: {وعنت1 الوجوه للحي القيوم2} أي ذلت وخضعت كما يعنو بوجهه الأسير، والحي القيوم هو الله جل جلاله وقوله تعالى: {وقد خاب} أي خسر {من حمل ظلماً} ألا وهو الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} والحال أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والبعث الآخر3 فهذا لا يخاف ظلماً بالزيادة في سيِّئاته، ولا هضما بنقص من حسناته، وهي عدالة الله تعالى تتجلى في موقف الحساب والجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جهل المشركين في سؤالهم عن الجبال.
2- تقرير مبدأ البعث الآخر.
3- لا شفاعة لغير أهل التوحيد فلا يشفع مشرك، ولا يُشفع لمشرك.
4- بيان خيبة المشركين وفوز الموحدين يوم القيامة.
__________
1 ومنه قيل للأسير عانٍ، قال أمية بن الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
2 القيوم: أي: القائم بتدبير الخلق، والقائم على كل نفس بما كسبت.
3 والقدر خيره وشرّه.(3/380)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
شرح الكلمات:
وكذلك أنزلنا: أي مثل ذلك الإنزال أنزلنا قرآناً عربياً أي بلغة العرب ليفهموه.
وصرفنا فيه من الوعيد: أي من أنولع الوعيد، وفنون العذاب الدنيوي والأخروي.
أو يحدث لهم ذكرا: أي بهلاك الأمم السابقة فيتعظون فيتوبون ويسلمون.
فتعالى الله الملك الحق. أي عما يقول المفترون ويشرك المشركون.
ولا تعجل بالقرآن: أي بقرءاته.
من قبل أن يقضى إليك وحيه: أي من قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك.
عهدنا إلى آدم: أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة.
فنسي: أي عهدنا وتركه.
ولم نجد له عزما: أي حزما وصبراً عما نهيناه عنه.
معنى الآيات:
يقول تعالى {وكذلك1 أنزلناه قرآناً عربياً} أي ومثل ما أنزلنا من تلك الآيات المشتملة
__________
1 هذه الجملة معطوفة على جملة: كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق إذ الغرض واحد وهو التنويه بشأن القرآن وتقرير الوحي له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/381)
على الوعد والوعيد أنزلنا القرآن بلغة العرب ليفهموه ويهتدوا به {وصرفنا فيه1 من الوعيد} أي بينا فيه من أنواع الوعيد وكررنا فنون العذاب الدنيوي والأخروى لعل قومك أيها الرسول يتقون ما كان سببا في إهلاك الأمم السابقة وهو الشرك والتكذيب والمعاصي {أو يحدث لهم2 ذكراً} أي يوجد لهم ذكراً في أنفسهم فيتعظون فيتوبون من الشرك والتكذيب للرسول ويطيعون ربهم فيكملون ويسعدون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (113) .
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى {فتعالى الله الملك الحق} فإن الله تعالى يخبر عن علوه عن سائر خلقه وملكه لهم وتصرفه فيهم وقهره لهم، وَمِن ثَمَّ فهو منزَّه عن الشريك والولد وعن كل نقص يصفه به المفترون الكذابون.
وقوله: {ولا تعجل3 بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} يُعلِّم تعالى رسوله كيفية تلقي القرآن عن جبريل عليه السلام فيرشده إلى أنه لا ينبغي أن يستعجل في قراءة الآيات ولا في إملائها على أصحابها ولا في الحكم بها حتى يفرغ جبريل من قراءتها كاملة عليه وبيان مراد الله تعالى منها في إنزالها عليه. وطلب إليه أن يسأله المزيد من العلم بقوله: {وقل رب زدني علما} ، وفيه إشعار بأنّه دائماً في حاجة إلى المزيد، ولذا فلا يستعجل ولكن يتريث ويتمهل، وهذا علماء أمته أحوج إليه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالاستعجال في الفُتيا وفي إصدار الحكم كثيراً ما يخطىء صاحبهما.
وقوله تعالى: {ولقد4 عهدنا إلى آدم من قبل فنسي5 ولم نجد له عزما6} يقول تعالى مخبراً رسوله والمؤمنين ولقد وصينا آدم من قبل هذه الأمم التي أمرناها ونهيناها فلم يطع أكثرها وصيناه بأن لا يطيع عدوه إبليس وأن لا يأكل من الشجرة فترك وصيتنا ناسياً لها غير مبال بها
__________
1 التصريف: التنويع والتفنين، والوعيد هنا للتهديد.
2 لعله يحدث لهم ذكراً: فيه بيان أنهم قبل نزول القرآن وسماعه لم يكونوا يذكرون الله في توحيده ولا في وعده ووعيده ولا في شرعه وأحكامه.
3 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي حرصاً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحفظ وشفقة على القرآن مخافة النسيان فنهاه تعالى عن ذلك فأنزل: {ولا تعجل بالقرآن} وقال الحسن نزلت هذه الآية في رجل لطَم وجه امرأته فجاءت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب القصاص فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها القصاص فنزل: {الرجال قوّامون على النساء} وأبى الله ذلك. ولهذا قال له: {وقل رب زدني علما} وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أن حرصه في حفظ القرآن محمود.
4 قال ابن زيد: نسي ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.
5 العهد المنسي هو ما جاء في قوله تعالى: {فقلنا يا آدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة} من هذه االسورة.
6 فسر العزم بالصبر والثبات أمام الإغراء.(3/382)
وأطاع عدوه وأكل من الشجرة، ولم نجد له عزماً بل ضعف أمام الإغراء والتزيين فلم يحفظ العهد ولم يصبر على الطاعة، فكيف إذاً بغير آدم من سائر ذرياته فلذا ينبغي أن لا تأسى ولا تحزن على عدم إيمان قوعك بك واستجابتهم لدعوتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة من إنزال القرآن باللسان العربي وتصريف الوعيد فيه.
2- إثبات علو الله تعالى وقهره لعباده وملكه لهم وتنزهه عن الولد والشريك وكل نقص يصفه به المبطلون.
3- استحباب التريث والتأني في قراءة القرآن وتفسيره وإصدار الحكم والفتيا منه.
4- الترغيب في طلب العلم والمزيد من التحصيل العلمي وإشعار النفس بالجهل والحاجة إلى العلم.
5- التسلية بنسيان آدم وضعف قلبه أمام الإغراء الشيطاني.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)(3/383)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
شرح الكلمات:
وإذ قلنا للملائكة: أي اذكر قولنا للعظة والاعتبار.
إلاّ إبليس أبى: أي امتنع من السجود لكبر في نفسه إذ هو ليس من الملائكة وإنما هو أبو الجان كان مع الملائكة يعبد الله معهم.
عدو لك ولزوجك: أي حواء ومعنى عدو أنه لا يحب لكما الخير بل يريد لكما الشر.
فتشقى: أي بالعمل في الأرض إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى تتغذى.
لا تظمأ فيها ولا تضحى: أي لا تعطش ولا يصيبك حر شمس الضحى المؤلم في الأرض.
شجرة الخلد: أي التي يخلد من أكل منها.
وملك لا يبلى: أي لا يفنى ولا يبيد ولازم ذلك الخلود.
فبدت لهما سوءاتهما: أي ظهر لكل منهما قُبُلَ صاحبه ودُبُرَهُ فاستاءا لذلك.
وطفقا يخصفان: أي أخذا وجعلا يلزقان ورق الشجر عليهما ستراً لسوءاتهما.
فغوى: أي بالأكل من الشجرة المنهي عنها.
فاجتباه ربه فتاب عليه: أي اختاره لولايته فهداه للتوبة فتاب ليكون عبداً صالحاً.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ضعف آدم عليه السلام حيث عهد الله إليه بعدم طاعة إبليس حتى لا يخرجه هو وزوجه من الجنة، وأن آدم نسي العهد فأكل من الشجرة ناسب ذكر قصة آدم بتمامها ليكون هو عظة للمتقين وهدى للمؤمنين فقال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وسجودهم عبادة لله تعالى وتحية لآدم لشرفه وعلمه. فامتثلت الملائكة أمر الله {فسجدوا} كلهم أجمعون {إلاّ إبليس أبى} أن يسجد لما داخله من الكبر ولأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن إلاّ أنه كان يتعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (116) .
وقوله تعالى {فقلنا يا آدم} أي بعد أن تكبرّ إبليس عن السجود لآدم نصحنا آدم وقلنا له {إن هذا} أي إبليس {عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أي فلا تطيعانه(3/384)
فإن1 طاعته تكون سبب إخراجكما من الجنة ومتى خرجتما منها شقيتما، ووجه الخطاب إلى آدم في قوله تعالى: فتشقى لأن المراد من الشقاء هنا العمل كالزرع والحصاد وغيرهما مما هو ضروري للعيش خارج الجنة والزوج هو المسئول عن إعاشة2 زوجته فهو الذي يشقى دونها، وقوله تعالى لآدم {إن لك ألا تجوع فيها} أي في الجنة {ولا تعرى} ، {وإنك لا تضمأ فيها} أي لا تعطش {ولا تضحى3} أي لا تتعرض لحر شمس ضحى كما هي في الأرض والخطاب وإن كان لآدم فحواء تابعة له بحكم رئاسة الزوج على زوجته، ومن الأدب خطاب الرجل دون امرأته إذ هي تابعة له وقوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان} أي ناداه من طريق الوسوسة. {يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد4 وملك لا يبلى} فقبل منه ذلك آدم واستجاب لوسوسته فأكلت حواء أولاً ثم أكل آدم وهو قوله تعالى {فأكلا منها} فترتب على ذلك انكشاف سوءاتهما لهما بذهاب النور الساتر لهما بسبب المعصية لله تعالى وقوله تعالى {فطفقا يخصفان عليهما} من ورق الشجر أي فأخذا يشدان ورق الشجر على عوراتهما ستراً لهما لأن منظر العورة يسوء الآدمي ولذلك سميت العورة سوءة وهكذا عصى آدم ربه باستجابته لوسواس عدوه وأكله من الشجرة، فبذلك5 غوى، إلا أن ربه تعالى اجتباه أي نبياً وقربه ولياً {فتاب6 عليه وهدى} وهداه للعمل بطاعته ليكون من جملة أصفيائه وصالح عباده. والحمد لله ذي الإنعام والإفضال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر مثل هذا القصص الذي لا يعلم إلاّ بالوحي الإلهي.
__________
1 هذا مبدأ: أنّ نفقة الزوجة على زوجها. وأن النفقة الواجبة محصورة في الطعام والشراب والكسوة والسكن.
2 قال الحسن: المراد بالشقاء: شقاء الدنيا لا يرى ابن آدم فيها إلاّ ناصبا.
3 يقال: ضحيت للشمس ضحاءً: برزت، وضحَيت بفتح الحاء مثله والمضارع أضحى، والأمر إضح، ومنه قول عمر في عرفة لرجل لازم الخيمة إضحَ لمن جئت له.
4 روى أبو داود واحمد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد".
5 كان هذا قبل النبوة، ومن أذنب مرّة واحدة لا يقال له مذنب ولا غاو ولاسيما بعد التوبة.
6 ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حاجّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحجّ آدم موسى".(3/385)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
2- تقرير عداوة إبليس لبني آدم.
3- بيان أن الجنة لا نصب فيها ولا تعب، وإنما ذلك في الأرض.
4- التحذير من أخطار الاستجابة لوسوسة إبليس فإنها تُرْدى صاحبها.
5- ضعف المرأة وقلة عزمها فقد أكلت قبل آدم فسهلت عليه المعصية.
6- كون المرأة تابعة للرجل وليس لها أن تستقل بحال من الأحوال.
7- حرمة كشف العورات ووجوب سترها.
8- إثبات نبوة آدم وتوبة الله عليه وقبولها منه وهدايته إلى العمل بمحابه وترك مكارهه.
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
شرح الكلمات:
قال اهبطا منها جميعاً: أي آدم وحواء من الجنة وإبليس سبق أن أبلس وهبط.
بعضكم لبعض عدو: أي آدم وحواء وذريتهما عدو لإبليس وذريته، وإبليس وذريته عدو لآدم وحواء وذريتهما.
فإما يأتينكم مني هدى: أي فإن يأتيكم مني هدى وهو كتاب ورسول.
فمن اتبع هداي: أي الذي أرسلت به رسولي وهو القرآن.(3/386)
فلا يضل: أي في الدنيا.
ولا يشقى: في الآخرة.
ومن أعرض عن ذكري: أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه.
معيشة ضنكاً: أي ضيّقة تضيق بها نفسه ور يسعد بها ولو كانت واسعة.
أعمى: أي أعمى البصر لا يبصر.
وقد كنت بصيراً: أي ذا بصر في الدنيا وعند البعث.
قال كذلك: أي الأمر كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكما نسيتها تنسى في جهنم.
وكذلك نجزي من أسرف: أي وكذلك الجزاء الذي جازينا به من نسي آياتنا نجزي من أسرف في المعاصي ولم يقف عند حد، ولم يؤمن بآيات ربه سبحانه وتعالى.
أشد وأبقى: أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم فلا ينقضي ولا ينتهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة آدم إنه لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وعاتبهما ربهما بقوله في آية غير هذه {ألم أنهكما1 عن تلكم الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} وأنزل على آدم كلمة التوبة2 فقالها مع زوجه فتاب الله عليهما لما تم كل ذلك قال {اهبطا3 منها} أي من الجنة {جميعاً} إذ إبليس العدو قد اُبْلِس من قبل وطُرد من الجنة فهبطوا جميعاً. وقوله: {فإمّا يأتينكم مني هدىً} أي بيان عبادتي تحمله كتبي وتبينه رسلي، {فمن اتبع هداي} فآمن به وعمل بما فيه {فلا يضل} في حياته {ولا يشقى4} في آخرته
__________
1 هي قوله تعالى: {قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} من سورة الأعراف وأخبر تعالى عنها في سورة البقرة في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} .
2 الآية من سورة الأعراف.
3 الخطاب لآدم وإبليس وحواء تابعة لزوجها بقرينة: {بعضكم لبعض عدو} .
4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وتلا هذه الآية.(3/387)
{ومن أعرض عن ذكري} أي فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فإن له} أي جزاءً منا له {معيشة ضنكاً1} أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وإن اتسع رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له ولا بصر يبصر به. وقد يعجب لحاله ويسأل ربه {لم حشرتني أعمى وقد كنت} في الدنيا وفي البعث {بصيرا} فيجيبه ربه تعالى بقوله: {كذلك} أي الأمر كذلك كنت بصيراً وأصبحت أعمى لأنك {أتتك آياتنا} تحملها كتبنا وتبينها رسلنا {فنسيتها} أي تركتها ولم تلتفت إليها معرضاً عنها فاليوم تترك في جهنم منسياً كذلك وقوله تعالى في الآية الآخرة (127) {وكذلك نجزي من أسرف} في معاصينا فلم يقف عند حد ولم يؤمن بآيات ربه فنجعل له معيشة ضنكاً في حياته الدنيا وفي البرزخ {ولعذاب الآخرة أشد} 2 من عذاب الدنيا {وأبقى} أي أدوم حيث لا ينقضي ولا ينتهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
2- عِدَة الله تعالى لمن آمن بالقرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في حياته ولا يشقى في آخرته.
3- بيان جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة.
4- التنديد بالإسراف في الذنوب والمعاصي مع الكفر بآيات الله، وبيان جزاء ذلك.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلا
__________
1 {ضنكا} أي: ضيّقا، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، يستوي في الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال عنترة.
إن يُلحقوا أكرر وإن يستلحموا
أشدد وإن يُلفوا بضنك أنزل
2 أي: من المعيشة الضنك.(3/388)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
شرح الكلمات:
أفلم يهد لهم: أي أفلم يُبَيَّنْ لهم.
من القرون: أي من أهل القرون.
لآيات لأولى النهى: أي أصحاب العقول الراجحة إذ النهية العقل.
ولولا كلمة سبقت: أي بتأخير العذاب عنهم.
لكان لزاماً: أي العذاب لازماً لا يتأخر عنهم بحال.
ما يقولون: من كلمات الكفر، ومن مطالبتهم بالآيات.
ومن آناء الليل: أي ساعات الليل واحدها إِنْيٌ أو إِنْوٌ.
لعلك ترضى: أي رجاء أن تثاب الثواب الحسن الذي ترضى به.
إلى ما متعنا به أزواجا منهم: أي رجالاً منهم1 من الكافرين.
زهرة الحياة الدنيا: أي زينة الحياة الدنيا وقيل فيها زهرة لأنها سرعان ما تذبل وتذوى.
لنفتنهم فيه: أي لنبتليهم في ذلك أيشكرون أم يكفرون.
والعاقبة للتقوى: العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
معنى الآيات:
بعد ذكر قصة آدم عليه السلام وما تضمنته من هداية الآيات قال تعالى {أفلم يهد} لأهل مكة المكذبين المشركين أي أَغَفَلوا فلم يهد لهم أي يتبين {كم أهلكنا قبلهم من القرون} أي إهلاكنا للعديد من أهل القرون الذين هم يمشون في مساكنهم ذاهبين جائين
__________
1 أزواجاً: رجالاً ونساءً لأنّ الرجل زوج والمرأة زوج والتعبير بلفظ أزواج لأجل الدلالة على العائلات والبيوت أي: إلى ما متّعناهم به من مال وبنين.(3/389)
كثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات أهلكناهم بكفرهم ومعاصيهم فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا. وقوله تعالى: {إن في ذلك} المذكور من الإهلاك للقرون الأولى {لآيات} أي دلائل واضحة على وجوب الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما، {لأولى النهى} أي لأصحاب العقول أما الذين لا عقول لهم لأنهم عطلوها فلم يفكروا بها فلا يكون في ذلك آيات لهم. وقوله تعالى {ولولا كلمة سبقت1 من ربك} بأن لا تموت نفس حتى تستوفي أجلها، وأجل مسمن عند الله في كتاب المقادير لا يتبدل ولا يتغير لكان عذابهم لازماً لهم لما هم عليه من الكفر والشرك والعصيان. وعليه {فاصبر} يا رسولنا {على ما يقولون} من أنك ساحر وشاعر وكاذب وكاهن من كلمات الكفر، واستعن على ذلك بالصلاة ذات الذكر والتسبيح {قبل طلوع الشمس} وهو صلاة الصبح {وقبل غروبها} وهو صلاة العصر {ومن آناء الليل} أي ساعات الليل وهما صلاتا المغرب والعشاء، {وأطراف النهار} وهو صلاة الظهر لأنها تقع بين طرفي النهار أي نصفه الأول ونصفه الثاني2 وذلك عند زوال الشمس، لعلك بذلك ترضى بثواب الله تعالى لك.
وقوله تعالى {ولا تمدن عينيك} أي لا تتطلع ناظراً {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أشكالاً في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم {زهرة3 الحياة الدنيا} أي من زينة الحياة الدنيا {لنفتنهم فيه} أي لنختبرهم في ذلك الذي متعناهم به من زينة الحياة الدنيا وقوله تعالى: {ورزق ربك} أي ما لك عند الله من أجز ومثوبة خير وأبقي4 خيراً في نوعه وأبقى في مدته، واختيار الباقي على الفاني مطلب العقلاء.
وقوله تعالى: {وأمر أهلك5 بالصلاة واصطبر عليها} أي من أزواجك وبناتك وأتباعك
__________
1 فيه تقديم وتأخير، الأصل: ولولا كلمة سبقت وأجل مسبق لكان لزاماً. أي لكان العذاب لازماً لهم.
2 العتمة. واحد الأناء: أنيٌ وإنى وأنى.
3 قال مجاهد: الأغنياء منهم، وبهذا يشمل النساء والرجال إذ كل منهما زوج فرجح هذا أنّ أزواجاً: مفعول به، ولا يتنافى هذا مع ما في التفسير لأن قولنا: أشكالاً في عقولهم وأخلاقهم وسلوكهم يعني: منطقاً الرجال الأزواج.
4 {زهرة} منصوب على الحال من الموصول. والزهرة: واحدة الزهور وهو نور الشجر والمراد هنا: الزينة المعجبة المبهرة في النساء والبنين والأنعام والبساتين والجنان.
5 الخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع أمّته تابعة له في ذلك فكلّ مؤمن يجب عليه أن يقيم الصلاة وأن يأمر أهله بذلك ويصبر. روي أنه لما نزلت هذه الآية كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يذهب إلى بنته فاطمة كل صباح وقت الصلاة" وكان عمر رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية: وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ: {ولا تمدّن عينك..} الآية.(3/390)
المؤمنين بالصلاة ففيها الملاذ وفيها الشفاء من آلام الحاجة والخصاصية واصطبر عليها واحمل نفسك على الصبر على إقامتها. وقوله {لا نسألك رزقاً} أي لا نكلفك مالاً تَعْطِيناه ولكن تكلف صلاة فأدها على أكمل وجوهها. {نحن نرزقك} أي رزقك علينا، {والعاقبة للتقوى} أي العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى من عبادنا وهم الذين يخشوننا فيؤدون ما أوجبنا عليهم ويجتنبون ما حرمنا عليهم رهبة منا ورغبة فينا. هؤلاء لهم أحسن العواقب ينتهون إليها نصر في الدنيا وسعادة في الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ العاقل من اعتبر بغيره.
2- بيان فضيلة العقل وشرف صاحبه وانتفاعه به.
3- وجوب الصبر على دعوة الله والاستعانة على ذلك بالصلاة.
4- بيان أوقات الصلوات الخمس والحصول على رضى النفس بثوابها.
5- وجوب عدم تعلق النفس بما عند أهل الكفر من مال ومتاع لأنهم ممتحنون به.
6- وجوب الرضا بما قسم الله للعبد من رزق انتظاراً لرزق الآخرة الخالد الباقي.
7- وجوب الأمر بالصلاة بين الأهل والأولاد والمسلمين والصبر على ذلك.
8- فضل التقوى وكرامة أصحابها وفوزهم بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
9- إقام الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله تعالى به أسباب الرزق، وتوسعته عليهم.
وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)(3/391)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
شرح الكلمات:
لولا1: أي هَلاَّ فهي أداة تحضيض وحث على وقوع ما يذكر بعدها.
بآية من ربه: أي معجزة تدل على صدقه في نبوته ورسالته.
بينة ما في الصحف الأولى: أي المشتمل عليها القرآن العظيم من أنباء الأمم الماضية وهلاكهم بتكذيبهم لرسلهم.
من قبله: من قبل إرسالنا رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنزالنا كتابنا القرآن.
من قبل أن نذل ونخزى: أي من قبل أن يصيبنا الذل والخزي يوم القيامة في جهنم.
متربص: أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
فستعلمون: أي يوم القيامة.
الصراط السوي: أي الدين الصحيح وهو الإسلام.
ومن اهتدى: أي ممن ضل نحن أم أنتم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين طلباً لهدايتهم فقال تعالى مخبراً عن أولئك المشركين الذين متع الله رجالاً منهم بزهرة الحياة الدنيا أنهم أصروا على الشرك والتكذيب {وقالوا لولا2 يأتينا بآية} أي هلا يأتينا محمد بمعجزة كالتي أتى بها صالح وموسى وعيسى بن مريم تدل على صدقه في نبوته ورسالته إلينا. فقال تعالى راداً عليهم قولتهم الباطلة: {أو لم تأتهم بَيّنة ما في3 الصحف الأولى؟} أيطالبون بالآيات وقد جاءتهم بينة ما في الصحف الأولى بواسطة القرآن الكريم فعرفوا ما حل بالأمم التي طالبت بالآيات ولما جاءتهم الآيات كذبوا بها فأهلكهم الله. بتكذيبهم4 فما يؤمن هؤلاء المشركين المطالبين بالآيات أنها لو جاءتهم ما آمنوا بها فأهلكوا كما
__________
1 لولا: أداة تحضيض وجملة: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} حالية أي: قالوا ذلك، والحال أنها أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى، فالاستفهام إنكاري، والبينة: الحجة، والصحف. كتب الأنبياء السابقين كقوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} .
2 أي: لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري أو بآية ظاهرة كناقة صالح وعصا موسى أو هلاّ يأتينا بالآيات التي نقترحها كتحويل جبال مكة.
3 هذه البيّنة هي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتابه القرآن الكريم، محمد أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد جاء بما لم يأت به غيره من العلوم والمعارف والقرآن الكريم حوى علوم الأولين وقصصهم، وكل علم نافع في الحياتين فأيّة آية أعظم من هذه الآية، كما قال تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك كتاباً يتلى عليهم} ؟!
4 قال القرطبي: فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم كحال أولئك.(3/392)
أهلك المكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية (134) {ولو أنا أهلكناهم1 بعذاب من قبله} أي من قبل إرسالنا محمد وإنزالنا الكتاب عليه لقالوا للرب تعالى إذا وقفوا بين يديه: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك} فيما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان والعمل الصالح وذلك من قبل أن نذل هذا الذل ونخزى هذا الخزي في نار جهنم. فإن كان هذا قولهم لا محالة فلم لا يؤمنون ويتبعون آيات الله فيعملون بما جاء فيها من الهدى قبل حلول العذاب بهم؟ وفي الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله بعد هذا الإرشاد الذي أرشدهم إليه {قل كل متربص2} أي كل منا متربص أي منتظر ما يؤول إليه الأمر {فتربصوا} ، فسيعلمون في نهاية الأمر وعندما توقفون في عرصات القيامة {من} هم {أصحاب الصراط السوي3} الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام الدين الحق، {ومن اهتدى} إلى سبيل النجاة والسعادة ممن ضل ذلك فخسر وهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المطالبة بالآيات سنة متبعة للأمم والشعوب عندما تعرض عن الحق وتتنكر للعقل وهدايته.
2- الذلة والخزي تصيب أهل النار يوم القيامة لما فرطوا فيه من الإيمان والعمل الصالح.
3- في الآية إشادة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "يحتج به على الله يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير، فيقول المغلوب على عقله لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الهالك في الفترة لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك إليك، وقرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لولا أرسلت إلينا رسولاً} ويقول الصبي الصغير كنت صغيراً لا أعقل. قال فترفع لهم نار ويقال لهم: رِدُوها قال فَيَرِدُها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي فيقول إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم". رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} .
__________
1 هذه الآية دليل على أن الإيمان بوحدانية الله تعالى مما يقتضيه العقل وتوجبه الفطرة لولا حجب الضلالات وإغواء الشياطين للناس.
2 هذا جواب عن قولهم: {لولا يأتينا بآية من ربّه} وما بينهما اعتراض والتربّص: الانتظار.
3 بمعنى المُسْتَوي وهو مأخوذ من التسوية.(3/393)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
الجزء السابع عشر
سورة الأنبياء
مكية
وآياتها مائة واثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
شرح الكلمات:
اقترب1 للناس حسابهم: أي قرب زمن حسابهم وهو يوم القيامة.
وهم في غفلة: أي عما هم صائرون إليه
معرضون: أي عن التأهب ليوم الحساب بصالح الأعمال بعد ترك
__________
1 قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادي: يريد من أوّل ما حفظ كالمال التليد.(3/394)
الشرك والمعاصي.
من ذكر من ربهم محدث: أي من قرآن نازل من ربهم محدث جديد النزول.
وهم يلعبون: أي ساخرين مستهزئين.
لاهية قلوبهم: مشغولة عنه بما لا يغني من الباطل والشر والفساد.
واسروا النجوى.: أي أخفوا مناجاتهم بينهم.
أضغاث أحلام: أي أخلاط رآها في المنام.
بل افتراه: أي اختلقه وكذبه ولم يوح إليه.
أفهم يؤمنون: أي لا يؤمنون فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات:
يخبر تعالى فيقول وقوله الحق: {اقترب للناس1 حسابهم} أي دنا وقرب وقت حسابهم على أعمالهم خيرها وشرها {وهم في2 غفلة} عما ينتظرهم من حساب وجزاء {معرضون} عما يدعون إليه من التأهب ليوم الحساب بترك الشرك والمعاصي والتزود بالإيمان وصالح الأعمال. وقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر3 من ربهم محدث4} أي ما ينزل الله من قرآن يعظهم به ويذكرهم بما فيه {إلا استمعوه وهم يلعبون} أي استعموه وهم هازئون ساخرون لاعبون غير متدبرين له ولا متفكرين فيه. وقوله تعالى: {لاهية قلوبهم} أي مشغولة عنه منصرفة عما تحمل الآيات المحدثة النزول من هدى ونور، {وأسروا النجوى الذين ظلموا5} وهم المشركون قالوا في تناجيهم بينهم: {هل هذا إلا بشر مثلكم} أي ما محمد إلا إنسان مثلكم فكيف تؤمنون به وتتابعونه على ما جاء. به،
__________
1 لفظ الناس: عام وإن أريد به أهل مكة بدليل السياق في الآيات بعد.
2 الجملة حالية أي: اقترب للناس حسابهم والحال أنّهم في غفلة معرضون.
3 محدث: أي: في نزوله وقراءة جبريل له على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان ينزل آية آية وسورة سورة وجائز أن يكون الذكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقرينة الآيات كقوله: {هل هذا إلا بشر مثلكم} وقوله: {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولاً..} فرسول بدلا، ق قوله: (ذكرا) وقوله (إلا استمعوه) ي: الرسول وهم يلعبون. قاله الحسن بن الفضل.
4 لاهية: ساهية معرضة عن ذكر الله تعالى. يقال: لهيت عن الشيء إذا تركته وسهرت عنه، وهو نعت تقدّم عن الاسم فنصب على الحال نحو: (خاشعة أبصارهم) ، (ودانية عليهم ظلالها) وكقول كثير عزّة:
لعزة موحشا طلل
يلوح كأنه خِلَلُ
5 {الذين ظلموا} بدل من واو الجماعة في: {وأسروا النجوى} .(3/395)
إنه ما هو إلا ساحر {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} مالكم أين ذهبت عقولكم؟ قال تعالى لرسوله: {قل ربي1 يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع ... } لأقوال عباده {العليم} بأعمالهم فهو تعالى سميع لما تقولون من الكذب عليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه.
وقوله تعالى: {بل قالوا} أي أولئك المتناجون الظالمون {أضغاث أحلام} أي قالوا في القرآن يأتيهم من ربهم محدث لهم؛ ليهتدوا به قالوا فيه أضغاث أي أخلاط رؤيا منامية وليس بكلام الله ووحيه، {بل افتراه} انتقلوا من قول إلى آخر لحيرتهم {بل هو شاعر} أي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يقوله ليس من جنس الشعر الذي هو ذكر أشياء لا واقع لها ولا حقيقة. وقوله تعالى عنه: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} أي إن كان رسولاً كما يدعي وليس بشاعر ولا ساحر فليأتنا بآية أي معجزة كآية صالح أو موسى أو عيسى كما أرسل بها الأنبياء الأولون. قال تعالى: {ما آمنت قبلهم من2 قرية} أي أهل قرية {أهلكناها} بالعذاب لما جاءتها الآية فكذبت أفهم3 يؤمنون أي لا يؤمنون إذ شأنهم شأن غيرهم، فلذا لا معنى لإعطائهم الآية من أجل الإيمان ونحن نعلم أنهم لا يؤمنون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قرب الساعة.
2- بيان ما كان عليه المشركون من غفلة ولهو وإعراض، والناس اليوم أكثر منهم في ذلك.
3- بيان حيرة المشركين إزاء الوحي الإلهي والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- المعجزات لم تكن يوماً سبباً في هداية الناس بل كانت سبب إهلاكهم إذ هذا طبع الإنسان إذا لم يرد الإيمان والهداية فإنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
__________
1 قرأ نافع والجمهور: {قل ربي} بصيغة الأمر، وقرأ حفص ومن وافقه (قال) بصيغة الماضي.
2 {من} : زائدة لتقوية الكلام وتوكيد النفي المستفاد من حرف (ما) .
3 الاستفهام للإنكار أي: إنكار إيمانهم لو جاءتهم الآية أي: فهم لا يؤمنون.(3/396)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
شرح الكلمات:
قبلك: يا محمد.
أهل الذكر: أي الكتاب الأول وهم أهل الكتاب.
جسداً: أي أجساداً آدمية.
الوعد: أي الذي واعدناهم.
المسرفين: أي في الظلم والشرك والمعاصي.
كتاباً: هو القرآن العظيم.
فيه ذكركم: أي ما تذكرون به ربكم وما تذكرون به من الشرف بين الناس.
معنى الآيات:
كانت مطالب قريش من اعتراضاتهم تدور حَوْلَ لِمَ يكون الرسول بشراً، ولِمَ يكون رسولاً ويأكل الطعام لم لا يكون له كنز أو جنة يأكل منها، لم لا يأتينا بآية كما أرسل بها الأولون، وهكذا. قال قتادة قال أهل مكة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وإذا كان ما تقوله حقاً ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا "أي ينزل بهم العذاب فوراً" وإن شئت استأنيت بقومك، قال بل استأني بقومي فأنزل الله {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} .(3/397)
وقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك1} يا رسولنا {إلا رجالاً نوحي} ما نريد إبلاغه عبادنا من أمرنا ونهينا. {فاسألوا أهل الذكر2 إن كنتم لا تعلمون} أي فليسأل قومك أهل الكتاب من قبلهم وهم أحبار اليهود ورهبان النصارى إن كانوا لا يعلمون فإنهم يعلمون أن الرسل من قبلهم لم يكونوا إلا بشراً. وقوله تعالى: {وما جعلناهم} أي الرسل {جسدا3} أي أجساداً ملائكية أو بشرية لا يأكل أصحابها الطعام بل جعلناهم أجساداً آدمية تفتقر في بقاء حياتها إلى الطعام والشراب4 فلم يعترض هؤلاء المشركون على كون الرسول بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ وقوله تعالى: {ثم صدقناهم} أي أولئك الرسل {الوعد} 5 الذي وعدناهم وهو أنا إذا آتينا أقوامهم ما طالبوا به من المعجزات ثم كذبوا ولم يؤمنوا أهلكناهم {فأنجيناهم ومن نشاء} أي أنجينا رسلنا ومن آمن بهم واتبعهم، وأهلكنا المكذبين المسرفين في الكفر والعناد والشرك والشر والباطل.
وقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون؟} يقول تعالى لأولئك المشركين المطالبين بالآيات التي قد تكون سبب هلاكهم ودمارهم {لقد أنزلنا إليكم} لهدايتكم وإصلاحكم ثم إسعادكم {كتاباً} عظيم الشأن {فيه ذكركم} 6 أي ما تذكرون به وتتعظون فتهتدون إلى سبيل سلامتكم وسعادتكم، فيه ذكركم بين الأمم والشعوب لأنه نزل بلغتكم الناس لكم فيه تبع وهو شرف أي شرف لكم. أتشتطون في المكايدة والعناد فلا تعقلون، ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
__________
1 هذا ردّ على المشركين إذ قالوا: {هل هذا إلا بشر مثلكم} وتأنيس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يضيق بما يقولون.
2 جائز أن يكون أهل الذكر أي: الكتاب الأوّل هم اليهود والنصارى إذ كان أهل مكة يسألون يهود المدينة وجائز أن يكون القرآن وهم المؤمنون ولذا قال عليّ وهو صادق: نحن أهل الذكر. أي: فليناظروا المؤمنين كعلي وأبي بكر الصديق وبلال. وفي الآية دليل على وجوب تقليد العامة العلماء إذ هم أهل الذكر ووجوب العمل بما يفتونهم به ويعلمونهم به.
3 الجسد: الجسم لا حياة فيه كالجثة. وفي العبارة تهكم بالمشركين لسخف عقولهم إذ أنكروا على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل الطعام فقالوا: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} وهل يعقل وجود أجسام بشرية تستغني عن الأكل والشرب؟
4 ولذا هم يموتون ولا يخلدون وهذه حقيقة الآدمي.
5 الوعد: منصوب على نزع الخافض أي: صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم، وهو وعدهم بنصرهم وإهلاك أعدائهم.
6 {فيه ذكركم} : أي: فيه ذكر أمر دينكم وأحكام شرعكم وبيان ما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب وفيه ذكر مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم.(3/398)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرسل لا يكونون إلا بشراً ذكوراً لا إناثاً.
2- تعين سؤال أهل العلم في كل ما لا يعلم إلا من طريقهم، من أمور االدين والآخرة.
3- ذم الإسراف في كل شيء وهو كالغلو في الشرك والظلم.
4- القرآن ذكر يذكر به الله تعالى لما فيه من دلائل التوحيد وموعظة لما فيه من قصص الأولين وشرف أي شرف لمن آمن به وعمل بما فيه من شرائع وآداب وأخلاق.
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
شرح الكلمات:
وكم قصمنا: أي وكثيراً من أهل القرى قصمناهم بإهلاكهم وتفتيت أجسامهم.
كانت ظالمة: أي كان أهلها ظالمين.
يركضون: أي فارين هاربين.
إلى ما أترفتم فيه: أي من وافر الطعام والشراب والمسكن والمركب.
تسألون: أي عن شيء من دنياكم على عادتكم.
تلك دعواهم: أي دعوتهم التي يرددونها وهي: {يا ويلنا إنا كنا ظالمين} .
حصيداً خامدين: أي لم يبق منهم قائم فهم كالزرع المحصود خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أُخمدت.(3/399)
معنى الآيات:
يقول تعالى منذراً قريشاً أن يحل بها ما حل بغيرها ممن أصروا على التكذيب والعناد {وكم قصمنا} أي أهلكنا وأبدنا إبادة كاملة {من قرية1} أي أهل قرية {كانت ظالمة} أي كان أهلها ظالمين بالشرك والمعاصي والمكابرة والعناد، {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} هم خير من أولئك الهالكين. وقوله تعالى: {فلما أحسوا2 بأسنا إذا هم منها يركضون} أي فلما أحسَّ أولئك الظالمون {بأسنا} أي شعروا به وأدركوه بحواسهم بأسماعهم وأبصارهم {إذ هم منها} من تلك القرية يركضون هاربين فراراً من الموت. والملائكة تقول لهم توبيخاً لهم وتقريعاً: لا تركضوا هاربين {وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه} نُعِمْتُم فيه من وافِرِ الطعام والشراب والكساء والمسكن والمركب {لعلكم تسألون} على العادة عن شيء من أموركم وأمور دنياكم3، فكان جوابهم ما أخبر تعالى به عنهم: {قالوا يا ويلنا} أي يا هلاكنا أحضر هذا أو آن حضورك إنا كنا ظالمين أنفسنا بالشرك والمعاصي والتكذيب والعناد. قال تعالى: {فما زالت تلك دعواهم} أي ما زال قولهم {يا ويلنا إنا كنا ظالمين} تلك دعوتهم4 التي يرددونها {حتى جعلناهم حصيداً5 خامدين} أي مُجتثين من أصولهم ساقطين في الأرض خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أُخمدت فلم يبق لها لهيب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالظلم وأعلى درجاته الشرك بالله.
2- جواز الاستهزاء بالمشرك الظالم إذا حل به العذاب تقريعاً له وتوبيخاً.
3- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب لو طلبها الهالكون.
4- شدة الهول ورؤية العذاب قد تفقد صاحبها رشده وصوابه فيهْذِرُ ولا يدري ما يقول.
__________
1 قيل: هذه القرى هي مدائن كانت باليمن، والعموم ظاهر في السياق ولا داعي إلى حصره في مدائن اليمن بل هو شامل عاداً وثمود وأهل مدين والمؤتفكات، والقصم: الكسر يقال: قصم ظهر فلان: إذا كسره.
2 الإحساس: الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.
3 وهذا استهزاء بهم وتهكم وتقريع وتوبيخ لهم.
4 أي: الكلمة التي يكررونها وهي: يا ويلنا إنا كنا ظالمين حتى هلكوا عن آخرهم.
5 الحصد: جزّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد، وشاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود، والخامد الذي لا حراك له من خمدت النار إذا زال لهيبها.(3/400)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
شرح الكلمات:
لاعبين: أي عابثين لا مقصد حَسَن لنا في ذلك.
لهوا: أي زوجة وولداً.
من لدنا. أي من عندنا من الحور العين أو الملائكة.
بل نقذف بالحق: أي نرمي بالحق على الباطل.
فيدمغه: أي يشج رأسه حتى تبلغ الشجة دماغه فيهلك.
فإذا هو زاهق: أي ذاهب مُضْمحِل.
ولكم الويل مما تصفون: أي ولكم العذاب الشديد من أجل وصفكم الكاذب للديان بأن له زوجة وولداً وللرسول بأنه ساحر ومفترٍ.
وله من في السموات والأرض: خلقاً وملكاً وتدبيراً لا شريك له في ذلك.
ولا يستحسرون: أي لا يعيون ولا يتعبون فيتركون التسبيح.
لا يفترون: عن التسبيح لأنه منهم كالنفس منا لا يتعب أحدنا من التنفس ولا يشغله عنه شيء.
معنى الآيات:
كونه تعالى يهلك الأمم الظالمة بالشرك والمعاصي دليل أنه لم يخلق الإنسان والحياة(3/401)
لعباً وعبثاً بل خلق الإنسان وخلق الحياة ليذكر ويشكر فمن أعرض عن ذكره وترك شكره أذاقه بأساءه في الدنيا والآخرة وهذا ما دلت عليه الآية السابقة وقررته الآية وهي قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين1} أي عابثين لا قصد حسن لنا بل خلقناهما بالحق وهو وجوب عبادتنا بالذكر والشكر لنا وقوله تعالى: {لو أردنا2 أن نتخذ لهواً} أي صاحبة أو ولدا كما يقول المبطلون من العرب القائلون بأن الله أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وكما يقول ضُلاّلُ النصارى أن الله اتخذ مريم زوجة فولدت له عيسى الابن، تعالى الله عما يأفكون فرد تعالى هذا الباطل بالمعقول من القول فقال لو أردنا أن نتخذ لهواً نتلهى به من صاحبة وولد لأتخذنا من لدنا من الحور العين والملائكة ولكنا لم نرد ذلك ولا ينبغي لنا إنا نملك كل من في السموات ومن في الأرض عبيداً لنا فكيف يعقل اتخاذ مملوك لنا ولداً ومملوكة زوجة والناس العجزة الفقراء لا يجيزون ذلك فالرجل لا يجعل مملوكته زوجة له ولا عبده ولداً بحال من الأحوال وقوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه3 فإذا هو زاهق} فتلك الأباطيل والترهات تنزل حجج القرآن عليها فتدمغها فإذا هي ذاهبة مضمحلة لا يبقى منها شيء {ولكم الويل} أيها الكاذبون مما تصفون الله بالزوجة والولد والشريك والرسول بالسحر والشعر والكهانة والكذب العذاب لازم لكم من أجل كذبكم وافترائكم على ربكم ورسوله. وقوله تعالى: {وله من في السموات والأرض} برهان آخر على بطلان دعوى أن له تعالى زوجة وولداً فالذي يملك من في السموات ومن في الأرض غنى عن الصاحبة والولد إذ الكل له ملكاً وتصرفاً. وقوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون4} برهان آخر {يسبحون الليل والنهار ولا
__________
1 ينفي تعالى أن يكون خلق السموات والأرض وما بينهما وما في السموات وما في الأرض من عجائب المخلوقات وبدائع الصناعات وما بين السماء والأرض من السحب والأمطار ورياح وأجواء الفضاء ينفي أن يكون هذا الخلق العظيم لعباً: أي: لهواً وعبثاً بل خلق ما خلق لأعظم حكمة وأسماها وهي أن يعبد بذكره وشكره، فلذا من كفر به تعالى فترك ذكره وشكره كان من شر خلقه واستوجب العذاب الأبدي الذي لا يخرج منه ولا يموت فيه ولا يحيى.
2 الآية ردّ على افتراءات المبطلين جهلة البشر الذين نسبوا لله تعالى الصاحبة والولد بغير علم من عقل ولا نقل.
3 الدمغ: شج الرأس حتى تبلغ الشجة الدماغ، والباطل هو الشيطان والحق؟ القرآن، في قول مجاهد إذ قال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.
4 لا يستحسرون أي: لا يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع من الإعياء والتعب يقال: حسر البعير يحسر حسوراً: أعيا وكلّ واستحسر وتحسر مثله.(3/402)
يفترون} أي فكيف يفتقر إلى الزوجة والولد، ومن عنده من الملائكة وهم لا يحصون عداً يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون منها ولا يتعبون من القيام بها، يسبحونه الليل والنهار، والدهر كله {لا يفترون} أي لا يسأمون فيتركون التسبيح فترة بعد فترة للاستراحة، إنهم في تسبيحهم وعدم سآمتهم منه وعدم انشغالهم عنه كالآدميين في تنفسهم وطرف أعينهم هل يشغل عن التنفس شاغل أو عن طرف العين آخر وهل يسأم الإنسان من ذلك والجواب لا، فكذلك الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنزه الرب تعالى عن اللهو واللعب والصاحبة والولد.
2- حجج القرآن هي الحق متى رمى بها الباطل دمغته فذهب واضحمل.
3- إقامة البراهين العقلية على إبطال الباطل أمر محمود، وقد يكون لا بد منه.
4- بيان غنى الله المطلق عن كل مخلوقاته.
5 بيان حال الملائكة في عبادتهم وتسبيحهم لله تعالى.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)(3/403)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
شرح الكلمات:
أم اتخذوا آلهة من الأرض: أيْ من معادنها كالذهب والفضة والنحاس والحجر.
هم ينشرون: أي يحيون الأموات إذ لا يكون إلهاً حقاً إلا من يحيي الموتى.
لو كان فيهما: أي في السموات والأرض.
لفسدتا: أي السموات والأرض لأن تعدد الآلهة يقتضى التنازع عادة وهو يقضي بفساد النظام.
فسبحان الله: أي تنزيه لله عما لا يليق بحلاله وكماله.
رب العرش: أي خالقه ومالكه والمختص به.
عما يصفون: أي الله تعالى من صفات النقص كالزوجة والولد والشريك.
لا يسأل عما يفعل: إذ هو الملك المتصرف، وغيره يسأل عن فعله لعجزه وجهله وكونه مربوباً.
قل هاتوا برهانكم: أي على ما اتخذتم من دونه من آلهة ولا برهان لهم على ذلك فهم كاذبون.
هذا ذكر من معي: أي القرآن ذكر أمتي.
وذكر من قبلي: أي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله الكل يشهد أنه لا إله إلا الله.
لا يعلمون الحق: أي توحيد الله ووجوبه على العباد فلذا هم معرضون.
فاعبدون: أي وحدوني في العبادة فلا تعبدوا معي غيري إذ لا يستحق العبادة سواي.
معنى الآيات:
يوبخ تعالى المشركين على شركهم فيقول {أم اتخذوا1 آلهة من الأرض} أي من أحجارها ومعادنها آلهة {هم ينشرون} أي يحيون الموتى والجواب كلا إنهم لا يحيون والذي لا يحيي الموتى لا يستحق الألوهية بحال من الأحوال. هذا ما دل عليه قوله
__________
1 الاستفهام هنا للجحد والإنكار أي: لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء في وصف الآلهة من الأرض تهكّم بعابديها ظاهر وتأنيب عجيب.(3/404)
تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينتشرون} وفي الآية الثانية (21) يبطل تعالى دعواهم في اتخاذ آلهة مع الله فيقول. {لو كان فيهما1} أي في السموات والأرض آلهة غير الله تعالى لفسدتا لأن تعدد الآهة يقتضى التنازع2 والتمانع هذا يريد أن يخلق كذا وهذا لا يريده هذا يريد أن يعطى كذا وذاك لا يريده فيختل نظام الحياة وتفسد، ومن هنا كان انتظام الحياة هذه القرون العديدة دالا على وحدة الخالق الواجب الوجود الذي تجب له العبادة وحده دون من سواه، فلذا نزه تعالى نفسه عن الشريك وما يصفه به المبطلون من الزوجة والولد فقال: {فسبحان3 الله رب العرش عما يصفون} وقرر ألوهيته وربوبيته المطلقة بقوله: {لا يسأل4 عما يفعل وهم يُسئلون} فالذي يفعل ولا يُسأل لعلمه وقدرته وملكه هو الإله الحق والذي يسأل عن عمله لم فعلت ولم تركت ويحاسب عليه ويجزى به لن يكون إلا عبداً مربوباً، وقوله في توبيخ آخر للمشركين: أم اتخذوا من5 دونه عز وجل آلهة يعبدونها؟ قل لهم يا رسولنا هاتوا برهانكم على صدق دعواكم في أنها آلهة، ومن أين لهم البرهان على احقاق الباطل؟ وقوله تعالى: {هذا ذكر6 من معي} أي من المؤمنين وهو القرآن الكريم به يذكرون الله ويعبدونه وبه يتعظون {وذكر من قبلي} أي التوراة والإنجيل هل في واحد منها ما يثبت وجود آلهة مع الله تعالى. والجواب لا. إذاً فما هي حجة هؤلاء المشركين على صحة دعواهم، والحقيقة أن المشركين جهلة لا يعرفون منطقاً ولا برهاناً فلذا هم مُعْرِضُون وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون الحق7 فهم معرضون} فليسوا أهلاً لمعرفة الأدلة والبراهين لجلهلهم فلذا هم معرضون عن قبول التوحيد وتقرير أدلته وحججه وبراهينه.
__________
1 هذه الجملة مقررة لما أنكره تعالى على المشركين من اتخاذهم آلهة من الأرض مبيّنة وجه الإنكار شارحة له أي: يستحيل أن يوجد آلهة حق مع الله تعالى. والبرهان مذكور في التفسير.
2 هذا ما يسمى بدليل أو برهان التمانع وأنه وإن كان فيه ما يرده إلا أنه في الجملة دليل مسكت للخصم مقنع لذي العقول.
3 إظهار اسم الجلالة في مكان الإضمار كان لتربية المهابة منه عزّ وجل إذ كان المفروض أن يقوله سبحانه.
4 قال ابن جريج: لا يسأله الخلق عن قضائه فيهم وهو يسألهم عن أعمالهم لأنهم عبيده وبهذا انهدّ معتقد المشركين والقدريين معاً إذ لا يسأل عمال يفعل وغيره يسأل فالذي يسأل ويحاسب ويجزي لن يكون إلهاً أبداً.
(أم) بمعنى: بل والاستفهام التعبجي أي: بل اتخذوا من دون الله آلهة يا للعجب فليأتوا إذاً ببرهان عقلي على صحة دعواهم ومن أين لهم إذاً أفلا يتوبون.
6 زيادة على إقامة بطلان الشرك بشهادة القرآن كتاب الله وشهادة الكتب السابقة وفيها التهديد والوعيد للمشركين.
7 قرأ الحق بالرفع ابن محيسن والحسن على تقدير هذا هو الحق وقرأ الجمهور بالنصب مفعول أي: لا يعلمون الحق الذي هو القرآن العظيم فهم لا يتأملونه فحججه وبراهينه على إبطال الشرك ظاهرة.(3/405)
وقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك1 من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} فلو كان المشركون يعلمون هذا لما أشركوا وجادلوا عن الشرك، ولكنهم جهلة مغررون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من أخص صفات الإله أن يخلق ويرزق ويحيى ويميت فإن لم يكن كذلك فليس بإله.
2- وحدة النظام دالة على وحدة المنظم، ووحدة الوجود دالة على وحدة الموجد وهذا برهان التمانع الذي يقرر منطقياً وجود الله ووجوب عبادة وحده.
3- لا برهان على الشرك أبداً، ولا يصح في الذهن وجود دليل على صحة عبادة غير الله تعالى.
4- القرآن والتوراة وكل كتب الله متضافرة على تقرير توحيد الله تعالى.
5- تقرير توحيد الله تعالى وإبطال الشرك والتنديد بالمشركين.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
__________
1 هذا برهان آخر على إبطال الشرك إذ عامة الرسل جاءت بالتوحيد بلا إله إلا الله، فكيف يصح إذاً إقرار الشرك والعمل به، والآية كآية النمل: {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} .(3/406)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
شرح الكلمات
ولداً: أي من الملائكة حيث قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
سبحانه: تنزيه له تعالى عن اتخاذ الولد.
ب ل عباد ومكرمون: هم الملائكة، ومن كان عبداً لا يكون ابناً ولا بنتاً.
لا يسبقونه بالقول: أي لا يقولون حتى يقول هو وهذا شأن العبد لا يتقدم سيده بشيء.
وهم بأمره يعملون: أي فهم مطيعون متأدبون لا يعملون إلا بإذنه لهم.
ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى: أي إلاّ لمن رضي تعالى أن يشفع له.
مشفقون: أي خائفون.
من دونه: أي من دون الله كإبليس عليه لعائن الله.
كذلك نجزي الظالمين: أي لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
بعد أن أبطلت الآيات السابقة الشرك ونددت بالمشركين جاءت هذه الآيات في إبطال باطل آخر للمشركين وهو نسبتهم الولد لله تعالى فقال تعالى عنهم و {قالوا1 اتخذ الرحمن ولداً} وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله فنزه تعالى نفسه عن هذا النقص فقال {سبحانه} وأبطل دعواهم وأضرب عنها فقال {بل عباد مكرمون2} أي فمن نسبوهم لله بنات له هم عباد له مكرمون عنده ووصفهم تعالى قوله: {لا يسبقونه بالقول} فهم لكمال عبوديتهم لا يقولون حتى يقول هو سبحانه وتعالى، وهم يعملون بأمره فلا يقولون ولا يعملون إلا بعد إذنه لهم، وأخبر تعالى أته يعلم ما بين أيديهم3 وما خلفهم فعلمه عز وجل محيط بهم ولا يشفعون لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى أن يشفع4 له فقال تعالى:
__________
1 قيل: هذه الآية نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله تعالى وكانوا يعبدونهم يرجونا شفاعتهم، وفريتهم قائمة على أن الله تعالى أصهر إلى سروات الجنّ فأنجب الملائكة. تعالى الله علواً كبيراً.
2 {بل عباد مكرمون} أي: بل هم عباد مكرمون، فعباد: خبر لمبتدأ محذوف ومكرمون: نعت للخبر.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعلم ما عملوا وما هم عاملون كما يعلم ما بين أيديهم من الآخرة وما خلفهم من الدنيا.
4 قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه. وهو أعم من الأوّل، وأخص أيضاً باعتبار جهتين.(3/407)
{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وزيادة على ذلك أنهم {من خشيته مشفقون} خائفون، وعلى فرض أن أحداً منهم قال إني إله من1 دون الله فإن الله تعالى يجزيه بذلك القول جهنم وكذلك الجزاء نجزي الظالمين أي أنفسهم بالشرك والمعاصي، وبهذا بطلت فرية المشركين في جعلهم الملائكة بنات لله وفي عبادتهم ليشفعوا لهم عنده تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى من قبل المشركين وكذا اليهود والنصارى.
2- بيان كمال عبودية الملائكة لله تعالى وكمال أدبهم وطاعتهم لربهم سبحانه وتعالى.
3- بطلان دعوى المشركين في شفاعة الملائكة لهم، إذ الملائكة لا يشفعون إلا لمن رضى الله تعالى أن يشفعوا له.
4- تقرير وجود شفاعة يوم القيامة ولكن بشروطها وهي أن يكون الشافع قد أذن له بالشفاعة، وأن يكون المشفوع له من أهل التوحيد فأهل الشرك لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
__________
1 في الآية دليل على أن الملائكة وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون وليسوا مضطرين إلى العبادة اضطراراً بل شأنهم شأن المعصومين من الرسل يعبدون تعبّداً لا اضطراراً.(3/408)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
شرح الكلمات:
كانتا رتقا: أي كتلة واحدة منسدة لا انفتاح فيها.
ففتقناهما: أي جعلنا السماء سبع سموات والأرض سبع أرضين.
رواسي: أي جبالاً ثابتة.
أن تميد بهم:: أي تتحرك فتميل بهم.
فجاجاً سبلاً: أي طرقاً واسعة يسلكونها تصل بهم إلى حيث يريدون.
لعلهم يهتدون: إلى مقاصدهم في أسفارهم.
وهم عن آياتها: من الشمس والقمر والليل والنهار معرضون.
كل في فلك يسبحون: الفلك كل شيء دائر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ووجوب تنزيه الله تعالى عن صفات النقص والعجز فقال تعالى: {أو لم1 ير الذين كفروا} أي الكافرون بتوحيد الله وقدرته وعلمه ووجوب عبادته إلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته في هذه المخلوقات العلوية والسفلية فالسموات والأرض كانتا كتلة واحدة من سديم فخلق الله تعالى منها السموات والأرضين كما أن السماء تتفتق بإذنه تعالى عن الأمطار، والأرض تتفتق عن النباتات المختلفة الألوان والروائح والطعوم والمنافع، وأن كل شيء حيّ في هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات هو من الماء أليست هذه كلها دالة على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها؟
فما للناس لا يؤمنون؟ هذا ما دل عليه قوله تعالى في الآية الأولى (30) {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا2 ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون؟} وقوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي} أي جبالاً3 ثواتب كيلا تميد أي
__________
1 قرأ الجمهور {أو لم ير} بالواو بعد همزة الاستفهام، وقرأ بعض: {ألم ير} بدون واو، بمعنى يعلم.
2 {رتقا} : الرتق: السدّ ضد الفتق، يقال: رتقت الفتق ارتقه فارتتق. أي: التأم، ومنه: امرأة رتقاء أي: منضمة الفرج غير مفتوق، والمراد أن السموات والأرض كانت شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما وما في التفسير إشارة إلى ما اختارهُ ابن جرير الطبري وهو: أن السماء كانت رتقا لا تمطر والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات والآية دالة على الوجهين والوجهان صحيحان.
3 {جعلنا} بمعنى: خلقنا، وهذا اللفظ صالح للدلالة على أنّ كل شيء في هذه المخلوقات من الحيوان والنبات خلق من الماء، والنار: أن حيا ة هذه المخلوفات تحفظ بالماء، وفي الحديث: "كل شيء خلق من الماء". ذكره القرطبي رحمه الله تعالى.(3/409)
تتحرك وتضطرب بسكانها، {وجعلنا فيها} أي في الأرض {فجاجاً سبلاً} أي طرقاً سابلة للسير فيها {لعلهم1 يهتدون} أي كي يهتدوا إلى مقاصدهم في أسفارهم، وقول: {وجعلنا السماء سقفاً2 محفوظاً} من السقوط ومن الشياطين. وقوله: {وهم عن آياتها} من الشمس والقمر والليل والنهار إذ هذه آيات قائمة بها {معرضون} أي لا يفكرون فيها فيهتدوا إلى معرفة الحق عز وجل ومعرفة ما يجب له من العبادة والتوحيد فيها، وقوله: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس3 والقمر كل في فلك يسبحون4} أي كل من الشمس والقمر في فلك خاص به يسبح الدهر كله، والفلك عبارة عن في دائرة كفلكة المغزل يدور فيها الكوكب من شمس وقمر ونجم يسبح فيها لا يخرج عنها إذ لو خرج يحصل الدمار الشامل للعوالم كلها، سبحان العليم الحكيم، هذه كلها مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي موجبة للتوحيد مقررة له، ولكن المشركين عنها معرضون لا يفكرون ولا يهتدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده والإيمان به وطاعته.
2- بيان الحكمة من خلق الجبال الراوسي.
3- بيان دقة النظام الإلهي، وعظيم العلم والحكمة له سبحانه وتعالى.
4- إعراض أكثر الناس عن آيات الله في الآفاق كإعراضهم عن آياته القرآنية هو سبب جهلهم وشركهم وشرهم وفسادهم.
__________
1 رجاء أن يهتدوا في سيرهم إلى ما يرومون من الديار والبلاد، ورجاء أن يهتدوا بذلك إلى الإيمان بالله وتوحيده.
2 سميت السماء سقفاً لأنها مرفوعة فوق الأرض مظلمة لها كالسقف على النار.
3 هذه كلها منن الله تعالى على عباده وآيات قدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده وإعراض الناس عن النظر والتدبر هو الذي حرمهم هداية الله تعالى.
4 {كل في فلك يسبحون} : هذه جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جوابا لمن سمع الآيات، فتساءل عن الشمس والقمر وعن باقي الأجرام السماوية قائلاً: كيف لا يقع بينها تصادم ولا يتخلّف بعضها فيحدث خلل في الكون والحياة فأجيب بقوله تعالى: {كل في فلك يسبحون ... } .(3/410)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)
شرح الكلمات:
الخلد: أي البقاء في الدنيا.
ذائقة الموت: أي مرارة مفارقة الجسد.
ونبلوكم: أي نختبركم.
بالشر والخير: فالشر كالفقر والمرض، والخير كالغنى والصحة.
فتنة: أي لأجل الفتنة لننظر أتصبرون وتشكرون أم تجزعون وتكفرون.
إن يتخذونك إلا هزواً: أي ما يتخذونك إلا هزواً أي مهزوءاً بك.
يذكر آلهتكم: أي يعيبها.
بذكر الرحمن هم كافرون: حيث أنكروا اسم الرحمن لله تعالى وقالوا: ما الرحمن؟
خلق الإنسان من عجل: حيث خلق الله آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل، فورث بنوه طبع العجلة عنه.
سأوريكم آياتي: أي سأريكم ما حملته آياتي من وعيد لكم بالعذاب في الدنيا والآخرة.(3/411)
معنى الآيات:
كأنَّ المشركين قالوا شامتين إن محمداً سيموت، وقالوا نتربص به ريب المنون فأخبر تعالى أنه لم يجعل لبشر من قبل نبيّه ولا من بعده الخلد حتى يخلد هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل نفس ذائقة الموت، ولكن إن مات رسوله فهل المشركون يخلدون والجواب لا، إذاً فلا وجه للشماتة بالموت لو كانوا يعقلون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (34) {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِّتَّ فهم1 الخالدون} وقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت2} أي كل نفس منفوسة ذائقة مرارة الموت بمفارقة الروح للبدن، والحكمة في ذلك أن يتلقى العبد بعد الموت جزاء عمله خيراً كان أو شراً، دل عليه قوله بعد: {ونبلوكم بالشر والخير} من غِنى وفقر ومرض وصحة وشدة ورخاء {فتنة} أي لأجل فتنتكم أي اختباركم ليرى الصابر الشاكر والجزِع الكافر. وقوله تعالى: {وإلينا ترجعون} أي بعد الموت للحساب والجزاء على كسبكم خيره وشره.
وقوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً} يخبر تعالى رسوله بأن المشركين إذا رأوه ما يتخذونه إلا هزواً وذلك لجهلهم بمقامه وعدم معرفتهم فضله عليهم وهو حامل الهدى لهم، وبين وجه استهزائهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} أي بعيبها وانتقاصها، قال تعالى: {وهم بذكر الرحمن3 هم كافرون} أي عجباً لهم يتألمون لذكر ألهتم بسوء وهي محط السوء فعلاً، ولا يتألمون لكفرهم بالرحمن ربهم سبحانه وتعالى حتى إنهم أنكروا أن يكون اسم الرحمن اسماً لله تعالى وقالوا لا رحمن إلا رحمن اليمامة.
وقوله تعالى: {خلق الإنسان4 من عجل} قال تعالى هذا لما استعجل المشركون
__________
1 الاستفهام مقدّر أي: أفهم الخالدون؟ وهو للنفي والإنكار كقول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا تُرع
فقلت وأنكسرت الوجوه هم هم
أي: أهم؟ ومعنى رفوني سكّنوني يقال رفاه إذا سكنه.
2 يروى أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد استشهد بالبيتين الآتيين:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
3عجباً لجهلهم وسوء فهمهم يعيبون من جحد إلهية أصنامهم وهم يجحدون إلهية الرحمن إنّ هذا لغاية الجهل والغرور.
4 إنّ طبع الإنسان العجلة إنه يستعجل الأشياء وإن كان فيها مضرته، ولفظ الإنسان جائز أن لا يكون المراد به جنس الإنسان أو آدم عليه السلام قال سعيد بن جبير لما دخل الروح في عين آدم نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك قوله تعالى {خلق الإنسان من عجل} .(3/412)
العذاب وقالوا للرسول والمؤمنين: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} فأخبر تعالى أن الاستعجال1 من طبع الإنسان الذي خلق عليه، وأخبرهم أنه سيريهم آياته فيهم بإنزال العذاب بهم وأراهم ذلك في بدر الكبرى وذلك في قوله {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} أي. فلا داعي إلى الاستعجال وقوله تعالى {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} أخبر تعالى عن قيلهم للرسول والمؤمنين وهم يستعجلون العذاب: متى هذا الرعد إن كنتم صادقين؟ وهذا عائد إلى ما فطر عليه الإنسان من العجلة من جهة، وإلى جهلهم وكفرهم من جهة أخرى وإلاّ فالعاقل لا يطالب بالعذاب بل يطالب بالرحمة والخير، لا بالعذاب والشر.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- إبطال ما شاع من أن الخضر حيي مخلد لا يموت لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر.
2- بيان العلة من وجود خير وشر في هذه الحياة الدنيا وهي الاختبار.
3 بيان ما كان عليه المشركون من الاستهزاء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- تقرير حقيقة أن الإنسان مطبوع على العجلة فلذا من غير طبعه بالتربية فأصبح ذا أناة وتؤدة كان من أكمل الناس وأشرفهم.
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (41) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ
__________
1 العجلة: السرعة، قيل: إن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهة، فإذ فكر في شيء محبوب استعجل حصوله، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته، ومن هنا كان عجولا.(3/413)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43)
شرح الكلمات:
لا يكفون: أي لا يمنعون ولا يدفعون النار عن وجوههم.
بل تأتيهم بغتة: أي تأتيهم القيامة بغتة أي فجأة.
فتبهتهم: أي تُحيرهم.
ولا هم ينظرون: أي يمهلون ليتوبوا.
وحاق بهم: أي نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
من يكلؤكم: أي من يحفظكم ويحرسكم.
من الرحمن: أي من عذابه إن أراد إنزاله بكم.
بل هم عن ذكر ربهم معرضون: أي هم عن القرآن معرضون فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
ولا هم منا يصحبون: أي لا يجدون من يجيرهم من عذابنا.
معنى الآيات:
يقول تعالى {لو1 يعلم الذين كفروا} المستعجلون بالعذاب المطالبون به حين أي الوقت الذي يُلقون فيه في جهنم والنار تأكل وجوههم وظهورهم، ولا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم منها ولا هم ينصرون بمن يدفع العذاب عنهم لو علموا هذا وأيقنوا به لما طالبوا بالعذاب ولا استعجلوا يومه وهو يوم القيامة، هذا ما دل عليه قوله تعالى: {لو يعلم الذين2 كفروا حين3 لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون} وقوله تعالى:
__________
1 جواب لو: محذوف تقديره: لما استعجلوا أي: لو عرف هؤلاء المستعجلون وقت لا تزول فيه النار عن وجوههم وعن ظهورهم لما استعجلوا العذاب.
2 جواب لو: محذوف كما تقدم آنفاً، والغرض من حذفه تحويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب. وجملة: {لو يعلمون..} الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً.
3 {حين} اسم زمان منصرف منصوب على المفعولية لا على الظرفية أي: لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذّبوا به.(3/414)
{بل تأتيهم1 بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون} أي أن القيامة لا تأتيهم على علم منهم بوقتها وساعتها فيمكنهم بذلك التوبة، وإنما تأتيهم {بغتة} أي فجأة {فتبهتهم} أي فتحيرهم {فلا يستطيعون ردها، ولا هم ينظرون} أي يمهلون ليتوبوا من الشرك والمعاصي فينجوا من عذاب النار، وقوله تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون} وهو العذاب هذا القول للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعزية له وتسلية ليصبر على ما يلاقيه من استهزاء قريش به واستعجالهم العذاب، إذ حصل مثله للرسل قبله فصبروا حتى نزل العذاب بالمستهزئين بالرسل عليهم السلام. وقوله تعالى: {قل من2 يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} يأمر تعالى رسوله أن يقول للمطالبين بالعذاب المستعجلين له: {من يكلؤكم بالليل والنهار} أي من يجيركم من الرحمن إن أراد أن يعذبكم، إنه لا أحد يقدر على ذلك إذاً فلم لا تتوبون إليه بالإيمان والتوحيد والطاعة له ولرسوله، وقوله: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون} إن علة عدم استجابتهم للحق هي إعراضهم عن القرآن الكريم وتدبر آياته وتفهم معانيه. وقوله: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} ينكر تعالى أن يكون للمشركين آلهة تمنعهم من عذاب الله متى نزل بهم ويقرر أن آلهتهم لا تستطيع نصرهم {ولا3 هم منا يصحبون} أي وليس هناك من يجيرهم من عذاب الله من آلهتهم ولا من غيرها فلا يقدر أحد على إجارتهم من عذاب الله متى حل بهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن الساعة لا تأتي إلا بغتة.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما كان عليه الرسل من قبله وما لا قوه من أُممهم.
__________
1 {بل} : للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعدّ لهم إلى التهديد بأن ذلك يحلّ بهم بغتة (أي فجأة) .
2 يكلأكم: أي يحرسكم ويحفظكم إذ الكلاءة: الحفظ والحراسة يقال: كلاه الله كلاءة أي: حفظه وحرسه ومنه قول الشاعر:
إنّ سليمى والله يكلأها
ضنّت بشيء ما كان يرزؤها
والاستفهام في: من يكلأكم: للنفي.
3 فسر يصحبون بيمنعون، ويجارون قال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذاً
ليصحب منها والرماح دواني(3/415)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
4- بيان عجز الهة المشركين عن نصرتهم بدفع العذاب عنهم متى حل بهم.
5- بيان أن علة إصرار المشركين على الشرك والكفر هو عدم إقبالهم على تدبر القرآن الكريم وتفكرهم في آياته وما تحمله من هدى ونور.
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
شرح الكلمات:
متعنا هؤلاء وآباءهم: أي بما أنعمنا عليهم من الخيرات.
حتى طال عليهم العمر: فانغرُّوا بذلك.
ننقصها من أطرافها: أي بالفتح على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه المؤمنين.
إنما أنذركم بالوحي: أي بأخبار الله تعالى التي يوحيها إلى وليس هناك شيء من عندي.
نفحة: أي وقعة من عذاب خفيفة.
يا ويلنا إنا كنا ظالمين: أي يقولون يا ويلنا أي يا هلاكنا.
إنا كنا ظالمين: أي بالشرك والتكذيب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/416)
الموازين القسط: أي العادلة.
فلا تظلم نفس شيئاً: لا حسنة ولا بزيادة معصية.
مثقال حبة: أي زنة حبة من خردل.
وكفى بنا حاسبين: أي محصين لكل شيء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال دعاوي المشركين فقال تعالى: {بل متعنا1 هؤلاء} بما أنعمنا عليهم هم وآباؤهم فظنوا أن آلهتهم هي الحافظة لهم بل الله هو الحافظ حتى طال عليهم العمر2 فانغروا بذلك. {أفلا يرون أنا نأتي الأرض} أرض الجزيرة بلادهم {ننقصها من أطرافها} بدخول أهلها في الإسلام بلداً بعد بلد. {أفهم3 الغالبون} ؟ الله هو الغالب حيث مكن لرسوله والمؤمنين وفتح عليهم، ثم أمر رسوله أن يقول لهم أيها المكذبون إنما أنذركم العذاب وأخوفكم من عاقبة شرككم بالوحي الإلهي لا من تلقاء نفسي، وقوله تعالي: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون} فالصم لحبهم الباطل الذي هم عليه لا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم فحبهم للشرك وآلهته جعلهم لا يسمعون فاستوى إنذارهم وعدمه وقوله تعالى: {ولئن4 مَسَّتهُمْ نفحة من عذاب ربك} أي وقعة خفيفة من العذاب لصاحوا يدعون بالويل على أنفسهم قائلين {يا ويلنا إنا كنا ظالمين5} فكيف بهم إذا وضعت الموازين العدل ليوم القيامة حيث لا تظلم نفسر شيئاً وإن قل وإن كان مثقال حبة من حسنة أو سيئة آتينا بها ووزناها {وكفى بنا حاسبين6} أي محصين لأعمال العباد لعلمنا المحيط بكل شيء وقدرتنا التي لا يعجزها شيء.. ألا فلنتق الله أيها العقلاء!!
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل مكة. أي: بسطنا لهم ولآبائهم نعيمها.
2 {طال عليهم العمر} أي: في النعمة فظنوا أنها لا تزول عنهم؟ فانغروا وأعرضوا عن تدبرّ حجج الله عز وجل.
3 المس: اتصال بظاهر الجسم، والنفحة: المرّة من النفح في العطية، يقال: نفحه بشيء إذا أعطاه. وما في التفسير مغن عن هذا.
4 هذا اعتراف منهم في حين لا ينفع الاعتراف.
5 قيل: يجوز أن يكون لكل عامل ميزان خاص به فتكثر الموازين كما قال الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لعدله
فلكل حادثة لها ميزان
6 ضمير الجمع في {حاسبين} : مراعى فيه ضمير العظمة، وهو منصوب على الحال أو التمييز لكفى.(3/417)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- طول العمر والرزق الواسع كثيراً ما يُسبب الغرور لصاحبه.
2- حب الشيء يعمي صاحبه حتى لا يرى إلا ما أحبه ويصمه بحيث لا يسمع إلا ما أحبه.
3- بيان ضعف الإنسان وأن أدنى عذاب ينزل به لا يتحمله ويصرخ داعياً يا هلاكاه.
4- تقرير البعث والحساب والجزاء.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)
شرح الكلمات:
الفرقان: التوراة لأنها فارقة بين الحق والباطل كالقرآن.
وضياء: أي يهدي إلى الحق في العقائد والشرائع.
وذكراً: أي موعظة.
يخشون ربهم بالغيب: أي يخافون ربهم وهم لا يرونه في الدنيا فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل حرام.
وهم من الساعة مشفقون: أي وهم من أهوال يوم القيامة وعذابه خائفون.
وهذا ذكر مبارك: أي القرآن الكريم تنال بركته قارئه والعامل به.
أفأنتم له منكرون: الاستفهام للتوبيخ يوبخ تعالى من أنكر أن القرآن كتاب الله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه آتى موسى وهارون الفرقان1 أي الحق الذي فرق بين حق موسى وهارون
__________
1 وفسر الفرقان بالتوراة أيضاً وهو حق أيضاً وجائز أن يكون النصر، إذ معنى الفرقان: أنه ما يفرّق به بين الحق والباطل بالقول أو العمل.(3/418)
وبين باطل فرعون، كما فرق بين التوحيد والشرك يوم بدر يوم الفرقان وآتاهما التوراة ضياء يستضاء بها في معرفة الحلال والحرام والشرائع والأحكام وذكراً أي موعظة للمتقين، ووصف المتقين بصفتين: الأولى أنهم يخشون ربهم أي يخافونه بالغيب1 أي وهم لا يرونه والثانية: أنهم مشفقون2 من الساعة أي مما يقع فيها من أهوال وعذاب وقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك} يشير إلى القرآن الكريم ويصفه بالبركة فبركته لا ترفع فكل من قرأه وعمل بما فيه نالته بركته قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات لا تنقضى عجائبه ولا تكتنه أسراره ولا تكتشف كل حقائقه، هدى لمن استهدى، وشفاء لمن استشفى وقوله تعالى: {أفأنتم له منكرون3} يوبخ به العرب الذين آمنوا بكتاب اليهود إذ كانوا يسألونهم عما في كتابهم، وكفروا بالقرآن الذي هو كتابهم فيه ذكرهم وشرفهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إظهار منة الله تعالى على موسى وقومه ومحمد وأمته بإنزال التوراة على موسى والقرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 بيان صفات المتقين وهم الذين يخشون ربهم بالغيب فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل محرم: وهم دائماً في اشفاق وخوف من يوم القيامة.
3- الإشادة بالقرآن الكريم حيث أنزله تعالى مباركاً.
4- توبيخ وتقريع من يكفر بالقرآن وينكر ما فيه من الهدى والنور.
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
__________
1 قال القرطبي: {بالغيب} أي: غائبين لأنهم لم يروا الله تعالى بل عرفوا بالنظر والاستدلال أنّ لهم ربَّا قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، والباء في: {بالغيب} بمعنى الفاء أي: يخشونه تعالى في الغيب.
2 الإشفاق: هو رجاء حادث مخوف.
3 الاستفهام للتعجب والتوبيخ.(3/419)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
شرح الكلمات:
رشده: أي هداه بمعرفة ربّه والإيمان به ووجوب ط3اعته والتقرب إليه.
التماثيل: جمع تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه إنسان أو حيوان.
التي أنتم لها عاكفون: أي مقبلون عليها ملازمون لها تعبداً.
أم أنت من اللاعبين: أي الهازلين غير الجادين فيما يقولون أو يفعلون.
ربكم رب السموات: أي المستحق للعبادة مالك السموات والأرض.
الذي فطرهن: أي أنشأهن خلقاً وإيجاداً على غير مثال سابق.
لأكيدن أصنامكم: أي لأحتالن على كسر أصنامكم وتحطيمها.
جذاذاً: فتاتاً وقطعاً صغيرة.
إلا كبيراً لهم: إلا أكبر صنم لهم فإنه لم يكسره.
لعلهم إليه يرجعون: كي يرجعوا إليه فيؤمنوا بالله ويوحّدوه بعد أن يظهر لهم عجز آلهتهم.
معنى الآيات:
على ذكر ما منّ به تعالى على موسى وهارون ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إيتائه إياهم التوراة والقرآن ذكر أنه امتن قبل ذلك على إبراهيم فآتاه رشده في صباه فعرفه به وبجلاله وكماله ووجوب(3/420)
الإيمان به تعالى وعبادته وحده، وإن عبادة من سواه باطلة، فقال تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من1 قبل} وقوله: {وكنا به عالمين2} أي بأهليته للدعوة والقيام بها لما علمناه {إذ قال} أي في الوقت الذي قال لأبيه أي آزر، وقومه منكراً عليهم عبادة غير الله {ما هذه3 التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي مقبلون عليها ملازمون لها فأجابوه بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فأعلنوا عن جهلهم إذ لم يذكروا برهاناً على صحة أو فائدة عبادتها واكتفوا بالتقليد الأعمى وشأنهم في هذا شأن سائر من يعبد غير الله تعالى فإنه لا برهان له على صحة عبادة من يعبد إلا التقليد لمن رآه يعبده.
فرد عليهم إبراهيم بما أخبر تعالى عنه في قوله {قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم} أي الذين قلدتموهم في عبادة الأصنام {في ضلال} أي عن الهدى الذي يجب أن تكونوا عليه {مبين} لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، وردوا على إبراهيم قوله هذا فقالوا بما أخبر تعالى به عنهم {قالوا أجئتنا بالحق4} أي فيما قلت لنا من أنَّا وآباءنا في ضلال مبين {أم أنت من اللاعبين} أي في قولك الذي قلت لنا فلم تكن جاداً فيما تقول وإنما أنت لاعب لا غير ورد إبراهيم عليهم بما أخبر تعالى به عنه في قوله: {قال بل5 ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} أي ليس ربكم تلك التماثيل بل ربكم الحق الذي يستحق عبادتكم الذي فطر السموات والأرض فأنشأهن خلقاً عجيباً من غير مثال سابق وأنا على كون ربكم رب السموات والأرض من الشاهدين إذ لا رب لكم غيره، ولا إله حق لكم سواه. {وتالله} قسماً به تعالى {لأكيدن أصنامكم} أي لأحتالن6 عليها فأكسرها {بعد أن تولوا مدبرين7} أي بعد أن ترجعوا عنها وتتركوها وحدها.
__________
1 جائز أن يكون من قبل موسى وهارون وجائز أن يكون من قبل النبوة والوحي إليه والرشد: الصلاح.
2 أي: باهليته لإيتاء الرشد وصالح للنبوة، وجائز أن يكون عالمين به في الوقت الذي قال لأبيه وقومه: {ما هذه التماثيل} والظرف متعلق باذكر.
3 ظاهر السؤال أنه سؤال استعلام فلذا أجابوه بحسبه فقالوا: {وجدنا آباءنا لها عابدين} ، وضمّن (عاكفون) معنى العبادة فعُدّي باللام.
4 الاستفهام للاستعلام أي: جئتنا بالحق في اعتقادك أم أنت مازح فيما تقول؟
5 أي: لست بلاعب ولا مازح {بل ربكم ربّ السموات..} الخ.
6 أقسم لهم بالله على أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان وإنما سيكيد أصنامهم فيكسرها وذلك لوثوقه بربه تعالى، ولتوطينه نفسه على مقاساة المكروه في الذبّ عن دين الله والتاء في تالله تختص بالقسم بالله وحده، والواو تختص بكل اسم ظاهر والباء بكل مضمر ومظهر.
7 {مدبرين} حال مؤكدة لعاملها.(3/421)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
وفعلاً لما خرجوا إلى عيد لهم يقضون يوماً خارج المدينة أتى تلك التماثيل فكسرها فجعلها قطعاً متناثرة هنا وهناك إلا صنماً كبيراً لهم تركه1 {لعلهم إليه يرجعون} أي يرجعون إلى إبراهيم فيعبدون معه ربّه سبحانه وتعالى عندما يتبيّن لهم بطلان عبادة الأصنام لأنها لم تستطع أن تدفع عن نفسها فكيف تدفع عن غيرها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر إنعام الله وإكرامه لمن أصطفى من عباده.
2- تقرير النبوة والتوحيد، والتنديد بالشرك والمشركين.
3- ذم التقليد وأنه ليس بدليل ولا برهان للمقلد على ما يعتقد أو يفعل.
4- مشروعية الشهادة وفضلها في مواطن تعز فيها ويحتاج إليها.
5- تغيير المنكر باليد لمن قدر عليه مقدم على تغييره باللسان والجمع بينهما أفضل.
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ (65)
شرح الكلمات:
بآلهتنا: أي بأصنامهم التي سموها آلهة لأنهم يعبدونها ويؤلهونها.
__________
1 تركه لم يكسره وعلّق الفأس في عنقه. وقوله: {لعلهم إليه يرجعون} : جائز أن يكون المراد بالرجوع إلى الصنم في تكسيرها، وما في التفسير أولى وأصوب.(3/422)
فتى يذكرهم: أي بالعيب والانتقاص.
على أعين الناس: أي ظاهراً يرونه بأعينهم.
يشهدون: أي عليه بأنه الذي كسر الآلهة، ويشهدون العقوبة التي ننزلها به.
أأنت فعلت هذا: هذه صيغة الاستنطاق والاستجواب.
بل فعله كبيرهم هذا: أشار إلى إصبعه نحو الصنم الكبير الذي علق به الفأس قائلاً بل فعله كبيرهم هذا وَوَرَّى بإصبعه تحاشيا للكذب.
يرجعوا إلى أنفسهم: أي بعد التفكر والتأمل حكموا على أنفسهم بالظلم لعبادتهم مالا ينطق.
نكسوا على رؤوسهم: أي بعد اعترافهم بالحق رجعوا إلى إقرار الباطل فكانوا كمن نكس فجعل رأسه أسفل ورجلاه أعلى.
ما هؤلاء ينطقون: فكيف تطلب منا أن نسألهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار بين إبراهيم الخليل وقومه من حوار حول العقيدة انه لما استغل إبراهيم فرصة خروج القوم إلى عيدهم خارج البلد ودخل البهو فكسر الآلهة فجعلها قطعاً متناثرة وعلق الفأس بكبير الآلهة المزعومة وعظيمها وخرج فلما جاء المساء وعادوا إلى البلد ذهبوا إلى الآلهة المزعومة لأخذ الطعام الموضوع بين يديها لتباركه في زعمهم واعتقادهم الباطل وجدوها مهشمة مكسرة صاحوا قائلين: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} فأجاب بعضهم بعضاً قائلاً: {سمعنا1 فتى يذكرهم} أي شاباً يذكر الآلهة بعيب وازدراء، واسمه إبراهيم، وهنا قالوا إذاً {فأتوا به على أعين2 الناس} لنشاهده ونحقق معه فإذا ثبت أنه هو عاقبناه وتشهد الناس عقوبته فيكون ذلك نكالاً لغيره، وجاءوا به عليه السلام وأخذوا في استنطاقه فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم: {أأنت فعلت هذا}
__________
1 جائز أن يكون إبراهيم لما قال: متوعداً أصنامهم {تالله لأكيدن أصنامكن} كان هناك من سمعه من ضعفة القوم أو سمعه من سمعه يعيب الآلهة قبل أن يتوعدها بالكسر.
2 في هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد قد لا تثبت بل لابد من التحري حتى تثبت أو لا تثبت كما هو في شرعنا الإسلامي.(3/423)
أي التكسير والتحطيم {يا إبراهيم} ؟ فأجابهم بما أخبر تعالى به عنه بقوله: {قال بل فعله1 كبيرهم هذا} يشير بإصبعه إلى كبير الآلهة تورية، {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} تقريعاً لهم وتوبيخاً وهنا رجعوا إلى أنفسهم باللائمة فقالوا: {إنكم أنتم الظالمون} أي حيث تألهون مالا ينطق ولا يجيب ولا يدفع عن نفسه فكيف عن غيره، وقوله تعالى: {ثم نكسو على رؤوسهم2} أي قلبهم الله رأساً على عقب فبعد أن عرفوا الحق ولاموا على أنفسهم عادوا إلى الجدال بالباطل فقالوا: {لقد علمت} أي يا إبراهيم ما {هؤلاء ينطقون} فكيف تطلب منا أن نسألهم وأنت تعلم أنهم لا ينطقون. كما أن اعترافهم بعدم نطق الآلهة المدعاة إنتكاس منهم إذ اعترفوا ببطلان تلك الآلهة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الظلم معروف لدى البشر كلهم ومنكر بينهم ولولا ظلمة النفوس لما أقروه بينهم.
2- إقامة البينة على الدعاوي أمر مقرر في عرف الناس وجاءت به الشرائع من قبل.
3- أسلوب المحاكمة يعتمد على الاستنطاق والاستجواب أولا.
4- مشروعية التورية خشية القول بالكذب3.
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ
__________
1 قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} قاله من أجل أن يقولوا: إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرّون فيقول لهم: فلم تعبدونهم إذاً؟! فتقوم له الحجة عليهم من أنفسهم ولذا يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه فإنه أقطع للشبهة وأقرب في الحجة.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.
3 الكذب: هو الإخبار بما يخالف الواقع، والتورية: أن يقول أو يفعل شيئاً ويوري بغيره تجنباً للكذب، وفي الحديث الصحيح: "لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: قوله: إني سقيم، وقوله لسارة: أختي، وقوله: بل فعله كبيرهم" وهي في الواقع معاريض وليست بالكذب الصريح، وكانت في ذات الله تعالى.(3/424)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
شرح الكلمات:
مالا ينفعكم شيئاً: أي آلهة لا تنفعكم شيئاً ولا تضركم إن أرادت ضركم.
أفٍ لكم: أي قبحاً لكم ولما تعبدون من دون الله.
قالوا: حرقوه: أي أحرقوه بالنار انتصاراً لألهتكم التي كسرها.
برداً وسلاماً: أي على إبراهيم فكانت كذلك فلم يحرق منه غير وثاقه "الحبل الذي وثق به".
كيداً: وهو تحريقه بالنار للتخلص منه.
فجعلناهم الأخسرين: حيث خرج من النار ولم تحرقه ونجا من قبضتهم وذهب كيدهم ولم يحصلوا على شيء.
ونجيناه ولوطاً: أي ابن أخيه هارون.
التي باركنا فيها: وهي أرض الشام.
ويعقوب نافلة: زيادة على طلبه الولد فطلب ولداً فأعطاه ما طلب وزاده آخر.
وكلاً جعلنا صالحين: أي وجعلنا كل واحد منهم صالحاً من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق الناس كذلك.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قال لقومه منكراً عليهم عبادة ألهتهم {أفتعبدون1
__________
1 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع.(3/425)
من دون الله مالا ينفعكم شيئاً ولا يضركم} أي أتعبدون آلهة دون الله علمتم أنها لا تنفعكم شيئاً ولا تضركم ولا تنطق إذا استنطقت ولا تجيب إذا سئلت {أُفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله} أي قبحاً لكم ولتلك التماثيل التي تعبدون من دون الله الخالق الرازق الضار النافع {أفلا تعقلون1} قبح عبادتها وباطل تأليهها وير جماد لا تسمع ولا تنطق ولا تنفع ولا تضر وهنا أجابوا2 بما أخبر تعالى به عنهم فقالوا: {حرقوه3} أي أحرقوا إبراهيم بالنار {وانصروا آلهتكم} التي أهانها وكسرها {إن كنتم فاعلين} أي مريدين نصرتها حقاً وصدقاً. ونفذوا ما أجمعوا عليه وجمعوا الحطب وأججوا النار في بنيان خاص وألقوه فيه بواسطة منجنيق لقوة لهبها وشدة حرها4 وقال تعالى للنار ما أخبر به في قوله: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فكانت كما طلب منها ولم تحرق غير وثاقه الحبل الذي شدت به يداه، ورجلاه ولو لم يقل وسلاماً لكان من الجائز أن تنقلب النار جبلاً من ثلج ويهلك به إبراهيم عليه السلام. روى أن والد إبراهيم لما رأى إبراهيم لم تحرقه النار وهو يتفصد عرقاً قال: نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقوله تعالى: {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} أي أرادوا بإبراهيم مكراً وهو إحراقه بالنار فخيَّب الله مسعاهم وأنجى عبده وخليله من النار وأحبط عليهم ما كانوا يأملون فخسروا في كل أعمالهم التي أرادوا بها إهلاك إبراهيم، وقوله تعالى: {ونجيناه ولوطاً} 5 أي ونجينا إبراهيم وابن أخيه هاران وهو لوط {إلى الأرض التي باركنا6 فيها للعالمين} وهي أرض الشام فنزل إبراهيم
__________
1 الاستفهام للتوبيخ والتأنيب.
2 بعد إن أعيتهم الحجة وانقطعوا ببيان اللسان لاذوا إلى قوة السنان، وهذا شأن الإنسان إذا كتب عليه الخسران، والعياذ بالرحمن.
3 روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ومجاهد وابن جريج: أنّ الذي قال حرّقوه: رجل من الأكراد من بادية فارس واسمه هيزرُ وخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة: وقيل: إن القائل: ملكهم نمرود. والله أعلم.
4 روي أنهم جمعوا الحطب في مدة شهر كامل ولما ألقوه في النار عرض له جبريل عليه السلام فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهم لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها ولم تبق دابة في المنطقة إلاّ أطفأت عن إبراهيم النار إلاّ الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه فلذا أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلها وسمّاها الفويسقة.
5 هذه النجاة ثانية. الأولى كانت من النار وهذه من ديار الكفار، إذ هاجر من أرض الكلدانيين إلى أرض فلسطين، وهي بلاد الكنعانيين يومئذٍ، وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة في تاريخ الإسلام، إذ خرج إبراهيم وابن أخيه لوط بن هاران وزوجه وابنة عمه سارة عليهم السلام، ونصب لوط على المفعول معه، وضمّن فعل نجيناه معنى الإخراج فعدي بإلى.
6 قيل لها مباركة لكثرة خصبها وأنهارها وثمارها ولأنها معادن الأنبياء والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير. إذا لزم مكانه ولم يبرحه.(3/426)
بفلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة وهي قرى قوم لوط التي بعد دمارها استحالت إلى بحيرة غير صالحة للحياة فيها وقوله: {باركنا فيها للعالمين} أي بارك في أرزاقها بكثرة الأشجار والأنهار والثمار لكل من ينزل بها من الناس كافرهم ومؤمنهم لقوله: {للعالمين} وقوله تعالى: {ووهبنا له} أي لإبراهيم اسحق حيث سأل الله تعالى الولد، وزاده يعقوب نافلة1 وقوله: {وكلا جعلنا صالحين} أي وجعلنا كل واحد منهم من الصالحين الذين يعبدون الله بما شرع لهم فأدوا حقوق الربَّ تعالى كاملة، وأدوا حقوق الناس كاملة وهذا نهاية الصلاح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قوة حجة إبراهيم عليه السلام، ومتانة أسلوبه في دعوته2 وذلك مما آتاه ربّه.
2- مشروعية توبيخ أهل الباطل وتأنيبهم.
3- آية إبطال مفعول النار فلم تحرق إبراهيم إلا وثاقه لما أراد الله تعالى ذلك.
4- قوة التوكل على الله كانت سبب تلك المعجزة إذ قال إبراهيم حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال الله تعالى للنار: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فكانت، وكفاه ما أهمه بصدق توكله عليه، ويؤثر أن جبريل عرض له قبل أن يقع في النار فقال هل لك يا إبراهيم من حاجة؟ فقال إبراهيم: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.
5- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
6- خروج إبراهيم من أرض العراق إلى أرض الشام كانت أول هجرة في سبيل الله في التاريخ.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
__________
1 نافلة: منصوب على الحال وصاحبها: اسحق ويعقوب والنافلة الزيادة غير الموعودة.
2 قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} من سورة الأنعام.(3/427)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
شرح الكلمات:
أئمة: أي يقتدى بهم في الخير.
يهدون بأمرنا: أي يرشدون الناس ويعلمونهم ما به كمالهم ونجاتهم وسعادتهم بإذن الله تعالى لهم بذلك حيث جعلهم رسلاً مبلغين.
وكانوا لنا عابدين: أي خاشعين مطيعين قائمين بأمرنا.
ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً: أي أعطينا لوطاً حكماً أي فصلا بين الخصوم وفقهاً في الدين وكل هذا يدخل تحت النبوة والرسالة وقد نبأه وأرسله.
تعمل الخبائث: كاللواط وغيره من المفاسد.
فاسقين: أي عصاة متمردين عن الشرع تاركين للعمل به.
ونوحاً إذ نادى من قبل: أي واذكر نوحاً إذ دعا ربّه على قومه الكفرة.
من الكرب العظيم: أي من الغرق الناتج عن الطوفان الذي عم سطح الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أفضال الله تعالى على إبراهيم وولده فقال تعالى: {وجعلناهم} أي إبراهيم واسحق ويعقوب أئمة هداة يقتدى بهم في الخير ويهدون الناس إلى(3/428)
دين الله تعالى الحق بتكليف الله تعالى لهم بذلك حيث نبأهم وأرسلهم. وهو معنى قوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} 1 وقوله: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} أي أوحينا إليهم بأن يفعلوا الخيرات جمع خير وهو كل نافع غير ضار فيه مرضاة لله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. وقوله تعالى: {وكانوا لنا عابدين} أي امتثلوا أمرنا فيما أمرناهم به وكانوا لنا مطعين خاشعين وهو ثناء عليهم بأجمل الصفات وأحسن الأحوال وقوله تعالى: {ولوطاً آتيناه2 حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث3 إنهم كانوا قوم سوء فاسقين} أي وكما آتينا إبراهيم وولديه ما آتيناهم من الإفضال والإنعام الذي جاء ذكره في هذا السياق آتينا لوطاً وقد خرج مهاجراً مع عمه إبراهيم آتيناه أيضاً حكماً وعلماً ونبوة ورسالة متضمنة حسن الحكم والقضاء وأسرار الشرع والفقه في الدين، هذه منّة وأخرى أنّا نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وأهلكنا أهلها لأنهم كانوا قوم سوء لا يصدر عنهم إلا ما يسوء إلى الخلق فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا، وقوله: {وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين} وهذا إنعام آخر أعظم وهو إدخاله في سلك المرحومين برحمة الله الخاصة لأنه من عباد الله الصالحين.
وقوله تعالى: {ونوحاً} أي واذكر يا رسولنا في سلك هؤلاء الصالحين عبدنا ورسولنا نوحاً الوقت الذي نادى ربه من قبل إبراهيم4 فقال إني مغلوبٌ فانتصر، {فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب5 العظيم} حيث نجاه تعالى وأهله إلا امرأته وولده كنعان فإنهما لم يكونا من أهله لكفرهما وظلمهما فكانا من المغرقين. وقوله: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي ونصرناه بإنجائنا له منهم فلم يمسوه بسوء، وأغرقناهم أجمعين لأنهم كانوا قوم سوء فاسقين ظالمين6.
__________
1 وجائز أن يكون معنى {بأمرنا} : أي: بما أنزلنا عليهم بوحينا من الأمر والنهي كأنه قال: بكتابنا وما بيّنا فيه من التشريع المحقق للآخذين به سعادة الدنيا والآخرة والأئمة جمع إمام وهو الرئيس الذي يقتدى به في الخير لا في الشر.
2 {ولوطاً} : منصوب على الاشتغال أي: وآتينا لوطا آتيناه. والحكم: الحكمة وهو النبوة والعلم علم الشريعة.
3 الخبائث: جمع خبيثة وهي الفعلة الشنيعة، ومن خبائثهم: اللواط، والتضارط في الأندية وحذف الحصى، والتحريش بين الديك والكلاب. والقرية هي سدوم وعمورة، وما حولهما إذ كانت سبع مدن قلب جبريل منها ستة وأبقى واحدة للوط وعياله وهي: زغر من كورة فلسطين.
4 من قبل إبراهيم ولوط عليهما السلام.
5 الكرب: هو الغّم الشديد وهو هنا: الطرفان.
6 السوء: بفتح السين مصدر: القبيح المكروه من القول والفعل وبضم السين اسم مصدر وهو أعم من السوء بفتح السين.(3/429)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف القائمين بها.
2- فضل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات.
3- ثناء الله تعالى على أوليائه وصالحي عباده بعبادتهم، وخشوعهم له.
4- الخبث إذا كثر في الأمة استوجبت الهلاك والدمار.
5- التنديد بالفسق والتحذير من عواقبه فإنها مدمرة والعياذ بالله.
6- تقرير النبوة المحمدية وتأكيدها إذ مثل هذا القصص لا يتأتى إلا لمن يوحى إليه.
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
شرح الكلمات:
في الحرث: أي في الكرم الذي رعته الماشية ليلا.
نفشت فيه1: أي رعته ليلاً بدون راع.
__________
1 النفش: الرعي ليلا والهمل: الرعي بالنهار.(3/430)
شاهدين: أي حاضرين صدور حكمهم في القضية لا يخفى علينا شيء من ذلك.
ففهمناها: أي القضية التي جرى فيها الحكم.
وكلاً آتينا حكماً وعلماً: أي كلاً من داود وولده سليمان أعطيناه حكماً أي النبوة وعلماً بأحكام الله وفقهها.
يسبحن: أي معه إذا سبح.
وكنا فاعلين: أي لما هو أغرب وأعجب من تسبيح الجبال والطير فلا تعجبوا.
صنعة لبوس لكم: هي الدروع وهي من لباس الحرب.
لتحصنكم: أي تقيكم وتحفظكم من ضرب السيوف وطعن الرماح.
فهل أنتم شاكرون: أي اشكروا فالاستفهام معناه الأمر هنا.
إلى الأرض التي باركنا: أي أرض الشام.
يغوصون: أي في أعماق البحر لاستخراج الجواهر.
ويعملون عملاً دون ذلك: أي دون الغوص كالبناء وغيره وبعض الصناعات.
وكنا لهم حافظين: أي لأعمالهم حتى لا يفسدوها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده، وفي ذلك تقرير لنبوة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كذبت بها قريش فقال تعالى: {وداود وسليمان} أي واذكر يا نبينا داود وسليمان {إذ يحكمان في الحرث} أي اذكرهما في الوقت الذي كانا يحكمان في الحرث الذي {نفشت فيه غنم القوم} أي رعت فيه ليلاً بدون راع فأكلته وأتلفته {وكنا لحكمهم شاهدين} حاضرين لا يخفى علينا ما حكم به كل منهما، إذ حكم داود بأن يأخذ صاحب الحرث الماشية مقابل ما أتلفته لأن المتلف يعادل قيمة الغنم التي أتلفته، وحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الماشية الزرع يقوم عليه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الماشية يستغل صوفها ولبنها وسخالها فإذا(3/431)
ردت إليه كرومه كما كانت أخذها ورد الماشية لصاحبها لم ينقص منها شيء هذا الحكم أخبر تعالى أنه فهم فيه سليمان وهو أعدل من الأول وهو قوله تعالى: {ففهمناها1} أي الحكومة أو القضية أو الفتيا سليمان، ولم يعاتب داود على حكمه، وقال: {وكلاً آتينا2 حكماً وعلماً} تلافياً لما قد يظن بعضهم أن داود دون ولده في العلم والحكم.
وقوله: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} هذا ذكر لبعض ما أنعم به على داود عليه السلام وهو أنه سخر الجبال والطير تسبح معه إذا سبح سواء أمرها بذلك فأطاعته أو لم يأمرها فإنه إذا صلى وسبح صلت معه وسبحت، وقوله: {وكنا فاعلين} أي لما هو أعجب من تسخير الجبال والطير تسبح مع سليمان لأنا لا يعجزنا شيء وقد كتب هذا في كتاب المقادير فأخرجه في حينه، وقوله تعالى: {وعلمناه} أي داود {صنعة لبوس3 لكم} وهي الدورع السابغة التي تقي لابسها طعن الرماح وضرب السيوف بإذن الله تعالى فهي آلة حرب ولذا قال تعالى {لتحصنكم من بأسكم4} {فهل أنتم5 شاكرون؟} أمر لعباده بالشكر على إنعامه عليهم والشكر يكون بحمد الله تعالى والاعتراف بإنعامه، وطاعته وصرف النعمة فيما من أجله أنعم بها على عبده، وقوله {ولسليمان} أي وسخرنا لسليمان {الريح عاصفة} شديدة السرعة {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} إذْ يخرج غازياً أول النهار وفي آخره تعود به الريح تحمل بساطه الذي هو كأكبر سفينة حربية اليوم إلى الأرض التي بارك الله وهي أرض الشام. وقوله: {وكنا بكل شيء عالمين} يخبر تعالى أنه كان وما زال عليماً بكل شيء ما ظهر للناس وما غاب عنهم فكل أحداث الكون تتم حسب علم الله وإذنه وتقديره وحكمته فلذا وجبت له الطاعة واستحق الألوهة والعبادة.
__________
1 يروى أن سليمان كان على باب المحكمة فإذا خرج الخصمان سألهما بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقال: قضى بالغنم لصاحب الحرث فقال: لعل الحكم غير هذا انصرفا معي فأتى أباه فقال: يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع فقال وما هو؟ فقال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث إلى آخر ما هو في التفسير.
2 اختلف هل كان حكمهما بوحي أو باجتهاد فإن كان بوحي فهو نسخ للحكم الأول بالثاني، وإن كان باجتهاد وهو ما عليه الجمهور، ولم يخطى داود ولكن الحكم الذي ألهمه سليمان كان أرفق بالطرفين.
3 هذا مع إلانة الحديد له فقال تعالى في سورة سبأ: {وألنا له الحديد أن اعمل سابغات} واللبوس في العربية: سلاح الحرب من سيف ورمح ودرع وغيرها واللبوس أيضاً: كل ما يلبس قال الشاعر:
إلبس لكل حالة لبوسها
إمّا نعيمها وإما بؤسها
4 قرأ حفص: {لتحصنكم} بالتاء أي: الدروع، وقرأ نافع {ليحصنكم} : أي: اللبوس وقرأ ورش لنُحصنكم بالنون، والإحصان: الوقاية والحماية وفي الآية دليل على وجوب الصناعة على الكفاية.
5 الاستفهام هنا للأمر بالشكر.(3/432)
وقوله: {ومن الشياطين من يغوصون1 له} أي وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في أعماق البحار لاستخراج الجواهر، {ويعملون عملا دون ذلك} كالبناء وصنع التماثيل والمحاريب والجفان وغير ذلك. وقوله تعالى: {وكنا لهم حافظين} أي وكنا لأعمال أولئك العاملين من الجن حافظين لها عالمين بها حتى لا يفسدوها بعد عملها مكراً منهم أو خديعة فقد روى أنهم كانوا يعملون ثم يفسدون ما عملوه حتى لا ينتفع به. هذا كله من إنعام الله تعالى على داود وسليمان وغيره كثير فسبحان ذي الأنعام والافضال إله الحق ورب العالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآلات:
1- وجوب نصب القضاة للحكم بين الناس.
2- بيان حكم الماشية ترعى في حرث الناس وإن كان شرعنا على خلاف شرع من سبقنا فالحكم عندنا إن رعت الماشية ليلاً قوم المتلف على صاحب الماشية ودفعه لصاحب الزرع، وإن رعت نهاراً فلا شيء لصاحب الزرع لأن عليه أن يحفظ زرعه من أن ترعى فيه مواشي الناس لحديث العجماء جبار وحديث ناقة البراء بن عازب.
3- فضل التسبيح.
4- وجوب صنع آلة الحرب وإعدادها للجهاد في سبيل الله.
5- وجوب شكر الله تعالى على كل نعمة تستجد للعبد.
6- بيان تسخير الله تعالى الجن لسليمان يعملون له أشياء.
7- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ من أرسل هؤلاء الرسل وأنعم عليهم بما أنعم لا يستنكر عليه إرسال محمد رسولاً وقد أرسل من قبله رسلاً.
8- كل ما يحدث في الكون من أحداث يحدث بعلم الله تعالى وتقديره ولحكمة تقضيه.
__________
1 الغوص: النزول تحت الماء، والغوّاص: الذي يغوص لاستخراج اللآليء وفعله يقال له: الغواصة على وزن حياكة (مهنة) .(3/433)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86)
شرح الكلمات:
وأيوب: أي واذكر أيوب.
إذ نادى ربه: أي دعاه لما ابتلى بفقد ماله وولده ومرض جسده.
مسني الضر: هو ما ضر بجسمه أو ماله أو ولده.
وذكر ى للعابدين: أي عظة للعابدين، ليصبروا فيثابوا.
وأدخلناهم في رحمتنا: بأن نبأناهم فانخرطوا في سلك الأنبياء إنهم من الصالحين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من شاء من عباده الصالحين فقوله تعالى في الآية الأولى (83) {وأيوب} أي واذكر عبدنا في شكره وصبره وسرعة أَوْبِتَه، وقد ابتليناه بالعافية والمال والولد، فشكر وابتليناه بالمرض وذهاب المال والأهل والولد فصبر. أذكره {إذ نادى ربه} أي داعياً ضارعاً بعد بلوغ البلاء متتهاه ربّ(3/434)
أي يا رب {إني مسني1 الضر وأنت أرحم الراحمين} {فاستجبنا له} دعاءه {فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله} من زوجة وولد {ومثلهم معهم} أي ضاعف له ما أخذه منه بالابتلاء بعد الصبر وأما المال فقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أنزل عليه رَجْلاً من جَرَادٍ من ذهب فكان أيوب يحثو في ثوبه حثيثاً فقال له ربّه في ذلك فقال من ذا لذي يستغنى عن بركتك يا رب. وقوله تعالى: {رحمة من عندنا} أي رحمناه رحمة خاصة، وجعلنا قصته ذكرى وموعظة للعابدين لنا لما نبتليهم بالسراء والضراء فيشكرون ويصبرون ائتساء بعبدنا أيوب {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} 2.
وقوله تعالى: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل3} أي واذكر في عداد المصطفين من أهل الصبر والشكر إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس وهو اخنوخ وذا الكفل {كل من الصابرين} على عبادتنا الشاكرين لنعمائنا، وأدخلناهم في رحمتنا فنبأنا منهم من نبأنا وأنعمنا عليهم وأكرمناهم بجوارنا إنهم من الصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- علو مقام الصبر ومثله الشكر فالأول على البأساء والثاني على النعماء.
2- فضيلة الدعاء وهو باب الاستجابة وطريقها من ألهمه ألهم الاستجابة.
3- في سير الصالحين مواعظ وفي قصص الماضيين عبر.
4- من ابتلى بفقد مال أو أهل أو ولد فصبر كان له من الله الخلف وما يقال عند المصيبة "إنا لله وإنا إليه لراجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً مِنها".
__________
1 هل قول أيوب: {ربّ إني مسني الضرّ} يتنافى مع الصبر؟ والجواب: هذه المسألة ذكر القرطبي في تفسيره نحواً من ستة عشر قولاً، والصحيح أن هذا لا ينافي الصبر لأنه دعاء، والدليل هو قوله تعالى: {فاستجببنا له} ولم يكن شكوى لأنّ الاستجابة تأتي بعد الدعاء لا الاشتكاء، قال الجنيد: عرّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
2 اختلف في مدة مرضه، أصح ما قيل فيها أنها ثماني عشرة سنة وهذا مروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 اختلف في ذي الكفل من هو؟ وأرجح الأقوال ما رواه أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن ذا الكفل لم يكن نبيًّا ولكنه كان عبداً صالحاً فتكفل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلي لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه".(3/435)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91)
شرح الكلمات:
وذا النون: هو يونس بن متَّى عليه السلام وأُضيف إلى النون الذي هو الحوت في قوله تعالى {ولا تكن كصاحب الحوت} لأن حوتة كبيرة ابتعلته.
إذ ذهب مغاضباً: أي لربه تعالى حيث لم يرجع إلى قومه لما بلغه أن الله رفع عنهم العذاب.
فظن أن لن نقدر عليه: أي أن لن نحبسه ونضيق عليه في بطن الحوت من أجل مغاضبته.
في الظلمات: ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.
ونجيناه من الغم: أي الكرب الذي أصابه وهو في بطن الحوت.
لا تذرني فرداً: أي بلا ولد يرث عني النبوة والعلم والحكمة بقرينة ويرث(3/436)
من آل يعقوب.
رغباً ورهباً: أي طمعاً فينا ورهباً منا أي خوفاً ورجاءاً.
أحصنت فرجها: أي صانته وحفظته من الفاحشة.
من روحنا: أي جبريل حيث نفخ في كم درعها عليها السلام.
آية للعالمين: أي علامة على قدرة الله تعالى ووجوب عبادته بذكره وشكره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر افضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده فقال تعالى: {وذا النون} أي واذكر ذا النون أي يونس بن متَّى {إذ ذهب مغاضباً1} لربه تعالى حيث لم يصبر على بقائه مع قومه يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وطاعته وطاعة رسوله فسأل لهم العذاب، ولما تابوا ورفع عنهم العذاب بتوبتهم وعلم بذلك فلم يرجع إليهم فكان هذا منه مغاضبة لربه تعالى وقوله تعالى عنه: {فظن أن لن نقدر عليه} أي ظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يحبسه في بطن الحوت، لا يضيق عليه وهو حسن ظن منه في ربه سبحانه وتعالى؟ ولكن لمغاضبته ربه بعدم العودة إلى قومه بعد أن رفع عنهم العذاب أصابه ربّه تطهيراً له من أمر المخالفة الخفيفة بأن ألقاه في ظلمات ثلاث، ظلمة الحوت والبحر والليل ثم ألهمه الدعاء الذي به النجاة فكان يسبح في الظلمات الثلاث {لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين2} فاستجاب الله تعالى له وهو معنى قوله: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إني3 كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم} الذي أصابه من وجوده في ظلمات محبوساً لا أنيس ولا طعام ولا شراب مع غم نفسه من جراء عدم عودته إلى قومه وقد أنجاهم الله من العذاب. وهو سبب المصيبة، وقوله تعالى:
__________
1 قيل: {مغاضباً لربه} أي: لأجل ربه تعالى حيث عصاه قومه فكان غضبه لله تعالى وهو تأويل حسن إذ يقال: فلان غضب لله. أي: لأجله. وجائز أن يكون مغاضباً لقومه إذ ردوا دعوته ولم يستجيبوا له.
2 {من الظالمين} حيث ترك مداومة قومه والصبر عليهم أو في الخروج من غير إذن له فنزّه ربّه عن الظلم ونسبه إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً.
3 روى أبو داود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "دعاء ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلاّ استجيب له".(3/437)
{وكذلك ننجي المؤمنين1} مما قد يحل بهم من البلاء وقوله تعالى: {وزكريا} أي اذكر يا رسولنا زكريا في الوقت الذي نادى ربه داعياً ضارعاً قائلاً: {ربّ} أي يا رب {لا تذرني فرداً} أي لا تتركني فرداً لا ولد لي يرثني في نبوتي وعلمي وحكمتي ويرث ذلك من آل يعقوب حتى لا تنقطع منهم النبوة والصلاح وقوله: {وأنت خير الوارثين} ذكر هذا اللفظ توسلاً به إلى ربه ليستجيب له دعاءه واستجاب له والحمد لله. فوهبه يحيى وأصلح له زوْجه بأن جعلها ولوداً بعد العقر حسنة الخلق والخُلق. وقوله تعالى: {إنهم كانوا يسارعون} أي زكريا ويحيى ووالدته كانوا يسارعون في الطاعات والقربات أي في فعلها والمبادرة إليها. وقوله: {ويدعوننا رغباً2 ورهباً3} هذا ثناء عليهم أيضاً إذ كانوا يدعون الله رغبة في رحمته ورهبة وخوفاً من عذابه وقوله: {وكانوا لنا خاشعين} أي مطيعين ذليلين متواضعين وهم يعبدون ربهم بأنواع العبادات.
وقوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها4 فنفخنا فيها من روحنا5} أي واذكر يا نبينا تلك المؤمنة التي أحصنت فرجها أي منعته مما حرم الله تعالى عليها وهي مريم بننت عمران اذكرها في عداد من أنعمنا عليهم وأكرمناهم وفضلناهم على كثير من عبادنا الصالحين، حيث نفخنا فيها من روحنا إذ أمرنا جبريل روح القدس ينفخ في كم درعها فسرت النفخة إلى فرجها فحبلت وولدت في ساعة من نهار، وقوله تعالى: {وجعلناها وابنها} أي عيسى كلمة الله وروحه {آية} أي6 علامة كبرى على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا وإنعامنا وواجب عبادتنا وتوحيدنا فيها حيث لا يعبد غيرنا {للعالمين} أي للناس أجمعين
__________
1 قرأ ابن عامر: {نجيّ} بنون واحدة وجيم مشدّدة وتسكين الياء على الماضي وإضمار المصدر أي: وكذلك نجيّ النجاء المؤمنين كما يقال: ضرب زيداً بمعنى: ضرب الضرب زيداً.
2 قيل: الرغب: الدعاء ببطون الأكف إلى السماء، والرهب: رفع ظهورهما. روى الترمذي عن عمر رضي الله عنهما. قال: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه " وروى الترمذي أيضاً عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا سألتم الله فأسالوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورهما وامسحوا بهما وجوهكم". وعن ابن عباس: إن رفع اليدين حذاء الصدر هو الدعاء ورفعهما حتى يجاوز بهما الرأس: فهو الابتهال.
3 {رغبا ورهبا} يصح نصبهما على المصدرية وعلى الحال، وعلى المفعول لأجله.
4 {أحصنت فرجها} : أي: عفّت فامتنعت عن الفاحشة، وقيل: إن المراد من فرجها فرج القميص: أي لم تعلق بثيابها ريبة أي: أنها طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل، قال السهيلي: هذا من لطيف الكناية لأن القرآن ألطف إشارة وأنزه عبارة.
5 إضافة الروح إلى الله تعالى: إضافة تشريف كبيت الله، وقيل فيه: روح الله لأنه مبعوث من قبله سبحانه وتعالى.
6 آية اسم جنس فمريم آية، وعيسى عليه السلام آية.(3/438)
يستدلون بها على ما ذكرنا آنفاً من وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة دعوة ذي النون: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} . إذ ورد أنه ما دعا بها مؤمن إلا استجيب له، وقوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} يقوي هذا الخبر.
2- استحباب سؤال الولد لغرض صالح لا من أجل الزينة واللهو به فقط.
3- تقرير أن الزوجة الصالحة من حسنة الدنيا.
4- فضيلة المسارعة في الخيرات والدعاء برغبة ورهبة والخشوع في العبادات وخاصة في الصلاة والدعاء.
5- فضيلة العفة والاحصان للفرج.
6- كون مريم وابنها آية لأن مريم ولدت من غير فحل، ولأن عيسى كان كذلك وكلم الناس في المهد، وكان يحيى الموتى بإذن الله تعالى.
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96)(3/439)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
شرح الكلمات:
إن هذه أمتكم: أي ملتكم وهي الإسلام ملة واحدة من عهد آدم إلى العهد المحمدي إذ دين الأنبياء واحد وهو عبادة الله تعالى وحده بما يشرع لهم.
وأنا ربكم فاعبدون: أنا إلهكم الحق حيث خلقتكم ورزقتكم فلا تنبغي العبادة إلا لي فاعبدون ولا تعبدوا معي غيري.
وتقطعوا أمرهم بينهم: أي وتفرقوا في دينهم فأصبح لكل فرقة دين كاليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنيات وما أكثرها.
كل إلينا راجعون: أي كل فرقة من تلك الفرق التي قطعت الإسلام راجعة إلينا وسوف نجزيها بكسبها.
فلا كفران لسعيه: أي لا نكران ولا جحود لعمله بل سوف يجزى به وافياً.
وإنا له كاتبون: إذ الكرام الكاتبون يكتبون أعمال العباد خيرها وشرها.
وحرام: أي ممتنع رجوعهم إلى الدنيا.
يأجوج ومأجوج: قبيلتان موجودتان وراء سدهما الذي سيفتح عند قرب الساعة.
حدب: أي مرتفع من الأرض.
ينسلون: أي يسرعون المشي.
الوعد الحق: يوم القيامة.
في غفلة من هذا: أي من يوم القيامة وما فيه من أحداث.(3/440)
معنى الآيات:
بعد ذكر أولئك الأنبياء وما أكرمهم الله تعالى به من افضالات وما كانوا عليه من كمالات قال تعالى مخاطباً الناس كلهم: {إن هذه أمتكم} 1 أي ملتكم {أمة واحدة} أي ملة واحد من عهد أول الرسل إلى خاتمهم وهو الإسلام القائم على الإخلاص لله في العبادة والخلوص من الشرك وقوله تعالى: {وتقطعوا2 أمرهم بينهم} ينعي تعالى على الناس تقطعيهم الإسلام إلى ملل شتى كاليهودية والنصرانية وغيرهما، وتمزيقه إلى طوائف ونحل، وقوله: {وكل إلينا راجعون} إخبار منه تعالى أنهم راجعون إليه لا محالة بعد موتهم وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون ومن ذلك تقطيعهم للدين الإسلامي وتمزيقهم له فذهبت كل فرقة بقطعة منه. وقوله تعالى: {فمن3 يعمل من الصالحات} والحال أنه مؤمن، والمراد من الصالحات ما شرعه الله تعالى من عبادات قلبية وقولية وفعلية {فلا كفران لسعيه} أي لعمله فلا يجحد ولا ينكر بل يراه ويجزى به كاملاً. وقوله تعالى: {وإنا له كاتبون} يريد أن الملائكة تكتب أعماله الصالحة بأمرنا ونجزيه بها أيضاً أحسن جزاء وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.
وقوله تعالى: {وحرام4 على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} يخبر تعالى أنه ممتنع امتناعاً كاملاً أن يهلك أمة بذنوبها في الدنيا ثم يردها إلى الحياة في الدنيا، وهذا بناء على أن {لا} مزيدة لتقوية الكلام ويحتمل الكلام معنى آخر وهي ممتنع على أهل قرية قضى الله تعالى بعذابهم في الدنيا أو في الآخرة أنهم يرجعون إلى الإيمان والطاعة بالتوبة الصادقة وذلك بعد أن كذبوا وعاندوا وظلموا وفسقوا فطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون إلى التوبة بحال، ومعنى ثالث وهو حرام على أهل قرية أهلكهم الله بذنوبهم فأبادهم إنهم
__________
1 قرأ الجمهور: {إن هذه أمتكم} برفع أمتكم على الخبرية ونصب أمّة واحدة على الحال، والرصف. وقرأ بعض: {أمتكم أمةٌ واحدة} بالرفع فيهما.
2 تفرقوا في الدين واختلفوا فيه.
3 {من الصالحات} من للتبعيض إذ من غير الممكن أن يعمل العبد كل الصالحات ويأتي بكل الطاعات، وقوله {وهو مؤمن} وموحد أيضاً فإن الشرك محبط للعمل.
4 في حرام قراءات ووجوه منها: {حرام} وهي قراءة الجمهور وحِرم مثل حِل وحلال. وحرم كمرض، وحرُم كشرف، وحرّم: كضرب، وحرّم كبدّل، وحرم كعلم مشددة اللام وحَرم كفرح وحُرم كقفل تسع قراءات.(3/441)
لا يرجون إلى الله تعالى يوم القيامة بل يرجعون للحساب والجزاء فهذه المعاني كلها صحيحة، والمعنى الأخير لا تكلف فيه بكون {لا} صلة بل هي نافية ويرجح1 المعنى الأخير قوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج2 ومأجوج} فهو بيان لطريق رجوعهم إلى الله تعالى وذلك يوم القيامة وبدايته بظهور علاماته الكبرى ومنها انكسار سد يأجوج ومأجوج وتدفقهم في الأرض يخربون ويدمرون {وهم من كل حدب3} وصوب {ينسلون} مسرعين. وقوله تعالى: {واقترب4 الوعد الحق} وهو يوم الدين والحساب والجزاء وقوله: {فإذا هي شاخصة5 أبصار الذين كفروا} وذلك بعد قيامهم من قبورهم وحشرهم إلى أرض المحشر وهم يقولون في تأسف وتحسر {يا ويلنا} أي يا هلاكنا {قد كنا في غفلة} أي في دار الدنيا {بل كنا ظالمين} فاعترفوا بذنبهم حيث لا ينفعهم الاعتراف إذ لا توبة تقبل يومئذ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وحدة الدين وكون الإسلام هو دين البشرية كافة لأنه قائم على أساس توحيد الله تعالى في عبادته التي شرعها ليعبد بها.
2- بيان ما حدث للبشرية من تمزيق الدين بينها بحسب الأهواء والأطماع والأغراض.
3- وعد الله لأهل الإيمان والعمل الصالح بالجزاء الحسن وهو الجنة.
__________
1 شاهد أن لا: نافية وليست بصلة، ولكون لفظ الحرام معناه الوجوب قول الخنساء:
وإنّ حراماً لا أرى الدهر باكيا
على شجوه إلا بكيت على صخر
تريد أخاها صخراً.
2 في الكلام حذف تقديره: حتى إذا فتع سد يأجوج ومأجوج، مثل: واسأل القرية. أي أهل القرية.
3 الحدب: ما انقطع من الأرض، والجمع حداب مأخوذ من حدبة الظهر، قال عنترة:
فما رعشت يداي ولا ازدهاني
تواترهم إليّ من الحداب
و (ينسلون) يخرجون مسرعين، قال امرؤ القيس: فسلي ثيابي من ثيابك تنسل.
وقال النابغة: عسلان الذئب أمسى قارباً
برد الليل عليه فنَسلَ
أي أسرع.
4 قل: الواو زائدة مقحمة، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق. فاقترب: جواب إذا والواو مقحمة، ومثله: وتلّه للجبين، وناديناه أي: للجبين ناديناه، وأجاز بعضهم أن يكون جواب إذا: فإذا هي شاخصة ويكون اقترب الوعد الحق: معطوفاً.
5 هي: ضمير الأبصار، والأبصار بعدها: تفسير لها كأنه قال: فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيىء الوعد.(3/442)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
4- تقرير حقيقة وهي إذا قَضِي بهلاك أمة تعذرت عليها التوبة، وأن أمة يهلكها الله تعالى لا تعود إلى الحياة الدنيا بحال وإن البشرية عائدة إلى ربها فممتنع عدم عودة الناس إلى ربهم، وذلك لحسابهم وجزائهم يوم القيامة.
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
شرح الكلمات:
وما تعبدون من دون الله: أي من الأوثان والأصنام.
حصب جهنم: أي ما توقد به جهنم.
لو كان هؤلاء آلهة: أي الأوثان التي يعبدها المشركون من قريش.
ما وردوها: أي لحالوا بين عابديهم ودخول النار لأنهم آلهة قادرون على ذلك ولكنهم ليسوا آلهة حف فلذا لا يمنعون عابديهم(3/443)
من دخول النار.
وكل فيها خالدون: أي العابدون من الناس والمعبودون من الشياطين والأوثان.
لهم فيها زفير: أي لأهل النار فيها أنين وتنفس شديد وهو الزفير.
سبقت لهم منا الحسنى: أي كتب الله تعالى أزلاً أنهم أهل الجنة.
حسيسها: أي حِسّ صوتها.
لا يحزنهم الفزع الأكبر: أي عند النفخة الثانية نفخة البعث فإنهم يقومون من قبورهم آمنين غير خائفين.
كطي السجل للكتب: أي يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماء طيّ الورقة لتدخل في الظرف.
كما بدأنا أول خلق نعيده: أي يعيد الله الخلائق كما بدأهم أول مرة فيبعث الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا، كما ولدوا لم ينقص منهم شيء.
معنى الآيات:
يقول تعالى للمشركين الذين بدأت السورة الكريمة بالحديث عنهم، وهم مشركوا قريش يقول لهم مُوعداً: {إنكم وما تعبدون1 من دون الله} من أصنام وأوثان {حصب2 جهنم} أي ستكونون أنتم وما تعبدون من أصنام وقوداً لجهنم التي أنتم واردوها لا محالة، وقوله تعالى: {لو كان هؤلاء آلهة} لو كان هؤلاء التماثيل من الأحجار التي يعبدها المشركون لو كانوا آلهة حقاً ما ورد النار عابدوها لأنهم يخلصونهم منها ولما ورد النار المشركون ودخلوها دل ذلك على أن آلهتهم كانت آلهة باطلة لا تستحق العبادة بحال. وقوله تعالى: {كل فيها خالدون} أي المعبودات الباطلة وعابدوها الكل في جهنم
__________
1 قوله {ما تعبدون} فيه دليل على وجود العموم في الألفاظ.، فإن ابن الزبعرى لمَّا نزلت هذه الآية أتت به قريش وقالت له: انظر محمداً شتم آلهتنا، فقال: لو حضرت لرددت عليه، قالوا: وما كنت تقول له؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى واليهود تعبد عزيراً، أفهما من حصب جهنم؟. فعجبت من مقالته ورأوا أن محمداً قد خُصم. فأنزل الله تعالى {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون} . فدَّل قوله تعالى وما تعبدون على العموم وخصه الله تعالى بهذه الآية {إن الذين سبقت لهم منَّا الحسنى أولئك عنها مبعدون} .
2 قرأ الجمهور حصب بالصاد، وقرأ علي وعائشة رضي الله عنهما بالطاء أي حطب. والحصب أعَمّ، إذ كل ما هُيجت به النار وأوقدت به فهو حصب.(3/444)
خالدون. وقوله: {لهم فيها زفير1 وهم فيها لا يسمعون} يخبر تعالى أن للمشركين في النار زفيراً وهو الأنين الشديد من شدة العذاب وأنهم فيها لا يسمعون لكثرة الأنين وشدة الأصوات وفظاعة ألوان العذاب وقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} نزلت هذه الآية رداً على ابن الزِّيَعْري عندما قال إن كان ما يقوله محمد حقاً بأننا وآلهتنا في جهنم فإن الملائكة معنا في جهنم لأننا نعبدهم، وأن عيسى والعزير في جهنم لأن اليهود عبدوا العزيز والنصارى عبدوا المسيح. فأخبر تعالى أن من عبد بغير رضاه بذلك وكان يعبدنا ويتقرب إلينا بالطاعات فهو ممن سبقت لهم هنا الحسنى بأنهم من أهل الجنة هؤلاء عنها أي عن جهنم مبعدون {لا يسمعون حسيسها} أي حس صوتها وهم في الجنة ولهم فيها ما يشتهون خالدون، لا يحزنهم الفزع2 الأكبر عند قيامهم من قبورهم بل هم آمنون {تتلقاهم الملائكة} عند القيام من قبورهم بالتحية والتهنئة قائلة لهم: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} وقوله تعالى: {يوم نطوي السماء} أي يتم لهم ذلك يوم يطوي الجبار جل جلاله السماء بيمينه {كطي3 السجل} أي الصحيفة للكتب. وذلك يوم القيامة حيث تبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات. وقوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} أي يعيد الإنسان كما بدأ خلقه فيخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا4. وقوله: {وعداً علينا إنا كنا فاعلين} أي وعدنا بإعادة الخلق بعد فنائهم وبلاهم وعداً، إنا كنا فاعلين فأنجزنا ما وعدنا، وإنا على ذلك لقادرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
__________
1 الزفير نَفَسٌ يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغم، وهو هنا من أحوال المشركين لا الأصنام.
2 لا يُحزنهم بضم الياء من أحزنه، وبفتحها من حزنه قراءتان سبعيتان، والفزع الأكبر: أهوال يوم القيامة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار.
3 السجل: الكاتب يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها. هذا المعنى أوضح مما في التفسير.
4 الغرل: جمع أغرل وهو من لم يختتن فتقطع منه غلفة ذكره، وأول من يكسى إبراهيم كما في صحيح مسلم.(3/445)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
2- من عبد من دون الله بأمره أو برضاه سيكون ومن عبده وقوداً لجهنم ومن لم يأمر ولم يرض فلا يدخل النار مع من عبده بل العابد له وحده في النار.
3- بيان عظمة الله وقدرته إذ يطوي السماء بيمينه، والأرض في قبضته يوم القيامة.
4- بعث الناس حفاة عراة غرلا لم ينزع منهم شيء ولا غلفة الذكر إنجاز الله وعده في قوله: {كما بدأكم تعودون} فسبحان الواحد القهار العزيز الجبار.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
شرح الكلمات:
ولقد كتبنا في الزبور: أي في الكتب التي أنزلنا كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والقرآن.
من بعد الذكر: أي من بعد أن كتبنا ذلك في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ.(3/446)
إن الأرض1: أي أرض الجنة.
عبادي الصالحون: هم أهل الإيمان والعمل الصالح من سائر الأمم من أتباع الرسل عامة.
إن في هذا لبلاغا: أي إن في القران لبلاغاً أي لكفاية وبلغة لدخول الجنة فكل من آمن به وعمل بما فيه دخل الجنة.
لقوم عابدين: أي مطيعين الله ورسوله.
رحمة للعالمين: أي الإنس والجن فالمؤمنون المتقون يدخلون الجنة والكافرون ينجون من عذاب الاستئصال والابادة الذي كان يصيب الأمم السابقة.
فهل أنتم مسلمون: أي أسلموا فالاستفهام للأمر.
وان أدرى: أي ما أدري.
فتنة لكم: أي اختبار لكم.
على ما تصفون: من الكذب من أن النبي ساحر، وأن الله اتخذ ولداً وأن القرآن شعر.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بوعده الكريم الذي كتبه في كتبه المنزلة بعد كتابته في الذكر الذي هو كتاب المقادير المسمى باللوح المحفوظ أن أرض الجنة يرثها عباده الصالحون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (155) وقوله تعالى: {إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين2} أي في هذا القرآن العظيم لبلاغاً لمن كان من العابدين لله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه لكفاية في الوصول به إلى بغيته وهي رضوان الله والجنة وقوله تعالى {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} يخبر تعالى أنّه ما أرسل رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا رحمة للعالمين3
__________
1 في الأرض: الأرض المقدسة، وقال مرة أنها أرض الكفار ترثها أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 العابدون قال أبو هريرة وسفيان الثوري هم أهل الصلوات الخمس.
3 قال ابن زيد: المؤمنون خاصة، والعموم أولى وأصح من الخصوص.(3/447)
إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم فالمؤمنون بإتباعه يدخلون رحمة الله وهي الجنة والكافرون يأمنون من عذاب الإبادة والاستئصال في الدنيا ذلك العذاب الذي كان ينزل بالأمم والشعوب عندما يكذبون رسلهم وقوله تعالى {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون1} يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه ولمن يبلغهم خطابه إن الذي يوحى إلى هو أن إلهكم إله واحد أي معبودكم الحق واحد وهو الله تعالى ليس غيره وعليه {فهل أنتم مسلمون} أي أسلموا له قلوبكم ووجوهكم فاعبدوه ولا تعبدوا معه سواه فبلغهم يا رسولنا هذا {فإن تولوا} أي أعرضوا عن هذا الطلب ولم يقبلوه {فقل آذنتكم} أي اعلمتكم {على سواء} أنا وأنتم انه لا تلاقي بيننا فأنا حرب عليكم وأنتم حرب عليّ وقوله تعالى: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} أي وقل لهم يا رسولنا: إني ما أدرى أقريب ما توعدون من العذاب أم بعيد فالعذاب كا ئن لا محالة ما لم تسلموا إلا أني لا أعلم وقته. وفي الآية وعيد واضح وتهديد شديد وقوله: {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} أي يعلم طعنكم العلني، في الإسلام وكتابه ونبيه، كما يعلم ما تكتمونه في نفوسكم من عداوتي وبغضي وما تخفون من إحَنٍ وفي هذا إنذار لهم وتهديد، وهم مستحقون لذلك.
وقوله: {وإن أدري} أي وما أدرى {لعله2} أي تأخير العذاب عنكم بعد استحقاقكم له يحرِ بكم للإسلام ونبيه {فتنة لكم} أي اختبار لعلكم تتوبون فيرفع عنكم العذاب أو هو متاع لكم بالحياة إلى آجالكم، ثم تعذبون بعد موتكم. فهذا علمه إلى ربي هو يعلمه، وبهذا أمرني بأن أقوله لكم. وقوله تعالى: {قال رب احكم بالحق} وفي قراءة قُلْ رب احكم بالحق أي قال الرسول بعد أمر الله تعالى بذلك يا رب احكم بيني وبين قومي المكذبين لي المحاربين لدعوتك وعبادك المؤمنين بالحق وذلك بنصري عليهم أو بإنزال نقمتك بهم، وقوله: {وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون3} أي وربنا الرحمن عز
__________
1 الاستفهام معناه الأمر أي أسلموا كقوله تعالى {فهل أنتم منتهون} ؟ أي انتهوا.
2 لعله أي الإمهال والتأخير.
3 تصفون قرأ الجمهور تصفون بالتاء، وقرأ بعض يصفون بالياء.(3/448)
وجلّ هو الذي يستعان به على إبطال باطلكم أيها المشركون حيث جعلتم لله ولداً، وشركاء، ووصفتم رسوله بالسحر والكذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المؤمنون المتقون وهم الصالحون هم ورثة الجنة دار النعيم المقيم.
2- في القرآن الكريم البُلغة الكافية لمن آمن به وعمل بما فيه بتحقيق ما يصبو إليه من سعادة الدار الآخرة.
3- بيان فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرامته على ربه حيث جعله رحمة للعالمين.
4- وجوب المفاصلة بين أهل الشرك وأهل التوحيد.
5- طلب الاستعانة بالله على كل ما يواجه العبد من صعاب وأتعاب(3/449)
سورة الحج
مكية ومدنية
وآياتها1 ثمان وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ
__________
1 ذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال: سورة الحج من أعاجيب سورة القرآن. نزلت ليلاً ونهاراً سفراً وحصراً مكيّاً ومدينّا سليماً وحربيّاً ناسخاً ومنسوخاً محكما ومتشابهاً.(3/449)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
(2) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي عذاب ربكم وذلك بالإيمان والتقوى.
إن زلزلة الساعة: أي زلزلة الأرض عند مجىء الساعة.
تذهل كل موضعة: أي من شدة الهول والخوف تنسى رضيعها وتغفل عنه.
وتضع كل ذات حمل حملها: أي تسقط الحوامل ما في بطونهن من الخوف والفزع.
سكارى وما هم بسكارى: أي ذاهلون فاقدون رشدهم وصوابهم كالسكارى وما هم بسكارى.
يجادل في الله بغير علم.: أي يقول إن الملائكة بنات الله وإن الله لا يحيي الموتى.
شيطان مريد: أي متجرد من كل خير لا خير فيه البتة.
كتب عليه أنه من تولاه: فرض فيه أن من تولاه أي اتبعه يضله عن الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان الإلهي في سورة الأنبياء وما عرض تعالى من أدلة الهداية وما بين من سبل النجاة نادى تعالى بالخطاب العام الذي يشمل العرب والعجم والكافر والمؤمن إنذاراً وتحذيراً فقال في فاتحة هذه السورة سورة الحج المكية المدنية لوجود أي كثير فيها نزل في مكة وآخر نزل بالمدينة: {يا أيها الناس اتقوا1 ربكم} أي خافوا عذابهُ، وذلك
__________
1 روى الترمذي وصححه عن عمران بن خصين رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت {يا أيها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم} إلى قوله: {شديد} قال: أنزلت عليه في سفر: فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذاك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار قال يا ربّ وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال: فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قاربوا وسدّدوا فإنه لم تكن نبوة قط إلاّ كان بين يديها جاهلية قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلاّ أخذ من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبّروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبّروا ثمّ قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا". الرقمة: الهنة الناتئة في ذراع الدابة والشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه.(3/450)
بطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه فآمنوا به وبرسوله وأطيعوها في الأمر والنهي وبذلك تقوا أنفسكم من العذاب وقوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} فكيف بالعذاب الذي يقع فيها لأهل الكفر والمعاصي، إن زلزلة لها تتم قبل قيامها1 تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت أي تنسى فيها الأم ولدها، {وتضع كل ذات حمل حملها} فتسقط من شدة الفزع لتلك الزلزلة المؤذنة بخراب الكون وفناء العوالم ويرى الناس فيها سكارى أي فاقدين لعقولهم وما هم بسكارى بشرب سكر {ولكن عذاب الله شديد} فخافوه لظهور أماراته ووجود بوادره.
هذا ما دلت عليه الآيتان (1) و (2) وأما الآية الثالثة فينعى تعالى على النضر بن الحارث وأمثاله ممن يجادلون في الله بغير علم فينسبون لله الولد والبنت ويزعمون أنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا يحيي الموتى بعد فناء الأجسام وتفتتها فقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} بجلال الله وكماله ولشرائعه وأحكامه وسننه في خلقه، {ويتبع} أي في جداله وما يقوله من الكذب والباطل {كل شيطان مريد} أي متجرد من الحق والخير، {كتب2 عليه} أي على ذلك الشيطان في قضاء الله أن من تولاه بالطاعة والإتباع فإنه يضله عن الحق ويهديه بذلك إلى عذاب السعير في النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالهما وأهوالهما.
2- حرمة الجدال بالباطل لإدحاض الحق وإبطاله.
3- حرمة الكلام في ذات الله وصفاته بغير علم من وحي إلهي أو كلام نبوي صحيح.
4- موالاة الشياطين وأتباعهم يفضى بالموالي المتابع لهم إلى جهنم وعذاب السعير.
__________
1 الذي عليه أكثر أهل التفسير أن هذه الزلزلة تتم بنفخة الفناء بقرينة الحمل والوضع وحديث الترمذي الصحيح دال على أنها بعد البعث، والجمع بينهما: صحيح أولا لا مانع من أن يقع هذا وذاك وهو كذلك والقرآن حمّال الوجوه، فهذا الهول العظيم سيقع حتماً في النفخة الأولى، وفي ساحة فصل القضاء، وأمّا موضوع الحمل والوضع فكائن أيضاً في عرصات القيامة إذ الناس يبعثون على ما ماتوا عليه فالحامل تبعث حاملا والمرضع تبعث ترضع أيضاً.
2 قال قتادة ومجاهد: من تولى الشيطان فإنه يضله.(3/451)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7)
شرح الكلمات:
في ريب من البعث: الريب الشك مع اضطراب النفس وحيرتها، والبعث الحياة بعد الموت.
من نطفة: قطرة المنّي التي يفرزها الزوجان.
علقة: أي قطعة دم متجمد تتحول إليه النطفة في خلال أربعين يوماً.
مضغة: أي قطعة لحم قدر ما يمضغ المرء تتحول العلقة إليها بعد أربعين يوماً.
وغير مخلقة: أي مصورة خلقاً تاماً، مخلقة وغير مخلقة هي السقط يسقط(3/452)
قبل تمام خلقه.
لنبين لكم: أي قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم بابتداء خلقكم كيف يكون.
ونقر في الأرحام ما نشاء: أي ونبقي في الرحم من نريد له الحياة والبقاء إلى نهاية مدة الحمل ثم نخرجه طفلاً سوياً.
لتبلغوا أشدكم: أي كمالي أبداًنكم وتمام عقولكم.
إلى أرذل العمر: أي سن الشيخوخة والهرم فيخرف.
لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً: أي فيصير كالطفل في معارفه إذ ينسى كل علم علمه.
هامدة: خامدة لا حراك لها ميتة.
اهتزت وربت: أي تحركت بالنبات وارتفعت تربتها وأنبتت.
زوج بهيج: أي من كل نوع من أنواع النباتات جميل المنظر حسنه.
ذلك بأن الله هو الحق: أي الإله الحق الذي لا إله سواه، فعبادة الله حق وعبادة غير الله باطل.
وأن الساعة آتية: أي القيامة.
بعث من في القبور: أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم أحياء كما كانوا قبل موتهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وأهوالها، وكان الكفر بالبعث الآخر هو العائق عن الاستجابة للطاعة وفعل الخير نادى تعالى الناس مرة أخرى ليعرض عليهم أدلة البعث العقلية لعلهم يؤمنون فقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} أي في شك وحيرة وقلق نفسى من شأن بعث الناس أحياء من قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا فإليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى قد خلقكم1 من تراب أي خلق
__________
1 هذا دليل قاطع وهو دليل البداءة الأولى فمن قدر على البداءة قادر عقلاً على الإعادة وهي أهون عليه.(3/453)
أصلكم وهو أبوكم آدم من تراب وبلا شك، ثم خلقكم أنتم من نطفة1 أي ماء الرجل وماء المرأة وبلا شك، ثم من علقة2 بعد تحول النطفة إليها ثم من مضغة3 بعد تحول العلقة إليها وهذا بلا شك أيضاً، ثم المضغة إن شاء الله تحويلها إلى طفل خلقها وجعلها طفلاً، وإن لم يشأ ذلك لم يخلقها وأسقطها من الرحم4 كما هو معروف ومشاهد، وفعل الله ذلك من أجل أن يبين لكم قدرته وعلمه وحسن تدبيره لترهبوه وتعظموه وتحبوه وتطيعوه وقوله: {ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً5} أي ونقر تلك المضغة المخلقة في الرحم إلى أجل مسمى وهو ميعاد ولادة الولد وانتهاء حمله ونخرجكم طفلاً أي أطفالاً صغاراً لا علم لكم ولا حلم، ثم ننميكم ونربيكم بما تعلمون من سننا في ذلك {ثم لتبغلوا أشدكم} أي تمام نماء أبدانكم وعقولكم {ومنكم من يتوفى} قبل بلوغه أشده لأن الحكمة الإلهية اقتضت وفاته ومنكم من يعيش ولا يموت حتى يرد إلى أرذل العمر فيهرم ويخرف ويصبح كالطفل لا يعلم بعد علم كان له قبل هرمه شيئاً هذا دليل البعث وهو دليل عقلي منطقي وبرهان قوي على حياة الناس بعد موتهم إذ الذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة يوجب العقل قدرته على إحيائهم بعد موتهم، إذ ليست الإعادة بأصعب من البداية. ودليل عقلي آخر هو ما تضمنه قوله تعالى: {وترى الأرض} أيها الإنسان {هامدة} خامدة ميتة لا حراك فيها ولا حياة فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء من السماء {اهتزت} أي تحركت {وربت} أي ارتفعت وانتفخت تربتها وأخرجت من النباتات المختلفة الألوان والطعوم والروائح {من كل زوج بهيج} جميل المنظر حسنه، أليس وجود تربة صالحة كوجود رحم صالحة وماء المطر كماء الفحل
__________
1 النطفة: المني، وسمي نطفة لقلّته.
2 العلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيطُ أي: الطري.
3 هذه الأطوار أربعة أشهر، قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأربعة أشهر ينفخ فيه الروح، فذلك عدّة الوفاة منها أربعة أشهر وعشر، وفي الصحيح عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليُجُمَع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات.. رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
4 روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لسقط أقدّمه بين يدي أحبّ إليّ من ألف فارس أخلّفه ورائي".
5 أي: فخرج كل واحد منكم طفلا، ويطلق الطفل على الولد من يوم انفصاله إلى البلوغ وولد كل وحشية يقال له طفل ويوصف به مفرداً كالمصدر فيقال: جارية طفل وجاريتان طفل، وجوار طفل، وغلام طفل وغلامان طفل، ويجمع الطفل على أطفال، وأطفلت المرأة: صارت ذات طفل.(3/454)
وتخلق النطفة في الرحم كتخلق البذرة في التربة وخروج الزرع حياً نامياً كخروج الولد حياً نامياً وهكذا إلى حصاد الزرع وموت الإنسان فهذان دليلان عقليان على صحة البعث الآخر وأنه كائن لا محالة وفوق ذلك كله إخبار الخالق وإعلامه خلقه بأنه سيعيدهم بعد موتهم فهل من العقل والمنطق أو الذوق أن نقول له لا فإنك لا تقدر على ذلك قولة كهذه قذرة عفنة لا يود أن يسمعها عقلاء الناس وأشرافهم. ولما ضرب تعالى هذين المثالين أو ساق هذين الدليلين على قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لإعادة الناس أحياء بعد الموت والفناء للحساب والجزاء قال وقوله الحق {ذلك بأن الله هو الحق1} أي الرب الحق والإله المعبود الحق، وما عداه فباطل {وأنه يحيي2 الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} ومن شك فليراجع الدليلين السابقين في تدبر وتعقل فإنه يسلم لله تعالى ما أخبر به عن نفسه في قوله ذلك {بأن الله هو الحق} الخ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الأعمال يوم القيامة.
2 بيان تطور خلق الإنسان ودلالته على قدرة الله وعلمه وحكمته.
3- الاستدلال على الغائب بالحاضر المحسوس وهذا من شأن العقلاء فإن المعادلات الحسابية والجبرية قائمة على مثل ذلك.
4- تقرير عقيدة التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 لما ذكر تعالى افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره في قوله {يا أيها الناس} إلى قوله: {بهيج} قال ذلك إشارة إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه وإحياء الأرض بعد موتها وانشقاق النبات منها أي: ذلك حصل بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره.
2 ومن براهين ألوهيته الحقة دون من سواه أنه يحيى الموتى وأنه على كل ما يريده قدير وأنه موجد الدنيا والآخرة وسيفني هذه في ساعة آتية لا محالة، وسيبعث الناس من القبور للحياة الثانية فيخلدون فيها منهم شقي ومنهم سعيد.(3/455)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
شرح الكلمات:
يجادل في الله: أي في شأن الله تعالى فينسب إلى الله تعالى ما هو منه براء كالشريك والولد والعجز عن إحياء الموتى، وهذا المجادل هو أبو جهل.
بغير علم: أي بدون علم من الله ورسوله.
ولا كتاب منير: أي ولا كتاب من كتب الله ذي نور يكشف الحقائق ويقرر الحق ويبطل الباطل.
ثاني عطفه: أي لآوى عنقه تكبراً، لأن العطف الجانب من الإنسان.
له في الدنيا خزي: وقد أذاقه الله تعالى يوم بدر إذ ذبح هناك واحتز رأسه.
بظلام للعبيد: أي بذي ظلم للعبيد فيعذبهم بغير ظلم منهم لأنفسهم.
يعبد الله على حرف: أي على شك في الإسلام هل هو حق أو باطل وذلك لجهلهم به(3/456)
وأغلب هؤلاء أعراب البادية.
اطمأن به: أي سكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.
وإن أصابته فتنة: أي ابتلاء بنقص مال أو مرض في جسم ونحوه.
إنقلب على وجهه: أي رجع عن الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر الجاهلي.
مالا يضره ولا ينفعه: أي صنماً لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عَبَدَه..
لبئس المولى: أي قبح هذا الناصر من ناصر.
ولبئس العشير: أي المعاشر وهو الصاحب الملازم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} هذه شخصية ثانية معطوفة على الأولى التي تضمنها قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وهي شخصية النضر بن الحارث أحد رؤساء الفتنة في مكة، وهذِه الشخصية هي فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يخبر تعالى عنه فيقول: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير1} بل يجادل بالجهل وما أقبح جدال الجهل والجهّال ويجادل في الله عز وجل يا للعجب أفيريد ان يثبت لله تعالى الولد والبنت والعجز والشركاء والشفعاء، ولا علم من وحي عنده، ولا من كتاب إلهي موحى به إلى أحد أنبيائه. وقوله تعالى: {ثاني عطفه} وصف له في حال مشيه وهو يجر رداءه مصعراً خده مائلاً إلى أحد جنبيه كبراً وغروراً، وجداله لا لطلب الهدى أو لمجرد حب الانتصار للنفس بل ليضل غيره عن سبيل الله تعالى الذي هو الإسلام حتى لا يدخلوا فيه فيكملوا ويسعدوا عليه في الحياتين. وقوله تعالى: {له في الدنيا خزي2} أي ذل وهوان وقد ناله حيث قتل في بدر شر قتلة فقد احتز رأسه وفصل عن جثته ونال منه الذين كان يسخر منهم ويعذبهم من ضعفة المؤمنين، وقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} وقد أذاقه ذلك بمجرد أن قتل فروحه في النار ويوم
__________
1 نير بيّن الحجة قويها، والمراد من الكتاب: كتب الشرائع مثل: التوراة والإنجيل من الكتب الأولى والقرآن آخرها نزولا.
2 في هذه الآية إخبار بغيب فكان كما أخبر تعالى فإن كلاًّ من أبي جهل والنضر بن الحارث قد أذلهما الله وأخذهما ببدر، فأبو جهل قتل وأخذ رأسه، والنضر قتل صبراً، والآية قطعاً نزلت بمكة فهي من معجزات القرآن الكريم.(3/457)
القيامة. يدخلها بجسمه وروحه وقوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والهوان وعذاب الحريق بما قدمت يداك من الشرك والظلم والمعاصي، {وأن الله ليس بظلام للعبيد} ، وأنت منهم والله ما ظلمك بل ظلمت نفسك، والله متنزه عن الظلم لكمال قدرته وغناه وقوله تعالى: {ومن الناس1 من يعبد الله على حرف2} أي على شك هذه شخصية ثالثة عطفت على سابقتيها وهي شخصية بعض الأعراب كانوا يدخلون في الإسلام لا عن علم واقتناع بل عن شك وطمع وهو معنى على حرف فإن أصابهم خير من مال وصحة وعافية اطمأنوا إلى الإسلام وسكنت نفوسهم واستمروا عليه، وإن أصابتهم فتنة أي اختبار في نفس أو مال أو ولد انقلبوا على وجوههم أي ارتدوا عن الإسلام ورجعوا عنه فخسروا بذلك الدنيا والآخرة فلا الدنيا حصلوا عليها ولا الآخرة فازوا فيها، قال تعالى: {ذلك هو الخسران المبين} أي البين الواضح إذ لو بقوا على الإسلام لفازوا بالآخرة، ولأخلف الله عليهم ما فقدوه من مال أو نفس، وقوله تعالى {يدعو من دون الله} أي ذلك المنقلب على وجهه المرتد يدعوا {مالا يضره} أي صنماً لا يضره لو ترك عبادته {وما لا ينفعه} إن عبده وقوله تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد} أي دعاء وعبادة مالا يضر ولا ينفع ضلال عن الهدى والخير والنجاح والربح وبعيدٌ أيضاً قد لا يرجع صاحبه ولا يهتدي. وقوله: {يدعو3 لمن ضره أقرب من نفعه} أي يدعو ذلك المرتد عن التوحيد إلى الشرك من ضره يوم القيامة أقرب من نفعه فقد يتبرأ منه ويحشر معه في جهنم ليكونا معاً وقوداً لها. قال تعالى: {لبئس المولى ولبئس4 العشير} المعاشر والصاحب الملازم فذم تعالى وقبح ما كان المشركون يؤملون فيهم ويرجون شفاعتهم5 يوم القيامة،.
__________
1 هذه الآية نزلت بالمدينة النبوية فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.
2 حرف كل شيء: طرفه وجانبه والآية تمثيل لحال المتردد في عمله.
3 أي: في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار ولم ير منه نفعاً أصلا وإنما قال: (ضرّه أقرب من نفعه) ترفيعاً للكلام نحو: (إنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) ومعنى الكلام: القسم والتأخير أي: يدعو والله من ضرّه أقرب من نفعه، والمدعو هو الوثن الذي عبده من دون الله تعالى.
4 هذه الجمل تحمل الذم والتقبيح للأصنام التي يدعوها المركون فإنها شر الموالي وشر العشير، لأن شأن الولي جلب النفع لمولاه وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا كان العكس كانا شر الموالي والعشراء.
5 قال تعالى من سورة يونس: {ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، {وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهذا منهم على فرض إن بعثوا أحياء يوم القيامة أو يرجون شفاعتهم في الدنيا.(3/458)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
تنفيراً لهم من الشرك وعبادة غيره سبحانه وتعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قبح جدال الجاهل فيما ليس له به علم.
2- ذم الكبر والخيلاء وسواء من كافر أو من مؤمن.
3- عدم جدوى عِبَاَدةٍ صاحبُها شاك في نفعها غير مؤمن بوجوبها ومشروعيتها.
4- لا يصح دين مع الشك.
5- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
شرح الكلمات:
وعملوا الصالحات: أي الفرائض والنوافل وأفعال الخير.
يفعل ما يريد: من إكرام المطيع وإهانة العاصي وغير ذلك من رحمة المؤمن وعذاب الكافر.
أن لن ينصره الله: أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/459)
فليمدد بسبب: أي بحبل.
إلى السماء: أي سقف بينه وليختنق غيظاً.
هل يذهبن كيده: أي في عدم نصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يغيظه.
وكذلك أنزلناه: أي ومثل إنزالنا تلك الآيات السابقة أنزلنا القرآن.
هادوا: أي اليهود.
والصابئين: فرقة من النصارى.
والمجوس: عبدة النار والكواكب.
على كل شيء شهيد: أي عالم به حافظ له.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء الكافرين والمترددين بين الكفر والإيمان أخبر أنه تعالى يدخل الذين آمنوا به وبرسوله ولقاء ربهم ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض التي افترضها الله عليهم والنوافل التي رغبهم فيها يدخلهم جزاء لهم على إيمانهم وصالح أعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله تعالى: {إن الله يفعل ما يريد1} ومن ذلك تعذيبه من كفر به وعصاه ورحمة من آمن به وأطاعه وقوله تعالى: {من2 كان يظن أن لن ينصره الله} أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ودينه وعباده المؤمنين فلذا هو يتردد ولم يؤمن ولم ينخرط في سلك المسلمين كبني أسد وغطفان فإنا نرشده إلى ما يذهب عنه غيظه حيث يسوءه نصر الله تعالى لرسوله وكتابه ودينه وعباده المؤمنين وهو أن يأتي بحبل وليربطه بخشبة في سقف بيته ويشده على عنقه ثم ليقطع الحبل3، وينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل كيده4 هذا يذهب عنه الذي يغيظه؟.
__________
1 هذه الجملة الكريمة هي تذييل لكلّ ما تقدم لقوله: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} ومتضمنة تعليلاً إجمالياً لاختلاف الناس في الخير والشر ولما يلقون من جزاء كذلك.
2 الظاهر أن هذا فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين وهما: فريق من يجادل في الله بغير علم وفريق من يعبد الله على حرف وهذا الفريق الثالث قد يكون من اليهود والمنافقين وبعض المشركين الذين كانوا يغتاظون لانتصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم لا يودّون ذلك ولا كانوا يرون انتصاره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائنا فكلما رأوا نصراً له ازداد غمهم واشتد كربهم لأن انتصاره يحزنهم ويخيفهم.
3 قرأ الجمهور: {ليقطع} بسكون اللام لوجود ثم العاطفة وقرأ بعضٌ {ليقطع} بكسر اللام لأن ثم ليست كالفاء والواو العاطفتين لأنها مركبة من ثلاثة أحرف.
4 {هل يذهبن كيده ما يغيظ} الاستفهام إنكاري، وما: مصدرية أي: هل يذهبن كيده غيظه.(3/460)
وقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه آيات بينات} أي ومثل ذلك الإنزال للآيات التي تقدمت في بيان قدرة الله وعلمه في الخلق وإحياء الأرض وإعادة الحياة بعد الفناء أنزلنا القرآن آيات واضحات تحمل الهدى والخير لمن آمن بها وعمل بما فيها من شرائع وأحكام وقوله تعالى: {وأن الله يهدي من يريد} أي هدايته بأن يوفقه للنظر والتفكر فيعرف الحق فيطلبه ويأخذ به عقيدة وقولاً وعملاً.
وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا1} وهم المسلمون {والذين هادوا} وهم اليهود {والصابئين} وهم فرقة من النصارى يقرأون الزبور ويعبدون الكواكب {والنصارى} وهم عبدة الصليب {والمجوس} وهم عبدة النار2 والكواكب {والذين أشركوا} وهم عبدة الأوثان هؤلاء جميعا سيحكم3 الله بينهم يوم القيامة فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل أهل تلك الملل الباطلة النار هذا هو الفصل الحق فالأديان ستة دين واحد للرحمن وخمسة للشيطان فأهل دين الرحمن يدخلهم في رحمته، وأهل دين الشيطان يدخلهم النار مع الشيطان وقوله: {إن الله على كل شيء شهيد} أي عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء وسيجزى كل عامل بما عمل، ولا يهلك على الله إلا هالك فقد أنزل كتابه وبعث رسوله ورغب ورهب وواعد وأوعد والناس يختارون ما قدر لهم أو عليهم وسبحان الله العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل الأديان هي من وحي الشيطان وأهلها خاسرون إلا الإسلام فهو دين الله الحق وأهله هم الفائزون، أهله هم القائمون عليه عقيدة وعبادة وحكماً وقضاء.
2- إن الله ناصر دينه، ومكرم أهله، ومن غاظه ذلك ولم يرضه فليختنق.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- تقرير إرادة الله ومشيئته فهو تعالى يفعل ما يشاء ويهدي من يريد.
__________
1 هذه الآية نزلت كالفذلكة لما سبق فقررت الصراع الدائر بين الحق والباطل وسمت المتصارعين بألقابهم وأعلمتهم أنّ الحكم فيهم مؤجل إلى يوم القيامة وسيكون عادلاً لعلم الله تعالى بهم وحفظه لأعمالهم.
2 لذا فهم يثبتون إلهين إلها للخير وإلها للشر وهم أهل فارس، وأقدم النحل المجوسية أسسها ملك فارسي قديم في التاريخ يدعى (كبومرث) .
3 هذا تفسير لقوله تعالى في الآية: {إن الله يفصل بينهم} إذ الفصل هو الحكم.(3/461)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (18)
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تر بقلبك فتعلم.
يسجد له: أي يخضع ويذل له بوضع وجهه على الأرض بين يدي الرب تعالى.
من في السموات: من الملائكة.
والدواب: من سائر الحيوانات التي تدب على الأرض.
حق عليه العذاب: وجب عليه العذاب فلا بد هو واقع به.
ومن يهن الله: أي يُشقهِ في عذاب مهين.
فماله من مكرم: أي ليس له من مكرم أي مسعد ليسعده، وقد أشقاه الله.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألم تر} 1 أيها الرسول بقلبك فتعلم {أن الله2 يسجد له من في السموات} من الملائكة {ومن في الأرض} من الجن والدواب {والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} وهم المؤمنون المطيعون وكثير أي من الناس حق عليهم العذاب أي وجب لهم العذاب وثبت، فهو لا يسجد سجود عبادة وقربة لنا أما سجود الخضوع فظلالهم تسجد3 لنا بالصباح والمساء، وقوله تعالى: {ومن يهن الله فماله من مكرم} أي ومن أراد الله إشقاءه وعذابه فما له من مكرم يكرمه بِرَفْع
__________
1 قال القرطبي: هذه رؤية القلب أي: ألم تر بقلبك، وعقلك.
2 قد استعمل السجود في هذه الآية. في حقيقته ومجازه.
3 وكذلك خضوعهم لأحكام الله تعالى فيهم ومجاري أقداره عزّ وجلّ عليهم من صحة ومرض وغنىً وفقر وحياة وموت.(3/462)
العذاب عنه واسعاده في دار السعادة وقوله: {إن الله يفعل ما يشاء} 1 فمن شاء أهانه ومن شاء أكرمه فالخلق خلقه وهو المتصرف فيهم مطلق التصرف فمن شاء أعزه، ومن شاء أذله فعلى عباده أن يرجعوا إليه بالتوبة سائلين رحمته مشفقين من عذابه فهذا أنجى لهم من عذابه وأقرب إلى رحمته.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير ربوبية الله وألوهيته.
2- سجود المخلوقات بحسب ذواتها، وما أراد الله تعالى منها.
3- كل شيء خاضع لله إلا الإنسان فأكثر أفراده عصاة له متمردون عليه وبذلك استوجبوا العذاب المهين.
4- التالي لهذه الآية والمستمع لتلاوته يسن لهم أن يسجدوا لله تعالى إذا بلغوا قوله تعالى: {إن الله يفعل ما يشاء} .
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
__________
1 الجملة تعليلية لما سبق من أحكام لله تعالى بالإكرام والإهانة بحسب الطاعة والعصيان.(3/463)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
شرح الكلمات:
خصمان: خصم مؤمن وخصم كافر كل واحد يريد أن يخصم صاحبه.
اختصموا في ربهم: أي في دينه.
قطعت لهم ثياب: أي فصلت لهم ثياب على قدر أجسامهم.
يصهر به ما في بطونهم: أي يذاب بالحميم وهو الماء الحار من شحوم وغيرها.
مقامع من حديد: جمع مقمعة وهى آلة من حديد كالمجن.
وذوقوا عذاب الحريق: أي يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: ذوقوا عذاب النار.
ولؤلؤا: أي أساور من لؤلؤ محلاة بالذهب.
إلى الطيب من القول: هو شهادة أن لا إله إلا الله.
إلى صراط الحميد: أي إلى الإسلام إذ هو طريق الله الموصل إلى رضاه وجنته.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {هذان خصمان1} الخصم الأول المسلمون والثاني أهل الشرك والكفر {اختصموا في ربهم} أي في دينه تعالى كل خصم يدعي أنه على الدين الحق، وماتوا على ذلك وفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة {فالذين كفروا} وهم أهل الدين الباطل ادخلوا النار وفصلت2 لهم ثياب من نار {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} أي الماء الحار المنتهي في الحرارة، {يصهر3 به ما في بطونهم والجلود} من لحم وشحم، {ولهم مقامع من حديد} يضربون بها و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي من النار بسبب ما ينالهم من غم عظيم {أعيدوا فيها} أي تجبرهم الزبانية على العودة إليها ولم تمكنهم من الخروج
__________
1 روى مسلم عن قبس بن عبادة رضي الله عنه قال: سمعت أبا ذرّ يقسم قسماً: "إن هذان خصمان اختصموا في ربهم} أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر وهم: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة أبناء ربيعة والوليد ابن عتبة، وقال عليّ رضي الله عنه إني لأوّل من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. يريد قصته في المبارزة هذه، وعموم الآية يشمل الخصومة بين أهل الإسلام وأهل الكتاب، كما يشمل خصومة الجنة والنار لحديث مسلم "احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلها الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه يدخلها الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها".
2 قطعت: فصلت أي: تقطّع لهم في الآخرة ثياب من نار، وذكر بلفظ الماضي لأنّ ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق، كما قال تعالى {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس..} أي: يقول الله وجائز أن يكون قد أعدّت لهم تلك الثياب ليلبسوها يوم القيامة وهذا أولى. وتلك الثياب من النحاس المذاب وهي السرابيل المذكورة ني سورة إبراهيم من قطران.
3 الصَّهر: إذابة الشحم والصهارة: ما ذاب منه.(3/464)
منها، ويقولون لهم: {وذوقوا عذاب الحريق} أي لا تخرجوا منها وذوقوا عذاب الحريق. فهذا جزاء الخصم الكافر، وأما الخصم المؤمن فهذا جزاؤه وهو في قوله تعالى: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا1} أي أساور2 من لؤلؤ محلاة بالذهب {ولباسهم فيها} أي في الجنة {حرير3} وقوله تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول} في الدنيا وهو لا إله إلا الله وسائر الأذكار والتسابيح وكل كلام طيب، {وهدوا إلى صراط الحميد} وهذا الطريق الموصل إلى رضا ربهم وهو الإسلام، وكل ذلك بتوفيق ربهم الذي آمنوا له وبرسوله وأطاعوه بفعل محابه وترك مساخطه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات حقيقة هي أن المؤمن خصم الكافر والكافر خصم المؤمن في كل زمان ومكان حيث إن الآية نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث هذا الخصم المؤمن، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهذا الخصم الكافر وذلك أنهم تقاتلوا يوم بدر بالمبارزة ونصر الله الخصم المؤمن على الكافر.
2- بيان جزاء كل من الكافرين والمؤمنين في الدار الآخرة.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الآخرة وما للناس فيها.
4- بيان الطيب من القول وهو كلمة التوحيد وذكر الله تعالى.
5- بيان صراط الحميد وهو الإسلام جعلنا الله من أهله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
__________
1 نصب على تقدير: ويحلَّون لؤلؤاً.
2 قالت العلماء: ليس أحد من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسورة. سوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ وسوار من فضة.
3 روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وصحّ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة".(3/465)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
شرح الكلمات:
كفروا: جحدوا توحيد الله وكذَّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم.
ويصدون عن سبيل الله: يمنعون الناس من الإسلام، ويصرفونهم عنه.
والمسجد الحرام: مكة المكرمة والمسجد الحرام ضمنها1.
العاكف: المقيم بمكة للتعبد في المسجد الحرام.
والباد: الطاريء عن مكة النازح إليها.
بإلحاد بظلم: أي إلحاداً أي ميلاً عن الحق مُلتبساً بظلم لنفسه أو لغيره.
معنى الآية الكريمة:
قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون2 عن سبيل الله} هذه الآية الكريمة تحمل تهديداً ووعيداً شديداً لكل من كفر بتوحيد الله وكذب رسوله وما جاء به من الهدى والدين الحق وصدَّ عن سبيل الله أي صرف الناس عن الدخول في الإسلام، وعن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت والإقامة بمكة للتعبد في المسجد الحرام والآية وإن تناولت المشركين الذين صدوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية فإنها عامة في كل من كفر وصدَّ إلى يوم القيامة وقوله تعالى: {الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادِ} هو وصف للمسجد الحرام إذ جعله الله تعالى موضع تنسُّك لكل من أتاه وأقام به أو يأتيه للعبادة ثم يخرج منه، فالعاكف أي المقيم فيه كالبادي الطارىء القدوم إليه هم سواء في حق الإقامة في مكة3 والمسجد الحرام للتعبد.
وقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} أي يرد بمعنى يعتزم الميل عن الحق فيه بظلم يرتكبه كالشرك وسائر الذنوب والمعاصي القاصرة على الفاعل أو المتعدية إلى غيره. وقوله تعالى: {نذقه من4 عذاب أليم} هذا جزاء من كفر وصد عن سبيل الله
__________
1 هذا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل وهو شائع لغة شائع تعبيرا.
2 أي: وهم يصدّون، وقيل الواو مزيدة أي: إن الذين كفروا يصدّون، وهذا ضعيف والصحيح أن خبر إن محذوف تقديره: خسروا وهلكوا ولا يصح أن يكون نذقه لأنه مجزوم.
3 كان في الصدر الأول أبواب دور مكة مفتوحة لكل من يريد النزول بها حاجاً أو معتمراً حتى سرق منزل أحدهم فاتخذ له باباً فأنكر عليه عمر ذلك فقال الرجل: إنما اتخذت الباب لأحفظ لهم متاعهم فتركه عمر فاتخذ الناس من يومئذ الأبواب.
قال مالك. دور مكة ليست كالمسجد بل لهم أن يمنعوا من النزول بها من شاءوا.
(نذقه) جواب مَن: الشرطية في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} .(3/466)
والمسجد الحرام ومن أراد فيه إلحاداً1 بظلم لنفسه2 أو لغيره.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- التنديد بالكفر والصدَّ عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك.
2- مكة بلد الله وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال.
3- عظيم شأن الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل.
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
__________
1 الباء: في بإلحاد: الاجماع على أنها صلة لتقوية الكلام لشيوع مثلها في كلام العرب والأصل: ومن يرد فيه إلحاداً قال الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج
2 لا يؤاخذ المؤمن بالنية السيئة في أي بلد كان إلاّ بمكة المكرمة لهذه الآية.(3/467)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
شرح الكلمات:
إذ بوأنا لإبراهيم: أي أذكر يا رسولنا إذ بوأنا: أي أنزلنا إبراهيم بمكة مبينين له مكان البيت.
أن لا تشرك بي1 شيئاً: أي ووصيناه بأن لا تشرك بي شيئاً من الشرك والشركاء.
وطهر بيتي: ونظف بيتي من أقذار الشرك وأنجاس المشركين.
وأذن في الناس بالحج: أعلن في الناس بأعلى صوتك.
رجالاً وعلى كل ضامر: مشاة وركباناً على ضوامر الإبل.
فج عميق: طريق واسع بعيد الغور في قارات الأرض.
في أيام معلومات: هي أيام التشريق.
بهيمة الأنعام: أي الإبل والبقر والغنم إذ لا يصح الهدى إلا منها.
البائس الفقير: أي الشديد الفقر.
ليقضوا تفثهم: أي ليزيلوا أوساخهم المترتبة على مدة الإحرام.
وليوفوا نذورهم: أي بأن يذبحوا وينحروا ما نذروه لله من هدايا وضحايا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم2} أي اذكر يا رسولنا لقومك المنتسبين إلى إبراهيم باطلاً وزوراً حيث كان موحداً وهم مشركون اذكر لهم كيف بوأه ربّه مكان البيت لِيَبْنِيه ويرفع بناءه وكيف عهد الله إليه ووصاه بأن يطهره من الأقذار الحسية كالنجاسات من دماء وأوساخ والمعنوية كالشرك والمعاصي وسائر الذنوب وذلك من أجل الطائفين به والقائمين في الصلاة والراكعين والساجدين فيه إذ الرُّكع جمع راكع والسجد جمع ساجد حتى لا يتأذوا بأي أذى معنوي أو حسيّ وهم حول بيت ربهم وفي بلده وحرمه، ليذكر قومك هذا وهم قد نصبوا حول البيت التماثيل والأصنام، ويحاربون كل من يقول لا إله إلا الله وقد صدوك وأصحابك عن المسجد الحرام ومنعوك من الطواف بالبيت العتيق، فأين يذهب
__________
1 {أن} : الصحيح أنها تفسيرية والقول أو ما في معناه: مقدر فيها نحو وقلنا أو وصينا أو عهدنا.
2 يقال: بوأه كذا وبوأ له كذا فاللام مزيدة لتقوية الكلام كما يقال مكنته من كذا، ومكنت له كذا، ومعنى بوأنا لإبراهيم أي: أريناه أصله. وكان قد درس بطول العهد وأنزلناه فيه.(3/468)
بعقولهم عندما يدعون أنهم على دين إبراهيم وإسماعيل. هذا ما دل عليه قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بني شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} .
وقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج1} أي وعهدنا إليه آمرين إياه أن يؤذن في الناس بأن ينادي معلناً معلماً: أيها الناس2 إن ربكم قد بنى لكم بيتاً فحجوه ففعل ذلك فأسمع الله صوته من شاء من عباده ممن كتب لهم أزلا أن يحُجوا وسهل طريقهم وحجوا فعلاً ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {يأتوك رجالاً} أي عليك النداء وعلينا البلاغ فنادِ {يأتوك رجالاً} أي مشاة {وعلى كل ضامر} من النوق المهازيل {يأتين من كل فج عميق} أي طريق بعيد في أغوار الأرض وأبعادها كالأندلس غرباً وأندونيسيا شرقاً. وقوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} أي يأتوك ليشهدوا منافع لهم دينيَّة كمغفرة ذنوبهم واستجابة دعائهم والفوز برضا ربهم، وتعلم دينهم من علمائهم، ودنيويّة كربح تجارة ببيع وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات، وقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله} شاكرين لله تعالى إنعامه عليهم وإفضاله وذلك في أيام الحج كلها من العشر الأول من ذي الحجة إلى نهاية أيام التشريق بالصلاة والذكر والدعاء، كما يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند نحر الإبل وذبح البقر والغنم بأن يقول الناحر أو الذابح بسم الله والله أكبر3 قوله تعالى: {فكلوا منها} أي من بهيمة الأنعام التي نحرتموها أو ذبحتموها4 تقرباً إلينا كهدى التمتع أو التطوع، {واطعموا البائس الفقير} وهو من اشتد به الفقر وقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} بإزالة الشعث والوسخ الذي لازمهم طيلة مدة الإحرام. وقوله: {وليوفوا نذورهم} أن من كان منهم قد نذر هدياً بذبحه في الحرم فليوف بذلك إذ هذا أوان الوفاء بما نذر أن ينحره أو يذبحه
__________
1 وقرىء: {وآذن} بمعنى: أعلم، {وأذّن} : قراءة الجمهور وهي أولى، والأذان: الإعلام.
2 روي عن ابن عباس وابن جير: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج قال له يا ربّ: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك فمن أجاب يومئذ حجّ على قدر الإجابة إن أجاب مرّة فمرة وإن أجاب مرتين فمرتين وجرت التلبية على ذلك.
3 السنة في ذبح الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد، ومن ذبح قبل ذلك أعاد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم" ويستحب في ذبح الأضحية والهدي أن يقول بعد التسمية الواجبة: اللهم منك ولك.
4 المشهور وعليه الأكثر أنّ أيام النحر ثلاثة وهي: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.(3/469)
بالحرم. وقوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} أي وليطوفوا طواف الإفاضة وهو ركن الحج ولا يصح إلا بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة صباح العيد عيد الأضحى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب بناء البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب ومن الأقذار كالأبوال والدماء ونحوها.
2- مشروعية فتح مكاتب للدعاية للحج.
3- جواز الاتجار أثناء إقامته في الحج.
4- وجوب شكر الله تعالى وذكره.
5- جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه.
6- وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي جمرة العقبة.
7- وجوب الوفاء بالنذور الشرعية1 أما النذور للأولياء فهي شرك ولا يجوز الوفاء بها.
8- تقرير طواف الإفاضة2 وبيان زمنه وهو بعد الوقوف بعرفة وعي جمرة العقبة.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ
__________
1 لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا وفاء لنذر في معصية الله، وقال ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه.
2 أما طواف القدوم فواجب عند مالك وطواف الوداع سنة مؤكدة ويسقط بالعذر عند أكثر أهل العلم، لسقوطه عن الحائض إجماعاً، ومن أهل العلم من يرى طواف القدوم سنة ليس بواجب.(3/470)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
(32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
شرح الكلمات:
ذلك: أي الأمر هذا مثل قول المتكلم هذا أي ما ذكرت.. وكذا وكذا..
حرمات الله: جمع حرمة ما حرَّم الله إنتهاكه من قول أو فعل.
فهو خير له عند ربه: أي خير في الآخرة لمن يعظم حرمات الله فلا ينتهكها.
إلا ما يتلى عليكم: أي تحريمه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
فاجتنبوا الرجس: أي اجتنبوا عبادة الأوان.
واجتنبوا قول الزور: وهو الكذب وأعظم الكذب ما كان على الله تعالى1 والشرك وشهادة الزور.
حنفاء لله: موحدين له مائلين عن كل دين إلى الإسلام.
خرَّ من السماء: أي سقط.
فتخطفه الطير: أي تأخذه بسرعة.
شعائر الله: أعلام دينه وهي هنا البُدْن بأن تختار الحسنة السمينة منها.
فإنها من تقوى القلوب: أي تعظيمها ناشىء من تقوى قلوبهم.
لكم فيها منافع: منها ركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وشرب لبنها.
إلى أجل مسمى: أي وقت معين وهو نحرها بالحرم أيام التشريق.
ثم محلها إلى البيت العتيق: أي عند البيت العتيق وهو مكة والحرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مناسك الحج قوله تعالى {ذلك} أي الأمر ذاك الذي علمتم من قضاء التفث أي إزالة شعر الرأس وقص الشارب وقلم الأظافر ولباس الثياب ونحر وذبح الهدايا والضحايا، {ومن يعظم} منكم {حرمات الله} فلا ينتهكها {فهو خير له} أي ذلك التعظيم لها باحترامها وعدم انتهاكها خير له عند ربّه يوم يلقاه وقوله تعالى: {وأحلت لكم
__________
1 وكذلك الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".(3/471)
الأنعام} أي الإبل والبقر والغنم أحل الله تعالى لكم أكلها، والانتفاع بها وقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} تحريمه كما جاء في سورة البقرة والمائدة والأنعام، ومن ذلك قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيَّتُمْ وما ذبح على النصب} وقوله: {فاجتنبوا الرجس1 من الأوثان} أي اجتنبوا عبادة الأوثان فإنها رجس فلا تقربوها بالعبادة ولا بغيرها غضبا لله وعدم رضاً بها وبعبادتها، وقوله: {واجتنبوا قول الزور} وهو الكذب مطلقاً وشهادة الزور وأعظم الكذب ما كان على الله بوصفه بما هو منزه عنه أو بنسبه شيء إليه كالولد والشريك وهو عنه منزه، أو وصفه بالعجز أو بأي نقص وقوله {خنفاء2 لله غير مشركين} أي موحدين لله تعالى في ذاته وصفاته وعباداته مائلين عن كل الأديان إلى دينه الإسلام، غير مشركين به أي شيء من الشرك أو الشركاء وقوله تعالى: {ومن يشرك بالله} إلهاً آخر فعبده أو صرف له بعض العبادات التي هي لله تعالى فحاله في خسرانه وهلاكه هلاك من خرَّ من السماء أي سقط منها بعدما رفع إليها {فتخطفه الطير} أي تأخذه بسرعة وتمزقه أشلاء كما تفعل البازات والعقبان بصغار الطيور، أو تهوى به الريح في مكان سحيق بعيد فلا يعثر عليه أبداً فهو بين أمرين إما اختطاف الطير له أو هوى الريح به فهو خاسر هالك هذا شأن من يشرك بالله تعالى فيعبد معه غيره بعد أن كان في سماء الطهر والصفاء الروحي بسلامة فطرته وطيب نفسه فانتكس في حمأة الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: {ذلك ومن يعظم3 شعائر الله فإنها من تقوى4 القلوب} أي الأمر ذلك من تعظيم حرمات الله واجتناب قول الزور والشرك وبيان خسران المشرك ومن يعظم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر المناسك وبخاصة البدن التي تهدى للحرم وتعظيمها باستحسانها واستسماتها ناشىء عن تقوى القلوب فمن عظمها طاعة لله تعالى وتقرباً إليه دل ذلك
__________
1 الرجس: الشيء القذر، والوثن: التمثال من خشب أو حديد وغيرهما ومن: كونها لابتداء الغاية أولى ليعم الأمر اجتناب كل رجس في اعتقاد أو قول أو عمل إذ كل الأنجاس محرَّمة.
2 لفظ: حنفاء: من الأضداد يقع على الاستقامة والميل معاً، ومعناها مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وعن الأديان إلى الإسلام.
3 الشعائر: جمع شريعة. وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر عباده به وأعلمهم، والشعار: العلامة، ومنه شعار الحرب وإشعار: البدنة لتعلم أنها مهداة للحرم، فشعائر الله: أعلام دينه لاسيما المناسك وما يتعلّق بها.
4 أضيفت التقوى إلى القلوب لأنّ حقيقة التقوى في القلب، والتقوى من الخوف والخوف في القلب ويشهد لهذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التقوى ها هنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات.(3/472)
على تقوى قلبه لربه تعالى والرسول يشير إلى صدره ويقول التقوى ها هنا التقوى ها هنا ثلاث مرات وقوله تعالى: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} أي أذن الله تعالى للمؤمنين أن ينتفعوا بالهدايا وهم سائقوها إلى الحرم بأن يركبوها1 ويحملوا عليها ما لا يضرها ويشربوا من ألبانها وقوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت2 العتيق} أي محلها عند البيت العتيق وهو الحرم حيث تنحر إن كان مما ينحر أو تذبح إن كان مما يذبح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تعظيم حرمات الله لما فيها من الخير العظيم.
2- تقرير حلِّيَّة بهيمة الأنعام بشرط ذكر اسم ا! ته عند ذبحها أو نحرها.
3- حرمة قول الزور وشهادة الزور وفي الأثر عدلت3 شهادة الزور الشرك بالله.
4- وجوب ترك عبادة الأوثان ووجوب البعد عنها وترك كل ما يمت إليها بصلة.
5- بيان عقوبة الشرك وخسران المشرك.
6- تعظيم شعائر الله وخاصة البدن من تقوى قلوب أصحابها.
7- جواز الانتفاع بالبدن الهدايا بركوبها وشرب لبنها والحمل عليها إلى غاية نحرها بالحرم.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا
__________
1 في الصحيح أنّ رجلاً يسوق بدنه فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اركبها فقال الرجل إنها بدنة قال: اركبها قال: إنها بدنة، وفي الثالثة قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اركبها ويلك"
2 إن كان الهدي في الحج فمحلّه بعد رمي جمرة العقبة ولا ينحر أو يذبح قبله، وإن كان في غير الحج، وإنما هدي مهدى إلى الحرم فمحلّه مكة حيث يطعمه فقراؤها وفقراء الحرم كله.
3 وفي الصحيح: "إن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور.. " الحديث.(3/473)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
شرح الكلمات:
منسكاً: أي ذبائح من بهيمة الأنعام يتقربون بها إلى الله تعالى، ومكان الذبح يقال له منسك.
فله أسلموا: أي انقادوا ظاهراً وباطناً لأمره ونهيه.
وبشر المخبتين: أي المطيعين المتواضعين الخاشعين.
وجلت قلوبهم: أي خافت من الله تعالى أن تكون قصَّرتْ في طاعته.
والبدن: جمع بدنة وهى ما يساق للحرم من إبل وبقر ليذبح تقرباً إلى الله تعالى.
م ن شعائر الله: أي من أعلام دينه، ومظاهر عبادته.
صوآف: جمع صافة وهي القائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى.
فإذا وجبت جنوبها: أي بعد أن تسقط على جنوبها على الأرض لا روح فيها.
القانع والمعتر: القانع1 السائل والمعتر الذي يتعرض للرجل ولا يسأله حياء وعفة.
__________
1 القانع: من الأضداد يطلق على ذي القناعة وعلى من لا قناعة له فهو يسأل، إلاّ أن الفعل الماضي لذي القناعة مكسور العين فعل كعلم، وفعل: من لا قناعة له فهو يسأل فعل: بفتح العين كنصح ينصح.(3/474)
كذلك سخرناها: أي مثل هذا. التسخير سخرناها لكم لتركبوا عليها وتحملوا وتحلبوا.
لعلكم تشكرون: أي لأجل أن تشكروا الله تعالى بحمده وطاعته.
لن ينال الله لحومها: أي لا يرفع إلى الله لحم ولا دم، ولكن تقواه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
لتكبروا الله على ما هداكم: أي تقولون الله أكبر بعد الصلوات الخمس أيام التشريق شركاً له على هدايته إياكم.
وبشر المحسنين: أي الذين يريدون بالعبادة وجه الله تعالى وحده ويؤدونها على الوجه المشروع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين فقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً} أي ولكل أمة من الأمم السابقة من أهل الإيمان والإسلام جعلنا لهم مكان نسك يتعبدوننا فيه ومنسكاً1 أي ذبح قربان ليتقربوا به إلينا، وقوله: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} أي شرعنا لهم عبادة ذبح القربان لحكمة: وهو أن يذكروا اسمنا على ذبح ما يذبحون ونحر ما ينحرون بأن يقولوا بسم الله والله أكبر. وقوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} أي فمعبودكم أيها الناس معبود واحد {فله أسلموا} وجوهكم وخصوه بعبادتكم ثم قال لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وبشر المخبتين} برضواننا ودخول دار كرامتنا ووصف المخبتين معرفاً بهم الذين تنالهم البشرى على لسان رسول الله فقال {الذين إذا ذكر الله} لهم أو بينهم {وجلت قلوبهم} أي خافت شعوراً بالتقصير في طاعته وعدم أداء شكره والغفلة عن ذكره {والصابرين على ما أصابهم} من البلاء فلا يجزعون ولا يتسخطون ولكن يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون،
__________
1 يقال: نسك ينسك نُسكاً: إذا ذبح ذبح تقرّب لله تعالى، والذبيحة تسمى نسيكة وجمعها: نسك، ومنها قوله تعالى: {أو صدقة أو نسك} والنسك: الطاعة لله، وهي عبادته، ومن ذلك قولهم: تنسّك فلان: أي تعبد فهو ناسك ومتنسك، والمنسك بفتح السين وكسرها موضع العبادة، ومنه مناسك الحج وهي الأماكن التي تؤدى فيها الشعائر كعرفات ومزدلفة ومنى ومكة.(3/475)
{والمقيمي} الصلاة1 أي بأدائها في أوقاتها في بيوت الله مع عباده المؤمنين ومع كامل شرائطها وأركانها وسننها {ومما رزقناهم ينفقون} مما قل أو كثر ينفقون في مرضاة ربهم شكر الله على ما آتاهم وتسليماً بما شرع لهم وفرض عليهم.
وقوله تعالى: {والبدن2 جعلناها لكم من شعائر الله} أي الإبل والبقر مما يُهدى إلى الحرم جعلنا ذلكم من شعائر ديننا ومظاهر عبادتنا، {لكم فيها خير} عظيم وأجر كبير عند ربكم يوم تلقوه إذ ما تقرب متقرب يوم عيد الأضحى بأفضل من دم يهرقه في سبيل الله وعليه {فاذكروا اسم الله عليها} أي قولوا بسم الله والله أكبر عند نحرها، وقوله: {صوآف3} أي قائمة على ثلاثة معقولة اليد اليسرى، فإذا نحرتموها ووجبت أي سقطت على جنوبها فوق الأرض ميتة {فكلوا منها وأطعموا القانع4} الذي يسألكم {والمعتر} الذي يتعرض لكم ولا يسألكم حياءاً، وقوله تعالى: {سخرناها لكم} أي مثل ذلك التسخير الذي سخرناها لكم فتركبوا وتحلبوا وتذبحوا وتأكلوا سخرناها لكم من أجل أن تشكرونا بالطاعة والذكر. وقوله تعالى في آخر آية في هذا السياق وهي (37) قوله: {لن5 ينال الله لحومها ولا دماؤها} أي لن يرفع إليه لحم ولا دم ولن يبلغ الرضا منه، ولكن التقوى بالإخلاص وفعل الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه هذا الذي يرفع إليه ويبلغ مبلغ الرضا منه.
__________
1 قرأ الجمهور بكسر التاء من الصلاة على الإضافة، وقرأ أبو عمرو: (الصلاة) بفتحها على توهم النون، وأنّ حذفها كان للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:
الحافظو عورة العشيرة لا
يأتيهم من ورائنا نَطف
النطف: التلطخ بالعيب والاتهام بريبة أو فجور.
2 البدن: بضم الباء والدال، والبُدن: بضم الباء وإسكان الدال لغة فصيحة وقرأ الجمهور: (والبدن) بإسكان الدال واحدها بدنة كثمرة وثمر، وخشبة وخشب وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة: السمن، وتطلق على البقر على الصحيح فمن نذرها أجزأته البقرة، وهي كالبعير تجزىء عن سبعة في هدي التمتع والقرآن.
3 أصل هذا اللفظ مأخوذ من صفن الفرس إذا وقف على ثلاثة أرجل، ورفع الرابعة ومنها: تنحر الإبل بعد أن توقف على ثلاثة وتعقد اليد اليسرى منها، وقرىء (صوافي) و (صوافٍ) من الصفاء الذي هو الخلوص لله تعالى أي: خالصة له عزّ وجلّ.
4 القانع: اسم فاعل من قنع يقنع فهو قانع: إذا سأل وتذلل في السؤال: أما القانع بمعنى: ذي القناعة ففعله قنع بكسر النون قناعة: إذا اكتفى بما عنده ولم يسأل قال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير، والمعتر، الزائر وهو موافق في المعنى لما تقدم، ويؤيد هذا قراءة الحسن: (والمعتري) وهو الذي يتعرض لك ويأتك بدون علم منك.
5 قال ابن عباس رضي الله عنهما: لن يصعد إليه. أي اللحم والدم، ولكن الذي يصل إليه التقوى منكم وما أريد به وجهه.(3/476)
وقوله تعالى: {كذلك سخرها لكم} أي كذلك التسخير الذي سخرها لكم لعلَّة أن تكبروا الله على ما هداكم إليه من الإيمان والإسلام فتكبروا الله عند نحر البدن وذبح الذبائح وعند أداء المناسك وعقب الصلوات الخمس أيام التشريق. وقوله تعالى: {وبشر المحسنين} أمر الله تعالى رسوله والمبلغ عنه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبشر باسمه المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والإسلام فوحدوا الله وعبدوه بما شرع وعلى نحو ما شرع متبعين في ذلك هدى رسوله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذبح القربان مشروع في سائر الأديان الإلهية وهو دليل على أنه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع.
وسر مشروعية ذبح القربان هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح ونحر ما ينحر بلفظ بسم الله والله أكبر.
2- تعريف المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره الكريم.
3- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام.
4- بيان كيفية نحر البدن، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها.
5- الندب إلى الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها.
6- وجوب شكر الله على كل إنعام.
7- مشروعية التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس أيام التشريق.
8- فضيلة الإحسان وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ(3/477)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (41)
شرح الكلمات:
يدافع: قُرِىء يدفع أي غوائل المشركين وما يكيدون به المؤمنين.
خوان: كثير الخيانة لأمانته وعهوده.
كفور: أي جحود لربه وكتابه ورسوله ونعمه عليه.
بأنهم ظلموا: أي بسبب ظلم المشركين لهم.
بغير حق: أي استوجب إخراجهم من ديارهم.
إلا أن يقولوا ربنا الله: أي إلا قولهم: ربنا الله والله حق، وهل قول الحق يُسَوغ إخراج قائله؟
صوامع وبيع: معابد الرهبان وكنائس النصارى.
وصلوات: معابد اليهود، باللغة العبرية مفردها صلوثا.
ومساجد: أي بيوت الصلاة للمسلمين.
من ينصره: أي ينصر في ينه وعباده المؤمنين.
قوي عزيز: قادر على ما يريد عزيز لا يمانع فيما يريد.
إن مكناهم في الأرض: أي نصرناهم على عدوهم ومكنا لهم في البلاد بأن جعلنا السلطة بأيديهم.(3/478)
ولله عاقبة الأمور: أي آخر أمور الخلق مردها إلى الله تعالى الذي يثيب ويُعاقب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم قوله تعالى: {إن1 الله يدافع عن2 الذين آمنوا} أي يدفع عنهم غوائل المشركين ويحميهم من كيدهم ومكرهم. وقوله: {إن الله لا يجب كل خوَّان كفور3} تعليل وهم المشركين الذين صدوا رسول الله والمؤمنين عن المسجد الحرام وهم الخائنون لأماناتهم وعهودهم الكافرون بربهم ورسوله وكتابه وبما جاء به، ولما كان لا يحبهم فهو عليهم، وليس لهم. ومقابله أنه يحب كل مؤمن صادق في إيمانه محافظ على أماناته وعهوده مطيع لربه، ومن أحبَّهُ دافع عنه وحماه من أعدائه.
وقوله تعالى: {أُذن للذين يقاتلون} باسم للفاعل أي القادرين على القتال ويقاتلون باسم المفعول وهما قراءتان أي قاتلهم المشركون هؤلاء أذن4 الله تعالى لهم في قتال أعدائهم المشركين بعدما كانوا ممنوعين من ذلك لحكمة يعلمها ربهم، وهذه أول آية في القرآن تحمل طابع الحرب بالإذن فيه للمؤمنين، وقوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} طمأنهم على أنه معهم بتأييده ونصره وهو القدير على ذلك وقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} أي بدون موجب لإخراجهم اللهم إلا قولهم5: ربنا الله وهذا حق وليس بموجب لإخراجهم من ديارهم وطردهم من منازلهم وبلادهم هذه الجملة بيان لمقتضى الإذن لهم بالقتال، ونصرة الله تعالى لهم. وقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم6 ببعض} أي يدفع بأهل الحق أهل الباطل لولا هذا لتغلب أهل الباطل و {لهدمت
__________
1 روي أن هذه الآية: {إن الله يدافع..} نزلت بسبب أن المؤمنين بمكة لما كثر اضطهاد المشركين لهم فكر بعضهم في اغتيال الكفار، والاحتيال عليهم والغدر بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: {كفور} .
2 قرأ الجمهور: {يدافع} وقرأ بعضهم: {يدفع} .
3 الخوّان: كثير الخيانة، وهي الغدر، والغدر من شر الصفات، فقد صحّ "أن الله تعالى ينصب يوم القيامة للغادر لواءً عند أسته بقدر غدرته: يقال هذه غدرة فلان بن فلان"!!
4 هذه الآية نزلت بالمدينة بعد هجرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين إليها وفيها إذن بقتال المشركين بعد المنع الأوّل فهي أول آية بالإذن بالقتال بعدما كان غير مأذون فيه كما تقدم.
5 قوله: {إلاّ أن قالوا ربنا الله.} . " الاستثناء منقطع أي: لكن لقولهم ربنا الله أي: وحده لا ربّ لنا سواه استمرّت مدة السلم ثلاث عشرة سنة، وفي السنة الأولى من الهجرة أذن الله تعالى للمؤمنين بقتال المشركين إذ قد أعذر الله تعالى إليهم.
6 في الآية دليل على أن أمر الجهاد متقدم في الأمم قبل هذه الأمّة وبه صلحت الرائع وعبد الناس ربّهم، واستقامت أمورهم وصلحت أحوالهم.(3/479)
صوامع وبيع1 وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} وهذا تعليل أيضاً وبيان لحكمة الأمر بالقتال أي لولا أن الله تعالى يدفع بأهل الإيمان أهل الكفر لتغلب أهل الكفر وهدموا المعابد ولم يسمحوا للمؤمنين أن يعبدوا الله- وفي شرح الكلمات بيان للمعابد المذكورة فليرجع إليها.
وقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي} أي قدير {عزيز} غالب فمن أراد نصرتة نَصَرهُ ولو اجتمع عليه من بأقطار الأرض، والذي يريد الله نصرته هو الذي يقاتل من أجل الله بأن يُعبد في الأرض ولا يُعبد معه سواه فذلك وجه نصر الله فليعلم وقوله {الذين إن مكناهم2} أي وطأنا لهم في الأرض وملكناهم بعد قهر أعدائهم المشركين فحكموا وسادوا أقاموا الصلاة على الوجه المطلوب منهم، وآتوا الزكاة المفروضة في أموالهم، وأمروا بالمعروف أي بالإسلام والدخول فيه وإقامته، ونهوا عن المنكر وهو الشرك والكفر ومعاصِي الله ورسوله هؤلاء الأحقون بنصر الله تعالى لهم لأنهم يقاتلون لنصرة الله عز وجل، وقوله تعالى: {ولله عاقبة الأمور} يخبر تعالى بأن مرد كل أمر إليه تعالى يحكم فيه بما هو الحق والعدل فيثيب على العمل الصالح ويعاقب على العمل الفاسد، وذلك يوم القيامة، وعليه فليراقب الله وليُتق في السر والعلن وليُتوكل عليه، وليُنب إليه، فإن مرد كل أمر إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
2- كره الله تعالى لأهل الكفر والخيانة.
3- مشروعية القتال لإعلاء كلمة الله بأن يعبد وحده ولا يضطهد أولياؤه.
4- بيان سر الإذن بالجهاد ونصرة الله لأوليائه الذين يقاتلون من أجله.
__________
1 في الآية دليل على أنه لا يجوز لنا هدم معابد اليهود والنصارى، وإنما يمنعون من زيادة البناء حتى لا يكون ذلك إذناً بالبقاء على الكفر وهو حرام.
2 هذه عامة في هذه الأمة وليست خاصة بالخلفاء الراشدين الأربعة ولا بالصحابة والتابعين بل هي عامة فيمن مكن الله تعالى لهم في الأرض فسوّدهم وحكّمهم وجب عليهم أن يقوموا بفعل ما ذكر في هذه الآية من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(3/480)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
5- بيان أسس الدولة التي ورثّ الله أهلها البلاد وملكهم فيها وهي:
إقام الصلاة – إيتاء الزكاة – الأمر بالمعروف- النهي عن المنكر.
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأابْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
شرح الكلمات:
وإن يكذبوك: أي إن يكذبك قوم فقد كذبت قبلهم قوم نوح إذاً فلا تأس إذ لست وحدك المكذب.
وأصحاب مدين: هم قوم شعيب عليه السلام.
وكذب موسى: أي كذبه فرعون وآله الأقباط.
فأمليت للكافرين: أي أمهلتهم فلم أُعجل العقوبة لهم.
ثم أخذتهم: أي بالعذاب المستأصل لهم.
فكيف كان نكير: أي كيف كان إنكاري عليهم تكذيبهم وكفرهم أكان واقعاً موقعه؟ نعم إذ الاستفهام للتقرير.
فهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على سقوفها.(3/481)
بئر معطلة: أي متروكة لا يستخرج منها ماء لموت أهلها.
وقصر مشيد: مرتفع مجصص بالجص.
فإنها لا تعمى الأبصار: أي فإنها أي القصة لا تعمى الأبصار فإن الخلل ليس في أبصارهم ولكن في قلوبهم حيث أعماها الهوى وأفسدتها الشهوة والتقليد لأهل الجهل والضلال.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد وإن تخللته إرشادات للمؤمنين فإنه لما أذن للمؤمنين بقتال المشركين بين مقتضيات هذا الإذن وضمن النصرة لهم وأعلم أن عاقبة الأمور إليه لا إلى غيره وسوف يقضي بالحق والعدل بين عباده يوم يلقونه. قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسلياً له عن تكذيب المشركين له: {وإن يكذبوك1} أيها الرسول فيما جئت به من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة فلا تأس ولا تحزن {فقد كذبت قبلهم} أي قبل مُكذِّبيك من قريش والعرب واليهود {قوم نوح وعاد} قوم هود {وثمود} قوم صالح {وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكُذَّب موسى} أيضاً مع ما آتيناه من الآيات البينات، وكانت سنتي فيهم أني أمليت لهم أي مددت لهم في الزمن وأرخيت لهم الرسن حتى إذا بلغوا غاية الكفر والعناد والظلم والاستبداد وحقت عليهم كلمة العذاب أخذتهم أخذ العزيز المقتدر {فكيف كان نكير2} أي إنكاري عليهم؟ كان وربّك واقعاً موقعه، وليس المذكورون أخذت فقط.. {فكأين من قرية} عظيمة غانية برجالها ومالها وسلطانها {أهلكناها وهي ظالمة} أي ضالعة في الظلم أي الشرك والتكذيب {فهي خاوية على عروشها3} أي ساقطة على سقوفها، وكم من بئر ماء4 عذب كانت سقيا لهم فهي الآن معطلة، وكم من قصر مشيد أي رفيع مشيد بِالجص إذ
__________
1 الآية في تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزيته من جرّاء ما يلاقي من قومه من أنواع التكذيب والعناد والجحود.
2 أي: تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك. والإنكار والنكير: تغيير المنكر.
3 العروش: جمع عرش وهو السقف. والمعنى: إن جدرانها فوق سقفها.
4 قرأ نافع: {وبير} بدون همزة تخفيفاً.(3/482)
مات أهله وتركوه1 هذا ما تضمنته الآيات الأربع (42، 43، 44، 45) أما الآية الأخيرة من هذا السياق فالحق عز وجل يقول2 {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} حاثاً المكذبين من كفار قريش والعرب على السير في البلاد ليقفوا على آثار الهالكين فلعل ذلك يكسبهم حياة جديدة في تفكيرهم ونظرهم فتكون لهم قلوب حية واعية يعقلون بها خطابنا إليهم ونحن ندعوهم إلى نجاتهم وسعادتهم أو تكون لهم آذان يسمعون بها نداء النصح والخير الذي نوجهه إليهم بواسطة كتابنا ورسولنا، وما لهم من عيون مبصرة بدون قلوب واعية وآذان صاغية فإن ذلك غير نافع {فإنها لا3 تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور4} . وهذا حاصل القول ألا فليسيروا لعلهم يكسبون عبراً وعظات تحصي قلوبهم وسائر حواسهم المتبلدة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تكذيب الرسل والدعاة إلى الحق والخير سنة مطردة في البشر لها عواملها من أبرزها التقليد والمحافظة على المنافع المادية، وظلمات القلب الناشئة عن الشرك والمعاصي.
2- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك الأمم والشعوب الظالمة بعد الإمهال لهم والإعذار.
3- مشروعية طلب العبر وتصيدها من آثار الهالكين.
4- العبرة بالبصيرة القلبية لا بالبصر فكم من أعمى هو أبصر للحقائق وطرق النجاة من ذي بصر حاد حديد. ومن هنا كان المفروض على العبد أن يحافظ على بصيرته أكثر من المحافظة على عينيه، وذلك بأن يتجنب مدمرات القلوب من الكذب والترهات والخرافات، والكبر والعجب والحب والبغض في غير الله.
__________
1 {وقصر مشيد} أي: مبني بالشيد وهو الجص أي: مثلها معطّل.
2 الاستفهام للتعجيب من حالهم وهم في غيهم وجهلهم.
3 {فإنها..} أي: الحال أو القصة لا تعمى الأبصار: قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل لما نزلت: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} سأل ابن أم مكتوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت هذه الآية: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} الآية صريحة في أنّ العقل في القلب، ولا منافاة بين من يرى ذلك في المخ إذ ارتباط كبير بين المخ والقلب في حصول الوعي والإدراك للإنسان.
4 ذكر الصدور ظرفاً للقلوب للتأكيد إذا القلوب لا تكون إلا في الصدور فهو كقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه..} "وكقولهم رأيت بعيني".(3/483)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
شرح الكلمات:
يستعجلونك بالعذاب: أي يطالبونك مستعجلينك بما حذّرتهم منه من عذاب الله.
كألف سنة مما تعدون: أي من أيام الدنيا ذات الأربع والعشرين ساعة.
وكأين من قرية: أي وكثير من القرى أي العواصم والحواضر الجامعة لكل أسباب الحضارة.
أمليت لها: أي أمهلتها فمددت أيام حياتها ولم استعجلها بالعذاب.
نذير مبين: منذر أي مخوف عاقبة الكفر والظلم بيّنُ النذارة.
لهم مغفرة ورزق كريم: أي ستر لذنوبهم ورزق حسن في الجنة.
سعوا في آياتنا معاجزين: أي عملوا بجد واجتهاد في شأن إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا وما تحمله من دعوة إلى التوحيد وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوجيهه في دعوته إلى الصبر والتحمل فيقول له: {ويستعجلونك بالعذاب1} أي يستعجلك المشركون من قومك بالعذاب الذي خوفتهم به وحذرتهم منه، {ولن يخلف الله وعده} وقد وعدهم فهو واقع بهم لا بد وقد
__________
1 قيل: نزلت في النضر بن الحارث ورفقائه إذ كانوا يستعجلون العذاب ويطالبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنزاله تحدياً منهم وعناداً، وفيهم نزل: {سأل سائل بعذاب واقع} . {إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق..} الآية.(3/484)
تم ذلك في بدر وقوله تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} فلذا تعالى لا يستعجل وهم يستعجلون فيوم الله بألف سنة، وأيامهم بأربع وعشرين ساعة فإذا حدد تعالى لعذابهم يوماً معناه أن العذاب لا ينزل بهم إلا بعد ألف سنة، ونصف يوم بخمسمائة سنة، وربع يوم بمائتين وخمسين سنة وهكذا فلذا يستعجل الإنسان ويستبطىء، والله عز وجل ينجز وعده في الوقت الذي حدده فلا يستخفه استعجال المجرمين العذاب ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} من سورة العنكبوت هذا ما دلت عليه الآية الأولى (47) وقوله تعالى: {وكأين من قرية} أي مدينة كبرى {أمليت لها} أي أمهلتها وزدت لها في أيام بقائها والحال أنها ظالمة بالشرك والمعاصي ثم بعد ذلك الإملاء والإمهال أخذتها {وإليّ المصير} أي مصير كل شيء ومرده إلي فلا إله غيري ولا رب سواي فلا معنى لاستعجال هؤلاء المشركين العذاب فإنهم عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا فإن مصيرهم إلى الله تعالى وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون الجزاء العادل في دار الشقاء والعذاب الأبدي وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس1 إنما أنا لكم نذير مبين} ، فلست بإله ولا رب بيدي عذابكم إن عصيتموني وإنعامكم إن أطعتموني، وإنما أنا عبد مأمور بأن أنذر عصاة الرب بعذابه، وابشر أهل طاعته برحمته، وهو معنى الآية (50) 2 فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازمه أنهم تركوا الشرك والمعاصي لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم عند ربهم وهو الجنة دار النعيم {والذين سعوا في آياتنا معاجزين3} أي عملوا جادين مسرعين في صرف الناس عن آيات الله حتى لا يؤمنوا بها ويعملوا بما فيها من هدي ونور معاجزين لله يظنون أنهم يعجزونه والله غالب على أمره ناصر دينه وأوليائه، أولئك البعداء في الشر والشرك أصحاب الجحيم الملازمون لها أبد الآبدين.
__________
1 النداء لأهل مكة خاصة وللبشريّة عامة إذ هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله إلى الناس كافة والنذير: المخوف. عقوبة الشرك والشر والفساد.
2 أي: ظانين أنهم يعجزوننا فلم نقو عليهم ولم نقدر على أخذهم لأنهم مكذّبون بالبعث الآخر وما فيه من حساب وجزاء على الكسب في هذه الدنيا.
3 ومما يزيد تفسير هذه الآية وضوحاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، وكذبت طائفة فهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق".(3/485)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- العجلة من طبع الإنسان ولكن استعجال الله ورسوله بالعذاب حمق وطيش وضلال وكفر.
2- ما عند الله في الملكوت الأعلى يختلف تماماً عما في هذا الملكوت السلفي.
3- عاقبة الظلم وخيمة وفي الخبر الظلم يترك الديار بلاقع أي خراباً خالية.
4- بيان مهمة الرسل وهي البلاغ مع الإنذار والتبشير ليس غير.
5- بيان مصير المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57)(3/486)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
شرح الكلمات:
من رسول ولا نبي: الرسول ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بابلاغه. والنبي مقرر لشرع من قبله.
تمنى في أمنيته: أي قرأ في أمنيته، أي في قراءته.
ثم يُحكم الله آياته: أي بعد إزالة ما ألقاه الشيطان في القراءة بحُكم الله آياته أي يثبتها.
فتنة للذين في قلوبهم مرض: أي اختباراً للذين في قلوبهم مرض الشرك والشك.
والقاسية قلوبهم: هم المشركون.
فتخبت له قلوبهم: أي تتطامن وتخشع له قلوبهم.
في مرية منه: أي في شك منه وريب من القرآن.
عذاب يوم عقيم: هو عذاب يوم بدر إذ كان يوماً عقيماً لا خير فيه.
في جنات النعيم: أي جنات ذات نعيم لا يبلغ الوصف مداه.
فلهم عذاب مهين: أي يهان فيه صاحبه فهو عذاب جثماني نفساني.
معنى الآيات:
بعد التسلية الأولى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تضمنها قوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح.. الخ} ذكر تعالى تسلية ثانية وهي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ حول الكعبة في صلاته سورة النجم والمشركون حول الكعبة يسمعون فلما بلغ قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان في مسامع المشركين الكلمات التالية: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" ففرح المشركون بما سمعوا ظناً منهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأها وأن الله أنزلها فلما سجد في آخر السورة سجدوا معه إلا رجلاً1 كبيراً لم يقدر على السجود فأخذ حثية من تراب وسجد عليها وشاع أن محمداً قد اصطلح مع قومه حتى رجع المهاجرون من الحبشة فكرب لذلك رسول الله وحزن فأنزل الله تعالى هذه
__________
1 هذا الرجل، روى البخاري أنه أمية بن خلف، وقيل هو أبو أحيحة سعيد بن العاص وقيل: هو الوليد بن المغيرة. والله أعلم بأيهم كان.(3/487)
الآية تسلية له فقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول1} ذي رسالة يبلغها ولا نبيّ مقرر لرسالة نبي قبله {إلا إذا تمنى} أي قرأ {ألقى للشيطان في أمنيته2} أي في قراءته {فينسخ الله} أي يزيل ويبطل {ما يلقي الشيطان} 3 من كلمات في قلوب الكافرين أوليائه {ثم يُحكم الله آياته} بعد إزالة ما قاله الشيطان فيثبتها فلا تقبل زيادة ولا نقصانا، والله عليم بخلقه وأحوالهم وأعمالهم لا يخفى عليه شيء من ذلك حكيم في تدبيره وشرعه هذه سنته تعالى في رسله وأنبيائه. فلا تأس يا رسول الله ولا تحزن ثم بين تعالى الحكمة في هذه السنة فقال: {ليجعل ما يلقى للشياطن} أي من كلمات في قراءة النبي أو الرسول {فتنة للذين في قلوبهم مرض} الشك والنفاق {والقاسية قلوبهم} وهم المشركون ومعنى فتنة هنا محنة يزدادون بها ضلالاً على ضلالهم وبُعداً عن الحق فوق بعدهم إذ ما يلقى الشيطان في قلوب أوليائه إلا للفتنة أي زيادة في الكفر والضلال. وقوله تعالى: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} هو إخبار منه تعالى عن حال المشركين بأنهم في خلاف لله ورسوله، بعيدون فيما يعتقدونه وما يعملونه وما يقولونه.، وما يتصورونه مخالف تمام المخالفة لما يأمر تعالى به ويدعوهم إليه من الاعتقاد والقول والعمل والتصور والإدراك. وقوله تعالى: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} هذا جزء العلة التي تضمنتها سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي فالجزء الأول تضمنه قوله تعالى: {ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} وهذا هو الجزء الثاني أي {وليعلم الذين أوتوا العلم} بالله وآياته وتدبيره {أنه الحق من ربك} أي ذلك الإلقاء والنسخ وإحكام
__________
1 في هذه الآية دليل على أن هناك فرقاً بين النبي والرسول لذكر الرسول في الآية ثم النبي: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} والذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن كل رسول نبي إذ لا يرسل حتى يوحى إليه وينبّأ وليس كل نبي رسولاً إذ ينبئه الله تعالى بما شاء ولا يرسله، وجاء في حديث أبي ذر "إنّ عدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً أولهم آدم وآخرهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي جمّ غفير"
2 قال سليمان بن حرب إنّ (في) هنا هي بمعنى عند أي: ألقى الشيطان عند قراءته ألقى في قلوب المشركين. ولـ (في) بمعنى عند نظير هو قوله تعالى {ولبثت فينا من عمرك سنين} أي: عندنا.
3 ما روي من خبر في قصة الغرانيق كله ضعيف ولم يثبت فيها حديث صحيح قط، والذي ثبت في الصحيح هو قراءة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لسورة النجم وسجوده وسجود المشركين معه والذي عصم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المعصوم أن ينطق بكلمة: تلك الغرانيق العلا.. الخ وإنما نطق بها الشيطان وأسمعها المشركين للفتنة كما في التفسير المثبت فيه رأي ابن جرير إمام المفسّرين رحمه الله تعالى.(3/488)
الآيات بعده1 {فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} أي تطمئن وتسكن عنده وتخشع فيزدادون هدى. وقوله تعالى: {وإن الله لهاد2 الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} هذا إخبار منه تعالى عن فعله مع أوليائه المؤمنين به المتقين له وأنه هاديهم في حياتهم وفي كل أحوالهم إلى صراط مستقيم يفضي بهم إلى رضاه وجنته، وذلك بحمايتهم من الشيطان وتوفيقهم وإعانتهم على طاعة الرحمن سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه3} أي من القرآن هل هو كلام الله هل هو حق هل إتباعه نافع وتستمر هذه المرية والشك بأولئك القساة القلوب أصحاب الشقاق البعيد {حتى تأتيهم الساعة بغتة} أي فجأة وهي القيامة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم4} أي لا خير فيه لهم وهو يوم بدر وقد تم لهم ذلك وعندها زالت ريبتهم وعلموا أنه الحق حيث لا ينفع العلم.
وقوله تعالى: {الملك5 يومئذ لله} أي يوم تأتي الساعة يتمحض الملك لله وحده فلا يملك معه أحد فهو الحاكم العدل الحق يحكم بين عباده بما ذكر في الآية وهو أن الذين آمنوا به وبرسوله وبما جاء به وعملوا الصالحات من فرائض ونوافل بعد تخليهم عن الشرك والمعاصي يدخلهم. جنات النعيم، والذين كفروا به وبرسوله وبما جاء به، وكذبوا بآيات الله المتضمنة شرائعه وبيان طاعاته فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعملوا العكس وهو السيئات فأولئك البعداء في الحطة والخسة لهم عذاب مهين يكسر أنوفهم ذلة لهم ومهانة لأنفسهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي للفتنة.
2- بيان أن الفتنة يهلك فيها مرضى القلوب وقساتها، ويخرج منها المؤمنون أكثر يقيناً.
__________
1 قوله تعالى: {وليعلم الذين أوتوا العلم} جائز أن يكونوا من المؤمنين ومن أهل الكتاب.
2 ومثبتهم على الهداية.
3 ومن الدين ومن كل ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 وعذاب يوم القيامة عذاب عظيم باعتبار أنه يوم لا ليلة له فهذا وجه العقم لأنّ العقيم هو الذي لا يخلّف ولداً، ولما ذكر عذاب يوم القيامة تعيّن أن يكون هو يوم بدر ومعنى عقمه: أنه لا خير فيه للمشركين ولم يحصلوا منه على فائدة.
5 قالوا: الملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور، وقيل في الآية إشارة إلى يوم بدر وهو بعيد ولا داعي إليه، ودلالة الآية تنفيه.(3/489)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
وأعظم هدىً.
3- بيان حكم الله تعالى بين عباده يوم القيامة بإكرام أهل الإيمان والتقوى وإهانة أهل الشرك والمعاصي.
4- ظهور مصداق ما أخبر به تعالى عن مجرمي قريش فقد استمروا على ريبهم حتى هلكوا في بدر.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا: أي هجروا ديار الكفر وذهبوا إلى دار الإيمان المدينة المنورة.
في سبيل الله: أي هجروا ديارهم لا لدنيا ولكن ليعبدوا الله وينصروا دينه وأولياءه.
ليرزقنهم رزقاً حسناً: أي في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة.(3/490)
ليدخلنهم مدخلا يرضونه: أي الجنة يوم القيامة.
ذلك: أي الأمر ذلك المذكور فاذكروه ولا تنسوه.
ثم بغى عليه: أي ظُلم بعد أن عاقب عدوه بمثل ما ظلم به.
يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءاً من الليل في النهار والعكس بحسب فصول السنة كما أنه يومياً يدخل الليل في النهار إذا جاء النهار ويدخل النهار في الليل إذا جاء الليل.
بأن الله هو الحق: أي الإله الحق الذي تجب عبادته دون سواه.
من دونه: أي من أصنام وأوثان وغيرها هو الباطل بعينه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حكم الله تعالى بين عباده فذكر تعالى ما حكم به لأهل الإيمان والعمل الصالح وما حكم به لأهل الكفر والتكذيب، وذكر هنا ما حكم به لأهل الهجرة والجهاد فقال عز وجل: {والذين هاجروا1 في سبيل الله} أي خرجوا من ديارهم لأجل طاعة الله ونصرة دينه {ثم قتلوا} من قبل أعداء الله المشركين {أو ماتوا} حتف أنوفهم بدون قتل {ليرزقنهم الله رزقاً حسناً} في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش {ليدخلنهم} يوم القيامة {مدخلاً2 يرضونه} وهو الجنة، وقوله تعالى: {وإن الله لهو خير الرازقين} أي لخير من يرزق فما رزقهم به هو خير رزق وأطيبه وأوسعه. وقوله: {وإن الله لعليم حليم} عليم بعباده وبأعمالهم الظاهرة والباطنة حليم يعفو ويصفح عن بعض زلات عباده المؤمنين فيغفرها ويسترها عليهم إذ لا يخلو العبد من ذنب إلا من عصمهم الله من أنبيائه ورسله.
__________
1 قيل: نزلت هذه الآية في عثمان بن مظعون وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهما إذ ماتا بالمدينة مريضين فقال بعض الناس: من مات في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه. كأنه يعني عثمان وعبد الله فنزلت هذه الآية مسوّية بين المجاهد والمهاجر، ومن شواهد فضل المهاجر ما روي: أن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان برودس أميراً على الأرباع فجيىء بجنازتي رجلين أحدهما قتل والآخر متوفى فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حضرته فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرأوا قول الله تعالى: {والذين هاجروا..} الآية.
2 قرأ نافع: {مدخلا} بفتح الميم على أنه اسم مكان من دخل المجرّد، وقرأ غيره مُدخلا بضم الميم: اسم مكان أيضاً من أدخله يدخله الرباعي مدخلا.(3/491)
وقوله تعالى: {ذلك ومن عاقب1} أي الأمر ذلك الذي بينت لكم، {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} أي ومن أخذ من ظالمه بقدر ما أخذ منه قصاصاً، ثم المعاقب ظلم بعد ذلك من عاقبه فإن المظلوم أولاً وآخراً تعهد الله تعالى بنصره، وقوله: {إن الله لعفو غفور} فيه إشارة إلى ترغيب المؤمن في العفو عن أخيه إذا ظلمه فإن العفو خير من المعاقبة وهذا كقوله تعالى2 {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} وقوله: {ذلك بأن الله يولج الليل والنهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير} أي أن القادر على إدخال الليل في النهار والنهار في الليل بحيث إذ جاء أحدهما غاب الآخر، وإذا قصر أحدهما طال الآخر والسميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم قادر على نصرة من بُغي عليه من أوليائه. وقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق} أي المعبود الحق المستحق للعبادة، وإن ما يدعون من دونه من أصنام وأوثان هو الباطل أي ذلك المذكور من قدرة الله وعلمه ونصرة أوليائه كان لأن الله هو الإله الحق وأن ما يعبدون من دونه من آلهة هو الباطل، وأن الله هو العلي على خلقه القاهر لهم المتكبر عليهم الكبير العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الهجرة في سبيل الله حتى إنها تعدل3 الجهاد في سبيل الله.
2- جواز المعاقبة بشرط المماثلة، والعفو أولى من المعاقبة.
3- بيان مظاهر الربوبية من العلم والقدرة الموجبة لعبادة الله تعالى وحده وبطلان عبادة غبره.
4- إثبات صفات الله تعالى: العلم والحلم والمغفرة والسمع والبصر والعفو والعلو على الخلق والعظمة الموجبة لعبادته وترك عبادة من سواه.
__________
1 ذلك: في محل رفع على الخبرية، والمبتدأ مقدّر كما في التفسير. أي: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك والآية نزلت في حادثة خاصة قاتل فيها المسلمون في الشهر الحرام فحزنوا لذلك، وكان قتالهم اضطرارياً لأن المشركين هم البادئون.
2 الآية من سورة الشورى.
3 والرباط: كالهجرة، والجهاد، فقد روي عن سلمان الفارسي أنه مرّ برجال مرابطين على حصن ببلاد الروم. وطال حصارهم للحصن، وإقامتهم عليه فقال لهم: سمعت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من مات مرابطاً أجرى الله تعالى عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين" واقرأوا إن شئتم: {والذين هاجروا} الآية.(3/492)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ (66)
شرح الكلمات:
ألم تر: أي آلم تعلم.
مخضرة: أي بالعشب والكلأ والنبات.
الغني الحميد: الغني عن كل ما سواه المحمود في أرضه وسمائه.
سخر لكم ما في الأرض: أي سهل لكم تملكه والتصرف فيه والانتفاع به.
أحياكم: أي أوجدكم أحياء بعدما كنتم عدما.
لكفور: أي كثير الكفر والجحود لربِّه ونعمه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر القدرة والعلم والحكمة قال تعالى: {ألم تر1} يا رسولنا {أن الله أنزل من السماء2 ماءاً} أي مطراً فتصبح الأرض بعد
__________
1 {ألم تر} الخطاب صالح لكل متأهل للرؤية من ذوي العقول، والاستفهام للحض على الرؤية فهو كالأمر والفاء للتفريع إذ يتفرّع عن نزول المطر: صيرورة الأرض مخضرّة بالنبات.
2 هذا انتقال إلى التذكير بمظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده وشكره بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الإيمان به حق الإيمان وتصديقه بكل ما جاء به ويدعو إليه.(3/493)
نزول المطر عليها مخضرة بالعشب والنباتات والزروع، وقوله: {إن الله لطيف1} بعباده {خبير} بما يصلحهم ويضرهم وينفعهم.
ووقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} أي خلقاً وملكاً وتصرفاً، {وإن الله لهو الغني} عن خلقه {الحميد} أي المحمود في الأرض والسماء بجميل صنعه وعظيم إنعامه وقوله تعالى: {ألم تر أن الله سخر لكم2 ما في الأرض} من الدواب والبهائم على اختلافها {والفلك} أي وسخر لكم الفلك أي السفن {تجري في البحر بأمره} أي بإذنه وتسخيره، {ويمسك السماء3 أن تقع على الأرض} أي كيلا تقع على الأرض {إلا بإذنه} أي لا تقع إلا إذا أذن لها في ذلك وقوله: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} من مظاهر رأفته ورحمته بهم تلك الرحمة المتجلية في كل جانب من جوانب حياتهم في حملهم في ارضاعهم في غذائهم في نومهم في يقظتهم في تحصيل أرزاقهم في عفوه عن زلاتهم في عدم تعجيل العقوبة لهم بعد استحقاقهم لها في إرسال الرسل في إنزال الكتب فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقوله تعالى: {وهو الذي أحياكم} بالإنشاء والإيجاد من العدم، ثم يميتكم عند انتهاء آجالكم {ثم يحييكم} ويبعثكم ليجزيكم بكسبكم كل هذه النعم يكفرها الإنسان فيترك ذكر ربه وشكره ويذكر غيره ويشكر سواه، فهذه المظاهر لقدرة الرب وعلمه وحكمته وتلك الآلاء والنعم الظاهرة والباطنة توجب الإيمان بالله وتحتم عبادته وتوحيده وذكره وشكره، وتجعل عبادة غيره سُخفاً وضلالاً عقلياً لا يُقادر قدره ولا يُعرف مداه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بذكر مقتضياته من القدرة والنعمة.
2- إثبات صفات الله تعالى: اللطيف الخبير الغني الحميد الرؤوف الرحيم المحيي المميت.
__________
1 لطيف في تدبيره للخلقة خبير في صنعه.. وهاتان الصفتان متجليتان في تدبيره تعالى للكون وصنعه فيه.
2 التسخير: معناه: التذليل للشيء حتى يصبح طوع المسخّر له وهو هنا بمعناه، ويعني: تسهيل الانتفاع فيما هو خارج عن قدرة الإنسان بإرسال الرياح ونزول الأمطار.
3 وجائز أن يراد بالسماء: ماؤها أي: المطر كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا(3/494)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
3- بيان إنعام الله وإفضاله على خلقه.
4- مظاهر قدرة الله تعالى في إمساك السماء أن تقع على الأرض، وفي الإحياء والأماتة والبعث.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
شرح الكلمات:
جعلنا منسكاً: أي مكاناً يتعبدون فيه بالذبائح أو غيرها.
فلا ينازعنك: أي لا ينبغي أن ينازعوك.
هدىً مستقيم: أي دين مستقيم هو الإسلام دين الله الحق.
في كتاب: هو اللوح المحفوظ.
ما لم ينزل به سلطاناً: أي حجة وبرهاناً.(3/495)
المنكر: أي الإنكار الدال عليه عبوس الوجه وتقطيبه.
يسطون: يبطشون.
بشر من ذلكم: هو النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان هداية الله تعالى لرسوله والمؤمنين ودعوة المشركين إلى ذلك قال تعالى: {ولكل أمة جعلنا1 منسكاً} أي ولكل أمة من الأمم التي مضت والحاضرة أيضاً جعلنا لهم منسكاً أي مكاناً يتنسكون فيه ويتعبدون {هم2 ناسكوه} أي الآن، فلا تلتفت إلى ما يقوله هؤلاء المشركون، ولا تقبل منهم منازعة في أمر واضح لا يقبل الجدل، وذلك أن المشركين انتقدوا ذبائح الهدى والضحايا أيام التشريق، واعترضوا على تحريم الميتة وقالوا كيف تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله بيمينه وقوله تعالى لرسوله: {وادع إلى ربك} أي أعرض عن هذا الجدل الفارغ وادع إلى توحيد ربك وعبادته {إنك لعلى هدى مستقيم} أي طريق قاصد هاد إلى الإسعاد والإكمال وهو الإسلام وقوله: {وإن جادلوك3} في بيان بعض المناسك والنسك فاتركهم فإنهم جهلة لا يعلمون وقل: {الله أعلم بما تعملون} أي وسيجزيكم بذلك حسنة وسيئة {والله يحكم بينكم} أي يقضي بينكم أيها المشركون فيما كنتم فيه تختلفون وعندها تعرفون المحق من المبطل منا وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم4 ما في السماء والأرض} بلى إن الله يعلم كل ما في السموات والأرض من جليل ودقيق وجليّ وخفي وكيف لا وهو اللطيف الخبير {إن ذلك في كتاب} وهو اللوح المحفوظ فكيف يجهل أو ينسى، و {إن ذلك} أي كتبه
__________
1 سبق مثل هذا النزاع بين المؤمنين والمشركين في التذكية عند قول الله تعالى من سورة الأنعام: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وقوله تعالى: {فلا ينازعنك} معناه: أترك منازعتهم وأعرض عنهم ولا تلتفت إليهم.
2 سبق مثل هذه الآية في أوّل السورة وهو دال على أنّه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع عقلاً ولا تنتقض.
3 في الآية الكريمة أسلوب المتاركة إذا لم تنفع المجادلة لعدم استعداد الخصم لقبول الحق أو تعذر معرفته له.
4 الاستفهام تقريري بالنسبة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجملة تحمل التسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتخفيف مما يلاقي من جدال المشركين وعنادهم.(3/496)
وحفظه في كتاب المقادير {على الله يسير1} أي هين سهل، لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع (67، 68، 69، 70) وقوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً} أي ويعبد أولئك المشركون المجادلون في بعض المناسك أصناماً لم ينزل الله تعالى في جواز عبادتها حُجَّة ولا برهاناً بل ما هو إلا إفك افتروه، ليس لهم به علم ولا لآبائهم، وسوف يحاسبون على هذا الإفك ويجزون به في ساعة لا يجدون فيها ولياً ولا نصيراً إذ هم ظالمون بشركهم بالله آلهة مفتراة ويوم القيامة ما للظالمين من نصير. هذا ما دلت عليه الآية (71) وأما قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} يخبر تعالى عن أولئك المشركين المجادلين بالباطل أنهم إذا قرأ عليهم أحد المؤمنين آيات الله وهى بينات في مدلوها تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم {تعرف} يا رسولنا {في وجوه الذين كفروا المنكر2} أي تتغير وجوههم ويظهر عليها الإنكار على التالي عليهم الآيات {يكادون يسطون3} أي يبطشون ويقعون بمن يتلون عليهم آيات الله لهدايتهم وصلاحهم.
وقوله تعالى: {قل أفأُنبئكم4 بشرٍ من ذلكم} أي قل لهم يا رسولنا أفأنبكم بشر من ذلك الذي تكرهون وهو من يتلون عليكم آيات الله أنه النار التي وعدها الله الذين كفروا أي من أمثالكم، وبئس المصير تصيرون إليه النار إن لم تتوبوا من شرككم وكفركم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة وهي أن كل أمة من الأمم بعث الله فيها رسولاً وشرع لها عبادات تعبده بها.
2- استحسان ترك الجدال في البدهيات والإعراض عن ما فيها.
3- تقرير علم الله تعالى بكل خفي وجلي وصغير وكبير في السموات والأرض.
__________
1 أي: الفصل بين المختلفين ككتابة كل كائن في كتاب المقادير كل ذلك على الله يسير إذ هو تعالى لا يعجزه شيء، ويقول للشيء كن فيكون.
2 أي: الغضب والعبوس.
3 السطو: شدة البطش يقال: سطا به يسطو: إذا بطش وسواء كان ذلك بسب وشتم أو ضرب، وسطا عليه: إذا علاه ضرباً وشتماً.
4 {أفأنبّكم} الهمزة داخلة على محذوف أي: أتكرهون سماع القرآن ومن يقرأه فأنا أنبّئكم بشر من ذلك الذي تأذّيتم به وكرهتموه؟ وقوله: {النار وعدها الله الذين كفروا} الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنهم قالوا: نبئنا فقال: النار.. الخ.(3/497)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير الكتاب الحاوي لذلك وهو اللوح المحفوظ.
5- بيان شدة بغض المشركين للموحدين إذا دعوهم إلى التوحيد وذكروهم بالآيات.
6- مشروعية إغاظة الظالم بما يغيظه من القول الحق.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76)
شرح الكلمات:
ضرب مثل: أي جعل مثل هو ما تضمنه قوله تعالى: {إن الذين تدعون ... الخ.
لن يخلقوا ذباباً: أي لن يستطيعوا خلق ذبابة وهي أحقر الحيوانات تتخلق من العفونات.
ولو اجتمعوا: أي على خلقه فإنهم لا يقدرون، فكيف إذا لم يجتمعوا فهم أعجز.
لا يستنقذوه منه: أي لا يستردوه منه وذلك لعجزهم.
ضعف الطالب والمطلوب: أي العابد والمعبود.
ما قدروا الله حق قدره: أي ما عظم المشركون الله تعالى حق قدره أي عظمته.
يصطفي من الملائكة رسلاً: أي يجتبي ويختار كجبريل.
ومن الناس: كمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/498)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين يقول تعالى: {يا أيها الناس ضرب1 مثل فاستمعوا له} أي يا أيها المشركون بالله آلهة أصناماً ضرب لآلهتكم في حقارتها وضعفها وقلة نفعها مثل رائع فاستمعوا له. وبينه بقوله: {إن الذين تدعون من دون الله} من أوثان وأصنام {لن يخلقوا ذباباً2} وهو أحقر حيوان وأخبثه أي اجتمعوا واتحدوا متعاونين على خلقه، أو لم يجتمعوا له فإنهم لا يقدرون على خلقه وشيء آخر وهو إن يسلب الذباب الحقير شيئاً من طيب آلهتكم التي تضمّخونها به، لا تستطيع آلهتكم أن تسترده منه فما أضعفها إذاً وما أحقرها إذا كان الذباب أقدر منها وأعز وأمنع.
وقوله تعالى: {ضعف الطالب والمطلوب3} أي ضعف الصنم والذباب معاً كما ضعف العابد المشرك والمعبود الصنم {إن الله لقويٌ عزيز} أي قوي قادر على كل شيء عزيز غالب لا يمانع في أمر يريده فكيف ساغ للمشركين أن يؤلهوا غيره ويعبدونه معه ويجعلونه له مثلاً. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (73) والثانية (74) وقوله تعالى: {الله يصطفي4 من الملائكة رسلاً ومن الناس} هذا رد على المشركين عندما قالوا: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} وقالوا: {أبعث الله بشراً رسولاً} فأخبر تعالى أنه يصطفي أي يختار من الملائكة رسلاً كما اختار جبرائيل وميكائيل، ومن الناس كما أختار نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إن الله سميع5} لأقوال عباده طيبها وخبيثها {بصير} بأعمالهم صالحها وفاسدها وعلمه بخلقه وبصره بأحوالهم وحاجاتهم اقتضى أن
__________
1 ضرب المثل: هو ذكره وبيانه، واستعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدّة، وهو تعبير شائع في اللغة العربية، والمثل هنا تشبيه تمثيلي، إذ هو تشبيه أصنامهم في عجزها وحقارتها بالذباب في عجزه وحقارته وضمنه الإنكار الشديد عليهم في تشبيه أصنامهم بالله عز وجل إذ عبدوها بعبادته وألهوها تأليهه عز وجل.
2 الذباب: اسم واحد للذكر والأنثى والجمع والقليل: أذبة والأكثر ذبان والواحدة ذبابة، ولا يقال ذبّانة بالتشديد وكسر الذال، والمذّبة: آلة لذب الذّبان وذباب السيف: طرفه الذي يضرب به.
3 قيل: الطالب: الآلهة، والمطلوب: الذباب، والعكس صحيح، وجائز أن يكون الطالب: عابد الصنم، والمطلوب: الصنم.
4 الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائيا، والإخبار بجملة يصطفي بدل: نصطفي لإفادة الاختصاص أي: هنا الاصطفاء خاص به تعالى لعظيم علمه وحكمته.
5 الجملة تعليلية، وجملة يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مقررة لها وتفيد الدعوة إلى مراقبة الله عزّ وجلّ.(3/499)
يصطفي منهم رسلاً وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي ما بين أيدي رسله من الملائكة ومن الناس وما خلفهم ماضياً ومستقبلاً إذ علمه أحاط بكل شيء فلذا حق له أن يختار لرسالاته من يشاء فكيف يصح الاعتراض عليه لولا سفه المشركين وجهالاتهم وقوله تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور} هذا تقرير لما تضمنته الجملة السابقة من أن لله الحق المطلق في إرسال الرسل من الملائكة أو من الناس ولا اعتراض عليه في ذلك إذ مرد الأمور كلها إليه بدءاً ونهاية إذ هو ربّ كل شيء ومليكه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- التنديد بالشرك وبطلانه وبيان سفه المشركين.
3- ما قدر الله حق قدره من سوى به أحقر مخلوقاته وجعل له من عباده جزءاً وشبهاً ومثلاً.
4- إثبات الرسالات1 للملائكة وللناس معاً.
5- ذكر صفات الجلال والكمال لله تعالى المقتضية لربوبيته والموجبة لألوهيته وهى القوة والعزة، والسمع والبصر لكل شيء وبكل شيء والعلم بكل شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
__________
1 في العبارة بعض الخفاء، والمقصود هو أنّ الله يصطفي من الملائكة مثل جبريل وميكائيل فيرسلهم إلى من يصطفي من الناس وهم الأنبياء، وفي الآية رد على المعترضين على الوحي الإلهي لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/500)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
شرح الكلمات:
واعبدوا ربكم: أي أطيعوه في أمره ونهيه في تعظيم هو غاية التعظيم وذل له هو غاية الذل.
وافعلوا الخير: أي من كل ما انتدبكم الله لفعله ورغبكم فيه من صالح الأقوال والأعمال.
لعلكم تفلحون: أي كي تفوزوا بالنجاة من النار ودخول الجنة.
حق جهاده: أي الجهاد الحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به وهو جهاد الكفار والشيطان والنفس والهوى.
اجتباكم: أي اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.
من حرج: أي من ضيق وتكليف لا يطاق.
ملة أبيكم: أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وهي عبادة الله وحده لا شريك له.
وفي هذا: أي القرآن.
اعتصموا بالله: أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.
ونعم النصير: أي هو تعالى نعم النصير أي الناصر لكم.
معنى الآيات:
بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، نادى الربّ تبارك وتعالى المسلمين بعنوان الإيمان فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام في ديناً، {اركعوا واسجدوا1} أمرهم بإقام الصلاة {واعبدوا ربكم} أي أطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه معظمين له غاية التعظيم خاشعين له غاية الخشوع {وافعلوا الخير} من كل ما انتدبكم الله إليه ورغبكم فيه من أنواع البر وضروب العبادات {لعلكم تفلحون} أي لتتأهلوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار.
__________
1 خصّ الركوع والسجود من بين أركان الصلاة لأنهما أشرف أجزائها وأدل على خضوع العبد لربّه وذلته له.(3/501)
وقوله: {وجاهدوا1 في الله حق جهاده2} أي أمرهم أيضاً بأمر هام وهو جهاد الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ومعنى حق جهاده أي كما ينبغي الجهاد من استفراغ الجهد والطاقة كلها نفساً ومالاً ودعوة وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} هذه مِنَّة ذكّر بها تعالى المؤمنين حتى يشكروا الله بفعل ما أمرهم به أي لم يضيق عليكم فيما أمركم به بل وسع فجعل التوبة لكل ذنب، وجعل الكفارة لبعض الذنوب، ورخص للمسافر والمريض في قصر الصلاة والصيام، ولمن لم يجد الماء أو عجز عن استعماله في التيمُم.
وقوله: {ملة أبيكم إبراهيم3} أي الزموا ملة أبيكم وقوله: {هو سماكم المسلمين} أي الله جل جلاله هو الذي سماهم المسلمين في الكتب السابقة وفي القرآن وهو معنى قوله: {هو سماكم4 المسلمين من قبل وفي هذا} أي القرآن وقوله: {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} أي اجتباكم أيها المؤمنون لدينه الإسلامي وسماكم المسلمين ليكون الرسول شهيداً عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم وعليه فاشكروا هذا الإنعام والإكرام لله تعالى {فأقيموا5 الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله} أي تمسكوا بشرعه عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وقضاءاً وحكماً، وقوله تعالى: {هو مولاكم} أي سيدكم ومالك أمركم {فنعم المولى} هو سبحانه وتعالى {ونعم النصير} أي الناصر لكم ما دمتم أولياءه تعيشون على الإيمان والتقوى.
__________
1 هذا من ذكر العام بعد الخاص، والعبادة: الطاعة ولكن مع غاية التعظيم والحبّ للمطاع.
2 الجهاد هنا: قتال الكفار المعتدين والمانعين لدعوة الله وصد الناس عنها والعلّة فيه إكمال البشر وإسعادهم بالإسلام لله تعالى و {في} في قوله {في الله} : تعليلية أي: لأجل الله أي: لإعلاء كلمة الله تعالى، وفي الحديث الصحيح: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
3 هذا كقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} فإنه مخصوص بالاستطاعة وقوله بعد: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} مخصّصٌ له أيضاً، ويدخل في الأمر بالجهاد هنا: جهاد النفس والشيطان، وكلمة الحق عند من ينكرها لحديث "كلمة عدل عند سلطان جائر".
4 الملّة: الدين والشريعة ونصب: {ملة} : بإلزموا ونحوه، والخطاب للعرب إذ إبراهيم أبو العرب المستعربة قاطبة، وهو أيضاً أبو أهل الكتاب وأبّ كل موحد أبوّة تشريف وإتباع وتعظيم.
5 قوله تعالى {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} بعد ذكر المنن إشارة صريحة إلى وجوب شكر الله تعالى على نعمه، وما شكر الله تعالى من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة كما أن من لم يتمسك بدين الله كافر غير شاكر.(3/502)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصلاة وشرف العبادة وفعل الخير.
2- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} . ِِِِِ
3- فضل الجهاد في سبيل الله وهو جهاد الكفار، وان لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم.
4- فضيلة1 هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاثاً لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي عليه السلام اذهب فليس عليك حرج فقال الله لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، وكان يقال للنبي عليه السلام أنت شهيد على قومك وقال الله: {لتكونوا شهداء على الناس} وكان يقال للنبي سل تعطه وقال الله لهذه الأمة: {ادعوني استجب لكم} دل على هذا قوله تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
5- فرضية الصلاة، والزكاة، والتمسك بالشريعة.
__________
1 ذكر هذا ابن جرير الطبري رواية عن معمر وقتادة.(3/503)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
مكية
وآياتها مائة وثماني عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
شرح الكلمات:
قد أفلح المؤمنون: أي فاز قطعاً بالنجاة من النار ودخول الجنة المؤمنون.
في صلاتهم خاشعون: أي ساكنون متطامنون لا يلتفتون بعين ولا قلب وهم بين يدي ربهم.
عن اللغو معرضون: اللغو كل ما لا رِضىً فيه لله من قول وعمل وتفكير، معرضون أي منصرفون عنه.
للزكاة فاعلون: أي مؤدون.
لفروجهم حافظون: أي صائنون لها عن النظر إليها لا يكشفونها وعن إتيان الفاحشة.
أو ملكت إيمانهم: من الجواري والسَّراري إن وجدن.(3/504)
فمن ابتغى وراء ذلك: أي طلب ما دون زوجته وجاريته المملوكة شرعياً.
فأولئك هم العادون: أي الظالمون المعتدون على حدود الشرع.
راعون: أي حافظون لأماناتهم وعهودهم.
الفردوس1: أعلى درجة في الجنة في أعلى جنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} 2 يخبر تعالى وهو الصادق الوعد بفلاح المؤمنين وقد بين تعالى في آية آل عمران معنى الفلاح وهو الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة ووصف هؤلاء المؤمنين المفلحين بصفات من جمعها متصفاً بها فقد ثبت له الفلاح وأصبح من الوارثين الذين يرثون الفردوس يخلدون فيها وتلك الصفات هي:
(1) الخشوع في الصلاة بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه مع رقة قلب ودموع عين وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة، ودونها أن يطمئن ولا يلتفت برأسه ولا بعينه ولا بقلبه في أكثرها. هذه الصفة تضمنها قوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} 3.
(2) إعراضهم عن اللغو وهو كل قول وعمل وفكر لم يكن فيه الله تعالى إذن به ولا رضى فيه ومعنى إعراضهم عنه: انصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم عن اللغو معرضون} .
(3) فعلهم الزكاة أي أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم للزكاة فاعلون} .
(4) حفظ فروجهم من كشفها ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غاير ملومين} في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ولكن اللوم
__________
1 أخرج مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة".
2 روى أحمد والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب قوله: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال: لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة: {قد فلح المؤمنون} حتى ختم العشر.
3 كان السلف الصالح إذا قام أحدهم في صلاته يهاب الرحمن أن يمدّ بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا، وأبصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" والجمهور على أن الخشوع في الصلاة أحد فرائضها.(3/505)
والعقوبة على من طلب هذا المطلب من غير زوجه وجاريته {فأولئك هم العادون} أي الظالمون المعتدون حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
(5) مراعاة الأمانات والعهود بمعنى محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة فإنه من الأمانة وعلى عهودهم وسائر عقودهم الخاصة والعامة فلا خيانة ولا نكث ولا خُلْف وقد تضمن هذا قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي حافظون.
(6) المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها فلا يقدمونها ولا يؤخرونها مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث وإتمام ركوعها وسجودها واستكمال أكثر سننها وآدابها وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} .
فهذه ست صفات إجمالاً وسبع صفات تفصيلاً فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن وكان من المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى جعلنا الله تعالى منهم.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- وجوب الخشوع في الصلاة.
2- تحريم نكاح المتعة لأن المتمتع منها ليست زوجة لأنها لا ترث ولا تورث بخلاف الزوجة فإنها لها الربع والثمن، ولزوجها النصف والربع، لأن نكاح المتعة هو النكاح إلى أجل معين قد يكون شهراً أو أكثر أو أقل.
3- تحريم العادة السرية وهي نكاح اليد وسحاق المرأة لأن ذلك ليس بنكاح زوجة ولا جارية مملوكة.
4- وجوب أداء الزكاة ووجوب حفظ الأمانات ووجوب الوفاء بالعهود ووجوب المحافظة على الصلوات.
5- تقرير حكم التوارث بين أهل الجنة وأهل النار فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة اللهم اجعلنا من الوارثين الذين يرثون الفردوس.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ(3/506)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
شرح الكلمات:
من سلالة: السلالة ما يستل من الشيء والمراد بها هنا ما استل من الطين لخلق آدم.
نطفة في قرار مكين: النطفة قطرة الماء أي المني الذي يفرزه الفحل، والقرار المكين الرحم المصون.
العلقة: الدم المتجمد الذي يعلق بالإصبع لو حاول أحد أن يرفعه بإصبعه كمح البيض1.
والمضغة: قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل.
خلقاً آخر: أي غير تلك المضغة إذ بعد نفخ الروح فيها صارت إنساناً.
أحسن الخالقين: أي الصانعين فالله يصنع والناس يصنعون والله أحسن الصانعين.
معنى الآيات:.
يخبر تعالى عن خلقه الإنسان آدم وذريته وفي ذلك تتجلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته والتي أوجبت عبادته وطاعته ومحبته وتعظيمه وتقديره فقال: {ولقد خلقنا الإنسان} 2 يعني آدم عليه السلام {من سلالة من طين} أي من خلاصة طين جمعه فأصبح كالحمإ المسنون فاستل منه خلاصته ومنها خلق آدم ونفخ فيه من روحه فكان بشراً سويا ولله الحمد والمنة
__________
1 هذه الجملة معطوفة على جملة: {قد أفلح} فهي من عطف جملة ابتدائية على مثلها: وهي كعطف قصة على أخرى، وهذا شروع في الاستدلال على التوحيد والبعث والجزاء بمظاهر القدرة والعلم والحكمة، وهي مقتضية لعقيدة كل من التوحيد والبعث الآخر حيث أنكرهما وكذّب بهما المشركون.
2 جائز أن يكون المراد بالإنسان آدم، وأن يكون أحد ذريته إذ السلالة: الشيء المستل أي: المنتزع من غيره فالطينة مستلة من مادة الطين.
والمنيّ مستل كذلك من مادة ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً، وهذه السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية، والأغذية أصلها من الأرض وقوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} هذا طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم، وسميت النطفة نطفة: لأنها تنطف أي: تقطر في الرحم في قناة معروفة وهي القرار المكين.(3/507)
قوله: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} أي ثم جعلنا الإنسان الذي هو ولد آدم نطفة من صُلْبِ آدم {في قرار مكين} هو رحم حواء {ثم خلقنا النطفة} المنحدرة من صلب آدم {علقة} أي قطعة دم جامدة تعلق بالإصبع لو حاول الإنسان أن يرفعها بإصبعه، {خلقنا العلقة مضغة} وهي قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل، {فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام1 لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر2} أي إنساناً آخر غير آدم الأب، وهكذا خلق الله عز وجل آدم وذريته، {فتبارك الله أحسن الخالقين} . وقد يصدق هذا على كون الإنسان هو خلاصة عناصر شتى استحالت إلى نطفة الفحل ثم استحالت إلى علقة فمضغة فنفخ فيها الروح فصارت إنساناً آخر بعد أن كانت جماداً لا روح فيها وقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} فأثنى الله تعالى على نفسه بما هو أهله أي تعاظم أحسن الصانعين، إذ لا خالق إلاّ هو ويطلق لفظ الخلق على الصناعة فحسن التعبير بلفظ أحسن الخالقين.
وقوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} أي بعد خلقنا لكم تعيشون المدة التي حددناها لكم ثم تموتون، {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} أحياء للحساب والجزاء لتحيوا حياة أبدية لا يعقبها موت ولا فناء ولا بلاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته.
2- بيان خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها.
3- بيان مآل الإنسان بعد خلقه.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون.
__________
1 وقد أثبت علم الأجنة والشريح أن النطفة في طورها الثاني تعلق بجدار الرحم طيلة طورها الثاني فهي بمعنى عالقة ولا منافاة بين كونها علقة وعالقة.
2 في الحديث الصحيح: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح..} الحديث فإذا نفخ فيه الروح تهيأ للحياة والنماء وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} وروي أن يهود يزعمون أن العزل هو الموؤدة الصغرى، وأن عليّا رد هذا وقال: لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع أي: الأطوار التي في هذه الآية.(3/508)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
شرح الكلمات:
سبع طرائق: أي سبع سموات كل سماء يقال لها طريقة لأن بعضها مطروق فوق بعض.
ماء بقدر: أي بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص.
من طور سيناء: جبل يقال له جبل طور سيناء.
تنبت بالدهن: أي تنبت بثمر فيه الدهن وهو الزيت.
وصبغ للآكلين: أي يغمس الآكل فيه اللقمة ويأكلها.
في الأنعام لعبرة: الأنعام الإبل والبقر والغنم والعبرة فيها تحصل لمن تأمل خلقها ومنافعها.
مما في بطونها: أي من اللبن.
منافع كثيرة: كالوبر والصوف واللبن والركوب.
ومنها تأكلون: أي من لحومها.
تحملون: أي تركبون الإبل في البر وتركبون السفن في البحر.(3/509)
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر نعمه1 تعالى على الإنسان لعل هذا الإنسان يذكر فيشكر فقال تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم سبع2 طرائق} أي سموات سماء فوق سماء أي طريقة فوق طريقة وطبقاً فوق طبق وقوله تعالى: {وما كنا عن الخلق غافلين} أي ولم نكن غافلين عن خلقنا وبذلك انتظم الكون والحياة، وإلاّ لخرب كل شيء وفسد وقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً بقدر} هو ماء المطر أي بكميات على قدر الحاجة وقوله {فأسكناه في الأرض3 وإنا على ذهاب به لقادرون، فأنشأنا لكم به جنات} أي أوجدنا لكم به بساتين من نخيل وأعناب {لكم فيها} أي في تلك البساتين {فواكه4 كثيرة ومنها تأكلون} أي ومن تلك الفواكه تأكلون وذكر النخيل والعنب دون غيرهما لوجودهما بين العرب فهم يعرفونهما أكثر من غيرهما فالنخيل بالمدينة والعنب بالطائف.
وقوله: {وشجرة5 تخرج من طور سيناء} أي وأنبت لكم به شجرة الزيتون وهي {تنبت بالدهن6 وصبغ للآكلين} فبزيتها يدهن ويؤتدم فتصبغ اللقمة به وتؤكل. وقوله: {وإن لكم في الأنعام لعبرة} فتأملوها في خلقها وحياتها ومنافعها تعبرون بها إلى الإيمان والتوحيد والطاعة. وقوله: {نسقيكم7 مما في بطونها} من ألبان تخرج من بين فرث ودم، وقوله: {ولكم فيها منافع كثيرة} كصوفها ووبرها ولبنها وأكل لحومها. وقوله: {وعليها وعلى الفلك تحملون} وعلى بعضها كالإبل تحملون في البر وعلى السفن في البحر. أفلا تشكرون لله هذه النعم فتذكروه وتشكروه أليست هذه النعم موجبة لشكر المنعم بها فيُعبد ويوحد في عبادته؟.
__________
1 وفي ذكر أدلة التوحيد إذ تقدم الاستدلال على التوحيد بخلق الإنسان وهذا استدلال بخلق العدالة العلوية.
2 الطرائق: جمع طريقة، وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث فهل المراد بها هنا طرق الملائكة أو طرق سير الكواكب وهو سمتها وما تجري فيه أو هي السبع السموات، ومعنى طرائق: أن بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين جعل أحدهما فوق الثاني، ويكون المعنى طباقا وهذا هو الراجح. والله أعلم.
3 {أسكناه في الأرض} منه ما هو ظاهر كماء الأودية، والأنهار، ومنه ما هو باطن، وهو المياه الجوفية، وإن الله تعالى على ذهابه من ظاهر الأرض كباطنها قدير، ويومها تهلك البشرية، وهذه الآية كقوله: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين} .
4 جمع فاكهة وهي: ما يؤكل تفكّهاً بآكله أي: تلذّذا بطعمه من غير قصد القوت، وما يؤكل لأجل الطعام يقال له: طعام ولا يقال له فاكهة.
5 وشجرة: معطوفة على جنات أي: وأخرجنا لكم به شجرة.
6 الباء في {بالدهن} للمصاحبة نحو: خرج زيد بسلامة أي: مصحوباً بسلامة.
7 قرىء {نسقيكم} بضم النون من أسقاه، وبفتحها من سقاه كذا.(3/510)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله تعالى وعظمته في خلق السموات طرائق وعدم غفلته عن سائر خلقه فسار كل شيء لما خلق له فثبت الكون وانتظمت الحياة.
2- بيان افضال الله تعالى في إنزال الماء بقدر وإسكانه في الأرض وعدم إذهابه مما يوجب الشكر لله تعالى على عباده.
3- بيان منافع الزيت حيث1 هو للدهن والائتدام والاستصباح.
4- فضل الله على العباد في خلق الأنعام والسفن للانتفاع بالأنعام في جوانب كثيرة منها، وفي السفن للركوب عليها وحمل السلع والبضائع من إقليم إلى إقليم.
5- وجوب شكر الله تعالى على إنعامه وذلك بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
شرح الكلمات:
اعبدوا الله: أي وحدوه بالعبادة إذ ليس لكم من إله غيره.
أفلا تتقون: أي أتعبدون معه غيره فلا تخافون غضبه وعقابه.
الملأ: أي أعيان البلاد وكبراء القوم.
__________
1 في الآية إشارة إلى أن شجر الزيتون أول ما وجد على الأرض وُجد بطور سيناء ثم تناقله الناس من إقليم إلى آخر، فقوله {تخرج من طور سيناء} إعلام بأول منبت لها.(3/511)
ما هذا إلاّ بشر مثلكم: أي ما نوح إلاّ بشر مثلكم فكيف تطيعونه بقبول ما يدعوكم إليه.
أن يتفضل عليكم: أي يسودكم ويصبح آمراً ناهياً بينكم.
ولو شاء الله لأنزل ملائكة: أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا.
رجل به جنة: أي مصاب بمس من جنون.
فتربصوا به حتى حين: أي فلا تسمعوا له ولا تطيعوه وانتظروا به هلاكه أو شفاءه.
معنى الآيات:
هذا السياق بداية عدة قصص ذكرت على إثر قصة بدأ خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام فقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً} 1 أي قبلك يا رسولنا فكذبوه كما كذبك قومك وإليك قصته إذ قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في العبادة، ولا تعبدوا معه عيره {مالكم من إله غيره2} أي إذ ليس لكم من إله غيره يستحق عبادتكم. وقوله: {أفلا تتقون} أي أتعبدون معه غيره أفلا تخافون غضبه عليكم ثم عقابه لكم؟.
فأجابه قومه المشركون بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي فرد عليه قوله أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم من أغنياء وأعيان ممن كفروا من قومه {ما هذا} أي نوح {إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} أي يسود3 ويشرف فادعى أنه رسول الله إليكم. {ولو شاء الله} أي أن لا نعبد معه سواه {لأنزل ملائكة} تخبرنا بذلك {ما سمعنا بهذا} أي بالذي جاء به نوح ودعا إليه من ترك عبادة آلهتنا {قي آبائنا الأولين} أي لم يقل به أحد من أجدادنا السابقين {إن هو إلاّ رجل به جنة} أي ما نوح إلاّ رجل به مس من جنون، وإلاّ لما قال هذا الذي يقول من تسفيهنا وتسفيه آبائنا {فتربصوا4 به حتى حين} أي انتظروا به أجله حتى يموت، ولا تتركوا دينكم لأجله وهنا وبعد قرون طويلة بلغت ألف سنة إلاّ خمسين شكا نوح إلى ربه وطلب النصر منه فقال ما أخبر تعالى به عنه {قال ربّ انصرني5 بما كذبون} أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وانصرني عليهم.
__________
1 فوائد سرد القصص كثيرة منها: تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر مما يلقى من قومه، ومنها: العظة والاعتبار بما جرى من أحداث، ومنها تقرير التوحيد وإثبات النبوة المحمدية واللام في: {ولقد أرسلنا} موطئة للقسم أي: وعزّتنا لقد أرسلنا نوحاً.
2 قرأ الجمهور بجرّ {إله} ورفع {غيره} وقرأ بعضهم: بجر {غيره} لأنه نعت لإله المجرور بحرف الجر الزائد ورفع {غيره} هو على المحل إذ محل {إله} الرفع وإنما منع منه حرف الجر الزائد.
3 قولهم: هذا ناتج عن نفسياتهم المتهالكة على حب الرئاسة والشر الموهوم.
4 التربص: التوقف على عمل يراد عمله، والتريث فيه لما قد يغني عنه.
5 {قال ربّ انصرني} هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة جواباً لسؤال مقدّر تقديره: لما كذب قومه ماذا فعل؟ والجواب: دعا عليهم: {قال ربّ انصرني} .(3/512)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات النبوة المحمدية بذكر أخبار الغيب التي لا تعلم إلاّ من طريق الوحي.
2- تقرير التوحيد بذكر دعوة الرسل أقوامهم إليه.
3- بيان سنة من سنن البشر وهي أن دعوة الحق أول من يردها الكبراء من أهل الكفر.
4- بيان كيف يرد الظالمون دعوة الحق بإتهام الدعاة بما هم براء منه كالجنون وغيره من الاتهامات كالعمالة لفلان والتملق لفلان.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
شرح الكلمات:
فأوحينا إليه أن أصنع: أي أعلمناه بطريق سريع خفي أي اصنع الفلك.
بأعيننا ووحيينا: أي بمرأى منا ومنظر، وبتعليمنا إياك صنعها.
وفار التنور: تنور الخباز فار منه الماء آية بداية الطوفان.
فاسلك فيها: أي أدخل في السفينة.
وأهلك: أولادك ونساءك.
ولا تخاطبني في الذين ظلموا: أي لا تكلمني في شأن الظالمين فإني حكمت بإغراقهم.
وقل رب: أي وادعني قائلاً يا رب أنزلني منزلاً مباركاً من الأرض.
إن في ذلك لآيات: أي لدلائل وعبر.(3/513)
وإن كنا لمبتلين: أي لمختبرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحاً عليه السلام دعا ربه مستنصراً إياه لينصره على قومه الذين كذبوه قائلاً: {رب انصرني1 بما كذبون} فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه أي أعلمه بطريق الوحي الخاص {أن اصنع الفلك} أي السفينة {بأعيننا ووحينا} أي بمرأى منا ومنظر وبتعليمنا إياك وجعل له علامة على بداية هلاك القوم أن يفور التنور تنور طبخ الخبز بالماء وأمره إذا راى تلك العلامة أن يدخل في السفينة من كل زوج أي ذكر وأنثى اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه ذلك منه وأن يركب فيها أيضاً أهله من زوجة وولد إلاّ من قضى الله بهلاكه ونهاه أن يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعاً. هذا ما تضمنته الآية الأولى (27) {فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا} أي بإهلاك الظالمين المشركين {وفار التنور، فاسلك فيها} أي في السفينة {من كل زوجين2 اثنين3، وأهلك} أي أزواجك وأولادك {إلاّ من سبق عليه القول منهم} أي بإهلاكهم كامرأته، {ولا تخاطبني في الذين4 ظلموا} أي لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.
وقوله تعالى: {فإذا استويت5 أنت ومن معك على الفلك} أي إذا ركبت واستقررْت على متن السفينة أنت ومن معك من المؤمنين فاحمدنا فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين6 وادعنا ضارعاً إلينا قائلاً {رب أنزلني منزلاً مباركاً7} أي من الأرض، وَأَثْن علينا
__________
1 الباء سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ في فعل الدعاء، وجملة {أن اصنع} جملة مفسرة لجملة: {أوحينا} لأنّ الوحي فيه معنى القول دون حروفه، فأن تفسيرية قطعاً.
2 الزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما، والمراد به هنا: أزواج الحيوانات لحفظ نوعها حتى لا تنقرض بالطوفان.
3 قرأ حفص {من كلٍّ} بتنوين كل، وقرأ نافع وغيره بلا تنوين أي: بإضافة اثنين إلى كل، وتنوين كل تنوين عوض أي: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.
4 أي: في شأنهم فإنهم قد قضى بإهلاكهم ولا رادٌ لقضائه تعالى.
5 استويت: أي علوت فوقها واستقررت فيها، وحرف الجر {على} مؤذن بالاستقرار والتمكن منه.
6 الظالمين: أي المشركين، لأن الظلم هو الشرك، والتنجية: الإنجاء من شرهم وأذاهم وشركهم وكفرهم.
7 المنزل بضم الميم: وفتح الزاي: مصدر الذي هو الإنزال، وبفتح الميم وكسر الزاي هو مكان النزول أي: أنزلني موضعاً مباركاً، والمنزل بفتح الميم والزاي معاً: مصدر نزل نزولا ومنزلاً.(3/514)
خيراً فقل {وأنت خير المنزلين} 1، وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات} أي المذكور من قصة نوح لدلائل على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله: {وإن كنا لمبتلين} أي مختبرين عبادنا بالخير والشر ليرى الكافر من المؤمن، والمطيع من العاصي ويتم الجزاء حسب ذلك إظهاراً للعدالة الإلهية والرحمة الربانية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات الوحي الإلهي وتقرير النبوة المحمدية.
2- تقرير حادثة الطوفان المعروفة لدى المؤرخين.
3- بيان عاقبة الظلم وأنه هلاك الظالمين.
4- سنية قول بسم الله والحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة.
5- استحباب الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا.
6- بيان سر ذكر قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر.
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ
__________
1 في الآية تعليم للمؤمنين إذا ركبوا أو نزلوا أن يدعوا بهذا الدعاء بل حتى إذا دخلوا بيوتهم وسلموا فقد كان عليّ رضي الله عنه إذا دخل المسجد دعا بهذا الدعاء: {ربّ أنزلني..} الخ.(3/515)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
شرح الكلمات:
ثم أنشأنا من بعدهم قَرْناً آخرين: أي خلقنا من بعد قوم نوح الهالكين قوماً آخرين هم عاد قوم هود.
رسولاً منهم: هو هود عليه السلام.
أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره: أي قولوا لا إله إلاّ الله فاعبدوا الله وحده.
وأترفناهم: أي أنعمنا عليهم بالمال وسعة العيش.
أنكم مخرجون: أي أحياء من قبوركم بعد موتكم.
هيهات هيهات: أي بَعُدَ بُعْداً كبيراً وقوعُ ما يعدكم.
إن هي إلاّ حياتنا الدنيا: أي ما هي إلاّ حياتنا الدنيا وليس وراءها حياة أخرى.
إن هو إلاّ رجل: أي ما هو إلاّ رجلٌ افترى على الله كذباً أي كذب على الله تعالى.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة هود عليه السلام بعد قصة نوح عليه السلام أيضاً فقال تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم} أي خلقنا وأوجدنا من بعد قوم نوح الهالكين قوماً آخرين هم1 عاد قوم هود {فأرسلنا فيهم2 رسولاً منهم} هو هود عليه السلام بأن قال لهم: {أن اعبدوا الله ما
__________
1 وقيل هم قوم صالح بقرينة قوله تعالى: {فأخذتهم الصيحة} وهي التي أهلك الله تعالى بها ثمود قوم صالح إذ قال تعالى: {فأخذتهم الصيحة مصبحين} من سورة الحجر. ورشح هذا لأنّ فيها العبرة أكثر لوجود آثارهم في ديارهم شمال الحجاز إلاّ أن ذكر عاد بعد قوم نوح هو الوارد في كل قصص القرآن وبترجيح الزمان إذ عاد أوّل أمّة أهلكت بعد قوم نوح. والله أعلم.
2 قوله: {فيهم} بدل إليهم: لأن هوداً أو صالحاً كان المرسل من أهل البلاد وفرداً من أفرادهم فلا يحسن أن يقال: إلى إلاّ إذا كان خارجاً عنهم ليس من أفرادهم، وذلك كما في أهل سدوم، ونينوي والقبط فجاء التعبير بإلى نحو: {إلى فرعون وملئه} .(3/516)
لكم من إله غيره} أي اعبدوا الله بطاعته وإفراده بالعبادة إذ لا يوجد لكم إله غير الله تصح عبادته إذ الخالق لكم الرازق الله وحده فغيره لا يستحق العبادة بحال من الأحوال وقوله: {أفلا تتقون} يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم عقوبته.
وقوله تعالى: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا} أي وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله ورسوله وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وقد أترفهم1 الله تعالى: بالمال وسعة الرزق فأسرفوا في الملاذ والشهوات: قالوا: وماذا قالوا؟: قالوا ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله: {ما هذا إلاّ بشر مثلكم} أي ما هذا الرسول إلاّ بشر مثلكم {يأكل مما تأكلون منه} من أنواع الطعام {ويشرب مما تشربون} من ألوان الشراب2 أي فلا فرق بينكم وبينه فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم وينهاكم. وقالو: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} أي خاسرون حياتكم ومكانتكم، وقالوا {أيعدكم3 أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً} أي فنيتم وصرتم تراباً {أنكم مُخْرجِون} أي أحياء من قبوركم. وقالوا: {هيهات4 هيهات} أي بَعُد بُعْداً كبيراً ما يعدكم به هود إنهاما {هي إلاّ حياتنا الدنيا} أي {نموت ونحيا} جيل5 يموت وجيل يحيا {وما نحن بمبعوثين} وقالوا: {إن هو إلاّ رجل أفترى6 على الله كذباً} أي اختلق الكذب على الله وقال عنه أنه يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم بكسبكم. {وقالوا ما نحن بمبعوثين} هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم وإلحادهم وما سيقوله هود عليه السلام سيأتي في الآيات بعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل، وما تبتدىء به دعوتهم وهولا إله إلاّ الله.
__________
1 أي: وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا، وصاروا يؤتون بالترفة وهي كالتحفة، يقال: أترفه المال: إذا أبطره وأفسده.
2 في قولهم: يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون. هذه الجملة وإن كانت تعليلا لبشرية الرسول فإنها دالة على أنهم حقاً مترفون منعّمون في ملاذ الأكل والشرب كأنّه لا هم لهم إلاّ ذاك، كما قيل: من أحب شيئاً أكثر من ذكره كما هي مجالس المترفين اليوم جل لأحاديثهم حول الأكل والشرب ونحوهما.
3 الاستفهام للتعجيب، والكلام انتقال من تكذيبهم بكونه رسولاً إليهم إلى التكذيب بما أرسل به من الدين الحق.
4 الجمهور من النّحاة واللغويين: أن هيهات اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُدَ وهي مبنية على الفتح والكسر أيضاً ولا تُقال إلاّ مكررة، قال الشاعر:
فهيهات هيهات العقيق وأهله
هيهات خلّ بالعقيق نواصله
5 إن قيل: كيف قالوا: نموت ونحيا وهم منكرون للبعث؟ قيل في الجواب: إما أن يكون مرادهم نكون نطفاً ميتة ثم نحيا، وإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي: نحيا فيها ونموت نحو {واسجدي واركعي} وإما بموت الآباء وحياة الأبناء.
6 الافتراء: الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر، وهو الاختلاق.(3/517)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
2- أهل الكفر لا يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم.
3- الترب سِبب كثيراً من المفاسد والشرور، ولهذا يجب أن يُحْذَرْ بالاقتصاد.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروباً من الاستقامة.
5- تُكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلاً من البشر، دفعاً للحق وعدم قبوله.
قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
شرح الكلمات:
عما قليل: أي عن قليل من الزمن.
ليصبحن نادمين: ليصيرن نادمين على كفرهم وتكذيبهم.
فأخذتهم الصيحة: أي صيحة العذاب والهلاك.
فجعلناهم غثاء: كغثاء السيل وهو ما يجمعه الوادي من العيدان والنبات اليابس.
فبعداً: أي هلاكاً لهم. ا
ثم أنشأنا: أي أوجدنا من بعدهم أهل قرون آخرين كقوم صالح وإبراهيم ولوط وشعيب.
تترا: أي يتبع بعضها بعضاً الواحدة عقب الأخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي أهلكناهم وتركناهم قصصاً تقص وأخباراً تتناقل.(3/518)
معنى الآيات:
هذا ما قال هود1 عليه السلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين {قال رب} أي يا رب {انصرني بما كذبون2} أي بسبب تكذبيهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك وعبادة غيرك فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله: {عما قليل ليصبحن نادمين} أي بعد قليل من الوقت وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين أي ليصيرن نادمين على كفرهم بي وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك ولم يمض إلاّ قليل زمن حتى أخذتهم الصيحة صيحة الهلاك ضمن ريح صرصر في أيام نحسات فإذا هم غثاء كغثاء السيل لا حياة فيهم ولا فائدة ترجى منهم {فبعداً للقوم الظالمين} أي هلاكاً للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي وقوله تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين3} أي ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عاداً أهل قرون آخرين كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب. وقوله تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} أي إن كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها أي وقتها المحدود لها فتتقدمه كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال.
وقوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا4} أي يتبع بعضها بعضاً {كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضاً} أي في الهلاك فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله والإنابة إليه أهلكها، وقوله تعالى {وجعلناهم أحاديث5} أي لمن بعدهم يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم {فبعداً} أي هلاكاً منا {لقوم لا يؤمنون} في هذا تهديد قوي لقريش المصرة على الشرك والتكذيب والعناد. وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منها.
__________
1 دَرَج الجمهور من المفسرين على أن القصص المذكور هنا كما هو في سائر السور هو قصص هود عليه السلام، وذهب ابن جرير وبعضٌ آخر إلى أنه قصة صالح لقرينة {فأخذتهم الصيحة} وقال الجمهور: يمكن أن تكون الصيحة ضمن عواصف الريح العقيم التي أرسلها تعالى على عاد قوم هود فأخذتهم فهلكوا بها والرياح عصفت بهم فمزقت وشتتت شملهم وتركتهم كأعجاز نخل خاوية ثم تفتتوا وصاروا كالغثاء وهذا الجمع أحسن.
2 في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز غير المخل وهو: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم ثم أنشأنا.
3 من في قوله {من أمة} صلة زيدت لتقوية النفي وتوكيده، والأصل ما تسبق أمّة.
4 {تترى} على وزن فعلى كدعوى وسلوى، والألف فيه للتأنيث، وأصله وترى من الوتر، الذي هو الفرد أبدلت الواو تاء كما أبدلت في تراث من الورث، وتجاه من الوجه، ولا يقال: تترى إلاّ إذا كان هناك تعاقب وانقطاع، وقرىء منوناً تترىً، وهو منصوب على الحال في القراءتين معاً.
5 جمع أحدوثة وهو ما يتحدّث به كأعاجيب جمع أعجوبة، وعي ما يتعجب منه، ومثل هذا التعبير: أحاديث: لا يقال في الخير وإنما يقال في الشر لا غير لقوله تعالى: {فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزق} رقد يقال في الخير إذا كان مقيّداً بذكره نحو قول ابن دريد:
إنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى(3/519)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استجابة الله دعوة المظلومين من عباده لاسيما إن كانوا عباداً صالحين.
2- الآجال للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
3- تقرير حقيقة تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند نزول العذاب بها إلاّ المؤمنون مع رسولهم.
4- كرامة هذه الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكاً عاماً بل تبقى بقاء الحياة تقوم بها الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة.
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
شرح الكلمات:
بآياتنا وسلطان مبين: الآيات هي التسع الآيات وهي الحجة والسلطان المبين.
وكانوا قوماً عالين: أي علوا أهل تلك البلاد قهراً واستبداداً وتحكماً.
وقومهما لنا عابدون: أي مطيعون ذليلون نستخدمهم فيما نشاء وكيف نشاء.
ولقد آتينا موسى الكتاب: أي التوراة.
وجعلنا ابن مريم: أي عيسى حجة وبرهاناً على وجود الله وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
إلى ربوة ذات قرار ومعين: إلى مكان مرتفع ذي استقرار وفيه ماء جار عذب وفواكه وخضر.(3/520)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار، ولإقامة الحجة على مشركي قريش فقال تعالى: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين} أي بعد تلك الأمم الخالية أرسلنا موسى بن عمران وأخاه هارون بسلطان مبين أي بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة الله وتوحيده فيها والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام إلى فرعون ملك مصر يومئذ وملئه من أشراف قومه وعليتهم فاستكبروا عن قبول دعوة الحق وكانوا عالين على أهل تلك البلاد فاهرين لها مستبدين بها وقالوا رداً على دعوة موسى وهارون ما أخبر تعالى به في قوله: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} أي خاضعون مطيعون. هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى وهارون إلى الإيمان برسالتهما فقالوا: أنؤمن لبشر من مثلنا أي كيف يكون هذا أنتبع رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما وكيف يتم ذلك وقومهما يعنون بني إسرائيل لنا عابدون. أي خاضعون لنا ومطيعون لأمرنا ونهينا. قال تعالى: {فكذبوهما} ، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض الميعاد فترتب على تكذيبهم لرسولي الله موسى وهارون هلاكهم فكانوا من المهلكين حيث أغرقهم الله أجمعين، وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى1 الكتاب لعلهم يهتدون} ، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله على خلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم.
وقوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم2 وأمه} أي جعل عيسى ووالدته مريم {آية} حيث ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله علىخلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم. وقوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه} أي جعل عيسى ووالدته مريم {آية} حيث خلق عيسى من غير أب فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته وهذه موجبة الإيمان به عبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة والتوبة إليه. قوله تعالى: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار وَمعين} أي أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة عالية صالحة للإستقرار عليها بها فاكهة وماء عذب جار إكرام الله تعالى له ولوالدته فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه.
__________
1 خصّ موسى بإيتائه الكتاب دون هارون لأنّ هارون يوم إعطاء موسى الكتاب {التوراة} كان مع قومه، وموسى كان وحده في الطور للمناجاة.
2 أدمج أمّه في الذكر لتسفيه اليهود في قولهم في مريم بهتاناً عظيماً.
3 الربوة: المكان المرتفع من الأرض، وهي مثلثة الراء تضم وتفتح وتكسر، وهي بفلسطين أو مدينة الرملة وهي من أرض فلسطين.
4 المعين: هو الماء الجاري على ظهر الأرض ظاهر للعيون.(3/521)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة كل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام.
2- التنديد بالاستكبار، وأنه علة مانعة من قبول الحق.
3- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته في إرسال الرسل بالآيات وفي إهلاك المكذبين.
4- آية ولادة عيسى من غير أب مقررة قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وبعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56)
شرح الكلمات:
كلوا من الطيبات: أي من الحلال.
واعلموا صالحاً: أي بأداء الفرائض وكثير من النوافل.
وإن هذا أمتكم: أي ملتكم الإسلامية.
فاتقون: أي بامتثال أمري واجتناب نهيي.
فتقطعوا أمرهم: أي اختلفوا في دينهم فأصبحوا طوائف هذه يهودية وتلك نصرانية.
في غمرتهم: أي في ضلالتهم.
نسارع لهم: أي نعجل.
بل لا يشعرون: أن ذلك استدراج منا لهم.
معنى الآيات:
بعد أن أكرم الله تعالى عيسى وَوالدته بما أكرمهما به من إيوائهما إلى ربوة ذات قرار ومعين(3/522)
خاطب1 عيسى عبده ورسوله قائلاً: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} أي الحلال فكان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه إذ كانت تغزل الصوف بأجرة فكانا يأكلان من ذلك أكلا من الطيب كما أمرهما الله تعالى وقوله: {واعملوا صالحاً} كلوا من الحلال واعملوا صالحاً بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، وقوله: {إني بما تعملون عليم} فيه وعد بأن الله تعالى سيثيبهم على ما يعلمون من الصالحات. وقوله: {وأن2 هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} أعلمهم أن ملتهم وهي الدين الإسلامي دين واحد فلا ينبغي الاختلاف فيه وأعلمهم أيضاً أنه ربهم أي مالك أمرهم والحاكم عليهم فليبتغوه بفعل ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، لينجوا من عذابه ويظفروا برحمته ودخول جنته.
وقوله تعالى: {فتقطعوا أمرهم بينهم3} أي دينهم {زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} أي فرقوا دينهم فرقاً فذهبت كل فرقة بقطعة منه وقسموا الكتاب إلى كتب فهذه يهودية وهذه نصرانية واليهودية فرق والنصرانية فرق والإنجيل أصبح أناجيل متعددة وصارت كل جماعة فرحة بما عندها مسرورة به لا ترى الحق إلاّ فيه.. {كل حزب بما لديهم فرحون} وهنا أمر الله رسوله أن يتركهم في غمرة ضلالتهم إلى حين أن ينزل بهم ما قضى به الرب تعالى على أهل الاختلاف في دينه {فذرهم في غمرتهم حتى حين} إذ قال له في سورة الأنعام {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، لست منهم في شيء} وفيه من التهديد ما فيه. وهذا الذي نعاه تعالى على تلك الأمم قد وقعت فيه أمة الإسلام فاختلفوا في دينهم مذاهب وطرقاً عديدة، وياللأسف وقد حلت بهم المحن ونزل بهم البلاء نتيجة ذلك الخلاف. وقوله: {أيحسبون أنما نمدهم4 به من مال
__________
1 اختلف في هذا الخطاب هل هو لعيسى عليه السلام نظراً لسياق الحديث أو هو لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو هو عام لكل الرسل، أي: ما من رسول إلاّ وأمره بما في هذا السياق، وأمّة كل رسول تابعة له، وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في مثل هذا فلا داعي إلى الترجيح وعدمه ويشهد للعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "يا أيها الناس إن الله طيّب لا يقل إلاّ طيبا، وإن الله أمر المرسلين بما أمر به المؤمنين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" والشاهد في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بما أمر به المرسلين".
2 قرىء: {وانّ} بكسر إن على القطع أي: الابتداء وعلى تقدير قول أو قلنا لهم: {إن هذه} .. الخ وقرىء بفتحها، وهي قراءة الأكثرين على تقدير واعلموا {أن هذه أمتكم} .. الخ.
3 كأن هذه الآية تنظر إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا إن أهل الكتاب قبلكم افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" الحديث أخرجه أبو داود ورواه الترمذي وزاد: "قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" وقوله: {ملة} فيه دليل على أن الاختلاف في الفروع غير مقصود وإنما المقصود هو ما كان في أصول الدين وقواعده.
4 {إنما} : ما: موصولة بمعنى الذي أي: أيحبسبون يا رسولنا إن الذي نعطيهم في الدنيا من مال وولد هو ثواب لهم على شركهم وكفرهم إنما هو استدراج وإملاء ليس إسراعاً في الخيرات واختلف في خبر إنّ فقيل: إنه محذوف وتقدير الكلام: إنما نسارع لهم به في الخيرات، والاستفهام في أيحسبون: إنكاري.(3/523)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
وبنين} مع اختلافهم وانحرافهم مسارعة لهم منا في الخيرات1 لا بل ذلك استدراج لهم ليهلكوا ولكنهم لا يشعرون بذلك. لشدة غفلتهم واستيلاء غمرة الضلالة عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الأكل من الحلال، ووجوب الشكر بالطاعة لله ورسوله.
2- الإسلام دين البشرية جمعاء ولا يحل الاختلاف فيه بل يجب التمسك به وترك ما سواه.
3- حرمة الاختلاف في الدين وأنه سبب الكوارث والفتن والمحن.
4- إذا انحرفت الأمة عن دين الله، ثم رزقت المال وسعة العيش كان ذلك استدراجاً لها، ولم يكن إكراماً من الله لها دالاً على رضى ربها عنها بل ما هو إلاّ فتنة ليس غير.
إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
شرح الكلمات:
مشفقون: أي خائفون.
لا يشركون: أي بعبادته أحداً.
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة: أي خائفون أن لا يقبل منهم ذلك.
أنهم إلى ربهم راجعون: أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيحاسبهم ويسألهم ويجزيهم.
وهم لها سابقون: أي بإذن الله وفي علمه.
ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها: إلا طاقتها وما تقدر عليه.
ولدينا كتاب ينطق بالحق: وهو ما كتبه الكرام الكاتبون فإنه ناطق بالحق.
وهم لا يظلمون: أي ينقض حسنة من حسناتهم ولا بزيادة سيئة على سيآتهم.
__________
1 الخيرات: جمع خير وهو من الجموع النادرة مثل: سرادقات جمع سرداق.(3/524)
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال الذين فرقوا دينهم فذهبت كل فرقة منهم بكتاب ومذهب ولقب ونعى عليهم ذلك التفرق وأمر رسوله أن يتركهم في غمرة خلافاتهم ويدعهم إلى حين يلقون جزاءهم عاجلاً أو آجلاً: أثنى تبارك وتعالى على عباده المؤمنين من أهل الخشية، فقال وقوله الحق: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي من عذابه خائفون من الوقوف بين يديه فهذه صفة لهم وآخرى {والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} أي بحجج الله تعالى التي تضمنتها آياته يؤمنون أي يوقنون وثالثة: {والذين هم بريهم لا يشركون} أي في ذاته ولا صفاته ولا عباداته فيعبدونه بما شرع لهم موحدينه في ذلك ورابعة: {والذين1 يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم2 راجعون} . أي يؤتون3 الزكاة وسائر الحقوق والواجبات وقلوبهم خائفة من ربهم أن يكونوا قد قصروا فيما أوجب عليهم وخائفة أن لا يقبل منهم عملهم، وذلك ناجم لهم من قوة إيمانهم برجوعهم إلى ربهم ووقوفهم بين يديه ومساءلته لهم: لم قدمت؟ لم أخرت؟ وقوله تعالى: {أولئك يسارعون4 في الخيرات وهم لها سابقون} في هذا بشرى لهم إذ أخبر تعالى أنهم يسارعون في الخيرات، وأنهم سبق ذلك لهم في الأزل فهنيئاً لهم. وقوله تعالى: {ولا نكلف نفساً إلاّ وسعها} فيه قبول عذر من بذل جهده في المسارعة في الخيرات ولم يلحق بغيره أعذره ربه فإنه لا خوف عليه ما دام قد بذل جهده إذ هو تعالى {لا يكلف نفساً إلاّ وسعها} أي طاقتها وما يتسع له جهده.
وقوله: {ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون} فيه وعدّ لأولئك المسارعين بالخيرات بأنّ أعمالهم مكتوبة لهم في كتاب ينطق بالحق لا يخفى حسنة من حسناتهم ويستوفونها كاملة وفيه وعيد لأهل الشرك والمعاصي بأن أعمالهم محصاة عليهم قد ضمها كتاب صادق وسوف يجزون بها وهم لا يظلمون فلا تكتب عليهم سيئة لم يعملوها قط ولا يجزون إلاّ بما كانوا يكسبون.
__________
1 روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات".
2 أي: لأنهم: أو من أجل أنهم إلى ربهم راجعون. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبرة بما يختم به للعبد، وفي البخاري: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
3 قرىء: {يأتون} من الإتيان، ولا يختلف المعنى إذ هم يأتون الأعمال الصالحة ويفعلونها، وقلوبهم خائفة. كما يعطون ما يعطون من الزكاة والنفقات وقلوبهم وجلة أو يعطون الملائكة أعمالهم التي يكتبونها وقلوبهم وجلة.
4 {يسارعون في الخيرات} أي: في الطاعات كي ينالوا بها أعلى الدرجات والغرفات ولم يقل يسارعون إلى الخيرات إذ هم في الخيرات لم يخرجوا من دائرتها أبداً فهم فيها يسارعون. في الآية إشارة إلى أن الصلاة في أول وقتها أفضل، وهكذا السبق في كل خير قبل الغير خير.(3/525)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الخشية والإيمان والتوحيد والتواضع والمراقبة لله تعالى.
2- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى.
3- تقرير قاعدة رفع الحرج في الدين.
4- تقرير كتابة أعمال العباد وإحصاء أعمالهم ومجازاتهم العادلة.
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
شرح الكلمات:
في غمرة من هذا: أي جهالة من القرآن وعمى.
ولهم أعمال من دون ذلك: أي من دون أعمال المؤمنين التي هي الخشية والإيمان بالآيات والتوحيد والمراقبة.
هم لها عاملون: أي سيعملونها لتكون سبب نهايتهم حيث يأخذهم الله تعالى بها.
إ ذا هم يجأرون: أي يصرخون بأعلى أصواتهم ضاجيّن مستغيثين ممَّا حلَّ بهم من العذاب.
تنكصون: أي ترجعون على أعقابكم كراهة سماع القرآن.(3/526)
مستكبرين به: أي بالحرم أي كانوا يقولون: لا يظهر علينا فيه أحد لأنّا أهل الحرم.
سامراً تهجرون: أي تسمرون بالحرم ليلا هاجرين الحق وسماعه على قراءة فتح التاء وعلى قراءة ضمها تهجرون أي تقولوا الهجر من القول كالفحش والقبح.
رسولهم: أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
به جنّة: أي مجنون.
معنى الآيات:
{بل قلوبهم في غمرة من هذا} أي ليس الأمر كما يحب فهؤلاء المشركون أنّا نمدهم بالمال مسارعة منا لهم في الخيرات لرضانا عنهم لا بل إن قلوبهم في غمرة وعمى من القرآن، {ولهم أعمال من دون ذلك1} أي دون عمل المؤمنين. {هم لها عاملون} حتى تنتهي بمترفيهم إلى هلاكهم ودمارهم وقوله تعالى: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} أي استمرت الأعمال الشركية الإجرامية حتى أخذ الله تعالى مترفيهم في بدر بعذاب القتل والأسر {إذا هم يجأرون2} يضجون بالصراخ مستغيثين، والله تعالى يقول لهم: {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} وذكر تعالى لهم ما كانوا عليه من التكذيب والاستكبار وقول الهجر موبخاً إياهم {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون3} هروباً من سماعها حال كونكم {مستكبرين به} أي بالحرم زاعمين أنكم أهل الحرم، وأن أحداً لا يظهر عليكم فيه لأنكم أهله وقوله: {سامراً4 تهجرون} أي تسمرون بالليل تهجرون بذلك سماع الحق ودعوة الحق التي تُتلى بها عليكم آيات الله. وقد قرىء
__________
1 عن ابن عباس رضي الله عنهما دون ذلك أي: دون الشرك من كبائر الذنوب هم عاملوها لا محالة إذ كتبت عليهم ليدخلوا بها النار، وما كان دون عمل المؤمنين قطعاً هو الشرك والمعاصي، فلا منافاة بين ما في التفسير وما روي عن ابن عباس.
2 الجؤار: كالخوار يقال: خار الثور يخأر: إذا صاح، وجأر الرجل بالدعاء: تضرع به، قال قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم، وجأروا كذلك يوم أصابهم القحط والجدب فجاعوا حتى كادوا يهلكون بدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 {تنكصون} : ترجعون وراءكم، وأصله الرجوع إلى الوراء القهقري. قال الشاعر:
زعموا أنهم على سبل النجا
ةِ وإنما نكصوا على الأعقاب
4 سامراً معناه سمّاراً أي: جماعة تتحدّثون بالليل، والسمر مأخوذ من السّمر الذي هو ظل القمر، ومنه سمرة اللون وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمرة القمر فسمي التحدّث به، وقرى {سُمّاراً} جمع سامر. يقال: جاء من السامر يريد: من القوم الذين يسمرون، وفي الحديث: كراهة النوم قبل العشاء، والحديث أي السمر بعدها، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء ويقول: أسمراً أول الليل ونوماً آخره؟!!(3/527)
تُهجرون بضم التاء وكسر الجيم أي تقولون أثناء سمركم في الليل الهجر من القول كالكفر وقول الفحش وما لا خير فيه من الكلام، وكانوا كذلك.
وقوله تعالى: {أفلم يدبروا1 القول} الذي يسمعونه من نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعرفوا أنه حق وخير وأنه فيه صلاحهم {أم جاءهم2} من الدين والشرع {ما لم يأت أباءهم الأولين} فقد جاءت رسل ونزلت كتب وهم يعرفون ذلك. أم لم يعرفوا رسولهم محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم له منكرون إنهم يعرفونه بصدقه وطهارته وكماله منذ نشأته وصباه إلى يوم أن دعاهم إلى الله {أم يقولون به جنَّة} أي جنون وأين الجنون من رجل ينطق بالحكمة ويعمل بها ويدعو إليها {بل جاءهم بالحق وأكثرهم3 للحق كارهون} ، وهذا هو سرُّ إعراضهم واستكبارهم إنه كراهيتهم للحق لطول ما ألفوا الباطل وعاشوا عليه، وهذه سنة البشر في كل زمان ومكان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- غمرة الجهل والتعصب وعمى التقليد هي سبب إعراض الناس عن الحق ومعارضتهم له.
2- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب أو نزوله.
3- بيان الذنوب التي أخذ بها مترفو مكة ببدر وهي هروبهم من سماع القرآن ونكوصهم عند سماعه على أعقابهم حتى لا يسمعوه واستكبارهم بالحرم واعتزارهم به جهلاً وضلالاً واجتماعهم في الليالي الطوال يسمرون على اللهو وقول الباطل هاجرين سماع القرآن وما يدعو إليه من هدى وخير.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73)
__________
1 وقيل: القول: القرآن: وسمي قولاً لأنهم خوطبوا به، والاستفهام إنكاري يحمل التقريع والتأنيب.
2 {أم جاءهم} الخ.. أي: فأنكروه وأعرضوا عنه. وقيل: أم بمعنى بل الانتقالية بل جاءهم مالا عهد لآبائهم به فلذا أنكروه وتركوا التديُّن به، والفاء في: أفلم يدّبروا: للتفريع إذ هذا الكلام متفرع عما سبقه، والتدبر معناه إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له، وأصله النظر في دبر الأمر أي: فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء.
3 في قوله {بل أكثرهم} احتراس عرف في القرآن حتى لا ينقض ببعض الأفراد وهو من اعجاز القرآن وبالغ كماله في البلاغة والبيان.(3/528)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
شرح الكلمات:
لو اتبع الحق أهواءهم: أي ما يهوونه ويشتهونه.
أتيناهم بذكرهم: أي بالقرآن العظيم الذي بذكرهم فيه يذكرون ويُذكرون.
أم تسألهم خرجاً: أي مالاً مقابل إبلاغك لهم دعوة ربهم.
فخراج ربك خير: أي ما يرزقكه الله خير وهو خير الرازقين.
إلى صراط مستقيم: أي إلى الإسلام.
عن الصراط لناكبون: أي عن الإسلام أي متنكبونه جاعلوه على منكب أي جانب عادلون عنه.
للجوَّا في طغيانهم يعمهون: لتمادوا في طغيانهم مصرين عليه.
فما استكانوا: أي ما ذلوا ولا خضعوا.
إذا هم فيه مبلسون: أي آيسون قنطون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقوله تعالى: {ولو اتبع1 الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} هذا كلام مستأنف لبيان حقائق أخرى منها أن هؤلاء المشركين لو اتبع الحقُّ النازل من عند الله والذي يمثله القرآن أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه فكان يوافقهم عليه لأدى ذلك إلى
__________
1 اختلف في المراد بالحق فقيل: هو الله تعالى قاله مجاهد وغيره، وقيل معناه ولو اتبع صاحب الحق، وقيل: هو مجاز أي: لو وافق الحق أهواءهم فجعل موافقته إتباعاً، وما في التفسير أظهر، وقد استظهره ابن جرير الطبري.(3/529)
فساد الكون كله علويه1 وسفليه، وذلك لأنهم أهل باطل لا يرون إلاّ الباطل ويصبح سيرهم معاكساً للحق فيؤدي حتما إلى خراب الكون وقوله تعالى: {بل أتيناهم بذكرهم} أي جئناهم بذكرهم الذي هو القرآن الكريم إذ به يذكرون وبه يُذكرون لأنه سبب شرفهم، وقوله: {فهم عن ذكرهم معرضون} ، فهم لسوء حالهم وفساد قلوبهم معرضون عما به يذكرون ويذكرون2، وقوله تعالى: {أم تسألهم خرْجاً} أي3 أجراً ومالاً {فخراج ربّك خير} أي ثواب ربّك الذي يثيبك به خير وهو تعالى خير الرازقين وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسألهم عن التبليغ أجراً وقوله تعالى: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} أي إلى الإسلام طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط4 لناكبون} أي علة تنكبّهم أي ابتعادهم عن الإسلام هو عدم إيمانهم بالآخرة، وهو كذلك فالقلب الذي لا يعمره الإيمان بلقاء الله والجزاء يوم القيامة صاحبه ضد كل خير ومعروف ولا يؤمل منه ذلك لعلة كفره بالآخرة.
وقوله تعالى: {ولو5 رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} يخبر تعالى أنه لو رحم أولئك المشركين المكذبين بالآخرة، وكشف ما بهم من ضر أصابهم من قحط وجدب وجوع ومرض لا يشكرون الله، بل يتمادون في عتوهم وضلالهم وظلمهم يعمهون حيارى يترددون، وقوله تعالى: {ولقد أخذناهم6 بالعذاب} وهي سنوات الجدب والقحط بدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أصابهم من قتل وجراحات وهزائم في بدر. وقوله: {فما استكانوا7 لربهم وما يتضرعون} فما ذلوا لربهم وما دعوه ولا تضرعوا إليه بل بقوا على طغيانهم في ضلالهم ومرد هذا ظلمة النفوس الناتجة عن الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد} وهو معركة بدر وما أصاب
__________
1 وما في الكون العلوي من الملائكة، والسفلي من الجن والإنس، وإلى هذا الإشارة بِمَنْ في قوله: {ومن فيهن} .
2 الأولى يذكرون بفتح الياء، مبنى للفاعل، والثانية يذكرون بضم الياء مبنيٌ للمفعول.
3 قرىء خراجاً أيضاً والمعنى واحد، والمعنى: أتسألهم رزقاً فرزق ربك خير، وقيل: الخرج: الجعل والخراج: العطاء، والخرج: المصدر، والخراج: الاسم.
4 الصراط في اللغة: الطريق، يسمي الدين طريقاً لأنه طريق إلى الجنة والناكب: العادل عن الشيء المعرض عنه، وهو مشتق من المنكب وهو جانب الكتف.
5 {ولو رحمناهم} معطوف على جملة: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} وما بينهما: اعتراض باستدلال عليهم وتنديم لهم وقطع لمعاذيرهم أي: أنهم ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم {دعاءهم} عند نزول العذاب بهم وكشفه عنهم لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والشرك والأعمال السيئة. وهذا كقوله: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} .
6 هذا استدلال على مضمون ما في قوله: {ولو رحمناهم} الخ، و {ال} في العذاب للعهد أي: بالعذاب المذكور آنفاً في قوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} .
7 الاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع، مشتقة من السكون، لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من يخضع له.(3/530)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
المشركين من القتل {إذا هم فيه مبلسون1} أي آيسون من كل خير حزنون قنطون وذلك لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- خطر إتباع الهوى وما يفضي إليه من الهلاك والخسران.
2- الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة والكمال هو الإسلام لا غير.
3- التكذيب بيوم القيامة وما يتم فيه من حساب وجزاء هو الباعث على كل شر والمانع من كل خير.
4- من آثار ظلمة النفس نتيجة الكفر اليأس والقنوط والتمادي في الشر والفساد.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83)
شرح الكلمات:
أنشأ لكم السمع: أي خلق وأوجد لكم الأسماع والأبصار.
والأفئدة: جمع فؤاد وهو القلب.
قليلا ما تشكرون: أي ما تشكرون إلاّ قليلاً.
ذرأكم: أي خلقكم.
__________
1 الإبلاس: شدة اليأس من النجاة، وجائز أن يكون العذاب الذي أبلسهم عذاب القحط والمجاعة التي أصابتهم، وجائز أن يكون عذاب يوم القيامة.(3/531)
وإليه تحشرون: أي تجمعون إليه بعد إحيائكم وخروجكم من قبوركم.
وله اختلاف الليل والنهار: أي إليه تعالى إيجاد الليل والنهار وظلمة الليل وضياء النهار.
أفلا تعقلون: فتعرفوا أن الله هو المعبود الحق إذ هو الرب الحق.
إلاّ أساطير الأولين: أي ما تقولون من البعث والحياة الثانية ما هو إلاّ حكايات وأساطير وأخبار الأولين، والأساطير جمع أسطورة أي حكاية مسطرة مكتوبة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به بعرض الأدلة العقلية عليهم لعلهم يؤمنون فقال تعالى لهم: {وهو الذي أنشأ لكم1 السمع2 والأبصار والأفئدة} أي الله الذي خلق لكم أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم قادر على إحيائكم بعد موتكم وحشركم إليه تعالى ليحاسبكم ويجزيكم، وقوله: {قليلاً ما تشكرون3} يوبخهم تعالى على كفرانهم نعمه عليهم، إذ أوجد لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم يحمدوه على ذلك ولم يشكروه بالإيمان به وبطاعته. وقوله تعالى: {وهو الذي ذرأكم في الأرض} أي خلقكم في الأرض، {وإليه تحشرون} إذ الذي قدر على خلقكم في الأرض قادر على خلقكم في أرض أخرى بعد أن يميتكم ويحشركم أي يجمعكم إليه ليحاسبكم ويجزيكم. وقوله: {وهو الذي يحيى4 ويميت} أي يحيي النطفة بجعلها مضغة لحم ثم ينفخ فيها الروح فتكون بشراً، ويميتكم بعد انقضاء آجالكم أليس هذا قادراً على إحيائكم بعد موتكم.
وقوله تعالى: {وله اختلاف5 الليل والنهار أفلا تعقلون} أي ولله تعالى اختلاف الليل والنهار بإيجادهما وتعاقبهما وإدخال أحدهما في الآخر أفلا تعقلون6 أن من هذه قدرته وتصاريفه في خلقه قادر على بعثكم بعد إماتتكم وقوله تعالى: {بل قالوا مثل7 ما قال الأولون} أي بدل
__________
1 هذا الكلام الإلهي، استدلال وامتنان فقد عرّفهم بكمال قدرته وعظيم مننه.
2 جائز أن يكون لهم شكر قليل، وجائز أن يكون لا شكر لهم البتة، وإنما هو من باب الاحتراس كيلا ينقض الخبر. بأدنى شكر منهم.
3 جمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد الأفراد، ووحد السمع لأنه مصدر فجرى على الأصل.
4 هذه بعض مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وحده، والموجبة لتصديقه فيما واعد به وأوعد، من نعيم الآخرة وعذابها.
5 {وله اختلاف الليل والنهار} هذه اللام: لام الاختصاص إذ لا قدرة لكائن سواه على اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر، والضياء والظلام، وما يجري فيهما من تصاريف الكائنات على اختلافها وتنوعها.
6 الاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم تعقلهم وفهمهم لدلائل التوحيد والبعث والجزاء، والفاء: للتفريع إذ هذا الكلام متفرع على ما تقدم من الأدلة في السياق.
7 في هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة لأنّ الكلام انتقل من التقريع إلى حكاية ضلالهم، وبل: للإضراب الإبطالي أي: أبطل كونهم يعقلون مع إثبات إنكارهم للبعث مع علّة الإنكار وهي: تقليدهم لآبائهم.(3/532)
أن يؤمنوا باليوم الآخر لِما دَلَّ عليه من هذه الأدلة التي لا يردها عاقل ولا ينكرها عقل عادوا فقالوا قولة المنكرين من الأمم قبلهم: {قالوا1 إذا متنا وكنا تراباً أءنا لمبعثون} وهو إنكار صريح منهم للعبث الآخر. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى عنهم، وهم يعلنون تكذيبهم لله تعالى ورسوله: {لقد وعدنا نحن وأباؤنا هذا من2 قبل إن هذا إلاّ أساطير الأولين} أي لقد وعد هذا آباؤنا من قبل ولم يحصل ما هذا الذي يقال إلاّ أساطير أي حكايات سطرها الأولون في كتبهم فهي تروى ويتناقلها الناس ولا حقيقة لها ولا وجود.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر لله تعالى بطاعته على نعمه ومن بينها نعمة السمع والبصر والقلب.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما تضمنت الآيات من الأدلة العديدة على ذلك.
3- سوء التقليد وآثاره في السلوك الإنساني بحيث ينكر المقلد عقله.
قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ
__________
1 قرأ الجمهور بهمزتين: الأولى. همزة الاستفهام، والثانية: همزة إذ الشرطية وكذلك مع {إنا لمبعوثون} إلاّ نافعاً وأبا عمرو فقد قرءا بهمزة واحدة اكتفاء بهمزة الاستفهام الأولى: الدالة على الشرط عن همزة الجواب. والاستفهام إنكاري.
2 من قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجملة: "إن هذه لأساطير الأولين جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لمن قال: كيف رد الأولون والآخرون على هذا القول؟(3/533)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
شرح الكلمات:
قل أفلا تذكرون: فتعلمون أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً قادر على البعث وأنه لا إله إلاّ هو.
قل أفلا تتقون: أي كيف لا تتقونه بالإيمان به وتوحيده وتصديقه في البعث والجزاء.
من بيده ملكوت كل شيء: أي ملك كل شيء يتصرف فيه كيف يشاء.
وهو يجير ولا يجار عليه: يحفظ ويحمي من يشاء ولا يُحمى عليه ويحفظ من أراده بسوء.
فأنى تسحرون: أي كيف تخدعون وتصرفون عن الحق.
بل أتيناهم بالحق: أي بما هو الحق والصدق في التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
ولعلا بعضهم على بعض: أي قهراً وسلطاناً.
عما يصفون: أي من الكذب كزعمهم أن لله ولداً وأن له شريكاً وأنه غير قادر على البعث.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقال تعالى لرسوله قل1 لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث والجزاء {لمن الأرض ومن فيها} من المخلوقات {إن كنتم تعلمون} من هي له فسموه. ولما لم يكن لهم من بُدًّ أن يقولوا {لله} أخبر تعالى أنهم سيقولون لله. إذاً قل لهم: {أفلا تذكرون2} فتعلموا أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يصلح أن يكون له شريك من عباده، وهو رب كل شيء ومليكه. وقوله: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} أي سَلْهُمْ من هو رب السموات السبع وربّ العرش العظيم. الذي أحاط بالملكوت كله، أي من هو خالق السموات السبع، ومن فيهن ومن خالق العرش العظيم ومالك ذلك كله والمتصرف فيه، ولما لم يكن من جواب سوى الله أخبر تعالى أنهم سيقولون لله أي خالقها وهي لله ملكاً وتدبيراً وتصريفاً إذا قل لهم يا رسولنا {أفلا تتقون} أي الله وأنتم تنكرون عليه قدرته في إحياء الناس بعد موتهم وتجعلون له أنداداً تعبدونها معه3، أما تخافون عقابه أما
__________
1 قل يا رسولنا جواباً لهم عما قالوه: {لمن الأرض..} الخ.
2 أي: تتعظون فتعلموا.. الخ.
3 وتجعلون لله البنات وأنتم تكرهون ذلك لأنفسكم فكيف ترضونه لربكم؟(3/534)
تخشون عذابه وقوله تعالى: {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه1} أي سلهم يا رسولنا فقل لهم من بيده ملكوت كل شيء أي ملك كل شيء وخزائنه؟ وهو يجير من يشاء أي يحمي ويحفظ من يشاء فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء ولا يجار عليه، أي ولا يستطيع أحد أن يجير أي يحمي ويحفظ عليه أحداً أراده بسوء وقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون أحداً غي الله بيده ملكوت. كل شيء ويجير ولا يجار عليه فاذكروه، ولما لم يكن لهم أن يقولوا غير الله، أخبر تعالى أنهم سيقولون الله أي2 هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهي لله خلقاً وملكاً وتصرفاً إذاً قل لهم {فأنى تسحرون؟} أي كيف تخدعون فتصرفون عن الحق فتعبدون غير الخالق الرازق، وتنكرون على الخالق إحياء الأموات وبعثهم وهو الذي أحياهم أولاً ثم أماتهم ثانياً فكيف ينكر عليه إحياءهم مرة أخرى وقوله تعالى: {بل أتيناهم بالحق} 3 أي ليس الأمر كما يتوهمون ويخيل إليهم بل أتيناهم بذكرهم الذي هو القرآن به يذكرون لأنه ذكرى وذكر، وبه يذكرون لأنه شرف لهم وإنهم لكاذبون في كل ما يدعون ويقولون. {ما4 اتخذ الله من ولد} ولا بنت، {وما كان معه من إله} ولا ينبغي ذلك، والدليل المنطقي العقلي الذي لا يرد هو أنه لو كان مع الله إله آخر لقاسمه الملك وذهب كل إله بما خلق، ولحارب بعضهم بعضاً وعلا بعضهم على بعض غلبة وقهراً وقوله تعالى: {سبحان الله} تنزيهاً لله تعالى عما يصفه به الواصفون من صفات العجز كاتخاذ الولد والشريك، والعجز عن البعث. وقوله تعالى: {عالم الغيب5 والشهادة} أي ما ظهر وما بطن، وما غاب وما حضر فلو كان معه آلهة أخرى لعرفهم وأخبر عنهم ولكن هيهات هيهات أن يكون مع الله إله آخر وهو الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء {فتعالى عما يشركون} 6
__________
1 الملكوت: من صفات المبالغة كالجبروت، والرهبوت، والمراد: ملك كل شيء، وهذا كله احتجاج على العرب لأنهم مقرّون بالله ربّا، والاستفهام فيه وفي الذي قبله: تقريري لأنهم مقرّون أن الله هو ربّ السموات وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء.
2 قرأ أبو عمرو: {سيقولون الله} في الموضعين الأخيرين، ولا خلاف في الموضع الأول لأنه سؤال بـ لمن المَلك؟ ومن قرأ في الأخيرين بلفظ: الله فلأنّ السؤال بغير اللام فجاء الجواب على لفظه. ومن أجاب بـ الله، فإنه راعى المعنى إذ رب السموات: مالكها فهي له وملكوت كل شيء لله.
3 {بل أتيناهم بالحق} : إضراب لإبطال كونهم مسحورين. أي: ليس الأمر كما يخيّل إليهم، وإنما أتيناهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون، فهذه علّة إعراضهم وعدم قبولهم لدعوة الحق، وقولهم فيه {إن هذا إلاّ أساطير الأولين} .
4 نفى عنه تعالى اتخاذ الولد كما نفى أن يكون له شريك في الألوهية بالبرهان العقلي وهو: أنه لو كان معه آلهة لاقتسموا الكون وذهب كل إله بما خلق، وقد يحارب بعضهم بعضاً ويعلو من يغلب ولم يكن من مظاهر هذا شيء البتة فثبتت النتيجة وهي المذكورة أولا: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله} .
5 هذا من جملة أدلة نفي الشريك له تعالى إذ العالم بكل شيء كيف يكون له شريك ولا يعرفه، وقرأ حفص عالِم بالجر على أنه نعت لاسم الجلالة في قوله {سبحان الله} ، وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر لمحذوف أي: هو عالم.
6 {عما يشركون} ما مصدرية، والمعنى: تعالى عن إشراكهم. أي: هو منزه عن أن يكون له شريك.(3/535)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
علواً كبيراً وتنزه تنزهاً عظيماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية توبيخ المتغافل المتجاهل وتأنيب المتعامي عن الحق وهو قادر على رؤيته.
2- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته.
3- تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد وإبطال ترهات المفترين.
4- الاستدلال العقلي ومشروعيته والعمل به لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
شرح الكلمات:
إما تريني ما يوعدون: أي إن تُريني من العذاب.
ادفع بالتي هي أحسن: أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم.
من همزات الشياطين: أي من وساوسهم التي تخطر بالقلب فتكاد تفسده.
أن يحضرون: أي في أموري حتى لا يفسدوها علي.(3/536)
جاء أحدهم الموت: أي رأى علاماته ورآه.
برزخ: أي حاجز يمنع وهو مدة الحياة الدنيا، وإن عاد بالبعث فلا عمل يقبل.
معنى الآيات:
في هذا السياق تهديد للمشركين الذين لم ينتفعوا بتلك التوجيهات التي تقدمت في الآيات قبل هذه، فأمر الله تعالى رسوله أن يدعوه ويضرع إليه إن هو أبقاه حتى يحين هلاك قومه، أن لا يهلكه معهم فقال: {قل رب إما تريني1} أي أن تريني {ما يوعدون} أي من العذاب، {رب فلا تجعلني في القوم الظالمين} أي أخرجني منهم وأبعدني عنهم حتى لا أهلك معهم. وقوله تعالى: {وإنا على أن نريك2 ما نعدهم لقادرون} يخبر تعالى رسوله بأنه قادر على إنزال العذاب الذي وعد به المشركين إذا لم يتوبوا قبل حلوله بهم.
وقوله: {ادفع بالتي3 في أحسن} هذا قبل أمره بقتالهم: أمره بأن يدفع ما يقولونه له في الكفر والتكذيب بالخُلَّة والخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم. وقوله: {نحن أعلم بما يصفون} أي من قولهم لله شريك وله ولد، وأنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا بعث ولا حياة ولا نشور يوم القيامة وقوله: {وقل رب أعوذ بك من همزات4 الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون} لما علمه الاحتراز والتحصُّن من المشركين بالصفح والإعراض أمره أن يتحصن من الشياطين بالاستعاذة بالله تعالى فأمره أن يقول {رب} أي يا رب {أعوذ5 بك} أي استجير بك من همزات الشياطين أي وساوسهم حتى لا يفتنوني عن ديني وأعوذ بك أن يحضروا أمري فيفسدوه على.
وقوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت} أي إذا حضر أحد أولئك المشركين الموت.
__________
1 أصل إما: إن ما، إن شرطية، وما: صلة لتقوية الشرط، وجواب الشرط فلا تجعلني مع القوم الظالمين، علمه ربه هذا الدعاء ليدعو به. أي: إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم وأبعدني عنهم. وفي الآية تهديد عظيم للمشركين.
2 الجملة تحمل وعيداً آخر مؤكداً للأول الذي تضمنته جملة {ربّ إما تريني ما يوعدون} .
3 هذا بالنسبة إلى الأمة فهو محكم باق، وهو الصفح وعدم المؤاخذة فيما بينهم وأمّا بالنسبة للمشركين والكافرين، فهو موادعة لهم لا غير إلى أن يؤمر بقتالهم، وقد أمر به فيما بعد.
4 جمع همزة، والهمزة في اللغة النخس والدفع، يقال: همزه ونخسه ودفعه، قال الليث: الهمز: كلام من وراء القفا، واللمز: مواجهة والشيطان يوسوس بوساوسه في صدر ابن آدم، الهمس لغة: الكلام الخفي يقال: همس في أذنه بكذا: أسرّ به إليه.
5 هذا التعوذ، وإن خوطب به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو لأمته معه معه بل هي أحوج منه إليه، وهمزات الشيطان: هي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان بها نفسه وقد شكا خالد بن الوليد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كان يؤرق من الليل فأمره أن يقول: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون".(3/537)
أي رأى ملك الموت وأعوانه وقد حضروا لقبض روحه {قال رب ارجعون1} أي أخروا موتي كي أعمل صالحاً فيما تركت العمل فيه بالصلاح، وفيما ضيعت من واجبات قال تعالى رداً عليه {كلا} 2 أي لا رجوع أبداً، {إنها كلمة هو قائلها} لا فائدة منها ولا نفع فيها، {ومن ورائهم برزخ} أي حاجز مانع من العودة إلى الحياة وهو أيام الدنيا كلها حتى إذا انقضت عادوا إلى الحياة، ولكن ليست حياة عمل وإصلاح ولكنها حياة حساب وجزاء هذا معنى قوله: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} 3.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الدعاء والترغيب فيه وإنه لذو جدوى للمؤمن.
2- استحباب دفع السيء من القول أو الفعل بالصفح والإعراض عن صاحبه.
3- مشروعية الاستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا يفسدوه عليه بالخواطر السيئة.
4- موعظة المؤمن بحال من يتمنى العمل الصالح عند الموت فلا يُمكن منه فيموت بندمه وحسرته ويلقى جزاء تفريطه حرماناً وخسراناً في الدار الآخرة.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
__________
1 {ربّ ارجعون} هذا تمنّ للحياة الدنيا بعد ذهابها، وهيهات هيهات أن تعود!! وقوله: {ارجعون} : خاطب الربّ تعالى بضمير التعظيم وتعظيم المخاطب شائع في كلام العرب.
2 كلا: ردع للسامع ليعلم يقينا إبطال ما يطلبه الكافر من الرجوع.
3 البرزخ: هو ما بين الدنيا والآخرة إذ كل ما حجز بين شيئين قيل فيه: برزخ.(3/538)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
شرح الكلمات:
في الصور: أي في القرن المعبر عنه بالبوق نفخة القيام من القبور للحساب والجزاء.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
تلفح وجوههم النار: أي تحرقها.
وهم فيها كالحون: الكالح من أحرقت النار جلدة وجهه وشفتيه فظهرت أسنانه.
ألم تكن آياتي تتلى عليكم: أي يوبخون ويذكرون بالماضي ليحصل لهم الندم والمراد بالآيات آيات القرآن.
غلبت علينا شقوتنا: أي الشقاوة الأزلية أي تكتب على العبد في كتاب المقادير قبل وجوده.
أخرجنا منها فإن عدنا: أي من النار فإن عدنا إلى الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والدعوة إلى ذلك وعرض الأدلة وتبيينها وتنويعها، إذ لا يمكن استقامة إنسان قي تفكيره وخلقه وسلوكه على مناهج الحق والخبر إلاّ إذا آمن إيماناً راسخاً بوجود الله تعالى ووجوب طاعته وتوحيده في عباداته، وبالواسطة في ذلك وهو الوحي والنبي الموحي إليه، وبالبعث الآخر الذي هو دور الحصاد لما زرع الإنسان في هذه الحياة من خير وشر فقوله تعالى: {فإذا نفخ1 في الصور فلا أنساب2 بينهم يومئذ ولا يتساءلون} هذا عرض لما يجرى في الآخرة فيخبر تعالى أنه إذا نفخ إسرافيل بإذن الله في الصور الذي هو القرن أي كقرن الشاة لقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك
__________
1 هذه النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، والحشر والتي قبلها هي نفخة الفناء، والتي بعد نفخة الصعق، والأخيرة نفخة الحساب والجزاء.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا: من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم!!(3/539)
يومئذ يوم عسير} فلشدة الهول وعظيم الفزع لم يبق نسب1 يراعى أو يلتفت إليه بل كل واحد همه نفسه فقط، ولا يسأل حميم حميماً وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: هل تذكرون أهليكم يا رسول الله يوم القيامة فقال أما عند ثلاثة فلا: إذا تطايرت الصحف، وإذا وضع الميزان وإذا نصب الصراط ومعنى هذا الحديث واضح والشاهد منه ظاهر وهو أنهم لا يتساءلون.
وقوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} أي من رجحت كفة حسناته على كفة سيئآته أفلح أي نجا من النار وأدخل الجنة ومَن خفت موازينه بأن حصل العكس فقد خسر وَأبعد عن الجنة وأدخل النار وهذا معنى قوله تعالى {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح2 وجوههم النار وهم فيها كالحون3} أي تحرق وجوههم النار فيكلحون باحتراق شفاههم وتظهر أسنانهم وهو أبشع منظر وأسوأه وقوله تعالى: {ألم تكن4 آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون؟} هذا يقال لهم تأنيباً وتوبيخاً وهم في جهنم وهو عذاب نفساني مع العذاب الجثماني {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} أما كان رسلنا يتلون عليكم آياتنا {فكنتم بها تكذبون} بأقوالكم وأعمالكم أو بأعمالكم دون أقوالكم فلم تحرموا ما حرم الله ولم تؤدوا ما أوجب الله، ولم تنتهوا عما نهاكم عنه. وقوله تعالى: {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا5} هذا جوابهم كالمعتذرين بأن شقاءهم كان بقضاء وقدر فلذا حيل بينهم وبين الإيمان والعمل الصالح. وقوله تعالى: {وكنا قوماً ضالين} هذا قولهم أيضاً وهو اعتراف صريح بأنهم كانوا ضالين. ثم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} هذا دعاؤهم وهم في جهنم يسْألون رجهم أن يردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويستقيموا6 على صراط الله المستقيم الذي هو الإسلام وسوف ينتظرون جواب الله تعالى ألف سنة وهو ما تضمنته الآيات التالية
__________
1 ورد ما يخصص هذا العموم وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي" رواه الطبراني فإنه إن صح يكون مخصصا لعموم الآية. والله أعلم.
2 {تلفح} وتنفح بمعنى واحد لقوله تعالى: {ولإن مستهم نفحة من عذاب ربك} إلاّ أن تلفح أبلغ من تنفح وأشد.
3 الكلوح: تكشر في عبوس، والكالح الذي تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه قال ابن مسعود: أرأيت الرأس المشتط بالنار وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
4 الاستفهام للتقريع والتأنيب، والتذكير بما يزيد في حسرتهم وعظيم محنتهم وبلائهم.
5 قرأ ابن مسعود وبها قرأ الكوفيون إلاّ حفصاً شقاوتنا وقرأ الجمهور شقوتنا.
6 وما يستقيمون لو ردوا لعلم الله تعالى بهم إذ قال عز وجل: {ولو ردوا لعادوا لما نُهوا عنه، وإنهم لكاذبون} .(3/540)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات.
2- تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة.
3- تقرير أن إسرافيل ينفخ في الصور وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصور كما فعل المراغي عند تفسيره هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها المؤمنون.
4- الاعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه والعبد مأمور فليؤتمر بأمر الله ورسوله ولينته بنهيهما ما دام العبد قادراً على ذلك فإن عجز فهو معذور.
قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
شرح الكلمات:
إخسأوا: أي أبعدوا في النار أذلاء مخزيين.
فريق من عبادي: هم المؤمنون المتقون.
فاتخذتموهم سخرياً: أي جعلتموهم محط سخريتكم واستهزائكم.
بما صبروا: أي على الإيمان والتقوى.
هم الفائزون: أي الناجون من النار المنعمون في الجنة.(3/541)
معنى الآيات:
قوله تعالى: {قال اخسأوا فيها ولا تكلمون1} هذا جواب سؤالهم المتقدم حيث قالوا: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون2} وعلل تعالى لحكمه فيهم بالإبعاد في جهنم أذلاء مخزيين يقوله: {إنه كان فريق من عبادي} وهو فريق المؤمنين المتقين3 يقولون {ربنا آمنا فاغفر لنا} ذنوبنا {وارحمنا وأنت خير الراحمين} أي يعبدوننا ويتقربون إلينا ويتوسلون بإيمانهم وصالح إعمالهم ويسألوننا المغفرة والرحمة وكنتم أنتم تضحكون من عبادتهم ودعائهم وضراعتهم إلينا وتسخرون منهم4 إني جزيتهم اليوم بصبرهم على طاعتنا مع ما يلاقون منكم من اضطهاد وسخرية. {أنهم5 هم الفائزون} برضواني في جناتي لا غيرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مدى حسرة أهل النار لما يجابون بكلمة: {اخسأوا فيها ولا تكلمون} .
3- فضيلة التضرع إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال.
3- حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه.
4- فضيلة الصبر ولذا ورد أن منزلة الصبر هن الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد.
__________
1 أي: ابعدوا في جهنم كما يقال لكلب: اخسأ أي: أبعد، يقال: خسأ الكلب وأخساه لازم ومتعدّ. يروي عن ابن المبارك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثمّ يرد عليهم {إنكم ماكثون} والصحيح أنه يجيبهم بعد ألف سنة، وعندها ينقطع رجاؤهم ودعاؤهم ويقبل بعضهم على بعض فيتنابحون كالكلاب وقد أطبقت عليهم النار.
2 الظلم: وضح الشي في غير موضعه وعابد غير الله تعالى واضع العبادة في غير موضعها فلذا هو ظالم. والشرك: ظلم عظيم.
3 كبلال وصهيب وعمّار وخباب من فقراء المسلمين الذين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم ويسخرون منهم.
4 في الآية دليل على حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به.
5 قرىء بفتح الهمزة أي: لأنهم هم الفائزون وقرىء بكسرها على الابتداء.(3/542)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
شرح الكلمات:
كم لبثتم في الأرض: أي كم سنة لبثتموها في الأرض أحياءً وأمواتاً في قبوركم؟.
فاسأل العادين: يريدون الملائكة التي كانت تعد، وهم الكرام الكاتبون أو من يعد أما نحن فلم نعرف.
خلقتم عبثاً: أي لا لحكمة بل لمجرد العيش واللعب كلا.
فتعالى الله الملك الحق: أي تنزه الله عن العبث.
لا برهان له: الجملة صفة لـ "إلهاً آخر" لا مفهوم لها إذ لا يوجد برهان ولا حجة على صحة عبادة غير الله تعالى إذ الخلق كله مربوب لله مملوك له.
حسابه عند ربه: أي مجازاته عند ربه هو الذي يجازيه بشركه به ودعاء غيره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم ومع أهل النار المنكرين للبعث والتوحيد بقوله تعالى: {قال كم(3/543)
لبثتم في الأرض عدد سنين؟} هذا سؤال طرح عليهم أي سألهم ربهم وهو أعلم بلبثهم كم لبثتم من سنة في الدنيا مدة حياتكم فيها ومدة لبثكم أمواتاً في قبوركم؟ فأجابوا قائلين {لبثنا يوماً أو بعض1 يوم فاسأل2 العادين} أي من كان يعد من الملائكة أو من غيرهم، وهذا الاضطراب منهم عائد إلى نكرانهم للبعث وكفرهم في الدنيا به أولاً وثانياً أهوال الموقف وصعوبة الحال وآلام العذاب جعلتهم لا يعرفون أما أهل الإيمان فقد جاء في سورة الروم أنهم يجيبون إجابة صحيحة إذ قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} . وقوله تعالى: {إن لبثتم إلاّ قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون3} هذا بالنظر إلى ما تقدم من عمر الدنيا، فمدة حياتهم وموتهم إلى بعثهم ما هي إلاّ قليل وقوله تعالى: {أفحسبتم4 أنما خلقناكم5 عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} ، هذا منه تعالى توبيخ لهم وتأنيب على إنكارهم للبعث أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم لم يحلقوا للعبادة وإنما خلقوا للأكل والشرب والنكاح كما هم ظن كل الكافرين وأنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجزون بأعمالهم. وقوله تعالى: {فتعالى6 الله الملك الحق} أي عن العبث وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وقوله: {لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم} أي لا معبود بحق إلاّ هو {رب العرش الكريم} أي مالك العرش الكريم ووصف العرش بالكرم سائغ كوصفه بالعظيم والعرش سرير الملك وهو كريم لما فيه من الخير وعظيم إذ هو أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض، ولم لا يكون العرش كريماً وعظيماً ومالكه جل جلاله هو مصدر كل كرم وخير وعظمة.
__________
1 هذا السؤال موجه للمشركين في عرصات القيامة، والسؤال عن ليثهم في قبورهم وجائز أن يكون عن مدة حياتهم في الدنيا.
2 قيل: أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في قبورهم، وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده.
3 هذا بالنظر إلى الدار الآخرة لا يعتبر شيئاً يذكر.
4 روي بضعف أن ابن مسعود مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه: {أفحسبتم} الآية إلى {رحيم} فبرأ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ماذا قرأت في أذنه؟ فأخبره فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقنا قرأها على جبل لزال".
5 أي: مهملين كما خلق البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها كقوله تعالى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} .
6 {فتعالى الله} : أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئاً عبثاً أو سفهاً.(3/544)
وقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له} أي ومن يعبد مع الله إلهاً آخر بالدعاء أو الخوف أو الرجاء أو النذر والذبح، وقوله: لا برهان له أي لا حجة له ولا سلطان على جواز عبادة ما عبده، ومن أين يكون له الحجة والبرهان على عبادة غير الله والله رب كل شيء ومليكه وقوله تعالى: {فإنما حسابه عند ربه} أي الله تعالى ربه يتولى حسابه ويجزيه بحسب عمله وسيخسر خسراناً مبيناً لأنه كافر والكافرون لا يفلحون أبداً فلا نجاة من النار ولا دخول للجنة بل حسبهم جهنم وبئس المهاد. وقوله تعالى: {وقل رب اغفر وارحم1} أي أمر الله تعالى رسوله أن يدعو بهذا الدعاء: رب اغفر لي وارحمني واغفر لسائر المؤمنين وارحمهم أجمعين أنت خير الغافرين والراحمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم هول يوم القيامة وشدة الفزع فيه فليتق ذلك بالإيمان وصالح الأعمال.
2- تنزه الله تعالى عن العبث واللهو واللعب.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- كفر وشرك من يدعو مع الله إلهاً آخر.
5- الحكم بخسران الكافرين وعدم فلاحهم.
6- استحباب الدعاء بالمغفرة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات.
__________
1 نظرت إلى حذف المفعول في: اغفر وارحم فانقدح في نفسي أن لجذفه سراً وهو: أن يكون عاماً في المؤمنين والمؤمنات لقوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} .(3/545)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
سورة النور1
مدنية
وآياتها أربع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
شرح الكلمات:
سورة أنزلناها: أي هذه سورة أنزلناها.
وفرضناها: أي فرضنا ما فيها من أحكام.
وأنزلنا فيها آيات بينات: أي وأنزلنا ضمنها آيات أي حججاً واضحات تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
لعلكم تذكرون: أي تتعظون فتعملون بما في السورة من أحكام.
الزانية: من أفضت إلى رجل بغير نكاح شرعي وهي غير محصنة.
مائة جلدة: أي ضربة على جلد ظهره.
رأفة: شفقة ورحمة.
وليشهد عذابهما: أي اقامة الحد عليهما.
__________
1 روي أن عمر رضي الله عنه: كتب يوماً إلى أهل الكوفة. علّموا نساءكم سورة النور. كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور، والغزل.(3/546)
طائفة: أي عدد لا يقل عن ثلاثة أنفار من المسلمين والأربعة أولى من الثلاثة.
الزاني لا ينكح إلا زانية: أي إلا زانية مثله أو مشركة أي لا يقع وطء إلاَّ على مثله1.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {سورة أنزلناها} أي هذه سورة من كتاب الله أنزلناها أي على عبدنا ورسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وفرضناها} أي وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام، وقوله: {لعلكم تذكرون} أي تتعظون فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه وآداب وأخلاق وقوله تعالى: {الزانية2 والزاني فاجلدوا كل3 واحد منهما مائة جلدة} أي من زنت برجل منكم أيها المسلمون وهما بكران حُرَّان غير محصنين ولا مملوكين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بعصا لا تشين جارحة ولا تكسر عضواً أي جلداً غير مبرح، وزادت السنة تغريب سنة، وقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} ، أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حَدَّ الله تعالى وتحرموهما من التطهير بهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها، وقوله: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} أي فأقيموا عليهما الحد وقوله: {وليشهد عذابهما} أي إقامة الحد {طائفة من المؤمنين} أي ثلاثة أنفار فأكثر وأربعة أولى لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهداء وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل.
وقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} أي لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها، والزانية أيضاً لا يطأها إلا زانٍ مثلها أو مشرك {وحرم ذلك على المؤمنين} أي حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات ولازم هذا أن لا نزوج زانياً من عفيفة إلا بعد توبته4، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها5.
__________
1 أي: إلا مثل الواطىء يريد الزاني بالزانية والمشرك بالمشركة.
2 قرأ الجمهور برفع الزانية وقرأ: عيسى الثقفي بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه نحو: زيداً أضربه، وتقدير الرفع: مما يتلى عليكم الزانية والزاني. على تقديم الخبر، وقدمت الزانية لأنّ الزنى في النساء أعر وأقبح وأضر للحمل، وال: في الزانية والزاني: للجنس ليعم سائر الزناة، على مرور الأعصر والأيام.
3 لا خلاف في أن الذي يقوم بإقامة هذا الحد هو الإمام أو نائبه والسادة في العبيد، وأن السوط يكون بين اللين والشدة وسطا بينهما، ولا يتعدى هذا الحد إلا أن يجرؤ الناس على الجرائم ويكثر الشر والفساد فيعزرون بما يردعهم.
4 قيل: إن هذه الآية منسوخة بآية: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإماتكم} وما في التفسير أولى وأظهر وبه العمل.
5 الجمهور على أن من زنى بامرأة يجوز له أن يتزوجها بعد استبرائها بحيضة وإذا زنت امرأة الرجل أو زنى هو لا يفسد نكاحهما.(3/547)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الزانية والزاني البكرين الحرين وهو جلد مائة وتغريب عام وأما الثيبان فالرحم إن كانا حرين أو جلد خمسين1 جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين.
2- وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين.
3- لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
شرح الكلمات:
يرمون: أي يقذفون.
المحصنات: أي العفيفات والرجال هنا كالنساء.
فاجلدوهم: أي حداً عليهم واجباً.
ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً: لسقوط عدالتهم بالقذف للمؤمنين والمؤمنات.
إلا الذين تابوا: فإنهم بعد توبتهم يعود إليهم اعتبارهم وتصح شهادتهم.
معنى الآيتين:
بعد بيان حكم الزناة بين تعالى حكم القذف فقال: {والذين يرمون المحصنات2} أي والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا واللواط بأن يقول فلان زان أو لائط
__________
1 لقوله تعالى من سورة النساء {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} والمراد به: الإماء والعبيد مثلهن، ولما كان الموت لا ينصّف فعلم أنه الجلد خمسين جلدة.
2 قيل: خص النساء بهذا وإن كان الرجال يشاركونهن في الحكم لأنّ القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ومن حيث هو هوى الرجال.(3/548)
فيقذفه بهذه الكلمة1 الخبيثة فإن عليه أن يحضر شهوداً أربعة يشهدون أمام الحاكم على صحة ما رمى به أخاه المؤمن فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور في الآية: وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره وتسقط عدالته حتى يتوب وهو معنى قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} أي عن طاعة الله ورسوله {إلا الذين تابوا هن بعد ذلك وأصلحوا} بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة وقوله: {فإن الله غفور} فيغفر لهم بعد التوبة {رحيم} بهم يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعدما تابوا منه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حد القذف وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمناً أو مؤمنة بالفاحشة وكان المقذوف بالغاً عاقلاً مسلماً2 عفيفاً أي لم يعرف بالفاحشة قبل رميه بها3.
2- سقوط عدالة القاذف إلا أن يتوب فإنه تعود إليه عدالته.
3- قبول توبة4 التائب إن كانت توبته صادقة نصوحا.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
__________
1 اختلف في التعريض هل يوجب الحد أو لا؟ فمالك يرى إيجابه إذا حصلت المعرة بالتعريض وإلا فلا وأخذ التعريض من آية: {إنك لأنت الحليم الرشيد} قاله قوم شعيب لنبيهم شعيب عليه السلام تعريضاً به لاً مدحاً له ومن أمثلة التعريض قول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
شبهه بالنساء.
وقال آخر:
قبيلة لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبّة خردل
اتهم القبيلة بالضعف وهو من أحوال النساء.
2 للقذف شروط تسعة: العقل والبلوغ وهما للقاذف والمقذوف سواء إذ هما شرط التكليف، وشرطان في الشيء المقذوف به وهما أن يكون القذف بوطىء يوجب الحد وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه وخمسة في المقذوف وهي: العقل والبلوغ كما تقدّم والإسلام والحرية والعفة.
3 الجمهور على أنه لا حد على من قذف كتابياً ذكراً أو أنثى والإجماع على عدم إقامة الحد على من قذف كافراً لأنه لا يُحَرمُ الزنى فكيف يحد على من قذف به؟.
4 إن شهد أربعة وأقيم الحد على المقذوف ثم أقرّ أحد الشهود بأنه كان كاذباً فإن لأولياء الدم بين قتله وبين العفو عنه وبين أخذ ربع الدية منه. هذا مذهب مالك وبه قال أحمد رحمهما الله تعالى.(3/549)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ1 لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
شرح الكلمات:
يرمون أزواجهم: أي يقذفونهن بالزنا كأن يقول زنت أو الحمل الذي في بطنها ليس منه.
إنه لمن الصادقين: أي فيما رماها به من الزنى.
والخامسة: أي والشهادة الخامسة.
ويدرأ عنها العذاب: أي يدفع عنها حد القذف وهو هنا الرجم حتى الموت.
أن تشهد أربع شهادات: أي شهادتها أربع شهادات.
والخامسة: هي قولها غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ولولا فضل الله عليكم: أي لفضح القاذف أو المقذوف ببيان كذب أحدهما.
معنى الآيات:
بعد بيان حكم حد القذف2 العام ذكر تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل زوجته فقال تعالى: {والذين يرمون3 أزواجهم} أي بالفاحشة {ولم يكن لهم شهداء4} أي من يشهد معهم إلا أنفسهم أي إلا القاذف وحده فالذي يقوم مقام الأربعة شهود هو أن يشهد أربع5 شهادات قائلاً: أشهد6 بالله لقد رأيتها تزني أو زنت أو هذا الولد أو الحمل ليس لي ويلتعن فيقول في الخامسة {لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} أي فيما رمى به زوجته. وهنا يعرض على الزوجة أن تقر بما رماها به زوجها ويقام عليها حد القذف وهو هنا الرجم، أو تشهد أربع شهادات بالله أنها ما زنت، والخامسة تدعو على نفسها بغضب الله
__________
1 قرأ الجمهور بتشديد {أنّ لعنة الله عليه} {وأنّ غضب الله عليها} بلفظ المصدر في {أن غضب الله} وتقدر باء الجر قبل أن لأنها هي التي اقتضت فتح أنّ، وقرأ نافع بتخفيف نون أن في الموضعين وغضب بصيغة الماضي.
2 ويعرف باللعان: لأن كلا من الزوجين يلعن نفسه إن كان كذباً.
3 نزلت هذه الآيات في قضية عويمر العجلاني مع زوجته خولة بنت عاصم أو قيس. فقد جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" فاذهب فأت بها فأتى بها وتلاعنا وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك.
4 حذف متعلق شهداء لظهوره من السياق أي: شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
5 قامت الأربع شهادات مقام أربعة شهود الذين لابد منهم في القذف بالفاحشة خاصة فشهادة القتل والسرقة وغيرها يكتفى بشاهدين وفي القذف لابد من أربعة شهود.
6 سميت الأيمان هنا شهادة لأنها أقيمت مقام الشهود وأصبحت بدلاً عنها.(3/550)
فتقول {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} فيما رماها به، وبذلك درأت عنها العذاب الذي هو الحد ويفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً. وقوله تعالى: {ولولا فضل الله1 عليكم ورحمته} جواب لولا محذوف تقديره لعاجلكم بالعقوبة ولفضح أحد الكاذبين: ولكن الله تواب رحيم فستر عليكم ليتوب من يتوب منكم ورحمكم بهذا التشريع العادل الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم قذف الرجل امرأته ولم يكن له أربعة شهود يشهدون معه على ما رمى به زوجته وهو اللعان.
2- بيان كيفية اللعان، وأنه موجب لإقامة الحد، إن لم ترد الزوجة الدعوى بأربع شهادات والدعاء عليها في الخامسة وقولها {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} .
3- في مشروعية اللعان مظهر من مظاهر حسن التشريع الإسلامي وكماله وأن مثله لن يكون إلا بوحي إلهي وفيه إشارة إلى تقرير النبوة المحمدية.
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
__________
1 هذا تذييل لما مرّ من الأحكام العظيمة الدالة على تفضل الله على عباده المؤمنين بأفضل تشريع وأحسن حل لأخطر مشكلة اجتماعية.(3/551)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
شرح الكلمات:
بالإفك عصبة: الإفك الكذب المقلوب وهو أسوأ الكذب، والعصبة الجماعة.
شراً لكم بل هو خير: الشر ما غلب ضرره على نفعه، والخير ما غلب نفعه على ضرره،.
لكم: والشر المحض النار يوم القيامة والخير المحض الجنة دار الأبرار.
والذي تولى كبره: أي معظمه وهو ابن أبي كبير المنافقين.
لولا: أداة تحضيض وحث بمعنى هلاّ.
فيما أفضتم فيه: أي فيما تحدثتم بتوسع وعدم تحفظ.
إذ تلقونه: أي تتلقونه أي يتلقاه بعضكم من بعض.
وتحسبونه هيناً: أي من صغائر الذنوب وهو عند الله من كبائرها لأنه عرض مؤمنة هي زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سبحانك: كلمة تقال عند التعجب والمراد بها تنزيه الله تعالى عما لا يليق به.
بهتان عظيم: البهتان الكذب الذي يحيّر من قيل فيه.
يعظكم الله: أي ينهاكم نهياً مقروناً بالوعيد حتى لا تعودوا لمثله أبداً.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى حكم القذف العام والخاص ذكر حادثة الإفك التي هلك فيها خلق لا يحصون عداً إذ طائفة الشيعة الروافض ما زالوا يهلكون فيها جيلاً بعد جيل إلى اليوم إذ وَرَّثَ فيهم رؤوساء الفتنة الذين اقتطعوا من الإسلام وأمته جزءاً كبيراً أسمو شيعة آل البيت تضليلاً وتغريراً فأخرجوهم من الإسلام باسم الإسلام وأوردهم النار باسم(3/552)
الخوف من النار فكذبوا الله ورسوله وسبوا زوج رسول الله واتهموها بالفاحشة وأهانوا أباها ولوثوا شرف زوجها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنسبة زوجه إلى الفاحشة.
وخلاصة الحادثة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن فرض الحجاب على النساء المؤمنات خرج إلى غزوة تدعى غزوة بني المصطلق أو المريسيع، ولما كان عائداً منها وقارب المدينة النبوية نزل ليلاً وارتحل، ولما كان الرجال يرحلون النساء على الهوادج وجدوا هودج عائشة رضي الله عنها فظنوها فيه فوضعوه على البعير وساقوه ضمن الجيش ظانين أن عائشة فيه، وما هي فيه، لأنها ذكرت عقداً لها قد سقط منها في مكان تبرزت فيه فعادت تلتمس عقدها فوجدت الجيش قد رحل فجلست في مكانها لعلهم إذا افتقدوها رجعوا إليها ومازالت جالسة تنظر حتى جاء صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنه وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عينه في الساقة وهم جماعة يمشون وراء الجيش بعيداً عنه حتى إذا تأخر شخص أو ترك متاع أوضاع شيء يأخذونه ويصلون به إلى المعسكر فنظر فرآها من بعيد فأخذ يسترجع أي يقول إنا لله وإنا إليه راجعون آسفاً لتخلف عائشة عن الركب قالت رضي الله عنها فتجلببت بثيابي وغطيت وجهي وجاء فأناخ راحلته فركبتها وقادها بي حتى انتهينا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المعسكر، وما إن رآني ابن أبي لعنة الله عليه حتى قال والله ما نجت منه ولا نجا منها، وروج للفتنة فاستجاب له ثلاثة أنفار فرددوا ما قال وهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، {والذي تولى كبره} هو ابن أبي المنافق وتورط آخرون ولكن هؤلاء الأربعة هم الذين أشاعوا وراجت الفتنة في المدينة واضطربت لها نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفوس أصحابه وآل بيته فأنزل الله هذه الآيات في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبراءة صفوان رضي الله عنه، ومن خلال شرح الآيات تتضح جوانب القصة.
قال تعالى: {إن الذين1 جاءوا بالإفك عصبة منكم2} أي إن الذين جاءوا بهذا الكذب المقلوب إذ المفروض أن يكون الطهر والعفاف لكل من أم المؤمنين وصفوان بدل الرمي بالفاحشة القبيحة فقلبوا القضية فلذا كان كذبهم إفكاً وقوله: {عصبة} أي جماعة لا يقل عادة عددهم على عشرة أنفار إلا أن الذين روجوا الفتنة وتورطوا فيها حقيقة وأقيم عليهم الحد أربعة ابن أبي وهو الذي تولى كبره منهم وتوعده الله بالعذاب العظيم لأنه منافق كافر
__________
1 هذا كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً، والإفك: الكذب الخال. الذي لا شبهة فيه يفاجأ به المرء فيبهته فيصير بهتاناً وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو القلب ومن صوره أن يقال في الصادق كاذب والطاهر خبيث ونحو ذلك.
2 عصبة: خبر إنّ، والعصبة: الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.(3/553)
مات على كفره ونفاقه، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها وحسان بن ثابت رضي الله عنه، وقوله تعالى: {لا تحسبوه شراً لكم} لما نالكم من هم وغم وكرب من جرائه {بل هو خير لكم} لما كان له من العاقبة الحسنة وما نالكم من الأجر العظيم من أجل عظم المصاب وشدة الفتنة وقوله تعالى: {لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم} على قدر ما قال وروج وسيجزي به إن لم يتب الله تعالى عليه ويعفو عنه. وقوله: {والذي تولى كبره1 منهم له عذاب عظيم} وهو عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عليه لعنة الله.
وقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه2 ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين} هذا شروع في عتاب القوم وتأديبهم وتعليم المسلمين وتربيتهم فقال عز وجل: {لولا} أي هلا وهي للحض والحث على فعل الشيء إذ سمعتم قول الإفك ظننتم بأنفسكم خيراً إذ المؤمنون والمؤمنات كنفس واحدة، وقلتم لن يكون هذا وإنما هو إفك مبين أي ظاهر لا يقبل ولا يقر عليه هكذا كان الواجب عليكم ولكنكم ما فعلتم.
وقوله تعالى: {لولا جاءوا3 عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} أي كان المفروض فيكم أيها المؤمنون أنكم تقولون هذا لمن جاء بالإفك فإنهم لا يأتون بشاهد فضلاً عن أربعة وبذلك تسجلون عليهم لعنة الكذب في حكم الله. وقوله تعالى: {ولولا فضل4 الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم5 فيه عذاب عظيم} هذه منة من الله تحمل أيضاً عتاباً واضحاً إذ بولوغكم في عرض أم المؤمنين، وما كان لكم أن تفعلوا ذلك قد استوجبتم العذاب لولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم العذاب العظيم. وقوله: {إذ تلقونه بألسنتكم} أي يتلقاه بعضكم من بعض، {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} وهذا عتاب وتأديب. وقوله: {وتحسبونه هينا} أي ليس بذنب كبير ولا تبعة فيه {وهو عند الله عظيم} ، وكيف وهو يمس عرض رسول الله وعائشة والصديق وآل البيت أجمعين.
__________
1 الكِير: بكسر الكاف قراءة الجمهور ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، وقرىء كُبره بضم الكاف.
2 كلام مستأنف مسوق لتوبيخ العصبة وفيه تربية للمسلمين وإرشاد لهم لما ينبغي أن يكونوا عليه من الآداب.
3 لولا: هذه مثل سابقتها حرف تحريض.
4 لولا هذه حرف امتناع لوجود، امتنع مس العذاب لوجود فضل الله ورحمته.
5 الإفاضة في القول: التوسع فيه مشتقة من إفاضة الماء على العضو.(3/554)
وقوله تعالى: {ولولا إذ سمعتموه1 قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} إذ هذه مما لا يصح لمؤمن أن يقول فيه لخطره وعظم شأنه. وقلتم متعجبين من مثله كيف يقع {سبحانك} أي يا رب {هذا} أي الإفك {بهتان عظيم} بهتوا به أم المؤمنين وصفوان.
وقولي: {يعظكم2 الله} أي ينهاكم الله مخوفاً لكم بذكر العقوبة الشديدة {أن تعودوا لمثله أبداً} أي طول الحياة فإياكم إياكم إن كنتم مؤمنين حقاً وصدقاً فلا تعودوا لمثله أبداً. وقوله: {ويبين الله لكم الآيات} التي تحمل الهدى والنور لترشدوا وتكملوا والله عليم بخلقه وأعمالهم وأحوالهم حكيم فيما يشرع لهم من أمر ونهي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قضاء الله تعالى للمؤمن كله خير له.
2- بشاعة الإفك وعظيم جرمه.
3- العقوبة على قدر الجرم كبراً وصغراً قلة وكثرة.
4- واجب المؤمن أن لا يصدق من يرمي مؤمناً بفاحشة، وأن يقول له هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء على قولك فإن قال لا قال له إذاً أنت عند الله من الكاذبين.
5- حرمة القول بدون علم والخوض في ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ
__________
1 لولا هنا بمعنى: هلا وهي للتوبيخ.
2 قال مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ومن سبّ عائشة كفر لأن عائشة برأها الله تعالى فمن سبهّا بغير الفاحشة أدّب ومن سبّها بالفاحشة كفر لأنه كذّب الله تعالى.(3/555)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)
شرح الكلمات:
أن تشيع الفاحشة: أي تعم المجتمع وتنتشر فيه والفاحشة هي الزنا.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته: جواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة أيها العصبة.
خطوات الشيطان: نزغاته ووساوسه.
ما زكى منكم من أحد أبداً: أي ما طهر ظاهره وباطنه وهي خلو النفس من دنس الإثم.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم: أي ولا يحلف صاحب الفضل منكم وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
والسعة: أي سعة الرزق والفضل والإحسان إلى الغير.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عتاب المؤمنين الذين خاضوا في الإفك فقوله تعالى: {إن الذين يحبون1 أن تشيع الفاحشة} أي تنتشر وتشتهر {في الذين آمنوا} أي في المؤمنين {لهم عذاب أليم في الدنيا} بإقامة حد القذف عليهم وإسقاط عدالتهم وفي الآخرة إن لم يتوبوا بإدخالهم نار جهنم، وكفى بهذا الوعد زاجراً ورادعاً وقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي ما يترتب على حب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين من الآثار السيئة فلذا توعد من يحبها بالعذاب الأليم في الدارين، وأوجب رد الأمور إليه تعالى وعدم الاعتراض على ما يشرع وذلك
__________
1 روي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أ "يما رجل شد عضد امرىء من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع، وأيما رجل قال شفاعة دون حد من حدود الله أن يقام فقد عائد الله وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء أن يشقيه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقه من كتاب الله: {إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة} الآية.(3/556)
لعلمه المحيط بكل شيء وجهلنا لكل شيء إلا ما علمناه فأزال به جهلنا وقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} لهلكتم1 بجهلكم وسوء عملكم. ولكن لما أحاطكم الله به من فضل لم تستوجبوه إلا برأفته بكم ورحمته لكم عفا عنكم ولم يعاقبكم.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا2 خطوات الشيطان} أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه عدوكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي وسيء الأقوال والأعمال فإن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطاناً يأمر بالفحشاء والمنكر، ففاصلوا هذا العدو، واتركوا الجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط فاحذروا وسواسه وقاوموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجكم منه إلا هو سبحانه وتعالى وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً} وهذه منة أخرى وهي أنه لولا فضل3 الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان ليطهر منهم أحد، وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم، فعلى الذين شعروا بكمالهم؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه عصبة الإفك من الإثم أن يستغفروا لإخوانهم وأن يقللوا من لومهم وعتابهم، فإنه لولا فضله عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع فيه اخوانهم، فليحمدوا الله الذي نجاهم وليتطامنوا تواضعاً الله وشكراً له. وقوله: {ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} أي فمن شاء الله تزكيته زكاه وعليه فليلجأ إليه وليطلب التزكية منه، وهو تعالى يزكي من كان أهلاً للتزكية، ومن لا فلا، لأنه السميع لأقوال عباده والعليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وهي حال تقتضي التضرع إليه والتذلل وقوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل4 منكم والسعة5 أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا} هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق لما منع مسطح بن أثاثة
__________
1 {لهلكتم} هو جواب لولا المحذوف والسر في حذفه أن تذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام والسياق.
2 في الآية إشارة أفصح من عبارة وهي: أنّ الظنون السيئة وحب الفاحشة وحب إشاعتها بين المؤمنين كل هذا من وساوس الشيطان وتزيينه للناس للفتنة والإفساد.
3 لولا هنا: حرف امتناع لوجود امتنع عدم التزكية لوجود فضل الله تعالى ورحمته، والجملة سيقت للامتنان على المؤمنين ليشكروا.
4 روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: {إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} العشر آيات، قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة فأنزل الله تعالى {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} إلى قوله {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبداً. قال ابن المبارك. هذه أرجى آية في كتاب الله.
5 الفضل: الزيادة وهي ضد النقص. والسعة: الغنى والائتلاء: الحلف مأخوذ من الألية التي هي الحلف.(3/557)
وهو ابن خالته، وكان رجلاً فقيراً من المهاجرين ووقع في الإفك فغضب عليه أبو بكر وحلف أن يمنعه ما كان يرفده به من طعام وشراب، فأنزل الذي تعالى هذه الآية ولا يأتل أي ولا يحلف أصحاب الفضل والإحسان والسعة في الرزق والمعاش أن يؤتوا أولى القربى أي أن يعطوا أصحاب القرابة، والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح، وليعفوا أي وعليهم أن يعفوا عما صدر من أولئك الأقرباء من الفقراء والمهاجرين، وليصفحوا أي يعرضوا عما قالوه فلا يذكروه لهم ولا يذكرونهم به فإنه يحزنهم ويسوءهم ولاسيما وقد تابوا وأقيم الحد عليهم وقوله تعالى: {ألا تحبون أن يغفر1 الله لكم؟} فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فعندها صفح وعفا وسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يمينه فقال كفر عن يمينك ورد الذي كنت تعطيه لمسطح. وتقرر بذلك أن من حلف يميناً على شيء فرأى غيره خيراً منه كفر عن يمينه وأتى الذي هو خير.
وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} فهذا إخبار منه تعالى أنه ذو المغفرة والرحمة وهما من صفاته الثابتة له وفي هذا الخبر تطميع للعباد لأن يرجوا مغفرة الله ورحمته وذلك بالتوبة الصادقة والطلب الحثيث المتواصل لأن الله تعالى لا يغفر لمن لا يستغفره، ولا يرحم من لا يرجو ويطلب رحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لقبح فاحشة الزنى وضع الله تعالى لمقاومتها أموراً منها وضع حد شرعي لها، ومنع تزويج الزاني من عفيفة أو عفيفة من زانٍ إلا بعد التوبة، ومنها شهود عدد من المسلمين إقامة الحد ومنها حد القذف ومنها اللعان بين الزوجين، ومنها حرمة ظن السوء بالمؤمنين، ومنها حرمة حب ظهور الفاحشة وإشاعتها في المؤمنين. ومنها وجوب الاستئذان عند دخول البيوت المسكونة، ومنها وجوب غض البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية، ومنها احتجاب المؤمنة عن الرجال الأجانب ومنها حرمة حركة ما كضرب الأرض بالأرجل لإظهار الزينة. ومنها وجوب تزويج العزاب والمساعدة على ذلك حتى في العبيد بشروطها. ومنها وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم، وهذه وغيرها كلها أسباب واقية من أخطر فاحشة وهي الزنى.
__________
1 {ألا تحبّون} : الاستفهام للإنكار وهو مستعمل في التحضيض والحث على السعي تحصيلا للمغفرة بالعفو والصفح.(3/558)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
2- حرمة إتباع الشيطان فيما يزينه من الباطل والسوء والفحشاء والمنكر.
3- متابعة الشيطان والجري وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدي بالعبد أن يصبح شيطاناً يأمر بالفحشاء والمنكر.
4- على من حفظهم الله من الوقوع في السوء أن يتطامنوا ولا يشعروا بالكبر فإن عصمتهم من الله تعالى لا من أنفسهم.
5- من حلف على شيء لا يفعله أو يفعله ورأى أن غيره خيرٌ منه كفر عن يمينه وفعل الذي هو خير.
6- وجوب العفو والصفح على ذوي المروءات وإقالة عثرتهم إن هم تابوا وأصلحوا.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
شرح الكلمات:
يرمون المحصنات: أي العفيفات بالزنى.
الغافلات: أي عن الفواحش بحيث لم يقع في قلوبهن فعلها.
المؤمنات: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
يعملون: أي من قول أو عمل.
يوفيهم الله دينهم الحق: أي يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم.
الخبيثات: الخبيثات من النساء والكلمات.(3/559)
للخبيثين: للخبيثين من الرجال.
والطيبات: من النساء والكلمات.
للطيبين: أي من الرجال.
أولئك مبرءون مما يقولون: أي صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنهما أي مبرءون مما قاله عصبة الإفك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إن الذين يرمون1 المحصنات2 الغافلات3 المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} هذه الآية وإن تناولت ابتداءً عبد الله بن أبي فإنها عامة في كل من يقذف مؤمنة محصنة أي عفيفة غافلة لسلامة صدرها من الفواحش لا تخطر ببالها {لعنوا} أي أبعدوا من الرحمة الإلهية {في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم} في الدنيا بإقامة الحد عليهم وفي الآخرة بعذاب النار، وذلك {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} من سوء الأفعال وقوله تعالى: {يومئذ4 يوفيهم الله دينهم الحق} أي يتم ذلك يوم يوفيهم الله دينهم الحق أي جزاءهم الواجب عليهم ويعلمون حينئذ أن الله هو الحق5 المبين أي الإله الحق الواجب الإيمان به والطاعة له والعبودية الكاملة له لا لغيره.
وقوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين6} أي الخبيثات من النساء7 والكلمات للخبيثين من الرجال كابن أبي، {والخبيثون للخبيثات} أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والكلمات وقوله: {والطيبات للطيبين} أي والطيبات من النساء والكلمات للطيبين من الرجال كالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعائشة رضي الله عنها وقوله: {والطيبون للطيبات} أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء والكلمات تأكيد للخبر السابق وقوله تعالى: {أولئك مبرءون مما
__________
1 هذه الجملة مستأنفة كجملة: {إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا..} وكلتا الجملتين تفصيل للموعظة في قوله تعالى: {يعظكم الله أن لا تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين} .
2 الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال كالمحصنات من النساء في القذف بلا فرق قياساً واستدلالا وحكماً وقضاء.
3 الغافلات: هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به وذلك لسلامة صدورهن وبُعدهن -بحكم إيمانهنّ- عن مواطن الرِيب.
4 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً.
5 لوصف الله تعالى بالحق له معنيان جليلان. الأوّل: أنه بمعنى: الثابت الحق لأنّ وجوده واجب فذاته حق إذ لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم. والثاني: أنه تعالى ذو الحق الواجب له على عباده وهو عبادته وحده دون سواه.
6 الابتداء بذكر الخبيثات لأنّ الغرض من الكلام الاستدلال على براءة عائشة أم المؤمنين واللام في للخبيثين: للاستحقاق.
7 المراد من الخبث والطيب: الصفات النفسية. الفواحش: صفات خبث والفضائل صفات طهر.(3/560)
يقولون} أولئك إشارة إلى صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنها، ومبرءون أي من قالة السوء التي قالها أبي ومن أذاعها معه. وقوله: {لهم مغفرة ورزق كريم} هذه بشرى لهم بالجنة مقابل ما نالهم من ألم الإفك الذي جاءت به العصبة المتقدم ذكرها إذ أخبر تعالى أن لهم مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها مؤمن وهو الستر عنها ومحوها ورزقاً كريماً في الجنة. وبهذه تمت براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والحمد لله أولاً وآخراً.
هداية الآيات:
هن هداية الآيات:
1- عظم ذنب قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وقد عده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السبع الموبقات، والعياذ بالله تعالى.
2- تقرير الحساب وما يتم فيه من استنطاق واستجواب.
3- تقرير التوحيد بأنه لا إله إلا الله.
4- استحقاق الخبث أهله. فالخبيث هو الذي يناسبه القول الخبيث والفعل الخبيث.
5- استحقاق الطيب أهله. فالطيب هو الذي يناسبه القول الطيب والفعل الطيب.
6- براءة أم المؤمنين وصفوان مما رماهما به أهل الإفك.
7- بشارة أم المؤمنين وصفوان بالجنة بعد مغفرة ذنوبهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)(3/561)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
شرح الكلمات:
آمنوا: أي صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من الغيب والشرع.
تستأنسوا: أي تستأذنوا إذ الاستئذان من عمل الإنسان والدخول بدونه من عمل الحيوان الوحشي.
وتسلموا على أهلها: أي تقولوا السلام عليكم أأدخل ثلاثاً.
تذكرون: أي تذكرون أنكم مؤمنون، وأن الله أمركم بالاستئذان.
أزكى لكم: أي أطهر وأبعد عن الريبة والإثم.
ليس عليكم جناح: أي إثم ولا حرج.
فيها متاع لكم: أي ما تتمتعون به كالنزول بها أو شراء حاجة منها.
ما تبدون: أي ما تظهرونه.
وما تكتمون: أي ما تخفونه إذاً فراقبه تعالى ولا تضمروا ما لا يرضي فإنه يعلمه.
معنى الآيات:
نظراً إلى خطر الرمي بالفاحشة وفعلها وحرمة ذلك كان المناسب هنا ذكر وسيلة من وسائل الوقاية من الوقوع في مثل ذلك ففرض الله تعالى على المؤمنين الاستئذان فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً1 غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} أي يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً لا تدخلوا بيوتاً على أهلها حتى تسلموا عليهم قائلين السلام2 عليكم وتستأذنوا قائلين أندخل ثلاث مرات فإن أذن لكم بالدخول دخلتم وإن قيل لكم ارجعوا أي لم يأذنوا لكم لحاجة عندهم فارجعوا وعبر عن الاستئذان بالاستئناس لأمرين أولها أن لفظ الاستئناس3 وارد في لغة العرب بمعنى الاستئذان وثانيهما: أن الاستئذان من خصائص الإنسان الناطق وعدمه من خصائص الحيوان المتوحش إذ يدخل على المنزل بدون إذن إذ ذاك ليس من خصائصه.
__________
1 ورد في سب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله: إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت الآية فقال أبو بكر يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة..} الخ.
2 صح أن رجلاً دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ارجع فقل السلام عليكم" وقال: "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له".
3 الاستئناس، معناه طلب الأنس لأهل البيت حتى تزول الوحشة والكراهة لك بالاستئذان.(3/562)
وقوله {ذلك خير لكم} أي الاستئذان خير لكم أي من عدمه لما فيه من الوقاية من الوقوع في الإثم وقوله: {لعلكم تذكرون} أي تذكرون أنكم مؤمنون وأن الله تعالى أمركم بالاستئذان حتى لا يحصل لكم ما يضركم وبذلك يزداد إيمانكم وتسموا أرواحكم. وقوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها أحداً} أي في البيوت يأذن لكم أي بالدخول فلا تدخلوها وقوله تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا} لأمرٍ اقتضى ذلك {فارجعوا} وأنتم راضون غير ساخطين. وقوله تعالى: {هو أزكى لكم} أي أطهر لنفوسكم وأكثر عائدة خير عليكم. وقوله تعالى: {والله بما تعملون1 عليم} أي مطلع على أحوالكم فتشريعه لكم الاستئذان واقع موقعه إذاً فأطيعوه فيه وفي غيره تكملوا وتسعدوا.
وقوله: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم} هذه رخصة منه تعالى لعباده المؤمنين بأن لا يستأذنوا عند دخولهم بيوتاً غير مسكونة أي ليس فيها نساء من زوجات وسريات يحرم النظر إليهن وذلك كالدكاكين والفنادق وما إلى ذلك فللعبد أن يدخل لقضاء حاجاته المعبر عنها بالمتاع بدون استئذان لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات أما السلام فسنة على من دخل على دكان أو فندق فليقل السلام عليكم والذي يسقط هو الاستئذان أي طلب الإذن لا غير.
وقوله تعالى: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أي يعلم ما تظهرون من أقوالكم وأعمالكم وما تخفون إذاً فراقبوه تعالى في أوامره ونواهيه وافعلوا المأمور واتركوا المنهي تكملوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1 مشروعية الاستئذان2 ووجوبه على كل من أراد أن يدخل بيتاً مسكوناً غير بيته.
2- الرخصة في عدم الاستئذان من دخول البيوت والمحلات غير المسكونة للعبد فيها غرض.
__________
1 ورد في الصحيح ما يجعل الاستئذان متأكداً فوق المشروعية إذ أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدراً يرجّل به رأسه فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" وفي الآية توعد ظاهر لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة.
2 وإذا قيل له مَن؟ فلا يقل أنا بل يقول فلان ابن فلان لحديث الشيخين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: "استأذنت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هذا؟ فقالت أنا فقال النبي صلى الله عليه: أنا أنا كأنه كره ذلك".(3/563)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
3- من آداب الاستئذان أن يقف بجانب الباب فلا يعترضه, وأن يرفع صوته بقدر الحاجة وأن يقرع الباب قرعاً خفيفاً وأن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات.
4-في كل طاعة خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة.
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
شرح الكلمات:
يغضوا من أبصارهم1: أي يغضوا من أبصارهم حتى لا ينظروا إلى نساء لا يحل لهم أن ينظروا إليهن.
ويحفظوا فروجهم: أي يصونونها من النظر إليها ومن إتيان الفاحشة الزنى واللواط.
__________
1 بدأ بالأمر بغض البصر قبل الأمر بحفظ الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أنّ الحمّى رائد الموت. أخذ هذا المعنى شاعر فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد
فما تألف العينان فالقلب آلف(3/564)
أزكى لهم: أي أكثر تزكية لنفوسهم من فعل المندوبات والمستحبات.
ولا يبدين زينتهن: أي مواضع الزينة الساقين حيث يوضع الخلخال، وكالكفين والذراعين حيث الأساور والخواتم والحناء والرأس حيث الشعر والأقراط في الأذنين والتزجيج في الحاجبين والكحل في العينين والعنق والصدر حيث السخاب والقلائد.
إلا ما ظهر منها: أي بالضرورة دون اختيار وذلك كالكفين لتناول شيئاً والعين الواحدة أو الاثنتين للنظر بهما، والثياب الظاهرة كالخمار والعجار والعباءة.
بخمرهن على جيوبهن: أي ولتضرب المرأة المسلمة الحرة بخمارها على جيوب أي فتحات الثياب في الصدر وغيره حتى لا يبدو شيء من جسمها.
إلا لبعولتهن: البعل الزوج والجمع بعول.
أو نسائهن: أي المسلمات فيخرج الذميات فلا تتكشف المسلمة أمامهن.
أو ما ملكت أيمانهن: أي العبيد والجواري فللمسلمة أن تكشف وجهها لخادمها المملوك.
أو التابعين غير أولي الإربة: أي التابعين لأهل البيت يطعمونهم ويسكنونهم ممن لا حاجة لهم إلى النساء.
أو الطفل: أي الأطفال الصغار قبل التمييز والبلوغ.
لم يظهروا على عورات النساء: أي لم يبلغوا سناً تدعوهم إلى الإطلاع على عورات النساء للتلذذ بهن.
ليعلم ما يخفين من زينتهن: أي الخلاخل في الرجلين.
تفلحون: أي تفوزون بالنجاة من العار والنار، وبالظفر بالطهر والشرف وعالي الغرف في دار النعيم.(3/565)
معنى الآيات:
سبق أن ذكرنا أنه لقبح وفساد الزنى وسوء أثره على النفس والحياة البشرية وضع الشارع عدة أسباب واقية من الوقوع فيه ومنها الأمر بغض البصر للرجال والنساء فقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا1 فن أبصارهم ويحفظوا فروجهم} أي مُرْ يا رسولنا المؤمنين بأن يغضوا من2 أبصارهم أي بأن يخفضوا أجفانهم على أعينهم حتى لا ينظروا إلى الأجنبيات عنهم من النساء ويحفظوا فروجهم عن النظر إليها فلا يكشفوها لأحد إلا ما كان من الزوج لزوجه فلا حرج وعدم النظر أولى وأطيب، وقوله: {ذلك أزكى لهم} أي أطهر لنفوسهم من نوافل العبادات، وقوله: {إن الله خبير بما يصنعون} فليراقبوه تعالى في ذلك المأمور به من غض البصر وحفظ الفرج إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن3} إذ شأنهن شأن الرجال في كل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج وقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} أي مُرْهُن بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إظهار الزينة {إلا ما ظهر منها} مما لا يمكنها ستره وإخفاؤه كالكفين عند تناول شيء أو إعطائه أو العينين تنظر بهما وإن كان في اليد خاتم وحناء وفي العينين كحل وكالثياب الظاهرة من خمار على الرأس وعباءة تستر الجسم فهذا معفو عنه إذ لا يمكنها ستره.
وقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} كانت المرأة تضع خمارها على رأسها مسبلاً على كتفيها فأمرت أن تضرب به على فتحات درعها حتى تستر العنق والصدر ستراً كاملاً وقوله: {ولا يبدين زينتهن4} أعاد اللفظ ليرتب عليه ما بعده من المحارم الذي يباح للمؤمنة أن تبدي زينتها إليهم وهم الزوج، والأب والجد وان علا وأب الزوج وإن علا وابنها لان سفل وأبناء الزوج وإن نزلوا، والأخ لأب أو الشقيق أو لأم وأبناؤه وأن نزلوا، وابن الأخ
__________
1 غض البصر واحترام النساء بعدم النظر إليهن معروف في الجاهلية وهذا عنترة بن شداد يقول:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها؟
لم يذكر الله تعالى ما يغض البصر من أجله للعلم به وهو: وجود النساء الأجنبيات، وكذا ما يحفظ منه الفرج، وهو: النظر إليه والزنى واللواط.
2 {من} جائز أن تكون زائدة في يغضوا أبصارهم، وجائز أن تكون للتبعيض لجواز النظر إلى المحارم.
3 ورد في الأمر بغض البصر في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وقال لعلي رضي الله عنه "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية".
4 قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية: أن المرأة مأمورة بأن لا تُبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر لحكم ضرورة حركة فيما لابد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك فيما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.(3/566)
وان نزل وسواء كان لأب أو لأم أو شقيق، وابن الأخت شقيقة أو لأب أو لأم. والمرأة المسلمة من نساء المؤمنات، وعبدها المملوك لها دون شريك لها فيه والتابع لأهل بيتها من شيخ هرم أصابه الخرف، وعنين ومعتوه وطفل صغير لم يميز دون البلوغ ممن لا حاجة لهم في النساء لعدم الشهوة عندهم لكبر ومرض وصغر.
وقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} نهى تعالى المؤمنات أن يضربن الأرض بأرجلهن التي فيها الخلاخل لكي يعلم أنها ذات زينة في رجلها، فلا يحل لها ذلك ولو لم تقصد إظهار زينتها.
وقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} أمر تعالى المؤمنين والمؤمنات بالتوبة وهي ترك ما من شأنه أن يغضب الله تعالى، وفعل ما وجب فعله ومن ذلك غض البصر وحفظ الفرج والالتزام بالعفة والستر والتنزه عن الإثم صغيره وكبيره وبذلك يتأهل المؤمنون للفلاح الذي هو الفوز بالنجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب المرغوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب غض البصر وحفظ الفرج1.
2- وجوب ستر المرأة زينتها ومواضع ذلك ما عدا ما يتعذر ستره للضرورة.
3- بيان المحارم الذين للمرأة المؤمنة أن تبدي زينتها عندهم بلا حرج.
4-الرخصة في إظهار الزينة للهرم المخرف من الرجال والمعتوه والطفل الصغير الذي لم يعرف عن عورات النساء شيئاً.
5- حرمة ضرب ذات الخلاخل الأرض برجلها حتى لا يعلم ما تخفي من زينتها.
6- وجوب التوبة من كل ذنب وعلى الفور للحصول على الفلاح العاجل والآجل.
وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
__________
1 وجوب غض البصر عن النظر إلى المحارم والعورات ويستحب ستر العورة عن الزوج، لحديث عائشة: "ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني" كما يستحب ستر العورة مطلقاً عن الله وملائكته لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فالله أحق أن يستحي منه من الناس: لمن قال له: الرجل يكون خاليا. "(3/567)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34)
شرح الكلمات:
وأنكحوا الآيامى منكم: أي زوجوا من لا زوجة له من رجالكم ومن لا زوج لها من نسائكم.
والصالحين من عبادكم وإمائكم: أي وزوجوا أيضاً القادرين والقادرات على أعباء الزواج من عبيدكم وإمائكم.
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله: أي إن يكن الأيامى فقراء فلا يمنعكم ذلك من تزويجهم فإن الله يغنهم.
إن الله واسع عليم: أي واسع الفضل عليم بحاجة العبد وخلته فيسدها تكرماً.
وليستعفف: أي وليطلب عفة نفسه بالصبر والصيام.
يبتغون الكتاب: أي يطلبون المكاتبة من المماليك.
إن علمتم فيهم خيراً: أي قدرة على السداد والإستقلال عنكم.
وآتوهم من مال الله: أي أعينوهم بثمن نجم من نجوم المكاتبة من الزكاة وغيرها.
على البغاء إن أردن تحصناً: أي الزنى تحصناً أي تعففاً وتحفظاً من فاحشة الزنا.(3/568)
عرض الحياة الدنيا: أي المال.
ومن يكرههن: أي على البغاء "الزنى".
مبينات: للأحكام موضحة لما يطلب منكم فعله وتركه.
ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم: أي قبلكم: أي قصصاً من أخبار الأولين كقصة يوسف وقصة مريم وهما شبيهتان بحادثة الإفك.
وموعظة: الموعظة ما يتعظ به العبد فيسلك سبيل النجاة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر الأسباب الواقية من وقوع الفاحشة فأمر تعالى في الآية الأولى من هذا السياق (32) أمر جماعة المسلمين أن يزوجوا الأيامى من رجالهم ونسائهم بالمساعدة على ذلك والإعانة عليه حتى لا يبقى في البلد أو القرية عزبّ إلا نادراً ولا فرق بين البكر والثيب في ذلك فقال تعالى: {وأنكحوا1} والأمر للإرشاد {الأيامى} جمع أيّم وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة بكراً كان أو ثيباً، {منكم} أي من جماعات المسلمين لا من غيرهم كأهل الذمة من الكافرين. وقوله: {والصالحين من عبادكم2 وإمائكم} أي وزوجوا القادرين على مؤونة الزواج وتبعاته، وتكاليفه من مماليككم وقوله: {إن يكونوا فقراء} غير موسرين لا يمنعكم ذلك من تزويجهم فقد تكفل الله بغناهم بعد تزويجهم بقوله: {يغنهم3 الله من فضله والله واسع عليم} أي واسع الفضل عليم بحاجة المحتاجين وأمر تعالى في هذه الآية من لا يجد نكاحاً لانعدام الزوج أو الزوجة مؤقتاً أو انعدام مؤونة الزواج من مهر ووليمة أن يستعفف أي يعف نفسه بالصبر والصيام والصلاة حتى لا يتطلع إلى الحرام فيهلك فقال تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً4 حتى يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم} أي واسع الفضل مطلق الغنى عليم بحال عباده وحاجة المحتاجين منهم وقوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} هذه مسألة ثالثة تضمنتها هذه
__________
1 الخطاب للأولياء ولجماعة المسلمين إن عجز الأولياء أي: زوّجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف، والطهر والتكافل الاجتماعي. والنكاح تجرى عليه الأحكام الخمسة إذ يكون واجباً على من خاف العنت وقدر على مؤونته، ويسن لمن لم يخف العنت وقدر على مؤونته ويحرم على من لم يخف العنت ولا مؤونة لديه. ويكره لمن لم يخف العنت ويشغله عن طاعة الله تعالى ويباح لمن لا رغبة له فيه وهو قادر عليه.
2 اختلف في هل للسيّد أن يكره عبده أو أمته على التزوّج والذي يبدوان الإكراه يشرع مع خوف الضرر فإن لم يكن ضرر فلا إكراه.
3 في الآية دليل على تزوج الفقير بل قال عمر: عجباً لفقير لم يطلب الغنى بالزواج لقول الله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله} .
4 نكاحاً: أي طَوْلَ نكاح فحذف المضاف، وفي الحديث الذي رواه النسائي "ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم: المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء".(3/569)
الآية وهي إذا كان للمسلم عبد وطلب منه أن يكاتبه وكان أهلا للتحرر بأن يقدر على تسديد مال المكاتبة. ويستطيع أن يستقل بنفسه فعلى مالكه أن يكاتبه، وأن يعينه على ذلك بإسقاط نجم من نجوم الكتابة، وهذا معنى قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم1 إن علمتم فيهم خيراً2 وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} أي على الزنا وهي مسألة رابعة تضمنتها هذه الآية وهي أن جاريتين كانتا لعبد الله بن أبي بن سلول المنافق يقال لهما معاذة ومسيكة قد أسلمتا فأمرهما بالزنا لتكسبا له بفرجيهما كما هي عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام فشكتا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي لأجل مال قليل يعرض لكم ويزول عنكم بسرعة. وقوله: {ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} أي لهن رحيم بهن لأن المكره لا إثم عليه فيما يقول ولا فيما يفعل فامتنع المنافق من ذلك.
وقوله تعالى في الآية الثانية (34) {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} أي ولقد أنزلنا إليكم أيها المسلمون آيات أي قرآنيّة مبينات أي موضحات للشرائع والأحكام والآداب فاعملوا بها تكملوا في حياتكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله: {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي قصصاً من أخبار الأولين كقصة يوسف ومريم عليهما السلام وهما شبيهتان بحادثة الإفك وقوله: {وموعظة للمتقين} وهي ما تضمنته الآيات من الوعيد والوعد والترغيب والترهيب وكونها للمتقين بحسب الواقع وهو أن المتقين هم الذين ينتفعون بالمواعظ دون الكافرين والفاجرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- انتداب المسلمين حاكمين ومحكومين للمساعدة على تزويج الأيامى من المسلمين أحراراً وعبيداً.
2- وجوب الاستعفاف على من لم يجد نكاحاً والصبر حتى ييسر الله أمره.
3- عدة الله للفقير إذا تزوج بالغنى.
__________
1 لا تكون المكاتبة إلا على أنجم متعددة فلا تصح ناجزة ولا على نجم واحد.
2 {خيرا} أي: صلاحاً وتقوى وقدرة على الأداء.(3/570)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
4- تعين مكاتبة العبد إذا توفّرت فيه شروط المكاتبة.
5- حرمة الزنا بالإكراه أو بالاختيار ومنع ذلك بإقامة الحدود.
6- صيغة المكاتبة أن يقول السيد للعبد لقد كاتبتك على ثلاثة آلاف دينار منجمة أي مقسطة على ستة نجوم تدفع في كل شهر نجماً أي قسطاً. على أنك إذا وفيتها في آجالها فأنت حر، وعليه أشهدنا وحرر بتاريخ كذا وكذا.
7- بيان فضل سورة النور لما احتوته من أحكام في غاية الأهمية.
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالأصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
شرح الكلمات
الله نور السموات: أي منورهما فلولاه لما كان نور في السموات ولا في(3/571)
الأرض، والله تعالى نورٌ1 وحجابه النور.
مثل نوره: أي في قلب عبده المؤمن.
كمشكاة: أي كوة.
كوكب دري: أي مضىء اضاءة الدر الوهاج.
نور على نور: أي نور النار على نور الزيت.
يهدى الله لنوره: أي للإيمان به والعمل بطاعته من يشاء له ذلك لعلمه برغبته وصدق نيته.
ويضرب الله الأمثال: أي ويجعل الله الأمثال للناس من أجل أن يفهموا عنه ويعقلوا ما يدعوهم إليه.
في بيوت أذن الله أن ترفع: هي المساجد ورفعها إعلاء شأنها من بناء وطهارة وصيانة.
يوماً تتقلب2 فيه القلوب والأبصار: يوم القيامة.
يرزق من يشاء بغير حساب: أي بلا عَدّ ولا كيل ولا وزن وهذا شأن العطاء إن كان كثيراً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {الله نور3 السموات والأرض} يخبر تعالى أنه لولاه لما كان في الكون نور ولا هداية في السموات ولا في الأرض فهو تعالى منورهما فكتابه نور ورسوله نور أي يهتدي بهما في ظلمات الحياة كما يهتدي بالنور الحسي والله ذاته نور وحجابه نور فكل نور حسي أو معنوي الله خالقه وموهبه وهادٍ إليه.
وقوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} أي كوة في جدار {فيها مصباح المصباح في زجاجة} من بلور، {الزجاجة} في صفائها وصقالتها مشرقة {كأنها كوكب دري} والكوكب الدري هو المضيء المشرق كأنه درة بيضاء صافية، وقوله: {يوقد من شجرة مباركة} أي وزيت
__________
1 في الحديث الصحيح: "اللهم أنت نور السموات والأرض" وفي آخر صحيح وقد سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل رأيت ربّك؟ فقال "نور أنّى أراه" وفي آخر "رأيت نوراً".
2 تتقلب قلوب الكافرين من الجحد والتكذيب إلى التصديق واليقين وقلوب المؤمنين بين الخوف والرجاء، وأما تقلب الأبصار: فإنها بالنظر هنا وهناك لشّدة الخوف وعظم الهول. هذه قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فمن الكحل إلى الزرق والعمى بعد الإبصار.
3 قال ابن عباس: {الله نور السموات والأرض} يقول: هادي أهل السموات والأرض.(3/572)
المصباح من شجرة مباركة وهي الزيتونة والزيتونة لا شرقية ولا غربية في موقعها من البستان لا ترى الشمس إلا في الصباح، ولا غربية لا ترى الشمس إلا في المساء بل هي وسط البستان تصيبها الشمس في كامل النهار فلذا كان زيتها في غاية الجودة يكاد يشتعل لصفائه، ولو لم تمسه نار، وقوله تعالى: {نور على نور1} أي نور النار على نور الزيت وقوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} يخبر تعالى أنه يهدي لنوره الذي هو الإيمان والإسلام والإحسان من يشاء من عباده ممن علم أنهم يرغبون في الهداية ويطلبونها ويكملون ويسعدون عليها.
وقوله: {ويضرب2 الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} يخبر تعالى: أنه يضرب الأمثال للناس كهذا المثل الذي ضربه3 للإيمان وقلب عبده المؤمن وأنه عليم بالعباد وأحوال القلوب، ومن هو أهل للهداية ومن ليس لها بأهل، إذ هو بكل شيء عليم.
وقوله: {في بيوت4 أذن الله أن ترفع} أي المصباح في بيوت أذن الله أي أمر وَوَصّى أن ترفع حساً ومعنى وهي المساجد فتطهر من النجاسات ومن اللغو فيها وكلام الدنيا5 وتصان وتحفظ من كل ما يخل بمقامها الرفيع لأنها بيوت الله تعالى، وقوله: {ويذكر فيها اسمه} أي بالأذان والإقامة والصلاة والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن. وقوله تعالى: {يسبح له فيها} أي لله في تلك البيوت {بالغدو} أي بالصباح {والآصال6} أي المساء {رجال} مؤمنون صادقون أبرار متقون {لا تلهيهم تجارة ولا بيع} أي لا شراء ولا بيع {عن ذكر الله} فقلوبهم ذاكرة غير غافلة وألسنتهم ذاكرة غير لاهية ولا لاغية {وإقام الصلاة وإتياء الزكاة} أي لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم فهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
وقوله: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} أي من شدة الخوف وعظم الفزع والهول وهو يوم القيامة وقوله تعالى: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله}
__________
1 أي: اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة إلى ضوء الزيت فهو لذلك نور على نور، واختلطت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما تكون فكذلك براهين الله تعالى واضحة وهي: برهان بعد برهان. والجملة مستأنفة أي: هذا المذكور هو نور على نور.
2 قوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} إلى قوله: {عليم} هي ثلاث جمل معترضة أو تذييل لما سبق من الكلام.
3 قال ابن عباس هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار فان مستّه النار أزداد ضوءه كذلك قلب المؤمن، يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا جاء العلم زاده هدىً على هدىً ونوراً على نور.
4 كون {في بيوت} متعلقاً بقول {مصباح} أولى وأوضح من تعلقه بيسبح له وإن قيل: كيف يعود إلى المصباح، وهو واحد والبيوت جمع؟ قيل: هذا كقوله: {وجعل فيهن نوراً} وهو في سماء واحدة لا في كل سماء وإنما هو تلوين للخطاب.
5 لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي أنشد الضالة: "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له" يريد الصلاة والذكر وقراءة القرآن وتعلّم العلم.
6 الآصال: جمع أصيل وهو المساء.(3/573)
أي إنهم فعلوا ما فعلوا من التسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة معرضين عن كل ما يشغلهم عن عبادة ربهم فتأهلوا بذلك للثواب العظيم ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله فوق ما استحقوه بأعمالهم وتقواهم لربهم، والله يرزق من يشاء بغير حساب وذلك لعظيم فضله وسابق رحمته فيعطي بدون عد ولا كيل ولا وزن وذلك لعظم العطاء وكثرته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل خير وكل نور وكل هداية مصدرها الله تعالى فهو الذي يطلب منه ذلك.
2- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان والفهوم.
3- الإشارة إلى أن ملة الإسلام لا يهودية ولا نصرانية، لا اشتراكية ولا رأسمالية. بل هي الملة الحنيفية من دان بها هدى ومن كفرها ضل.
4- وجوب تعظيم بيوت الله تعالى "المساجد" بتطهيرها1 ورفع بنيانها وإخلائها إلا من ذكر الله والصلاة وطلب العلم فيها.
5- ثناء الله تعالى على من لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
__________
1 أوّل من أنار مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تميم الداري, إذ أتى بقناديل من الشام فعلّقها في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسرجها فرآها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نورت الإسلام نوّر الله عليك في الدنيا والآخرة".(3/574)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (42)
شرح الكلمات:
كسراب بقيعة: السراب شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء، والقيعة جمع قاع وهو ما انبسط من الأرض.
الظمآن: لعطشان.
بحر لجي: أي ذو لجج واللجة معظم الماء وغزيره كما هي الحال في المحيطات.
يغشاه موج: يعلوه ويغطيه موج آخر.
يسبح له: ينزه ويقدس بألفاظ التسبيح والتقديس كسبحان الله ونحوه والصلاة من التسبيح.
صافات: باسطات أجنحتها.
قد علم صلاته: أي كل من في السموات والأرض قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كل مسبح ومصل قد علم صلاة وتسبيح نفسه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب1} لما بين تعالى حال المؤمنين وأنه تعالى وفاهم أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون وزادهم من فضله ذكر هنا حال الكافرين وهو أن أعمالهم في خسرانها وعدم الانتفاع بها كسراب وهو شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء {بقيعة} أي بقاع من الأرض وهو الأرض المنبسطة. {يحسبه الظمّآن ماء} أي يظنه العطشان ماء وما هو بماء ولكنه سراب خادع {حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} لأنه سراب لا غير. فيا للخيبة، خيبة ظمآن يقتله العطش فرأى سراباً فجرى وراءه يظنه ماء فإذا به لم يجد الماء، ووجد الحق تبارك وتعالى فحاسبه على كل أعماله وهي في جملتها أعمال إجرام وشر وفساد فوفاه إياها فخسر خسراناً مبيناً، {والله سريع الحساب} فما هي إلا لحظات والكافر في سواء الجحيم. هذا مَثَلٌ تضمنته الآية الأولى (39) ومثل آخر تضمنته الآية الثانية (40)
__________
1 سمي السراب سراباً: لأنه يسرب كالماء في جريانه، والسراب يلتصق بالأرض، والآل كالسراب إلاّ أنه يكون كالماء ولكنه مرتفع بين السماء ولأرض قال الشاعر:
وكنت كمهريق الذي في سقائه
لرقراق آل فوق رابية صَلدٍ(3/575)
وهو مثل مضروب لضلال الكافر وحيرته في حياته وما يعيش عليه من ظلمة الكفر وظلمة العمل السيء والاعتقاد الباطل وظلمة الجهل بربه وما يريده منه، وما أعده له قال تعالى: {أو كظلمات1 في بحر2 لجي} أي ذي لجج من الماء {يغشاه} أي يعلوه {موج من فوقه موج} أي من فوق الموج موج آخر {من فوقه سحاب} والسحاب عادة مظلم فهي {ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها} لشدة الظلمة هذه حال الكافر في هذه الحياة الدنيا، وهي ناتجة عن إعراضه عن ذكر ربه وتوغله في الشر والفساد وقوله تعالى: {ومن3 لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} أعلم تعالى عباده أن النور له وبيده فمن لم يطلبه منه حرمه وعاش في الظلمات والعياذ بالله.
وقوله تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات} أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله تعالى يسبح له من في السموات من الملائكة والأرض أي ومن4 في الأرض بلسان القال والحال معاً والطير5 صافات أي باسطات أجنحتها تسبح الله تعالى بمعنى تنزهه بألفاظ التنزيه كسبحان الله. فإن امتنع المشركون أهل الظلمات من الإيمان بالله وعبادته وتوحيده فيها فإن الله تعالى يسبح له الخلق كله علويه وسفليه فالكافر وإن لم يسبح بلسانه فحاله6 تسبح فخلقه وتركيبه وأقواله وأعماله كلها تسبح الله خالقه فهي شاهدة على قدرة الله وعلمه وحكمته وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله تعالى: {كل} أي ممن في السموات والأرض والطير قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كلاً منهم قد علم صلاته لله تعالى وتسبيحه له {والله عليم بما يفعلون} أي والله عليم بأفعال عباده، ويجزيهم بها وهو على ذلك قدير إذ له ملك السموات والأرض وإليه المصير أي مصير كل شيء إليه تعالى فهو الذي يحكم فيه بحكمه العادل.
__________
1 قال الجرجاني الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على الأعمال لأن الكفر أيضاً من أعمالهم.
2 قيل: المراد بالظلمات: أعمال الكفار، وبالبحر اللجي: قلب الكافر، وبالموج فوق الموج: ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب: الرين والختم والطبع على قلبه، ولذا قال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات كلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة النار.
3 قيل: هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة أو في ربيعة نفسه إذ كلاهما ترهّب وطلب الدين في الجاهلية ولما جاء الإسلام كفرا به ولم يدخلا فيه وماتا كافرين.
4 أي: من الجن والإنس.
5 قرىء {والطير} بالرفع عطفاً على من. وقرىء بالنصب على نحو: قمت وزيداً أي معه وهو أجود من الرفع ولو قلت قمت أنا وزيد لكان الرفع أجود.
6 تسبيح الحال هو ما يُرى من علم الله تعالى وقدرته في آثار الصنعة في المخلوقات فالخالق المدبر وحده لا يكون إلاّ إلهاً واحداً لا شريك له.(3/576)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني البعيدة إلى الأذهان.
2- بيان خسران الكافرين في أعمالهم وحياتهم كلها.
3- بيان حال الكافرين في هذه الدنيا وأنهم يعيشون في ظلمات الجهل والكفر والظلم.
4- تقرير حقيقة وهي أن من لم يجعل الله له نوراً في قلبه لن يكن له نور في حياته كلها.
5- بيان أن الكون كله يسبح الله كقوله تعالى: {يسبح له ما في السموات وما في الأرض} وقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِي الأبْصَارِ (44) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)
شرح الكلمات
يزجي سحاباً: أي يسوق برفق ويسر.
ثم يؤلف بينه: أي يجمع بين أجزائه وقطعه.
ثم يجعله ركاماً: أي متراكماً بعضه فوق بعض.
الودق: أي المطر.(3/577)
يخرج من خلاله: أي من فرجه ومخارجه.
من جبال فيها من برد: أي من جبال من برد في السماء والبرد حجارة بيضاء كالثلج.
فيصيب به من يشاء: أي فيصيب بالبرد من يشاء.
سنا برقه: أي لمعانه
يذهب بالأبصار: أي النظرة إلَيهَ
لعبرة: أي دلالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
كل دابة من ماء: أي حيوان من نطفة.
على بطنه: كالحيات والهوام.
على رجلين: كالإنسان والطير.
على أربع: أي كالأنعام والبهائم.
إلى صراط مستقيم: أي إلى الإسلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي الموجبة لله تعالى العبادة دون سواه فقال تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً} أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله يزجي1 سحاباً أي يسوقه برفق وسهولة {ثم يؤلف} أي يجمع بين أجزائه فيجعله ركاماً2 أي متراكمًا بعضه على بعض {فترى الودق3} أي المطر {يخرج من خلاله} أي من فتوقه وشقوقه. والخلال جمع خلل كجبال جمع جبل وهو الفتوق بين أجزاء السحاب وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} أي ينزل برداً من جبال البرد المتراكمة في السماء فيصيب بذلك البرد من يشاء فيهلك به زرعه أو ماشيته، ويصرفه عمن يشاء من عباده فلا يصيبه شيء من ذلك وهذا مظهر آخر من مظاهر
__________
1 ذكر تعالى من حججه وبراهينه على ألوهيته شيئاً آخر وهو: سوق السحاب وتكوين المطر وإنزاله، وإزجاء السحاب، سوقه يقال: البقرة ازجت ولدها: إذا ساقته أمامها.
2 يقال: ركمه يركمه ركما، إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، والركام المتراكم.
3 الودق: إنه البرق، وكونه المطر: أولى ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها(3/578)
القدرة واللطف الإلهي وقوله. {يكاد سنا برقه1} أي يقرب لمعان البرق الذي هو سناه يذهب بالأبصار التي تنظر إليه أي يخطفها بشدة لمعانه.
وقوله تعالما {يقلب الله الليل والنهار} بأن يظهر هذا ويخفي هذا فإذا ظهر النهار اختفى الليل، وإذا ظهر الليل اختفى النهار فيقلب أحدهما على الآخر فيخفيه ويستره به وقوله: {إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار} أي إن في إنزال البرد ولمعان البرق وتقليب الليل والنهار لعظة عظيمة لأولى البصائر تهديهم إلى الإيمان بالله وجلاله وكماله فيعبدونه ويوحدونه محبين له معظمين راجعين خائفين إن هذه ثمرة الهداية هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (43) والثانية (44) أما الآية (45) فقد اشتملت على أعظم مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فقال تعالى: {والله خالق كل دابة2} أي من إنسان وحيوان {من ماء3} أي نطفة من نطف الإنسان والحيوان، {فمنهم من يمشي على بطنه} كالحيات والثعابين والأسماك، {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنسان والطير، {ومنهم من يمشي على أربع} كالأنعام والبهائم، وقوله: {يخلق الله ما يشاء} إذْ بعض الحيوانات لها أكثر من أربع وقوله: {إن الله على كل شيء4 قدير} أي على فعل وإيجاد ما يريده قدير لا يعجزه شيء فأين الله الخالق العليم الحكيم من تلك الأصنام والأوثان التي يؤلهها الجاهلون من أهل الشرك والكفر؟
وقوله تعالى: {لقد أنزلنا آيات مبينات} أي واضحات لأجل هداية العباد إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهي هذه الآيات التي اشتملت عليها سورة النور وغيرها من آيات القرآن الكريم فمن آمن بها ونظر فيها وأخذ بما تدعو إليه من الهدى اهتدى، ومن أعرض عنها فضل وشقى فلا يلومن إلا نفسه، {والله يهدي من يشاء} هدايته ممن رغب في الهداية وطلبها وسلك لها مسالكها {إلى صراط مستقيم} ألا وهو الإسلام طريق الكمال والسعادة في الحياتين اللهم اجعلنا من أهله إنك قدير.
__________
1 السنا مصدر: لمعان البرق والسّناء، ممدود: الرّفعة قال: ابن دريد:
زال السنا عن ناظري
وزال عن شرف السناء
فالسّنا الأول: الرفعة والثاني: ضوء البرق، وجملة: {يكاد سنا برقه} وصف لـ: (سحاباً) .
2 فخرج الملائكة والجن إذ الملائكة خلقوا من نور والجن من النار.
3 تنكير ماء: لإرادة النوعية تنبيها على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب.
4 هذه الجملة ذكرت تذييلا وتعليلاً.(3/579)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي موجبات الإيمان والتقوى.
2- بيان كيفية نزول المطر والبرد.
3- مظاهر لطف الله بعباده في صرف البرد عن الزرع والماشية وبعض عباده.
4- مظاهر القدرة والعلم في تقليب الليل والنهار على بعضهما بعضاً.
5- بيان أصناف المخلوقات في مشيها على الأرض بعد خلقها من ماء وهو مظهر العلم والقدرة.
6- امتنان الله تعالى على العباد بإنزاله الآيات المبينات للهدى وطريق السعادة والكمال.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ1 فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
__________
1 قرأ حفص: {ويتِّقه} بإسكان القاف على نيّة الجزم لأن مَن: شرطية جازمة، وكسرها الباقون: لأن جزم المعتل بحذف آخره وأسكن الهاء بعضٌ واختلس كسرتها قالون عن نافع، وأشبع الكسرة الباقون.(3/580)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
شرح الكلمات:
ويقولون: أي المنافقون.
آمنا بالله وبالرسول: أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم يتول فريق منهم: أي يعرض.
إذا فريق منهم معرضون: أي عن المجيء إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مذعنين: أي مسرعين منقادين مطيعين.
في قلوبهم مرض: أي كفر ونفاق وشرك.
أم ارتابوا: أي بل شكوا في نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أن يحيف الله عليهم ورسوله: أي في الحكم فيظلموا فيه.
إنما كان قول المؤمنين: هو قولهم سمعنا وأطعنا أي سمعاً وطاعة.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
بعد عرض تلك المظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان بالله ورسوله, وما عند الله من نعيم مقيم, وما لديه من عذاب مهين فاهتدى عليها من شاء الله هدايته وأعرض عنها من كتب الله شقاوته من المنافقين الذين أخبر تعالى عنهم بقوله: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} أي صدقنا بالله رباًّ وإلهاً وبمحمد نبياً ورسولاً, وأطعناهما1 {ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك} أي من بعد تصريحهم بالإيمان والطاعة يقولون معرضين بقلوبهم عن الإيمان بالله وآياته ورسوله, {وما أولئك بالمؤمنين} فأكذبهم الله في دعوة إيمانهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (47) وقوله تعالى: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله2 ليحكم3 بينهم} أي في قضية من قضايا دنياهم, {إذا فريق منهم معرضون} أي فاجأك فريق منهم بالإعراض عن التحاكم إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: {وإن يكن لهم الحق} أي وإن يكن لهم في الخصومة التي بينهم وبين غيرهم {يأتوا إليه} أي إلى رسول الله {مذعنين} أي منقادين طائعين أي لعلمهم أن الرسول يقضي بينهم بالحق وسوف يأخذون حقهم وافياً وقوله تعالى: {أفي
__________
1 قولهم , هذا قول باطل إنهم ما آمنوا ولا أطاعوا وإنما هو قول المنافقين والله شهد إنهم لكاذبون.
2 قيل: إن هذه الآية نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي كانت بينهما أرض فقال اليهودي: هيا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال بشر المنافق لا إن محمداً يحيف علينا فلنحتكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فنزلت.
3 لم يقل ليحكما لأن الذي يحكم بينهما هو الرسول صلى الله عيه وسلم وإنما قدم اسم الله تعظيماً ولأن مادة الحكم من الله والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبيّن ومنفّذ لا غير.(3/581)
قلوبهم1 مرض} أي بل في قلوبهم مرض الكفر والنفاق. {أم ارتابوا} أي بل ارتابوا أي شكوا في نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله} لا، لا، {بل أولئك هم الظالمون} ، ولما كانوا ظالمين يخافون حكم الله ورسوله فيهم لأنه عادل فيأخذ منهم ما ليس لهم ويعطيه لمن هو لهم من خصومهم وقوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين} أي الصادقين في إيمانهم {إذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} أي لم يكن للمؤمنين الصادقين من قول يقولونه إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم إلا قولهم: سمعنا وأطعنا فيجيبون الدعوة ويسلمون بالحق قال تعالى في الثناء عليهم {وأولئك هم المفلحون} أي الناجحون في دنياهم وآخرتهم دون غيرهم من أهل النفاق. وقوله تعالى: في الآية الكريمة الأخيرة (52) {ومن يطع الله ورسوله2} أي فيما يأمران به وينهيان عنه، {ويخش الله} أي يخافه في السر والعلن، {ويتقه} أي يتق مخالفته فلا يقصر في واجب ولا يغشى محرماً، {فأولئك هم الفائزون} فقصر الفوز عليهم أي هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة المنعمون في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم إنك ربنا وربهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة.
2- من دعي إلى الكتاب والسنة فأعرض فهو منافق معلوم النفاق.
3- اتخاذ قوانين وضعية للتحاكم إليها دون كتاب الله وسنة رسوله آية الكفر والنفاق.
4- فضل طاعة الله ورسوله وتقوى الله عز وجل وأن أهلها هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنان.
__________
1 الاستفهام للتوبيخ والذم وهو أبلغ في التوبيخ وأشد في الذم من مجرّد الإخبار كما في المدح أيضاً أبلغ وأشد فيه، وشاهده قول جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
2حكي أنّ رجلاً من دهاقين الروم أسلم فقيل له هل لإسلامك سبب؟ قال: نعم إني قد قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيراً من كتب الأنبياء فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما كتب في الكتب المتقدمة فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. وقيل له ما هي؟ قال: قوله تعالى: {ومن يطع الله} في الفرائض {ورسوله} في السنن {ويخشى الله} فيما مضى من عمره {ويتقه} فيما بقي من عمره {فأولئك هم الفائزون} والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوتيت جوامع الكلم".(3/582)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
شرح الكلمات:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم: أي حلفوا بالله بالغين غاية الجهد في حلفهم.
لئن أمرتهم: أي بالخروج إلى الجهاد.
طاعة معروفة: أي طاعة معروفة للنبي فيما يأمركم وينهاكم خير من إقسامكم بالله.
فإن تولوا: أي فإن تتولوا أي تعرضوا عن الطاعة.
عليه ما حمل: أي من إبلاغ الرسالة وبيانها بالقول والعمل.
وعليكم ما حملتم: أي من وجوب قبول الشرع والعمل به عقيدة وعبادة وحكما.
وإن تطيعوه تهتدوا: أي وإن تطيعوا الرسول في أمره ونهيه وإرشاده تهتدوا إلى خيركم.
ليستخلفنهم: أي يجعلهم خلفاء لغيرهم فيها بأن يُدِيلَ من أهلها فيسودون فيها ويحكمون.(3/583)
وليمكنن لهم دينهم: أي بأن يظهر الإسلام على سائر الأديان ويحفظه من الزوال.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أحوال المنافقين فأخبر تعالى عنهم بقوله: {وأقسموا الله جهد1 أيمانهم} أي أقسموا للرسول مبالغين في ذلك حتى بلغوا غاية الجهد قائلين لئن أمرتنا بالخروج إلى الجهاد لنخرجن معكم. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: {لا تقسموا2} أي ما هناك حاجة إلى الحلف وتأكيده، وإنما هي طاعة منكم معروفة لنا تغنيكم عن الأيمان وقوله تعالى: {إن الله خبير3 بما تعملون} تأنيب لهم وتأديب حيث أخبرهم تعالى بأنه مطلع على أسرارهم وما يقولونه ويعملونه في الخفاء ضد الرسول والمؤمنين ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في كل ما يأمران به وينهيان عنه، {فإن تولوا4} أي تعرضوا عن الطاعة وترفضوها، فإنما على الرسول ما حمل من البلاغ والبيان، وعليكم ما حملتم من وجوب الانقياد والطاعة، ومن أخل بواجبه الذي أنيط به فسوف يلقى جزاءه وافياً عند ربه وقوله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} هذه الجملة عظيمة الشأن جليلة القدر للمؤمن أن يحلف بالله ولا يحنث على أن من أطاع رسول الله في أمره ونهيه لن يضل أبداً ولن يشقى فالهداية إلى كل خير كامنة في طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقوله تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} أي ليس على الرسول هداية القلوب، وإنما عليه البلاغ المبين لا غير فلا تلحق الرسول تبعة هن عصى فََضَلَّ وهَلَك.
وقوله تعالى في الآية (55) {وعد5 الله الذين آمنوا منكم} أي صدقوا الله والرسول {وعملوا الصالحات} فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض أي يجعلهم خلفاء حاكمين في أهلها، سائدين سكانها استخلافاً كاستخلاف الذين من قبلهم من بني إسرائيل حيث أجلى الكنعانيين والعمالقة من أرض القدس وورثها بني إسرائيل وقول: {وليمكنن لهمم دينهم الذي ارتضى لهم} وهو الإسلام
__________
1 {جهد أيمانهم} أي: طاقة ما قدروا أن يحلفوا. والجهد: بفتح الهاء: منتهى الطاقة وهو: منصوب إمّا على الحال من أقسموا. أر على المفعول المطلق أي: جهدوا أيمانهم جهدا.
2 هنا تم الكلام، ثم استئنف على تقدير: طاعة معروفة أولى من أيمانكم هذه المبالغين فيها.
3 جملة تذيلية تحمل التهديد لهم إذ هم كاذبون في أيمانهم وغير صادقين في أقوالهم وأعمالهم.
4 {فإن تولوا} : أصله: تتولوا حذفت التاء الأولى تخفيفاً. وهو حذف شائع وسائغ.
5 قال مالك: هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: هذه الآية تضمنت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وهو كذلك وصدق ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" وفي الآية دليل نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة دينه، إذ تضمنت الآية إخباراً بالغيب فكان كما أخبر تعالى به.(3/584)
فيظهره على الدين كله ويحفظه من التغيير والتبديل والزوال إلى قرب الساعة وقوله تعالى: {وليبدلنهم من1 بعد خوفهم أمناً} إذ نزلت هذه الآية والمسلمون خائفون بالمدينة لا يقدر أحدهم أن ينام وسيفه بعيد عنه من شدة الخوف من الكافرين والمنافقين وتألب الأحزاب عليهم ولقد أنجز تعالى لهم ما وعدهم فاستخلفهم وأمكن لهم وبدلهم بعد خوفهم أمناً فلله الحمد والمنة.
وقوله: {يعبدونني2 لا يشركون بي شيئاً} هذا ثناء عليهم، وتعليل لما وهبهم وأعطاهم يعبدونه لا يشركون به شيئاً وقد فعلوا وما زال بقاياهم من الصالحين إلى اليوم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً اللهم اجعلنا منهم. وقوله تعالى: {ومن كفر بعد ذلك فأولئك3 هم الفاسقون} وعيد وتهديد لمن كفر بعد ذلك الإنعام العظيم والعطاء الجزيل فأولئك هم الفاسقون عن أمر الله الخارجون عن طاعته المستوجبون لعذاب الله ونقمته. عياذاً بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإقسام بالله تعالى وحرمة الحلف بغيره تعالى.
2- عدم الثقة في المنافقين لخلوهم من موجب الصدق في القول والعمل وهو الإيمان.
3- طاعة رسول الله موجبة للهداية لما فيه من سعادة الدارين ومعصيته موجبة للضلال والخسران.
4- صدق وعد الله تعالى لأهل الإيمان وصالح الأعمال من أصحاب رسول الله.
5- وجوب الشكر على النعم بعبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات.
6- الوعيد الشديد لمن أنعم الله عليه بنعمة أمن ورخاء وسيادة وكرامة فكفر تلك النعم ولم يشكرها فعرضها للزوال.
__________
1 فان قيل: وأين الأمن وقد قتل عمر وعثمان وعلي غيلة؟ فالجواب: ليس الأمن مانعاً من الموت فالموت حتم مع الأمن ومع الخوف لأنها آجال محدودة لا تزيد ولا تنقص:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
وأخرج مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
2 الجملة يصح أن تكون حالاً أي: في حال عبادتهم الله تعالى بالإخلاص والعلم. وجائز أن تكون مستأنفة تحمل الثناء عليهم بعبادة ربهم تعالى وحده.
3 المراد بالكفر: كفران النعم، وقد حصل هذا بعد القرون المفضلة حيث فسدت العقائد وتمزقت الروابط، وأهمل الدين، وسلب الله ما أعطى، وفي هذا دليل آخر على صحة القرون والنبوة والإسلام إذ هذه أخبار غيب تمت كما أعلنت.(3/585)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
شرح الكلمات:
وأقيموا الصلاة: أي أدوها أداءاً كاملاً تاماً مراعين فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها حتى تثمر الزكاة والطهر في نفوسكم.
وآتوا الزكاة: أي المفروضة من المال الصامت كالذهب والفضة والحرث والناطق كالأنعام من إبل وبقر وغنم.
وأطيعوا الرسول: أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره ونهيه والأخذ بإرشاده وتوجيهه.
لعلكم ترحمون: أي رجاء أن يرحمكم ربكم في دنياكم وآخرتكم فلا يعذبكم فيهما.
معجزين في الأرض: أي معجزين الله تعالى بحيث لا يدركهم ولا ينزل بهم نقمته وعذابه.
ولبئس المصير: أي النار إذ هي المأوى الذي يأوون إليه ويصيرون إليه.
معنى الآيتين:
يأمر تعالى عباده المؤمنين من أصحاب الرسول الكريم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره ونهيه وإرشاده وتوجيهه وذلك رجاء أن يرحموا في الدارين، ولا يعذبوا فيهما. وهذا وإن كان موجهاً ابتداءً إلى أصحاب الرسول فإنه عام بعد ذلك فيشمل كل مؤمن ومؤمنة في الحياة وقوله {لا تحسبن1 الذين كفروا معجزين2 في الأرض} هذا خطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهاه ربه تعالى أن يظن أن الذين كفروا مهما كانت قوتهم سيفوتون الله تعالى ويهربون مما أراد بهم من خزي وعذاب، لا، لا بل سيخزيهم ويذلهم ويسلط عليهم، وقد فعل {ومأواهم النار} يوم القيامة {ولبئس المصير} نار جهنم يصيرون إليها.
__________
1 الآية تحمل تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرئت بالتاء: (تحسبن) خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل ذي أهلية من أصحابه والمؤمنين والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وقرئت الآية: (ولا يحسبن) بالياء وهى قراءة ضعيفة إذ حسب هنا لمعنى ظن ولم يذكر لها إلا مفعولا واحداً وهي تنصب مفعولين.
2 المعجز: الذي يعجز غيره أي: يجعله عاجزاً عن غلبه، والأرض في الآية هي أرض الدنيا هذه.(3/586)
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحصول على رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر والتمكين والأمن والسيادة وفي الآخرة بدخول الجنة.
2- تقرير عجز الكافرين وأنهم لن يفوتوا الله تعالى مهما كانت، قوتهم وسينزل بهم نقمته ويحل عليهم عذابه.
3- بيان مصير أهل الكفر وأنه النار والعياذ بالله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)(3/587)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
شرح الكلمات
ليستأذنكم: أي ليطلب الإذن منكم في الدخول عليكم.
ملكت أيمانكم: من عبيد وإماء.
لم يبلغوا الحلم منكم: أي سن التكليف وهو وقت الاحتلام خمسة عشر سنة فما فوق.
تضعون ثيابكم: أي وقت القيلولة للاستراحة والنوم.
ثلاث عورات لكم: العورة ما يستحي من كشفه، وهذه الأوقات الثلاثة ينكشف فيها الإنسان في فراشه فكانت بذلك ثلاث عورات.
بعدهن: أي بعد الأوقات الثلاثة المذكورة.
طوافون عليكم: أي للخدمة.
بعضكم على بعض: أي بعضكم طائف على بعض.
فليستأذنوا: أي في جميع الأوقات لأنهم أصبحوا رجالاً مكلفين.
والقواعد من النساء: أي اللاتي قعدن عن الحيض والولادة لكبر سنهن.
أن يضعن ثيابهن: كالجلباب والعباءة والقناع والخمار.
غير متبرجات بزينة: أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال.
وأن يستعففن خير لهن: بأن لا يضعن ثيابهن خير لهن من الأخذ بالرخصة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} 1 روى في نزول هذه الآية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب يدعوه له فوجده نائمًا في وقت الظهيرة فدق الباب ودخل فاستيقظ عمر فانكشف منه شيء فقال عندها عمر وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعة إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجداً شكراً لله تعالى.
فقوله تعالى: {يا أيها الذي آمنوا} هو نداء لكل المؤمنين في كل عصورهم وديارهم. وقوله {ليستأذنكم الذي ملكت أيمانكم2 والذين لم يبلغوا الحلم منكم} أي علموا أطفالكم وخدمكم الاستئذان عليكم في هذه الأوقات الثلاثة وأمروهم بذلك. وقوله: {ثلاث مرات} هي المبينة في قوله: {من قبل صلاة
__________
1 قيل: إن الآية منسوخة وقيل: هي للندب أو هي واجبة إذ كانوا لا أبواب لغرفهم والصحيح أنها محكمة وأن الاستئذان من هؤلاء المذكورين واجب وسواء كان العبد وغداً أو ذا منظر حسن.
2 {ملكت أيمانكم} هم العبيد والذكر والأنثى في هذا سواء.(3/588)
الفجر} وهي ساعات النوم من الليل، {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} وهي القيلولة، {ومن بعد صلاة العشاء1} وهي بداية نوم الليل. وقوله: {ثلاث عورات لكم} 2 أي هي منطقة انكشاف العورة فيها فأطلق عليها اسم العورة والعورة ما يستحي من كشفه وقوله: {ليس عليكم ولا عليهم} أي ولا على الأطفال والخدم {جناح بعدهن} أي بعد المرات الثلاث وقوله: {طوافون عليكم} أي يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة.
{بعضكم على بعض} أي بعضكم يدخل على بعض للخدمة فلا غنى عنه فلذا فلا حرج عليكم في غير الأوقات الثلاثة.
وقوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي كهذا التبيين الذي بين لكم حكم الاستئذان يبين الله لكم الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والآداب فله الحمد وله المنة وقوله: {والله عليم} أي بخلقه وما يحتاجون إليه في إكمالهم وإسعادهم {حكيم} فيما يشرع لهم ويفرض عليهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية (59) {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي إذا بلغ الطفل سن الاحتلام وهو البلوغ واحتلم فعليه أن لا يدخل على غير محارمه إلا بعد الاستئذان كما يفعل ذلك الرجال من قبله إذ قد أصبح بالبلوغ الذي علامته الاحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة فأكثر أصبح رجلاً تماماً فعليه أن لا يدخل بيت أحد إلا بعد أن يستأذن هذا معنى قوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} وهم الرجال وقوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته} أي المتضمنة لأحكامه وشرائعه {والله عليم} بخلقه وما يصلح لهم {حكيم} في شرعه وهذه حال توجب طاعته تعالى فيما يأمر به وينهى عنه وقوله تعالى: {والقواعد3 من النساء اللاتي لا يرجون4 نكاحاً5} أي والتي قعدت عن الحيض والولادة لكبر سنها بحيث أصبحت لا ترجو نكاحاً ولا يرجى منها ذلك فهذه ليس عليها إثم ولا حرج في أن تضع خمارها من فوق رأسها، أو عباءتها من فوق ثيابها التي على
__________
1 يكره تسمية العشاء بالعتمة. روى مسلم أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم معتِّمون بالإبل وفي رواية فإنها في كتاب الله العشاء وإنها أي الأعراب تعتم بحلاب الإبل وفي الصحيح "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل".
2 العورة: في الأصل الخلل والنقص ثم أطلقت على ما يكره انكشافه والنظر إليه.
3 المراد أنّ الأطفال إذا بلغوا الحلم تغيّر حكمهم في الاستئذان فأصبحوا كالرجال في الاستئذان على دخول بيوت الغير كما تقدم في آية الاستئذان {يا أيها الذين آمنوا إذا دخلتم بيوتاً..} الآية.
4 القواعد: جمع قاعد بدون تاء وهي: الآيسة من الحيض والحمل.
5 هذه الجملة متضمنة وصفاً كاشفاً للقواعد وليس قيداً.(3/589)
جسمها حال كونها غير متبرجة1 أي مظهرة زينة لها كخضاب اليدين والأساور في المعصمين والخلاخل في الرجلين، أو أحمر الشفتين، وما إلى ذلك مما هو زينة يجب ستره وقوله تعالي: {وأن يستعففن خير لهن} أي ومن لازمت خمارها وعجارها ولم تظهر للأجانب كاشفة وجهها ومحاسنها خير لها حالاً ومآلاً، وحسبها أن يختار الله لها فما اختاره لها لن يكون إلا خيراً في الدنيا والآخرة فعلى المؤمنات أن يخترن ما اختار الله لهن. وقوله: {والله سميع عليم} أي سميع لأقوال عباده عليم بأعمالهم وأحوالهم فليتق فيطاع ولا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب تعليم الآباء والسادة والأطفال والخدم الاستئذان عليهم في الأوقات الثلاثة المذكورة والمعبر عنها بالعورات.
2- وجوب استئذان الأولاد إذا احتلموا الاستئذان على من يريدون الدخول عليه في بيته لأنهم أصبحوا رجالاً مكلفين.
3- بيان رخصة كشف الوجه لمن بلغت سناً لا تحيض فيها ولا تلد للرجال الأجانب ولو أبقت على سترها واحتجابها لكان خيراً لها كما قال تعالى: {وأن يستعففن خير لهن} .
لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا
__________
1 ورد وعيد شديد للمتبرجات فقد روى مسلم أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.. "(3/590)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61)
شرح الكلمات:
الحرج: الضيق والمراد به هنا الإثم أي لا إثم على المذكورين في مؤاكلة غيرهم.
أو ما ملكتم مفاتحه: أي مما هو تحت تصرفكم بالأصالة أو بالوكالة كوكالة على بستان أو ماشية.
أو صديقكم: أي من صدقكم الود وصدقتموه.
جميعاً أو أشتاتاً: أي مجتمعين من على الطعام أو متفرقين.
من عند الله: لأنه هو الذي شرعها وأمر بها، وما كان من عند الله فهو خير عظيم.
طيبة: أي تطيب بها نفس المسلم عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هداية المؤمنين وبيان ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية الكريمة. رفع تعالى عنهم حرجاً عظيماً كانوا قد شعروا به فآلمهم وهو أنهم قد رأوا أن الأكل مع ذوي العاهات وهم العميان والعرجان والمرضي وأهل الزمانة قد يترتب عليه أن يأكلوا ما لا يحل لهم أكله لأن أصحاب هذه العاهات لا يأكلون كما يأكل الأصحاء كماً وكيفاً والله يقول: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} كما أن أصحاب العاهات قد تحرجوا أيضاً من مؤاكلة الأصحاء معهم خوفاً أن يكونوا يتقذرونهم فآلمهم ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فرفع الحرج عن الجميع الأصحاء وأصحاب العاهات فقال تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم1 أو بيوت آبائكم
__________
1 لم تذكر بيوت الأبناء لأن بيوتهم داخلة في بيوت الآباء للحديث "أنت ومالك لأبيك" والحديث وإن ضعف فما هو إلا شاهد فقط وإلا فمعلوم بالضرورة أن الأولاد عادة وعرفاً يكونون في بيوت آبائهم ولذا لم يذكروا.(3/591)
أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم، أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه} بوكالة وغيرها، {أو صديقكم1} وهو من صدقكم المودة وصدقتموه فيها مادام الرضا حاصلاً، وان لم يحضروا ولا استئذان2 وإن حضروا. ورفع تعالى عنهم حرجاً آخر وهو أن منهم من كان يتحرج في الأكل وحده، ويرى أنه لا يأكل إلا مع غيره وقد يوجد من يتحرج أيضاً في الأكل الجماعي خشية أن يؤذي الآكل معه فرفع تعالى ذلك كله بقوله: {وليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً} أي مجتمعين3 على قطعة واحدة4 {أو أشتاتاً} أي متفرقين كل يأكل وحده متى بدا له ذلك وهذا كله ناجم عن تقواهم لله تعالى وخوفهم من معاصيه إذ قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} .
وقوله تعالى: {فإذا دخلتم5 بيوتاً فسلموا على أنفسكم} فأرشدهم إلى ما يجلب محبتهم وصفاء نفوسهم ويدخل السرور عليهم وهو أن من دخل بيتاً من البيوت بيته كان أو بيت غيره عليه أن يسلم على أهل البيت قائلاً السلام عليكم، وإن كان البيت ما به أحد أو كان مسجداً قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله: {تحية من عند الله} إذ هو تعالى الذي أمر بها وأرشد إليها وقوله {مباركة} أي ذات بركة تعود على الجميع وكونها طيبة أن نفوس المسلم عليهم تطيب بها.
وقوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون} أي كذلك البيان الذي بين لكم من الأحكام والآداب يبين الله لكم الآيات الحاملة للشرائع والأحكام رجاء أن تفهموا عن الله تعالى شرائعه وأحكامه فتعملوا بها فتكملوا وتسعدوا عليها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإذن العام في الأكل مع ذوي العاهات بلا تحرج من الفريقين.
__________
1 روي عن ابن عباس أنه قال: الصديق أوكد من القرابة أي: أقوى صلة وقال: ألا ترى استغائة الجهنميين: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} .
2 قال ابن العربي رحمه الله تعالى قولاً حسناً في هذا الحكم قال: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولاً، فإذا كان محرزاً دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول إن كان غير محرز عنهم إلاّ بإذنهم.
3 لا ينبغي أن يُفهم من كلمة مجتمعين أفهم رجال أجانب مع نساء أجنبيات بل هم محارم لبعضهم بعضاً.
4 هذا يشمل النهد ووليمة العرس وغيرها والنهد هو أن يكون القوم في سفر فيجمعون الطعام من بضهم بعضاً ويخلطونه ويأكلونه مجتمعين فهو جائز مباح.
5 ورد كيفية الدخول إلى المنزل وهو أن يقول: "اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا، ثم يسلّم على أهله " (في صحيح مسلم) .(3/592)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
2- الإذن في الأكل من بيوت من ذكر في الآية من الأقارب والأصدقاء.
3- جواز الأكل الجماعي والانفرادي بلا تحرج.
4- مشروعية التحية عند الدخول على البيوت وأن فيها خيراً وفضلاً.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
شرح الكلمات
أمر جامع: كخطبة الجمعة ونحوها مما يجب حضوره كاجتماع لأمر هام كحرب ونحوها.
يستأذنوه: أي يطلبوا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإذن.
لبعض شأنهم: أي لبعض أمورهم الخاصة بهم.
دعاء الرسول: أي نداءه فلا ينادي بيا محمد ولكن بيا نبي الله ورسول الله.
كدعاء بعضكم بعضاً: أي كما ينادي بعضكم بعضاً بيا عمر ويا سعيد مثلاً.
يتسللون منكم لواذاً: أي ينسلون واحداً بعد واحد يستر بعضهم بعضاً حتى يخرجوا خفية.(3/593)
أن تصيبهم فتنة: أي زيغ في قلوبهم فيكفروا.
قد يعلم ما أنتم عليه: أي من الإيمان والنفاق، وإرادة الخير أو إرادة الشر. وقد هنا للتأكيد عوملت معاملة رب إذ هي للتقليل وتكون للتكثير أحياناً.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن المؤمنين الكاملين في إيمانهم هم الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا كانوا معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر جامع يتطلب حضورهم كالجمعة واجتماعات الحروب، لم يذهبوا حتى يستأذنوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأذن لهم هذا معنى قوله تعالى: {إنما1 المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} .
وقوله تعالى: {إن الذين يستئذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم بأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم} في هذا تعليم للرسول والمؤمنين وتعريض بالمنافقين. فقد أخبر تعالى أن الذين يستأذنون النبي هم المؤمنون بالله ورسوله، ومقابله أن الذين لا يستأذنون ويخرجون بدون إذن هم لا يؤمنون بالله ورسوله وهم المنافقون حقاً، وأمر رسول الله إذا استأذنه المؤمنون لبعض شأنهم أن يأذن لمن شاء منهم ممن لا أهمية لحضوره كما أمره أن يستغفر الله لهم لما قد يكون غير عذر شرعي يبيح لهم الاستئذان وطمعهم في المغفرة بقوله إن الله غفور رحيم.
وقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم2 بعضا} هذا يحتمل أموراً كلها حق الأول أن يحاذر المؤمنون إغضاب رسول الله بمخالفته فإنه إن دعا عليهم هلكوا لأن دعاء الرسول لا يرد فليس هو كدعاء غيره، والثاني أن لا يدعوا الرسول باسمه يا محمد ويا أحمد بل عليهم أن يقولوا يا نبي الله ويا رسول الله، والثالث أن لا يغلظوا في العبارة بل عليهم أن يلينوا اللفظ ويرققوا العبارة إكباراً وتعظيماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا ما تضمنه قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا}
وقوله: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} أعلمهم تعالى أنه يعلم قطعاً أولئك المنافقين الذين يكونون في أمر جامع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتسللون واحداً بعد آخر بدون أن يستأذنوا متلاوذين في هروبهم من المجلس يستر بعضهم بعضاً، وفي هذا تهديد بالغ
__________
1 إنما: أداة حصر، وهي هنا كذلك، فالمعنى أنه لا يتم ولا يكمل إيمان مَنْ آمن بالله ورسوله إلاّ إذا كان من الرسول في سامعا غير معنّت, فلا يناقض للرسول في قول ولا عمل أبداً.
2 يريد: لا يصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم، بل يعظّموه، شاهده من سورة الحجرات: {إنّ الدين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} .(3/594)
الخطورة لأولئك المنافقين. وقوله: {فليحذر1 الذين يخالفون عن أمر2} أي أمر رسول الله وهذا عام للمؤمنين والمنافقين وإلى يوم القيامة فليحذروا أن تصيبهم فتنة وهي زيغ في قلوبهم فيموتوا كافرين، أو يصيبهم عذاب أليم في الدنيا والعذاب ألوان وصنوف.
وقوله تعالى: {ألا إن لله ما في السموات والأرض} أي خلقاً وملكماً وعبيداً يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد ألا فَليتقّ اللهُ عز وجل في رسوله فلا يخالف أمره ولا يعصي في نهيه فإن الله لم يرسل رسولاً إلا ليطاع بإذنه.
وقوله تعالى: {قد يعلم ما انتم عليه} إخبار يحمل التهديد والوعيد أيضاً فما عليه الناس من أقوال ظاهرة وباطنة معلومة لله تعالى، ويوم يرجعون إلى الله بعد موتهم فينبئهم بما عملوا من خير وشر ويجزيهم به الجزاء الأوفى، {والله بكل شيء عليم} فليحذر أن يخالف رسوله أو يعصي وليتق في أمره ونهيه فإن نقمته صعبة وعذابه شديد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الاستئذان من إمام المسلمين إذا كان الأمر جامعاً. وللإمام أن يأذن لمن شاء ويترك من يشاء حسب المصلحة العامة.
2- وجوب تعظيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحرمة إساءة الأدب معه حياً وميتاً.
3- وجوب طاعة رسول الله وحرمة مخالفة أمره ونهيه.
4- المتجرىء على الاستهانة بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله.
__________
1 دلت الآية على أن الأمر للوجوب، وتوجيهه أنّ الله تعالى قد حذّر من مخالفة أمره وتوعّد بالعقاب عليها بقوله: {أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} .
2 قيل: إن {عن} في قوله: {يخالفون عن أمره} زائدة، والتقدير: يخالفون أمره وقيل: ليست زائدة إذ المعنى: يخالفون بعد أمره فعن بمعنى: عند وهذا كقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربّه} أي: بعد أمر ربّه إياه بأن يسجد لأدم.(3/595)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
سورة الفرقان
مكية
وآياتها سبع1 وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3)
شرح الكلمات
تبارك: أي تكاثرت بركته وعمت الخلائق كلها.
الذي نزل الفرقان: أي الله الذي نزل القرآن فارقاً بين الحق والباطل.
على عبده: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ليكون للعالمين نذيرا: أي ليكون محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نذيراً للعالمين من الإنس والجن أي مخوفاً لهم من عقاب الله وعذابه إن كفروا به ولم يعبدوه ويوحدوه.
فقدره تقديرا: أي سواه تسوية قائمة على أساس لا اعوجاج فيه ولا زيادة ولا نقص عما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
ضراً ولا نفعاً: أي لا دفع ضر ولا جلب نفع.
موتاً ولا حياة ولا نشوراً: أي لا يقدرون على إماتة أحد ولا إحيائه ولا بعثاً للأموات.
__________
1 من الجائز أن يكون فيها بعض الآيات مدنياً إلا أن أسلوبها ومحتواها ظاهر في أنه مكيّ وهو الصحيح، وسميت بالفرقان لذكر لفظ الفرقان فيها ثلاث مرات.(3/596)
معنى الآيات:
يثني الرب تبارك1 وتعالى على نفسه بأنه عَظُم خيره وعمت بركته المخلوقات كلها الذي نزل الفرقان الكتاب العظيم الذي فرق به بين الحق والباطل والتوحيد والشرك والعدل والظلم أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله وسلم ليكون2 للعالمين الإنس والجن نذيراً ينذرهم عواقب الكفر والشرك والظلم والشر والفساد وهي عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة وقوله: {الذي له ملك السموات والأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً وهو ثناء بعد ثناء وقوله: {ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء3 فقدره تقديراً} وهو ثناء آخر عظيم أثنى تبارك وتعالى فيه على نفسه بالملك والقدرة والخلق والعلم والحكمة وقوله: {واتخذوا من4 دونه آلهة} أصناماً {لا يخلقون شيئاً وهو يخلقون ولا يملكون لأنفسهم} فضلاً عن غيرهم من عابديهم {ضّراً ولا نفعاً} أي دفع ضرٍ ولا جلب نفع، ولا يملكون موتاً لأحد ولا حياة لآخر ولا نشوراً5 للناس يوم القيامة. أليس هذا موضع تعجب واستغراب أمع الله الذي عمت بركته الأكوان وأنزل الفرقان ملك ما في السموات والأرض تنزه عن الولد والشريك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وخلق كل شيء فقدره تقديراً يتخذون من دونه آلهة أصناماً لا تدفع عن نفسها ضراً ولا نجلب لها نفعاً ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً فسبحان الله أين يذهب بعقول الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته وهو إفاضة الخير على الخلق والملك والقدرة والعلم والحكمة.
2- التنديد بالشرك والمشركين.
__________
1 للفظ تبارك دلالات كلها حق، منها: تقدس، وتعالى، ودام وثبت إنعامه. قال الثعلبي: لا يقال: متبارك ولا مبارك لأنه يوقف في أسمائه تعالى وصفاته على ما ورد عنه في كتابه وعلى لسان رسوله قال الطِّرمّاح:
تباركت لا معطٍ لشيء منعته
وليس لما أعطيت يا ربّ مانع2 {ليكون} أي: من نزل عليه القرآن وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعالمين نذيراً في الآية دليل على عموم رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن هذا لغيره إلا نوحاً بعد الطوفان، فقد عمّت رسالته الإنس.
3 فيه ردّ على المجوس والثنوية القائلين: هناك خالقان خالق للظلمة وخالق للنور أو خالق للخير وخالق للشر، وهو رأي عفن وجهل مظلم.
4 في هذه الجملة تعجب من اتخاذ المشركين آلهة دونه تعالى وهي جمادات لا حياة فيها ولا تملك نفعاً ولا ضراً.
5 النشور: الإحياء بعد الموت قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا
يا عجباً للميّت الناشر(3/597)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
3 – تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9)
شرح الكلمات:
إفك افتراه: أي ما القرآن إلا كذباً افتراه محمد وليس هو بكلام الله تعالى هكذا قالوا.
ظلمًا وزوراً: أي فرد الله عليهم قولهم بقوله فقد جاءوا ظلمًا حيث جعلوا الكلام المعجز الهادي إلى الإسعاد والكمال البشري إفكا مختلقاً وزوراً بنسبة ما هو برىء منه إليه.
اكتتبها: أي طلب كتابتها له فكتبت له.(3/598)
يعلم السر: أي ما يسره أهل السماء والأرض وها يخفونه في نفوسهم.
أو يلقى إليه كنز: أي من السماء فينفق منه ولا يحتاج معه إلى الضرب في الأسواق.
جنة يأكل منها: بستان فيه ما يغنيه من أنواع الحبوب والثمار.
رجلاً مسحوراً: مخدوعاً مغلوباً على عقله.
ضربوا لك الأمثال: أي بالسحر والجنون والشعر والكهانة والكذب وما إلى ذلك.
فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً: فضلوا الطريق الحق وهو أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا يهتدون.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن أولئك المشركين الحمقى الذين اتخذوا من دون الله رب العالمين آلهة أصناماً لا تضر ولا تنفع أنهم زيادة على سفههم في اتخاذ الأحجار آلهة يعبدونها قالوا في القرآن الكريم والفرقان العظيم ما هو إلا إفك أي كذب اختلقه محمد وأعانه عليه قوم1 آخرون يعنون اليهود ساعدوه على الإتيان بالقرآن. فقد جاءوا بهذا القول الكذب الممقوت ظلماً وزوراً ظلماً لأنهم جعلوا القرآن المعجز الحامل للهدى والنور جعلوه كذباً وجعلوا البريء من الكذب والذي لم يكذب قط كاذباً فكان قولهم فيه زوراً وباطلاً. وقوله تعالى: {وقالوا أساطير2 الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} هذه الآية نزلت رداً على شيطان قريش النضر بن الحارث إذ كان يأتي الحيرة ويتعلم أخبار ملوك فارس ورستم. وإذا حدث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه محذراً إياهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فإذا قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المجلس جاء هو فجلس وقال تعالوا أقص عليكم إني أحسن حديثاً من محمد، ويقول إن ما يقوله محمد هو من أكاذيب القصاص وأساطيرهم التي سطروها في كتبهم فهو يحدث بها وهي تملى عليه أي يمليها عليه غيره صباحاً ومساءاً فرد تعالى هذه الفرية بقوله لرسوله: {قل3 أنزله} أي القرآن
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: {قوم آخرون} هم: أبو فكيهة مولى بن الحضرمي وعدّاس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب.
2 هذه الجملة ردّ على من زعم من المشركين أنّ محمداًَ يتلقى القرآن من أهل الكتاب وذكر السرّ دون الجهر لأنّ من علم السر فهو بالجهر أعلم وأمرٌ آخر: لو كان القرآن مأخوذاً عن أهل الكتاب لما كان فيه زيادة عمّا عندهم في حين أنّ فيه من العلوم والمعارف مالا يخطر حتى على البال ولو لم يكن كذلك لقدروا على الإتيان بسورة من مثله.
3 الأساطير: جمع أسطورة كأحاديث جمع أحدوثة. وقال بعضهم إنها جمع أسطار كأقوال وأقاويل: {تُملى} أصلها: تُملل فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف.(3/599)
{الذي يعلم السر في السموات والأرض} أي سر ما يسره أهل السموات وأهل الأرض فهو علام الغيب المطلع على الضمائر العالم بالسرائر، ولولا أن رحمته سبقت غضبه لأهلك من كفر به وأشرك به سواه {إنه كان غفوراً رحيماً} يستر زلات من تاب إليه ويرحمه مهما كانت ذنوبه.
وقوله تعالى: {وقالوا: ما لهذا1 الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا2 أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} هذه كلمات رؤوساء قريش وزعمائها لما عرضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يترك دعوته إلى ربه مقابل ما يشاء من ملك أو مال أو نساء أو جاه فرفض كل ذلك فقالوا له إذاً فخذ لنفسك لماذا وأنت رسول الله تأكل الطعام وتمشي في الأسواق3 تطلب العيش مثلنا فسل ربك ينزل إليك ملكاً فيكون معك نذيراً أو يلقي إليك بكنز من ذهب وفضة تعيش بها أغنى الناس، أو يجعل لك جنة من نخيل وعنب، أو يجعل لك قصوراً من ذهب تتميز بها عن الناس وتمتاز فيعرف قدرك وتسود قومك وقوله تعالما: {وقال الظالمون4} أي للمؤمنين من أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً أي أنكم بإتباعكم محمداً فيما جاء به ويدعو إليه ما تتبعون إلا رجلاً مسحورً، أي مخدوعاً مغلوباً على عقله لا يدري ما يقول ولا ما يفعل أي فاتركوه ولا تفارقوا ما عليه آباؤكم وقومكم. وقوله تعالى: {انظر كيف ضربوا5 لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً} أي انظر يا رسولنا إلى هؤلاء المشركين المفتونين كيف شبهوا لك الأشباه وضربوا لك الأمثال الباطلة فقالوا فيك مرة هو ساحر، وشاعر وكاهن ومجنون فضاعوا في هذه التخرصات وضلوا طريق الحق فلا يرجى لهم هداية بعد، وذلك لبعد ضلالهم فلا يقدرون على الرجوع إلى الحق وهو معنى قوله: {فلا يستطيعون سبيلاً} .
__________
1 الاستفهام للتعجب، وجملة: {يأكل الطعام} جملة حالية، وقولهم: {هذا الرسول} من باب المجاراة وإلاّ فهم مكذّبون برسالته.
2 لولا: حرف تحضيض استعملت هنا في التعجيز أي: لولا أنزل عليه ملك لاتبعناه وإنهم كاذبون.
3 {الأسواق} جمع سوق، وسميت السوق سوقاً لقيام الناس فيها على ساق للبيع والشراء وورد ذكرها في الكتاب والسنة والعمل فيها مباح وكان الرسول يأتيها يدعو أهلها إلى الإسلام وورد أنها شرّ البقاع والمساجد خيرها وهي مقابلة، وورد أنه من قال فيها رافعاً بها صوته: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير واليه المصير وهو على كل شيء قدير كتب له ألف ألف حسنة. "
4 هذا القائل هو: عبد الله بن الزبعري أيّام جاهلتيه إذ أسلم فيما بعد وحسن إسلامه.
5 هذه الجملة تعجبية وهي إخبار منه تعالى عن حال المشركين إذ ضلوا في تلفيق المطاعن والبحث عن التهم لدفع الحق وإبطاله فعجزوا وتاهوا في طرق طلبهم ما يبطلون به دعوة الله تعالى.(3/600)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
هداية الآيات:
من هداية الآيات
1- بيان ما قابل به المشركون دعوة التوحيد من جلب كل قول وباطل ليصدوا عن سبيل الله وما زال هذا دأب المشركين إزاء دعوة التوحيد إلى اليوم وإلى يوم القيامة.
2- تقرير الوحي الإلهي والنبوة المحمدية.
3- بيان حيرة المشركين إزاء دعوة الحق وضربهم الأمثال الواهية الرخيصة للصّدّ عن سبيل الله، وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل والخيبة المرة.
تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولا (16)
شرح الكلمات:
تبارك: أي تقدس وكثر خيره وعمت بركته.
خيراً من ذلك: أي الذي اقترحه المشركون عليك.
ويجعل لك قصوراً: أي كثيرة لا قصراً وحداً كما قال المشركون.
بل كذبوا بالساعة: أي لم يكن المانع لهم من الإيمان كونك تأكل الطعام وتمشي في(3/601)
الأسواق بل تكذيبهم بالبعث والجزاء هو السبب في ذلك.
تغيظاً وزفيرا: أي صوتاً مزعجاً من. نغيظها على أصحابها المشركين بالله الكافرين به.
مقرنين: أي مقرونة أيديهم مع أعناقهم في الأصفاد.
دعوا هنالك ثبوراً: أي نادوا يا ثبورنا أي يا هلاكنا إذ الثبور الهلاك.
كانت لهم جزاءً ومصيراً: أي ثواباً على إيمانهم وتقواهم، ومصيراً صاروا إليها لا يفارقونها.
وعداً مسؤلا: أي مطالباً به إذ المؤمنون يطالبون به قائلين ربنا وآتنا ما وعدتنا والملائكة تقول ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على مقترحات المشركين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ قالوا لولا أنزل إليه ملك، أو يلقى إليه كنزٌ وتكون له جنة يأكل منها فقال تعالى: لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تبارك1 الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} أي الذي اقترحوه وقالوا خذ لنفسك من ربك بعد أن رفضت طلبهم بترك دعوتك والتخلي عن رسالتك {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي من خلال أشجارها وقصورها2 {ويجعل لك قصوراً} لا قصراً3 واحداً كما قالوا، ولكنه لم يشأ ذلك لك من هذه الدار لأنها دار عمل ليست دار جزاء وراحة ونعيم فربك قادر على أن يجعل لك ذلك ولكنه لم يشأه والخير فيما يشاءه فاصبر فإن المشركين لم يكن المانع لهم من الإيمان هو كونك بشراً تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، أو أن الله تعالى لم ينزل إليك ملكاً بل المانع هو تكذيبهم بالساعة فعلة كفرهم وعنادهم هي عدم إيمانهم بالبعث والجزاء فلو آمنوا بالحياة الثانية لطلبوا كل سبب ينجي في عذابها ويحصل نعيمها {بل كذبوا4 بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة5} أي القيامة {سعيراً} أي ناراً مستعرة أو هي دركة من دركات النار تسمى سعيراً.
__________
1 أي: إن شاء جعل لك خيراً من ذاك الذي اقترحه المشركون عليك وأن معنى لو الشرطية وجواب الشرط محذوف. أي: لجعل ولكن لم يشأ ذلك لأنه غير لائق بمقامك في هذه الدار وهو لك في الآخرة.
2 قرىء {ويجعل} بالرفع على الاستئناف، وقراءة الأكثر بالجزم على محل الشرط: إن شاء جعل لك.
3 القصر في اللغة: كل بناء رفيع عالٍ حصين. وأما البيت فقد يكون من لبن وطين وقد يكون من شعر.
4 بل: هنا للإضراب والانتقال. إضراب على جواب اقتراحهم، وانتقال إلى ذكر علة كفرهم وعنادهم واقتراحهم ما اقترحوه، وهو تكذيبهم بالبعث الآخر، إذ هو سبب عنادهم وكفرهم وفسادهم.
5 الساعة: اسم غلب على عالم الخلود. تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث.(3/602)
وقوله تعالى: {إذا رأتهم1 من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} هذا وصف للسعير وهو أنها إذا رأت أهلها من ذوي الشرك والظلم والفساد من مكان بعيد تغيظت عليهم تغيظاً وزفرت زفيراً مزعجاً فيسمعونه فترتعد له فرائصهم. {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين} مشدودة أيديهم إلى أعناقهم بالأصفاد {دعوا هنالك} أي نادوا بأعلى أصواتهم يا ثبوراه أي يا هلاكاه أحضر فهذا وقت حضورك: فيقال لهم: خزياً وتبكيتا وتحسيراً: {لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً} ، فهذا أوآن هلاككم وخزيكم وعذابكم وهنا يقول تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قل} لأولئك المشركين المكذبين بالبعث والجزاء: {أذلك} أي المذكور من السعير والإلقاء فيها مقرونة الأيدي بالأعناق وهم يصرخون يدعون بالهلاك {خير أم2 جنة الخلد التي وعد المتقون} أي التي وعد الله تعالى بها عباده الذين اتقوا عذابه بالإيمان به وبرسوله وبطاعة الله ورسوله قطعاً جنة الخلد خير ولا مناسبة بينها وبين السعير، وإنما هو
التذكير لا غير وقوله: {كانت لهم} أي جنة الخلد كانت لأهل الإيمان والتقوى {جزاء} أي ثواباً، {ومصيراً} يصيرون إليه لا يفارقونه وقوله تعالى: {لهم فيها ما يشاءون} أي فيها من أنواع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن وقوله: {خالدين} . أي فيها لا يموتون ولا يخرجون، وقوله: {كان على ربك وعداً مسئولاً} أي تفضل ربك أيها الرسول بها فوعد بها عباده المتقين وعداً يسألونه إياه فينجزه لهم فهم يقولون: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على
رسلك} ، {والملائكة تقول ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم} .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن مرد كفر الكافرين وظلم الظالمين وفساد المفسدين إلى تكذيبهم بالبعث والجزاء
__________
1 إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم فقد ورد مرفوعا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً. قيل يا رسول الله ولها عينان؟ قال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: {إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول: وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر". الحديث صححه ابن العربي في القبس.
2 إن قيل: كيف قال: {أذلك خير} ولا خير في النار؟ قيل: هذا من باب قول العرب: الشقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ وقد علم أنّ السعادة أحب إليه. قال حسان:
أتهجوه ولست له بكفىء
فشركما لخيركما الفداء
وقطعاً الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا شرّ فيه البتة.(3/603)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
في الدار الآخرة فإن من آمن بالبعث الآخر سارع إلى الطاعة والاستقامة.
2- تقرير عقيدة البعث الآخر بوصف بعض ما يتم فيه من الجزاء بالنار والجنة.
3- فضل التقوى وأنها ملاك الأمر فمن آمن واتقى فقد استوجب الدرجات العلى جعلنا الله تعالى من أهل التقوى والدرجات العلى.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الاسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
شرح الكلمات:
يحشرهم: أي يجمعهم
وما يعبدون من دون الله: من الملائكة والأنبياء والأولياء والجن.
أم هم ضلوا السبيل: أي طريق الحق بأنفسهم بدون دعوتكم إياهم إلى ذلك.
سبحانك: أي تنزيهاً لك عما لا يليق بجلالك وكمالك.
ولكن متعتهم: أي بأن أطلت أعمارهم ووسعت عليهم أرزاقهم.
وكانوا قوماً بوراً: أي هلكى, إذ البوار الهلاك.
ومن يظلم منكم: أي ومن يشرك منكم أيها الناس.(3/604)
وجعلنا بعضكم لبعض فتنة: أي بليّة فالغني مبتلَى بالفقير، والصحي بالمريض، والشريف بالوضيع فالفقير يقول ما لي لا أكون كالغني والمريض يقول مالي لا أكون كالصحيح، والوضيع يقول ما لي لا أكون كالشريف مثلاً.
أتصبرون: أي اصبروا على ما تسمعون مِمّن ابتليتم بهم، إذ الاستفهام للأمر هنا.
وكان ربك بصيراً: أي بمن يصبر وبمن يجزع ولا يصبر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر لها في القيامة إذ إنكار هذه العقيدة هو سبب كل شر وفساد في الأرض فقوله تعالى: {ويوم يحشرهم1 وما يعبدون من دون الله} أي اذكر يا رسولنا يوم يحشر الله المشركين وما كانوا يعبدونهم من دوننا كالملائكة والمسيح والأولياء والجن. {فيقول} لمن كانوا يعبدونهم {أآنتم2 أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل؟} أي ما أضللتموهم ولكنهم ضلوا طريق الحق بأنفسهم فلم يهتدوا إلى عبادتي وحدي دون سواي. فيقول المعبودون {سبحانك} أي تنزيهاً لك وتقديساً عن كل ما لا يليق بجلالك وكمالك {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء3} أي لا يصح منا اتخاذ أولياء من دونك فندعو عبادك إلى عبادتهم فنضلهم بذلك، {ولكن متعتهم} يا ربنا {وآباءهم} من قبلهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق فانغمسوا في الشهوات والملاذ {حتى نسوا الذكر4} أي نسوا ذكرك وعبادتك وما جاءتهم به رسلك فكانوا بذلك قوماً بوراًُ أي هلكى خاسرين.
وقوله تعالى: {فقد5 كذبوكم بما تقولون6} يقول تعالى للمشركين فقد كذبكم من كنتم
__________
1 قرأ الجمهور: {نحشرهم} بالنون للعظمة، و {يقول} بالياء وهو التفات من التكلم إلى الغيبة حسن. وقرأ حفص وغيره بالياء في {يحشرهم} و {يقول} معاً وقرأ بعضٌ بالنون فيهما معاً.
2 الاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد.
3 الأولياء جمع ولي بمعنى التابع فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء أي: على السيد والعبد، والناصر والمنصور والمراد هنا من الولي: التابع.
4 قيل: الذكر: القرآن، وقيل: الشكر على الإحسان، وما في التفسير أشمل.
5 الفاء الفصيحة إذّ أفصحت على جواب شرط محذوف تقديره:
إن قلتم هؤلاء آلهتنا حقد كذبوكم بما تقولون، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف.
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
6 قرأ الجمهور بالباء وقرأ حفص بالتاء: {تقولون} .(3/605)
تشركون به، فقامت الحجة عليكم فأنتم الآن لا تستطيعون صرفاً للعذاب عنكم ولا نصراً أي ولا تجدون من ينصركم فيمنع العذاب عنكم.
وقوله تعالى: {ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيراً} هذا خطاب عام لسائر الناس يقول تعالى للناس ومن يشرك منكم بي أي يعبد غيري نذقه أي يوم القيامة عذاباً كبيراً وقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك} أي يا رسولنا {من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق 1} إذاً فلا تهتم بقول المشركين {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} ولا تحفل به فإنهم يعرفون ذلك ولكنهم يكابرون ويجاحدون.
وقوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة2} أي هذه سنتنا في خلقنا نبتلي بعضهم ببعض فنبتلي المؤمن بالكافر والغني بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع، وننظر من يصبر ومن يجزع ونجزي الصابرين بما يستحقون والجزعين كذلك.
وقوله تعالى: {أتصبرون} هذا الاستفهام معناه الأمر أي اصبروا إذاً ولا تجزعوا أيها المؤمنون من أذى المشركين والكافرين لكم. وقوله تعالى: {وكان ربك بصيرا} أي وكان ربك أيها الرسول بصيراً بمن يصبر وبمن يجزع فاصبر ولا تجزع فإنها دار الفتنة والامتحان وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- يا لهول الموقف إذا سئل المعبودون عمن عبدوهم، والمظلومون عمن ظلموهم.
3- براءة الملائكة والأنبياء والأولياء من عبادة من عبدوهم.
4- خطورة طول العمر وسعة الرزق إذ غالباً ما ينسى العبد بهما ربه ولقاءه.
5- تقرير أن الدنيا دار ابتلاء فعلى أولى الحزم أن يعرفوا هذا ويخلصوا منها بالصبر والتحمل في ذات الله حتى يخرجوا منها ولو كفافاً لا لهم ولا عليهم.
__________
1 أخرج مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها".
2 هذه الجملة تذييلية الغرض منها التسلية للرسول صلى عليه وسلم والمؤمنين من أجل ما يلاقون من عناد المشركين وأذاهم. والاستفهام في: {أتصبرون} معناه الحث على الصبر والأمر به نحو قوله: {فهل أنتم منتهون} .
أي: عما حرّم من الخمر والميسر.(3/606)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
الجزء التاسع عشر
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24)
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا: أي المكذبون بالبعث إذ لقاء العبد ربه يكون يوم القيامة.
لولا أنزل علينا الملائكة: أي هلاَّ أنزلت علينا ملائكة تشهد لك بأنك رسول الله.
أو نرى ربنا: أي فيخبرنا بأنك رسوله وأن علينا أن نؤمن بك.
استكبروا في أنفسهم: أي في شأن أنفسهم ورأوا أنهم أكبر شيء وأعظمه غروراً منهم.
وعتوا عتواً كبيراً: أي طغوا طغياناً كبيراً حتى طالبوا بنزول الملائكة ورؤية الرب تعالى.
ويقولون حجراً محجوراً: أي تقول لهم الملائكة حراماً محرماً عليكم البشرى.
وقدمنا إلى ما عملوا: أي عمدنا إلى أعمالهم الفاسدة التي لم تكن على علم وإخلاص.
هباء منثوراً: الهباء ما يرى من غبار في شعاع الشمس الداخل من الكوى.
وأحسن مقيلاً: المقيل مكان الاستراحة في نصف النهار في أيام الحر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أقوال المشركين من قريش فقال تعالى {وقال الذين لا(3/607)
يرجون لقاءنا1} وهم المكذبون بالبعث المنكرون للحياة الثانية بكل ما فيها من نعيم وعذاب {لولا أنزل علينا الملائكة} أي هلا أنزل الله علينا الملائكة تشهد لمحمد بالنبوة {أو نرى2 ربنا} فيخبرنا بأن محمداً رسوله وأن علينا أن نؤمن به وبما جاء به ودعا إليه. قال تعالى {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً3} أي وعزتنا وجلالنا لقد استكبر هؤلاء المشركون المكذبون بالبعث في شأن أنفسهم ورأوا أنهم شيء كبير وعتوا أي طغوا طغياناً كبيراً في قولهم هذا الذي لا داعي إليه إلا الشعور بالكبر، والطغيان النفسي الكبير، وقوله {يوم يرون الملائكة} أي الذين يطالبون بنزولهم عليهم، وذلك يوم القيامة. لا بشرى يومئذ للمجرمين أي الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والظلم الفساد: {ويقولون} أي وتقول لهم الملائكة {حجراً محجوراً} أي حراماً4 محرماً عليكم البشرى بل هي للمؤمنين المتقين.
وقوله تعالى {وقدمنا5 إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء6 منثوراً} أي وعمدنا إلى أعمالهم التي لم تقم على مبدأ الإيمان والإخلاص والموافقة للشرع فصيرناها هباءً منثوراً كالغبار الذي يرى في ضوء الشمس الداخل مع كوة أو نافذة لا يقبض باليد ولا يلمس بالأصابع لدقته وتفرقه فكذلك أعمالهم لا ينتفعون منها بشيء لبطلانها وعدم الاعتراف بها.
وقوله تعالى {أصحاب الجنة} أي أهلها الذين تأهلوا لها بالإيمان والتقوى يومئذ أي يوم القيامة الذي كذب به المكذبون خير مستقراً أي مكان استقرار وإقامة وأحسن مقيلا7
__________
1 {لقاءنا} أي: لا يخافون لقاءنا ولا يأملونه ولا يبالون به، وهذا كلّه ناتج عن تكذيبهم بالبعث والدار الآخرة.
2 لما كانت الحياة الدنيا حياة ابتلاء امتنع أن يعطيهم ما طلبوا إذ لو أراهم الله تعالى نفسه أو أراهم ملائكته لآمنوا وبطل حينئذ التكليف الذي أقام تعالى عليه الحساب والجزاء مع أن رؤية الله لا يقدرون عليها لكن على فرض لو أقدرهم الله عليها.
3 العتو: أشد الكفر وأفحش الظلم.
4 حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلاّ من شهد أن لا إله إلا الله وأقام شرائع الله، وكذلك الحال يوم القيامة لا بشرى يومئذ للمجرمين:
ومن شواهد أن حجراً بمعنى محرماً وحراماً قول المتلمس:
حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها
حِجر حرام إلا تلك الدهاريس
الدهاريس: الدراهم.
5 قدمنا: عمدنا قال الشاعر:
وقدم الخوارج والضلال
إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال
6 تصغر هباء: هبيٌ وواحده: هبأة، وهمز في هباء لالتقاء الساكنين وجمع هباة: أهباء.
7 المقيل: الذي يؤوى إليه في وقت القيلولة للاستراحة فيه وفي الحديث: "قيلوا فإنّ الشياطين لا تقيل" وروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له ما أطول هذا اليوم فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا".(3/608)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
أي مكان استراحة من العناء في نصف النهار أي خير وأحسن من أهل النار المشركين المكذبين وفي هذا التعبير إشارة إلى أن الحساب قد ينقضي في نصف يوم الحساب وذلك أن الله سريع الحساب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه غلاة المشركين من قريش من كبر وعتو وطغيان.
2- إثبات رؤية الملائكة عند قبض الروح، ويوم القيامة.
3- نفي البشرى عن المجرمين وإثباتها للمؤمنين المتقين.
4- حبوط عمل المشركين وبطلانه حيث لا ينتفعون بشيء منه البتة.
5- انتهاء حساب المؤمنين قبل نصف يوم الحساب الذي مقداره خمسون ألف سنة.
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولا (29)
شرح الكلمات:
بالغمام: أي عن الغمام وهو سحاب أبيض رقيق كالذي كان لبني إسرائيل في التيه.
الملك: أي الملك الحق لله ولم يبق لملوك الأرض ومالكيها ملك في شيء ولا لشيء.
على الكافرين عسيرا: أي صعباً شديداً.
يعض الظالم على يديه: أي ندماً وأسفاً على ما فرط في جنب الله.(3/609)
سبيلا: أي طريقاً إلى النجاة بالإيمان والطاعة.
لم أتخذ فلاناً خليلاً: أي أبي بن خلف خليلاً صديقاً ودوداً.
لقد أضلني عن الذكر: أي عن القرآن وما يدعو إليه من الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.
وكان الشيطان: شيطان الجن وشيطان الإنس معاً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرضي مظاهر القيامة وبيان أحوال المكذبين بها فقال تعالى {ويوم} أي اذكر {يوم تشقق1 السماء2 بالغمام} أي عن الغمام ونُزّل الملائكة تنزيلاً وذلك لمجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. وقوله تعالى {الملك يومئذ الحق3} أي الثابت للرحمن عز وجل لا لغيره من ملوك الدنيا ومالكيها، وكان ذلك اليوم يوماً على الكافرين4 عسيراً لا يطاق ولا يحتمل ما فيه من العذاب والأهوال وقوله {يوم يعض الظالم على يديه} أي المشرك الكافر بيان لعسر اليوم وشدته حيث يعض الظالم على يديه تندماً وتحسراً وأسفاً على تفريطه في الدنيا في الإيمان وصالح الأعمال.. يقول يا ليتني أي متمنياً: {اتخذت مع الرسول5 سبيلا} أي طريقاً إلى النجاة من هول هذا اليوم وذلك بالإيمان والتقوى. وينادي مرة أخرى قائلاً {يا ويلتا} أي يا هلكتي احضري فهذا وقت حضورك، ويتمنى مرة أخرى فيقول {يا ليتني لم اتخذ6 فلاناً خليلاً} وهو شيطان من الإنس أو الجن كان قد صافاه ووالاه في الدنيا فغرر به وأضله عن الهدى. فقال في تحسر {لقد أضلني عن الذكر} أي القران بعد إذ جاءني من ربي بواسطة الرسول وفيه هداي
__________
1 قرأ نافع {تشَقَق} بتشديد الشين والقاف، وقرأ حفص: {تشقق} بتخفيف الشين وأصلها تتشقق فمن حذف إحدى التائين للتخفيف قرأ بتخفيف الشين ومن أدغم التاء في الشين شدّدها.
2 الباء: بمعنى عن نحو: رميت بالقوس وعن القوس، والغمام: سحاب أبيض رقيق مثل الضباب هو الذي قال تعالى فيه: {هل أن ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} .
3 الحق: نعت للملك. المبتدأ والخبر: الجار والمجرور، والجملة تتضمن إبطال أي ملك لأحد سوى الرحمن عز وجل إذ هو الملك الحق والمالك الحق.
4 مفهوم الخطاب انه على المؤمنين غير عسير فهو إذاً يسير وهو كذلك.
5 أهل التفسير على أن هذا الظالم هو عقبة بن أبي معيط وأنّ خليله أميّة بن خلف، فعقبة قتله علي في أسرى بدر وأمية قتله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان هذا من دلائل النبوة. لأنه أخبر عنهما بهذا فقُتلا كافرين إلى النار.
6 هذا هو عقبة بن أبي معيط وفلان هو: أمية بن خلف. في الآية دليل على وجوب البعد عن قرناء السوء، وفي الحديث الصحيح: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إنا أن يحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإما أن نجد ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة " رواه مسلم.(3/610)
وبه هدايتي، قال تعالى {وكان الشيطان للإنسان خذولاً1} أي يورطه ثم يتخلى عنه ويتركه في غير موضع وموطن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر البعث والجزاء وبذكر أحوالها وبعض أهوالها.
2- إثبات مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة.
3- تندم الظلمة وتحسرهم على ما فاتهم من الإيمان والطاعة لله ورسوله.
4- بيان سوء عاقبة موالاة شياطين الإنس والجن وطاعتهم في معصية الله ورسوله.
5- تقرير مبدأ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ عقبة بن أبي معيط هو الذي أطاع أبي بن خلف حيث آمن، ثم لامه أُبى بن خلف فارتد عن الإسلام فهو المتندم المتحسر القائل {يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر ... }
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا (34)
__________
1 الخذول: كثير الخذلان, وخذله: إذا ترك نصرته وهو قادر عليها فالخذل والخذلان: معناهما: ترك نصر المستنجد مع القدرة على نصره.(3/611)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
شرح الكلمات:
مهجوراً: أي شيئاً متروكاً لا يلفت إليه.
هادياً ونصيراً: أي هادياً لك إلى طريق الفوز والنجاح وناصراً لك على كل أعدائك.
جملة واحدة: أي كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور دفعة واحدة فلا تجزئة ولا تفريق.
لنثبت به فؤادك: أي نقوي قلبك لتتحمل أعباء الرسالة وإبلاغها.
ورتلناه ترتيلاً: أي أنزلناه شيئاً فشيئاً آيات بعد آيات وسورة بعد أخرى ليتيسر فهمه وحفظه.
شر مكاناً: أي ينزلونه وهو جهنم والعياذ بالله منها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال البعث الآخر الذي أنكره المشركون وكذبوا فقال تعالى {وقال الرسول1 يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} هذه شكوى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقومه إلى ربه ليأخذهم بذلك. وهجرهم للقرآن تركهم سماعه وتفهمه والعمل بما فيه.
وقوله تعالى: {وكذلك2 جعلنا لكلى نبي عدواً من المجرمين} أي وكما جعلنا لك أيها الرسول أعداء لك من مجرمي قومك جعلنا لكل نبي قبلك عدواً من مجرمي قومه، إذاً فاصبر وتحمل حتى تبلغ رسالتك وتؤدي أمانتك، والله هاديك إلى سبيل نجاحك وناصرك على أعدائك. وهذا معنى قوله تعالى {وكفى بربك هادياً ونصيراً} . وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} أي وقال المكذبون بالبعث المنكرون للنبوة المحمدية المشركون بالله آلهة من الأصنام هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة مع بعضه بعضاً لا مفرقاً آيات وسوراً أي كما نزلت التوراة جملة واحدة والإنجيل والزبور وهذا من باب التعنت منهم والاقتراحات التي لا معنى لها إذ هذا ليس من شأنهم ولا مما يحق لهم الخوض فيه، ولكنه الكفر والعناد. ولما كان هذا مما قد يؤلم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد تعالى عليهم
__________
1 الرسول: هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو المشركين من قومه إلى ربه تعالى يوم القيامة لتحق عليهم كلمة العذاب.
2 هذه الجملة تحمل العزاء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتسلية من جراء ما يجد من قومه المكذبين المعادين المحاربين، ومعنى الآية: وكما جعلنا لك عدواً من قومك وهو أبو جهل جعلنا لكل نبي عدواً.(3/612)
بقوله { (كذلك1} أي أنزلناه كذلك منجماً ومفرقاً لحكمة عالية وهي تقوية قلبك وتثبيته لأنه كالغيث كلما أنزل أحيا موات الأرض وازدهرت به ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزول المطر دفعة واحدة. وقوله تعالى: {ورتلناه ترتيلا} أي أنزله مرتلاً أي شيئاً فشيئاً ليتيسر حفظه وفهمه والعمل به.
وقوله تعالى {ولا يأتونك2 بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن3 تفسيراً} هذا بيان الحكمة في نزول القرآن مفرقاً لا جملة واحدة وهو أنهم كلما جاءوا بمثل أو عرض شبهة ينزل القرآن الكريم بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم، وإلغاء شبهتهم، وإحقاق الحق في ذلك وبأحسن تفسير لما اشتبه عليهم واضطربت نفوسهم فيه وقوله تعالى {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً4} أي أولئك المنكرون للبعث المقترحون نزول القرآن جملة واحدة هم الذين يحشرون على وجوههم تسحبهم الملائكة على وجوههم إلى جهنم لأنهم مجرمون بالشرك والتكذيب والكفر والعناد. أولئك البعداء شر مكاناً يوم القيامة، وأضل سبيلاً في الدنيا، إذ مكانهم جهنم، وسبيلهم الغواية والضلالة والعياذ بالله من ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من هجروا القرآن الكريم فلم يسمعوه ولم يتفهموه ولم يعملوا به، وشكواه إياهم إلى الله عز وجل.
2- بيان سنة الله في العباد وهي أنه ما من نبي ولا هاد ولا منذر إلا وله عدو من الناس وذلك لتعارض الحق مع الباطل، فينجم عن ذلك عداء لازم من أهل الباطل لأهل الحق.
3- بيان الحكمة في نزول القرآن منجماً شيئاً فشيئاً مفرقاً.
4- بيان أن المجرمين. يحشرون على وجوههم لا على أرجلهم إلى جهنم إهانة لهم وتعذيباً.
__________
1 جائز أن يكون كذلك من كلام المشركين: أي: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك أي: كالتوراة والإنجيل فيتم الوقف على كذلك ثم يبتدئ {لنثبت به فؤادك} وما في التفسير أولى.
2 هذا كقولهم: {إن هذا غلاّ إفك افتراه} وقولهم: {أساطير الأولين} وقولهم: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} وقولهم {إن تتبعون إلاّ رجلا مسحورا} وقولهم: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} كل هذا الذي قالوه رد عليهم وأبطله بالحجج القوية فأسكتهم وأبطل دعاويهم.
3 أي: بما يقطع حجتهم ويلقمهم الحجر فلا يستطيعون الرد أو القول.
4 {سبيلا} منصوب على التمييز المحول عن فاعل، أي: ضلّت سبيلهم.(3/613)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
شرح الكلمات:
الكتاب: أي التوراة.
وزيراً: أي يشد أزره ويقويه ويتحمل معه أعباء الدعوة.
إلى القوم الذين كذبوا: هم فرعون وآله.
لما كذبوا الرسل: أي نوحاً عليه السلام.
وجعلناهم للناس آية: أي علامة على قدرتنا في إهلاك وتدمير الظالمين وعبرة للمعتبرين.
وعاداً وثمود: أي اذكر قوم عاد وثمود إلخ..
وأصحاب الرس: الرس بئر رس فيها قوم نبيهم، أي رموه فيها ودسوه في التراب.
وقروناً بين ذلك كثيرا: أي ودمرنا بين من ذكرنا من الأمم قروناً كثيراً.
تبرنا تتبيرا: أي دمرناهم تدميراً.
التي أمطرت مطر السوء: هي سدوم قرية قوم لوط.
لا يرجون نشوراً: أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء الآخر.(3/614)
معنى الآيات:
قوله تعالى {ولقد آتينا مرسى الكتاب} هذا شروع في عرض أمم كذبت رسلها وردت دعوة الحق التي جاءوا بها فأهلكهم الله تعالى ليكون هذا عظة للمشركين لعلهم يتعظون فقال تعالى وعزتنا لقد آتينا موسى بن عمران الكتاب الذي هو التوراة {وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً} أي معيناً، فقلنا أي لهما {اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا} وهم فرعون1 وملأه فأتوهم فكذبوهما فدمرناهم2 تدميراً كاملاً حيث أغرقوا في البحر، وقوله تعالى: {وقوم نوح} أي اذكر قوم نوح أيضاً فإنهم لما كذبوا الرسل3 أي كذبوا نوحاً ومن كذب رسولاً فكأنما كذب عامة الرسل أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم للناس بعدهم آية أي عبرة للمعتبرين وقوله {وأعتدنا} أي وهيأنا4 للظالمين في الآخرة عذاباً أليماً أي موجعاً زيادة على هلاك الدنيا، وقوله {وعاداً وثمود وأصحاب الرس5} أي أهلكنا الجميع ودمرناهم تدميراً لما كذبوا رسلنا وردوا دعوتنا، وقروناً أي وأهلكنا قروناً بين ذلك الذي ذكرنا كثيراً.
وقوله {وكلاً ضربنا له الأمثال} أي إقامة للحجة عليهم فما أهلكناهم إلا بعد الإنذار والإعذار لهم. وقوله {وكلاً تبرنا تبتيراً} أي أهلكناهم إهلاكاً لتكذيبهم رسلنا وردهم دعوتنا. وقوله: {ولقد6 أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء} أي ولقد مر أي كفار قريش على القرية التي أمطرت مطر السوء أي الحجارة وهي قرى قوم لوط سدوم وعمورة وغيرهما فأهلكهم لتكذيبهم رسولهم وإيتانهم الفاحشة وقوله تعالى {أفلم يكونوا يرونها} في سفرهم إلى الشام وفلسطين. فيعتبروا بها فيؤمنوا وهو استفهام تقريري وإذ كانوا يمرون بها ولكنهم لم يعتبروا لعلة وهي أنهم لا يؤمنون بالبعث الآخر وهو معنى قوله تعالى {بل كانوا لا يرجون نشوراً7} فالذي لا يرجو أن يبعث ويحاسب ويجزى لا يؤمن ولا يستقيم أبداً.
__________
1 فرعون وهامان والقبط.
2 في الآية حذف وهو: ما قدرناه في التفسير أي فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.
3 ذكر الجنس وهو الرسل والمراد نوح وحده لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلاّ نوح وحده.
4 وجائز أن يكون معنى الآية: هذه سبيلي في كل ظالم آخذه في الدنيا بالدمار والهلاك.
5 الرس: في اللغة البئر تكون غير مطوية والجمع رساس قال الشاعر:
تنابلة يحفرون الرسّاسا
يريد آبار المعادن.
6 اقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجب من عدم اعتبارهم.
7 النشور: مصدر نشر الميت: أحياه قال الشاعر:
يالبكر أنشروا لي كليباً
يالبكر أين أين الفرار(3/615)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم بعد الإنذار والإعذار إليها.
2- بيان عاقبة المكذبين وما حل بهم من دمار وعذاب.
3- بيان علة تكذيب قريش للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به وهي تكذيبهم بالبعث والجزاء فلهذا لم تنفعهم المواعظ ولم تؤثر فيهم العبر.
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولا (41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44)
شرح الكلمات:
إن يتخذونك: أي ما يتخذونك.
إلا هزواً: أي مهزوءاً به.
أهذا الدي بعث الله رسولاً: أي في دعواه لا أنهم معترفون برسالته والاستفهام للتهكم والاحتقار.
إن كاد ليضلنا عن آلهتنا: أي قارب أن يصرفنا عن آلهتنا.
لولا أن صبرنا عليها: أي لصرفنا عتها.
أرأيت من اتخذ إلهه هواه: أي أخبرني عمن جعل هواه معبوده فأطاع هواه. فهل تقدر على هدايته.(3/616)
إن هم إلا كالأنعام: أي ما هم إلا كالأنعام في عدم الوعي والإدراك.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا} يخبر تعالي رسوله عن أولئك1 المشركين المكذبين بالبعث أنهم إذا رأوه في مجلس أو طريق ما يتخذونه إلا هزواً أي مهزوءاً به احتقاراً وازدراءً له فيقولون فيما بينهم، {أهذا الذي بعث الله2 رسولاً} وهو استفهام احتقار وازدراء لأنهم لا يعتقدون أنه رسول الله ويقولون {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا} أي يصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن صبرنا وثبتنا على عبادتها. وهذا القول منهم ناتج عن ظلمة الكفر والتكذيب بالبعث وقوله تعالى {وسوف يعلمون حين يرون العذاب} في الدنيا أو في الآخرة أي عندما يعاينون العذاب يعرفون من كان أضل سبيلا هم أم الرسول والمؤمنون، وفي هذا تهديد ووعيد بقرب عذابهم وقد حل بهم في بدر فذلوا وأسروا وقتلوا وتبين لهم أنهم أضل سبيلاً من النبيّ وأصحابه. وقوله تعالى لرسوله وهو يسليه ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته {أرأيت3 من اتخذ إلهه هواه} أخبرني عمن جعل معبوده هواه فلا يعبد غيره فكلما اشتهى شيئاً فعله بلا عقل ولا روية ولا فكر فقد يكون لأحدهم حجر يعبده فإذا رأى حجراً أحسن منه عبده وترك الأول فهذا لم يعبد إلا هواه وشهوته فهل مثل هذا الإنسان الهابط إلى مستوى دون البهائم تقدر على هدايته يا رسولنا؟ {أفأنت تكون عليه وكيلاً} أي حفيظاً تتولى هدايته أم أنك لا تقدر فاتركه لنا يمضي فيه حكمنا.
وقوله {أم تحسب} أيها الرسول أن أكثر هؤلاء المشركين يسمعون4 ما يقال لهم ويعقلون ما يطلب منهم إن هم إلا5 كالأنعام فقط بل هم أضل6 سبيلاً من الأنعام إذ الأنعام
__________
1 جواب {إذا رأوك} قوله: {إن يتخذونك إلاّ هزوا} .
2 {رسولا} منصوب على الحال، والعائد محذوف تقديره، بعثه الله حال كونه رسولا.
3 الاستفهام للتعجيب أي: عجب الله تعالى رسوله من حال المشركين أي: من إضمارهم الشرك وإصرارهم عليه مع إصرارهم أن الله تعالى خالقهم ورازقهم ثم يعمد أحدهم إلى حجر يعبده. قال ابن عباس: الهوى إنه يعبد من دون الله ثم تلا هذه الآية: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} وقد كان الرجل منهم إذا هوى شيئاً عبده حتى إنه ليعبد الحجر أياماً ثم يرى غيره فيترك الأول ويعبد الثاني.
4 أي: سماع قبول أو يتفكرون فيما تقول فيعقلونه.
5 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها في جواب سؤال لأن ما تقدمها في إنكار سمعهم يثير في النفس سؤالاً عن نفي سماعهم وفهمهم فأجيب {إن هم إلاّ كالأنعام) .
6 هم أضل من الأنعام لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك بخلاف هؤلاء المشركين.(3/617)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
تعرف طريق مرعاها وتستجيب لنداء راعيها وهم على خلاف ذلك فجهلوا ربهم الحق ولم يستجيبوا لنداء رسوله إليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلاقي في سبيل الدعوة من سخرية به واستهزاء.
2- يتجاهل الإنسان الضال الحق وينكره حتى إذا عاين العذاب عرف ما كان ينكر، وآمن بما كان يكفر.
3- هداية الإنسان ممكنة حتى إذا كفر بعقله وآمن بشهوته وعبد هواه تعذرت هدايته وأصبح أضل من الحيوان وأكثر خسراناً منه.
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
شرح الكلمات:
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل: أي ألم تنظر إلى صنيع ربك في الظل كيف بسطه.
ولو شاء الله لجعله ساكناً: أي ثابتاً على حاله في الطول والامتداد ولا يقصر ولا يطول
ثم جعلنا الشمس عليه دليلا: أي علامة على وجوده إذ لولا الشمس لما عرف الظل.(3/618)
ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيرا: أي أزلناه بضوء الشمس على مهل جزءاً فجزءاً حتى ينتهي.
ثم جعلنا الليل لباساً: أي يستركم بظلامه كما يستركم اللباس.
والنوم سباتاً: أي راحة لأبدانكم من عناء عمل النهار.
وجعل النهار نشوراً: أي حياة إذ النوم بالليل كالموت والانتشار بالنهار كالبعث.
بشراً بين يدي رحمته: أي مبشرة بالمطر قبل نزوله, والمطر هو الرحمة.
ماء طهوراً: أي تتطهرون به من الأحداث والأوساخ.
لنحيي به بلدة ميتاً: أي بالزروع والنباتات المختلفة.
أنعاماً وأناسي كثيراً: أي حيواناً وأناساً كثيرين.
ولقد صرفناه بينهم: أي المطر فينزل بأرض قوم ولا ينزل بأخرى لحكم عالية.
ليذكروا: أي يذكروا فضل الله عليهم فيشكروا فيؤمنوا ويوحدوا.
فأبى أكثر الناس إلا كفوراً: أي فلم يذكروا وأبى أكثرهم إلا كفوراً جحوداً للنعمة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {ألم تر إلى1 ربك كيف مد الظل} 2 هذا شروع في ذكر مجموعة من أدلة التوحيد وهي مظاهر لربوبية الله تعالى المقتضية لألوهيته فأولاً الظل وهو المشاهد من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس وقد مده الخالق عز وجل أي بسطه في الكون, ثم تطلع الشمس فتأخذ في زواله وانكماشه شيئاً فشيئاً, ولو شاء الله تعالى لجعله ساكناً لا يبارح ولا يغادر ولكنه حسب مصلحة عباده جعله يتقاصر ويقبض حتى تقف الشمس في كبد السماء فيستقر ثم لما تدحض الشمس مائلة إلى الغروب يفيء أي يرجع شيئاً فشيئاً فيطول تدريجياً لتعرف به ساعات النهار وأوقات الصلوات حتى يبلغ من الطول حداً كبيراً كما كان في أول النهار ثم يقبض قبضاً يسيراً خفياً سريعاً حين تغرب الشمس ويغشاه ظلام الليل. هذه آية من آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته بعباده تجلت في الظل الذي
__________
1 جائز أن تكون الرؤية هنا بصرية وعلمية، معاً إذ بالعين يشاهد الظل وزواله وبالقلب يعلم ذلك كذلك.
2 الظل بالغداء والفيء بالعشي قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحا نستطيعه
ولا الفيء من برد العشي نذوق(3/619)
قال تعالى فيه {ألم تر} أيها الرسول أي تنظر إلى صنيع ربك جل جلاله {كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكنا} ينتقل، {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} إذ بضوءها يعرف، فلولا الشمس لما عرف الظل وقوله تعالى {ثم قبضناه إلينا قبضاه يسيراً} حسب سنته ففي خفاء كامل وسرعة تامة يقبض الظل نهائياً ويحل محله الظلام الحالك.
وثانياً: في الليل والنهار قال تعالى: {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً1} أي ساتراً يستركم بظلامه كما تستركم الثياب {والنوم2 سباتاً} أي وجعل النوم قطعاً للعمل فتحصل به راحة الأبدان {وجعل النهار نشوراً3} أي حياة بعد وفاة النوم فيتنشر فيه الناس لطلب الرزق بالعمل بالأسباب والسنن التي وضع الله تعالى لذلك.
وثالثا: إرسال الرياح للقاح السحب للمطار لإحياء الأرض بعد موتها بالقحط والجدب قال تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح4} هو لا غيره من الآلهة الباطلة {أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} أي مبشرات بالمطر متقدمة عليه وهو الرحمة. وهي بين يديه فمن يفعل هذا غير الله؟ اللهم إنه لا أحد.
ورابعاً: إنزال الماء الطهور العذب الفرات للتطهير به وشرب الحيوان والإنسان قال تعالى {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً5 لنحي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً أي إبلاً وبقراً وغنماً {وأناسي كثيراً} أي أناساً كثيرين وهم الآدميون ففي خلق الماء وإنزاله وإيجاد حاجة في الحيوان والإنسان إليه ثم هدايتهم لتناوله وشربه كل هذا آيات الربوبية الموجبة لتوحيد الله تعالى.
وخامساً: تصريف المطر بين الناس فيمطر في أرض ولا يمطر في أخرى حسب لحكمة الإلهية والتربية الربانية. قال تعالى: {ولقد صرفناه بينهم6} أي بين الناس كما
__________
1 قال ابن العربي ظنّ بعض الجهال أن كون الليل لباساً يجزىء من صلى فيه عارياً وهو لا يجزىء ولو أجزأ لأجزأ من أغلق باب غرفته وصلى عرياناً.
2 أصل السبت: القطع والتمدد فهو بانقطاع البدن عن العمل تحصل له الراحة لذا قيل للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة.
3 كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أصبح يقول: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور".
4 قيل: إن تكوين الرياح سببه التقاء حرارة جانب من الجر ببرودة جانب آخر تنشأ السحب.
5 أكثر الفقهاء على أن الماء الطهور غير الطاهر فالطهور: هو الذي تزال به الأحداث بخلاف الطاهر فلذا كل طهور طاهر وليس كل طاهر طهوراً.
6 وجائز أن يراد بقوله {صرفناه بينهم} القرآن الكريم إذ جرى ذكره أول السورة وفي أثنائها أيضاً.(3/620)
هو مشاهد إقليم يسقى وآخر يحرم، وقوله تعالى: {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً1} أي جحوداً لإنعام الله عليهم وربوبيته عليهم وألوهيته لهم. وهو أمر يقتضى التعجب والاستغراب. هذه مظاهر الربويية المقتضية للألوهية، {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عرض الأدلة الحسية على وجوب عبادة الله تعالى وتوحيده فيها ووجوب الإيمان بالبعث والجزاء الذي أنكره المشركون فضلوا ضلالاً بعيداً.
2- بيان فائدة الظل إذ به تعرف ساعات النهار وبه يعرف وقت صلاة الظهر والعصر فوقت الظهر من بداية الفيء، أي زيادة الظل بعد توقفه من النقصان عند وقوف الشمس في كبد السماء، ووقت العصر من زيادة الظل مثله بمعنى إذا دخل الظهر والظل أربعة أقدام أو ثلاثة أو أقل أو أكثر فإذا زاد مثله دخل وقت العصر فإن زالت الشمس على أربعة أقدام فالعصر يدخل عندما يكون الظل ثمانية أقدام وإن زالت الشمس على ثلاثة أقدام فالعصر على ستة أقدام وهكذا.
3- الماء الطهور وهو الباقي على أصل2 خلقته فلم يخالطه شيء يغير طعمه أو لونه أو ريحه. وبه ترفع الأحداث وتغسل النجاسات، ويحرم منعه عمن احتاج إليه من شرب أو طهارة.
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
__________
1 قال عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا، وأيّده النحاس وقال: لا نعلم خلافاً أن الكفر هنا هو قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا روى الربيع بن صبيح قال: مُطر الناس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة فلما أصبحوا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أصبح الناس فيها رجلين: شاكراً وكافراً فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه. وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا".
2 أحكام المياه: 1- قليل الماء ينجسه قليل النجاسة وكثيره لا ينجسه. 2- الماء طهور ما بقي على أصل خلقته فإن خالطه ما غيّر أحد أوصافه: الريح واللون والطعم سلبت طهوريته. 3- الماء المتغيّر بطول المكث طهور. 4-كره بعض أهل العلم الوضوء بسؤر النصراني، وقد توضأ عمر من بيت نصرانية وقال لها: اسلمي تسلمي فكشف عن رأسها وإذا به مثل الثغامة وقالت: عجوز كبيرة وإنما أموت الآن فقال عمر: اللهم أشهد خرجه الدارقطني 5- سؤر الكلب لا يتوضأ به ويغسل الإناء سبعاً. 6- ما مات في الماء مما لا دم له كالحشرات لا يسلب طهورية الماء. 7- سؤر الهر طاهر لحديث أبي قتادة.(3/621)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
شرح الكلمات:
لبعثنا في كل قرية نذيراً: أي رسولاً ينذر أهلها عواقب الشرك والكفر.
وجاهدهم به جهاداً كبيراً: أي بالقرآن جهاداً كبيراً تبلغ فيه أقصى غاية جهدك.
مرج البحرين: أي خلط بينهما وفي نفس الوقت منع الماء الملح أن يفسد الماء العذب.
وجعل بينهما برزخاً: أي حاجزاً بين الملح منهما والعذب.
وحجراً محجوراً: أي وجعل بينهما سداً مانعاً فلا يحلو الملح، ولا يملح العذب.
خلق من الماء بشراً: أي خلق من الماء الإنسان والمراد من الماء النطفة.
فجعله نسباً وصهراً: أي ذكراً وأنثى أي نسباً ينسب إليه، وصهراً يصهر إليه أي يتزوج منه.
ما لا يضرهم ولا ينفعهم: أي أصناماً لا تضر ولا تنفع.
وكان الكافر على ربه ظهيرا: أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعداد مظاهر الربوبية المستلزمة للتوحيد قال تعالى {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} أي في كل مدينة نذيراً أي رسولاً يندر الناس عواقب الشرك والكفر,(3/622)
ولكنا لم نشأ لحكمة اقتضتها ربوبيننا وهي أن تكون أيها الرسول أفضل الرسل وأعظم منزلة وأكثرهم ثواباً فحبوناك بهذا الفضل فكنت رسول كل القرى أبيضها وأسودها فأصبر وتحمل، واذكر شرف منزلتك {فلا تطع الكافرين} في أي أمر أرادوه منك {وجاهدهم} به أي بالقرآن وكله حجج وبينات جهاداً كبيراً تبلغ فيه أقصى1 جهدك. بعد هذه الجملة الاعتراضية من الكلام الإلهي قال تعالى مواصلاً ذكر مظاهر ربوبيته تعالى على خلقه.
{وهو الذي مرج البحرين} الملح والعذب أي أرسلهما مع بعضهما بعضاً {هذا عذب فرات} أي حلو {سائغ شرابه، وهذا ملح2 أجاج} أي لا يشرب {وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً} أي ساتراً مانعاً من اختلاط العذب بالملح مع وجودهما في مكان واحد، فلا يبغي هذا على هذا بأن يعذب الملح أو يملح العذب. وقوله تعالى {وهو الذي خلق من الماء بشراً} أي من المني ونطفته خلق الإنسان وجعله ذكراً وأنثى وهو معنى قوله {نسباً وصهراً3} أي ذوي نسب ينسب إليهم وهم الذكور، وذوات صهر يصاهر بهن وهن الإناث. وقوله تعالى {وكان ربك قديراً} أي على فعل ما يريده من الخلق والإيجاد أو التحويل والتبديل، والسلب والعطاء هذه مظاهر الربوبية المقتضية لعبادته وتوحيده والمشركون يعبدون من دونه أصناماً لا تنفعهم إن عبدوها، ولا تضرهم إن لم يعبدوها وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم فيعبدون الشيطان إذ هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وبذلك كان الكافر على ربه ظهيرا إذ بعبادته للشيطان يعينه على معصية الرب تبارك وتعالى وهو معنى قوله تعالى، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وكان الكافر على ربه ظهيرا أي معيناً للشيطان على الرحمن والعياذ بالله تعالى.
وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك لغير بشارة المؤمنين بالجنة ونذارة الكافرين بالنار أما هداية القلوب فهي إلينا من شئنا هدايته
__________
1 ولا يخالطه فتور، وقيل الجهاد بالسيف ويرده أن السورة مكية ولم يجر للسيف ذكر فكيف يكون المراد، وقيل: بالإسلام وهو أولى من السيف والقرآن اصح، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
2 الملح يوصف به الماء، ولا يقال مالح إلاّ نادراً والأجاج ما كان ملحاً مراً والعذب. الحلو والفرات: زائد الحلاوة، والبرزخ: الحاجز المانع والحرام المحرم أن يعذب الملح أو يملح العذب.
3 صهر الرجل: قريب زوجته وأصهاره: أقارب زوجته. وختن الرجل من تزوج قريبته، وأختانه: أقارب من زوّجه قريبته، والحم والجمع أحماء أقرباء زوج المرأء, والصهر والنسب: معنيان يَعُمّان كل قربى تكون بين آدميين، قال ابن العربي النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع وما في التفسير أوضح لأنه كقوله تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} .(3/623)
اهتدى ومن لم نشأها ضل. إلا أن الله يهدي ويضل حسب سنن له قد مر ذكرها مرات1.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإشارة إلى الحكمة في عدم تعدد الرسل في زمن البعثة المحمدية والاكتفاء بالرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- حرمة طاعة الكافرين في أمور الدين والشرع.
3- من الجهاد جهاد الكفار والملاحدة بالحجج القرآنية والآيات التنزيلية.
4- مظاهر العلم والقدرة الإلهية في عدم اختلاط البحرين مع وجودهما في مكان واحد. وفي خلق الله تعالى الإنسان من ماء وجعله ذكراً وأنثى للتناسل وحفظ النوع.
5- التنديد بالمشركين والكافرين المعينين للشيطان على الرحمن.
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
__________
1 من سنن الله تعالى في الهداية والإضلال, أن من طلب الهداية ورغب فيها وسألها من ربه تعالى ولازم الطلب هداه الله, ومن رغب عن الهداية وطلب الغواية وسلك مسالكها مفضلا لها على الهداية وأصر على ذلك أضله الله والعياذ بالله.(3/624)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
شرح الكلمات:
عليه من أجر: أي على البلاغ من أجر اتقاضاه منكم.
سبيلا: أي طريقاً يصل به إلى مرضاته والفوز بجواره، وذلك بإنفاق ماله في سبيل الله.
وسبح بحمده: أي قل سبحان الله وبحمده.
في ستة أيام: أي من أيام الدنيا التي قدرها وهي الأحد ... والجمعة.
ثم استوى على العرش: العرش سرير الملك والاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب.
فاسأل به خبيراً: أي أيها الإنسان إسأل خبيراً بعرش الرحمن ينبئك فإنه عظيم.
وزادهم نفوراً: أي القول لهم اسجدوا للرحمن زادهم نفوراً من الإيمان.
جعل في السماء بروجاً: هي إثنا عشر برجاً انظر تفصيلها في معنى الآيات.
سراجاً: أي شمساً.
خلفة: أي يخلف كل منهما الآخر كما هو مشاهد.
أن يذكر: أي ما فاته في أحدهما فيفعله في الآخر.
أو أراد شكوراً: أي شكراً لنعم ربه عليه فيهما بالصيام والصلاة.
معنى الآيات:
بعد هذا العرض العظيم لمظاهر الربوبية الموجبة للألوهية أمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين ما أسألكم على هذا البيان الذي بينت لكم ما تعرفون به إلهكم الحق فتعبدونه وتكملون على عبادته وتسعدون أجراً أي مالاً، لكن من شاء أن ينفق من ماله في وجوه البر والخير يتقرب به إلى ربه فله ذلك ليتخذ1 بنفقته في سبيل الله طريقاً إلى رضا ربه عنه ورحمته له.
وقوله {وتوكل2 على الحي الذي لا يموت} يأمر تعالى رسوله أن يمضي في طريق
__________
1 وجائز أن يكون {اتخذ إلى ربه سبيلا} بإتباع ديني أي: الإسلام حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة والإنفاق في سبيل الله تعالى داخل فيه، والحمد لله.
2 التوكل معناه: اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور مع إتيان الأسباب المشروعة للبلوغ إلى المطلوب مما هو خير ومعروف وأمر إدراك المطلوب إلى الله تعالى مع الرضا بما يتم من ربح أو خلافه ونجاح وغيره.(3/625)
دعوته مبلغاً عن ربه داعياً إليه متوكلاً عليه أي مفوضاً أمره إليه إذ هو الحي الذي لا يموت وغيره يموت، وأمره أن يستعين على دعوته وصبره عليها بالتسبيح فقال {وسبح بحمده} أي قل سبحان الله وبحمده، وسبحانك اللهم وبحمدك وهو أمر بالذكر والصلاة وسائر العبادات فإنها العون الكبير للعبد على الثبات والصّبر. وقوله تعالى {وكفى به بذنوب عباده خبيراً} أي فلا تكرب لهم ولا تحزن عليهم من أجل كفرهم وتكذيبهم وشركهم فإن ربك عالم بذنوبهم محص عليهم أعمالهم وسيجزيهم بها في عاجل أمرهم أو آجله. ثم أثنى تبارك وتعالى على نفسه بقوله {الذي خلق السموات والأرض وما بينهما1 في ستة أيام} مقدرة بأيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم استوى على العرش العظيم استواء يليق بجلاله وكماله. {الرحمن} الذي عمًت رحمته العالمين {فاسأل به خبيراً} أي فاسأل يا محمد2 بالرحمن خبيراً بخلقه فإنه خالق كل شيء والعليم بكل شيء فهو وحده العليم بعظمة عرشه وسعة ملكه وجلال وكمال نفسه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن} أي وإذا قال لهم الرسول أيها المشركون اسجدوا للرحمن ولا تسجدوا لسواه من المخلوقات. قالوا منكرين متجاهلين {ما الرحمن3؟} أنسجد لما تأمرنا أي أتريد أن تفرض علينا طاعتك {وزادهم} هذا القول {نفوراً} ، أي بعداً واستنكاراً للحق والعياذ بالله تعالى. وقوله تعالى {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً} أي تقدس وتنزه أن يكون له شريك في خلقه أو في عبادته الذي بعظمته جعل في السماء بروجاً وهي منازل الكواكب السبعة السيارة فلذا سميت بروجاً جمع برج وهو القصر الكبير وتعرف هذه البروج الاثنا عشر بالحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. والكواكب السبعة السيارة هي: المريخ، والزهرة وعطارد، والقمر، والشمس، والمشتري، وزحل. فهذه الكواكب تنزل في البروج كالقصور لها.
__________
1 قال {بينهما} ولم يقل بينهن لأنه أراد الصنفين أو النوعين أو الشيئين وهو أخص من كلمة بينهن وأخف على اللسان والمقصود ظاهر بكل من العبارتين جمع أو تثنية.
2 رجح بعضهم أن الباء هنا بمعنى عن أي: اسأل عن الرحمن خبيرا واستشهد بقول الشاعر:
فإن سألوني بالنساء فإنني
خبير بأدواء النساء طبيب
فقوله بالنساء أي: عن النساء. ورأي ابن كثير أن المسؤول هنا هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أعرف الخلق بالخالق وبعزته وعظمته جل جلاله.
3 إنهم بجهلهم أنكروا اسم الرحمن لله, وقالوا: يأمر بعبادة إله واحد وهو يدعو الله ويدعو الرحمن فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} الإسراء.(3/626)
وقوله تعالى {وجعل فيها سراجاً} هو الشمس {وقمراً منيراً} 1 هو القمر أي تعاظم وتقدس الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وقوله {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة2} أي يخلف بعضهما بعضاً فلا يجتمعان أبداً وفي ذلك من المصالح والفوائد مالا يقادر قدره ومن ذلك أن من نسي عملاً بالنهار يذكره في الليل فيعمله، ومن نسي عملاً بالليل يذكره بالنهار فيعمله3, وهو معنى قوله {لمن أراد أن يذكر} وقوله {أو أراد شكوراً} فإن الليل والنهار ظرفان للعبادة الصيام بالنهار والقيام بالليل فمن أراد أن يشكر الله تعالى على نعصه فقد وهبنا له فرصة لذلك وهو الليل للتهجد والقيام والنهار للجهاد والصيام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الله ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجراً ممن يدعوهم4 إلى الله تعالى ومن أراد أن يتطوع من نفسه فينفق في سبيل الله فذلك له.
2- وجوب التوكل على الله فإنه الحي الذى لا يموت وغيره يموت.
3- وجوب التسبيح والذكر والعبادة وهذه هي زاد العبد وعدته وعونه.
4- مشروعية السجود عند قوله تعالى وزادهم نفوراً للقارىء والمستمع5.
5- صفة استواء الرحمن على عرشه فيجب الإيمان بها على ما يليق بجلال الله وكماله
ويحرم تأويلها بالاستيلاء والقهر ونحوهما.
6- الترغيب في الذكر والشكر، واغتنام الفرص للعبادة والطاعة.
__________
1 قرىء فى الشاذ قُمرا بضم القاف وإسكان الميم وصاحب القراءة هو عصمة الذي يروي القراءات قال فيه أحمد بن حنبل: لا تكتبوا عنه وقد أولع أبو حاتم بالرواية عنه مع الأسف.
2 الخلفة: كل شيء بعد شيء ومنه قيل لليل والنهار خلفة لأن كلا منهما يخلف الثاني إذا ذهب ومنه قيل لورق النبات الذي يخلف الورق الأول خلفة ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة
وأطلاؤهن ينهض من كل مجثم
خلفة: هذه تذهب وتلك تأتي. والعين: جمع عيناء وأعين: واسعات العيون والمراد بقر الوحش والأطلاء: جمع طلا: ولد البقرة وولد الظبية الصغير، والمجثم: موضع الجثوم: أي المقام.
3 روى مسلم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما لمن صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل".
4 لو أعطي الداعي إلى الله تعالى من أوقاف وقفت لهذا الغرض أو أعطي من بيت المال ما يسد به خلته ويقضي به حاجته فأخذ فلا حرج.
5 هذه السجدة من عزائم السجدات فلا ينبغي أن يتركها القارىء ولا المستمع.(3/627)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)
شرح الكلمات:
يمشون على الأرض هوناً: في سكينة ووقار.
وإذا خاطبهم الجاهلون: أي بما يكرهون من الأقوال.
قالوا سلاماً: أي قولاً يسلمون به من الإثم، ويسمى هذا سلام1 المتاركة.
سجداً وقياماً: أي يصلون بالليل سجداً جمع ساجد.
إن عذابها كان غراماً: أي عذاب جهنم كان لازماً لا يفارق صاحبه.
__________
1 سلام المتاركة: هو أن يقول قولاً يسلم به من أذى الجاهل وذلك بأن يدفعه بالتي هي أحسن من الكلمات.(3/628)
إنها ساءت مستقراً ومقاماً: أي بئست مستقراً وموضع إقامة واستقرار.
لم يسرفوا ولم يقتروا: أي لم يبذروا ولم يضيقوا.
وكان بين ذلك قواماً: أي بين الإسراف والتقتير وسطاً.
التي حرم الله: وهي كل نفس آدمية إلا نفس الكافر المحارب.
إلا بالحق: وهو واحد من ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل ظلم وعدوان.
يلق أثاماً: أي عقوبة شديدة.
يبدل الله سيئاتهم حسنات: بأن يمحو بالتربة سوابق معاصيهم، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم.
معنى الآيات:
لما أنكر المشركون الرحمن {قالوا وما الرحمن} وأبوا أن يسجدوا للرحمن، وقالوا أن محمداً ينهانا عن الشرك وهو يدعو مع الله الرحمن فيقول يا الله يا رحمن، ناسب لتجاهلهم هذا الاسم الرحمن أن يذكر لهم صفات عباد الرحمن ليعرفوا الرحمن بعباده على حد "خيركم من إذا رُؤي ذُكر الله" فقال تعالى {وعباد الرحمن1} ووصفهم بثمان صفات وأخبر عنهم بما أعده لهم من كرامة يوم القيامة. الأولى في قوله {الذين يمشون على الأرض هوناً2} أي ليسوا جبابرة متكبرين، ولا عصاة مفسدين ولكن يمشون متواضعين عليهم السكينة والوقار، {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي السفهاء بما يكرهون من القول قالوا قولاً يسلمون3 به من الإثم فلم يردوا السيئة بالسيئة ولكن بالحسنة.
الثانية: في قوله {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً} أي يقضون ليلهم بين السجود
__________
1 {وعباد الرحمن} مبتدأ والخبر: إن أريد بهم أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة فالخبر: {الذين يمشون} وما بعده نعوت لهم وصفات، وإن أريد بهم عامة المؤمنين فالخبر: {أولئك يجزون الغرفة} والصلات الثمانية: صفات ونعوت لهم. وهذا الراجح.
2 الهون: اللين والرفق، والمشي الهون: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفق النعال فهو غير مشي المتكبرين المعجبين بنفوسهم، وعباد الرحمن يمشون وعليهم السكينة والوقار وفى الحديث: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالايضاع وهو السير مثل الخبب" إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا زال زال تقلعاً ويخطو تكفؤا ويمشي هونا ذريع المشية كأنما ينحط من صبب، قيل: نعم هو كما وصف فالتقلع معناه رفع الرجل بقوة حتى لا يمشي مشية المتمسكن الذليل والذريع، الواسع الخطا ومعناه أنه كان يرفع رجله بسرعة ويوسع خطوه كأنما ينحط من صبب فأين هذا الهون المحمدي في المشي من الاختيال والتمايل إعجاباً بالنفس وضرب الأرض كأنما يريد أن يخرقها بنعله. والله تعالى قال: {ولا تمش في الأرض مرحا} والمرح: هو مشيُ الخيلاء، والفجر، وقال: {إنك لن تخرق الأرض} أي بضربك إياها برجليك بشدة. {ولن تبلغ الجبال طولا} مهما حاولت العلو والارتفاع.
3 هذا كقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} .(3/629)
والقيام يصفون أقدامهم ويذرفون دموعهم على خدودهم خوفاً من عذاب ربهم.
والثالثة: في قوله {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم} إنهم لقوة يقينهم كأنهم شاعرون بلهب جهنم يدنو من وجوههم فقالوا {ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما} أي مُلحاً لازماً لا يفارق صاحبه، {إنها ساءت} أي جهنم {مستقراً ومقام} أي بئست موضع إقامة واستقرار.
والرابعة: في قوله {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} في إنفاقهم فيتجاوزوا الحد المطلوب منهم، ولم يقتروا فيقصروا في الواجب عليهم وكان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير قواماً أي عدلاً وسطاً.
والخامسة: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} أي لا يسألون غير ربهم قضاء حوائجهم كما لا يشركون بعبادة ربهم أحداً {ولا يقتلون النفس التي حرم الله} قتلها وهي كل نفس آدمية ما عدا نفس الكافر المحارب فإنها مباحة القتل غير محرمة. {إلا بالحق} وهو واحدة من ثلاث خصال بينها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الصحيحين "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" {ولا يزنون} أي لا يرتكبون فاحشة الزنا والزنا نكاح على غير شرط النكاح المباح وقوله تعالى {ومن يفعل ذلك} هذا كلام معترض بين صفات عباد الرحمن. أي ومن يفعل ذلك المذكور من، الشرك بدعاء غير الرب أو قتل النفس بغير حق، أو زنا {يلق اثاماً} 1 أي عقاباً {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه} أي في العذاب {مهاناً} مخزياً ذليلاً، وقوله تعالى {إلا من تاب} من الشرك وآمن بالله وبلقائه وبرسوله وما جاء به من الدين الحق {وعمل صالحاً} من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام {فأولئك} المذكورون أي التائبون {يبدل الله سيئاتهم حسنات} أي يمحو سيآتهم بتوبتهم ويكتب لهم مكانها صالحات أعمالهم وطاعاتهم بعد توبتهم {وكان الله غفوراً رحيماً} ذا مغفرة للتائبين من عباده ذا رحمة بهم فلا يعذبهم بعد توبته عليهم، وقوله {ومن تاب} من غير هؤلاء المذكورين أي رجع إلى الله تعالى بعد غشيانه الذنوب
__________
1 الأثام: قيل فيه إنه واد في جهنم: قال الشاعر:
لقيت المهالك في حربنا
وبعد المهالك نلقي أثاما
وقيل الأثام: العقاب كما في التفسير وشاهده قول الشاعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى
عقوقاً والعقوق له أثام
أي: جزاء وعقوبة.(3/630)
{وعمل صالحاً} بعد توبته {فإنه يتوب إلى الله متاباً} أي يرجع إليه تعالى مرجعاً مرضياً حسناً فيكرمه وينعمه في دار كرامته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان صفات عباد الرحمن الذين بهم يعرف الرحمن عز وجل.
2- فضيلة التواضع والسكينة في المشيء والوقار.
3- فضيلة رد السيئة بالحسنة والقول السليم من الإثم.
4- فضيلة قيام1 الليل والخوف من عذاب النار.
5- فضيلة الاعتدال والقصد في2 النفقة وهي حسنة بين السيئتين.
6- حرمة الشرك وقتل النفس3 والزنى وأنها أمهات الكبائر.
7- التوبة تجب4 ما قبلها. والندب إلى التوبة وأنها مقبولة مالم يغرغر.
وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
__________
1 أنشد بعضهم الأبيات التالية في صفة أولياء الله جعلنا الله منهم: فقال:
لله قوم أخلصوا في حبه
فرضي بهم واختصهم خدّاما
قوم إذا جن الظلام عليهم
باتوا هنالك سجداً وقياما
خمص البطون من التعفف ضمرا
لا يعرفون سوى الحلال طعاماً
2 روي أن عبد الملك بن مروان سأل بنته فاطمة وهي تحت ابن أخيه عمر بن عبد العزيز وقد زارهما بالمدينة فقال لها كيف نفقتكم؟ فقالت: الحسنة بين السيئتين. تعني قول الله تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} وقيل: المسؤول زوجها عمر وهو الذي أجاب والله أعلم وفي الحديث: {إن من السرف أن تأكل كل ما تشتهي} .
3 روى مسلم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك قال ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال ثم أي: قال: أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها {الذين لا يدعون مع الله إله آخرا} إلى {ولا يزنون} .
4 وفي الحديث الصحيح: "اتق الله حيثما كنت وأتتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" والشاهد: {إن الحسنات يذهبن السيئات} .(3/631)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
شرح الكلمات:
لا يشهدون الزور: أي لا يحضرون مجالسه ولا يشهدون بالكذب والباطل.
وإذا مروا باللغو: أي بالكلام السيء القبيح وكل مالا خير فيه.
مروا كراماً: أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن سماعه أو المشاركة، فيه.
وإذا ذكروا بآيات ربهم: أي إذا وعظوا بآيات القرآن.
لم يخروا عليها صماً وعمياناً: أي لم يطأطئوا رؤوسهم حال سماعها عمياً لا يبصرون ولا صماً لا يسمعون بل يصغون يسمعون ويعون ما تدعو إليه ويبصرون ما تعرضه.
قرة أعين: أي ما تقر به أعيننا وهو أن تراهم1 مطيعين لك يعبدونك وحدك.
واجعلنا للمتقين إماماً: أي من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك قدوة يقتدون بنا في الخير.
يجزون الغرفة: أي الدرجة العليا في الجنة.
بما صبروا: أي على طاعتك بامتثال الأمر واجتناب النهي.
حسنت مستقرا ًومقاماً: أي صلحت وطابت مستقراً لهم أي موضع استقرار.
__________
1 أي: أعيننا.(3/632)
وإقامة.
ما يعبأ بكم ربي: أي ما يكثرث ولا يعتد بكم ولا يبالي.
لولا دعاؤكم: إياه، ودعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره.
فسوف يكون لزاماً: أي العذاب لازماً أي لازماً لكم في بدر ويوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر صفات عباد الرحمن الذي تجاهله المشركون وقالوا: وما الرحمن فها هي ذي صفات عباده دالة عليه وعلى جلاله وكماله، وقد مضى ذكر خمس صفات:
والسادسة: في قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزور} 1 الزور هو الباطل والكذب وعباد الرحمن لا يحضرون مجالسه ولا يقولونه ولا يشهدونه ولا ينطقون به {وإذا مروا باللغو} 2 وهو كل عمل وقول لا خير فيه {مروا3 كراماً} أي مكرمين أنفسهم من التلوث به، بالوقوع فيه.
والسابعة: في قوله تعال {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم} أي إذا ذكرهم أحد بآيات القرآن كتاب ربهم عز وجل لم يحنوا رؤوسهم عليها صماً حتى لا يسمعوا مواعظها ولا عمياناً حتى لا يشاهدوا آثار آياتها بل يحنون رؤوسهم سامعين لها واعين لما تقوله وتدعو إليه مبصرين آثارها مشاهدين وقائعها متأثرين بها.
والثامنة: في قوله تعالى {والذين يقولون} أي في دعائهم {ربنا هب لنا} أي أعطنا {من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين4} أي ما تقر به أعيننا وذلك بأن نراهم يتعلمون الهدى ويعملون به طلباً لمرضاتك يا ربنا {واجعلنا للمتقين} من عبادك الذين يتقون سخطك
__________
1 قيل في الزور: إنه كل باطل زور وزخرف وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد وقال ابن عباس: إنه أعياد المشركين وقال عكرمة: اللعب كان في الجاهلية يسمى الزور، وقال مجاهد: الغناء: ويطلق اليوم على التصوير والصور إذ هو الزور والكذب قطعاً. والحكم في شاهد الزور أن يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويحلق رأسه ويطاف به في السوق بهذا حكم عمر رضي الله عنه. وتسخيم الوجه أن يسود بالفحم.
2 اللغو: كل سقط من قول أو فعل فيدخل فيه الغناء واللهو وذكر النساء وغير ذلك من المنكر، وقال بعضهم اللغو كل قول أو عمل لم يحقق لك درهما لمعاشك ولا حسنة لمعادك.
3 كراماً: أي معرضين منكرين لا يرضونه ولا يمالئون عليه ولا يجالسون أهله.
4 قرة العين مأخوذ من القرّ وهو البرد إذ دموع الفرح باردة ودموع الحزن حارة قال الشاعر:
فكم تسخنت بالأمس عين قريرة
وقوت عيون دمعها اليوم ساكب
ومن ثم قالوا في الدعاء: اقر الله عينك أي: أفرحك.(3/633)
بطاعتك بفعل أمرك وأمر رسولك واجتناب نهيك ونهي رسولك {واجعلنا للمتقين إماما} 1 أي قدوة صالحة يقتدون بنا في الخير يا ربنا. قال تعالى مخبراً عنهم بما أنعم به عليهم: {أولئك} أي السامون أنفساً العالون أرواحاً {يجزون الغرفة} وهي الدرجة العليا في الجنة {بما صبروا} على طاعة مولاهم، وما يلحقهم من أذى في ذات ربهم {ويلقون فيها} أي تتلقاهم الملائكة بالتهاني والتحيات {تحية وسلاماً} أي بالدعاء بالحياة السعيدة والسلامة من الآفات إذ هي حياة بلا ممات، وسعادة بلا منغصات. وقوله تعالى {خالدين فيها} أي في تلك الغرفة في أعلى الجنة {حسنت مستقراً} أي طابت موضع إقامة واستقرار. إلى هنا انتهى الحديث عن صفات عباد الرحمن وبيان جزائهم عند ربهم. وقوله تعالى: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي قل يا رسولنا لأولئك المشركين المنكرين للرحمن {ما يعبأ بكم ربي} أي ما يكترث لكم أو يبالي بكم {لولا دعاؤكم} إياه أي عبادة من2 يعبده منكم إذ الدعاء هو العبادة ما أبالي بكم ولا أكترث لكم. أما وقد كذبتم بي وبرسولي فلم تعبدوني ولم توحدوني وإذاً {فسوف يكون} العذاب3 {لزاماً} وقد أذقتموه يوم بدر، وسوف يلازمهم في قبورهم إلى نشورهم، وسوف يلاحقهم حتى مستقرهم في جهنم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة شهود الزور4 حرمة شهادته.
2- فضيلة الإعراض عن اللغو فعلاً كان أو قولاً.
__________
1 وحّد إماما ولم يجمعه {أئمة} لأن الإمام مصدر كالقيام والصيام أم القوم يؤمهم فهو إمام لهم، والمصدر يطلق فيدل على الواحد والجمع وجائز أن يراد أئمة كقول الرجل أميرنا هؤلاء ومنه قول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي
إن العواذل لسن لي بأمير
2 إذ كانوا يدعونه تعالى في حال الشدة وعلى هذا فالمصدر مضاف إلى الفاعل و {إياه} معمول للدعاء.. المصدر، وجائز أن يكون معناه لولا دعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره فيكون المصدر الذي هو الدعاء مضافاً إلى مفعوله وجواب لولا محذوف تقديره لم يعبأ بكم.
3 قال الطبري: معناه عذاباً دائماً لازماً. وقيل: فقد كذبتم فسوف يكون تكذيبكم لزاماً لكم أي: جزاؤه وهو العذاب لهم والمعنى واحد وهو لزوم العذاب لهم من اجل تكذيبهم الذي منعهم من تزكية نفوسهم بالإيمان وصالح الأعمال.
4 وفي الصحيح: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت".(3/634)
3- فضيلة تدبر القرآن وحسن الاستماع لتلاوته والاتعاظ بمواعظه والعمل بهدايته.
4- فضيلة علو الهمة وسمو الروح وطلب الكمال والقدوة في الخير.
5- لا قيمة للإنسان وهو أشرف الحيوانات لولا عبادته الله عز وجل فإذا لم يعبده كان شر الخليقة1.
__________
1 شاهده قوله تعالى: {أولئك هم شر البرية} وهم الكفار من أهل الكتاب والمشركون. (من سورة البينة) .(3/635)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
سورة الشعراء
مكية
وآياتها مائتان وسبع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
شرح الكلمات:
طسم: الله أعلم بمراده بذلك.
الكتاب المبين: أي القرآن المبين للحق من الباطل
باخع نفسك: أي قاتلها من الغم.
ألا يكونوا مؤمنين: أي من أجل عدم إيمانهم بك.
آية: أي نخوفهم بها.
من ذكر: أي من قرآن.
معرضين: أي غير ملتفتتين إليه.
زوج كريم: أي صنف حسن.
العزيز: الغالب على أمره ومراده.
الرحيم: بالمؤمنين من عباده.(3/636)
معنى الآيات:
طسم هذه أحد الحروف المقطعة تكتب طسم، وتقرأ طا سين ميم بإدغام النون من سين في الميم الأولى من ميم والله أعلم بمراده منها. وفيها إشارة إلى أن القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف وعجز العرب عن تأليف مثله بل سورة واحدة من مثله دال قطعاً على أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله {تلك آيات الكتاب1} أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب أي القرآن المبين للحق أي المبين للحق من الباطل والهدى من الضلال، والشرائع والأحكام. وقوله تعالى {لعلك باخع نفسك} أي قاتلها ومهلكها {ألا يكونوا مؤمنين} أي إن لم يؤمن بك وبما جئت به قومك، فأشفق على نفسك يا رسولنا ولا تعرضها للغم القاتل فإنه ليس عليك هدايتهم وإنما عليك البلاغ وقد بلغت، إنا لو أردنا هدايتهم بالقسر والقهر لما عجزنا عن ذلك {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم2 لها خاضعين} أي إنا لقادرون على أن ننزل عليهم من السماء آية كرفع جبل أو إنزال كوكب أو رؤية ملك فظلت أي فتظل طوال النهار أعناقهم خاضعة، تحتها تتوقع في كل لحظة نزولها عليهم فتهلكهما فيؤمنوا حينئذ إيمان قسر وإكراه ومثله لا ينفع صاحبه فلا يزكي نفسه ولا يطهر روحه لأنه غير إرادي له ولا اختياري.
وقوله تعالى {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن3 محدث} أي وما يأتي قومك المكذبين لك من موعظة قرآنية وحجج وبراهين تنزيلية تدل على صدقك وصحة دعوتك ممّا يحدثه الله إليك ويوحي به إليك لتذكرهم به إلا أعرضوا فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
وقوله تعالى: {فقد كذبوا به} 4 يخبر تعالى رسوله بأن قومه قد كذبوا بما أتاهم من ربهم من ذكر محدث وعليه {فسيأتيهم أنباء} أي أخبار {ما كانوا به يستهزئون} وهو عذاب الله تعالى الذي كذبوا برسوله ووحيه وجحدوا توحيده وأنكروا طاعته وفي الآية وعيد شديد وهم عرضة له في أية لحظة إن لم يتوبوا.
__________
1 {تلك آيات الكتاب} قال القرطبي رفع على إضمار مبتدأ أي: هذه تلك.. الخ وما في التفسير أولى أي: هي آيات الكتاب.
2 لأنهم إذا ذلت أعناقهم ذلوا ولا داعي إلى أن يقال: أعناقهم: كبراؤهم ورؤساؤهم وإن ساغ لغة، إذ المراد أن ينزل عليهم آية تخضعهم وتذلهم رؤساء ومرؤوسين، والأعناق جمع عنق بضم العين والنون وهو الرقبة ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أسند الخضوع إليها ومقتضى ظاهر الكلام هو فضلوا لها خاضعين بأعناقهم، وعدل عنه إلى إسناد الخضوع إلى الأعناق لأنه يحمل الإشارة إلى خضوع رؤسائهم الحاملين على الكفر والعناد وهذا من بليغ الكلام وبديعه.
3 {محدث} أي: مستجد متكرر بعضه يعقب بعضاً ويؤيده.
4 {فقد كذبوا} الفاء هي الفصيحة أفصحت عن تكذيبهم الناتج عن إعراضهم والفاء في فسيأتيهم للتعقيب والأنباء جمع نبأ وهو الخبر ذو الشأن, والجملة تحمل التهديد والوعيد الشديد.(3/637)
وقوله تعالى {أولم1 يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} إن كانت علة هذا التكذيب من هؤلاء المشركين هي إنكارهم للبعث والجزاء وهو كذلك فلم لا ينظرون إلى الأرض الميتة بالقحط ينزل الله تعالى عليها ماء من السماء فتحيا به بعد موتها فينبت الله فيها من كل زوج أي صنف من أصناف النباتات كريم أي حسن. أليس في ذلك آية على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم وحشرهم للحساب والجزاء، فلم لا ينظرون؟ {إن في ذلك لآية} أي علامة واضحة للمشركين على صحة البعث والجزاء. ففي إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم. وقوله تعالى {وما كان أكثرهم مؤمنين2} يخبر تعالى أن فيما ذكر من إنباته أصناف النباتات الحسنة آية على البعث والحياة الثانية ولكن قضى الله أزلاً أن أكثر هؤلاء المشركين لا يؤمنون وقوله {وإن ربك لهو العزيز الرحيم3} يقول تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وإن ربك لهو العزيز} أي الغالب على أمره المنتقم من أعدائه {الرحيم} بأوليائه فاصبر لحكمه وتوكل عليه وواصل دعوتك في غير غم ولا هم ولا حزن وإن العاقبة للمؤمنين بك المتبعين لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن القرآن الكريم معجز لأنه مؤلف من مثل طا سين ميم ولم يستطع أحد أن يؤلف مثله.
2- بيان ما كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يناله من الغم والحزن وتكذيب قومه له.
3- بيان أن إيمان المكره لا ينفعه، ولذا لم يكره الله تعالى الكفار على الإيمان بواسطة الآيات.
4- التحذير من عاقبة التكذيب بآيات الله وعدم الاكتراث بها.
5- في إحياء الأرض بالماء وإنبات النباتات المختلفة فيها دليل على البعث الآخر.
__________
1 الاستفهام إنكاري والهمزة داخلة على محذوف والواو عاطفة عليه نحو: اعملوا ولم يروا. الرؤية: معناها النظر بالعين، ولذا عدّي الفعل بإلى. والزوج: النوع، والكريم: النفيس في نوعه وكم: للتكثير ومن للتبعيض.
2 المراد ممن نفى الإيمان عن أكثرهم هم: أكابر مجرمي مكة إذ أكثرهم مات كافراً أما غيرهم فندر من لم يؤمن منهم إذ دخلوا في دين الله بعد الفتح أفواجاً.
3 الجملة تعليلية تضمنت التذكير بعزّة الله تعالى ورحمته فذوا العزة قادر على أن ينزل عذابه بأعدائه وذو الرحمة قادر على رحمة أوليائه كما أن هناك إشارة إلى أن تخلف العذاب اقتضته رحمته سبحانه وتعالى.(3/638)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
شرح الكلمات:
وإذ نادى ربك: أي اذكر لقومك يا رسولنا إذ نادى ربك موسى.
أن ائت: أي بأن ائت القوم الظالمين.
ألا يتقون: ألا يخافون الله ربهم ورب آبائهم الأولين ما لهم ما دهاهم؟
ويضيق صدري: أي من تكذيبهم لي.
ولا ينطلق لساني: أي للعقدة التي به.
فأرسل إلى هرون: أي إلى أخي هرون ليكون معي في إبلاع رسالتي.
ولهم عليّ ذنب: أي ذنب القبطي الذي قتله موسى قبل خروجه إلى مدين.
قال كلا: أي قال الله تعالى له كلا أي لا يقتلونك.
فاذهبا: أنت وهرون.
إنا رسول رب العالمين: أي إليك.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وإذ نادى ربك موسى} هذا بداية سلسة من القصص بدئت بقصه موسى وختمت بقصة شعيب وقصها على المشركين ليشاهدوا أحداثها ويعرفوا نتائجها(3/639)
وهي دمار المكذبين وهلاكهم مهما كانت قوتهم وطالت أعمارهم قال تعالى في خطاب رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وإذ نادى ربك موسى} أي اذكر إذ نادي ربك موسى في ليلة باردة شاتية بالواد الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة {أن ائت1 القوم الظالمين قوم2 فرعون} إذ ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وظلموا بني إسرائيل باضطهادهم وتعذيبهم {ألا يتقون} أي قل لهم ألا تتقون أي يأمرهم بتقوى ربهم بالإيمان به وتوحيده وترك ظلم عباده فالاستفهام معناه الأمر. وقوله تعالى {قال رب إني أخاف أن يكذبون} أي قال موسى بعد تكليفه رب إني أخاف أن يكذبون3 فيما أخبرهم به وأدعوهم إليه، {ويضيق صدري4} لذلك {ولا ينطلق لساني} للعقدة التي به، وعليه {فأرسل إلى هرون} أي جبريل يبلغه أن يكون معي معيناً لي على إبلاع رسالتي، وقوله {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} هذا قول موسى عليه السلام لربه تعالى شكا إليه خوفه من قتلهم له بالنفس5 التي قتلها أيام كان بمصر قبل خروجه إلى مدين فأجابه الرب تعالى {كلا6} أي لن يقتلوك. وأمرهما بالسير إلى فرعون فقال {فاذهبا بآياتنا} وهي العصا واليد {إنا معكم مستمعون} أي فبلغاه ما أمرتكما ببلاغه وإنا معكم مستمعون لما تقولان ولما يقال لكما {فأتيا فرعون فقولا له} عند وصولكما إليه {إنا رسول7 رب العالمين} أي نحمل رسالة منه مفادها أن ترسل معنا8 بني إسرائيل لنخرج بهم إلى أرض الشام التي وعد الله بها بني إسرائيل هذا ما قاله موسى وهرون رسولا رب العالمين أما جواب فرعون ففي الآيات التالية.
__________
(أن) تفسيرية لأنها واقعة بعد النداء وهو قول.
2 قوم فرعون: بدل من الظالمين.
3 {أن يكذبون} : الأصل: أن يكذبوني فحذفت النون الأولى للناصب وهو أن فصارت يكذبونني ثم حذفت ياء الضمير لدلالة الكسرة عليها فصارت {يكذبون} .
4 قرأ الجمهور يضيق صدري ولا ينطلق لساني بالرفع للفعلين معاً على الاستئناف وقرىء بنصبهما لغير الجمهور.
5 المراد بالنفس: نفس القبطي واسمه فاثور.
6 {كلا} للردع والزجر عن هذا الظن.
7 لم يقل: رسولا إما لأن رسول بمعنى رسالة إنّا ذو رسالة رب العالمين وإما لأن الرسول بمعنى الجمع كالمصادر نحو. هذا عدوي وهؤلاء عدوي، والعرب تقول: هذان رسولي وهؤلاء رسولي.
8 قيل: أقام بنو إسرائيل في مصر أربعمائة سنة وكانوا يوم خرجوا منها ستمائة ألف.(3/640)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات صفة الكلام لله تعالى بندائه موسى عليه السلام.
2- لا بأس بإبداء التخوف عند الأقدام على الأمر الصعب ولا يقدح في الإيمان ولا في التوكل.
3- مشروعية طلب العون والمساعدة من المسئولين إذا كلفوا المرء بما يصعب.
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
شرح الكلمات:
قال: أي قال فرعون رداً على كلام موسى في السياق السابق.
ألم نريك فينا وليداً: أي في منازلنا وليدً أي صغيراً قريباً من أيام الولادة.
ولبثت فينا من عمرك سنين: أي أقمت بيننا قرابة ثلاثين سنة وكان موسى يدعى ابن فرعون لجهل الناس به ورؤيتهم له في قصره يلبس ملابسه ويركب مراكبه.
وفعلت فعلتك التي فعلت: أي قتلت الرجل القبطي.
وأنت من الكافرين: أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد.
وأنا من الضالين: إذ لم يكن عندي يومئذ من علم ربي ورسالته ما عندي الآن.
أن عبدت بني إسرائيل: أي هل تعبيدك لبني إسرائيل يعد نعمة فتمن بها علي؟(3/641)
معنى الآيات:
ما زال السياق والحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن فرد فرعون على موسى بما أخبر تعالى به عنه في قوله {قال ألم نربك1 فينا وليداً} أي أتذكر معترفاً أنا ربيناك وليداً أي صغيراً وأنت في حال الرضاع {ولبثت فينا} أي في قصرنا مع الأسرة المالكة {سنين} ثلاثين سنة قضيتها من عمرك في ديارنا {وفعلت فعلتك (2) } أي الشنعاء {التي فعلت} وهي قتل موسى القبطي {وأنت من الكافرين} أي لنعمنا عليك الجاحد بها، كان هذا رد فرعون فلنستمع إلى رد موسى عليه السلام كما أخبر به الله تعالى عنه في قوله: {قال فعلتها إذاً} أي يومئذٍ {وأنا من الضالين} أي الجاهلين لأنه لم يكن قد علمني ربي ما علّمني الآن وما أوحى إليّ ولا أرسلني إليكم2 رسولاً {ففرت3 منكم لما خفتكم} من أجل قتلي النفس التي قتلت وأنا من الجاهلين {فوهب لي ربي حكماً} أي علماً نافعاً يحكمني دون فعل ما لا ينبغي فعله {وجعلني من المرسلين4} أي من أنبيائه ورسله إلى خلقه ثم قال له رداً على ما امتن به فرعون بقوله: {ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين} فقال {وتلك5 نعمة6} أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي {أن عبدت بني إسرائيل} أي استعبدتهم أي اتخذتهم عبيداً لك يخدمونك تستعملهم كما تشاء كالعبيد لك ولم تستعبدني أنا لاتخاذك إياي ولداً حسب زعمك فأين النعمة التي تمنها علي يا فرعون، نترك رد فرعون إلى الآيات التالية.
__________
1 الاستفهام للتقرير ومعناه المنّ على موسى والاحتقار له.
2 الفعلة: المرة وبالكسر: الهيئة وقرأ الجمهور {فَعلتك} وهي المرة من الفعل، وشاهد الفعلة بالكسر للهيئة قول الشاعر:
كأن مشيتها من بيت جارتها
مَرّ السحابة لا ريث ولا عجل
يذكره بقتله القبطي تخويفاً له وتهديداً.
3 كان خروج موسى من مصر إلى أن عاد إليها أحد عشر عاماً إلا أشهرا.
4 أي فررت منكم إلى أرض مدين.
5 بناء على أنه قضى ثلاثين سنة في مصر وأحد عشر عاماً خارجها فقد نبيء على رأس الأربعين وهي سنة الله تعالى في الرسل.
6 حرف الاستفهام مقدر أي: أو تلك كما هو في التفسير والاستفهام إنكاري أي ينكر موسى على فرعون أن يكون استعباد بني إسرائيل نعمة تعدّ عليهم وهذا التقدير أولى من قول: "إن موسى اعترف لفرعون بنعمة التربية من حيث استعبد غيره وتركه هو لم يتعبده" ومن اعترض بأن همزة الاستفهام لا تحذف إذا لم يكن في الكلام أم الدالة عليها محجوج بشواهد كثيرة منها قول الشاعر:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها
وجفنها من دموعها شرق
وقولها والركاب واقفة
تركتني هكذا وتنطلق
والشاهد في قوله: تركتني إذ الأصل: أتركتني فحذفت همزة الاستفهام مع عدم (أم) .(3/642)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- قبح جريمة القتل عند كافة الناس مؤمنهم وكافرهم وهو أمر فطري.
2 - جواز التذكير بالإحسان لمن أنكره ولكن لا على سبيل الامتنان فإنه محبط للعمل.
3 - جواز إطلاق لفظ الضلال على الجهل كما قال تعالى {ووجدك ضالاً} كما قال موسى {وأنا من الضالين} أي الجاهلين قبل أن يعلمني ربي.
4- مشروعية الفرار من الخوف إذا لم يكن في البلد قضاء عادل، وإلا لما جاز الهرب من وجه العدالة.
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
شرح الكلمات:
وما رب العالمين: أي الذي قلت إنك لرسوله من أي جنس هو؟
رب السموات والأرض وما بينهما: أي خالق ومالك السموات والأرض وما بينهما.
إن كنتم موقنين: بأن السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات مخلوقة قائمة فخالقها ومالكها هو رب العالمين.
لمن حوله: أي من أشراف قومه ورجال دولته.
ألا تستمعون: أي جوابه الذي لم يطابق السؤال في نظره.(3/643)
أو لو جئتك بشي مبين: أي أتسجنني ولو جئتك ببرهان وحجة على رسالتي.
فأت به إن كنت من الصادقين: أي فأت بهذا الشيء المبين إن كنت من الصادقين فيما تقول.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لما قال موسى {إني في رسول رب العالمين} في أول لحوار قال فرعون مستفسراً في عناد ومكابرة {وما رب1 العالمين} أي أيّ شيء هو أو من أي جنس من أجناس المخلوقات فأجابه موسى بما أخبر تعالى به عنه {قال رب2 السموات والأرض وما بينهما} إي خالق السموات والأرض وخالق ما بينهما. ومالك ذلك كله، إن كنتم موقنين بأن كل مخلوق لا بد له من خالق خلقه، وهو أمر لا تنكره العقول. وهنا قال فرعون في استخفاف وكبرياء لمن حوله من رجال دولته وأشراف قومه: {ألا تستمعون3} كأن ما قاله موسى أمر عجب أو مستنكر فعرف موسى ذلك فقال {ربكم ورب آبائكم الأولين} أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الكل مربوب له خاضع لحكمه وتصرفه. وهوا اغتاظ فرعون فقال {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} أراد أن ينال من موسى لأنه أغاظه بقوله {ربكم ورب آبائكم الأولين} فرد موسى أيضاً قائلاً {رب المشرق والمغرب وما بينهما} أي رب الكون كله {إن كنتم تعقلون} أي ما تخاطبون به ويقال لكم وفي هذا الجواب ما يتقطع له قلب فرعون فلذا رد بما أخبر به تعالى عنه في قوله {قال لئن اتخذت إلهاً غيري} أي رباً سواي {لأجعلنك من المسجونين} أي لأسجننك وأجعلك في قعر تحت الأرض مع المسجونين. فرد موسى عليه السلام قائلا {أو لو جئتك بشيء4 مبين} أي أتسجنني ولو
__________
1 لما غُلب فرعون في جداله لموسى استفهم بقوله: {فما رب العالمين} وهو استفهام عن جنس ولم يستفهم عن رب العالمين تجاهلاً منه ومكابرة فقال: {وما رب العالمين} وكان المطلوب أن يقول: ومن ربّ العالمين؟ ولكته العلو والتكبر.
2 لما علم موسى جهل فرعون وتجاهله أجابه بما يلقمه الحجر ويبطل دعواه في أن الربوبية تكون لبشر أو حجر فقال: {رب السموات ... } الخ.
3 استفهم اللعين استفهام تعجّب وتهكم مستخفاً بجواب موسى قائلا {ألا تسمعون} أي إلى قول هذا الذي زعم إبطال عقيدتكم وعقيدة آبائكم ولذا أجاب موسى بتقرير جوابه الأول وهو مفحم مبطل لدعوى ربوبية فرعون.
4 في جواب موسى عليه السلام هذا تلطف بفرعون وطمع في إيمانه لما بهره به من الردود المحكمة والإجابات المفحمة.(3/644)
جئت بحجة بينة وبرهان ساطع على صدقي فيما قلت وأدعوكم إليه؟ وهنا قال فرعون ما أخبر تعالى به {قال فأت به إن كنت من الصادقين} أي فيما تدعي وتقول.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الربوبية المقتضية للألوهية من طريق هذا الحوار ليسمع ذلك المشركون، وليعلموا أنهم مسبوقون بالشرك والكفر وأنهم ضالون.
2- سنة أهل الباطل أنهم يفجرون في الخصومة وفي الحديث "وإذا خاصم فجر"1.
3- أهل الكبر والعلو في الأرض إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد واستخدام القوة.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلا حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
__________
1 نّص الحديث الشريف كما هو في الصحيح: "أربع مَنْ كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر".(3/645)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
شرح الكلمات:
ثعبان مبين: أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا شك.
ونزع يده: أي أخرجها من جيبه بعد أن أدخلها فيه.
لساحر عليم: أي متفوق في علم السحر.
أرجه وأخاه: أي أخرّ أمرهما.
حاشرين: أي جامعين للسحرة.
سحار عليم: أي متفوق في الفن أكثر من موسى.
يوم معلوم: هو ضحى يوم الزينة عندهم.
هل أنتم مجتمعون: أي اجتمعوا كي نتبع السحرة على دينهم إن كانوا هم الغالبين.
وإنكم إذاً لمن المقربين: أي لكم الأجر وهو الجعل الذي جعل لهم وزادهم مزية القرب منه.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لقد تقدم في السياق أن فرعون طالب موسى بالإتيان بالآية أي الحجة على صدق دعواه وهاهو ذا موسى عليه السلام يلقي عصاه أمام فرعون وملائه فإذا هي ثعبان ظاهر لا شك فيه، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين لا يشك في بياضها وأنه بياض خارق للعادة هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (32) والثانية (33) {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان1 مبين، ونزع يده فإذا هي2 بيضاء للناظرين} واعترف فرعون بأن ما شاهده من العصا واليد أمر خارق للعادة ولكنه راوغ فقال {إن هذا} أي موسى {لساحر عليم} أي ذو خبرة بالسحر وتفوق فيه قال هذا للملأ حوله كما قال تعالى عنه {قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم} وقوله تعالى عنه {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} قال فرعون هذا تهيجاً للملأ ليثوروا ضد موسى عليه السلام وهذا من المكر السياسي إذ جعل القضية
__________
1 الثعبان: الحية الضخمة الطويلة،: و {مبين} بمعنى بيّن لا خفاء فيه ولا غموض {ونزع يده} أي أخرجها من قميصه بسرعة إذ هذا ما يدل عليه لفظ النزع, ولم يذكر المنزع منه لدلالة اللفظ عليه أي: من جيب قميصه.
2 إذا: هي الفجائية ومعنى: {للناظرين} أي: مما يقصده الناظرون لما فيه من العجب وكان جلد موسى أسمر وكانت اليد بيضاء فكان ذلك آية أخرى.(3/646)
سياسية بحتة وأن موسى يريد الاستيلاء على الحكم والبلاد ويطرد أهلها منها بواسطة السحر، وقال لهم كالمستشير لهم {فماذا تأمرون؟} فأشاروا عليه بما أخبر تعالى به عنهم {قالوا أرجه وأخاه} أي أخر أمرهما {وابعث في المدائن} أي مدن المملكة رجالاً {حاشرين} أي جامعين {يأتوك} أيها الملك {بكل سحار1 عليم} أي ذو خبرة في السحر متفوقة، وفعلاً أخذ بمشورة رجاله {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} أي لموعد معلوم وهو ضحى يوم العيد عندهم واستحثوا الناس على الحضور من كافة أنحاء البلاد وهو ما أخبر تعالى به في قوله {قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم} فجمع2 السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة} فنبقى على ديننا ولا نتبع موسى وأخاه على دينهما الجديد {إن كانوا} أي السحرة {هم الغالبين} وهذا من باب الاستحثاث والتحريض على الالتفات حول فرعون وملائه. وقوله تعالى {فلما جاء السحرة} أي من كافة أنحاء البلاد قالوا لفرعون ما أخبر تعالى به عنهم {أئن لنا لأجراً3} أي جعلاً {إن كنا نحن الغالبين؟} فأجابهم فرعون قائلاً {نعم وإنكم إذاً لمن4 المقربين} أي زيادة على الأجر مكافأة أخرى وهي أن تكونوا من المقربين لدينا، وفي هذا إغراء كبير لهم على أن يبذلوا أقصى جهدهم في الانتصار على موسى عليه السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات المعجزات للأنبياء كمعجزة العصا واليد لموسى عليه السلام.
2- مشروعية استشارة الأمير رجاله في الأمور ذات البال.
3- ثبوت السحر وأنه فن من فنون المعرفة وإن كان تعلمه وتعليمه محرمين.
4- إعطاء المكافأة للفائزين في المباراة وغيرها ومن ذلك السباق في الإسلام.
__________
1 {سحار} فيه وصف ثابت دال على تعاطيه للمهنة ورسوخه فيها كنجار وخياط وبناء والوصف بعليم: فيه الحث على الإتيان بالمهرة من السحرة لعظم الموقف.
2 دلت الفاء على الفورية واللام كذلك في الميقات أي: لأول الوقت كقوله: {الصلاة لوقتها} أي: في أول وقتها، وقوله {للناس} المراد بالناس أهل بلاده، والاستفهام في {هل أنتم مجتمعون} للاستحثاث على الاجتماع.
3 سؤال السحرة الأجر إدلال بخبرتهم والتذكير بالحاجة إليهم لعلمهم بأن فرعون حريص على غلبهم لموسى، وخافوا أيضاً أن يستخدمهم فرعون بدون أجر لأن الحال حال التعبئة العامة للدفاع عن المعتقدات وأهلها فلذا شرطوا أجرهم قبل الشروع في العمل.
4 {إذاً} أي: إذا كنتم فعلا غالبين إنّ لكم لأجراً عظيماً.(3/647)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
شرح الكلمات:
ألقوا ما أنتم ملقون: أمرهم بالإلقاء توسلاً إلى ظهور الحق.
ما يأفكون: أي ما يقلبونه بتمويههم من أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى.
رب موسى وهرون: أي لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يأتي بواسطة السحر.
من خلاف: أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى.
ولأصلبنكم أجمعين: أي لأشدنكم بعد قطع أيديكم وأرجلكم من خلاف على الأخشاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن إنه بعد إرجاء السحرة فرعون وسؤالهم له: هل لهم من أجر على مباراتهم موسى إن هم غلبوا وبعد أن طمأنهم فرعون على الأجر والجائزة قال لهم موسى {ألقوا1 ما أنتم ملقون} من الحبال والعصي في الميدان {فألقوا حبالهم وعصيهم} وأقسموا بعزة فرعون إنهم هم
__________
1 جاء في سورة الأعراف أن السحرة عرضوا على موسى أن يلقى عصاه أو يلقوا حبالهم وعصيهم وهنا قال لهم موسى عليه السلام {ألقوا} بناء على عرضهم ذلك.(3/648)
الغالبون وفعلاً انقلبت الساحة كلها حيات وثعابين حتى أوجس موسى في نفسه خيفة فأوحى إليه ربه تعالى أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون. هذا معنى قوله تعالى في هذا السياق {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة1 فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون} 2 ومعنى تلقف ما يأفكون أي تبتلع في جوفها من طريق فمها كل ما أفكه أي كذبه وافتراه السحرة بسحرهم من انقلاب الحبال والعصي حيات وثعابين، وقوله تعالى {وألقي السحرة ساجدين} أي أنهم لاندهاشهم وما بهرهم من الحق ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله تعالى مؤمنين به، فسئلوا عن حالهم تلك فقالوا {آمنا برب العالمين رب موسى وهرون} وهنا خاف فرعون تفلت الزمام من يده وأن يؤمن الناس بموسى وهرون ويكفروا به فقال للسحرة: {آمنتم به قبل أن آذن لكم} بذلك أي كيف تؤمنون بدون إذني؟ على أنه يملك ذلك منهم وهي مجرد مناورة مكشوفة، ثم قال لهم {إنه} أي موسى {لكبيركم الذي علمكم السحر} أي انه لما كان أستاذكم تواطأتم معه على الغلب فأظهرتم أنه غلبكم، تمويهاً وتضليلاً للجماهير.. ثم تهددهم قائلاً {فلسوف تعلمون3} عقوبتي لكم على هذا التواطؤ وهي {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي أقطع من الواحد منكم يده اليمنى ورجله اليسرى {ولأصلبنكم أجمعين} فلا أبقي منكم أحداً إلا أشده على خشبة حتى يموت مصلوباً، هل فعل فرعون ما توعد به؟ الله أعلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-لم يبادر موسى بإلقاء عصاه أولاً لأن المسألة مسألة علم لا مسألة حرب ففي الحرب تنفع المبادرة بافتكاك زمام المعركة، وأما في العلم فيحسن تقديم الخصم، فإذا أظهر ما عنده كر عليه بالحجج والبراهين فأبطله وظهر الحق وانتصر على الباطل، هذا الأسلوب الذي اتبع موسى بإلهام من ربه تعالى.
__________
1 يبدو أن الباء في قولهم {بعزة فرعون} هي كالباء في بسم الله للاستعانة والتبرك لا للقسم وهذا أولى بالمقام من الحلف على شيء لا يملكه المرء وتكون جملة: {إنا لنحن الغالبون} مستأنفة استئنافاً بيانياً وليست جواب قسم إلاّ أنها حملت معنى القسم بما فيه من المؤكدات كأنهم قالوا إنا وربنا لغالبون.
2 قرأ نافع {تلقف} بتشديد القاف، والأصل: تتلقف فحذفت إحدى التائين تخفيفاً، وقرأ حفص {تلقف} بتخفيف القاف من: لقف الشيء يلقفه لقفاً: إذ أخذه بسرعة.
3 اللام للقسم. وبم يقسم فرعون؟ يقسم بحسب عادته في إيمانه ففد يقسم بعزّته.(3/649)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
2- مظهر من مظاهر الهداية الإلهية هداية السحرة إذ هم في أول النهار سحرة كفرة وفي آخره مؤمنون بررة.
3- ما سلكه فرعون مع السحرة كله من باب المناورات السياسية الفاشلة.
قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60)
شرح الكلمات:
لا ضير: أي لا ضرر علينا.
لمنقلبون: أي راجعون بعد الموت وذلك يسر ولا يضر.
أن كنا أول المؤمنين: أي رجوا أن يكفر الله عنهم سيئاتهم لأنهم سبقوا بالإيمان.
أن أسر بعبادي: السري المشي ليلاً والمراد من العباد بنو إسرائيل.
إنكم متبعون: أي من قبل فرعون وجيوشه.
لشرذمة: أي طائفة من الناس.
لغائظون: أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا.
حذرون: أي متيقظون مستعدون.
ومقام كريم: أي مجلس حسن كان للأمراء والوزراء.
كذلك: أي كان إخراجنا كذلك أي على تلك الصورة.
مشرقين: أي وقت شروق الشمس.(3/650)
معنى الآيات:
قوله تعالى {قالوا لا ضير1} هذا قول السحرة لفرعون بعد أن هددهم وتوعدهم {قالوا لا ضير} أي لا ضرر علينا بتقطيعك أيدينا وأرجلنا وتصليبك إيانا {إنا إلى2 ربنا منقلبون} أي راجعون إن كل الذي تفعله معنا إنك تعجل برجوعنا إلى ربنا وذاك أحب شيء إلينا.
وقالوا {إنا نطمع3 أن يغفر لنا ربنا خطايانا} أي ذنوبنا {إن كنا أول المؤمنين} في هذه البلاد برب العالمين رب موسى وهرون.
بعد هذا الانتصار العظيم الذي تم لموسى وهرون أوحى تعالى إلى موسى {أن أسر4 بعبادي} أي امش بهم ليلاً {إنكم متبعون} أي من قبل فرعون وجنوده. وعلم فرعون بعزم موسى على الخروج ببني إسرائيل فأرسل في المدائن5 وكانت به مآت المدن حاشرين من الرجال أي جامعين وكأنها تعبئة عامة. يقولون محرضين {إن هؤلاء6} أي موسى وبني إسرائيل {لَشِرْذِمةٌ} أي طائفة أفرادها قليلون {إنهم لنا لغائظون} أي7 لفاعلون ما ويغضبنا {وإنا} أي حكومة وشعباً {لجميع حذرون} أي متيقظون مستعدون فهلم إلى ملاحقتهم وردهم إلى الطاعة. وعجل تعالى بالمسرة في هذا الخبر فقال تعالى {فأخرجناهم} أي آل فرعون {من جنات وعيون وكنوز} أي كنوز الذهب والفضة التي كانت مدفونة تحت التراب, إذ الطمس كان على العملة فسدت وأما مخزون الذهب والفضة فما زال تحت الأرض، إذ الكنز يطلق على المدفون تحت الأرض وإن كان شرعاً هو الكنز ما لم تؤد زكاته سواء كان تحت الأرض أو فوقها.
وقوله تعالى {كذلك} أي إخراجنا لهم كان كذلك، {وأورثناها8} أي تلك النعم بني إسرائيل أي بعد هلاك فرعون وجنوده أجمعين. وقوله تعالى {فأتبعوهم مشرفين} أي فاتبع آل فرعون بنى إسرائيل أَنْفُسَهم في وقت شروق الشمس ليردوهم ويحولوا بينهم
__________
1 الضير: مرادف الضرّ يقال: ضاره يضيره بمعنى ضرّه يضره سواء.
2 الجملة تعليلية لنفيهم الضرر عليهم.
3 لفظ الطمع يطلق ويراد به الظنّ الضعيف غالباً ويراد به الظن القوي أيضاً كقول إبراهيم عليه السلام: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} .
4 قرأ نافع {أن اسر} بهمزة وصل إذ هو من سَرى يسري وحركت النون لالتقاء الساكنين. وقرأ عاصم: {أن أسرِ} بسكون أن وقطع همزة أسر لأنّه من أسرى، وأسرى وسرى بمعنى واحد.
5 المدائن جمع مدينة وهي البلد العظيم.
6 الإشارة بهؤلاء فيه إيماء بتحقير شأن بني إسرائيل, والشرذمة الطائفة القليلة العدد.
7 الغيظ: أشد الغضب, وغائظون: اسم فاعل من: غاظه بمعنى أغاظه أي: أغضبه أشدّ الغضب.
8 يرى بعضهم أن الله أورث بني إسرائيل نعماً نظير ما كان لفرعون وقومه بدليل آية الدخان: {وأورثناها قوماً آخرين} وبدليل أن بني إسرائيل ما رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها والله أعلم.(3/651)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
وبين الخروج من البلاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه.
2- حسن الرجاء في الله والطمع في رحمته، وفضل الأسبقية في الخير.
3- مشروعية التعبئة العامة واستعمال أسلوب خاص في الحرب يهديء من مخاوف الأمة حكومة وشعباً.
4- دمار الظالمين وهلاك المسرفين في الكفر والشر والفساد.
فََلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الأخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الأخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
شرح الكلمات:
فلما تراءى الجمعان: أي رأى بعضهما بعضاً لتقاربهما والجمعان جمع بني إسرائيل وجمع فرعون.
إنا لمدركون: أي قال أصحاب موسى من بني إسرائيل إنا لمدركون أي سيلحقنا فرعون وجنده.
قال كلا: أي قال موسى عليه السلام كلا أي لن يدركونا ولن يلحقوا بنا.
فانفلق: أي انشق.
فكان كل فرق كالطود: أي شق أي الجزء المنفرق والطود: الجبل.
وأزلفنا ثم الآخرين: أي قربنا هنا لك الآخرين أي فرعون وجنده.(3/652)
إن في ذلك لآية: أي عظة وعبرة توجب الإيمان برب العالمين برب موسى وهرون.
معنى الآيات:
هذا آخر قصة موسى عليه السلام مع فرعون قال تعالى في بيان نهاية الظالمين وفوز المؤمنين {فلما تراءى1 الجمعان} جمع موسى وجمع فرعون وتقاربا بحيث رأى بعضهما بعضا {قال أصحاب موسى} أي بنو إسرائيل {إنا لمدركون} أي خافوا لما رأوا جيوش فرعون تتقدم نحوهم صاحوا {إنا لمدركون} فطمأنهم موسى بقوله {كلا2} أي لن تدركوا، وعلل ذلك بقوله {إن معي ربي سيهدين} إلى طريق نجاتي قال تعالى {فأوحينا إلى موسى أن اضرب} أي اضرب بعصاك البحر فضرب امتثالاً لأمر ربه فانفلق البحر فرقتين كل فرقة3 منه كالجبل العظيم {وأزلفنا4} أي قربنا {ثم الآخرين} أي أدنينا هناك الآخرين وهم فرعون وجيوشه {وأنجينا موسى ومن معه} أي من بني إسرائيل {أجمعين} {ثم أغرقنا الآخرين} المعادين لبني إسرائيل وهم فرعون وجنده. قوله تعالى {إن في ذلك} المذكور هن إهلاك فرعون وإنجاء موسى، بني إسرائيل {لآية} أي علامة واضحة بارزة لربوبية الله وألوهيته وقدرته وعلمه ورحمته وهي عبرة وعظة أيضاً للمعتبرين، وما كان أكثر قومك5 يا محمد مؤمنين مع موجب الإيمان ومقتضيه لأنه سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
وقوله {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} أي وإن ربك يا محمد لهو الغالب على أمره الذي لا يمانع في شيء يريده ولا يحال بين مراده الرحيم بعباده فاصبر على دعوته وتوكل عليه فإنه ناصرك ومذل أعدائك.
__________
1 الترائي: تفاعل إذ هو من الجانبين كل جانب رأى الثاني.
2 ردع موسى عليه السلام بقوله كلا الظانين أن فرعون مدركهم وعلل لعدم إدراك فرعون بقوله: {إن معي ربي سيهدين} أي: سيبين لي سبيل النجاة فنسلكه فننجوا بإذن الله.
3 {الفرق} : القسم من الشيء المنفلق، وعليه فالفرقة: القسمة من البحر التي كانت كالجبل العظيم. ولذا قال ابن عباس: صار البحر اثنى عشر طريقاً لكل سبط طريق أي: لكل قبيلة من قبائل بني إسرائيل طريق خاص بها فالبحر انقسم قسمين كان ما بين جانبيه كالفج العظيم، وفي ذلك الفج كانت طريق بني إسرائيل.
4 {أزلفنا} أي جمعنا وقربنا فرعون وملأه لإغراقهم وإهلاكهم وسميت مزدلفة ليلة جمع: لازدلافها: أي لقربها من منى أو عرفات وسميت ليلة جمع لاجتماع الحجاج فيها، قال الشاعر:
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت
فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
5 القرطبي رحمه الله تعالى رد الضمير في قوله تعالى: {وما كان أكثرهم مؤمنين} إلى فرعون وملئه فقال: لأنه مل يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسيا امرأة فرعون ... الخ في حين أن أكثر المفسرين على أن الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو وجه العبرة من السياق.(3/653)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ظهور آثار الاستعباد في بني إسرائيل متجلية في خوفهم مع مشاهدة الآيات.
2- ثبوت صفة المعية الإلهية في قول موسى {إن معي ربي} إذ قال له عند إرساله {إنني معكما} .
3- ثبوت الوحي الإلهي.
4- آية انفلاق البحر من أعظم الآيات.
5- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقصة مثل هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بوحي خاص.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
شرح الكلمات:
واتل عليهم نبأ إبراهيم: أي اقرأ يا رسولنا على قومك خبر إبراهيم وشأنه العظيم.
لأبيه وقومه: أي آزر والبابليين.(3/654)
فنظل لها عاكفين: أي فنقيم أكثر النهار عاكفين على عبادتها.
قالوا بل وجدنا: أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر بل وجدنا آباءنا لها عابدين فنحن تبع لهم.
فإنهم عدو لي: أي أعداء لي يوم القيامة إذا أنا عبدتهم لأنهم يتبرءون من عابديهم.
إلا رب العالمين: فإن من يعبده لا يتبرأ منه يوم القيامة بل ينجيه من النار ويكرمه بالجنة.
فهو يهدين: أي إلى ما ينجيني من العذاب ويسعدني في دنياي وأخراي.
والذي يميتني ثم يحيين: أي يميتني عند انتهاء أجلي، ثم يحييني ليوم الدين.
يوم الدين: أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة والبعث الأخر.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص إبراهيم عليه السلام والقصد منه عرض حياة إبراهيم الدعوية على مسامع قريش قوم محمد صلى الله وعليه وسلم علهم يتعظون بها فيؤمنوا ويوحدوا فيسلموا ويسلموا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة قال تعالى {واتل عليهم نبأ إبراهيم1} أي اقرأ على قومك من قريش خبر إبراهيم في الوقت الذي قال لأبيه وقومه {ما تعبدون} مستفهماً إياهم ليرد على جوابهم وهو أسلوب حكيم في الدعوة والتعليم يسألهم ويجيبهم بناء على مقتضى سؤالهم فيكون ذلك أدعى للفهم وقبول الحق: {قالوا نعبد أصناماً} أي في صور تماثيل {فنظل لها عاكفين2} فنقيم أكثر النهار عاكفين حولها نتقرب إليها ونتبرك بها خاشعين خاضعين عندها. ولما سمع جوابهم وقد صدقوا فيه قال لهم {هل3 يسمعونكم إذ تدعون} أي إذ تدعونها {أو ينفعونكم} إن طلبتم منهم منفعة {أو يضرون} إن طلبتم منهم أن يضروا أحداً تريدون ضره أنتم؟ فأجابوا قائلين في كل ذلك لا، لا، لا. وإنما وجدنا آباءنا كذلك
__________
1 {نبأ إبراهيم} قصته مع قومه والهمزة الثانية تخفف وهو أجود من تحقيقها. نبأ إبراهيم أو نبأ إبراهيم، والمقصود من تلاوة هذه القصة طلب هداية قريش إلى الحق بإسماعهم أخبار الأولين ومشاهدة ما دار من جدال بين الرسل وأممهم.
2 {فنظل} هذا اللفظ يدل أنهم يقضون فترة طويلة من النهار عاكفين حولها لعبادتها وأما في الليل فيعبدون الكواكب لمشاهدتها والتماثيل إنما هي صور لها فإذا غابت عبدوا صورها بالنهار.
3 أراد أي إبراهيم بقوله: {هل يسمعونكم} فتح باب المجادلة ليصل إلى إقناعهم إن شاء الله ذاك, وليست هذه أول محاجة بل حاجه إبراهيم أباه على انفراد وحاجه هذه المرة مع قومه ولا شك أن الحجاج دام سنوات فما ذكر هنا غير ما ذكر في الصافات والأنبياء ومريم.(3/655)
يفعلون ففعلنا مثلهم اقتداءً بهم واتباعا لطريقتهم، وهنا صارحهم إبراهيم بما يريد أن يفهموه عنه فقال {أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون} الذين هم أجدادكم الذين ورث عنهم آباؤكم هذا الشرك والباطل {فإنهم عدو لي} أي أعداء لي وذلك يوم القيامة إن أنا عبدتهم معكم، لأن كل مَنْ عُبد من دون الله يتبرأ يوم القيامة ممن عبده ويعلن عداوته له طلباً لنجاة نفسه من عذاب الله. وقوله {إلا رب العالمين} فإنه لا يكون عدواً لمن عبده بل يكون ودوداً له رحيماً به. ألا فاعبدوه يا قوم واتركوا عبادة من يكون عدواً لكم يوم القيامة!!
ثم أخذ إبراهيم يذكر ربه ويثني عليه ويمجده تعريفاً به وتذكيراً لأولئك الجهلة المشركين فقال {الذي خلقني فهو1 يهدين} أي إلى طريق نجاتي وكمالي وسعادتي وذلك ببيانه لي محابه لآتيها، ومساخطه لأتجنبها، {والذي هو يطعمني ويسقين} أي يغذوني بأنواع الأطعمة ويسقيني بما خلق ويسر لي من أنواع الأشربة من ماء ولبن وعسل، {وإذا مرضت} بأن اعتل جسمي وسقم فهولا غيره يشفيني، {والذي يميتني} يوم يريد إماتتي عند انتهاء ما حدد لي من أجل تنتهي به حياتي، ثم يحييني يوم البعث والنشور، {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي2} أي يسترها ويمحو أثرها من نفسي يوم الدين أي يوم الجزاء والحساب على عمل الإنسان في هذه الدار إذ هي دار عمل والآخرة دار جزاء.
وإذا قيل ما المراد من الخطيئة التي ذكر إبراهيم لنفسه؟ فالجواب إنها الكذبات الثلاث التي كانت لإبراهيم طوال حياته الأولى قوله {إني سقيم} والثانية {بل فعله كبيرهم هذا} والثالثة قولي للطاغية إنه أخي ولا تقولي إنه زوجي، هذه الكذبات التي كانت لإبراهيم فهو خائف منها ويوم القيامة لما تطلب منه البشرية الشفاعة عند ربها يذكر هذه الكذبات ويقول إنما أنا من وراء وراء فاذهبوا إلى موسى.
ألا فليتعظ المؤمنون الذين كذبهم لا يعد كثرة!!
__________
1 حذفت الياء في (يهدين) و (يسقين) و (يشفين) و (يحيين) لأن الحذف في رؤوس الآي حسن لتتفق كلهما.
2 روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ "قال: لا إنّه لم يقل يوماً ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين".(3/656)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر هذا القصص.
2- تقرير التوحيد بالحوار الذي دار بين إبراهيم إمام الموحدين وقومه المشركين.
3- بيان أن كل من عبد معبود غير الله تعالى سيكون له عدواً لدوداً يوم القيامة.
4- بيان أن العكوف على الأضرحة والتمرغ في تربتها وطلب الشفاء منها شرك.
5- بيان الأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى من طريق السؤال والجواب.
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الأخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِن دُونِ اللهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93)
شرح الكلمات:
رب هب لي حكماً: أي يا رب أعطني من فضلك حكماً أي علماً نافعاً وارزقني العمل به.
وألحقني بالصالحين: لأعمل عملهم في الدنيا وأكون معهم في الدار الآخرة.
واجعل لي لسان صدق في الآخرين: أي اجعل لي ذكراً حسناً أذكر به فيمن يأتي بعدي.
واغفر لأبي: كان هذا منه قبل أن يتبين له أنه عدو لله.
ولا تخزني يوم يبعثون: أي لا تفضحني.
بقلب سليم: أي من الشرك والنفاق.
وأزلفت الجنة: أي أدنيت وقربت للمتقين.(3/657)
وبرزت الجحيم للغاوين: أي أظهرت وجليت للغاوين
هل ينصرونكم: أي بِدَفْع العذاب عنكم.
معنى الآيات:
هذا آخر قصص إبراهيم وخاتمته لما ذكر إبراهيم قومه ووعظهم رفع يديه إلى ربه يسأله ويتضرع إليه فقال {رب هب لي حكماً} أي علماً نافعاً يمنعني من فعل ما يسخطك عني ويدفعني إلى فعل ما يرضيك عني، {وألحقني بالصالحين} في أعمالهم الخيرية في الدنيا وبمرافقتهم في الجنة1 {واجعل لي لسان2 صدق في الآخرين} أي اجعل لي ذكراً حسناً أذكر به فيمن يأتي من عبادك المؤمنين، {واجعلني3 من ورثة جنة النعيم} الذين يرثونها بالإيمان والتقوى بعد فضلك عليهم ورحمتك بهم، {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} أي الجاهلين بك وبمحابك ومكارهك فما عبدوك ولا تقربوا إليك. وكان هذا من إبراهيم قبل العلم بأن أباه عدو لله حيث سبق له ذلك أزلاً، إذ قد تبرأ منه بعد أن علم ذلك وقوله {ولا تخزني} أي لا تذلني {يوم يبعثون} أي من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم {يوم لا ينفع مال ولا بنون} وهو يوم القيامة {إلا من أتى الله بقلب4 سليم} أي لكن من أتى الله أي جاءه يوم القيامة وقلبه سليم من الشرك والنفاق فهذا ينفعه عمله الصالح لخلوه مما يحبطه وهو الشرك والكفر الظاهر والباطن وقوله تعالى {وأزلفت الجنة} أي قربت وأدنيت للمتقين الله ربهم فلم يشركوا به في عبادته ولم يجاهروا بمعاصيه، {وبرزت الجحيم5} أي أظهرت وارتفعت {للغاوين} أي أهل الغواية والضلالة في الدنيا من المشركين والمسرفين في الإجرام والشر والفساد {وقيل لهم} أي سئلوا في عرصات القيامة {أين ما كنتم تعبدون من دون الله} ؟ أروناهم {هل ينصرونكم} مما أنتم فيه
__________
1 وفي أعالي الدرجات.
2 وقد استجاب الله تعالى له حيث اجتمع أهل الأديان على الثناء عليه والانتساب إلى ملته وإن كانوا مبطلين لما خالطهم من الشرك وها هي ذي أمة الإسلام لا تُصلي صلاة إلاّ وتصلي عليه وعلى آله فهذا ذكر حسن خالد وثناء عطر باق قال مالك: لا بأس أن يحب المرء أن يثني عليه صالحاً ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى لهذه الآية وغيرها نحو: {سيجعل لهم الرحمن وداً} {وألقيت عليك محبة مني} .
3 في هذا ردّ على من زعم أنه لا يسأل الله جنة ولا يستجيره من النار.
4 السليم من الشك والشرك وأمراض الكبر والحسد والعجب والغل ولأنه إذا سلم القلب سلمت الجوارح لحديث: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" من الصحيح.
5 أي: تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخلوها حتى يستشعروا الروع والحزن كما يستشعر أهل الجنة المسرة والفرح قبل دخولها. إذ الجنة تزلف والجحيم تبرز, وهذا في عرصات القيامة.(3/658)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
فيدفعون عنكم العذاب، {أو ينتصرون} لأنفسهم فيدفعون عنها العذاب إن كانوا من أهل النار لأنهم رضوا بأن يعبدوا ودعوا الناس إلى عبادتهم كالشياطين والمجرمين من الإنس والجن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-بيان أن الجنة تورث ويذكر تعالى سبب إرثها وهو التقوى في قوله {تلك الجنة1 لتي نورث من عبادنا من كان تقياً}
2- مشروعية الاستغفار للوالدين إن ماتا على التوحيد.
3- بطلان الانتفاع يوم القيامة بغير الإيمان والعمل الصالح بعد فضل الله ورحمته.
4- الترغيب في التقوى والتحذير من الغواية.
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
شرح الكلمات
فكبكبوا فيها: أي ألقوا على وجوههم في جهنم ودحرجوا فيها حتى انتهوا إلى قعرها.
والغاوون: جمع غاوٍ وهو الفاسد القلب المدنس الروح من الشرك والمعاصي.
وجنود إبليس: أي أتباعه وأنصاره وأعوانه من الإنس والجن.
__________
1 لآية من سورة مريم عليها السلام.(3/659)
إذ نسويكم برب العالمين: أي في العبادة فعبدناكم كما يعبد الله جل جلاله.
ولا صديق حميم: أي يهمه أمرنا وتنفعنا صداقته نحتمى به من أن نعذب.
فلو أن لنا كرة: أي رجعة إلى الدنيا لنؤمن ونوحد ونعبد ربنا بما شرع لنا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {فكبكبوا} 1 ب عد ذلك الاستفهام التوبيخي التقريعي الذي تقدم في قوله تعالى {وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون} ؟ وفشلوا في الجواب ولم يجيدوه إذ هو غير ممكن فأخبر تعالى عنهم بأنهم كبكبوا في جهنم - أي كبوا على وجوههم ودحرجوا فيها هم والغاوون جمع غاوٍ أي فاسد العقيدة والعمل وجنود إبليس أجمعون من أتباع الشيطان وأعوانه من دعاة الشرك والمعاصي والجريمة في الأرض من الإنس والجن قوله تعالى {قالوا وهم2 فيها يختصمون} أي وهم في جهنم يختصمون كل واحد يحمل الثاني التبعة والمسؤولية فقال المشركون لمن أشركوا بهم {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} أي ظاهر بين لا يختلف فيه، وذلك {إذ نسويكم برب العالمين} عز وجل فنعبدكم معه، {وما أضلنا إلا المجرمون} وهم دعاة الشرك والشر والضلال الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها، وأجرموا علينا فأفسدوا نفوسنا بالشرك والمعاصي، وقوله تعالى {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} هذا قولهم أيضاً قرروا فيه حقيقة أخرى وهي أنه ليس لهم في هذا اليوم من شافعين يشفعون لهم عند الله تعالى لا من الملائكة ولا من الإنس والجن إذ لا شفاعة تنفع من مات على الشرك والكفر، وقولهم ولا صديق حميم أي وليس لنا أي من صديق حميم تنفعنا صداقته وولايته.
وقالوا متمنين بعد اليأس من وجود شافعين {فلو أنّ لنا كرة4} أي رجعة إلى دار الدنيا {فنكون من المؤمنين} فنؤمن ونوحد ونتبع الرسل. وهذا آخر ما أخبر تعالى به عنهم من كلامهم في
__________
1 {كبكبوا} أي: كبوا فيها كباً بعد كب لأنّ كبكبوا مضاعف: كبوا بالتكرير نحو: كفكف الدمع أي: كفّه مرة بعد مرة.
2 من الجائز أن يكون هذا من كلام إبراهيم إلاّ أن كونه من كلام الله تعالى موعظة لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى وقد استظهره ابن عطية رحمه الله تعالى وجملة {وهم فيها يختصمون} حالية، وجملة تالله الخ مقول القول.
(إذ) ظرفية وليست تعليلية أي: الوقت الذي كنا نسويكم برب العالمين، وهذا الكلام منهم كلام متندم حزن على ما فاته وصدر منه كقول أبي بكر وقد أمسك بلسانه وقال له: أنت أوردتني الموارد وكقوله: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شرّ تسلم.
4 {لو} حرف تمن وأصلها: لو الشرطية لكنها تنوسي منها معنى الشرط إذ المراد: لو رجعنا إلى الدنيا لأمنا وعملنا صالحاً ولما لم يقصد تعليق الامتناع على الامتناع تمحضت لو للتمني.(3/660)
جهنم
وقوله تعالى {إن في1 ذلك} أي المذكور من كبكبة المشركين والغاوين وجنود إبليس أجمعين في جهنم وخصومتهم فيها وما قالوا وتمنوه وحرمانهم من الشفاعة وخلودهم في النار {لآية} أي لعبرة لمن يعتبر بغيره، {وما كان أكثرهم مؤمنين} ولم يكن أكثر قومك يا رسولنا مؤمنين وإلا لانتفعوا بهذه العبر فآمنوا ووحدوا وأسلموا {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} أي الغالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الرحيم بعباده إن أنابوا إليه وأخلصوا العبادة له يكرمهم في جواره في جنات النعيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن دعاة الزنى والربا والخرافة والشركيات من الناس هم من جند إبليس.
2- تقرير أن المجرمين هم الذين أفسدوا نفوسهم ونفوس غيرهم بدعوتهم إلى الضلال وحملهم على المعاصي.
3- تقرير أن الشفاعة لن تكون لمن مات على الشرك والكفر.
4- لا تنفع العبر والمواعظ والآيات في هداية قوم كتب الله أزلاً شقاءهم وعلم منهم أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم.
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
__________
1 هذا تكرر ثالث لهذه الجملة تعداداً على المشركين وتسجيلاً لتصميمهم على الشرك والتكذيب بالنبوة والبعث.(3/661)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
شرح الكلمات:
كذبت قوم نوح المرسلين: قوم نوح الأمة التي بعث فيها، والمراد من المرسلين نوح عليه السلام
أخوهم نوح: أي في النسب.
ألا تتقون: أي اتقوا الله ربكم فلا تعصوه بالشرك والمعاصي.
رسول أمين: أي على مما أمرني ربي بإبلاغه إليكم.
من أجر: أي لا أسألكم على إبلاغ رسالة الله أجرة مقابل البلاغ.
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون: أي كيف نتبعك على ما تدعونا إليه وقد اتبعك أراذل الناس أي سفلتهم وأهل الخسة فيهم.
إن حسابهم إلا على ربي: أي ما حسابهم إلا على ربي.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص نوح عليه السلام فقال تعالى {كذبت قوم نوح1} أي بما جاءهم به نوح من الأمر بالتوحيد وترك الشرك {إذ قال لهم أخوهم} أي في النسب2 {نوح ألا تتقون} أي عقاب الله وأنتم تشركون به، وتكذبون رسوله {إني لكم رسول أمين} على ما أبلغكم من وحي الله تعالى فاتقوا الله بترك الشرك وأطيعوني فيما أدعوكم إليه وآمركم به {وما أسألكم عليه من أجر} أي على البلاغ من أجر أتقاضاه منكم مقابل ما أبلغكم من رسالة ربكم. {إن أجرى إلا على الله} إذ هو الذي كلفني {فاتقوا الله} أي خافوا عقابه أن يحل بكم وأنتم تكفرون به وتكذبون برسوله وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه. بعد هذا الذي أمرهم به وكرره عليهم من تقوى الله وطاعة لرسوله كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله: {قالوا أنؤمن لك} أي أنصدقك ونتابعك على ما جئت به من الدين {واتبعك الأرذلون3} أي سفلة الناس وأخساؤهم؟.
فأجابهم نوح بقوله {وما علمي بما كانوا يعملون} فيما يعملونه بعيدين عني من
__________
1 {كذبت قوم نوح} أنّث الفعل إرادة جماعة قوم نوح ونظيره: {قالت الأعراب} .
2 وأخوّة مجانسة أو هو من باب قول العرب: يا أخا بني تميم: يريدون: يا واحداً منهم، قال الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
3 جمع التكسير: {أراذل} والأنثى: الرذلى والجمع: الرُّذل، وجملة: {واتبعك} حالية، وفيها إضمار قد أي: وقد اتبعك.(3/662)
الباطن أو الظاهر أنا لا أعلمه ولا أسأل عنه ولا أحاسب عليه، {إن حسابهم1 إلا على ربي} هو الذي يحاسبهم ويجزيهم لو تشعرون بهذه الحقيقة لما عبتموهم لي وحملتموني مسئولية عملهم {وما أنا بطارد المؤمنين2} أي من حولي، {إن أنا إلا نذير3 مبين} فلست بجبار ولا ذي سلطان فأطرد الناس وظيفتي أنى أنذر الناس عاقبة الكفر والمعاصي ليقلعوا عن ذلك فينجوا من عذاب الله ويسلموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن من كذب رسولاً فكأنما كذب كل الرسل وذلك باعتبار أن دعوتهم واحدة وهي أن يُعْبَدَ الله وحده بما شرع للناس من عبادات تطهرهم وتزكيهم.
2- إثبات أخوة النسب، ولا تعارض بينها وبين أخوة الدين.
3- عدم جواز أخذ أجرة على دعوة الله تعالى. ووجوب إبلاغها مجانا.
4- وجوب التقوى لله تعالى، وطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5- لا يجوز طرد الفقراء من مجالس العلم ليجلس مجالسهم الأغنياء وأهل الجاه.
إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
__________
1 قيل لسفيان: إنّ امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار؟ فقال: "إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون} .
2 ظاهر الكلام أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء من المؤمنين كما فعلت قريش.
3 جملة: {إن أنا إلا نذير} استئناف في معنى التعليل لعدم طردهم والقصر في الجملة إضافي قصر موصوف على صفة.(3/663)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن دعِِوتنا إلى ترك آلهتنا وعبادة إلهك وحده.
من المرجومين: أي المقتولين رجماً بالحجارة.
فافتح بيني وبينهم فتحاً: أي أحكم بيني وبينهم حكماً بأن تهلكهم وتنجيني ومن معي من المؤمنين.
في الفلك المشحون1: أي المملوء بالركاب وأزواج المخلوقات الأخرى.
بعد الباقين: أي بعد إنجائنا نوحاً والمؤمنين بركوبهم في السفينة أغرقنا الكافرين إذ إغراقهم كان بعد نجاة المؤمنين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين نوح وقومه إنه لما دعاهم إلى التوحيد وكرر عليهم الدعوة وأفحمهم في مواطن كثيرة وأعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله {قالوا لئن لم تنته يا نوح} أي قسماً بآلهتنا لئن لم تنته يا نوح من تسفيهنا وسب آلهتنا ومطالبتنا بترك عبادتها {لتكونن من المرجومين2} أي لنقتلنك رمياً بالحجارة. وهنا وبعد دعوة دامت ألف سنة إلا خمسين عاماً رفع نوح شكواه إلى الله قائلا: {رب إن قومي3 كذبون فافتح بيني وبينهم فتحاًْ} أي أحكم بيننا وافصل في قضية وجودنا مع بعضنا بعضا فأهلكهم {ونجني ومن معي من المؤمنين} قال تعالى {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون} أي المملوء بأنواع الحيوانات {ثم أغرقنا4 بعد الباقين} أي بعد إنجائنا نوحاً ومن معه من المؤمنين بأن ركبوا في الفلك وما زال الماء يرتفع النازل من السماء والنابع من الأرض حتى غرق كل من على الأرض والجبال ولم ينج أحد إلا نوح وأصحاب السفينة، قال تعالى {إن في ذلك} أي المذكور من الصراع الذي دار بين التوحيد والشرك وفي عاقبة التوحيد وهي نجاة أهله والشرك وهي دمار أهله {لآية} أي
__________
1 الشحن: ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم ولم يقل: المشحونة بل قال. {المشحون} لأنه هنا واحد لا جمع.
2 كل لفظ {رجم} في القران معناه القتل رمياً بالحجارة إلا قوله: {لئن لم تنته لأرجمنك} فإنه بمعنى لأسبنّك وأشتمنّك.
3 هذه الجملة قالها تمهيداً للدعاء عليهم.
4 ثم: للتراخي الرتبي في الإخبار لأن إغراق أمة كاملة أعظم دلالة على عظيم القدرة من إنجاء طائفة من الناس.(3/664)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
عبرة1. ولكن أهل مكة لم يعتبروا {وما كان أكثرهم مؤمنين2} لما سبق في علم الله تعالى من عدم إيمانهم إذاً فلا تحزن عليهم. {وإن ربك} أيها الرسول الكريم لهو لا غيره العزيز الغالب الرحيم بمن تاب من عباده فإنه لا يعذبه بل يرحمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة أن الظلمة والطغاة إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى القوة.
2- جواز الاستنصار بالله تعالى وطلب الفتح بين المظلوم والظالمين.
3- سرعة استجابة الله تعالى لعبده نوح وذلك لصبره قروناً طويلة فلما انتهى صبره ورفع شكاته إلى ربه أجابه فوراً فأنجاه وأهلك أعداءه.
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (131)
شرح الكلمات:
كذبت عاد: عاد اسم أبي القبيلة وسميت القبيلة به.
أخوهم هود: أخوهم في النسب.
فاتقوا الله: أي خافوا عقابه فلا تشركوا به شيئاً.
__________
1 وجه العبرة أن الله تعالى أنجى الموحدين وأهلك المشركين بعد أن أبلغ نوح رسالته بصبر واحتساب لا نظير لهما إذ دعا وبلغ وأوذي وصبر وصابر ألف سنة إلا خمسين عاماً.
2 سبق أن ذكرت أن المراد بمن أكثرهم لا يؤمنون هم أكابر مجرمي مكة وعلى رأسهم المستهزئون وهدا من إطلاق العام وإرادة الخاص لأن الذين آمنوا وأسلموا أكثر ممن ماتوا على الكفر أو نفي الإيمان مقيد بزمن معين لا يتعداه.(3/665)
أتبنون بكل ريع: أي مكان عال مرتفع.
آية: أي قصراً مشيداً عالياً مرتفعاً.
تعبثون: أي ببنيانكم حيث تبنون مالا تسكنون.
وتتخذون مصانع: أي حصوناً منيعة وقصوراً رفيعة.
لعلكم تخلدون: أي كأنكم تأملون الخلود في الأرض وترجونه.
وإذا بطشتم: أي أخذتم أحداً سطوتم عليه بعنف وشدة.
جبارين: أي عتاة متسلطين.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص هود عليه السلام يقول تعالى {كذبت عاد1} أي قبيلة عاد {المرسلين} أي رسول الله هوداً، {إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون2} أي ألا تتقون عقاب الله بترككم الشرك والمعاصي بمعنى اتقوا الله ربكم فلا تشركوا به، وقوله {إني لكم رسول أمين} يخبرهم بأنه رسول الله إليهم يبلغهم عن الله أمر ونهيه وأنه أمين على ذلك فلا يزيد ولا ينقص فيما أمره ربه بإبلاغه إليهم، وعليه {فاتقوا3 الله وأطيعون} أي بوصفي رسول الله إليكم فإن طاعتي واجبة عليكم حتى أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
وقوله {وما أسألكم عليه من أجر} أي على إبلاغ رسالتي إليكم من أجر أي من أي أجر كان. ولو قل {إن أجري} أي ما أجري إلا على رب العالمين سبحانه وتعالى إذ هو الذي أرسلني وكلفني فهو الذي أرجو أن يثيبني على حمل رسالتي إليكم وإبلاغها إياكم. وعليه فاتقوا الله أي خافوا عقابه بترك الشرك به والمعاصي وأطيعوني بقبول ما أبلغكم به لتكملوا وتسعدوا.
وقوله: {أتبنون بكل ريع4 آية تعبثون} ينكر هود على قومه إنهماكهم في الدنيا
__________
1 جملة مستأنفة استئناف انتقال لعرض الأحداث التاريخية تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموعظة وذكرى لغيره، وعاد بمعنى القبيلة فلذا أنّث الفعل معها، وكانت منازل عاد وديارهم ما بين عُمان وحضر موت شرقاً وغرباً ومتغلغلة في الشمال إلى الرمال وهي الأحقاف.
2 الاستفهام معناه الأمر والحض على التقوى التي هي خوف من الله تعالى يحمل على الإيمان به وعبادته وترك عبادة ما سواه.
3 الفاء: للتفريع فالجملة متفرعة عن جملة (إني لكم رسول أمين) أي: فينادى إني رسول أمين فاتبعوا ما أقول لكم {واتقوا الله وأطيعون} وحذفت الياء من، {فاتقون} مراعاة لرؤوس الآي.
4 الرّيع: المكان المرتفع أو الطريق الفج بين الجبيلين، والآية العلامة: الدالة على الطريق والمراد: بناء عالٍ هو آية في الفنّ المعماري.(3/666)
وانشغالهم بما لا يعني وإعراضهم عما يعنيهم فيقول لهم كالمنكر عليهم أتبنون بكل ريع أي مكان عال مرتفع آية أي قصراً مشيداً آية في ارتفاعه وعلوه. تعبثون حيث لا تسكنون فيما تبنون فهو لمجرد اللهو والعبث وقوله {وتتخذون مصانع} وهي مبان عالية كالحصون أو خزانات الماء أو الحصون {لعلكم تخلدون1} أي كيما تخلدون، وما أنتم بخالدين، وإنما مقامكم فيها قليل. وقوله {وإذا بطشتم2 بطشتم جبارين} أي إذا سطوتم على أحد تسطون عليه سطو العتاة الجبارين فتأخذون بعنف3 وشدة بلا رحمة ولا رفق {فاتقوا الله} يا قوم فخافوا عقابه وأليم عذابه، {وأطيعون} فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه عن ربي فإن ذلك خير لكم من الإعراض والتمادي في الباطل.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- الأمر بالتقوى من النصح للمأمور بها، لأن النجاة والفوز لا يتمان للعبد إلا عليها.
2- الرسل أمناء على ما يحملون وما يبلغون الناس.
3-حرمة أخذ الأجرة على بيان الشرع والدعوة إلى ذلك.
4- ينبغي للعبد أن لا يسرف فيبني مالا يسكن ويد خرما لا يأكل.
5- استنكار العنف والشدة في الأخذ وعند المؤاخذة.
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
__________
1 في الجمل الثلاثة تبنون وتتخدرون ولعلكم تلخدون توبيخ لهم على هذا السلوك وإنكار عليهم.
2 البطش: السطوة والأخذ بعنف، والجبار: القتال في غير حق والمتسلط العاتي.
3 ويدل على قوتهم وشدّتهم قولهم: {من أشدّ منا قوة} من سورة فصّلت وكان العرب ينسبون الشيء القوي إلى عاد فيقولون: هذا عادي.(3/667)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
شرح الكلمات:
أمدكم: أي أعطاكم منعماً عليكم.
بأنعام: هي الإبل والبقر والغنم.
عذاب يوم عظيم: هو يوم هلاكهم في الدنيا ويوم بعثهم يوم القيامة.
س واء علينا: أي مستوٍ عندنا وعظك وعدمه فأنا لا نطيعك.
إن هذا إلا خلق الأولين1: أي ما هذا الذي تعظنا فيه من البناء وغيره إلا دأب وعادة الأولين فنحن على طريقتهم، وما نحن بمعذبين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين نبي الله هود عليه السلام وبين قومه المشركين إذ أمرهم بالتقوى وبطاعته وأمرهم أيضاً بتقوى الله الذي أمدهم أي أنعم عليهم بما يعلمونه من أنواع النعم فإن طاعة المنعم شكر له على إنعامه ومعصيته كفر لإنعامه فقال {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون2} وبين ذلك بقوله {أمدكم بأنعام} أي مواشي من إبل وبقر وغنم {وبنين} أي أولاد ذكور وإناث وجنات أي بساتين {وعيون} لسقيها وسقيكم وتطهيركم3، ثم قال لهم في إشفاق عليهم {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} إن أنتم أصررتم على الشرك والمعاصي وقد يكون عذاباً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، وقد عذبوا في الدنيا بإهلاكهم ويعذبون في الآخرة لأنهم ماتوا كفاراً مشركين عصا ة مجرمين، كان هذا ما وعظهم به نبيهم هود عليه السلام، وكان ردهم على وعظه ما أخبر تعالى به في قوله {قالوا سواء علينا أو عظمت أم لم تكن من الواعظين} أي مستوٍ عندنا وعظك أي تخويفك وتذكيرك وعدمه فما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين وقالوا {إن هذا} الذي نحن عليه من البناء والإشادة وعبادة آلهتنا {إلا خلق الأولين4} أي دأب وعادة من سبقنا من الناس، وما نحن بمعذبين عليه قال تعالى مخبراً عن نتيجة ذلك
__________
1 قرأ الجمهور (خُلق) بضم كل من الخاء واللام وهو بمعنى السجية المتمكنة في النفس الباعثة على عمل ما يناسبها ويقال له: القوى النفسية وقراً غير الجمهور (خَلق) بفتح الخاء وسكون اللام وهر بمعنى الاختلاق والكذب أي: ما تقوله لنا إنما هو كذب واختلاق.
2 أي: من الخيرات ثم فسرها بقوله: {أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون} .
3 فهو الذي يحب أن يعبد فيذكر ويُشكر ولا يكفر.
4 اختلف في تحديد معنى قولهم: {إن هذا إلا خلق الأولين} بفتح الخاء وإسكان اللام أي: اختلاقهم وكذبهم ومن قرأ (خُلُق) بضم الخاء واللام معناه عاداتهم لأن الخلق يطلق على الدين والطبع والمروءة، وما في التفسير أولى بتوجيه الآية.(3/668)
الحوار وتلك الدعوة التي قام بها نبي الله هود {فكذبوه} أي كذبوا هوداً فيما جاءهم به ودعاهم إليه وحذرهم منه، {فأهلكناهم1} أي بتكذيبهم وإعراضهم {إن في ذلك} الإهلاك للمكذبين عبرة لقومك يا محمد لو كانوا يعتبرون {وما كان أكثرهم مؤمنين} لما سبق في علم الله من عدم إيمانهم فلذا لم تنفعهم المواعظ والعبر، وإن ربك لهو العزيز الرحيم فقد أخذ الجبابرة العتاة فأنزل بهم نقمته وأذاقهم مر عذابه، ورحم أولياءه فأنجاهم وأهلك أعداءهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنويع أسلوب الدعوة وتذكير الجاحدين بما هو محسوس لديهم مرأي لهم.
2- التخويف من عذاب الله والتحذير من عاقبة عصيانه من أساليب الدعوة.
3- بيان سنة الناس في التقليد وإتباع آبائهم وإن كانوا ضلالاً جاهلين.
4- تقرير التوحيد والنبوة والبعث إذ هو المقصود من هذا القصص.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
__________
1 أي: بريح صرصر سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما. (من سورة الحاقة) .(3/669)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
شرح الكلمات:
كذبت ثمود المرسلين: أي كذبت قبيلة ثمود نبيّها صالحاً.
فيما هاهنا آمنين: أي من الخيرات والنعم غير خائفين من أحد.
طلعها هضيم: أي طلع النخلة لين ناعم ما دام في كُفرَّاه أي غطاؤه الذي عليه.
وتنحتون من الجبال بيوتاً: أي تنجرون بآلات النحت الصخور في الجبل وتتخذون منها بيوتاً.
فرهين: أي حذقين من جهة وبطرين متكبرين مغترين بصنيعكم من جهة أخرى.
وأطيعون: أي فيما أمرتكم به.
المسرفين: أي في الشر والفساد بالكفر والعناد.
الذين يفسدون في الأرض: أي بارتكاب الذنوب العظام فيها.
ولا يصلحون فيها: أي بفعل الطاعات والقربات.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص نبي الله صالح عليه السلام قال تعالى {كذبت1 ثمود المرسلين} أي جحدت قبيلة ثمود ما جاءها به رسولها صالح، {إذ قال لهم أخوهم} في النسب لا في الدين إذ هو مؤمن وهم كافرون {ألا تتقون2} أي يحضهم على التقوى ويأمرهم بها لأن فيها نجاتهم والمراد من التقوى اتقاء عذاب الله بالإيمان به وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله
وقوله {إني لكم رسول أمين} يعلمهم بأنه مرسل من قبل الله تعالى إليهم أمين على رسالة الله وما تحمله من العلم والبيان والهدى إليهم. {فاتقوا الله وأطيعون} كرر الأمر بالتقوى وبطاعته إذ هما معظم رسالته ومَتَى حقّقها المرسل إليهم اهتدوا وأفلحوا {وما أسألكم عليه من أجر} أبعد تهمة المادة لما قد يقال أنه يريد مالاً فأخبرهم في صراحة أنه لا يطلب على إبلاغهم دعوة ربهم أجراً من أحد إلا من الله رب العالمين إذ هو الذي يثيب ويجزي العاملين له وفي دائرة طاعته وقوله فيما أخبر تعالى به عنه {أتتركون3 فيما ههنا} بين
__________
1 ثمود: أمّة تسكن بالحجر شمال الحجاز، وتعرف اليوم بمدائن صالح والمراد من المرسلين: نبي الله صالح عليه السلام، وتكذيبها به معتبر تكذيبا لكل الرسل، لأن دعوة الرسل واحدة.
2 الاستفهام للإنكار أي: ينكر عليهم عدم تقواهم ويحضهم عليها.
3 الاستفهام إنكاري توبيخي وفيه حضهم على الشكر إذ ما هم فيه من النعمة يقتضي ذلك.(3/670)
أيديكم من الخيرات {آمنين} غير خائفين، وبين ما أشار إليه بقوله فيما ها هنا فقال {في جنات} أي بساتين ومزارع بمدائنهم وهي إلى الآن قائمة {وعيون وزروع، ونخل طلعها1 هضيم} أي لين ناعم ما دام في كفراه أي غلافه {وتنحتون من الجبال بيوتاً} لما خولكم الله من قوة ومعرفة بفن النحت حتى أصبحتم تتخذون من الجبال الصم بيوتاً تسكنونها شتاء فتقيكم البرد. وقوله {فرهين} هذا حال من قوله {وتنحتون من الجبال} ومعنى {فرهين2} حذقين فن النحت وبطرين متكبرين مغترين بقوتكم وصناعتكم، إذاً {فاتقوا الله} يا قوم بترك الشرك والمعاصي {وأطيعون} فيما آمركم به وأنهاكم عنه وأدعوكم إليه {ولا تطيعوا أمر المسرفين3} أي على أنفسهم بارتكاب الكبائر وغشيان الذنوب. {الذين يفسدون في الأرض} أي بمعاصي الله ورسوله فيها {ولا يصلحون} أي جمعوا بين الفساد والإفساد، وترك الصلاح والإصلاح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الرسل واحدة ولذا التكذيب برسول يعتبر تكذيباً بكل الرسل.
2- الأمانة شعار كل الرسل والدعاة الصادقين الصالحين في كل الأمم والعصور.
3- مشروعية التذكير بالنعم ليذكر المنعم فيُحب ويطاع.
4- التحذير من طاعة المسرفين في الذنوب والمعاصي لوخامة عاقبة طاعتهم.
5- تقرير أن الفساد في الأرض يكون بارتكاب المعاصي فيها.
__________
1 الطلع: وعاء كنصل السيف بباطنه شماريخ القنو ويسمى هذا الطلع بالكم بكسر الكاف ويقال له: الطلع لأنه يطلع من قلب النخلة وبعد أيام من طلوعه ينفلق من نفسه ويؤبر وبعد قليل يصبح بلحاً فبُسراً فُرطباً فتمراً وذكر النخل يقال له: فحال بضم الفاء وتشديد الحاء مفتوحة والجمع فحاحيل.
2 {فرهين} قراءة الجمهور، وقرىء {فارهين} مشتق من الفراهة التي هي الحذق والكياسة أي: عارفين حذقين بنحت البهوت من الجبال.
3 يريد رؤساءهم في الضلالة ممن يحثونهم على الشرك والفساد في البلاد بارتكاب الذنوب والآثام.(3/671)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
شرح الكلمات:
إنما أنت من المسحرين: الذين سحروا وبُولغ في سحرهم حتى غلب عقولهم.
فأت بآية إن كنت من الصادقين: إن كنت من الصادقين في أنك رسول فأتنا بآية تدل على ذلك.
لها شرب ولكم شرب يوم معلوم: أي لها يوم تشرب فيه من العين ولكم يوم آخر معلوم.
فعقروها فأصبحوا نادمين: أي فلم يؤمنوا فقتلوها فأصبحوا نادمين لما شاهدوا العذاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين صالح عليه السلام وقومه ثمود فلما ذكرهم ووعظهم ردوا عليه بما أخبر تعالى عنهم في قوله {قالوا إنما أنت من المسحرين1} أي الذين سحروا وبُولغ في سحرهم حتى غلب على عقولهم فهم لا يعرفون ما يقولون {ما أنت إلا بشر مثلنا} تأكل الطعام وتشرب الشراب فلا أنت رب ولا ملك فنخضع لك
__________
1 وقيل: {من المسحرين} أي: من المعللين بالطعام والشراب مأخوذ من السحر وهو: الرئة يعنون أنه بشر له رئة يأكل ويشرب كسائر الناس فلا يفضلهم وشاهده قول الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام وبالشراب
موضعين مسرعين إلى الموت وما فلي التفسير أولى وأظهر.(3/672)
ونطيعك {فأت بآية} 1 علامة قوية ودلالة صادقة تدل على أنك رسول الله حقاً وأنت من الرسل الصادقين، فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به عنه في قوله: {قال هذه ناقة} أي عظيمة الخلقة سأل ربه آية فأعطاه هذه الناقة فما زال قائماً يصلي ويدعو وهم يشاهدون حتى أنفلق الجبل وخرجت منه هذه الناقة الآية العظيمة فقال {هذه ناقة لها شرب2} أي حظ ونصيب من ماء البلد تشربه وحدها لا يرد معها أحد ولكم أنتم شرب يوم معلوم لكم تردونه وحدكم. {ولا تمسوها بسوء} وحذرهم أن يمسوها بسوء لا بضرب ولا بقتل ولا بمنع من شرب، فإنه يأخذكم عذاب يوم عظيم قال تعالى {فعقروها} أي فكذبوه وعصوه وعقروها بأن ضربوها في يديها ورجلها فبركت وقتلوها. فلما عقروها قال لهم صالح {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} فأصبحوا بذلك نادمين3 ففي صبيحة اليوم الثالث أخذتهم الصيحة مع شروق الشمس فاهلكوا أجمعين ونجى الله تعالى صالحاً ومن معه من المؤمنين {إن في ذلك لآية} أي علامة كبرى على قدرة الله تعالى وعلمه وأنه واجب الألوهية {وما كان أكثرهم4 مؤمنين} 5 مع وضوح الأدلة لأنه لم يسبق لهم إيمان في قضاء الله وقدره {وإن ربك} أيها الرسول لهو وحده العزيز الغالب الذي لا يغالب الرحيم بأوليائه وصالحي عباده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن السحر من عمل الناس وأنه معلوم لهم معمول به منذ القدم.
2- سنة الناس في المطالبة بالآيات عند دعوتهم إلى الدين الحق.
3- وجود الآيات لا يستلزم بالضرورة إيمان المطالبين بل أكثرهم لا يؤمنون.
4- الندم من التوبة ولكن لا ينفع ندم ولا توبة عند معاينة العذاب أو أماراته.
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما قالوا. إن كنت صادقاً فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننُظر وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبناً فدعا وفعل الله ذلك. فقال, {هذه ناقة ... } الخ.
2 الشرب بكسر الشين وسكون الراء: النوبة في الماء للناقة يوماً تشرب فيه لا يزاحمونها فيه بأنعامهم وأنفسهم.
3 إن قيل: لم ما ينفع الندم وهو توبة فالجواب التوبة تنفع قبل ظهور علامات الموت والعذاب أما بعد ظهور ذلك فلا توبة تقبل وفي الحديث: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
4 كان: مزيدة لتقوية الكلام، والعبارة جائز أن يراد بها قوم صالح إذ لم يؤمن منهم إلا القليل، وأن يراد بها كفار مكة إذ أكثر المكابرين ما آمن ومات كافراً أو ما آمن في تلك الفترة ثم آمن بعد الفتح.
5 قيل: ما آمن معه إلاّ ألفان وثمانمائة رجل وامرأة وأن قومه كانوا اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو: اثنى عشر ألفاً من سوى النساء والذرية وكان قوم عاد مثلهم ثلاث مرات. ذكر هذا القرطبي في تفسيره ولم يعزه لأحد.(3/673)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
شرح الكلمات
قوم لوط: هم سكان مدن سدوم وعمورية وقرى أخرى ولوط هو نبي الله لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم.
أخوهم لوط: هذه أخوة بلد1 وسكنى لا أخوة نسب ولا دين.
إني لكم رسول أمين: أي إني مرسل إليكم لا إلى غيركم أمين في إبلاغكم رسالتي فلا أنقص ولا أزيد.
فاتقوا الله: بالإيمان به وعبادته وحده وترك معاصيه.
وما أسألكم عليه: أي على البلاغ من أجرة مقابل إرشادكم وتعليمكم.
أتأتون الذكران من العالمين: أي أتأتون الفاحشة من الرجال وتتركون النساء.
بل أنتم قوم عادون: أي معتدون ظالمون متجاوزون الحد في الإسراف في الشر.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص لوط مع قومه أصحاب المؤتفكات قال تعالى {كذبت قوم لوط المرسلين} أي كذبوا لوطاً الرسول وتكذيبه يعتبر تكذيباً لكافة الرسل لأن دعوة الله واحدة كذبوه لما دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك الفواحش والظلم والشر والفساد إذ قال لهم أخوهم لوط هذه أخوة الوطن لا غير إذ لوط بابلي الموطن ودينه الإسلام وأبوه هاران
__________
1 أي: أخوة مواطنة كما يقال اليوم.(3/674)
أخو إبراهيم عليه السلام، وإنما لما أرسل لوط إلى أهل هذه البلاد وسكن معهم قيل لهم أخوهم بحكم المعاشرة والمواطنة الحاصلة {ألا تتقون1} يأمرهم بتقوى الله ويحضهم عليها لأنهم قائمون على عظائم الذنوب فخاف عليهم الهلاك فدعاهم إلى أسباب النجاة وهي تقوى الله تعالى بطاعته وترك معاصيه. وقال لهم {إني لكم رسول أمين2} فلا تشكوا في رسالتي وأطيعون، وإني غير سائلكم أجراً على تبليغ رسالتي إليكم إن أجري آخذه من رب العالمين الذي حملني هذه الرسالة وأمرني بإبلاغكم إياها وهنا أنكر عليهم أعظم منكر فقال موبخاً مقرعاً {أتأتون3 الذكران من العالمين} فترتكبون الفاحشة معهم {وتذرون} أي تتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم {بل أنتم قوم عادون4} أي متجاوزون الحدود5 التي رسمها الشرع والعقل والآدمية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز إطلاق أخوة الوطن دون الدين والنسب.
2- الأمانة من مستلزمات الرسالة، إذ كل رسول يقول {إني لكم رسول أمين} .
3- سبيل نجاة الفرد والجماعة في تقوى الله تعالى وطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- وجوب إنكار المنكر وتقبيحه على فاعله لعله يرعوي.
5- أكبر فاحشة وقعت في الأرض هي فاحشة اللواط. والعياذ بالله تعالى.
قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
__________
1 الاستفهام للحض على التقوى وهو متضمن الإنكار والتوبيخ.
2 جملة: {إني لكم رسول أمين} تعليلية لأمره إيّاهم بالتقوى والطاعة.
3 الاستفهام للإنكار والتوبيخ إذ كانوا يعملون الفاحشة مع الغرباء إذا نزلوا ديارهم بصورة عامة ومع بعضهم بعضاً بصورة خاصة.
4 بل: للانتقال من الوعظ إلى التنديد وتسجيل أكبر العدوان عليهم إذ الجملة الاسمية {أنتم قوم عادون} مبالغة في تحقيق نسبة العدوان إليهم وفي الإخبار بالجملة: {قوم عادون} إعلام بأن العدوان أصبح سجية فيهم وطبعاً لهم.
5 العادى: من تجاوز حد الحق إلى الباطل, والحلال إلى الحرام، فالقوم فد أحلّ الله لهم فروج نسائهم بالنكاح الشرعي وحرم عليهم إتيان الرجال في أدبارهم فتجاوزوا الحلال إلى الحرام فكانوا بذلك عادين.(3/675)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة.
من المخرجين: أي من بلادنا وطردك من ديارنا.
لعملكم من القالين: أي المبغضين له البغض الشديد.
رب نجني وأهلي مما يعملون: أي من عقوبة وعذاب ما يعملونه من الفواحش.
فنجيناه وأهله: أي نجينا لوطاً الذي دعانا وأهله وهم امرأته المؤمنة وابنتاه.
إلا عجوزاً في الغابرين: أي فإنا لم ننجها إذ حكمنا بإهلاكها مع الظالمين فتركناها معهم حتى هلكت بينهم لأنها كانت كافرة وراضية بعمل القوم.
وأمطرنا عليهم مطراً: أي أنزل عليهم حجارة من السماء فأمطروا بها بعد قلب البلاد عاليها سافلها.
فساء مطر المنذرين: أي فقبح مطر المنذرين ولم يمتثلوا فما كفوا عن الشر والفساد.
معنى الآيات:
ما زال السياق فيما دار بين نبي الله لوط وقومه المجرمين فإنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم ونهاهم وسمعوا ذلك كله منه أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم {قالوا لئن1 لم تنته يا لوط} أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة {لتكونن من المخرجين} أي نخرجك من بلادنا ونطردك من بيننا ولا تبقى ساعة واحدة عندنا إنتبه يا رجل،. فأجابهم لوط
__________
1 في الجملة إقسام دلّت عليه اللام وشك أنهم يحلفون بآلهتهم الباطلة والجملة متضمنة تهديداً وإيعاداً بالإبعاد والإخراج من البلد.(3/676)
الرسول عليه السلام بقوله {إني لعملكم من القالين1} أي إني لعملكم الفاحشة من المبغضين أشد البغض، ثم التفت إلى ربه داعياً ضارعاً فقال {رب نجني وأهلي مما يعملون} وهذا بعد أن أقام يدعوهم ويتحمل سنين عديدة فلم يجد بداً من الفزع إلى ربه ليخلصه منهم فقال {ربي نجني ,وأهلي} من عقوبة وعذاب ما يعملونه من إتيان الفاحشة من العالمين قال تعالى {فنجيناه وأهله} وهم امرأته المسلمة وابنتاه المسلمتان طبعاً إلا عجوزاً وهي امرأته الكافرة المتواطئة مع الظلمة الراضية بالفعلة الشنعاء كانت في جملة الغابرين2 أي المتروكين بعد خروج لوط من البلاد لتهلك مع الهالكين قال تعالى {ثم دمرنا الآخرين} أي بعد أن أنجينا لوطاً وأهله أجمعين باستثناء العجوز الكافرة دمرنا أي أهلكنا الآخرين {وأمطر عليهم مطراً فساء مطر المنذرين} إنه بعد قلب البلاد سافلها على عاليها أمطر عليهم مطر حجارة من السماء لتصيب من كان خارج المدن المأفوكة المقلوبة.
قوله تعالى {إن في ذلك لآية} أي في هذا الذي ذكرنا من إهلاك المكذبين والمسرفين الظالمين آية وعلامة كبرى لمن يسمع ويرى {وما كان أكثرهم مؤمنين3} لما سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون فسبحان الله العظيم. وقوله {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} وإن ربك يا رسولنا هو لا غيره العزيز الغالب القاهر لكل الظلمة والمسرفين الرحيم بأوليائه وعباده المؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التهديد بالنفي سنة بشرية قديمة.
__________
1 القلى: البغض يقال: قليته أقليه قلى وقلاءً قال الشاعر:
عليك السلام لا مللت قريبة
ومالك عندي أن نأيت قلاء
أي قلى.
2 فعل (غُبر) يطلق على البقاء والذهاب كالجون: يطلق على الأبيض والأسود قال الشاعر:
فما وني محمد منذ أن غفر
له الإله ما مضى وما غبر
أي: ما بقي.
والأغبار: بقيات الألبان. قال الشاعر:
لا تكسع السول بأغبارها
إنك لا تدري من الناتج
يقال كسع الناقة: ترك في ضرعها بقية من اللبن، وبعده البيت التالي:
واحلب لأضيافك ألبانها
فإن شر اللبن الوالج
3 إذ لم يؤمن إلا إحدى نسائه وابنتاه.(3/677)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
2- وجوب بغض الشر والفساد في أي صورة من صورهما.
3- استجابة دعوة المظلوم لاسيما إن كان من الصالحين.
4- توقع العذاب إذا انتشر الشر وعظم الظلم والفساد.
5- الآيات مهما كانت عظيمة لا تستلزم الإيمان والطاعة.
6- من لم يسبق له الإيمان لا يؤمن ولو جلب عليه كل آية.
7- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته.
كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ (184)
شرح الكلمات:
أصحاب الأيكة: أي الغيضة وهي الشجر الملتف.
إذ قال لهم شعيب: النبي المرسل شعيب عليه السلام.
أوفوا الكيل: أي أتموه.
ولا تكونوا من المخسرين: الذين ينقصون الكيل والوزن.
بالقسطاس المستقيم: أي الميزان السوي المعتدل.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم: أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئاً.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين: أي بالقتل والسلب والنهب.
والجبلة الأولين: أي والخليقة أي الناس من قبلكم.(3/678)
معنى الآيات:
هذه بداية قصص شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة والأيكة الشجر الملتف كشجر الدوم وهذه الغيضة قريبة من مدينة مدين وشعيب أرسل لهما معاً وفي سورة هود {وإلى مدين أخاهم شعيباً} لأنه منهم ومن مدينتهم فقيل له أخوهم، وأما أصحاب الأيكة جماعة من بادية مدين كانت لهم أيكة من الشجر يعبدونها تحت أي عنوان كعبدة الأشجار والأحجار في كل زمان ومكان، فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه وهو قوله تعالى {كذب أصحاب1 الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب2 ألا تتقون3} أي اتقوا الله وخافوا عقابه {إني لكم رسول أمين} فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما سواه وأطيعون أهدكم إلى ما فيه كمالكم وسعادتكم {وما أسألكم عليه} أي على بلاغ رسالة ربي إليكم أجراً أي جزاء وأجرة {إن أجري} أي ما أجري إلا على رب العالمين. وأمرهم بترك أشهر معصية كانت شائعة بينهم وهي تطفيف الكيل والوزن فقال لهم {أوفوا الكيل} أي أتموها ولا تنقصوها {ولا تكونوا من المخسرين} أي الذين ينقصون الكيل والوزن {وزنوا} أي إذا وزنتم {بالقسطاس المستقيم} أي بالميزان العادل، {ولا تبخسوا الناس أشياءهم4} أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئاً فما يساوي ديناراً لا تعطوا فيه نصف دينار وما يساوي عشرة لا تأخذوه بخمسة مثلاً ومن أجرته اليومية عشرون لا تعطوه عشرة مثلاً، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تفسدوا في البلاد بأي نوع من الفساد كالقتل والسلب ومنع الحقوق وارتكاب المعاصي والذنوب {واتقوا الذي خلقكم} أي الله فخافوا عقابه {والجبلة5 الأولين} أي وخلق الخليقة من قبلكم
__________
1 الأيكة وليكة بمعنى واحد كمكة وبكة، وقيل: الأيكة: الشجر الملتف أي الغليظة وليكة: وهي قراءة نافع. اسم للبلدة ومنعها من الصرف ومن قرأ الأيكة صرفها، والراجح أنها بمعنى واحد، وعدم الصرف لانعدام ال لا غير.
2 لم يقل: أخاهم شعيباً: لأنه لا قرابة بينهم بخلاف أهل مدين فهو من أهلها فلذا قال تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} وأصحاب الأيكة أي بادية وهي الشجر الملتف فلذا يقال له الغيضة وكان من شجر الدوم وهو المقل والسدر وثماره النبق.
3 الاستفهام للحض على التقوى والإنكار عليهم عبادة غير الله تعالى. وجملة {إني لكم رسول أمين} تعليلية لأمره إياهم بالتقوى وفي {لكم} إشارة إلى أن رسالته إليهم عارضة وكانت بعد رسالته إلى أهل مدين، فلعلهم أنكروا أن يكون أرسل إليهم فلذا قال: {إني لكم رسول أمين} وفي آية الحجر قال تعالى {وإنهما لبإمام مبين} والتثنية في إنهما إشارة إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين، ولما جاء العذاب أخذ الكل لأن ذنبهم واحد وقرب المنازل والديار.
4 الظاهر من السياق أن ذنب أصحاب الأيكة وأهل مدين كان واحدا الشرك والتطفيف والبخس للناس فلذا أدمج خطابهم فصاروا فيه أمة واحدة.
5 الجبلة: الخلقة وأريد بها المخلوقات ولذا قال: {الأولى} أي: وذوى الجبلة الأولى والمعنى وخلق الأمم من قبلكم.(3/679)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
اتقوه بترك الشرك والمعاصي تنجوا من عذابه، وتظفروا برضاه وإنعامه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بالتقوى فريضة كل داع إلى الله تعالى وسنة الدعاة والهداة إذ طاعة الله واجبة.
2- لا يصح لداع إلى الله أن يطلب أجره ممن يدعوهم فإن ذلك ينفرهم.
3- وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة التطفيف فيهما.
4- حرمة بخس الناس حقوقهم ونقصها بأي حال من الأحوال.
5- حرمة الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
شرح الكلمات:
إنما أنت من المسحرين: أي ممن يأكلون الطعام ويشربون فلست بملك تطاع.
وإن نظنك لمن الكاذبين: أي وما نحسبك إلا واحداً من الكاذبين.
فأسقط علينا كسفاً: أي قطعاً من السماء تهلكنا بها إن كنت من الصادقين فيما تقول.
عذاب يوم الظلة: أي السحابة التي أظلتهم ثم التهبت عليهم ناراً.
إن في ذلك لآية: أي لعبرة وعلامة عبرة لمن يعتبر وعلامة دالة على صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/680)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة وأهل مدين إنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله {قالوا إنما أنت} أي يا شعيب {من المسحرين} الذي غلب السحر على عقولهم فلا يدرون ما يفعلون وما لا يقولون1 كما أنك بشر مثلنا تأكل الطعام وتشرب الشراب فما أنت بملك من الملائكة حتى نطيعك، {وإن نظنك} 2 أي وما نظنك إلا من الكاذبين من الناس {فأسقط علينا كسفاً} 3 أي قطعاً من السماء تهلكنا بها {إن كنت من الصادقين} في دعوى أنك رسول من الله إلينا. فأجابهم قائلاً بما ذكر تعالى {قال ربي أعلم بما تعملون} ولازم ذلك أنه سيجازيكم بعملكم قال تعالى {فكذبوه} في كل ما جاءهم به واستوجبوا لذلك العذاب {فأخذهم عذاب يوم4 الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} فقد أنزل الله تعالى عليهم حراً شديداً التهب منه الجو أو كاد فلجأوا إلى المنازل والكهوف والسراديب تحت الأرض فلم تغن عنهم شيئاً، ثم ارتفعت في سماء بلادهم سحابة فذهب إليها بعضهم فوجدها روحاً وبرداً وطيباً فنادى الناس أن هلموا فجاءوا فلما اجتمعوا تحتها كلهم انقلبت نارا فأحرقتهم ورجفت بهم الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم.
قال تعالى {إن في ذلك لأية} 5 أي علامة لقومك يا محمد على قدرتنا وعلمنا ووجوب عبادتنا وتصديق رسولنا ولكن أكثرهم لا يؤمنون لما سبق في علمنا أنهم لا يؤمنون، وإن ربك يا محمد لهو العزيز أي الغالب على أمره الرحيم بمن تاب من عباده.
__________
1 في قولنا: كما أنك ... الخ دمج للقولين الذين قيلا في تفسير: {إنك لمن المسحرين} إذ كل منهما جائز، والقرآن حمال الوجوه.
2 إطلاق الظنّ على اليقين شائع كقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} .
3 {كسفاً} بكسر الكاف وسكون السين قراءة عامة القراء ما عدا حفصاً فقد قرأ {كسفاً} بتحريك السين جمع كِسف بسكونها، والكسف: القطحة والجمع: كِسف.
4 {الظلة} السحابة التي تظلل من تحتها وهي سحابة عظيمة أظلت مساحة كبيرة لما فرّوا إليها أظلتهم ثم أرسلت عليهم الصواعق فأحرقتهم وكانت من جنس ما طلبوه وهو: الكسف من السماء.
5 أي: في ذلك المذكور من عذاب يوم الظلة آية لكفار قريش إذ حالهم كحال أصحاب الأيكة وأهل مدين في الشرك والتطفيف في الكيل والوزن.(3/681)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- هذا آخر سبع قصص ذكرت بإيجاز تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهديداً للمشركين المكذبين.
2- دعوة الرسل واحدة وأسلوبهم يكاد يكون واحداً: الأمر بتقوى الله وطاعة رسوله.
3- سنة تعلل الناس بأن الرسول لا ينبغي أن يكون بشراً فلذا هم لا يؤمنون.
4- المطالبة بالآيات تكاد تكون سنة مطردة، وقل من يؤمن عليها.
5- تقرير التوحيد والنبوة والبعث وهي ثمرة كل قصة تقص في هذا القرآن العظيم.
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ (201)
شرح الكلمات:
وإن لتنزيل رب العالمين: أي القرآن الكريم تنزيل رب العالمين.
الروح الأمين: جبريل عليه السلام أمين على وحي الله تعالى.
وإنه لفي زبر الأولين: أي كتب الأولين، واحد الزبر: زبرة وكصفحة وصحف.
أولم يكن لهم آية: أي علامة ودليلاً علم بني إسرائيل به.
على بعض الأعجمين: الأعجمي من لا يقدر على التكلم بالعربية.
كذلك سلكناه: أي التكذيب في قلوب المجرمين من كفار مكة.(3/682)