خرجوا من ديارهم بطراً: أي للبطر الذي هو دفع الحق ومنعه.
وقال إني جار لكم: أي مجير لكم ومعين على عدوكم.
تراءت الفئتان: أي التقتا ورأت كل منهما عدوها.
نكص على عقبيه: أي رجع إلى الوراء هارباً، لأنه جاءهم في صورة سراقة بن مالك.
إني أرى ما لا ترون: من الملائكة.
والذين في قلوبهم مرض: أي ضعف في إيمانهم وخلل في اعتقادهم.
معنى الآيات:
هذا النداء الكريم موجه إلى المؤمنين وقد أذن لهم في قتال الكافرين، وبدأ بسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وثنى بهذه الغزوة غزوة بدر الكبرى فلذا هم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها وفي هذه الآيات الأربع تعليم عال جداً لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها:
1- الثبات في وجه العدو والصمود في القتال حتى لكان المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} أي جماعة مقاتلة {فاثبتوا} .
2- ذكر الله تعالى تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً ودعاء1 وضراعة ووعداً ووعيداً. {واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} أي تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا، والنار والعذاب في الآخرة.
3- طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ومنه طاعة قائد المعركة ومديرها وهذا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في الكون {وأطيعوا الله ورسوله} .
4- عدم التنازع والخلاف عند التدبير للمعركة وعند دخولها وأثناء خوضها.
5- بيان نتائج التنازع والخلاف وإنها: الفشل الذريع، وذهاب القوة المعبر عنها بالريح
__________
1 الذكر المطلوب هو: ما كان باللسان والقلب معاً، في الآية دليل على أنّ ذكر الله تعالى لا يترك في حال إلاّ في حال التغوّط، قال محمد القرطبي: لو رخّص لأحد في ترك الذكر لرخّص لزكريا إذ قال له تعالى: {ألاّ تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً} ولرخص لرجل في الحرب لقوله تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً} وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا أن يكون في بداية الحملة بصوت واحد: الله أكبر فإن ذلك محمود لأنه يرعب العدو ويفتّ في أعضاده.(2/314)
{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} 1.
6- الصبر على مواصلة القتال والإعداد له وتوطين النفس وإعدادها لذلك. {واصبروا إن الله مع الصابرين} .
7- الإخلاص في القتال والخروج له لله تعالى فلا ينبغي أن يكون لأي اعتبار سرى مرضاة الله تعالى {ولا تكونوا كالذين2 خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط} .
هذه عوامل النصر وشروط الجهاد في سبيل الله تضمنتها ثلاث آيات من هذه الآيات الخمس وقوله تعالى في الآية الرابعة (48) {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب} يذكِّر تعالى المؤمنين بحادثة حدثت يوم بدر من أغرب الحوادث لتكون عبرة وموعظة للمؤمنين فيقول عز وجل واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين الذين نهيتكم أن تتشبهوا بهم في سيرهم وقتالهم وفي كل حياتهم، فقال لهم: أقدموا على قتال محمد والمؤمنين، ولا ترهبوا ولا تخافوا إنه لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم أي مجير لكم وناصر ومعين. وكان الشيطان في هذه الساعة في صورة رجل من أشراف قبيلته يقال له سراقة بن مالك3 فلما تراءت الفئتان لبعضهما البعض وتقدموا للقتال رأى الشيطان جبريل في صفوف الملائكة، فنكص على عقبيه، وكان آخذاً بيد الحارث بن هشام يحدثه يعده ويمنيه بعد ما زين لهم خوض المعركة وشجعهم على ذلك، وولى هارباً فقال له الحارث: ما بك ما أصابك تعال فقال وهو هارب {إني أرى ما لا ترون} يعني الملائكة {إني أخاف4 الله والله شديد العقاب}
__________
1 المراد بالريح هنا: القوة والنصر، كما يقال. الريح لفلان إذا كان غالبا في أمره ومنه قول الشاعر:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها ... فإنّ لكل خافتة سكون
جملة: لكل خافتة سكون: خبر إن واسمها: ضمير شأن.
2 هم أبو جهل وأصحابه الخارجون يوم بدر لنصرة العير حيث خرجوا بالقينات والمغنيات والمعازف.
3 هو سراقة بن مالك بن جعشم من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف س بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلاً منهم فلّما تمثل لهم الشيطان في صورة سراقة سكنوا لذلك.
4 قيل: إن الشيطان خاف أن يكون يوم بدر هو اليوم الذي انظر إليه، وقيل: كذب وهو كذوب.(2/315)
وصدق وهو كذوب وقوله تعالى في نهاية الآية (49) {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم} أي واذكروا أيها المؤمنون للعبرة والاتعاظ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم1 مرض أي ضعف في الإيمان وتخلخل في العقيدة: غر هؤلاء دينهم وإلا لما خرجوا لقتال قريش وهي تفوقهم عدداً وعدة، ومثل هذا الكلام يعتبر عادياً من ضعاف الإيمان والمنافقين المستترين بزيف إيمانهم، فاذكروا هذا، ولا يفت في اعضادكم مثل هذا الكلام، وتوكلوا على الله واثقين في نصره فإنه ينصركم لأنه عزيز لا يغالب ولا يمانع في ما يريده أبداً. حكيم يضع النصر في المتأهلين له بالإيمان والصبر والطاعة له ولرسوله، والإخلاص له في العمل والطاعة.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الأخذ بها في كل معركة وهي: الثبات وذكر الله تعالى، وطاعة الله ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلاف والصبر والإخلاص.
2- بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار.
3- بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم.
4- بيان حال المنافقين وضعفة الإيمان عند وجود2 القتال ونشوب الحروب.
5- وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين.
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51)
__________
1 لقد اختلف في المراد بالمنافقين هنا، وكذا الذين في قلوبهم مرض إذ يبعد أن يكون في المشركين منافقون، كما يبعد أن يكون في أهل بدر منافقون، والذي يدو أنّه الراجح: أنّ القائلين هذه المقالة هم منافقون وضعفة إيمان بالمدينة لما رأوا خروج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى بدر قالوا هذه القولة القبيحة ويكون الظرف "إذ" متعلّق بشديد العقاب لا بزين".
2 لا يتعارض هذا القول مع ما رجحناه من أن القائلين هذه المقولة هم منافقون وضعاف إيمان بالمدينة، إذ هذه الحال تنطبق عليهم.(2/316)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54)
شرح الكلمات:
إذ يتوفى.: أي يقبض أرواحهم لإماتتهم.
وجوههم وأدبارهم: أي يضربونهم من أمامهم ومن خلفهم.
بظلام للعبيد: أي ليس بذي ظلم للعبيد كقوله {ولا يظلم ربك أحداً} .
كدأب آل فرعون: أي دأب كفار قريش كدأب آل فرعون في الكفر والتكذيب والدأب العادة.
لم يك مغيراً نعمة: تغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها.
آل فرعون: هم كل من كان على دينه من الأقباط مشاركاً له في ظلمه وكفره.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس فيقول تعالى لرسوله {ولو ترى إذ يتوفى الذين1 كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم2} وهم يقولون لهم {وذوقوا عذاب3 الحريق} وجواب لولا محذوف تقديره (لرأيت أمراً فظيعاً) وقوله تعالى
__________
1 جائز أن يكون المراد من هؤلاء قتلى بدر المشركين وجائز أن يكونوا ممن لم يقتلوا ببدر، وماتوا بمكة وغيرها.
2 قال الحس البصري: المراد من أدبارهم: ظهورهم وقال: "إن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك "أي: سير النعل"؟ قال: ذلك ضرب الملائكة".
3 يقال لهم عند قبض أرواحهم، إذ بمجرد أن تقبض الروح يلقى بها في جهنم، كما يقال لهم يوم القيامة ذلك من قبل الملائكة.(2/317)
{ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} هو قول الملائكة لمن يتوفونهم من الذين كفروا. أي ذلكم الضرب والتعذيب بسبب ما قدمت أيديكم من الكفر والظلم والشر والفساد وأن الله تعالى ليس بظالم لكم فإنه تعالى لا يظلم أحداً وقوله تعالى {كدأب آل فرعون1 والذين من قبلهم} أي دأب هؤلاء المشركين من كفار قريش في كفرهم وتكذيبهم كدأب آل فرعون والذين هن قبلهم {كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم} وكفر هؤلاء فأخذهم الله بذنوبهم، وقوله {إن الله قوي شديد العقاب} يشهد له فعله بآل فرعون والذين من قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وأخيراً أخذه تعالى كفار قريش في بدر أخذ العزيز المقتدر، وقوله تعالى {ذلك بأن الله2 لم يك3 مغيراً نعمة أنعهما على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} إشارة إلى ما أنزله من عذاب على الأمم المكذبة الكافرة الظالمة، وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغير نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء، أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا، وعندئذ يغير تلك النعم بنقم فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد. هذا إن لم يأخذهم بالإبادة الشاملة والاستئصال التام. وقوله تعالى {وأن الله سميع عليم} أي لأقوال عباده وأفعالهم فلذا بتم الجزاء عادلاً لا ظلم فيه. وقوله تعالى {كدأب آل4 فرعون والذين من قبلهم كذبوا5 بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين} هذه الآية تشبه الآية السابقة إلا أنها تخالفها فيما يلي: في الأولى الذنب الذي أخذ به الهالكون كان الكفر، وفي هذه: كان التكذيب، في الأولى: لم يذكر نوع العذاب، وفي الثانية انه الإغراق، في الأولى لم يسجل عليهم سوى الكفر فهو ذنبهم لا غير وفي الثانية سجل على الكل ذنباًَ آخر وهو الظلم إذ قال {وكل كانوا ظالمين} أي بكفرهم وتكذيبهم، وصدهم عن سبيل الله وفسقهم عن طاعة الله ورسوله مع زيادة التأكيد
__________
1 الباء في قوله: {ذلك بأنّ الله} سببية والجملة مسوقة للتعليل.
2 {لم يك} أي: لم ينبغ له، ولم يصحّ منه لبالغ حكمته وعدله ورحمته.
3 {كدأب} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دأب هؤلاء كدأب آل فرعون، والدأب: العادة المستمرة.
4 {كذبوا} الخ.. تفسير دأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم.
5 وجائز أن يكون المراد: كدأب آل فرعون أي: في تعذيبهم عند قبض أرواحهم، وفي قبورهم ويوم القيامة.(2/318)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
والتقرير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عذاب القبر بتقرير العذاب عند النزع.
2- هذه الآية نظيرها آية الأنعام {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم} أي بالضرب.
3- تنزه الخالق عز وجل عن الظلم لأحد1.
4- سنة الله تعالى في أخذ الظالمين وإبدال النعم بالنقم.
5- لم يكن من سنة الله تعالى في الخلق تغيير ما عليه الناس من خير أو شر حتى يكونوا هم البادئين.
6- التنديد بالظلم وأهله، وأنه الذنب الذي يطلق على سائر الذنوب.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)
شرح الكلمات:
شر الدواب2: من إنسان أو حيوان الذين ذكر الله وصفهم وهم بنو قريظة.
__________
1 شاهده حديث مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تعالى يقول: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
2 الدواب: كل ما يدب على وجه الأرض من حيوان، و {عند الله} : أي: في علمه وحكمه.(2/319)
فهم لا يؤمنون: لما علم الله تعالى من حالهم أخبر أنهم يموتون على الكفر.
ينقضون عهدهم: أي يحلونه ويخرجون منه فلا يلتزموا بما فيه.
في كل مرة: أي عاهدوا فيها.
فإما تثقفنّهم: أي أن تجدنّهم، وما مزيدة أدغمت في إن الشرطية.
فشرد: أي فرق وشتت.
يذكرون: أي يتعظون.
فانبذ إليهم: أي اطرح عهدهم.
على سواء 1: أي على حال من العلم تكون أنت وإياهم فيها سواء، أي كل منكم عالم بنقض المعاهدة.
الخائنين: الغادرين بعهودهم.
سبقوا: أي فاتوا الله ولم يتمكن منهم.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر خصوم الدعوة الإسلامية والقائم عليها وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر تعالى خصوماً لها آخرين غير المشركين من كفار قريش وهم بنو2 قريظة من اليهود. فأخبر تعالى عنهم أنهم شر الدواب من الإنسان والحيوان ووصفهم محدداً لهم ليعرفوا، وأخبر أنهم لا يؤمنون لتوغلهم في الشر والفساد، فقال: {إن شر الدواب عند الله} أي في حكمه وعلمه. {الذين كفروا فهم لا يؤمنون} وخصصهم بوصف آخر خاص بهم فقال: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاهدهم أول مرة على أن لا يحاربوه ولا يعينوا أحداً على حربه فإذا بهم يعينون قريشاً بالسلاح، ولما انكشف أمرهم اعتذروا معترفين بخطإهم، وعاهدوا مرة أخرى على أن لا يحاربوا الرسول ولا يعينوا من يحاربه فإذا بهم ينقضون عهدهم مرة أخرى ويدخلون في حرب ضده حيث انضموا إلى الأحزاب في غزوة الخندق هذا ما دل عليه قوله تعالى {إن شر
__________
1 أي: جهراً لا سراً حتى يكونوا وأنتم بالعلم بنبذ المعاهدة على حد سواء.
2 وبنو النضير كذلك إذ أعانوا قريشاً بالسلاح ثم لمّا انكشف أمرهم اعتذروا، وأما قريظة، فقد نقضوا عهدهم مرتين إذ انضموا إلى الأحزاب في حربهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.(2/320)
الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل1 مرة} أي يعاهدون فيها. {وهم لا يتقون} أي لا يخافون عاقبة نقض المعاهدات والتلاعب بها حسب أهوائهم. وقوله تعالى. {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم2 من خلفهم لعلهم يذكرون} يرشد رسوله آمراً إياه بما يجب أن يتخذه إزاء هؤلاء الناكثين للعهود المنغمسين في الكفر. بحيث لا يخرجون منه بحال من الأحوال، ويشهد لهذه الحقيقة أنهم لما حوصروا في حصونهم ونزلوا منها مستسلمين كان يعرض على أحدهم الإسلام حتى لا يقتل فيؤثر باختياره القتل على الإسلام وماتوا كافرين وصدق الله إذ قال {فهم لا يؤمنون} فهؤلاء إن ثقفتهم في حرب أي وجدتهم متمكناً منهم فاضربهم بعنف وشدة وبلا هوادة حتى تشرد أي تفرق بهم من خلفهم من أعداء الإسلام المتربصين بك الدوائر من كفار قريش وغيرهم لعلهم يذكرون أي يتعظون فلا يفكروا في حربك وقتالك بعد، وقوله {وإما تخافن من قوم خيانة فأنبذ3 إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} هذا إرشاد آخر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعلق بالخطط الحربية الناجحة وهو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن خاف من قوم معاهدين له خيانة ظهرت أماراتها وتأكد لديك علاماتها فاطرح تلك المعاهدة ملغياً لها معلناً ذلك لتكون وإياهم على علم تام بإلغائها، وذلك حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة، والله لا يحب الخائنين. وقاتلهم مستعيناً بالله عليهم وستكون الدائرة على الناكث الخائن، وهذا ضرب من الحزم وصحة العزم إذ ما دام قد عزم العدو على النقض فقد نقص فليبادر لافتكاك عنصر المباغتة من يده، وهو عنصر مهم في الحروب. وقوله تعالى {ولا يحسبن الذين كفروا} وهم من هرب من بدر من كفار قريش {سبقوا4} أي فاتوا فلم يقدر الله تعالى عليهم {إنهم لا يعجزون} أي إنهم لا يعجزون الله بحال فإنه
__________
1 سبحان الله، هذا الوصف الخسيس ما زال ملازما لليهود إلى اليوم فلا يوفون بعهد ولا ذمّة أبداً، وصدق الله العظيم إذ قال عنهم. {كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم} .
2 يقال: شرد البعير أو الدابة إن فارقت صاحبها، وشرّده إذا عمل على تشريده بسبب، وشردت بني فلان: إذا حملتهم على مفارقة منازلهم قال الشاعر:
أطوّف ني الأباطح كل يوم ... مخافة أن يُشرّد بي حكيم
3غشا ونقضاً للعهد والآية عامة، فهي مبدأ حربي يأخذ به المسلمون إلى يوم القيامة، ولا وجه لذكر الخلاف هل هي في بني قريظة أو بني النضير؟ وخوف الخيانة ها معناه: الظن الغالب وذلك بظهور علامات خيانة العدو واضحة.
4 أي: من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة، وقوله تعالى: {إنهم لا يعجزون} أي: في الدنيا حتى يظفرك الله بهم.(2/321)
تعالى لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن شر الدواب هم الكفار من أهل الكتاب والمشركين بل هم شر البرية.
2- سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يُحرم التوبة فلا يموت إلا كافراً.
3- من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالاً لغيره من الأعداء.
4- حرمة الغدر والخيانة.
5- جواز إعلان إلغاء المعاهدة وضرب العدو فوراً إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على نقض المعاهدة1 وذلك لتفويت عنصر المباغتة عليه.
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
__________
1 روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة" وروى أبو داود والترمذي أن معاوية رضي الله عنه كان بينه وبين الروم عهد، فلما قارب تاريخ العهد الانقضاء سار إليهم بجيشه فجاء عمرو بن عنبسة فقال له سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء" فرجع معاوية بالناس.(2/322)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
شرح الكلمات:
أعدوا: هيئوا وأحضروا.
ما استطعتم: ما قدرتم عليه.
من قوة: أي حربية من سلاح على اختلاف أنواعه.
يوفَّ إليكم: أي أجره وثوابه.
وإن جنحوا للسلم: أي مالوا إلى عدم الحرب ورغبوا في ذلك.
فإن حسبك الله: أي يكفيك شرهم، وينصرك عليهم.
ألف بين قلوبهم: أي جمع بين قلوب الأنصار بعدما كانت متنافرة مختلفة.
إنه عزيز حكيم: أي غالب على أمره، حكيم في فعله وتدبير أمور خلقه.
معنى الآيات:
بمناسبة انتهاء معركة بدر وهزيمة المشركين فيها، وعودتهم إلى مكة وكلهم تغيظ على المؤمنين وفعلاً أخذ أبو سفيان يعد العدة للانتقام. وما كانت غزوة أحد إلا نتيجة لذلك هنا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بإعداد القوة وبذل ما في الوسع والطاقة لذلك فقال تعالى {واعدوا لهم1 ما استطعتم من قوة} وقد فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القوة بالرمي بقوله "ألا إن القوة2 الرمي" قالها ثلاثاً وقوله تعالى {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} يخبر تعالى عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بإعداد القوة على اختلافها بأن رباطهم للخيل وحبسها أمام دورهم معدة للغزو والجهاد عليها يرهب أعداء الله من الكافرين والمنافقين أي يخوفهم حتى لا يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم، وهذا ما يعرف بالسلم المسلح، وهو أن الأمة إذا كانت مسلحة قادرة على القتال يرهبها أعداؤها فلا يحاربونها، وإن رأوها لا عدة لها ولا عتاد ولا قدرة على رد أعدائها أغراهم ذلك بقتالها فقاتلوها. وقوله تعالى {وآخرين من دونهم} أي من دون كفار
__________
1 روى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر يقول: "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" وعن عقبة أيضاً قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجزه أحدكم آن يلهو بأسهمه" وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه.. وملاعبته أهله فإنه من الحق".
2 ومما يدل على فضل الرمي في سبيل الله قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي داود والترمذي والنسائي: "إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومُنبْلُه".(2/323)
قريش، وقوله {لا تعلمونهم الله يعلهم} من الجائز أن يكونوا اليهود أو المجوس أو المنافقين، وأن يكونوا الجن أيضاً، وما دام الله عز وجل لم يُسمهم فلا يجوز أن يقال هم كذا.. بصيغة الجزم، غير أنا نعلم أن أعداء المسلمين كل أهل الأرض من أهل الشرك والكفر من الإنس والجن، وقوله تعالى {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} إخبار منه تعالى أن ما ينفقه المسلمون من نفقة قلت أو كثرت في سبيل الله التي هي الجهاد يوفّيهم الله تعالى إياها كاملة ولا ينقصهم منها شيئاً فجملة {وأنتم لا تظلمون} جملة خالية ومعناها لا يظلمكم الله تعالى بنقص ثواب نفقاتكم في سبيله هذا ما دلت عليه الآية الأولى (60) أما الآية الثانية وهي قوله تعالى {وإن جنحوا1 للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} فإن الله تعالى يأمر رسوله وهو قائد الجهاد يومئذ بقبول السلم متى طلبها2 أعداؤه ومالوا إليها ورغبوا بصدق فيها، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول رحمة لا رسول عذاب، وأمره أن يتوكل على الله في ذلك أي يطيعه في قبول السلم ويفوض أمره إليه ويعتمد عليه فإنه تعالى يكفيه شرّ أعدائه لأنه سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم وأحوالهم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فلذا سوف يكفي رسوله شر خداعهم إن أرادوا خداعه بطلب السلم والمسالمة، وهذا معنى توله تعالى في الآيتين (62) و (63) {وإن يريدوا أن يخدعوك} أي بالميل إلى السلم والجنوح3 إليها {فإن حسبك الله} أي كافيك إنه {هو الذي أيدك بنصره} أي في بدر {وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} أي جمع بين تلك القلوب المتنافرة المنطوية على الإحن والعداوات ولأقل الأسباب وأتفهها، لقد كان الأنصار يعيشون على عداوة عظيمة فيما بينهم حتى إن حرباً وقعت بينهم مائة وعشرين سنة فلما دخلوا في الإسلام اصطلحوا وزالت كل آثار العداوة والبغضاء وأصبحوا جسماً واحداً مَنْ فعل هذا سوى الله تعالى؟ اللهم لا أحد، ولذا قال تعالى لرسوله {لو أنفقت ما في الأرض جميعا} أي من مال
__________
1 {جنحوا} : مالوا، والجنوح: الميل أي: إذا مالوا إلى المسالمة التي هي الصلح فمِل إليها، اختلف هل هذه الآية منسوخة بآية: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} والصحيح، والذي به العمل أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن المسلمين إذا كانوا في حالة ضعف يحتاجون فيها إلى تقوية بعقد هدنة أو مصالحة لدفع ضرر أو تحصيل نفع ظاهر وهم في حاجة إلى ذلك فإن لهم أن يجنحوا للسلم وإن كانوا أقوياء قادرين فلا يحلّ لهم إلاّ إنفاذ أمر الله تعالى بقتال العدو حتى يسلم أو يستسلم لحكم الإسلام.
2 السلم: مؤنثه ولذا عاد الضمير إليها مؤنثاً في قوله: {فاجنح لها} .
3 وهم يضمرون في نفوسهم نية الغدر بك والمكر ليخدعوك بذلك فامض في صلحك والله حسبك.(2/324)
صامت وناطق {ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إعداد القوة وهي في كل زمان بحسبه إن كانت في الماضي الرمح والسيف ورباط الخيل فهي اليوم النفاثة المقاتلة والصاروخ، والهدروجين والدبابة والغواصة، والبارجة.
2- تقرير مبدأ: السلم المسلح، إرجع إلى شرح الآيات.
3- لا يخلو المسلمون من أعداء ما داموا بحق مسلمين، لأن قوى الشر من إنس وجن كلها عدو لهم.
4- نفقة الجهاد خير نفقة وهي مضمونة التضعيف.
5- جواز قبول1 السلم في ظروف معينه، وعدم قبوله في أخرى وذلك بحسب حال المسلمين قوة وضعفاً.
ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
__________
1 المراد بالسلم: المهادنة، والموادعة، والصلح المؤقت، وقد تقدم بيانه، والإمام الشافعي يرى أن لا تزيد مدّة المسالمة على عشر سنين قياساً على صلح الحديبية إذ كانت المدة عشر سنين لا غير.(2/325)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
شرح الكلمات:
حسبك الله1: أي كافيك الله كل ما يهمك من شأن أعدائك وغيرهم.
ومن اتبعك من المؤمنين: أي الله حسبهم كذلك أي كافيهم ما يهمهم من أمر أعدائهم.
حرض المؤمنين على القتال: أي حثهم على القتال مرغباً لهم مرهباً.
صابرون: أي على القتال فلا يضعفون ولا ينهزمون بل يثبتون ويقاتلون.
لا يفقهون.: أي لا يعرفون أسرار القتال ونتائجه بعد فنونه وحذق أساليبه.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله بعنوان النبوة التي شرفه الله بها على سائر الناس فيقول {يا أيها النبي} ويخبره بنعم الخبر مطمئناً إياه وأتباعه من المؤمنين بأنه كافيهم أمر أعدائهم فما عليهم إلا أن يقاتلوهم ما دام الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم عليهم، فيقول: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} ثم يُنَاديه ثانية قائلاً {يا أيها النبي} ليأمره بالأخذ بالأسباب الموجبة للنصر بإذن الله تعالى وهي تحريض المؤمنين على القتال وحثهم عليه وترغيبهم فيه فيقول {حرض2 المؤمنين على القتال} ويخبره آمراً له ولأتباعه المؤمنين بأنه {إن يكن} أي يوجد منهم في المعركة {عشرون3 صابرون يغلبوا مائتين} ، وإن يكن منهم مائة صابرة يغلبوا ألفاً من الكافرين، ويعلل لذلك فيقول {بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفقهون أسرار القتال وهي أن يعبد الله تعالى ويرفع الظلم من الأرض ويتخذ الله من المؤمنين شهداء فينزلهم منازل الشهداء عنده، فالكافرون لا يفقهون هذا فلذا
__________
1 {حسبك} خبر مقدم ولفظ الجلالة مبتدأ أي: الله حسبك بمعنى كافيك: {ومن اتبعك} يصح أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكاف في (حسبك) ، والصواب أنها في موضع رفع علّى الابتداء والخبر محذوف والتقدير: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله أيضاً.
2 يقال: حرّضه على كذا: حثه وحضّه وحارض على الأمر وواظب وواصب وأكب بمعنى، والحارض: الذي أشرف على الهلاك ومنه: (حتى تكون حرضاً) أي: تذوب عمّا فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين.
3 {إن يكن منكم عشرون صابرون ... } الخ لفظ مضمّن وعداً إلهياً مشروط بشرط الصبر، إذ تقدير الكلام: إن يصبر منكم عشرون صابرون الخ.(2/326)
هم لا يصبرون على القتال لأنهم يقاتلون لأجل حياتهم فقط فإذا خافوا عنها تركوا القتال طلباً للحياة زيادة على ذلك أنهم جهال لا يعرفون أساليب الحرب ولا وسائلها الناجعة بخلاف المؤمنين فإنهم علماء، علماء بكل شيء هذا هو المفروض، وإن ضَعُفِ الإيمان ضعف تبعاً له الفقه والعلم وحل الجهل والضعف كما هو مشاهد اليوم في المسلمين وقوله تعالى {الآن خفف1 الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً2 فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} الآن بعد علمه تعالى بضعفكم حيث لا يقوى الواحد على قتال عشرة، ولا العشرة على قتال مائة ولا المائة على قتال الألف خفف تعالى رحمة بكم ومنة عليكم، فنسخ3 الحكم الأول بالثاني الذي هو قتال الواحد للإثنين، والعشرة للعشرين والمائة للمائتين، والألف للألفين، ومفاده أن المؤمن لا يجوز له أن يفر من وجه اثنين ولكن يجوز له أن يفر إذا كانوا أكثر من اثنين وهكذا سائر النِسب فالعشرة يحرم عليهم أن يفروا من عشرين ولكن يجوز لهم أن يفروا من ثلاثين أو أربعين مثلاً. وهذا من باب رفع الحرج فقط وإلا فإنه يجوز للمؤمن أن يقاتل عشرة أو أكثر، فقد قاتل ثلاثة آلاف صحابي يوم مؤتة مائة وخمسين ألفاً من الروم والعرب المتنصرة وقوله تعالى {بإذن الله} أي بمعونته وتأييده إذ لا نصر بدون عون من الله تعالى وإذن، وقوله {والله مع الصابرين} أي بالتأييد والنصر والصبر شرط في تأييد الله وعونه فمن لم يصبر على القتال فليس له على الله وعد في نصره وتأييده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا كافي إلا الله تعالى، ومن زعم أن هناك من يكفي سوى الله تعالى فقد أشرك.
2- وجوب تحريض. المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان.
3- حرمة هزيمة الواحد من الواحد والواحد من الاثنين، ويجوز ما فوق ذلك.
__________
1 لما شق على المؤمنين ثبات العشرة للمائة والعشرين للمائتين وثبات المائة للألف، خفّف الله تعالى عنهم وأنزل قوله: {الآن حففّ الله عنكم..} فرخّص للواحد أن يفر من أكثر من اثنين وهكذا إن شاء فإنّه لا حرج.
2 قرىء ضعفاً بفتح الضاد وضمها، وقيل إن الفتح في ضعف العقول والضم في ضعف الأجسام، والصحيح أنهما لغتان فصيحتان.
3 لا بأس أن يسمى هذا نسخاً لأنه حكم جديد غاير الأوّل ويسمى تخفيفاً وهو حسن أيضاً.(2/327)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
4- وجوب تثقيف المجاهدين عقلاً وروحاً وصناعة.
5- وجوب الصبر في ساحة المعارك ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثنى عشر ألف مقاتل أو أكثر إذ هذا العدد لا يغلب1 من قلة بإذن الله تعالى.
6- معية الله بالعلم والتأييد والنصر للصابرين دون الجزعين.
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69)
شرح الكلمات:
أسرى: جمع أسير وهو من أخذ في الحرب يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فأطلق لفظ الأسير2 على كل من أخذ في الحرب.
حتى يثخن في الأرض: أي تكون له قوة وشدة يرهب بها العدو.
عرض الدنيا: أي المال لأنه عارض ويزول فلا يبقى.
لولا كتاب من الله سبق: وهو كتاب المقادير بأن الله تعالى أحل لنبّي هذه الأمة الغنائم.
فيما أخذتم: أي بسبب ما أخذتم من فداء أسرى بدر.
حلالاً طيباً.: الحلال هو الطيب فكلمة طيباً تأكيد لحليّة اقتضاها المقام.
واتقوا الله: أي بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة بدر من ذلك أن أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عمر وسعد
__________
1 روى احمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة" والمراد أن يغلب إن حصل لن يكون سببه قلة العدد وإنما يكون لأمر آخر كعدم الصبر أو عدم الأخذ بأسباب النصر التي يتم بها النصر حسب سنّة الله.
2 أسير: كقتيل وجريح، ويجمع على أسرى كقتلى وجرحى، وعلى أُسارى بضم الهمزة وفتحها، والضم أشهر.(2/328)
بن معاذ رضي الله عنهما رغبوا في مفاداة الأسرى بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها أما عمر فكان لا يعثر على أسير إلا قتله وأما سعد فقد قال (الاثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال) ولما تم الفداء نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب فيقول تعالى {ما كان لنبّي1} أي ما صح منه ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجاناً {حتى يثخن2 في الأرض} أرض العدو قتلاً وتشريداً فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسر أي الإبقاء على الأسرى أحياء ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال، وقوله تعالى {تريدون عرض الدنيا} هذا من3 عتابه تعالى لهم، إذ ما فادوا الأسرى إلا لأنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال، وقوله {والله يريد الآخرة} فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي، وقوله تعالى {والله عزيز حكيم} أي غالب على أمره ينصر من توكل عليه وفوّض أمره إليه، حكيم في تصرفاته فلا يخذل أولياءه وينصر أعداءه فعليكم أيها المؤمنون بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى، وقوله تعالى {لولا كتاب4 من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} أي لولا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم.
وقوله تعالى {فكلو مما غنمتم5 حلالاً طيباً} إذن منه تعالى لأهل بدر أن يأكلوا مما
__________
1 هذه الآية دلت يوم بدر عتاباً من الله تعالى لأصحاب نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لم يثخنوا في قتل المشركين حتى يوجد منهم أسرى رغبوا في مفاداتهم منا بالمال.
2 الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه والمراد به هنا: المبالغة في قتل المشركين حتى لا يبقى منهم أسير في ساحة المعركة.
3 روى مسلم أن الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لبعض أصحابه ومن بينهم أبو بكر وعمر (ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن يؤخذ منهم فدية فنكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال. لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت وإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر قاعدين يبكيان.. إلى أن قال: وأنزل الله عزّ وجلّ: {ما كان لنبي} إلى قوله: {حلالاً طيياً} .
4 من ذلك أن الله تعالى لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون.
5 هذا الإذن واقع بعد تخميس الغنيمة لا على إطلاقه.(2/329)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
غنموا، وحتى ما فادوا به الأسرى وهي منة منه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى {واتقوا الله} أمر منه عز وجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما، وقوله {إن الله غفور رحيم} إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده رحيم بالمؤمنين منهم، وتجلى ذلك في رفع العذاب عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه. وفي الحديث: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد أن لا يفادوا الأسرى وأن لا يمنوا عليهما بإطلاقهم إلا بعد أن يخنثوا في أرض العدو قتلاً وتشريداً فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم.
2- التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها.
3- إباحة الغنائم.
4 ب وجوب تقوى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
شرح الكلمات:
من الأسرى: أسرى بدر الذين أخذ منهم الفداء كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
إن يعلم الله في قلوبكم خيراً: أي إيماناً صادقاً وإخلاصاً تاماً.
مما أخذ منكم: من مال الفداء.(2/330)
وإن يريدوا خيانتك.: أي الأسرى.
فقد خانوا الله من قبل: أي من قبل وقوعهم في الأسر وذلك بكفرهم في مكة.
فأمكن منهم: أي أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم.
والله عليم حكيم: عليم بخلقه حكيم في صنعه وتدبيره.
معنى الآيتين:
هذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إذ كان يقول هذه الآية نزلت في وذلك أنه بعد أن وقع في الأسر1 أسلم وأظهر إسلامه وطلب من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرد عليه ما أخذ منه من فدية فأبى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فأنزل الله تعالى قوله {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} أي إسلاماً حقيقياً {يؤتكم خيراً} أي مالاً خيراً {مما أخذ منكم2، ويغفر لكم} ذنوبكم التي كانت كفراً بالله ورسوله، ثم حرباً على الله ورسوله، {والله غفور} يغفر ذنوب عباده التائبين {رحيم} بعباده المؤمنين فلا يؤاخذهم بعد التوبة عليها بل يرحمهم برحمته في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى {وإن يريدوا3 خيانتك} أي وإن يُرد هؤلاء الأسرى الذين أخذ منهم الفداء ونطقوا بالشهادتين مظهرين إسلامهم خيانتك والغدر بك بإظهار إسلامهم ثم إذا عادوا إلى ديارهم عادوا إلى كفرهم، فلا تبال4 بهم ولا ترهب جانبهم فإنهم قد خانوا الله من قبل بكفرهم وشركهم {فأمكن منهم} المؤمنين وجعلهم في قبضتهم وتحت إمْرَتِهم، ولو عادوا لعاد الله تعالى فسلطكم عليهم وأمكنكم منهم وقوله تعالى {والله عليم حكيم} أي عليم بنيات القوم وتحركاتهم حكيم فيما يحكم به عليهم ألا فليتقوه عزّ وجل وليحسنوا
__________
1 أسره رضي الله عنه أبو اليسر كعب بن عمرو أخر بني سلمة، وكان رجلاً قصيرا والعباس رضي الله عنه ضخما طويلا فلما جاء به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "لقد أعانك عليه ملك" وقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: "افد نفسك فقال: لقد كنت مسلماً يا رسول الله فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله أعلم بإسلامك فإن تكن كما تقول فالله يجزيك بذلك، فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل وعقيل" ففعل وفيه نزلت هذه الآية {يا أيها النبي قل ... " الخ.
2 روى مسلم أنه لما قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خذ فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله، وقال: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر الله لي".
3 في هذه الآية تطمين لنفس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليبلغ مضمونه إلى الأسرى فيعلموا أنهم لا يغلبون الله ورسوله. والخيانة: نقض العهد، وما في معنى العهد كالأمانة ونحوها.
4 هذا هو جواب إن الشرطية المحذوف، وقد دلّ عليه؟ : {فقد خانوا الله من قبل} .(2/331)
إسلامهم ويصدقوا في إيمانهم فذلك خير لهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- فضل العباس عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنزول الآية في حقه وشأنه.
2- فضل إضمار الخير والنيات الصالحة.
3- إطلاق لفظ الخير على الإسلام والقرآن وحقاً هما الخير والخير كله.
4- ماترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه.
5- الله جل جلاله: لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ألا فليتق وليتوكل عليه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)(2/332)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله وصدقوا بوعده ووعيده.
وهاجروا: أي تركوا ديارهم والتحقوا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة المنورة.
في سبيل الله: أي من أجل أن يعبد الله ولا يعبد معه غيره وهو الإسلام.
آووا: أي آووا المهاجرين فضموهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم.
وإن استنصروكم: أي طلبوا منكم نصرتهم على أعدائهم.
ميثاق: عهد أي معاهدة سلم وعدم اعتداء.
إلاَّ تفعلوه: أي إن لم توالوا المسلمين، وتقاطعوا الكافرين تكن فتنة1.
أولوا الأرحام: أي الأقارب من ذوي النسب.
بعضهم أولى ببعض: في التوارث أي يرث بعضهم بعضاً.
معنى الآيات:
بمناسبة انتهاء الحديث عن أحداث غزوة بدر الكبرى ذكر تعالى حال المؤمنين في تلك الفترة من الزمن وأنهم مختلفون في الكمال، فقال وقوله الحق {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} فهذا صنف: جمع أهله بين الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس، والصنف الثاني في قوله تعالى {والذين آووا ونصروا2} أي آووا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرين في ديارهم ونصروهم. فهذان صنفا المهاجرين والأنصار وهما أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة، وسيذكرون في آخر السياق مرة أخرى ليذكر لهم جزاؤهم عند ربهم، وقوله تعالى فيهم {أولئك بعضهم أولياء بعض} أي في النصرة والموالاة والتوارث إلا أن التوارث نسخ بقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} والصنف الثالث من أصناف المؤمنين المذكور في قوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا} أي آمنوا بالله ورسوله والدار الآخرة ثم رضوا بالبقاء بين
__________
1 محنة الحرب وما يتبع ذلك من الغارات والجلاء والأسر، وما إلى ذلك من ويلات الحروب، والفساد الكبير: هو ظهور الشرك.
2 قوله: {والذين آووا ونصروا} معطوف على اسم إنّ والخبر: جملة {أولئك بعضهم أولياء بعض} .(2/333)
ظهراني الكافرين فلم يهجروا ديارهم وأموالهم ويلتحقوا بدار الهجرة بالمدينة النبوية، فهؤلاء الناقصون في إيمانهم بتركهم الهجرة، يقول تعالى فيهم لرسوله والمؤمنين {مالكم من ولايتهم من شيء} 1 فلا توارث ولا موالاة تقتضي النصرة والمحبة حتى يهاجروا إليكم ويلتحقوا بكم، ويستثني تعالى حالة خاصة لهم وهي أنهم إذا طلبوا نصرة المؤمنين في دينهم فإن على المؤمنين أن ينصروهم وبشرط أن لا يكون الذي اعتدى عليهم وآذاهم فطلبوا النصرة لأجله أن لا يكون بينه وبين المؤمنين معاهدة سلم وترك الحرب ففي هذه الحال على المؤمنين أن يوفوا بعهدهم ولا يغدروا فينصروا أولئك القاعدين عن الهجرة هذا ما دل عليه قوله تعالى {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} ذيل الكلام بهذه الجملة لإعلام المؤمنين الكاملين كالناقصين بأن الله مطلع على سلوكهم خبير بأعمالهم وأحوالهم فليراقبوه في ذلك حتى لا يخرجوا عن طاعته وقوله تعالى في الآية (73) {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} 2 يتناصرون ويتوارثون. وبناء على هذا يقول تعالى {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي إن لا تفعلوا ما أمرتم به من مولاة المؤمنين محبة ونصرة وولاء، ومن معاداة الكافرين بغضا وخذلاناً لهم وحرباً عليهم تكن فتنة عظيمة لا يقادر قدرها وفساد كبير لا يعرف مداه، والفتنة الشرك والفساد المعاصي وقوله تعالي في الآية (74) {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً} هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده فقال تعالى فيهم {أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة} أي لذنوبهم بسترها وعدم المؤاخذة عليها {ورزق كريم} ألا وهو نعيم الجنة في جوار ربهم سبحانه وتعالى والصنف الرابع من أصناف المؤمنين ذكره تعالى بقوله {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى
__________
1 الولاية: بكسر الواو وفتحها لغتان، وقرىء بهما معاً وهي هنا بمعنى النسب والنصرة، وتكون الولاية بالكسرة والفتح أيضاً بمعنى الإمارة وفي الآية دليل على أن المسلم لا يلي عقد نكاح أخته الكافرة لانعدام الموالاة بينهما، والكافر لا يلي عقد نكاح أخته المسلمة.
2 روى الترمذي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالها ثلاثاً) وقال الترمذي هو حديث غريب.(2/334)
بالسابقين فقال {فأولئك منكم} وقوله تعالى {وأولوا1 الأرحام بعضهم أولى ببعض} أي في الارث وبها نسخ التوارث بالهجرة والمعاقدة، واستقر الإرث بالمصاهرة والولاء، والنسب إلى يوم القيامة، وقوله تعالى {في كتاب الله} أي في حكمه وقضائه المدون في اللوح المحفوظ، وقوله {إن الله بكل شيء عليم} هذه الجملة تحمل الوعد والوعيد الوعد لأهل الإيمان والطاعة، والوعيد لأهل الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم.
2- أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون الأولون والذين جمعوا بين الإيمان والإيواء والنصرة والجهاد وهم الأنصار.
3- دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا ولكن بعد صلح الحدبيبة.
4- وأدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم.
5- وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم.
6- نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولاء.
__________
1 أولوا: واحدها ذو، والرحم مؤنثة والجمع أرحام وهي مقر الولد في البطن والمراد بأولي الأرحام هنا: العصبات كالآباء والأبناء والإخوة والأعمام وأصحاب الفروض وهم الجد والأب والأم والبنت والأخت والزوجة يشهد لهذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر" أما أولوا الأرحام المختلف في إرثهم فهم: أولاد البنات وأولاد الاخوات وبنات الأخ، والعمة والخالة والعم أخو الأب لأم والجد أبر الأم والجدة أم الأم. هذا ومن أهل العلم كابن كثير وغيره من أبقى اللفظ على ظاهره فجعل المراد من أولي الأرحام: القرابة الناشئة عن الأمومة على خلاف ما قدّمناه عن القرطبي من أنّ المراد بأولي الأرحام العصبات دون المولودين بالرحم، وعلى رأي ابن كثير أن الآية ليست واردة في التوارث كما هو رأي مالك وإنما هي في الموالاة والنصرة.(2/335)
سورة التوبة
مدنية
وآياتها مائة وثلاثون آية
بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)(2/335)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
شرح الكلمات:
براءة 1: أي هذه براءة بمعنى تبرؤ وتباعد وتخلص.
عاهدتم: أي جعلتم بينكم وبينهم عهداً وميثاقاً.
فسيحوا في الأرض2: أي سيروا في الأرض طالبين لكم الخلاص.
مخزي الكافرين: مذل الكافرين ومهينهم.
وأذان من الله: إعلام منه تعالى.
يوم الحج الأكبر: أي يوم عيد النحر.
لم ينقصوكم شيئاً: أي من شروط المعاهدة وبنود الاتفاقية.
ولم يظاهروا عليكم أحداً: أي لم يعينوا عليكم أحداً.
__________
1 يقال: برئت من الشيء ابرأ براءة فأنا بريء منه إذا أزلته عن نفسي وقطعت سبب ما بيني وبينه. وبراءة هنا: مبتدأ، وجوّز الابتداء به وهو نكرة: الوصف. والخبر {إلى الذين} ويصح أن تكون براءة خبر، والمبتدأ محذوف تقديره: هذه براءة.
2 أي قل لهم: سيحوا في الأرض أي: سيروا في الأرض آمنين غير خائفين، يقال: ساح يسيح سياحة، وسيوحاً وسيحاناً ومنه السّيح في الماء الجاري المنبسط.(2/336)
معنى الآيات.:
هذه السورة القرآنية الوحيدة التي خلت1 من البسملة لأنها مفتتحة بآيات عذاب فتنافى معها ذكر الرحمة، وهذه السورة من آخر ما نزل من سور القرآن الكريم وقد بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً وبعض الصحابة في حج سنة تسع يقرأون هذه الآيات في الموسم، وهي تعلم المشركين أن من كان له عهد مطلق بلا حد شهر أو سنة مثلاً أو كان له عهد دون أربعة أشهر، أو كان له عهد فوق أربعة أشهر ونقضه تُعْلِمُهُم بأن عليهم أن يسيحوا في الأرض بأمان كامل مدة أربعة أشهر فإن أسلموا فهو خير لهم وإن خرجوا من الجزيرة فإن لهم ذلك وإن بقوا كافرين فسوف يؤخذون ويقتلون حيثما وجدوا في ديار الجزيرة التي أصبحت دار إسلام بفتح مكة ودخول أهل الطائف في الإسلام هذا معنى قوله تعالى {براءة من الله ورسوله} أي واصلة {إلى الذين عاهدتم2 من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} تبدأ من يوم الإعلان عن ذلك وهو يوم العيد عيد الأضحى. وقوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي الله} أي غير فائتيه ولا هاربين من قهره وسلطانه عليكم هذا أولاً، وثانياً (وأن الله مخزي الكافرين} أي مذلهم وقوله تعالى {وأذان من الله ورسوله} أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأذان الإعلان والإعلام، {إلى الناس} وهم المشركون {يوم الحج3 الأكبر4} أي يوم عيد الأضحى حيث تفرّغ الحجاج للإقامة بمنى للراحة والاستجمام قبل العودة إلى ديارهم، وصورة الإعلان عن تلك البراءة هي قوله تعالى، {أن الله بريء5 من المشركين ورسوله} أي كذلك بريء من المشركين وعليه {فإن تبتم} أيها المشركون إلى الله تعالى بتوحيده والإيمان برسوله وطاعته وطاعة رسوله {فهو خير لكم} من الإصرار على الشرك
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علياً رضي الله عنه: لِمَ لَمْ يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. هذا أحد خمسة أوجه في عدم كتابة البسملة في براءة وهو أوجهها، وهو ما ذكرناه في التفسير.
2 نسبت المعاهدة إلى المؤمنين كافة، والمعاهد هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه المتولي لها ولسائر العقود. وكان رضاهم لها واجباً عليهم فلذا نسبت إليهم.
3 وقيل إنه يوم عرفة، والصحيح ما ذكرناه في التفسير وأنه يوم النحر لحديث ابن عمر عن أبي داود إذ قال: "وقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم النحر في الحجة التي حجّ فيها فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر فقال: هذا يوم الحج الأكبر".
4 اختلف في العلة في تسمية الحج بالأكبر، وأحسن الأقوال أنه قيل فيه الأكبر: لأنه حج حضره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحضرت فيه أمة الإسلام التي وجدت في تلك السنة فحجّ أكبر عدد في ذلك العام.
5 قالت العلماء: في الآية بيان جواز تطع المعاهدة بين المسلمين والكافرين لأحد أمرين: الأول: أن تنقضي المدة المعاهد عليها فنعلمهم بانقضائها وبالحرب عليهم. والثاني: أن نخاف غدرهم لظهور علامات تدلّ عليه.(2/337)
والكفر والعصيان، {وإن توليتم} أي أعرضتم عن الإيمان والطاعة {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} بحال من الأحوال فلن تفوتوه ولن تهربوا من سلطانه فإن الله تعالى لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب ثم قال تعالى لرسوله {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي أخبرهم به فإنه واقع بهم لا محالة إلا أن يتوبوا وقوله تعالى في الآية الرابعة (4) {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم} من شروط المعاهدة {شيئاً ولم يظاهروا} أي لم يعاونوا {عليكم أحداً} لا برجال ولا بسلاح ولا حتى بمشورة ورأي فهؤلاء لم يبرأ الله تعالى منهم ولا رسوله، وعليه {فأتموا إليهم عهدهم1 إلى مدتهم} أي مدة أجلهم المحدد بزمن معين فوفوا لهم ولا تنقضوا لهم عهداً إلى أن ينقضوه هم بأنفسهم، أو تنتهي مدتهم وحينئذ إما الإسلام وإما السيف إذ لم يبق مجال لبقاء الشرك في دار الإسلام وقبته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين، أو جلب نفع للإسلام والمسلمين محققاً كذلك.
2- تحريم الغدر والخيانة، ولذا كان إلغاء المعاهدات علنياً وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم.
3- وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الآجال إلى أجلها إلا أن ينقضها المعاهدون.
4- فضل التقوى وأهلها وهو اتقاء سخط الله بفعل المحبوب له تعالى وترك المكروه.
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
__________
1 في الآية إشارة أن هناك من خاس بعهده أي: نقضه، ومنهم من ثبت عليه.(2/338)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
شرح الكلمات:
فإذا انسلخ الأشهر1 الحرم: انقضت وخرجت الأشهر الأربعة التي أمنتم فيها المشركين.
حيث وجدتموهم: أي في أي مكان لقيتموهم في الحل أو الحرم.
وخذوهم: أي أسرى.
وأحصروهم: أي حاصروهم حتى يسلموا أنفسهم.
واقعدوا لهم كل مرصد2: أي اقعدوا لهم في طرقاتهم وارصدوا تحركاتهم.
فإن تابوا: أي آمنوا بالله ورسوله.
فخلوا سبيلهم: أي اتركوهم فلا حصار ولا مطاردة ولا قتال.
استجارك: أي طلب جوارك أي حمايتك.
مأمنه: أي المكان الذي يأمن فيه.
فما استقاموا لكم: أي لم ينقضوا عهدهم ولم يخلوا بالاتفاقية.
__________
1 انسلخ: مطاوع سلخ، وهو مأخوذ من سلخ الجلد: إذا أزاله عن لحم الحيوان.
2 المرصد: مكان الرصد والرصد: المراقبة وتتبع النظر، قال الشاعر:
ولقد علمت وما إخالك ناسيا ...
أن المنيّة للفتى بالمرصد(2/339)
وإن يظهروا عليكم: أي يغلبوكم.
لا يرقبوا فيكم: أي لا يراعوا فيكم ولا يحترموا.
إلاّ ولا ذمة: أي لا قرابة، ولا عهداً فالإلّ: القرابة والذمة: العهد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إعلان الحرب العامة على المشركين تطهيراً لأرض الجزيرة التي هي دار الإسلام وحوزته من بقايا الشرك والمشركين، فقال تعالى لرسوله والمؤمنين {فإذا انسلخ الأشهر الحرم1} أي إذا انقضت وخرجت الأشهر الحرم التي أمنتم فيها المشركين الذين لا عهد لهم أو لهم عهد ولكن دون أربعة أشهر أو فوقها وبدون حد محدود {فاقتلوا المشركين2 حيث وجدتموهم} في الحل والحرم سواء {وخذوهم} أسرى {واحصروهم} حتى يستسلموا، {واقعدوا لهم كل مرصد} أي سدوا عليهم الطرق حتى يقدموا أنفسهم مسلمين أو مستسلمين وقوله تعالى {فإن تابوا} أي من الشرك وحربكم {وأقاموا الصلاة3 وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم4} إذ أصبحوا مسلمين مثلكم. وقوله {إن الله غفور رحيم} أي أن الله سيغفر لهم ويرحمهم بعد إسلامهم، لأنه تعالى غفور رحيم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (5) أما الآية الثانية (6) فقد أمر تعالى رسوله أن يجير من طلب جواره من المشركين حتى يسمع كلام الله منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتفهم دعوة الإسلام ثم هو بالخيار إن شاء أسلم وذلك خير له وإن لم يسلم رده5 رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكان يأمن فيه من المسلمين أن يقتلوه.
__________
1 ليس المراد بالأشهر الحرم الثلاثة السرد، والواحد الفرد التي هي القعدة والحجة والمحرم ورجب بل المراد منها ما هو مبين في التفسير ومعنى كونها حرما أنه يحرم قتال المشركين فيها والتعرض لهم بالسوء والأذى.
2 لفظ المشركين عام في كل مشرك وهو مخصوص بالسنة إذ نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل المرأة والصبي والراهب.
3 شاهده حديث الصحاح: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال".
4 مالك والشافعي وأحمد على أن تارك الصلاة استحلالاً لها أو غير استحلال يؤخر إلى أن يبقى من الوقت الضروري قدر ما يصلي ركعة قبل خروج الوقت ويقتل، وأبو حنيفة والظاهرية يقولون: يسجن ويضرب حتى يصلي ولا يقتل.
5 إمام المسلمين هو الذي يتولى أمر التأمين لمن طلب ذلك من المشركين إذ هو نائب عن سائر المسلمين، ويجوز للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يؤمن شخصاً ما لما له من حرمة لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد واحدة على من سواهم". وخالف بعضهم في المرأة فقالوا: لابد من موافقة الإمام لها على تأمينها وخالف أبو حنيفة في العبد.(2/340)
وهو معنى قوله تعالى {وإن أحد من1 المشركين استجارك فأجره حتى يسمع2 كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} فلذا قبل منهم ما طلبوه من الجوار حتى يسمعوا كلام الله تعالى إذ لو علموا ما رغبوا عن التوحيد إلى الشرك. وقوله تعالى في الآية الثالثة (7) {كيف3 يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} هذا الاستفهام للنفي مع التعجب أي ليس لهم عهد أبداً وهم كافرون غادرون، وقوله تعالى {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} هؤلاء بعض بني بكر بن كنانة عاهدهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام صلح الحديبية وهم عند الحرم فهؤلاء لهم عهد وذمة ما استقاموا على عهدهم فلم ينقضوه. فإن استقاموا استقام لهم المسلمون ولم يقتلوهم وفاء بعهدهم وتقوى لله تعالى لأنه تعالى يكره الغدر ويحب المتقين لذلك. وقوله تعالى {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة} الاستفهام للتعجب أي كيف يكون للمشركين عهد يفون به لكم وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم في معركة، {لا يرقبوا فيكم} أي لا يراعوا الله تعالى ولا القرابة ولا الذمة بل يقتلوكم قتلاً ذريعاً، وقوله تعالى {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} إخبار من الله تعالى عن أولئك المشركين الناكثين للعهد الغادرين بأنهم يحاولون إرضاء المؤمنين بالكذب بأفواههم، وقلوبهم الكافرة تأبى ذلك الذي يقولون بألسنتهم أي فلا تعتقده ولا تقره، {وأكثرهم فاسقون} لا يعرفون الطاعة ولا الالتزام لا بعهد ولا دين، والجملة فيها تهييج للمسلمين على قتال المشركين ومحاصرتهم وأخذهم تطهيراً لأرض الجزيرة منهم قبل وفاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود ما لم ينقضها المعاهدون.
__________
1 أحد، مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده والتقدير: وإن استجارك أحد المشركين فأجره.
2 الآية دليل على أن ما يسمع من صوت القارىء للقرآن هو كلام الله تعالى فيقول العبد: سمعت كلام الله حقاً وصدقاً.
3 {كيف يكون} الخ كيف: للتعجب نحو قولك: كيف يسبقني فلان؟! في الآية إضمار كلمة غدر أي كيف يكون لهم عهد مع إضمارهم الغدر بكم.(2/341)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
2- تقرير مبدأ الحزم في القتال والضرب بشدة.
3- وجوب تطهير الجزيرة من كل شرك وكفر لأنها دار الإسلام.
4- إقام الصلاة شرط في صحة الإيمان فمن تركها فهو كافر غير مؤمن.
5- احترام الجوار، والإقرار به، وتأمين السفراء والممثلين لدولة كافرة.
6- قبول طلب كل من طلب من الكافرين الإذن له بدخول بلاد الإسلام ليتعلم الدين الإسلامي.
7- القرآن كلام الله تعالى حقاً بحروفه ومعانيه لقوله {حتى يسمع كلام الله} الذي يتلوه عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
8- وجوب مراقبة الله تعالى ومراعاة القرابة واحترام العهود.
اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12)
شرح الكلمات:
اشتروا بآيات الله1: أي باعوا آيات الله وأخذوا بدلها الكفر.
فصدوا عن سبيله: أي أعرضوا عن سبيل الله التي هي الإسلام كما صدوا غيرهم أيضاً.
__________
1 روي أنهم نقضوا عهدهم من أجل أكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان ومالٍ صرفه لهم ليقفوا معه ضد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين.(2/342)
ساء: أي قبح.
لا يرقبون: أي لا يراعون.
إلاً: الإل: الله، والقرابة والعهد وكلها صالحة هنا.
فإن تابوا: أي من الشرك والمحاربة.
نكثوا: أي نقضوا وغدروا.
وطعنوا في دينكم1: أي انتقدوا الإسلام في عقائده أو عاداته ومعاملاته.
أئمة الكفر: أي رؤساء الكفر المتبعين والمقلدين في الشرك والشر والفساد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المشركين، وبيان ما يلزم اتخاذه حيالهم فأخبر تعالى عنهم بقوله في الآية (9) {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} أي باعوا الإيمان بالكفر فصدوا أنفسهم كما صدوا غيرهم من أتباعهم عن الإسلام الذي هو منهج حياتهم وطريق سعادتهم وكمالهم. فلذا قال تعالى مُقبحاً سلوكهم {إنهم ساء ما كانوا يعملون} كما أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يراعون في أي مؤمن يتمكنون منه الله عز وجل ولا قرابة بينه وبينهم، ولا معاهدة تربطهم مع قومه، فقال تعالى {لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون} ووصفه تعالى إياهم بالاعتداء دال على أنهم لا يحترمون عهوداً ولا يتقون الله تعالى في شيء، وذلك لظلمة نفوسهم من جراء الكفر والعصيان، فلذا على المسلمين قتلهم حيث وجدوهم وأخذهم أسرى وحصارهم وسد الطرق عنهم حتى يلقوا السلاح ويسلموا لله، أو يستسلموا للمؤمنين اللهم إلا أن يتوبوا بالإيمان والدخول في الإسلام كما قال تعالى {فإن2 تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} وقوله تعالى
__________
1 الطعن في الدين هو: استنقاصه، وأصل الطعن: الضرب في الجسم بالرمح لإفساده، واستعمل في الانتقاص للشخص والدين لإفساده. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طُعن في إمارة أسامة لصغر سنه: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة" في الصحيح والطاعنون: المنافقون، واستدل بهذه الآية على كفر من طعن في الدين، ووجوب قتله وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأنّ الذمي إذا طعن في الدين انتقضَ عهده ووجب قتله هذا مذهب الجمهور، وأبو حنيفة يرى استتابته فإن تاب وإلاّ قُتل.
2 من فرّق بين ثلاثة فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة. من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول فإن الله تعالى قال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ومن قال: أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله يقول: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ومن قال: أشكر الله ولا أشكر لوالدي فإن الله قال: {أن اشكر لي ولوالديك} .(2/343)
{ونفصل الآيات لقوم يعلمون} أي نبين الآيات القرآنية المشتملة على الحجج والبراهين على توحيد الله تعالى وتقرير نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى الأحكام الشرعية في الحرب والسلم كما في هذا السياق وقوله {لقوم يعلمون} لأن الذين لا يعلمون من أهل الجهالات لا ينتفعون بها لظلمة نفوسهم وفساد عقولهم بضلال الشرك والأهواء وقوله تعالى في الآية الرابعة (12) {وإن نكثوا أيمانهم1 من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم} يريد تعالى أولئك المعاهدين من المشركين إذ هم نكثوا أيمانهم التي أكدوا بها عهودهم فحلوا ما أبرموا ونقضوا ما أحكموا من عهد وميثاق وعابوا الإسلام وطعنوا فيه فهم إذاً أئمة الكفر ورؤساء الكافرين فقاتلوهم بلا هوادة، ولا تراعوا لهم أيماناً حلفوها لكم فإنهم لا أيمان لهم. قاتلوهم رجاء أن ينتهوا من الكفر والخيانة والغدر فيوحدوا ويسلموا ويصبحوا2 مثلكم أولياء الله لا أعداءه.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- ذم سلوك الكافرين وتصرفاتهم في الحياة وحسبهم أن باعوا الحق س بالباطل، واشتروا الضلالة بالهدى.
2- من كان الاعتداء وصفاً له لا يُؤمن على شيء، ولا يوثق فيه في شيء، لفساد ملكته النفسية.
3- أخوة الإسلام تثبت بثلاثة أمور التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة3.
4- الطعن في الدين ردة وكفر موجب للقتل والقتال.
__________
1 النكث: النقض وأصله في كل ما فتل أو أبرم ثم حل، واستعملت في الأيمان والعهود، قال الشاعر:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
2 نعم ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لم يبق منهم إلاّ ثلاثة، ولم يبق من المنافقين إلا أربعة: روى البخاري عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية يعني: {فقاتلوا أئمة الكفر..} إلا ثلاثة ولا يبقى من االمناقفين إلا أربعة فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرون أخباراً لا ندري ما هي؟ تزعمون إلاّ منافق إلاّ أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا- نفائس أموالنا- قال حذيفة رضي الله عنه: أولائك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده، أي: لذهاب شهوته وفساد معدته.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية حرّمت دماء أهل القبلة يعني قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} .(2/344)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
شرح الكلمات:
ألا:: أداة تحضيض.
نكثوا أيمانهم: نقضوها وحلوها فلم يلتزموا بها.
هموا بإخراج الرسول: من دار الندوة إذ عزموا على واحدة من ثلاث الحبس أو النفي أو القتل.
أول مرة: أي في بدر أو في ماء الهجير1 حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة.
ويخزهم: أي يذلهم ويهينهم.
ويشف صدور: أي يذهب الغيظ الذي كان بها على المشركين الظالمين.
ان تتركوا: أي بدون امتحان بالتكاليف كالجهاد.
__________
1 حوض من ماء واسع كبير يسقون منه تقاتلت عنده خزاعة حلفاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبنو بكر حلفاء قريش وأعانت قريش حلفاءها بني بكر وبذلك نقضت عهدها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي هذا يقول الخزاعي وافد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيّتونا بالهجيرهجّدا ...
وقتلونا ركعاً وسجدا(2/345)
وليجه: أي دخيله وهي الرجل يدخل في القوم وهو ليس منهم ويطلعونه على أسرارهم وبواطن أمورهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المشركين وما يلزم إزاءهم من إجراءات فإنه بعد أن أعطاهم المدة المذكورة وأمنهم فيها وهى أربعة أشهر، وقد انسلخت فلم يبق إلا قتالهم وأخذهم وإنهاء عصبة المشركين وآثارها في ديار الله فقال تعالى حاضاً المؤمنين مهيجاً لهم {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} وهذه خطيئة كافية في وجوب قتالهم، وثانية همهم بإخراج الرسول من بين أظهرهم من مكة وثالثة بدؤهم إياكم بالقتال في بدر، إذ عيرهم نجت وأبوا إلا أن يقاتلوكم، إذاً فلم لا تقاتلونهم؟ أتتركون قتالهم خشية منهم وخوفاً إن كان هذا {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} ، لأن ما لدى الله تعالى من العذاب ليس لدى المشركين فالله أحق أن يخشى، هذا ما تضمنته الآية الأولى (13) وهي قوله تعالى {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج1 الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} وفي الآية الثانية (14) يقول تعالى: {قاتلوهم} وهو أمر صريح بالقتال، وبذكر الجزاء المترتب على قتالهم فيقول {يعذّبهم الله بأيدكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} وهم خزاعة تشفى صدورهم من الغيظ على بني بكر الذين قاتلوهم وأعانتهم قريش عليهم بعد صلح الحديبية2، وقوله تعالى: {ويتوب الله على من يشاء} هذه وإن لم تكن جزاء للأمر بالقتال كالأربعة التي قبلها. ولكن سنة الله تعالى أن الناس إذا رأوا انتصار أعدائهم عليهم في كل معركة يميلون إليهم ويقبلون دينهم وما هم عليه من صفات فقتال المؤمنين للكافرين وانتصارهم عليهم يتيح الفرصة لكثير من الكافرين فيسلمون وهو معنى قوله تعالى {ويتوب الله على من يشاء} ، وقوله {والله عليم حكيم} تقرير للأمر بالقتال والنتائج الطيبة المترتبة عليه آخرها أن يتوب الله عدى من يشاء. وقوله تعالى في الآية (16) الأخيرة {أم
__________
1 إذ كانوا السبب في خروجه من مكة مهاجراً كما أخرجوه من المدينة لقتالهم في بدر ولفتح مكة كما همّوا بإخراجه من المدينة هو وأصحابه في أحد والخندق وغير ذلك.
2 إذ قريش أعانت بني بكر على خزاعة التي هي حلفاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أنّ رجلا من بني بكر أنشد شعراً في هجاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له بعض رجال خزاعة لئن أعدته لأكسرنّ فمك فأعاده فكسم فمه، واندلعت الحرب بينهم فأعانت قريش بني بكر فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلب النصرة فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجاله وكان فتح مكة.(2/346)
حسبتم1 أن تتركوا} أي بدون امتحان. وأنتم خليط منكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق الكاذب، من جملة ما كان يوحى به المنافقون التثبيط عن القتال بحجة ان مكة فتحت وأن الإسلام عز فما هناك حاجة إلى مطاردة فلول المشركين، وهم يعلمون أن تكتلات يقودها الساخطون على الإسلام حتى من رجالات قريش يريدون الانقضاض على المسلمين وإهدار كل نصر تحقق لهم، وهذا المعنى ظاهر من سياق الآية {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} 2 إذ هناك من اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يطلعونها على أمور المسلمين، ويسترون عليهم وهي بينهم دخلية، ويقرر هذه الجملة التي ختمت بها الآية وهي قوله تعالى {والله خبير بما تعملون} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية استعمال أسلوب التهييج والإثارة للجهاد.
2- وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته.
3- لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه.
4- من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله تعالى.
5- الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضاً.
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
__________
1 {أم حسبتم} أم: هي المنقطعة بمعنى بل إضرابا عما سبق من الكلام وانتقالا إلى آخر، والاستفهام للإِنكار، والحسبان بمعنى الظن والمعنى كيف تظنون أنكم تتركون بعد فتح مكة دون جهاد لأعداء الله ورسوله، وهم ما زالوا يتآمرون ويتجمعون لقتالكم.
2 الوليجة: البطانة من الولوج في الشيء وهو الدخول فيه، والمراد من هذا الرجل يتخذ من أعداء الإسلام صديقاً يدخل عليه ويدخله عليه فيطلعه على أسرار المسلمين للنكاية بهم والتسلط عليهم لإضرارهم وإفسادهم وهلاكهم.(2/347)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
شرح الكلمات:
ما كان للمشركين: أي ليس من شأنهم أو مما يتأتى لهم.
حبطت أعمالهم: أي بطلت فلا يثابون عليها ولا ينجحون فيها.
يعمروا مساجد الله: أي بالعبادة فيها، وصيانتها وتطهيرها.
ولم يخش إلا الله: أي لم يخف أحداً غير الله تعالى.
فعسى: عسى من الله تعالى كما هي هنا تفيد التحقيق أي هدايتهم محققة.
المهتدين: أي إلى سبيل النجاة من الخسران والظفر بالجنان.
معنى الآيتين:
لا شك أن هناك من المشركين من ادعى أنه يعمر المسجد الحرام بالسدانة والحجابة والسقاية وسواء كان المدعى هذا العباس يوم بدر أو كان غيره فإن الله تعالى أبطل هذا الادعاء وقال {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} 1 أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يصح منهم، وكيف وهم كفار شاهدون2 على أنفسهم بالكفر، وهل الكافر بالله يعمر بيته وبماذا يعمره؟ وإذا سألت اليهودي ما أنت؟ يقول يهودي، وإذا سألت النصراني، ما أنت؟ يقول نصراني، وإذا سألت الوثني ما أنت؟ يقول مشرك فهذه شهادتهم على أنفسهم3 بالكفر، وقوله تعالى {أولئك} أي البعداء في الكفر والضلال {حبطت أعمالهم} ، أي
__________
1 قيل: إنّ العباس لما أسر في بدر عُيّر بالكفر وقطيعة الرحم قال لمن عيّره، تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا! فقال علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الآية ردّاً عليه. فوجب على المسلمين تولي أحكام المساجد.
2 قيل الأصل: وهم شاهدون فحذف {وهم} فنصب {شاهدين} على الحال.
3 قال ابن عباس: شهادتهم بالكفر هي: سجودهم للأصنام مع إقرارهم بأنها مخلوقة والله خالقها.(2/348)
بطلت وضاعت لفقدها الإخلاص فيها لله تعالى {وفي النار هم خالدون} لا يخرجون منها متى دخولها أبداً، إذ ليس لهم من العمل ما يشفع لهم بالخروج منها. ثم قرر تعالى الحقيقة وهي أن الذين يعمرون1 مساجد الله حقاً وصدقاً هم المؤمنون الموحدون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويخشون الله تعالى ولا يخشون سواه هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كمال وخير يشهد لهذا قوله تعالى {فعسى2 أولئك أن يكونوا من المهتدين} إلى ما هو الحق والصواب، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة دخول الكافر المساجد إلا لحاجة وبإذن من المسلمين.
2- فضيلة عمارة المساجد بالعبادة فيها وتطهيرها وصيانتها.
3- فضيلة المسلم وشرفه، إذ كل من يسأل عن دينه يجيب بجواب هو الكفر إلا المسلم فإنه يقول: مسلم أي لله تعالى فهو إذاً المؤمن وغيره الكافر.
4- وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشية من3 الله تعالى.
5- أهل الأمن والنجاة من النار هم أصحاب الصفات الأربع المذكورة في الآية.
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
__________
1 وردت أحاديث في فضل عمارة المساجد منها القوي ومنها الضعيف مجموعها يدل على المراد منها وهو حسن الظن بمن يعمر مساجد الله وأظهر حديث "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان".
2 قالت العلماء: "عسى من الله واجبة أي: ما يرجى بها واجب الوقوع، وقيل: هي هنا بمعنى: خليق أي: فخليق أن يكونوا من المهتدين.
3 تساءل البعض وقالوا: قوله تعالى: {ولم يخش إلاّ الله} دال على أن المؤمن الكامل الإيمان لا يخشى إلا الله وإذا بالواقع أن الأنبياء يخشون الأعداء فضلا عن غيرهم فقال بعضهم معناه: أنهم لا يخشون إلاَّ الله مما يُعبد، وقال بعضهم:
أي لم يخف إلا الله في باب الدين. والجواب الصحيح أنّ الإنسان نبيا كان أو غيره من المؤمنين العاملين لا يخشون إلا الله تعالى فإذا خافوا عدواً، ليس معناه أنهم خافوه لذاته وإنما خافوا من الله أن يكون سلطة عليهم فخوفهم عائد في الحقيقة إلى الله تعالى فهو الذي بيده الأمر، والخوف منه لا من غيره.(2/349)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
شرح الكلمات:
سقاية الحاج: مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرام ويسقى منه الحجاج مجاناً.
وعمارة المسجد الحرام: هنا عبارة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه.
لا يستوون عند الله: إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر لا تساوى شيئاً.
والله لا يهدي القوم الظالمين: أي المشركين لا يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم.
ورضوان: أي رضا الله عز وجل عنهم.
نعيم مقيم: أي دائم لا يزول ولا ينقطع.
معاني الآيات:
ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد1 الحرام بالسقاية والحجابة
__________
1 روي عن السدي أنه قال: افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلي بالإسلام والجهاد فصدق الله علياً وكذبهما أي بهذه الآية: {أجعلتم سقاية الحاج ... } الخ فأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.
وقيل أيضاً: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟
فقالت لهم اليهود مكراً وعناداً: أنتم أفضل وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته عما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: {أجعلتم..} الآية. وحل الإشكال في هذه الأخبار: أن الآية تذكر دليلاً لا أنها نزلت في ذلك الوقت.(2/350)
والسدانة على الإيمان والفجرة والجهاد فقال تعالى موبخاً لهم {أجعلتم1 سقاية الحاج2 وعمارة3 المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون} في حكم الله وقضائه بحال من الأحوال، والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر {والله لا يهدي القوم الظالمين} بعد هذا التوبيخ والبيان للحال أخبر تعالى أن {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} هم {أعظم درجة} ممن آمنوا ولم يستكملوا هذه الصفات الأربع، وأخبر تعالى أنهم هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة، وأعظم من هذا، جاء في قوله {يبشرهم ربهم برحمة منه} وهي الجنة {ورضوان} منه تعالى وهو أكبر نعيم {وجنات} أي بساتين في الملكوت الأعلى {لهم فيها نعيم مقيم} لا يحول ولا يزول وأنهم خالدون فيها لا يخرجون منها أبداً، {وإن الله عنده أجر عظيم} لا يقادر قدره جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة، لح وأقربهم من الله منزلة من جمع الصفات الثلاث المذكورة في الآية (20) وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
2- فضل الهجرة والجهاد.
3- تفاوت أهل الجنة في علو درجاتهم.
4- حرمان الظالمين المتوغلين في الظلم من هداية الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ
__________
1 أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج، أو أصحاب سقاية الحاج، إذ حذف المضاف وهو: أهل أو أصحاب وبقي المضاف إليه وهو: سقاية فنصب انتصابه.
2 الحاج: اسم جنس ناب مناب الحجاج جمع حاج.
3 وقرىء: سُقاة بضم السين جمع ساقٍ وعمرة: جمع عامر ككتبة جمع كاتب.(2/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
شرح الكلمات:
أولياء: جمع وليّ وهو من تتولاه بالمحبة والنصرة ويتولاك بمثل ذلك.
استحبوا: أي أحبوا الكفر على الإيمان.
الظالمون: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أحب من لا تجوز محبته فقد وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم.
وعشيرتكم: أي قرابتكم من النسب كالأعمام الأباعد وأبنائهم.
اقترفتموها: أي اكتسبتموها.
كسادها: بوارها وعدم رواجها.
فتربصوا: أي انتظروا.
حتى يأتي الله بأمره: أي بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة.
معنى الآيتين:
هذا إنذار الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم. فيقول تعالى: {يا أيها الذين امنوا} أي بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده {لا تتخذوا آباءكم1
__________
1 هذه الآية ما تضمنته من حكم حرمة موالاة الكافرين ولو كانوا من اقرب الأقرباء وهو عام في الأمة إلى يوم القيامة؟ وإن فهم منها بعضهم أنها للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها يدعوهم إلى الهجرة والتخلي عن بلاد الكفر.(2/352)
وإخوانكم1 أولياء إن استحبوا2 الكفر على الإيمان} أي اثروا الكفر والإصرار عليه على الإيمان بالله ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان فيقول {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون3} ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا المحبة موضع البغضاء، والنصرة موضع الخذلان. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر بالغضب وعدم الرضى، والتهديد والوعيد {قل إن كان4 آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} فتركتم الهجرة والجهاد لذلك {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} أي انتظروا أمر الله وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم، {والله لا لهدي القوم الفاسقين} أي لا يوفقهم لسبل نجاتهم وسعادتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يُوادون ولو كانوا من أقرب الأقرباء كالأب والابن والأخ.
2- من الظلم الفظيع موالاة من عادى الله ورسوله والمؤمنين.
3- فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال والذوات والصفات.
4- حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ
__________
1 لم يذكر الأبناء لأنّ العادة أنّ الأبناء تبع لآبائهم وذكر الآباء والإخوان ذكر لأقوى القرابة.
2 استحبوا: بمعنى أحبوا نحو: استجاب بمعنى: أجاب.
3 قال ابن عباس: من تولاهم هو مشرك مثلهم لأنّ الرضا بالشرك شرك ويستثنى من هذه المقاطعة الإحسان والهبة للأقارب الكفرة لحديث أسماء إذ قالت: يا رسول الله إنّ أمي قدمت عليّ راغبة وهي شركة أفأصلها؟ قال: صلي أمك. رواه البخاري.
4 هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة إيثاراً لما ذكر تعالى على حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله تعالى إذ توعدهم تعالى بقوله: {فتربصوا} أي انتظروا ما سيحل بكم إن لم تتوبوا فتهاجروا وتجاهدوا.(2/353)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
شرح الكلمات:
في مواطن: المواطن جمع موطن بمعنى الوطن وهو محل إقامة الإنسان.
حنين: وادٍ على بعد أميال يسيرة من الطائف.
إذ أعجبتكم كثرتكم: أي كثرة عددكم حتى قال من قال: لن نغلب اليوم من قلة.
فلم تغن عنكم شيئاً: أي لم تجز عنكم شيئاً من الإجزاء إذ انهزمتم في أول اللقاء.
وضاقت عليكم الأرض: أي لم تعرفوا أين تذهبون، وكيف تتصرفون كأنكم محصورون في مكان ضيق.
بما رحبت: أي على رحابتها وسعتها.
أنزل الله سكينته: أي الطمأنينة في نفوسهم، فذهب القلق والاضطراب.
وأنزل جنوداً.: أي من الملائكة.
نجس: أي ذوو نجس وذلك لخبث أرواحهم بالشرك.
بعد عامهم هذا: عام تسعة من الهجرة.(2/354)
عيلة: أي فقراً وفاقه وحاجة.
معنى الآيات:
لما حرم الله على المؤمنين موالاة الكافرين ولو كانوا أقرباءهم وحذرهم من القعود عن الهجرة والجهاد، وكان الغالب فيمن يقعد عن ذلك إنما كان لجبنه وخوفه أخبرهم تعالى في هذه الآيات الثلاث أنه ناصرهم ومؤيدهم فلا يقعد بهم الجبن والخوف عن أداء الواجب من الهجرة والجهاد فقال تعالى {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة1} كبْدَر والنضير وقريظة والفتح وغيرها {ويوم حنين} 2 حين قاتلوا قبيلة هوازن مذكراً إياهم بهزيمة أصابت المؤمنين نتيجة خطأ من بعضهم وهو الاغترار بكثرة العدد إذ قال من قال منهم: لن نغلب اليوم عن قلة إذ كانوا اثني عشر3 ألفاً وكان عدوهم أربعة آلاف فقط، إنهم ما إن توغلوا بين جنبتي الوادي حتى رماهم العدو بوابل من النبل والسهام فلم يعرفوا كيف يتصرفون حتى ضاقت عليهم الأرض على سعتها وولوا مدبرين هاربين ولم يثبت إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان على بغلته البيضاء المسماة (بالدُلْدُل) والعباس إلى جنبه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه، ثم نادى منادي رسول الله: أن يا أصحاب سورة البقرة هلموا أصحاب السمرة (شجره بيعة الرضوان) هلموا. فتراجعوا إلى المعركة ودارت رحاها و {أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً} تلامس القلوب وتنفخ فيها روح الشجاعة والصبر والثبات، فصبروا وقاتلوا وما هي إلا ساعة وإذا بالعدو سبي بين أيديهم ولم يحصل لهم أن غنموا يوماً مثل ما غنموا هذا اليوم إذ بلغ عدد الإبل اثني عشر ألف بعير، ومن الغنم مالا يحصى ولا يعد. بهذا جاء قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين4} أي هاربين من العدو {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً} أي من الملائكة {لم تروها} {وعذب الذين كفروا} أي هوازن {وذلك} أي القتل والسبي {جزاء الكافرين} بالله ورسوله.
__________
1 المواطن: جمع موطن وهو مكان التوطّن أي: الإقامة ويطلق على موضع الحرب وموقعها.
2 خص يوم حنين بالذكر لما وقع فيه من الهزيمة في أول المعركة.
3 عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء وهزموا من أجل قول بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة وهو ما يسمى بالعجب وهو محبط للعمل.
4 روى مسلم عن ابن اسحق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ولى ولكنه انطلق أخفّاء من الناس وحسّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو سفيان يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزل نصرك" قال البراء: كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به.(2/355)
وقوله تعالى {ثم يتوب الله على من يشاء} 1 أي بعد قتالكم للكافرين وقتلكم من تقتلون يتوب الله على من يشاء ممن بقوا أحياء بعد الحرب {والله غفور رحيم} فيغفر لمن يتوب عليه من المشركين ماضي ذنوبه من الشرك وسائر الذنوب ويرحمه بأن يدخله الجنة مع من يشاء من المؤمنين الصادقين في إيمانهم هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث. أما الآية الرابعة {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس2 فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} 3 فإنه تعالى أمر المؤمنين بأن يمنعوا من دخول المسجد الحرم كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام وهو مكة والحرم حولها، ومن يومئذ لم يدخل مكة مشرك، وقوله تعالى {وإن خفتم علية4} أي فقراً لأجل انقطاع5 المشركين عن الموسم حيث كانوا يحلبون التجارة يبيعون ويشترون فيحصل نفع للمسلمين {فسوف يغنيكم الله من فضله} فامنعوا المشركين ولا تخافوا الفقر وقوله تعالى {إن شاء إن الله عليم حكيم} استثناء منه تعالى حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة غافلة، وكونه تعالى عليماً حكيماً يرشح المعنى المذكور فإن ذا العلم والحكمة لا يضع شيئاً إلا في موضعه فلا بد لمن أراد رحمة الله أو فضل الله أن يجتهد أن يكون أهلاً لذلك، بالإيمان والطاعة العامة والخاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة العجب بالنفس والعمل إذ هو أي العجب من العوائق الكبيرة عن النجاح.
2- بيان إفضال الله تعالى وإكرامه لعباده المؤمنين.
3- بيان الحكمة من القتال في سبيل الله تعالى.
4- تقرير نجاسة الكافر المعنوية.
__________
1 كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.
2 قيل: وصف المشرك بالنجس: لأنه جنب لا يغتسل من جنابة غسلاً شرعياً فهو لذلك نجس، وقيل: الشرك هو الذي جعله نجساً إذ لو أسلم زال عنه الوصف.
3 هو عام حجة الوداع وليس عام تسعة كما قال بعضهم.
4 قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل
يقال: عال يعيل عيلة: إذا افتقر.
5 في الآية على مشروعية الأخذ بالأسباب إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعقلها وتوكل" قال بعضهم: الأسباب التي يطلب بها الرزق هي الجهاد وأكل الرجل من عمل يده التجارة، الحرث، والغرس، التعليم للعلوم بالأجرة، الاستدانة بنيّة رد الدين.(2/356)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
5- منع دخول المشرك الحرم المكي كائناً من كان بخلاف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين.
6- لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربّه الخوف من الفاقة والفقر فإن الله تعالى تعهد بالإغناء إن شاء.
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
شرح الكلمات:
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر: أي إيماناً صحيحاً يرضاه الله تعالى لموافقة الحق والواقع.
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله: أي كالخمر والربا وسائر المحرمات.
ولا يدينون دين الحق: أي الإسلام إذ هو الدين الذي لا يقبل ديناً سواه.
من الذين أوتوا الكتاب: أي اليهود والنصارى.
الجزية: أي الخراج المعلوم الذي يدفعه الذمي كل سنة.
عن يد وهم صاغرون1: أي يقدمونه بأيديهم لا ينيبون فيه غيرهم، وهم صاغرون: أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام هذا.
معنى الآية الكريمة:
لما أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا الله تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الآية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم
__________
1 وفسّر قوله: {عن يد} بالقوة على دفع الجزية بأن يكون المطالب بها قادراً على أدائها لغناه وعدم فقره. وهو تفسير حق لأنّ الفقير منهم لا يطالب بالجزية في حال فقره، وما في التفسير أصحّ.(2/357)
اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وجعل إعطاء الجزية غايةً لنهاية القتال، لا الإسلام، لأن الإسلام يعرض أولاً على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن رفضوه يطلب منهم الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع الله تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحافظوا أموالهم، وأمنوا في حياتهم المادية والروحية، هذا ما تضمنته الآية الكريمة: {قاتلوا الذين لا يؤمنون1 بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب2 حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وإن قيل اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر فكيف نفت الآية عنهم ذلك؟ والجواب أن اليهود في إيمانهم بالله مشبهة مجسمة يصفون الله تعالى بصفات تعالى الله عنها علواً كبيراً، والنصارى يعتقدون أن الله حلّ في المسيح، وإن الله ثالث ثلاثة والله ليس كذلك فهم إذاً لا يؤمنون بالله تعالى كما هو الله الإله الحق، فلذا إيمانهم باطل وليس بإيمان يضاف إلى ذلك أنهم لو آمنوا بالله لآمنوا برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو آمنوا باليوم الآخر لأطاعوا الله ورسوله لينجوا من عذاب اليوم الآخر وليسعدوا فيه بدخول الجنة فلما لم يؤمنوا ولم يعملوا كانوا حقاً كافرين غير مؤمنين، وصدق الله العظيم حيث نفى عنهم الإيمان به وباليوم الآخر، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1-وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم الإسلام وذلك من أجل إعدادهم للإسلام ليكملوا عليه ويسعدوا به.
2- الإيمان غير الصحيح لا يعتبر إيماناً منجياً ولا مسعداً.
3- استباحة ما حرم الله من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح.
__________
1 الآية صريحة في عدم اعتبار إيمان اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً يزكى النفس ويؤهل لدخول الجنة، وهذا لأمرين: الأول: لما داخل إيمانهم من التحريف والتغيير فلم يكن إيمانهم بركني الإيمان العظيمين الإيمان بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً مقبولاً شرعاً فلذا عُد كلا إيمان. والثاني: لأنهم لو آمنوا بالله ولقائه حق الإيمان لآمنوا برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به من الهدى، ولاستقاموا على شرع الله فأحلوا ما أحل وحرموا ما حرم.
2 المجوس والصابئة لم يذكرا في الآية، والذي به العمل عند عامة الفقهاء أنهم يسنّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإدخالهم في ذمة المسلمين.(2/358)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
4- مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدّرة1 في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى المرء وفقره وسعته وضيقه.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
شرح الكلمات:
عُزير: هو الذي أماته الله مائة عام ثم بعتثه، واليهود يسمونه: عِزْرا.
المسيح: هو عيسى بن مريم عليهما السلام.
يضاهئون: أي يشابهون.
قول الذين كفروا: أي من آبائهم وأجدادهم الماضين.
قاتلهم الله: أي لعنهم الله لأجل كفرهم.
أنى يؤفكون.: أي كيف يصرفون عن الحق.
__________
1 تقدَّر بدينار من الذهب، وإن صالحهم الإمام عن أكثر فهم على ما صالحهم عليه.(2/359)
أحبارهم ورهبانهم: الأحبار جمع حبر: علماء واليهود، والرهبان جمع راهب عابد النصارى.
أرباباً من دون الله: أي آلهة يشرعون لهم فيعملون بشرائعهم من حلال وحرام.
نور الله: أي الإسلام لأنه هاد إلى الإسعاد والكمال في الدارين.
بأفواههم: أي بالكذب عليه والطعن فيه وصرف الناس عنه.
رسوله: محمداً صلى الله علمه وسلم.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب لكفرهم وعدم إيمانهم الإيمان الحق المنجي من النار ذكر في هذه الآيات الثلاث ما هو مقرر لكفرهم ومؤكد له فقال {وقالت اليهود عزير1 ابن الله} ونسبة الولد إلى الله تعالى كفر بجلاله وكماله {وقالت النصارى المسيح ابن2 الله} ونسبه الولد إليه تعالى كفر به عز وجل وبماله من جلال وكمال وقوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم} أي ليس له من الواقع شيء إذ ليس لله تعالى ولد، وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة، وإنما ذلك قولهم بأفواههم فقط {يضاهئون به3} أي يشابهون به {قول الذين كفروا من قبل} 4 وهم اليهود الأولون وغيرهم وقوله تعالى {قاتلهم الله أنى يؤفكون} دعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله تعالى وقوله {أنى يؤفكون} أي كيف يصرفون عن الحق ويبعدون عنه بهذه الصورة العجيبة وقوله {اتخذوا أحبارهم5 ورهبانهم أرباباً من دون الله} 6 هذا دليل آخر على كفرهم وشركهم إذ قبولهم قول علمائهم وعبادهم والإذعان
__________
1 قرأ عاصم {عزير} بالتنوين، وقرأ نافع بغير تنوين، وقوله تعالى {وقالت اليهود} هو كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس..} فهو لفظ عام، والمراد به الخصوص إذ ما كلٌ اليهود قالوا بهذه القولة ولا كل الناس وإنما بعضهم.
2 في الآية دليل على أن حاكي الكفر، وهو منكر له بقلبه ولسانه لا يكفر.
3 يقال: امرأة ضهياً: للتي لا تحيض ولا ثدي لها كأنها أشبهت الرجل.
4 أي: شابه قولهم قول الكافرين من قبلهم وهم أسلافهم الذين قلدوهم أو قول العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله. تعالى الله عن البنت والولد علواً كبيراً.
5 الحِبر بكسر الحاء. المداد، وبفتحها العالم، والرهبان: جمع راهب مأخوذ من الرهبة، والراهب الحق. هو من حمله خوف الله على أن يخلص له النية في القول والعمل ويجعل زمانه له وعمله له وأنسه به.
6 روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "ما هذا يا عديّ أطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم} وسئل حذيفة رضي الله عنه عن قول الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهباناهم أرباباً مر دون الله} هل عبدوهم؟ قال: لا ولكن أحلّوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا عليهم الحلال فحرموه.(2/360)
له والتسليم به حتى أنهم ليحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه، شرك وكفر والعياذ بالله. وقوله {والمسيح1 ابن مريم} أي اتخذه النصارى رباً وإلهاً، وقوله تعالى {وما أمروا إلا ليبعدوا إلهاً واحداً} أي لم يأمرهم أنبياؤهم كموسى وعيسى وغيرهما إلا بعبادة الله تعالى وحده لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله {سبحانه عما يشركون} نزه تعالى نفسه عن شركهم. وقوله تعالى {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي هو الإسلام بأفواههم بالكذب والافتراء، والعيب والانتقاص، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} 2، وقد فعل فله الحمد وله المنة، وأصبح الإسلام الظاهر على الأديان كلها، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (33) فقد أخبر تعالى أنه {هو الذي أرسل رسوله} أي محمداً {بالهدى} وهو القرآن {ودين الحق} الذي هو الإسلام. وقوله {ليظهره} أي الدين الحق الذي هو الإسلام {على الدين كله ولو كره المشركون} 3 وقد فعل فالإسلام ظاهر في الأرض كلها سمع به أهل الشرق والغرب ودان به أهل الشرق والغرب وسيأتي يوم يسود فيه المسلمون أهل الدنيا قاطبة بإذن الله تعالى
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير كفر اليهود والنصارى بذكر عقائدهم الكفرية.
2- طاعة العلماء ورجال الدين طاعة عمياء حتى يحلوا ويحرموا فيتبعوا شرك.
3- بيان عداء اليهود والنصارى للإسلام وتعاونهم على إفساده وإفساد أهله.
4- بشرى المسلمين بأنهم سيسودون العالم في يوم من الأيام ويصبح الإسلام هو الدين الذي يعبد الله به في الأرض لا غيره، ويشهد لهذا آية {ويكون الدين كله لله} فلو لم يعلم الله أن ذلك كائن لم يجعله غاية وطالب بالوصول إليها.
__________
1 يطلق لفظ المسيح على العرق لأنه إذا سال يُمسح من الجبين قال أحدهم شعراً:
افرح فسوف تألف الأحزانا ... إذا شهدت الحشر والميزانا
وسال من جبينك المسيح ... كأنّه جداول تسيح
2 صحّ دخول "إلاّ" على الإثبات هنا لأنّ أبى يحذف معها الكلام فيقال: يأبي فلان كل شيء إلا أن يطاع مثلا. فمعنى الآية: يأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره.
3 شاهده: رواية أحمد: عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو بذل ذليل إمّا يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها وإمّا يذلهم فيدينون لها".(2/361)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
شرح الكلمات:
بالباطل: أي بدون حق أباح لهم أكلها.
ويصدون عن سبيل الله: أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام الذي هو السبيل؟ المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى.
يكنزون: يجمعون المال ويدفنونه حفاظاً عليه ولا يؤدون حقه.
الذهب والفضة: هما النقدان المعروفان.
في سبيل الله: أي حيث رضا الله كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين.
فبشرهم: أي أخبرهم بعذاب أليم: أي موجع.
يحمى عليها: لأنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم.
هذا ما كنزتم: أي يقال لهم عند كيهم بها: هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخاً لهم وتقريعاً.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وأنهم يريدون دوماً وأبداً(2/362)
إطفاء نور الله بأفواههم، ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون لا همّ لهم إلا المال والرئاسة فأخبر المسلمين فقال {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار} 1 وهم علماء اليهود {والرهبان} وهم رجال الكنائس من النصارى {ليأكلون أموال الناس بالباطل} كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم، إلى غير ذلك من الحيل باسم2 الدين، وقوله تعالى عنهم {ويصدون عن3 سبيل الله} دليل واضح على أنهم يحاربون الإسلام باستمرار للإبقاء على مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى، وقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة} 4 لفظ5 عام يشمل الأحبار والرهبان وغيرهم من سائر الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إلا أن الرهبان والأحبار يتناولهم اللفظ أولاً، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، وقوله تعالى لرسوله {فبشرهم بعذاب أليم} أي أخبرهم معجلاً لهم الخبر في صورة بشارة، وبين نوع العذاب الأليم بقوله {يوم يحمى عليها} أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى صفائح {في نار جهنم} فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} أي من كل الجهات الأربع من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكماً بهم وازدراء لهم وهو نوع عذاب أشد على النفس من عذاب الجسم (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} .
__________
1 الآية نزلت في أهل الكتاب كشفاً عن عوراتهم المادية، وأما قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة..} الخ فهو حكم عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب.
2 قيل كانوا يأخذون من غلات أتباعهم ومن أموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقلدهم الروافض، فإن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل أخبرني بهذا أحد رجالهم في الكويت.
3 من صدّهم عن سبيل الله إنهم كانوا يمنعون أتباعهم من الدخول في الإسلام ومن أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 دلت الآية على زكاة العين: الذهب والفضة وهي تجب بأربعة شروط الحرية، والإسلام، والحول، والنصاب السليم من الدين، والنصاب مائتا درهم فضة أو عشرون ديناراً من الذهب، ويكمل أحدهما من الآخر، ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين ديناراً زكاة" في الصحيح.
5 روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق قال: يا نبي الله إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم فكبّر عمر فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته".(2/363)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام.
2- حرمة أكل أموال الناس بالباطل.
3- حرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه.
4- المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض.
5- بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة.
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
شرح الكلمات:
عدة: أي عدد.(2/364)
الشهور1: جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون يوماً
في كتاب الله: أي كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.
أربعة حرم: هي رجب، والقعدة، والحجة، ومحرم، الواحد منها حرام والجمع حرم.
الدين القيم 2: أي الشرع المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم: أي لا ترتكبوا في الأشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة.
كافة: أي جميعاً وفي كل الشهور حلالها وحرامها.
مع المتقين: أي بالتأييد والنصّر، والمتقون هم الذين لا يعصون الله تعالى.
إنما النسيء: أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر.
يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً: أي النسيء عاماً يحلونه وعاماً يحرمونه.
ليواطئوا عدة ما حرم الله: أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة.
زين لهم سوء عملهم: أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لأنه إفتيات على الشارع واحتيال على تحليل الحرام.
معنى الآيتين:
عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك الاعتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} لا تزيد ولا تنقص، وأنها هكذا في اللوح المحفوظ {يوم خلق السموات والأرض} 3. وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم، وحرمها الله تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها من السفر للتجارة وللحج والعمرة ولا يخافون أحداً، ولما
__________
1 المراد بالشهور: ما تتألف منه السنة القمرية، واحدها: شهر، مشتق من الشهرة سميت به الأيام من أوّل ظهور الهلال إلى سراره.
2 أي: الصحيح، والإشارة في قوله: {ذاك الدين القيّم} إلى عدة الشهور، وتقسيمها إلى حُرم وغيرها وإلى عدم ارتكاب الذنوب فيها.
3 قوله: {يوم خلق السموات والأرض..} قاله ليبيّن أن قضاء وقدره كان قبل ذلك وأنه سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والأرض.(2/365)
جاء الإسلام وأعز الله أهله، نسخ حرمة القتال فيها. وقوله تعالى (ذلك الدين القيّم} أي تحريم هذه الأشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي لا ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الأشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب الله تعالى وسخطه عليكم فلا تعرضوا أنفسكم له، وقوله تعالى {وقاتلوا المشركين} هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله {كافة} 1 أي جميعاً لا يتأخر منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتعموا أنتم على قتالهم، وقوله {واعلموا أن الله مع المتقين} وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن الله معكم بنصره وتأييده على المشركين العصاة وقوله عز وجل {إنما النسيء2 زيادة في الكفر} أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفُتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة في كفر الكافرين3، لأنه محاربة لشرع الله وهي كفر قطعاً لقوله تعالى {يضل به الذين كفروا} آي بالنسيء يزدادون ضلالاً فوق ضلالهم. وقوله {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} يعني النسيء وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام، فعاماً يحلون وعاماً يحرمون حتى يوافقوا عدة الأشهر الحُرُم، بلا زيادة ولا نقصان، ظناً منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية كما قال تعالى {زين لهم سوء أعمالهم} والمزين للباطل قطعاً هو الشيطان. وقوله تعالى {والله لا يهدى القوم الكافرين} يخبر تعالى أنه عز وجل لا يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله، وإصرارهم على ذلك.
__________
1 كافة: معناه جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال أي: محيطين بهم ومجتمعين. قالوا: نظير كافة: في كونه لا يبني ولا يجمع: عاقبة وعامة وخاصة.
2 قرأ الجمهور: {النسيء} مهموزاً وقرأ ورش: {النسيّ} بالياء المشددة، وهو فعيل بمعنى مفعول في قولك: نسأت الشيء أنسأه إذا أخّرته، فنقل من منسوء إلى نسيء كما نقل مفتول إلى فتيل لأنّه أخف، وأصل هذا التشريع الجاهلي: أنّ العرب قبل الإسلام كانوا أهل حروب فإذا احتاجوا إلى القتال في الشهر الحرام طلبوا من زعيمهم أن ينسيء المحرّم أي: يؤخره إلى صفر حتى يمكنهم الحرب في المحرم بعد الحج وما زالوا يؤخرون ويقدمون حتى اختلطت الشهور وأصبح رجب جمادى ورمضان شوال وهكذا، ودارت الشهور دورتها، وفي عام حجة الوداع أعلن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" يريد أن الشهور قد رجعت إلى مواضعها، وأصبح كل شهر في موضعه فوقع حجّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضعه.
3 إذ كفروا بالشرك وإنكار المعاد وتكذيب الرسل، ونسبة الولد لله تعالى ثم بالنسيء ازدادوا كفراً.(2/366)
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهراً1 وأيامها ثلثمائة2 وخمسة وخمسون يوماً.
2- بيان أن الأشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم.
3- حرمة الأشهر االحرم، ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها.
4- صفة المعيّة لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه.
5- حرمة الاحتيال على3 الشرع بالفتاوى الباطلة لإحلال الحرام، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم.
6- تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان.
7- حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالاً ومآلاً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)
__________
1 وهي: محرم ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم، وصفر ويجمع على أصفار وربيع الأول ويجمع على أربعاء وأربعة وربيع الثاني وجمادى الأولى ويجمع على جُماديات وتذكر وتؤنث فيقال: الأولى والأول، وجمادى الآخرة والآخر، ورجب ويجمع على أرجاب ورجاب، وشعبان ويجمع على شعابين وشعبانات، ورمضان ويجمع على رمضانات، ورماضين وأرمضة وشوال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات، القعدة ويجمع على ذوات القعدة والحِجة بكسر الحاء وفتحها ويجمع على ذوات الحجة.
2 وهي: الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود، والاثنين ويجمع على أثانين، والثلاثاء يذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث والأربعاء ويجمع على أربعاوات وأرابيع، والخميس ويجمع على أخمسة وأخامس، والجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها ويجمع على جمع وجمعات، والسبت ويجمع على سبوت كفتح وفتوح وأسبات كقمع وأقماع.
3 اختلف فيمن كان أوّل من نسأ فقيل عمرو بن لحي، وقيل: رجل من كنانة يقال له القلمّس قال شاعرهم:
ومنا ناسىء الشهر القلمّس
وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد ...
شهور الحل نجعلها حراما(2/367)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
شرح الكلمات:
مالكم؟ 1: أي أي شيء ثبت لكم من الأعذار.
انفروا: أي اخرجوا مستعجلين مندفعين.
اثاقلتم: أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالاً.
إلا تنصروه.: أي الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثاني اثنين: أي هو وأبو بكر رضي الله عنه.
في الغار: غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة.
لصاحبه: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
سكينتهُ: أي طمأنينته.
كلمة الذين كفروا: هي الدعوة إلى الشرك.
السفلى: أي مغلوبة هابطة لا يسمع لها صوت.
وكلمة الله هي العليا: أي دعوة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي العليا الغالبة الظاهرة.
__________
(ما) : حرف استفهام ومعناه التقرير والتوبيخ.(2/368)
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعلن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التعبئة العامة، وكان الزمن صيفاً حاراً وبالبلاد جدب ومجاعة، وكان ذلك في شوال من سنة تسع، وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة فاستحثَّ الربّ تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} والقائل هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {انفروا في سبيل الله} أي اخرجوا للجهاد {في سبيل الله} أي لأجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم. وقوله {مالكم} أي أي شيء يجعلكم لا تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلاب الكمال والإسعاد في الدارين. وقوله {اثاقلتم إلى الأرض} 1 أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلادكم. {أرضيتم بالحياة الدنيا من2 الآخرة؟} ينكر تعالى على من هذه حاله منهم، ثم يقول لهم {فما متاع الحياة الدنيا} أي ما كل ما يوجد فيها من متع على اختلافها بالنسبة إلى ما في الآخرة من نعيم مقيم في جوار رب العالمين {إلا قليل} تافه لا قيمة له؛ فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي. ثم قال لهم {إلاّ تنفروا} أي إن تخليتم عن نصرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده {يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم3 ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير} . وفي هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين.
وقوله تعالى {إلا تنصروه} 4 أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره الله تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا {ثاني اثنين} 5 أي هو وأبو بكر لا غير، {إذ هما في الغار} أي غار ثور، {إذ يقول
__________
1 أصل {اثاقلتم} : تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء لقرب مخرجهما وزيدت همزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ومثله: اداركوا وادّارأتم، واطيرنا، وازينت.
2 أي: أرضيتم بنعيم الدنيا وراحتها بدلاً من نعيم الآخرة وسعادتها.
3 أي: لا يقعدون عند استنفارهم للجهاد والخروج معه، وأنتم بتخلفكم لا تضرونه شيئاً، في الآية دليل على حرمة التثاقل عن الجهاد إذا كان مع كراهته ولا حرمة مع عدم الكراهة إلاّ أن يعيّنه الإمام فيجب.
4 أصلها إن الشرطية أدغمت فيها لا النافية، والآية تحمل عتاباً شديداً، ومعنى الآية: إن تركتم نصرته فقد تكفل الله بها.
5 أي: أحد اثنين كثالث ثلاثة ورابع أربعة.(2/369)
لصاحبه} : لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله، {لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه} فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه1، {وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا} وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها {السفلى} مغلوبة هابطة {وكلمة الله} كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله {هي العليا} الغالبة الظاهرة {والله عزيز} غالب2 لا يغالب {حكيم} في تصرفه وتدبيره، ينصر من أراد نصره بلا ممانع ويهزم من أراد هزيمته بلا مغالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.
2- يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيلٍ غير سبيله تعالى.
3- بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.
4- وجوب نصرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دينه في أمته في سنته.
5- شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله.
6- الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
__________
1 أي: قلب أبي بكر رضي الله عنه.
2 إذ أحبط تعالى أعمال قريش في طلبها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقتله حيث جعلت مائة ناقة لمن يأتيها برأسه وأنجى الله رسوله منهم وانتهى إلى المدينة ونصره عليهم.(2/370)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
شرح الكلمات:
خفافاً وثقالاً: الخفاف جمع خفيف: وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب. والثقال جمع ثقيل: وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي لا جدة عنده.
ذلكم: أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الأرض وترك الجهاد حالاً ومآلاً.
عرضاً قريباً: غنيمة في مكان قريب غير بعيد.
أو سفراً قاصداً: أيما معتدلاً لا مشقة فيه.
الشقة: الطريق الطويل الذي لا يقطع إلا بمشقة وعناء.
عفا الله عنك: لم يؤاخذك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه الآيات يأمر تعالى المؤمنين بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوي كالكبير العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا1 بأموالكم وأنفسكم} أعداء الله الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام الإسلام {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى الانتهاء بهم إلى إحدى الغايتين خير لكم من الخلود إلى الأرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل، إن كنتم تعلمون ذلك، وقوله تعالى {لو كان عرضاً2 قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة} 3 يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان
__________
1 الآية محكمة ولم تنسخ، والمراد منها: أن الإمام إذا أعلن عن النفير العام، وجب الإسراع إلى الخروج معه على أي حال من كبر وصغر وغنى وفقر.
2 العرض: ما يعرض من منافع الدنيا، والمراد به هنا: الغنيمة أي: لو كان الذي دعوا إليه عرضا قريبا أو كان الذي دعوا إليه سفراً قاصداً أي: سهلا معلوم الطرق لاتبعوك.
3 الشقة: بالضم: السفر إلى أرض بعيدة وهي هنا تبوك، نظير هذه الآية من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو يعلم أحدهم أنه يحد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء.." المرماة: ظلف الشاة.(2/371)
أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة الإيمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لاتبعوك وخرجوا معك، ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا الأعذار إليك وتخلفوا. وقوله تعالى {وسيحلفون بالله} أي لكم قائلين: لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم.
قال تعالى {يهلكون أنفسهم} حيث يجلبون لها سخط1 الله وعقابه {والله يعلم إنهم لكاذبون} في كل ما اعتذروا به. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (41- 42) وأما الآية الثالثة فقد تضمنت عتاب الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الإذن لأحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال تعالى {عفا الله عنك} 2 أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه الاستفهام {لم أذنت لهم} تعجيلاً للمسرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لو أخر عن جملة العتاب لأوجد خوفاً وحزناً، وقوله تعالى {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} علة للعتاب على الإذن للمنافقين3 بالتخلف عن الخروج إلى تبوك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أعلن الإمام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ولا يقعد أحد، إلا بإذن لأجل علة قامت به فاستأذن فأذن له.
2- الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خيرٌ من تركه حالاً ومآلاً.
3- الأيمان الكاذبة لإبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط الله تعالى وعذابه.
4- مشروعية العتاب للمحب.
5- جواز مخالفة الأولى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعدم علمه ما لم يعلِّمه الله تعالى.
__________
1 بسبب كذبهم ونفاقهم وأيمانهم الكاذبة.
2 أخبره بالعفو قبل العتاب رحمة به وإكراماً له، إذ لو قال له لِمَ أذنت لهم أوّلا لكان يطير قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفرق أي: الخوف.
3 هؤلاء قوم منافقون قالوا نستأذنه في القعود فإن أذن لنا قعدنا، وان لم يأذن لنا قعدنا. أمّا غير هؤلاء فقد رخّص له في الإذن لمن شاء في قوله: {فأذن لمن شئت منهم} من سورة النور.(2/372)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
شرح الكلمات:
لا يستأذنك: أي لا يطلبون منك إذناً بالتخلف عن الجهاد.
وارتابت قلوبهم: أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق.
في ريبهم: أي في شكهم.
يترددون: حيارى لا يثبتون على شيء.
لأعدّوا له عدّة: لهيأوا له ما يلزم من سلاح وزاد ومركوب.
انبعاثهم: أي خروجهم معكم.
فثبطهم: ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب الله تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه لا يستأذنه1 المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
__________
1 لا يستأذنه المؤمنون لا في القعود ولا في الخروج وإنما هم مع مراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا أمر بأمر ابتدروه طاعة ومحبة ورغبة في رضا الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/373)
وارتابت قلوبهم} في الإيمان بالله ورسوله ووعده ووعيده، فهم حيارى مترددون لا يدرون أين يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين، وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذارا تهم إذ لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلاح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال، ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك متحدين أمرك. وهذا عائد إلى أن الله تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما ألقى في قلوبهم من الفشل رفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين هذا ما دلت عليه الآية (44) {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ولكن كره الله انبعاثهم1 فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين 2} وقوله تعالى في ختام الآية الأولى (44) {والله عليم بالمتقين} 3 فيه تقرير لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع، فالمؤمنون الصادقون لا يطلبون التخلف عن الجهاد لإيمانهم وتقواهم، والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم والله أعلم بهم، ولا ينبئك مثل خبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإيمان والتقوى إذ صاحبهما لا يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال.
2- خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد، وصاحبه لا يقدر على أن يجاهد بمال ولا نفس.
3- سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير.
__________
1 {انبعاثهم} : أي: خروجهم معك، ومعنى ثبَطهم: حبسهم عنك وخذلهم لأنهم قالوا: إن لم يأذن لنا في القعود أفسدنا بين صفوف المؤمنين.
2 القاعدون: هم أولو الضرر، والعميان والزمنى، والنساء والأطفال. والقائل لهم اقعدوا هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طلبوا منه الإذن بالقعود وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض أو قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال غضبه عليهم، أو هو تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود في قلوبهم حتى لا يخرجوا فيفسدوا.
3 فيه شهادة للمؤمنين الصادقين بالتقوى وهي دعامة الولاية الحقة لله تعالى، فالإيمان والتقوى بهما تثبت ولاية الله للعبد ومن والاه الله فلا خوف عليه ولا حزن.(2/374)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
شرح الكلمات:
لو خرجوا فيكم: أي مندسين بين رجالكم.
إلا خبالاً: الفساد في الرأي والتدبير.
ولأوضعوا خلالكم: أي لأسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والإثارة لإبقائكم في الفتنة.
وفيكم سماعون لهم: أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة.
من قبل: أي عند مجئيك المدينة مهاجراً.
وقلّبوا لك الأمور: بالكيد والمكر والاتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم.
وظهر أمر الله: بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهم كارهون: أي لمجيء الحق وظهور أمر الله بانتصار دينه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى {لو خرجوا فيكم} 1 أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك {ما زادوكم إلا خبالاً} 2 أي ضرراً وفساداً وبلبلة لأفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل،
__________
1 في هذا الإخبار الإلهي تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين من أجل تخلف المنافقين عنهم.
2 الاستثناء منقطع أي: ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال لكم. والعادة: أن الاستثناء المنقطع يكون: بمعنى لكن إذ ليس هو جزء من المستثنى منه.(2/375)
{ولأوضعوا} 1 أي أسرعوا ركائبهم {خلالكم} أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط {يبغونكم} بذلك {الفتنة} وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى {وفيكم سماعون لهم} أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف الإيمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا وغيره كره الله انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والعجز والمرضى، وقوله تعالى {والله عليم بالظالمين} الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه. فلذا صرفهم عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام. وقوله تعالى في الآية الثانية (48) {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها الإسلام وهم يثيرون الفتن بين أصحابك للإيقاع بهم، وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو حارثة بالرجوع عن القتال لولا أن الله سلم {وقلبوا لك الأمور} 2 وصرفوها في وجوه شتى بقصد القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم {حتى جاء الحق} بفتح مكة {وظهر أمر الله} بدخول أكثر العرب في دين الله {وهم كارهون} لذلك بل أسفون حزنون، ولذا فلا تأسفوا على عدم خروجهم معكم، ولا تحفلوا به أو تهتموا له، فإن الله رحمة بكم ونصراً لكم صرفهم عن الخروج معكم. فاحمدوا الله وأثنوا عليه بما هو أهله، ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي أن لا يُشركوا في أمر، وأن لا يعول عليهم في مهمة.
2- وجوب الأخذ بالحيطة في الأمور ذات البال والأثر على حياة الإسلام والمسلمين.
__________
1 الإيضاع: سرعة السير، يقال: أوضع يوضع إيضاعاً إذا أسرع في سيره. قال دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
2 الأمور: جمع أمر وهو اسم مبهم كشيء، قال الشاعر:
*ولكن مقادير جرت وأمور*
والألف واللام للجنس: أي: أمور تعرفونها وأمور تنكرونها، وحتى: غائية لتقليبهم الأمور.(2/376)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
3- المنافق يسوءه عزة الإسلام والمسلمين ويحزن لذلك.
4- تدبير الله تعالى لأوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم به.
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)
شرح الكلمات:
ومنهم: أي من المنافقين وهو الجد بن قيس.
إئذن لي: أي في التخلف عن الجهاد.
ولا تفتني: أي لا توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأي نساء الروم لا يملك نفسه.
حسنة تسؤهم: الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها ويحزنون.
قد أخذنا أمرنا من قبل: أي احتطنا للأمر ولذا لم نخرج معهم.
إحدى الحسنين: الأولى الظفر بالعدو والانتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة.(2/377)
فتربصوا: أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى {ومنهم من يقول ائذن لي} أي في التخلف عن الجهاد، {ولا تفتني} بإلزامك لي بالخروج أي لا توقعني في الفتنة، فقد روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له. هل لك في1 بلاد بني الأصفر؟ فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر2 (وهم الروم) لا أصبر عنهن فأفتن، والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه ورداً لباطله: {ألا في الفتنة سقطوا} وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} به وبأمثاله من أهل الكفر والنفاق، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (50) فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم {قد أخذنا أمرنا} أي احتطنا للأمر فلم نخرج معهم {ويتولوا} راجعين إلى بيوتهم وأهليهم {وهم فرحون} . هذا ما تضمنته الآية التي هي قوله تعالى {إن تصبك حسنة3 تسؤهم، وان تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} 4 أما الآيتان الثالثة والرابعة (51- 52) فقد علم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين وإخباراً لهم بما يسؤهم فقال {قل لن يصيبنا} أي من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله5 لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيراً لأنه مولانا {وعلى الله فيلتوكل المؤمنون} ونحن مؤمنون وعلى
__________
1 في رواية ياجَدُّ هل لك في جلاد بني الأصفر لتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال الجد الخ.
2 قيل: سمي الروم بني الأصفر: لأن الحبشة غزتهم وسبتهم فنشأ جيل أصفر اللون بين البياض والسواد، وهو اللون الأصفر.
3 {إن تصبك حسنة} جملة شرطية وجملة {تسؤهم} جواب وجزاء لها كما أن جملة {وإن تصبهم} شرط، والجزاء {يقولوا} الخ.
4 {ويتولوا} أي: راجعين إلى بيوتهم ومجالسهم وهم كافرون، فهم متولون في الحقيقة عن الإيمان {فرحون} أي: معجبون بنجاحهم المؤقت.
5 أي: في اللوح المحفوظ الذي هو كتاب المقادير، أو هو ما أخبرنا به كتابه القرآن الكريم مِن أنّا إمّا نظفر فيكون الظفر حسنى لنا وإمّا أن نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا.(2/378)
ربنا متوكلون، وقال له: {قل هل تربصون بنا} 1 أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: 2 النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الاستشهاد في سبيل الله، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين وعليه {فتربصوا إنا معكم متربصون} 3، وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم.
2- بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.
3- وجوب التوكل على الله وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين.
4- بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم: النصر أو الشهادة.
5- مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه.
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
__________
1 التربص: الانتظار، والاستفهام للتوبيخ.
2 الحسنيان: هما الغنيمة والشهادة.
3 {فتربصوا} هذا الأمر للتهديد والوعيد، كأنما يقول لهم: انتظروا مواعد الشيطان فإنا مُنتظرون مواعد الرحمن، وشتان بين ما ننتظر وما تنتظرون!!(2/379)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
شرح الكلمات:
طوعاً أو كرهاً.: أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على الإنفاق.
إنكم كنتم قوماً فاسقين: الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم.
كسالى: متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلاة.
فلا تعجبك أموالهم: أي لا تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد.
وتزهق أنفسهم: أي تفيض وتخرج من أجسامهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعليم الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يرد على المنافقين فقال له قل لهم أيها الرسول {انفقوا} 1 حال كونكم طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم} ، أي أخبرهم أن ما ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن يتقبله الله منهم لأنهم2 كانوا قوماً فاسقين بكفرهم بالله وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (53) أما الآية الثانية (54) فقد أخبر تعالى عن الأسباب الرئيسية التي حالت دون قبول نفقاتهم وهى أولاً الكفر بالله وبرسوله، وثانياً إتيانهم الصلاة وهم كسالى كارهون، وثالثاً كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى {وما منعهم3 أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى4 ولا ينفقون إلا وهم كارهون} 5 هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (55) فإن الله تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم أموالهم وأولادهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} أي لا تستحسنوها ولا تخبروهم بذلك. وبين تعالى لرسوله
__________
1 روي أن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس إذ هو الذي قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إئذن لي في القعود عن الخروج إلى قتال الروم وهذا مالي أعينك به والأمر في قوله: {انفقوا} للتسوية أي: انفقوا أولا تنفقوا فكلا الأمرين سواء، في عدم قبول ما تنفقون.
2 الجملة تعليلية أي: قوله: {لن يتقبل منكم} الخ ذكرت تعليلاً لعدم قبول ما ينفقون.
3 هذا بيان للتعليل السابق في عدم قبول نفقاتهم مع ذكر أسباب أخرى حالت دون قبول ما ينفقون.
4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا كان في جماعة صلى وإذا انفرد لم يصل. أي: المنافق لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى على تركها عقاباً وهذا منشأ الكسل في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.
5 هنا مسألتان: الأولى: أنّ من مات على الكفر لا ينفعه ما عمله في الدنيا من خير إلاّ انه يخفف عنه العذاب لحديث أبي طالب، وأنه في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. كما أنه قد يكون سبباً في سعة رزقه في الدنيا للحديث، وأما الكافر فيطعم. الثانية أن من أسلم منهم يثاب على ما عمله من الخير أيام كفره.(2/380)
علة إعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال {إنما يريد الله ليعذبهم1 بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد يشعرون معه بألم لا نظير له لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره، وأما أولادهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في الإسلام ويعملون به ولا يستطيعون أن يردوهم عن ذلك، أيّ ألَمٌ نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو أقرب قريب؟ وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد، وبهذا سلى الرب تعالى رسوله والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك لا ليسعدهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل2.
2- إطلاق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الإطلاق.
3- حرمة التكاسل في الصلاة وأن ذلك من صفات المنافقين.
4- وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل الله زكاة أو غيرها.
5- كراهية استحسان المسلم لِمَا عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع.
وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ
__________
1 فعل الإرادة يعني بنفسه تقول: أردت خيراً، وعدي هنا بللام لأجل التعليل كقول الشاعر:
أريد لأنسي حبها فكأنما ... تمثل لي ليلي بكل مكان
2 لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} الآية، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عبد الله بن جدعان وقد قالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم.(2/381)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (59)
شرح الكلمات:
وما هم منكم: أي في باطن الأمر لأنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين.
يفرقون: أي يخافون خوفاً شديداً منكم.
ملجأ: أي مكانا ًحصيناً يلجأون إليه.
أو مغارات: جمع مغارة وهي الغار في الجبل.
أو مدخلاً: أي سرباً في الأرض يستتر فيه الخائف الهارب.
يجمحون: يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها.
يلمزك: أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك.
إذا هم يسخطون: أي غير راضين.
حسبنا الله: أي كافينا الله كل ما يهمنا.
إلى الله راغبون: إلى الله وحده راغبون أي طامعون راجون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من أكرمه الله بالتوبة فقال تعالى عنهم {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} 1 أي من أهل ملتكم ودينكم، {وما هم منكم} أي في واقع الأمر إذ هم كفار منافقون {ولكنهم قوم يفرقون} أي يخافون منكم خوفاً شديداً فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من سيوفكم قال تعالى: {لو يجدون
__________
1 لأنهم يتخذون أيمانهم الكاذبة وقاية يتقون بها ما يخافونه من بطش المؤمنين بهم إذا عرفوا أنهم كافرون كما قال تعالى من سورتهم {اتخذوا أيمانهم جنّة} .(2/382)
ملجأ} 1 أي حصناً {أو مغارات} أي غيراناً في جبال {أو مدخلاً} 2 أي سرباً في الأرض {لولوا} أي أدبروا إليها {وهم يجمحون} 3 أي مسرعين ليتمنعوا منكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية أما الآية الثالثة والرابعة (58- 59) فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لا يعدل في القسمة فقال تعالى {ومنهم من يلمزك4 في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا} أي عن الرسول وقسمته {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} هذا ما تضمنته الآية (58) وأما الآية الأخيرة (59) فقد أرشدهم الله تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عز وجل {ولو أنهم رضوا5 ما أتاهم الله ورسوله} ، أي من الصدقات {وقالوا حسبنا الله} أي كافينا الله {سيؤتينا الله من فضله} الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا {إنا إلى الله} وحده {راغبون} طامعون راجعون أي لكان خيراً لهم وأدْرَكَ لحاجتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:.
1- الأَيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث آية المنافق ثلاث: (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان) .
2- الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق.
3- عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك.
4- مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا
__________
1 الملجأ مكان اللجأ يقال لجأت إلى كذا: إذا أويت إليه واعتصمت به وألجأت أمري إليه أي: أسندته.
2 المدخل: مفتعل اسم كان للإدّخال الذي هو افتعال من الدخول قلبت فيه تاء الافتعال دالاً لوقوعها بعد الدال فصارت مدخلاً بدل متدخل، ونظيره. إدّان أصلها إتدان، وقرأها يعقوب وحده أو مدخلاً بفتح الميم وإسكان الدال اسم مكان هي دخل.
3 الجموح: نفور في إسراع.
4 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى بعض رعاة الغنم شيئاً لفقرهم فطعن أبو الحواظ المنافق فقال: ما هو بالعدل كيف يضع صدقاتكم في رعاء الغنم إعانة لهم. كما أنّ ذا الخويصرة التميمي واسمه حرفوص بن زهير وهو أصل الخوارج قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعدل يا رسول الله فقال له: "ويلك ومَن يعدل إذا لم اعدل" فنزلت الآية وقال عمر دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال رسول الله: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي".
5 جواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم، وهو مذكور في التسفير في آخر الحديث.(2/383)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
ويسعدوا في الدارين.
5- لا كافي إلا الله، ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه.
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
شرح الكلمات:
الصدقات: جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الأموال.
للفقراء: جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ولا يسأل الناس.
والمساكين: جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه السؤال.
والعاملين عليها: أي على جمعها وجابتها وهم الموظفون لها.
والمؤلفة قلوبهم: هم أناس يرجى إسلامهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن وخطر ينفع الله بهم إن أسلموا وحسن إسلامهم.
وفي الرقاب: أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق، فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم أو أقساط كتابتهم.
وفي سبيل الله: أي الجهاد لإعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة.
وابن السبيل: أي المسافر المنقطع عن بلاده ولو كان غنياً ببلاده.
فريضة من الله: أي فرضها أدته تعالى فريضة على عباده المؤمنين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة لمز المنافقين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في هذه الآية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع(2/384)
فقال عز وجل {إنما الصدقات} محصورة في الأصناف الثمانية التي تذكر وهم:
(1) الفقراء1 وهم المؤمنون الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى.
(2) المساكين2 وهم الفقراء الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا3 فكانوا يسألون الناس ويظهرون المسكنة4 لهم والحاجة.
(3) الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم في العمل الحكومي.
(4) المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للإسلام والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم، فيعطون من الزكاة تأليفاً أي جمعاً لقلوبهم على الإسلام ومحبته ونصرته ونصرة أهله، وقد يكون أحدهم يسلم بعد فيعطى ترغيباً له في الإسلام، وقد يكون مسلماً لكنه ضعيف الإسلام فيعطى تثبيتاً له وتقوية على الإسلام.
(5) في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة وتحريره فلا يجوز لأنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لأن ولاء المعتوق له.
(6) الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة الله تعالى على نفسه وعائلته، ولم يكن لديه مال لا نقد ولا عرض يسدد به ديونه.
(7) في سبيل الله وهو تجهيز الغزاة والإنفاق عليهم تسليحاً وإركاباً وطعاماً ولباساً.
(8) ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة
__________
1 قيل: الفقير هو صفة مشبهة من الفقر أي المتصف بالفقر وهو: عدم امتلاك ما به الكفافة لحاجته المعاشية وضده الغنى، والمسكين: ذو المسكنة وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، والفقير والمسكين يغني ذكر أحدهما عن الآخر، أمّا إذا ذكراً معاً فلكلّ واحد حقيقة كما تقدم، وفي أيّهما أشدّ فقراً خلاف، وأحسن ما قيل هو أن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين: الذي لا شيء له.
2 قال القرطبي: فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال هما صنف واحد يكون الثلث الموصى به نصفه لفلان ونصفه الآخر للفقراء، ومن قال: هما صنفان يقسم الثلث الموصى به بينهم أثلاثاً.
3 اختلف في حالة الفقر التي يصح للفقير أن يأخذ معها الزكاة، فمن قائل إن لم يكن له مائتا درهم جاز له أخذ الزكاة، ومن قائل: خمسون درهماً ومن قائل: أربعون درهماً. ومن قائل: من كان قوياً على الكسب لقوة بدنه فلا يعطى الزكاة لحديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي".
4 ورد الوعيد الشديد فيمن يطلب الصدقة وهو غني عنها من ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" رواه أبو داود. قالت العلماء: إن الذي له شبع يوم وليلة لا يحل له أن يسأل. اختلف في نقل الزكاة من بلد إلى بلد، والراجح: الجواز لضرورة الفقر وشدته.(2/385)
ولو كانوا أغنياء ببلادهم.
وقوله تعالى {فريضة من الله} 1 أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله الله تعالى فريضة لازمة على عباده المؤمنين. وقوله {والله عليم} أي بخلقه وأحوالهم {حكيم} في شرعه وقسمته، فلذا لا يجوز أبداً مخالفة هذه القسمة فلا يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور في هذه الآية وليس شرطاً أن يعطى كل الأصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في الفقراء والمساكين، أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الأولى أن يقسمها بين الأصناف المذكورة من وجد منها، إذ قد لا توجد كلها في وقت واحد.
هداية الآية
من هداية الآية.:
1- تقرير فرضية الزكاة.
2- بيان مصارف الزكاة.
3- وجوب التسليم لله تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها.
4- إثبات صفات الله تعالى وهي هنا: العلم والحكمة، ومتى كان الله تعالى عليماً بخلقه وحاجاتهم حكيماً في تصرفه وشرعه وجب التسليم لأمره والخضوع له بالطاعة والانقياد.
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ
__________
1 {فريضة} منصوب على المصدر المؤكد إذ تقدير الكلام: إنما فرض الله الصدقات للفقراء والمساكين الخ.. فريضة منه تعالى وهو العليم بخلقه الحكيم في تدبيره وصنعه.(2/386)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
شرح الكلمات.
يؤذون النبي: أي الرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأذى المكروه يصيب الإنسان كثيراً أو يسيراً.
هو أذن: أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الأذى.
قل أذن خير لكم: أي هو يسمع من كل من يقول له لا يتكبر ولكن لا يقر إلا الحق ولا يقبل إلا الخير والمعروف فهو إذن خير لكم لا إذن شر مثلكم أيها المنافقون.
ويؤمن للمؤمنين: أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار أما غيرهم فإنه وإن يسمع منهم لا يصدقهم لأنهم كذبة فجرة.
والله.: أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.
من يُحادد الله ورسوله: أي يعاديهما، ويقف دائماً في حدّ وهما في حد فلا ولاء ولا موالاة أي لا محبة ولا نصرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى: {ومنهم 1 الذين يؤذون النبي} أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه، ويبين تعالى بعض ذلك الأذى فقال {ويقولون هو أذن} أي يسمع كل ما يقال له، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقر سماع الباطل أو الشر أو الفساد، وإنما يسمع ما كان خيراً ولو كان من منافق يكذب ويحسن القول. وأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله {قل أذن خير2 لكم} يسمع ما فيه خير لكم، ولا يسمع ما هو شر لكم. إنه لما كان لا يواجههم بسوء صنيعهم،
__________
1 قيل هذه الآية نزلت في عتاب بن قشير إذ قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل: نزلت في نبتل بن الحارث الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" وكان ماكراً خبيثاً مشوّه الخلقة.
2 قرىء بالرفع والتنوين {أذنٌ خيرٌ لكم} قرأ الجمهور بالإضافة {أذن خيرٍ} .(2/387)
وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والإحسان على أن قالوا: {هو أذن} طعناً فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيباً له. وقوله تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} هذا من جملة ما أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للمنافقين رداً على باطلهم. أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمن بالله رباً وإلهاً، {ويؤمن للمؤمنين} أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريّته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله {ورحمة1 للذين آمنوا منكم} أيضاً من خيريّته فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء به فكمل عليه وسعد به في حياتيه. وقوله تعالى {والذين يؤذون رسول الله} أي بأي نوع من الأذى قل أو كثر توعدهم الله تعالى بقوله {لهم عذاب أليم} وهو لا محالة نازل بهم وهم ذائقوه حتماً هذا ما دلت عليه الآية الأولى (61) أما الآية الثانية (62) فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ولا قالوا فيه شيئاً يريدون بذلك إرضاء المؤمنين حتى لا يبطشوا بهم انتقاماً لكرامة نبيهم قال تعالى {يحلفون بالله2 لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق3 أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا الله تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول بالإيمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون.
وقوله في الآية الثالثة (63) {ألم يعلموا4 أنه من يحادد الله ورسوله} أي يشاقهما ويعاديهما فإن له جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالداً فيها {ذلك الخزي العظيم} أي كونه في نار جهنم خالداً فيها لا يخرج منها هو الخزي العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
__________
1 أي: وهو رحمة. على أنّ رحمة: خبر لمبتدأ محذوف وقرىء: ورحمةٍ بالجر عطفا على {خيرٍ لكم} وفيه بُعدٌ كبير.
2 روي أنّ نفراً من المنافقين منهم الجلاس بين سويد ووديعة بن ثابت فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير وبينهم غلام فغضب لقولهم هذا وأخبر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكذبوه في قوله فأنزل الله تعالى هذه الآية: {سيحلفون بالله لكم..} الخ.
3 قال سيبويه: تقدير الكلام، والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ثم حذف طلباً للإيجاز كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والحامل على هذا التقدير لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض بقول الرجل: ما شاء الله وشئت فقال له: "قل ما شاء الله وحده" لأنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب.
4 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والمعنى: ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يجادل الله ورسوله له نار جهنم، والسحادة، المعاداة والمشاقة كأنّ كل واحد واقف في حدّ لا يتصل بالآخر، والفاء في {فأن له} لربط جواب شرط {من} وأعيدت أنّ في الجواب لتوكيد أنّ المذكورة قبل الشرط توكيداً لفظياً.(2/388)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
1- حرمة أذية رسول الله بأي وجه من الوجوه.
2- كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة للمؤمنين دعوة للإيمان والإسلام.
3- توعد الله تعالى من يؤذى رسوله بالعذاب الأليم دليل على كفر من يؤذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون1 للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا بالفعل، وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والانتقام منهم.
5- وجوب طلب رضا الله تعالى بفعل محابه وترك مساخطه.
6- ترعد من يحادد الله ورسوله بالعذاب الأليم.
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66)
شرح الكلمات:
يحذر المنافقون: أي يخافون ويحترسون.
تنزَّل عليهم سورة: أي في شأنهم فتفضحهم بإظهار عيبهم.
__________
1 في الآية دليل جواز الحلف بالله وعدم جواز الحلف بغيره لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق".(2/389)
تنبّئهم بما في قلوبهم: أي تخبرهم بما يضمرونه في نفوسهم.
قل استهزئوا: الأمر هنا للتهديد.
مخرج ما تحذرون: أي مخرجه من نفوسكم مظهره للناس أجمعين.
نخوض ونلعب: أي نخوض في الحديث على عادتنا ونلعب لا نريد سباً ولا طعناً.
تستهزئون: أي تسخرون وتحتقرون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين لكشف الستار عنهم وإظهارهم على حقيقتهم ليتوب منهم من تاب الله عليه قال تعالى مخبراً عنهم {يحذر1 المنافقون أن تنزّل عليهم2 سورة تنبئّهم بما في قلوبهم} أي يخشى المنافقون أن تنزل في شأنهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سورة تنبئههم} أي تخبرهم بما في قلوبهم فتفضحهم، ولذا سميت هذه السورة بالفاضحة3 وقوله تعالى لرسوله {قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} يهددهم تعالى بأن الله مخرج ما يحذرون إخراجه وظهوره مما يقولونه في خلواتهم من الطعن في الإسلام وأهله. وقوله تعالى {ولئن سألتهم} أي عما قالوا من الباطل. لقالوا {إنما كنا نخوض ونلعب4} لا غير. قل لهم يا رسولنا {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} وذلك أن نفراً من المنافقين في غزوة تبوك قالوا في مجلس لهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أحذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء! فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت هذه الآيات: وجاءوا يعتذرون لرسوله الله فأنزل الله {لا تعتذروا5 قد كفرتم بعد إيمانكم} أي الذي كنتم تدعونه، لأن الاستهزاء بالله والرسول والكتاب كفر مخرج من الملة، وقوله تعالى {إن
__________
1 يروى أن أحد المنافقين قال: والله وددت لو أني قُدّمت فجُلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا فنزلت الآية: {يحذر المنافقون..} وهي خبر وإن قال بعضهم هي إنشاء بمعنى: ليحذر المنافقون.
2 معلوم أن القرآن ينزل على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: {عليهم} بمعنى المؤمنين لأنهم والرسول في جانب والمنافقون في آخر، فصحّ أن يقال: تنزل على المؤمنين، والرسول معهم، وهو المختص بالوحي.
3 وسميت أيضاً: المثيرة، والمبعثرة، والحفارة لأنها أثارت كامن المنافقين وبعثرته وحفرت ما في قلوبهم وأخرجته.
4 ذكر الطبري أنّ قائل هذه المقالة: وديعة بن ثابت قال ابن عمر: رأيته معلقاً بحقب ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنّما كنّا نخوض ونلعب والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون.
5 {لا تعتذروا} نهاهم عن الاعتذار لأنه غير نافع لهم ولا مجدٍ واعتذر بمعنى: أعذر أي صار ذا عذر، والاعتذار محو أثر الموجدة أو هو القطع، أي قطع ما في القلب من الموجدة، ومنه قيل: عدرة الغلام: وهو ما يقطع منه عند الختان.(2/390)
نعف عن طائفة منكم} لأنهم يتوبون كمخشي بن حمير1، {نعذب طائفة} أخرى لأنهم لا يتوبون وقوله تعالى {بأنهم كانوا مجرمين} علة للحكم بعذابهم وهو إجرامهم بالكفر والاستهزاء بالمؤمنين إذ من جملة ما قالوه: قولهم في الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يظن هذا يشيرون إلى النبي وهم سائرون يفتح قصور الشام وحصونها فأطلع الله نبيه عليهم فدعاهم فجاءوا واعتذروا بقولهم إنا كنا نخوض2 أي في الحديث ونلعب تقصيراً للوقت، ودفعاً للملل عنا والسآمة فأنزل تعالى {قل أبالله} الآية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن مدى ما كان يعيش عليه المنافقون من الحذر والخوف.
2- كفر من استهزأ بالله أو آياته أو رسوله.
3- لا يقبل اعتذار 3من كفر بأي وجه وإنما التوبة أو السيف فيقتل كفراً.
4- مصداق ما أخبر به تعالى من أنه سيعذب طائفة فقد هلك عشرة بداء الدبيلة "خراج يخرج من الظهر وينفذ ألمه إلى الصدر فيهلك صاحبه حتماً".
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
__________
1 هو مخشي بن حمير الأشجعي وقد تاب عند سماعه هذه الآية وحسن إسلامه.
2 الخوص: الدخول في الماء، نم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى.
3 اختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال لا يلزم مطلقاً، يلزم مطلقاً، التفرقة بين البيع وغيره، وهدا الراجح، لأنّ النكاح والطلاق والعتاق ورد فيها النص من السنة لحديث الترمذي وحسنه مع وصفه بالغرابة وبه العمل عد جماهير الصحابة والتابعين والفقهاء وهو: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" وحديث الموطأ: "ثلاث ليس فيهن لعب: النكاح والطلاق والعتق".(2/391)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
شرح الكلمات:
المنافقون: أي الذين يظهرون للمؤمنين الإيمان بألسنتهم ويسترون الكفر في قلوبهم.
بعضهم هن بعض1: أي متشابهون في اعتقادهم وقولهم وعملهم فأمرهم واحد.
بالمنكر: أي ما ينكره الشرع لضرره أو قبحه وهو الكفر بالله ورسوله.
عن المعروف: أي ما عرفه الشرع نافعاً فأمر به من الإيمان والعمل الصالح.
يقبضون أيديهم: أي يمسكونها عن الإنفاق في سبيل الله.
نسوا الله فنسيهم: أي تركوا الله فلم يؤمنوا به وبرسوله فتركهم وحرمهم من توفيقه وهدايته.
عذاب مقيم: أي دائم لا يزول ولا يبيد.
__________
1 {بعضهم من بعض} : أي: هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين، أو هم متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.(2/392)
بخلاقهم: أي بنصيبهم وحظهم من الدنيا.
وخضتم: أي في الكذب والباطل.
والمؤتفكات: أي المنقلبات حيث صار عاليها سافلها وهي ثلاث مدن1.
بالبينات: الآيات الدالة على صدقهم في رسالاتهم إليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هتك استار المنافقين وبيان فضائحهم لعلهم يتوبون. قال تعالى {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي كأبعاض الشيء الواحد وذلك لأن أمرهم واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في المعتقد والقول والعمل بيّن تعالى حالهم بقوله {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} وهذا دليل على انتكاسهم وفساد قلوبهم وعقولهم، إذ هذا عكس ما يأمر به العقلاء، والمراد من المنكر الذي يأمرون به هو الكفر والعصيان، والمعروف الذي ينهون عنه هو الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما. وقوله تعالى {ويقبضون أيديهم} كناية عن الإمساك وعدم البذل في الإنفاق في سبيل الله 2. وقوله {نسوا الله} فلم يؤمنوا به ولم يؤمنوا برسوله ولم يطيعوا الله ورسوله {فنسيهم} الله بأن تركهم محرومين من كل هداية ورحمة ولطف. وقوله {إن المنافقين هم الفاسقون} نقرير لمعنى {نسوا الله فنسيهم} ، إذ كفرهم بالله وبرسوله هو الذي حرمهم هداية الله تعالى ففسقوا سائر أنواع الفسق فكانوا هم الفاسقين الجديرين بهذا الوصف وهو الفسق والتوغل فيه. وقوله تعالى في الآية (68) {وعد3 الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم} 4 أي كافيهم {ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} أي دائم لا يزول ولا يبيد ولا يفنى فقد حملت هذه الآية أشد وعيد لأهل النفاق والكفر إذ توعدهم الرب تعالى بنار جهنم خالدين فيها وبالعذاب المقيم الذي لا يبارحهم ولا يتركهم لحظة أبد الأبد وذلك بعد أن لعنهم الله فأبعدهم وأسحقهم من كل رحمة وخير. وفي الآية الثالثة (69) يأمر
__________
1 هي: سدوم، وعمورة، وأرمة، وكانت مدناً متتاخمة بعضها قريب من بعض.
2 أي: وصفهم بالبخل والشح كما قال تعالى: {أشحة على الخير} كما أن امتناعهم عن الخروج إلى الجهاد يعتبر قبضاً لأيديهم.
3 الأصل أن الوعد يكون في الخير والإيعاد يكون في الشر، وإطلاق الوعد على الوعيد كما هو هنا تهكم بهم.
4 {هي حسبهم} مبتدأ وخبر ومعناه: أنها كافية ووفاء لجزاء أعمالهم.(2/393)
تعالى رسوله أن يقول للمنافقين المستهزئين بالله وآياته ورسوله؟ أنتم أيها المنافقون كأولئك الذين كانوا من قبلكم في الاغترار بالمال والولد والكفر بالله والتكذيب لرسله حتى نزل بهم عذاب الله ومضت فيهم سنته في إهلاكهم هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى {كالذين من قبلكم1 كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم} أي بنصيبهم الذي كتب لهم في الدنيا {فأستمتعتم بخلاقكم} أي بما كتب لكم في هذه الحياة الدنيا {كما استمتع الذين من قبلكم} أي سواء بسواء {وخضتم} في الباطل والشر وبالكفر والتكذيب {كالذي خاضوا2} أي كخوضهم سواء بسواء أولئك الهالكون {حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} أي تلاشت وذهبت ولم ينتفعوا منها بشيء، {وأولئك هم الخاسرون} . وبما أنكم أيها المنافقون تسيرون على منهجهم في الكفر والتكذيب والاغترار بالمال والولد فسوف يكون مصيركم كمصيرهم وهو الخسران المبين. وقوله تعالى في الآية الرابعة (70) {ألم يأتهم3 نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم4 رسلهم بالبينات} أي الآيات الدالة على توحيد الله وصدق رسوله وسلامة دعوتهم كما جاءكم أيها المنافقون رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبينات فكذبتم كما كذب الذين من قبلكم فنزل بهم عذاب الله فهلك قوم نوح بالطوفان وعاد بالريح العاتية، وثمود بالصاعقة، وقوم إبراهيم5 بسلب النعم وحلول النقم، وأصحاب مدين بالرجفة وعذاب الظلمة، والمؤتفكات6 بالمطر والإئتفاك أي القلب بأن أصبح أعالي مدنهم الثلاث7 أسافلها، وأسافلها أعاليها، وما ظلمهم الله تعالى بما أنزل عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وأنتم أيها المنافقون إن لم تتوبوا إلى ربكم سيحل بكم ما حل بمن قبلكم أو أشد لأنكم لم تعتبروا بما سبق.
__________
1 الكاف: في محل نصب أي: وعدكم الله أيها المنافقون والمنافقات كما وعد الذين من قبلكم نار جهنم تخلدون فيها.
2 الكاف: في محل نصب نعت لمصدر محذوف أي: وخضتم خوضاً كالذي خاضوا أي: في الباطل والشر والفساد. والذي بمعنى الجمع، ويحوز أن يكون الذين محذوف النون على لغةٍ هذيل قال شاعرهم:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
3 الاستفهام للتقرير، والتحذير بمعنى: ألم يسمعوا بإهلاكنا الكفار من قبلهم؟
4 أي بدلائل الحق والصدق، والجملة تعليلية.
5 هم نمرود بن كنعان وقومه.
6 قوم لوط عليه السلام.
7 تقدمت أسماء هذه المدن قريباً.(2/394)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إن المنافقين لما كان مرضهم واحد وهو الكفر الباطني كان سلوكهم متشابها.
2- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف علامة النفاق وظاهرة الكفر وانتكاس الفطرة.
3- الاغترار بالمال والولد من عوامل عدم قبول الحق والإذعان له والتسليم به.
4- تشابه حال البشر وإتباع بعضهم لبعض في الباطل والفساد والشر.
5- حبوط الأعمال بالباطل وهلاك أهلها أمر مقضى به لا يتخلف.
6- وجوب الاعتبار بأحوال السابقين والاتعاظ بما لاقاه أهل الكفر منهم من عذاب.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
شرح الكلمات:
والمؤمنون: أي الصادقون في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
أولياء بعض: أيما يتولىّ بعضهم بعضاً في النّضرة والحماية والمحبة والتأييد.
ويقيمون الصلاة". أي يؤدونها في خشوع وافية الشروط والأركان والسنن والآداب.
ويؤتون الزكاة: أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالدراهم والدنانير والمعشرات، والناطقة كالأنعام: الإبل والبقر والغنم.(2/395)
في جنات عدن: أي إقامة دائمة لا يخرجون منها ولا يتحولون1 عنها.
ورضوان من الله أكبر: أي رضوان الله الذي يحله عليهم أكبر من كل نعيم في الجنة.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر المنافقين وبيان سلوكهم ونهاية أمرهم ذكر تعالى المؤمنين وسلوكهم الحسن ومصيرهم السعيد فقال {والمؤمنون والمؤمنات} أي المؤمنون بالله ورسوله ووعده ووعيده والمؤمنات بذلك {بعضهم أولياء بعض} أي يوالي بعضهم بعضاً محبة2 ونصرة وتعاوناً وتأييداً {يأمرون بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع حقاً وخيراً من الإيمان وصالح الأعمال، {وينهون عن المنكر} وهو ما عرفه الشرع باطلاً ضاراً فاسداً من الشرك وسائر الجرائم فالمؤمنون والمؤمنات على عكس المنافقين والمنافقات في هذا الأمر وقوله تعالى {ويقيمون3 الصلاة ويؤتون الزكاة} والمنافقون لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى فهم مضيعون لها غير مقيمين لها، ويقبضون أيديهم فلا ينفقون، والمؤمنون يطيعون الله ورسوله4، والمنافقون يعصون الله ورسوله، المؤمنون سيرحمهم الله 5، والمنافقون سيعذبهم الله، {إن الله عزيز} غالب سينجز وعده ووعيده {حكيم} يضع كل شيء في موضعه اللائق به فلا يعذب المؤمنين وينعّم المنافقين بل ينعّم المؤمنين ويعذب المنافقين.
وقوله تعالى في الآية الثانية (72) {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار} أي من خلال قصورها وأشجارها {خالدين فيها ومساكن} أي قصوراً طيبة في غاية النظافة وطيب الرائحة {في جنات عدن6} أي إقامة، وقوله {ورضوان من الله}
__________
1 قال تعالى من سورة الكهف: {لا يبغون عنها حولاً} أي: تحولاً لأنّ نعيمها لا يُمل ولا تثشوق النفس لغيره أبداً.
2 شاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبّك بين أصابعه وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
3 يشمل اللفظ: الصلوات الخمس والنوافل كما شمل الزكوات المفروضة والصدقات إذ المدح يحصل بهما معاً فرضا ونفلا.
4 أي: يؤدون الفرائض والسنن فعلا ويجتنبون المنهيات والمكروهات تركاً.
5 السين في {سيرحمهم} للتأكيد وتحمل معنى الخوف والرجاء وهما جناحا المؤمنين لا يطيرون في سماء الكمالات إلا بهما.
6 شاهدهُ في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبر على وجهه في جنة عدن" وقوله أيضاً في الصحيح: "إنّ للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهن لا يرى بعضهم بعضاً".(2/396)
أي يحله عليهم أكبر من الجنات والقصور وسائر أنواع النعيم. وقوله {ذلك هو الفوز العظيم} ذلك المذكور من الجنة ونعيمها ورضوان الله فيها هو الفوز العظيم. والفوز هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب. هذا الوعد الإلهي الصادق للمؤمنين والمؤمنات يقابله وعيد الله تعالى للمنافقين والكفار في الآيات السابقة، ونصه {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان صفات المؤمنين والمؤمنات والتي هي مظاهر إيمانهم وأدلته.
2- أهمية صفات أهل الإيمان وهي الولاء لبعضهم بعضاً، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، طاعة الله ورسوله.
3- بيان جزاء أهل الإيمان في الدار الآخرة وهو النعيم المقيم في دار الإسلام.
4- أفضلية رضا1 الله تعالى على سائر النعيم.
5- بيان معنى الفوز وهو النجاة من النار، ودخول الجنة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
__________
1 أخرج الشيخان البخاري ومسلم، ومالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً"(2/397)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74)
شرح الكلمات:
جاهد الكفار: ابذل غاية جهدك في قتال الكفار والمنافقين.
واغلظ عليهم: أي في القول والفعل أي شدد عليهم ولا تلن لهم.
كلمة الكفر: أي كلمة يكفر بها من قالها وهي قول الجلاس بن سويد: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير.
وهموا بما لم ينالوا: أي هموا بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مؤامرة دنيئة1 وهم عائدون من تبوك.
وما نقموا إلا أن أغناهم: أي ما أنكروا أو كرهوا من الإسلام ورسوله إلا أن أغناهم الله بعد فقر أعلى مثل هذا يهمون بقتل رسول الله؟
معنى الآيتين:
يأمر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجهاد الكفار والمنافقين فيقول {يا أيها النبي2 جاهد الكفار والمنافقين} وجهاد الكفار يكون بالسلاح وجهاد المنافقين يكون باللسان، 3 وقوله تعالى {واغلظ عليهم4} أي شدد عملك وقولك، فلا هوادة مع من كفر بالله ورسوله، ومع من نافق الرسول والمؤمنين فأظهر الإيمان وأسر الكفر وقوله تعالى {ومأواهم جهنم وبئس المصير} أي جهنم يريد ابذل ما في وسعك في جهادهم قتلاً وتأديياً هذا لهم في الدنيا، وفي الآخرة مأواهم جهنم وبئس المصير، وقوله تعالى في الآية الثانية (74) {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} هذا الكلام علّة للأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم لقول الجلاس بن سويد المنافق: لئن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير سمعه منه أحد المؤمنين فبلغه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء
__________
1 اقرأ نصها في التفسير فإنها واضحة ومختصرة.
2 يدخل في هذا الخطاب أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 بأن يقول لهم الكدمة الغليظة الشديدة ويكفهر في وجوههم أي: يعبس ولا يبسط وجهه فيهم.
4 هذه الآية نسخت كل شيء من العفو، والصفح الذين كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمر بهما إزاء المشركين والمنافقين.(2/398)
الجلاس يعتذر ويحلف بالله ما قال الذي قال فأكذبه الله تعالى في قوله في هذه الآية {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} والسياق دال على تكرر مثل هذا القول الخبيث وهو كذلك. وقوله تعالى {وهموا بما لم ينالوا1} يعني المنافقين الذين تآمروا على قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند عودته من تبوك في عقبة في الطريق إلا أن الله فضحهم وخيّب مسعاهم ونجى رسوله منهم حيث بعث عمار بن ياسر يضرب وجوه الرواحل لما غشوه فردوا وتفرقوا بعد أن عزموا على أن لزاحموا رسول الله وهو على ناقته بنوقهم حتى يسقط منها فيهلك أهلكهم الله. وقوله تعالى {وما نقموا} 2 أي وما كرهوا من رسول الله ولا من الإسلام شيئاً إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وهل الغنى بعد الفقر مما ينقم منه، والجواب لا ولكنه الكفر والنفاق يفسد الذوق والفطرة والعقل أيضاً.
ومع هذا الذي قاموا به من الكفر والشر والفساد يفتح الرب الرحيم تبارك وتعالى باب التوبة في وجوههم ويقول {فإن يتوبوا} 3 من هذا الكفر والنفاق والشر والفساد4 يك ذلك {خيراً لهم} حالاً ومآلاً أي في الدنيا والآخرة، {وإن يتولوا} عن هذا العرض ويرفضوه فيصرون على الكفر والنفاق {يعذبهم الله عذاباً أليماً} أي موجعاً في الدنيا بالقتل والخزي، وفي الآخرة بعذاب النار، {ومالهم في الأرض من ولي} 5 يتولاهم ولا ناصر ينصرهم، أي وليس لهم في الدنيا من ولي يدفع عنهم ما أراد الله أن ينزله بهم من الخزي والعذاب وما لهم من ناصر ينصرهم بعد أن يخذلهم الله سبحانه وتعالى.
__________
1 أخرج مسلم عن حذيفة: "أن اثني عشر رجلاً سمّاهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعدهم حذيفة واحدا واحدا قال قلت: يا رسول الله ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيهم الله بالدّبلة" وهي خراج يظهر في الظهر وينصب على الصدر يقتل صاحبه فوراً.
2 أي: ليس بنقمون شيئا إلا أنهم كانوا فقراء فأغناهم الله بما كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطيهم من الغنائم، قيل لأحدهم: هل تجد في القرآن نظير قولهم اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم هو قوله تعالى: {وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله} .
3 هذه الجملة متفرعة عن الكلام السابق وهي باب ذكر الوعد بعد الوعيد والترغيب بعد الترهيب، وهو أسلوب القرآن الكريم.
4 حذفت نون {يك} تخفيفاً إذ الأصل يكن.
5 هذه الجملة معطوفة على جملة: {يعذلهم الله} وهي وإن كانت اسمية لا يمتنع أن تكون جواباً ثانياً معطوفاً على جملة الجزاء، لأنه يغتفر في التابع مالا يغتفر في المتبوع، فالجزاء جزاءان، الأول: تعذيبهم والثاني: انعدام الولي والنصير لهم في الأرض كلها.(2/399)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
هداية الآيتين.
من هداية الآيتين:
1- بيان آية السيف1 وهي {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} .
2- تقرير مبدأ الردة وهي أن يقول المسلم كلمة الكفر فيكفر بها وذلك كالطعن في الإسلام أو سب الله أو رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو التكذيب بما أمر الله تعالى بالإيمان به والتصديق بضده أي بما أمر الله بتكذيبه.
3- تقرير مبدأ التوبة من كل الذنوب، وأن من تاب تقبل توبته.
4- الوعيد الشديد لمن يصر على الكفر ويموت عليه.
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
شرح الكلمات:
ومنهم: أي من المنافقين.
لئن آتانا من فضله: أي مالاً كثيراً.
بخلوا به: أي منعوه فلم يؤدوا حقه من زكاة وغيرها.
فأعقبهم نفاقاً: أي فأورثهم البخل نفاقاً ملازماً لقلوبهم لا يفارقها إلى يوم يلقون
__________
1 يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: سيوف الله أربعة: واحد على المشركين قال تعالى: {فاقتلوا المشركين..} وثان على الكافرين قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر..} وثالث على المنافقين: قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين..} ورابع على البغاة. قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيىء إلى أمر الله} .(2/400)
الله تعالى.
بما أخلفوا الله.: أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى به.
سرهم ونجواهم: أي ما يسرونه في نفوسهم ويخفونه، وما يتناجون به فيما بينهم.
علام الغيوب: يعلم كل غيب في الأرض أو في السماء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المنافقين وهم أصناف وهذا صنف1 آخر منهم قد عاهد الله تعالى لئن أغناهم من فضله وأصبحوا ذوي ثروة ومال كثير ليصدقن منه ولينفقنّه في طريق البر والخير، فلما أعطاهم الله ما سألوا وكثر مالهم شحوا به وبخلوا، وتولوا عما تعهدوا به وما كانوا عليه من تقوى وصلاح، وهم معرضون. فأورثهم هذا البخل وخلف الوعد والكذب {نفاقاً في قلوبهم2} لا يفارقهم حتى يلقوا ربهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى {ومنهم من3 عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم4 من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} . أما الآية الأخيرة (78) وهي قوله تعالى {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب؟؟} فإنها تضمنت توبيخ الله تعالى للمنافقين الذين عاهدوا الله وأخلفوه بموقفهم الشائن كأنهم لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه تعالى علام الغيوب، وإلا كيف يعدونه ويحلفون له أم يحسبون أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم فموقفهم هذا موقف مخز لهم شائن، وويل لهم حيث لازمهم ثمرته وهو النفاق حتى الموت وبهذا أغلق باب التوبة في وجوههم وهلكوا مع الهالكين.
__________
1 قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئاً لأدين فيه حقه ولأتصدقن فلما آتاه الله ذلك فعل ما قُصّ عليكم فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور.
2 {نفاقاً} نكرة أي: نفاقاً ما من نوع من أنواع النفاق وليس هو نفاق الكفر إنما هو نفاق العمل.
3 الآية صريحة ودلالتها واضحة في أن أحد أفراد المؤمنين سأل الله المال سواء بواسطة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأن قال له ادع الله لي، أو سأل بنفسه وقطع عهداً لربه بما ذكر في الآية، ولما أخلف ما عاهد الله عليه أصيب بمرض النفاق في قلبه- والعياذ بالله تعالى- وهل هو ثعلبة بن حاطب أو غيره أما ثعلبة فقد شهد بدراً، وأهل بدر ذُكر لهم وعد عظيم، فلا يصح أن يكون أحدهم وتع في هذه الفتة وان كان غيره فهو حق، وجائز أن يكون هذا الغير اسمه ثعلبة فتشابه الاسم بالاسم فطُن أنه البدري وليس هو والله اعلم. هذا والله إني لخائف من هذه الآية أن تنطبق عليّ فاللهم عفوك وغفرانك لي.
4 صيغة الجمع تدل على أن من عاهد الله لم يكن فرداً واحداً بل كان جماعة ولذا قال الضحاك: إنّ الآية نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومتعب بن قشير إلاّ أن قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً} يتنافى مع كونهم منافقين، إلاّ أن يقال: زادهم نفاقاً خُلْفهم هذا على نفاقهم الأول. والله أعلم.(2/401)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود1 الله تعالى.
2- ذم البخل وأهله.
3- تقرير مبدأ أن السيئة يتولد عنها سيئة.
4- جواز تقريع وتأنيب أهل الباطل.
5- وجوب مراقبة الله تعالى إذ لو راقب هؤلاء المنافقون2 الله تعالى لما خرجوا عن طاعته.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
شرح الكلمات:
يلمزون: أي يعيبون ويطعنون
__________
1 اختلف في نية الطلاق أو الصدقة بدون أن يلفظ هل يلزمه ما نواه بقلبه أو لا يلزمه، الراجح: أنه لا يلزمه ما لم يتلفظ به والدليل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّ الله تجاوز لأمتى عمّا حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" رواه الترمذي وقال فيه حسن صحيح، والشاهد في قوله: "أو تتكلم به" والعمل بهذا عند أهل العلم.
2 جاء في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" ولي حديث آخر: "أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" واختلف العلماء في تأويل هذين الحديثين، وقسموا النفاق إلى اعتقادي وعملي، فالاعتقادي: ما كان صاحبه كافراً بالله ورسوله مكذباً لهما، والعملي: ما كان صاحبه مؤمناً مصدقاً ولكن يأتي منه المحظورات جهلاً وفسقاً. وهذا صحيح. ولكن يتأتى لعبد يؤمن بالله ورسوله أن يتعمد الكذب على المسلمين وإخلاف الوعد لهم، والغدر بهم، وخيانتهم في أماناتهم والفجور في التخاصم معهم، ومن هنا كان المطلوب اجراء الخبر على ظاهره ما دام العبد يتعمد هذه المحظورات نكاية بالمسلمين وبغضا لهم وعدم اعتراف بحقوقهم وظلماً واعتداء عليهم، إذ مثل هذا لا يكون معه إيمان بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/402)
المطوّعين: أي المتصدقين بأموالهم زيادة على الفريضة.
إلا جهدهم: إلا طاقتهم وما يقدرون عليه فيأتون به.
فيسخرون منهم: أي يستهزئون بهم احتقاراً لهم.
استغفر لهم: أي اطلب لهم المغفرة أو لا تطلب.
لا يهدي القوم الفاسقين: أي إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وذلك لتوغلهم في العصيان.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في التنديد بالمنافقين وكشف عوراتهم فقد أخبر تعالى أن {الذين يلمزون1 المطوعين2 من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم3 فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} . أخبر تعالى أنه سخر منهم جزاء سخريتهم بالمتصدقين وتوعدهم بالعذاب الأليم. وكيفية لمزهم المتطوعين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا إلى الصدقة فإذا جاء الرجل بمال كثير لمزوه وقالوا مراء، وإذا جاء الرجل بالقليل لمزوه وقالوا: الله غني عن صاعك هذا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ففضحهم وسخر منهم وتوعدهم بأليم العذاب وأخبر نبيه أن استغفاره لهم وعدمه سواء فقال {استغفر لهم4 أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} وبين علة ذلك بقوله {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله} ، وهذه العلة كافية في عدم المغفرة لهم لأنها الكفر والكافر مخلد في النار. وأخبر تعالى أنه حرمهم الهداية فلا يتوبوا فقال {والله لا يهدي القوم الفاسقين} لأن الفسق قد أصبح وصفاً لازماً لهم فلذا هم لا يتوبون، وبذلك حرموا هداية الله تعالى.
__________
1 أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أمرنا بالصدقة فكنا نحامل على ظهورنا فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، قال: وجاء إنسان بشيء أكبر منه فقال المنافقون إنّ الله لغني عن صدقة هؤلاء وما فعل هذا الآخر إلاّ رياء فنزلت: {الذين يلمزون المطوّعين..} الآية.
2 أصل المطوعين: المتطوعين أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما وهم: الذين يفعلون الشيء تبرعاً من غير أن يجب عليهم.
3 الجهد: شيء قليل يعيش به المقل والجهد والجهد بالفتح أيضاً: الطاقة والسخرية: الاستهزاء، وعاملهم الله تعالى بالمثل فسخر منهم وهم لا يشعرون.
4 بيد أنه لما نزلت الآيات الفاضحة للمنافقين جاء بعضهم يعتذرون ويطلبون من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغفر لهم فاستغفر لهم رحمة بهم فأعلمه ربّه تعالى أنّ استغفاره لهؤلاء المنافقين مهما بلغ من الكثرة لا ينفعهم وذلك لكفرهم ونفاقهم وفسقهم.(2/403)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة لمز المؤمن والطعن فيه.
2- حرمة السخرية بالمؤمن.
3- غيرة الله على أوليائه حيث سخر الله ممن سخر من المطوعين.
4- من مات على الكفر لا ينفعه الاستغفار له، بل ولا يجوز الاستغفار له.
5- التوغل في الفسق أو الكفر أو الظلم يحرم صاحبه الهداية.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
شرح الكلمات:
فرح المخلفون: أي سرّ الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقالوا: لا تنفروا في الحر: أي قال المنافقون لبعضهم بعضاً لا تخرجوا للغزو في الحر.
لو كانوا يفقهون: أي لو كانوا يفقهون أسرار الأمور وعواقبها ونتائجها لما قالوا: لا تنفروا في الحر ولكنهم لا يفقهون.
فليضحكوا قليلاً وليبكوا: أي في الدنيا، وليبكوا كثيراً في الدار الآخرة.(2/404)
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم: أي من المنافقين.
فاقعدوا مع الخالفين: أي المتخلفين عن تبوك من النساء والأطفال وأصحاب الأعذار.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين فقال تعالى مخبراً عنهم {فرح المخلفون1} أي سر المتخلفون {بمقعدهم خلاف2 رسول الله} أي بقعودهم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} في سبيله، وكرههم هذا للجهاد هو ثمرة نفاقهم وكفرهم وقولهم {لا تنفروا في الحر} لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر، قالوا هذا لبعضهم بعضاً وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قولهم هذا فقال {قل نار جهنم أشد حراً} فلماذا لا يتَّقونها بالخروج في سبيل الله كما يتقون الحر بعدم الخروج، وقوله تعالى {لو كانوا يفقهون} أي لما تخلفوا عن الجهاد لأن نار جهنم أشد حراً، ولكنهم لا يفقهون وقوله تعالى {فليضحكوا قليلاً} أي3 في هذه الحياة الدنيا بما يحصل لهم من المسرات {وليبكوا كثيراً} أي يوم القيامة لما ينالهم من الحرمان والعذاب، وذلك كان {جزاء بما كانوا يكسبون} من الشر والفساد، وقوله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم4} أي فإن ردك الله سالماً من تبوك إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين {فاستأذنوك للخروج} معك لغزو وجهاد {فقل لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدواً} وعلة ذلك {أنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} 5 أي من النساء
__________
1 {المخلفون} هم المتركون في المدينة تركهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون لأنهم غير أهل لصحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلذاكره الله انبعاثهم فثبطهم أما هم فإنهم فرحوا بتخلفهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفاقهم وفسقهم.
2 {خلاف} لغة في خلف، واختير لفظ خلاف إشارة إلى أن المنافقين يحبّون مخالفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، وقعودهم وإن كان بإذن فإنه مخالف لإرادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالنفير العام وجاءوا هم يستأذنون في القعود.
3 {فليضحكوا} أمر، ومعناه التهديد أي: فليضحكوا في الدنيا قليلاً وليبكوا في الآخرة كثيراً، أو هو أمر بمعنى الخير وهو صحيح إذ هذا هو حالهم ومنتهى أمرهم.
4 قوله: {إلى طائفة} دليل على أن من المتخلفين ما كانوا منافقون ككعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع العامري.
5 {الخالفين} جمع خالف، كأنهم خلفوا الخارجين في ديارهم، واختيار لفظ الخالفين يحمل سباً لهم وعيباً، إذ الخالفون النساء، وخلف الشيء إذا فسد، ومنه خلوف فم الصائم، ومنه خلف اللبن: إذا قد بطول المكث في الإناء، وفي هذا دليل على أن استصحاب المخذل الفاسد في الغزوات لا يليق.(2/405)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
والأطفال فإن هذا يزيد في همهم ويعظم حسرتهم جزاء تخلفهم عن رسول الله وكراهيتهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
هداية الآلات
من هداية الآيات:
1- من علامات النفاق الفرح بترك طاعة الله ورسوله.
2- من علامات النفاق كراهية طاعة الله ورسوله.
3- كراهية الضحك والإكثار منه1.
4- تعمد ترك الطاعة قد يسبب الحرمان منها.
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
شرح الكلمات:
ولا تصل على أحد: أي صلاة الجنازة.
ولا تقم على قبره: أي لا تتول دفنه والدعاء له كما تفعل مع المؤمنين.
وماتوا وهم فاسقون.: أي خارجون عن طاعة الله ورسوله.
وتزهق أنفسهم: أي تخرج أرواحهم بالموت وهم كافرون.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في شأن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك، وإن كانت هذه الآية
__________
1 صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى" وورد أن كثرة الضحك تميت القلب وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جل ضحكه الابتسام.(2/406)
نزلت في1 شأن عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين وذلك أنه لما مات طلب ولده الحباب الذي سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله وقال له الحباب اسم الشيطان وسماه عبد الله جاءه فقال يا رسول الله إن أبي قد مات فأعطني قميصك2 أكفنه فيه، "رجاء بركته" وصل عليه واستغفر له يا رسول الله فأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القميص وقال له إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال بل خيرني فقالوا استغفر لهم أو لا تستغفر لهم. فصلى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية {ولا تصل على أحد منهم3 فات أبداً، ولا تقم على قبره} أي لا تتول دفنه والدعاء له بالتثبيت عند المسألة. وعلل تعالى لهذا الحكم بقوله {إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} ، وقوله {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم} أي لا تصل4 على أحد منهم مات يا رسول الله {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم} فتصلي عليهم. إني إنما أعطيتهم ذلك لا كرامة لهم وإنما لأعذبهم بها في الدنيا بالغموم والهموم {وتزهق أنفسهم} أي ويموتوا {وهم كافرون} فسينقلون إلى عذاب أبدي لا يخرجون منه، وذلك جزاء من كفر بالله ورسوله.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الصلاة على الكافر مطلقاً.
2- حرمة غسل الكافر والقيام على دفنه والدعاء له.
__________
1 روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} وما في التفسير من خبر ابن أبيّ رواه مسلم.
2 فإن قيل: كيف يعطي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قميصه ليكفن فيه رئيس المنافقين وكيف صلى عليه واستغفر له وهو يعلم أنّه منافق؟ والجواب: أما اعطاؤه ثوبه ليكفن فيه فقد سبق أن أعطى عبد الله بن أبي ثوباً للعباس عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحفظ له هذه اليد فأعطاه ثوبه وأما الصلاة عليه فقد كانت قبل نهي الله تعالى عنها، وأما الاستغفار فقد خير فيه بقوله {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} فرأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استغفاره استئلافا للقلوب ففعل.
3 في الآية دليل على فرضية الصلاة على أموات المسلمين، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، وفي الآية إحدى موافقات عمر رضي الله عنه إذ أنزل الله تعالى هذا الحكم وهر ترك الصلاة على المنافقين بعد أن قال عمر: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين، فالصلاة هنا هي الدعاء والاستغفار فلما صلى عليه نزلت الآية {ولا تصل على أحد..} الخ فترك الصلاة على المنافقين.
4 صلاة الجنازة هي: أن يكبر ثم يقرأ الفاتحة ثم يكبر ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يكبر ويدعو للميت، ثم يكبر الرابعة ويسلم لفعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وقوله: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" رواه أبو داود، ويستحب أن يقف الإمام عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة، لورود الحديث بذلك في مسلم وأبي داود.(2/407)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
3- كراهة الصلاة على أهل الفسق دون الكفر.
4- حرمة الإعجاب بأحوال الكافرين المادية.
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
شرح الكلمات:
استأذنك: أي طلبوا إذنك لهم بالتخلف.
أولوا الطول منهم: أي أولو الثروة والغنى.
ذرنا نكن مع القاعدين: أي اتركنا مع المتخلفين من العجزة والمرضى والأطفال والنساء.
مع الخوالف: أي مع النساء جمع خالفة المرأة تخلف الرجل في البيت إذا غاب.(2/408)
طبع على قلوبهم: أي توالت ذنوبهم على قلوبهم فأصبحت طابعاً عليها فحجبتها المعرفة.
لهم الخيرات: أي في الدنيا بالنصر والغنيمة. وفي الآخرة بالجنة والكرامة فيها.
وأولئك هم المفلحون: أي الفائزون بالسلامة من المخوف والظفر بالمحبوب.
المعذرون: أي المعتذرون.
وقعد الذين كذبوا الله: أي ولم يأت إلى طلب الإذن بالقعود عن الجهاد منافقوا الأعراب.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في كشف عورات المنافقين وبيان أحوالهم فقال تعالى {وإذا أنزلت1 سورة} أي قطعة من القرآن آية أو آيات {أن آمنوا بالله وجاهدوا مع2 رسوله} أي تأمر بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله {استأذنك أولوا الطول منهم3} أي من المنافقين {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} أي المتخلفين عن الجهاد للعجز كالمرضى والنساء والأطفال قال تعالى: في عيبهم وتأنيبهم {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي مع النساء وذلك لجبنهم وهزيمتهم النفسية وقوله تعالى {وطبع على قلوبهم} أي طبع الله على قلوبهم بآثار ذنوبهم التي رانت على قلوبهم فلذ اهم لا يفقهون معنى الكلام وإلا لما رضوا بوصمة العار وهي أن يكونوا في البيوت مع النساء هذه حال المنافقين وتلك فضائحهم إذا أنزلت سورة تأمر بالإيمان والجهاد يأتون في غير حياء ولا كرامة يستأذنون في البقاء مع النساء (لكن4 الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} ولم يستأذنوا ففازوا بكرامة الدنيا
__________
1 السورة. طائفة من آيات القران لها مبدأ ومختم، والمراد بالسورة هنا: هذه السورة (التوبة) أو بعض آياتها الآمرة بالجهاد والإيمان.
2 {أن آمنوا} أن: تفسيرية فسرت مضمون السورة وهو الإيمان والجهاد.
3 أي: في القعود والتخلف عن الجهاد وهم أصحاب القدرة على الجهاد لصحة أجسامهم وكثرة أموالهم أما العجزة فإنهم غير مأمورين بالجهاد، والطول معنا: الغنى والقدرة المالية.
4 قوله: {لكن} الخ استدراك بيّن فيه تعالى حال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين وأنها أكمل الأحوال بعد ذكر حال المنافقين وما هم عليه من صفات النقص آذ أخبر أنهم لجبنهم يطلبون القعود عن الجهاد وأنهم لما ران على قلوبهم من أوضار الكفر والفسق لا يفقهون الكلام ولا يعرفون ما يضرهم ولا ما ينفعهم بخلاف الرسول والمؤمنين فقد ذكر صفاتهم الكمالية، وهي الجهاد بالمال والنفس وما فازوا به من عظيم الخيرات، وما آلوا إليه من الفلاح وهو النجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب.(2/409)
والآخرة قال تعالى {وأولئك لهم الخيرات} 1 أي في الدنيا بالانتصارات والغنائم وفي الآخرة بالجنة ونعيمها ورضوان الله فيها. وقال {وأولئك هم المفلحون} أي الفائزون بالسلامة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب وفسر تعالى تلك الخيرات وذلك الفلاح بقوله في الآية (89) فقال {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} وأخبر عما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم بأنه الفوز فقال {ذلك الفوز العظيم} . هذا ما دلت عليه الآيات الأربع أما الآية الخامسة (90) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن منافقي الأعراب أي البادية، فقال تعالى {وجاء المعذرون2} أي المعتذرون أدغمت التاء في الذال فصارت المعذرون من الأعراب أي من سكان البادية كأسد وغطفان ورهط عامر بن الطفيل جاءوا يطلبون الإذن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتخلف بدعوى الجهد والمخمصة، وقد يكونون معذورين حقاً وقد لا يكونون كذلك. وقوله {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} في دعوى الإيمان بالله ورسوله وما هم بمؤمنين بل هم كافرون منافقون، فلذا مال تعالى فيهم {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} في الدنيا وفي الآخرة، إن ماتوا على كفرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن هو مصدر التشريع الإلهي الأول والسنة الثاني.
2- مشروعية الاستئذان للحاجة الملحة.
3- حرمة الاستئذان للتخلف عن الجهاد مع القدرة عليه.
4- حرمة التخلف عن الجهاد بدون إذن من الإمام.
5- فضل الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
6- بيان عظم الأجر وعظيم الجزاء لأهل الإيمان والجهاد.
__________
1 الخيرات: جمع خير على غير قياس كسرادقات، وحمامات جمع سرادق وحمام.
2 {المعذرون} هذا اللفظ صالح لأن يكون المراد به المعتذرون لعلل قامت بهم وصالح لأن يكون المراد به المعذرون وهم الذين لا عذر لهم ويعتذرون بغير حق موجب للعذر يقال: عذر فلان: إدا قصّر في الواجب واعتذر بدون عذر قام به. وهذا من بلاغة القرآن، اللفظ الواحد منه يحتمل وجهين وكلاهما حق ومراد.(2/410)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92)
شرح الكلمات:
على الضعفاء: أي كالشيوخ.
ولا على المرضى: كالعمى والزَمْنَى.
حرج: أي إثم على التخلف.
إذا نصحوا لله ورسوله: أي لا حرج عليهم في التخلف إذا نصحوا لله ورسوله وذلك بطاعتهم لله ورسوله مع تركهم الإرجاف والتثبيط.
ما على المحسنين من سبيل: أي من طريق إلى مؤاخذتهم.
لتحملهم.: أي على رواحل يركبونها.
تولوا ": أي رجعوا إلى بيوتهم.
تفيض من الدمع: أي تسيل بالدموع الغزيرة حزناً على عدم الخروج.
معنى الآيتين:
لما ندد تعالى بالمتخلفين وتوعد بالعذاب الأليم الذين لم يعتذروا منهم ذكر في هذه الآيات أنه لا حرج على أصحاب الأعذار وهم الضعفاء، كالشيوخ والمرضى والعميان وذوو العرج1 والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ولكن بشرط نصحهم لله ورسوله فقال عز
__________
1 شاهده في سورة الفتح: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} .(2/411)
وجل {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} أي إثم {إذا نصحوا لله ورسوله} 1 ومعنى النصح لله ورسوله طاعتهما في الأمر والنهي وترك الإرجاف والتثبيط والدعاية المضادة لله ورسوله والمؤمنين والجهاد في سبيل الله وقوله تعالى {ما على المحسنين من سبيل} أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم لأنه أولاً بعذر شرعي2 وثانياً هم مطيعون لله ورسوله وثالثاً قلوبهم ووجوههم مع الله ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر فهؤلاء ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الأحوال، كما ليس من سبيل {على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} إلى الجهاد معك في سيرك {قلت} معتذراً إليهم {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} أي رجعوا إلى منازلهم وهم يبكون والدموع تفيض من أعينهم3 حزناً {ألا يجدوا ما ينفقون} في سيرهم معكم وهم نفر منهم العرباص بن سارية وبنو مقرن وهم بطن من مزينة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا حرج على أصحاب الأعذار الذين ذكر الله تعالى في قوله {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} وفي هذه الآية {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} حرج وبشرط طاعة الله والرسول فيما يستطيعون والنصح4 لله والرسول بالقول والعمل وترك التثبيط والتخذيل والإرجاف من الإشاعات المضادة للإسلام والمسلمين.
__________
1 قال القرطبي: {نصحوا الله ورسوله} إذا عرفوا الحق وأحبّوا أولياءه وأبغضوا أعداءه، ومع قبول أعذار أصحاب الأعذار فقد خرج ابن أم مكتوم إلى أحد وهو رجل أعمى، وطلب أن يعطى الراية ليحملها، وخرج عمرو بن الجموح وهو أعرج خرج إلى أحد فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ الله قد عذرك" فقال: والله لأحفرنّ بعرجتي هذه في الجنة.
2 روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلاّ وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر؟ "
3 {حزناً} منصوب على أنه مفعول لأجله، وجملة: {وأعينهم} : حال من {تولوا} .
4 النصح: إخلاص العمل من الغش يقال: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدين النصحية- ثلاثا- قلنا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" ذكر القرطبي معاني هذه النصائح بالتفصيل عند تفسير هذه الآية فليرجع إليها من طلب ذلك.(2/412)
2- مظاهر الكمال المحمدي في تواضعه ورحمته وبره وإحسانه إلى المؤمنين.
3- بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار من الإيمان واليقين والسمع والطاعة والمحبة والولاء ورقة القلوب وصفاء الأرواح.
اللهم إنا نحبهم بحبك فأحببنا كما أحببتهم واجمعنا معهم في دار كرامتك.(2/413)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
الجزء الحادي عشر
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
شرح الكلمات:
إنما السبيل: أي الطريق إلى المعاقبة.
أغنياء: واجدون لأهبة الجهاد مع سلامة أبدانهم.
الخوالف: أي النساء والأطفال والعجزة.
إذا رجعتم إليهم: أي إذا عدتم إليهم من تبوك، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً.
لن نؤمن لكم: أي لن نصدقكم فيما تقولون.
ثم تُرَدّون: أي يوم القيامة.
إذا انقلبتم: أي رجعتم من تبوك.(2/414)
لتُعرِضوا عنهم: أي لا تعاقبوهم.
رجس: أي نَجَس لخُبْث بواطنهم.
معنى الآيات:.
ما زال السياق الكريم في المُخَلَّفين من المنافقين وغير المنافقين فقال تعالى {إنما1 السبيل} أي الطريق إلى عقاب المخلَّفين على الذين يستأذنونك في التخلُّف عن الغزو وهم أغنياء أي ذوو قُدرة2 على النفقة والسير {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي النساء {وطبع الله على قلوبهم} بسبب ذنوبهم فهم لذلك لا يعلمون أن تخلفهم عن رسول الله لا يُجديهم نفعاً وأنه يجرُّ عليهم البلاء الذي لا يطيقونه. هؤلاء هُم الذين لكم سبيل على عقابهم ومؤاخذتهم، لا على الذين لا يجدون ما ينفقون، وطلبوا منك حملاناً فلم تجد ما تحملهم عليه فرجعوا إلى منازلهم وهم يبكون حزناً. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (93) أما الآيات الثلاث بعدها فهي في المخلَّفين من المنافقين يخبر تعالى عنهم فيقول {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} يطلبون العذر منكم إذا رجعتم إلى المدينة من غزوكم. قل لهم يا رسولنا لا تعتذروا لأننا لا نؤمن لكم أي لا نصدقكم فيما تقولونه، لأن الله تعالى قد نَبَّأنَا من أخباركم3 وسيرى الله عملكم4 ورسوله. إن أنتم تبتم فأخلصتم دينكم لله، أو أصررتم على كفركم ونفاقكم، وستُردُّون بعد موتكم إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى فينبئكم يوم القيامة بعد بعثكم بما كنتم تعملون من حسنات أو سيئآت ويجزيكم بذلك الجزاء العادل. وقوله تعالى {سيحلفون5 بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين فيقول سيحلف لكم هؤلاء المخلَّفون إذا رجعتم إليهم أي إلى المدينة من أجل أن تعرضوا عنهم فأعرضوا6 عنهم أي لا تؤاخذوهم ولا تلتفوا إليهم إنهم رجْس أي نَجَس، ومأواهم جهنم جزاء لهم بما كانوا يكسبونه من
__________
1 أي: العقوبة والإثم.
2 هؤلاء هم المنافقون تردد ذكرهم تنديداً بهم وكشفاً لحالهّم وتحذيراً من سلوكهم.
3 أي: أطلعنا على سرائركم وما تخفي نفوسكم.
4 أي: ما تستأنفونه من أعمال بعد اليوم صالحة أو طالحة.
5 أي: بأنهم ما قدروا على الخروج لأعذار لهم يدّعونها كذباً لتصفحوا عنهم، وتتركوا لومهم وعتابهم.
6 الفاء تفريعية أي: إذا كانوا يريدون الإعراض عنكم فأعرضوا عنهم وجملة: {إنهم رجس} : تعليلية أي علة للإذن لهم بالإعراض عنهم يريد: إنهم ذوو رجس.(2/415)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
الكفر والنفاق والمعاصي.. وقوله تعالى {يحلفون لكم} 1 معتذرين بأنواع من المعاذير لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فلن ينفعهم رضاكم شيئاً لأنهم فاسقون والله لا يرضى عن القوم الفاسقين وما دام لا يرضى عنهم فهو ساخط عليهم، ومن سخط الله عليه أهلكه وعذبه فلذا رضاكم عنهم وعدمه سواء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا سبيل إلى أذِيَّة المؤمنين الصادقين إذا تخلَّفوا فإنهم ما تخلفوا إلا لعذر. وإنما السبيل على الأغنياء القادرين على السير إلى الجهاد وقعدوا عنه لنفاقهم.
2- مشروعية الاعتذار على شرط أن يكون المؤمن صادقاً في اعتذاره.
3- المنافقون كالمشركين رجْس أي نَجَس لأن بواطنهم خبيثة بالشرك والكفر وأعمالهم الباطنة خبيثة أيضاً إذْ كلها تآمر على المسلمين ومكر بهم وكيد لهم.
4- حرمة الرضا على الفاسق المجاهر بفسقه، إذ يجب بُغْضه فكيف يُرضى عنه ويُحب؟
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)
شرح الكلمات:
__________
1 المراد به: عبد الله بن أبيّ إذ حلف أن لا يتخلَّف بعد اليوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلب أن يرضى عنه.(2/416)
الأعراب1: جمع أعرابي وهو من سكن البادية.
أشد كفراً ونفاقاً: أي من كفار ومنافقي الحاضرة.
وأجدر2: أي أحق وأولى.
حدود ما أنزل الله: أي بشرائع الإسلام.
مغرماً: أي غرامة وخسراناً.
ويتربص: أي ينتظر.
الدوائر: جمع دائرة: ما يحيط بالإنسان من مصيبة أو نكبة.
دائرة السوء: أي المصيبة التي تسوءهم ولا تسرهم وهي الهلاك.
قربات: جمع قربة وهي المنزلة المحمودة.
وصلوات الرسول: أي دعاؤه لهم بالخير.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الكشف عن المنافقين وإعدادهم للتوبة أو للقضاء عليهم ففي الآية الأولى (97) يخبر تعالى أن الأعراب3 وهم سكان البادية من العرب أشد كفراً ونفاقاً من كفار الحَضَر ومنافقيهم. وإنهم أجدر أي أخلق وأحق أي بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي من الأحكام4 والسنن وذلك لبعدهم عن الاتصال بأهل الحاضرة وقوله تعالى {والله عليم حكيم} أي عليم بخلقه حكيم في شرعه فما أخبر به هو الحق الواقع، وما قضى به هو العدل الواجب. وقوله تعالى في الآية الثانية (98) {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً} 5 أي من بعض الأعراب من يجعل ما ينفقه في الجهاد غرامة لزمَتْه وخسارة لحقَتْه في ماله وذلك لأنه لا يؤمن بالثواب والعقاب الأخروي
__________
1 والعرب: جيل من الناس واحدهم عربي وهم أهل الأمصار، والعرب العاربة: هم الخلص، والمستعربة هم الذين ليسوا بخلّص كأولاد إسماعيل عليه السلام، ويعرب بن قحطان هو أوّل من تكلَّم بالعربية وهو أبو اليمن كلها.
2 {أجدر} مأخوذ من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء.
3 لمَّا ذكر تعالى حال منافقي الحضر ذكر هنا حال منافقي البادية ليُعرف الجميع.
4 وكذلك لا يعلمون حجج الله تعالى في ألوهيته وبعثة رسوله لقلَّة نظرهم وسوء فهمهم، ولذا لا حق لهم في الفيء، والغنيمة إلا أن يجاهدوا أو يتحولوا إلى الحواضر ويتركوا البادية لحديث مسلم. واختلف في صحة شهادة البادي على الحاضر، والراجح أنها تصح إذا كان عدلاً. وتكره إمامتهم لأهل الحضر عند مالك، وذلك لجهلهم بالشريعة وتركهم الجمعة.
5 أي غرما وخسرانا، وأصله لزوم الشيء، ومنه {إن عذابها كان غراما} أي: لازما.(2/417)
لأنه كافر بالله ولقاء الله تعالى. وقوله عز وجل {ويتربص بكم الدوائر} أي وينتظر بكم أيها المسلمون الدوائر متى تنزل بكم فيتخلص منكم ومن الإنفاق لكم والدوائر جمع دائرة المصيبة والنازلة من الأحداث وقوله تعالى {عليهم دائرة السوء} 1 هذه الجملة دعاء عليهم. جزاء ما يتربصون بالمؤمنين. وقوله {والله سميع عليم} أي سميع لأقوالهم عليم بنيانهم فلذا دعا عليهم بما يستحقون. وقوله تعالى في الآية الثالثة (99) {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر2 ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول} 3 إخبار منه تعالى بأن الأعراب ليسوا سواء بل منهم من يؤمن بالله واليوم الأخر، فلذا هو يتخذ ما ينفق من نفقة في الجهاد قربات عند الله أي قرباً يتقرب بها إلى الله تعالى، ووسيلة للحصول على دعاء الرسول له، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه المؤمن بزكاته أو صدقته يدعو له بخير، كقوله لعبد الله بن أبي أوفى: اللهم صل على آل أبي أوفى، وقوله تعالى {ألا إنها قربة لهم} إخبار منه تعالى بأنه تقبلها منهم صارت قربة4 لهم عنده تعالى، وقوله تعالى {سيدخلهم الله في رحمته} بشرى لهم بدخول الجنة، وقوله {إن الله غفور رحيم} يؤكد وعد الله تعالى لهم بإدخالهم في رحمته التي هي الجنة فإنه يغفر ذنوبهم أولاً، ويدخلهم الجنة ثانياً هذه سنته تعالى في أوليائه، يطهرهم ثم ينعم عليهم بجواره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن سكان البادية يُحرمون من كثير عن الآداب والمعارف فلذا سكن البادية غير محمود إلا إذا كان فراراً من الفتن.
2- من الأعراب المؤمن والكافر والبر والتقي والعاصي والفاجر كسكان المدن إلا أن كفار البادية ومنافقيها أشد كفراً ونفاقاً لتأثير البيئة.
3- فضل النفقة في سبيل الله والإخلاص فيها لله تعالى.
__________
1 قرىء {السوء} بالفتح والضم إلا قوله: {وما كان أبوك امرأ سوء} ، فإنه بالفتح لا غير، إذ السُوء بالضم: المكروه، والسوء بالفتح: الفساد. امرؤ سوء: أي: فاسد.
2 قيل: هم بنو مُقَرِّن من مزينة.
3 صلوات الرسول هي استغفاره ودعاؤه لهم بالخير والبركة.
4 أي: تقرّبهم من الله تعالى.(2/418)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)
شرح الكلمات:
والسابقون: أي إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد.
اتبعوهم بإحسان: أي في أعمالهم الصالحة.
رضي الله عنهم: بسبب طاعتهم له وإنابتهم إليه وخشيتهم منه ورغبتهم فيما لديه.
ورضوا عنه: بما أنعم عليهم من جلائل النعم وعظائم المِنَنْ.
وممن حولكم: أي حول المدينة من قبائل العرب.
مردوا: مرقوا وحذقوه وعتوْا فيه.
سنعذبهم مرتين: الأولى قد تكون فضيحتهم بين المسلمين والثانية عذاب القبر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {والسابقون1 الأولون من المهاجرين والأنصار} 2 وهم الذين سبقوا غيرهم.
__________
1 {السابقون} هم الذين صلّوا إلى القبلتين وأفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون من المبشرين بالجنة نم أهل بدر ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوات بالحدييية، وأفضلهم أبو بكر على الإطلاق.
2 {الأنصار} : هم من أسلم من الأوس والخزرج بالمدينة ولم يعرفوا في الجاهلية بهذا الاسم وإنما سماهم الله تعالى به في الإسلام.(2/419)
إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد، والذين اتبعوهم1 في ذلك وأحسنوا أعمالهم فكانت موافقة لما شرع الله وبين رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجميع رضي الله عنهم بإيمانهم وصالح أعمالهم، ورضوا عنه بما أنالهم من إنعام وتكريم، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً أي وبشرهم بما أعد لهم من جنات وقوله {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك المذكور من رضاه تعالى عنهم ورضاهم عنه وإعداد الجنة لهم هو الفوز العظيم، والفوز السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب فالنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (100) وأما الآية الثانية فقد تضمنت الإخبار بوجود منافقين في الأعراب2 حول المدينة، ومنافقين في داخل المدينة، إلا أنهم لتمرسهم وتمردهم في النفاق أصبحوا لا يُعرفون، لكن الله تعالى يعلمهم هذا معنى قوله تعالى {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا3 على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} ، وقوله تعالى {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وعيد لهم نافذ فيهم لا محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما شاء من عذاب ومرة في قبورهم، ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم، وقوله تعالى في الآية الثالثة (102) {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} 4 هؤلاء أُناس آخرون تخلفوا عن الجهاد بغير عذر وهم أبو لبابة ونفر معه ستة أو سبعة أنفار ربطوا أنفسهم في سواري المسجد لما سمعوا ما نزل في المتخلفين وقالوا لن نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلطوا عملاً صالحاً وهو إيمانهم وجهادهم وإسلامهم وعملاً سيئاً وهو تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، فقوله تعالى {عسى الله أن يتوب عليهم} إعلامهم بتوبة الله تعالى عليهم فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحل رباطهم وقالوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً.
__________
1 التابعون: جمع تابع أو تابعي، وهم الذين صحبوا الصحابة، وأكبر التابعين: الفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار. وكلهم من المدينة النبوية وأفضل نساء التابعين حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن وأم الدرداء.
2 الأحياء الذين كانوا حول المدينة هم: مزينة وجهينة وأسلم، وغفار وأشجع ولحيان وعصيّة وكان منهم منافقون.
3 يقال: مرد على الأمر: إذا مرن عليه ودرب به، ومنه الشيطان المارد سئل حذيفة عن المنافقين فأخبر أنهم اثنا عشر، ستة ماتوا بالدبيلة وأربعة ماتوا موتاً عادياً.
4 {خلطوا} يريد خلطوا حسنات أعمالهم الصالحة بسيئات التخلف عن الغزو والإنفاق في الجهاد والسير مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك. وعسى: فعل رجاء وهي في كلام الله تعالى كناية عن وقوع المرجو لا محالة.(2/420)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل السبق للخير والفوز بالأولية فيه.
2- فضل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غيرهم ممن جاء بعدهم.
3- فضل التابعين لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أحسنوا المتابعة.
4- علْم ما في القلوب إلى الله تعالى فلا يعلم أحد من الغيب إلا ما علَّمه الله عز وجل.
5- الرجاء لأهل التوحيد الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً بأن يغفر الله لهم ويرحمهم.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
شرح الكلمات:
صدقة: مالاً يتقرب به إلى الله تعالى.
تطهرهم وتزكيهم بها: أي تطهرهم من ذنوبهم، وتزكيهم أنت أيها الرسول بها بدعائك لهم وثنائك عليهم.
وصل عليهم: أي ادع لهم بالخير.
إن صلاتك سكن لهم: أي دعاءك رحمة.
ويأخذ الصدقات: يتقبلها.(2/421)
مرجون لأمر الله: مؤخرون لحكم الله وقضائه.
عليم حكيم: أي بخلقه نيات وأموالاً وأعمالاً حكيم في قضائه وشرعه.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن المتخلفين التائبين قالوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه أموالنا1 التي تخلفنا بسببها صدقة فخذها يا رسول الله فقال لهم إني لم أُؤْمر بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية {خذ2 من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم} فأمر تعالى رسوله أن يأخذ صدقة هؤلاء التائبين لأنها تطهرهم من ذنوبهم ومن أوضار الشُّح في نفوسهم وتزكيهم أيها الرسول بها بقبولك لها وصل عليهم أي ادع لهم بخير، إن صلاتك سكن3 لهم أي رحمة وطمأنينة في نفوسهم والله سميع لأقوالهم لمَّا قدموا صدقتهم وقالوا خذها يا رسول الله عليم بنياتهم وبواعث نفوسهم فهم تائبون توبة صدق وحق. وقوله تعالى {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} الاستفهام للتقرير أي هم يعلمون ذلك قطعاً، ويأخذ الصدقات4 أي يقبلها، وأن الله هو التواب أي كثير قبول التوبة من التائبين الرحيم بعباده المؤمنين ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم حاضاً لهم على العمل الصالح تطهيراً لهم وتزكية لنفوسهم {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} 5 فيشكر لكم ويثني به عليكم {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} وهو الله عز وجل {فينبئكم بما كنتم تعملون} ويجزيكم به الحسن بالحسن والسيء بمثله. وقوله تعالى {وآخرون مرجون لأمر الله. إما يعذبهم وإما يتوب
__________
1 المال في فصيح اللغة: هو كل ما تموّل وتملك فهو مال. والمراد من قولهم هذه أموالنا يعنون ما لديهم من سائر أنواع المال. وأما في الزكوات فإنها خاصة بالعين المواشي والثمار والحبوب بشروطها التي هي النصاب والحول في العين والحصاد في الحبوب والتمر بلوغ خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً والصاع أربعة أمداد.
2 هذه الآية وإن نزلت في الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فإنها عامة في الأمة فعلى ولاة أمور المسلمين أن يجبوا الزكوات ويأخذوها من الأمة فريضة الله تعالى على المسلمين للقيام بمصالح المسلمين، والذين قدّموا أموالهم كلها أخذ منها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلث، وردّ عليهم الباقي. فقال مالك من تصدق بجميع ماله يجزئه منه الثلث أخذاً من هذه الحادثة.
3 معناه أنه إذا دعا لهم سكنت قلوبهم وفرحوا، واختلف هل هذه الصلاة على المتصدق باقية أو انتهت بوفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحيح أنها باقية. فمن أخذ صدقة متصدق يصلي عليه اقتداء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 أخرج مسلم: "لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل".
5 روى أبو داود وأحمد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيراً استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا".(2/422)
عليهم} هذا هو الصنف الثالث من أصناف المتخلفين فالأول هم المنافقون والثاني هم التائبون والثالث هو المقصود بهذه الآية وهم ثلاثة أنفار كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فهؤلاء لم يأتوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعتذروا إليه كما فعل التائبون المتصدقون بأموالهم منهم أبو لبابة حيث ربطوا أنفسهم في سواري المسجد فأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمقاطعتهم1 حتى يحكم الله فيهم، وهو معنى قوله تعالى {مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} فإن عذبهم أو تاب عليهم فذلك لعلمه وحكمته. وبقوا كذلك حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ثم تاب الله تعالى عليهم كما جاء ذلك بعد كذا آية من آخر هذه السورة {إن الله هو التواب الرحيم} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الصدقة تكفر الذنوب ونطهر الأرواح من رذيلة الشح والبخل..
2- يستحب لمن يأخذ صدقة امرئ مسلم أن يدعو له بمثل: آجرك الله2 على ما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت.
3- ينبغي للتائب من الذنب الكبير أن يكثر بعده من الصالحات كالصدقات والصلوات ونحوها.
4- فضيلة الخوف والرجاء فالخوف يحمل على ترك المعاصي والرجاء يعمل على الإكثار من الصالحات.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ
__________
1 هؤلاء هم: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع.
2 هو معنى: {وصلِّ عليهم} إذ الصلاة الدعاء لغة.(2/423)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
شرح الكلمات:
ضراراً: أي لأجل الإضرار.
وإرصاداً: اانتظاراً وترقباً.
إلا الحسنى: أي إلا الخير والحال الأحسن.
لا تقم فيه أبداً: أي لا تقم فيه للصلاة أبداً.
أسس على التقوى: أي بني على التقوى وهو مسجد قبا.
فيه رجال: هم بنو عَمرو بن عوف.
على تقوى من الله: أي على خوف.
ورضوان: أي رجاء رضوان الله تعالى.
على شفا جرف هار: أي على طرف جرف مشرف على السقوط، وهو مسجد الضرار.
ريبة في قلوبهم: أي شكاً في نفوسهم.
إلا أن تقطع قلوبهم: أي تُفْصَل من صدورهم فيموتوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في فضح المنافقين وإغلاق أبواب النفاق في وجوههم حتى يتوبوا إلى الله تعالى أو يهلكوا وهم كافرون فقال تعالى ذاكراً فريقاً منهم {والذين اتخذوا مسجداً 1
__________
1 روي أن رأس الفتنة كان أبا عامر الراهب الذي ذهب يستعدي الروم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.(2/424)
ضراراً وكفراً وتفريقاً 1 بين المؤمنين وإرصاداً لمن2 حارب الله ورسوله من قبل} إن المراد من هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً اثنا عشر رجلاً من أهل المدينة كانوا قد أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو شاخص إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً للعاجز منا والمريض واللّيلة المطيرة فَصَلِّ لنا فيه فقال لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا الآن على جناح سفر وإن عدنا نصلي لكم فيه إن شاء الله أو كما قال. فلما عاد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك ووصل إلى مكان قريب من المدينة يقال له ذواوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار نزل عليه الوحي بشأن مسجد الضرار فبعث مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصماً أخا بني العجلان فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار فخرج بسعف نخل قد أضرم فيه النار وأتيا المسجد وأهله فيه فأضرما فيه النار وهدماه وتفرق أهله ونزل فيهم قوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً} أي لأجل الإضرار المسجد النبوي ومسجد قباء حتى يأتيهما أهل الحي وقوله {كفراً} أي لأجل الكفر بالله ورسوله وقوله {وتفريقاً بين المؤمنين} علة ثالثة لبناء مسجد الضرار إذ كان أهل الحي مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا تفرقتهم في مسجدين حتى يجد هؤلاء المنافقون مجالاً للتشكيك والطعن وتفريق صفوف المؤمنين على قاعدة: (فرق تسد) {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل} وهو أبو عامر الراهب الفاسق لأنه عليه لعائن الله هو الذي أمرهم أن يبنوه ليكون وكراً للتآمر والكيد وهذا الفاسق قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وجدت قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فكان مع المشركين في حروبهم كلها إلى أن أنهزم المشركون في هوازن وأيس اللعين ذهب إلى بلاد الروم يستعديهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن هنا أمر المنافقين ببناء مسجد الضرار ليكون كما ذكر تعالى حتى ينزل به مع جيوش الروم التي قد خرج يستعديها ويؤلَّبها إلا أنه خاب في مسعاه وهلك بالشام إلى جهنم وبئس المصير فهذا معنى قوله تعالى {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل} أي قبل بناء مسجد الضرار الذي هُدم وحُرق وأصبح موضع قمامة تلقى فيه الجِيَفْ والقمائم.
__________
1 {ضرارا} مفعول لأجله أي: لأجل مضارة أهل الإسلام بتفرقة المسلمين وإيجاد عداوات بينهم.
2 هو أبو عامر الراهب، وسمي الراهب: لأنه تنصّر وتعبد على دين النصارى ولما انهزمت ثقيف التحق بالروم ومات كافراً نالته دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/425)
وقوله تعالى {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} هذا قولهم لما حرق عليهم المسجد وهدم وانفضح أمرهم حلفوا ما أرادُوا ببنائه إلا الحالة التي هي حسنى لا سوء فيها إذ قالوا بنيناه لأجل ذي العلة ولليلة المطيرة. وقوله تعالى {والله يشهد إنهم لكاذبون} تفيد لقولهم وتقرير لكذبهم. وقوله تعالى {لا تقم فيه أبداً} 1 نهيٌ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلى لهم فيه كما واعدهم وهو ذاهب إلى تبوك. وقوله تعالى {لمسجد أسس2 على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} وهو مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومسجد قباء إذ كل منهما أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان أي على خوف من الله وطلب رضاه، وقوله تعالى {فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين} ثناء على أهل قباء بخير وإخبار أنهم يحبون أن يتطهروا3 من الخبث الحسِّي والمعنوي فكانوا يجمعون في الاستنجاء بين الحجارة والماء فأثنى الله تعالى عليهم بذلك، وقوله تعالى {أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان} أي على مخافة من الله وطلب لرضاه خير أمن أسس بنيانه على شفا أي طرف جرف هار أي مشرف على السقوط، والجرف4 ما يكون في حافة الوادي من أرض يجرف السيل من تحتها التراب وتبقى قائمة ولكنها مشرفة على السقوط، وقوله تعالى {فانهار به في نار جهنم} أي سقط به ذلك الجرف في نار جهنم والعياذ بالله تعالى، هذا حال أولئك المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار. وقوله تعالى {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يهديهم إلى ما يكمُلون به ويسعدون أي يحرمهم هدايته فيخسرون دنيا وأُخرى وقوله تعالى {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم5} أي شكاً واضطراباً في نفوسهم {إلا أن تقطع 6 قلوبهم} فيهلكوا والشك في قلوبهم أي فكان هذا البناء الظالم سبباً في تأصل النفاق
__________
1 أي: {لا تقم فيه} للصلاة. يقال: فلان قائم يصلي. و {أبداً} ، معناه في أي وقت من الأوقات مطلقاً. فأبداً: لفظ يفيد التأبيد المطلق.
2 {أسّس} أي: وضعت أسسه وبنيت جدره ورفت قواعده إذ الأس: أصل البناء، وكذلك الأساس، والجمع أسس وآساس جمع إساس. قال الشاعر:
أصح الملك ثابت الآساس ... في البهاليل من بني العباس
3لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أهل قباء إن الله سجانه قد أحسن الثناء عليكم في التطهر فما تصنعون؟ قالوا: إنّا نغسل أثر الغائط والبول بالماء". رواه أبو داود. فكانوا يجمعون بين الاستجمار والاستنجاء مبالغة في التطهر، إن كان الاستجمار مجزئاً تخفيفاً على الأمة المسلمة.
4 الحرف: بالضم والإسكان كالرسْل والرسْل، وأصله من الجرف والإجتراف وهو اقتلاع الشيء من أصله.
5 وقيل: الريبة هنا: الحسرة والندامة، وحزازة وغيظاً والكل صالح لدلالة اللفظ عليه.
6 أي: إلى أن تقطع قلوبهم بالموت أي: إلا أن يموتوا.(2/426)
والكفر في قلوبهم حتى يموتوا كافرين وقوله {والله عليم حكيم} تذييل للكلام بما يقرر مضمونه ويثبته فكونه تعالى علمياً حكيماً يستلزم حرمان أولئك الظلمة المنافقين من الهداية حتى يموتوا وهم كافرون إلى جهنم وذلك لتوغلهم في الظلم والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أكبر مؤامرة ضد الإسلام قام بها المنافقون بإرشاد الفاسق أبي عامر الراهب.
2- بيان أن تنازع الشرف هو سبب البلاء كل البلاء فابن أُبَيّ حاربَ الإسلام لأنه كان يُؤمِّلُ في السُّلطة على أهل المدينة فحُرِمَها بالإسلام. وأبو عامر الراهب ترهَّب لأجل الشرف على أهل المدينة والسلطان الروحى فلذا لما فقدها حارب من كان سبب حرمانه وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قال له مواجهة: ما قاتلك قوم إلا قاتلتك معهم. بل ذهب إلى الروم يؤلِّبهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واليهود ما حاربوا الإسلام إلا من أجل المحافظة على أملهم في مملكة إسرائيل.
3- لا يصح الاغترار بأقوال أهل النفاق فإنها كذب كلها.
4- أيما مسجد بُني للإضرار والتفرقة بن المسلمين إلا ويجب هدمه وتحرم الصلاة فيه.
5- فضل التطهر والمبالغة في الطهارتين الروحية والبدنية.
6- التحذير من الظلم والإسراف فيه فإنه يحرم صاحبه هداية الله فيهلك وهو ظالم فيخسر دنيا وأُخرى.
إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ(2/427)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
شرح الكلمات:
الجنة: هي دار السلام التي أعدها الله تعالى للمتقين.
يقاتلون: أي الكفار والمشركين.
وعداً: أي وعدهم وعداً حقاً.
في التوراة: أي مذكوراً في التوراة والإنجيل والقرآن.
ومن أوفى بعهده: أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى.
ذلك هو الفوز العظيم: أي ذلك البيع هو الفوز العظيم.
التائبون: أي من الشرك والنفاق والمعاصي.
العابدون: أي المطيعون لله في تذلل وخشوع مع حبهم لله وتعظيمهم له.
السائحون: أي الصائمون والخارجون في سبيل الله لطلب علم أو تعليمه أو جهاد لأعدائه.
الآمرون بالمعروف: أي بعبادة لله الله تعالى وتوحيده فيها.
الناهون عن المنكر: أي عن الشرك والمعاصي.
والحافظون لحدود الله: أي القائمون عليها العاملون بها.
وبشر المؤمنين: أي بالجنة دار السلام.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال المتخلفين عن الجهاد ذكر فضل الجهاد ترغيباً فيه وفيما أعد لأهله(2/428)
فقال {إن الله اشترى1 من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن2 لهم الجنة} وهذا هو المُثَّمَن الذي أعطى الله تعالى فيه الثمن وهو الجنة، وقوله {يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون} أي أعداء الله المشركين {ويقتلون} 3 أي يستشهدون في معارك القتال وقوله {وعداً عليه حقاً4 في التوراة والإنجيل والقرآن} أي وعدهم بذلك وعداً وأحقه حقاً أي أثبته في الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن تقريراً له وتثبيتاً وقوله {ومن أوفى بعهده من الله} استفهام بمعنى النفي أي لا أحد مطلقاً أوفى بعهده إذا عاهد من الله تعالى وقوله {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} فبناء على ذلك فاستبشروا5 أيها المؤمنون ببيعكم الذي بايعتم الله تعالى به أي فسروا6 بذلك وافرحوا وذلك البيع والاستبشار هو الفوز العظيم الذي لا فوز خير ولا أعظم منه.
وقوله {التائبون} 7 قوله: {والحافظون لحدود الله} هو ذكر لأوصاف أهل البيع وتحديد لهم فهم الموصوفون بتسع صفات الأولى التائبون أي من الشرك والمعاصي والثانية العابدون وهم المطيعون لله طاعة ملؤها المحبة لله تعالى والتعظيم له والرهبة منه والثالثة الحامدون لله تعالى في السراء والضراء وعلى كل حال والرابعة السائحون وهم الصائمون كما في الحديث8 والذين يخرجون في سبيل الله لطلب علم أو غزو أو تعليم أو دعوة إلى الله تعالى ليُعْبد ويوحَّد ويُطاع في أمره ونهيه والخامسة والسادسة الراكعون الساجدون أي المقيمون الصلاة المكثرون من نوافلها كأنهم دائماً في ركوع وسجود والسابعة والثامنة الآمرون بالمعروف وهو الإيمان بالله وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله
__________
1 حصل هذا لبعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيعة العقبة، إذ قال عبد الله بن رواحة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشترط لربي أن تعبده ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فإذا فمنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل".
2 الباء في الشراء تدخل على الثمن تقول: بعتك الدار بكذا ألفاً، ولذا قال هنا: {بأن لهم الجنة} فالجنة هي الثمن المشتري به الأنفس والأموال.
3 قوله تعالى {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} بيَّن فيه مكان تسليم البضاعة المشتراه وهي الأنفس.
4 {وعدا} و {حقا} مصدران مؤكدان.
5 أي: أظهروا السرور على بشرة وجوهكم.
6 فسُرُّوا: أي أظهروا السرور.
7 {التائبون} هم الراجعون من الحالة المذمومة إلى الحالة المحمودة والتائب: الراجع، والراجع إلى الطاعة أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين.
8 روى الطبراني عن عائشة رضي الله عها أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام، ورواه أبو هريرة مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سياحة أمتي الصيام" وروي أيضاً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله".(2/429)
والناهون عن المنكر وهو الكفر به تعالى والشرك في عبادته ومعصية رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتاسعة الحافظون لحدود الله بالقيام عليها1 وعملها بعد العلم بها وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} وهم أهل الإيمان الصادق الكامل المستحقون لبشرى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنصر والتأييد في الدنيا والنجاة من النار ودخول الجنة يوم القيامة اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله تعالى ومننه على عباده المؤمنين حيث وهبهم أرواحهم وأموالهم واشتراها منهم.
2- فضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
3- على المؤمن أن يشعر نفسه أن بدنه وماله لله تعالى وأن عليه رعايتهما وحفظهما حتى ترفع راية الجهاد ويطالب إمام المسلمين بالنفس والمال فيقدم نفسه وماله إذ هما وديعة الله تعالى عنده.
4- على المؤمن أن لا يدخل الضرر على نفسه ولا على ماله بحكم أنهما لله تعالى.
5- على المؤمن أن يتعاهد نفسه ليرى هل هو متصف بهذه الصفات التسع أولاً فإن رأى نقصاً كمله وإن رأى كمالاً حمد الله تعالى عليه وحفظه وحافظ عليه.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
__________
1 أي: القائمون بما أمر الله به، والمنتهون عمّا نهى عنه فحدود الله شرعه وهو فعل وترك، ففعل الأمر وترك النهي هو الحفظ.(2/430)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116)
شرح الكلمات:
أن يستغفروا للمشركين: أي يسألون الله تعالى لهم المغفرة.
أولي قربى: أصحاب قرابة كالأُبَّوة والبُنَّوة والأُخوة.
موعدة: أي وعدٌّ وعده به.
تبرأ منه.: أي قال: إني بريء منك.
أواه حليم: الأواه: كثير الدعاء والشكوى إلى الله تعالى والحليم الذي لا يغضب ولا يؤاخذ بالذنب.
ما يتقون: أي ما يتقون الله تعالى فيه فلا يفعلوه أو لا يتركوه.
من ولي: الولي من يتولى أمرك فيحفظك ويعينك.
معنى الآيات:
لما مات أبو طالب1 على الشرك بعد أن عرض عليه الرسول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فأبى أن يقولها وقال هو على ملة عبد المطلب قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عن ذلك، واستغفر بعض المؤمنين أيضاً لأقربائهم الذين ماتوا على الشرك، أنزل الله تعالى قوله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} إذ ماتوا على الشرك ومن مات على الشرك قضى الله تعالى بأنه في النار أي ما صح ولا انبغى2 للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا أي ما صح
__________
1 روى مسلم أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عم قل "لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما تكلم به: هو على ملّة عبد المطلب وأبي أن يقول لا اله إلا الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما والله لأستغفرن لك مالم أُنه عنك".
2 فإن قيل: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم أحد "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وهو طلب مغفرة، وطلب المغفرة هو الاستغفار. فالجواب: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ما قاله على سبيل الحكاية لا غير. إذ ذكر البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبر عنه بأنَّه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.(2/431)
ولا انبغى استغفارهم. ولما قال بعضٌ إن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك قال تعالى جواباً {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} وهي قوله: {سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً} لكنه عليه السلام لما تبين له أن أباه عدو لله أي مات على الشرك تبرأ منه ولم يستغفر له، وقوله {إن إبراهيم لأواه حليم} 1 تعليل لمواعدة إبراهيم أباه بالاستغفار له لأن إبراهيم كان كثير الدعاء والتضرع والتأسف والتحسر فلذا واعد أباه، بالاستغفار له وقوله تعالى {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} هذه الآية نزلت رداً على تساؤلات الذين قالوا متندمين لقد كنا استغفرنا لأقاربنا المشركين فخافوا فأخبرهم تعالى أنه ليس من شأنه تعالى أن يضل قوماً بعد إذ هداهم إلى الصراط المستقيم حتى يبين لهم ما يتقون وأنتم استغفرتم لأقربائكم قبل أن يبين لكم أنه حرام. ولكن إذا أراد الله أن يضل قوماً2 بيّن لهم ما يجب أن يتقوه فيه فإذا لم يتقوه أضلهم. وقوله تعالى {إن الله بكل شيء عليم} فلا يضل إلا من يستحق الضلال كما أنه يهدي من يستحق الهداية وذلك لعلمه بكل شيء وقوله تعالى {له ملك السموات والأرض} أي خلقاً وملكاً وتصرفاً فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء يحيى ويميت يحيي بالإيمان ويميت بالكفر ويحيى الأموات ويميت الأحياء لكامل قدرته وعظيم سلطانه وقوله {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} أي ليس لكم من يتولاكم إذا تخلى عنكم وليس لكم من ينصركم إذا خذلكم فلذا وجبت طاعته والاتكال عليه، وحرم الالتفات إلى غيره من سائر خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الاستغفار لمن مات على الشرك لأن الله لا يغفر أن يشرك به فلذا لا يطلب منه شيء أخبر أنه لا يفعله.
2- وجوب الوفاء بالوعود والعهود.
__________
1 ذكروا لكملة أواه عشرة تأويلات وما ذُكر في التفسير أولى بها كلها ولو قلنا إن الأواه كثير قول: أوّاه تأسفا وتحسرا وشفقة ورحمة لكان أولى بدلالة اللفظ عليه.
2 شاهد هذا قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول} : فإنه يأمرهم أولا وينهاهم فإن لم يمتثلوا استحقوا العذاب.(2/432)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
3- ليس من سنة الله تعالى في الناس أن يضل عباده قبل أن يبين لهم ما يجب عليهم عمله أو اتقاؤه.
4- ليس للعبد من دون الله من ولي يتولاه ولا نصير ينصره ولذا وجبت ولاية الله بطاعته واللجوء إليه بالتوكل عليه.
النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
شرح الكلمات:
المهاجرين: الذين هجروا ديارهم من مكة وغيرها ولحقوا برسول الله بالمدينة.
الأنصار: هم سكان المدينة من الأوس والخزرج آمنوا ونصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ساعة العسرة 1: هي أيام الخروج إلى تبوك لشدة الحر والجوع والعطش.
يزيغ قلوب: أي تميل عن الحق لشدة الحال وصعوبة الموقف.
الثلاثة الذين خلفوا: هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.
__________
1 لفظ الساعة يطلق على ظرف الزمان يطول ويقصر فقد أطلق على يوم القيامة وأطلق على ستين دقيقة، والمراد بالساعة: أيام غزوة تبوك.(2/433)
بما رحبت: أي على اتساعها ورحابتها.
أن لا ملجأ: أي إذ لا مكان للُّجوء فيه والهرب إليه.
الصادقين: في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم والصدق ضد الكذب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة تبوك وفي هذه الآيات الثلاث إعلان عن شرف وكرامة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه البررة من الأنصار والمهاجرة إذ قال تعالى {لقد تاب الله1 على النبي والمهاجرين والأنصار} أي أدامها (التوبة) وقبلها وقوله {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} 2 أي عند خروجه إلى تبوك في الحر الشديد والفاقة الشديدة وقوله {من بعد ما كاد يزيغ قلوبك3 فريق منهم} وذلك لصعوبة الحال وشدة الموقف لقد عطشوا يوماً كما قال عمر رضي الله عنه كان أحدنا يذبح بعيره ويعصر فرثه فيشرب ماءه ويضع بعضه على كبده فخطر ببعض القوم خواطر كادت القلوب تزيغ أي تميل عن الحق ولكن الله تعالى ثبتهم فلم يقولوا سوءاً ولم يعملوه لأجل هذا أعلن الله تعالى في هذه الآيات عن كرامتهم وعلو مقامهم ثم تاب عليهم إنه هو التواب الرحيم وقوله {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ومعنى خلفوا أرجئوا في البت في توبتهم إذ تقدم قوله تعالى {وآخرون مرجون لأمر الله} فقد تخلفت توبتهم خمسين يوماً {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت4 وضاقت عليهم أنفسهم5 وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} فصبروا على شدة ألم النفس من جراء المقاطعة التي أعلنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم انتظاراً لحكم الله لأنهم تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك ولم يكن لهم عذر، فلذا لما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقدم المخلفون فاعتذروا فقبل منهم رسول الله وتاب الله على المؤمنين منهم ولم يتقدم هؤلاء الثلاثة ليعتذروا خوفاً من الكذب فآثروا جانب
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت التوبة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} ؟ وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.
(العسرة) صعوبة الأمر، قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر أي: (المركوب) وعسرة الزاد وعسرة الماء قال ابن عرفة: سمي جيش غزوة تبوك جيش العسرة: لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب الناس إلى الغزو في حمارة الغيظ فغلظ عليهم وعسر.
3 تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وتلك سنته مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب أمطر عليهم سحائب رحمته فأحيا قلوبهم.
4 {رحبت} بمعنى: اتسعت، وما: مصدرية، أي ضاقت عليهم الأرض برحبها: أي: على رحبها لأنهم كانوا مهجورين لا يكلمون ولا يعاملون حتى من اقرب الناس إليهم، وفي هذا دليل على مشروعية هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.
5 أي: ضاقت صدورهم بالهمّ.(2/434)
الصدق فأذاقهم الله ألم المقاطعة ثم تاب عليهم وجعلهم مثلاً للصدق فدعا المؤمنين أن يكونوا معهم فقال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} أي اتقوا الله بإتباع أوامره واجتناب نواهيه وكونوا من الصادقين1 في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم تكونوا مع الصادقين في الآخرة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- بيان فضل غزوة العسرة على غيرها من الغزوات "وهي غزوة تبوك".
3- بيان فضل الله على المؤمنين بعصمة قلوبهم من الزيغ في حال الشدة.
4- بيان فضل كعب بن مالك وصاحبيه في صبرهم وصدقهم ولجوئهم إلى الله تعالى حتى فرج عليهم وتاب عليهم وكانوا مثالاً للصدق.
5- وجوب التقوى والصدق في النيات والأقوال والأحوال والأعمال.
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ
__________
1 فسّر (الصادقين) : بأنهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم قال ابن العربي: هذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى.(2/435)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
شرح الكلمات:
ومن حولهم من الأعراب: وهم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم.
ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه: أي يطلبون لأنفسهم الراحة ولنفس رسول الله التعب والمشقة.
ظمأ.: أي عطش.
ولا نصب: أي ولا تعب.
ولا مخمصة: أي مجاعة شديدة.
يغيظ الكفار: أي يصيبهم بغيظ في نفوسهم يحزنهم.
نيلا: أي منالاً من أسر أو قتل أو هزيمة للعدو.
وادياً: الوادي: مسيل الماء بين جبلين أو مرتفعين.
لينفروا كافة.: أي يخرجوا للغزو والجهاد جميعاً.
طائفة.: أي جماعة معدودة.
ليتفقهوا في الدين: أي ليعلموا أحكام الدين وأسرار شرائعه.
ولينذروا قومهم: أي ليخوفوهم عذاب النار بترك العمل بشرع الله.
لعلهم يحذرون: أي عذاب الله تعالى بالعلم والعمل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في آثار أحداث غزوة تبوك فقال تعالى {ما كان لأهل المدينة} 1
__________
1 هذه الآية نزلت تحمل العتاب للمؤمنين أهل المدينة والأحياء المجاورة لها كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك.(2/436)
أي سكانها من المهاجرين والأنصار {ومن حولهم من الأعراب} أي ومن النازلين حول المدينة من الأعراب كمزينة وجهينة وغفار وأشجع وأسلم {أن يتخلفوا عن رسول الله} إذا خرج إلى جهاد ودعا بالنفير العام وفي هذا عتاب ولوم شديد لمن تخلفوا عن غزوة تبوك وقوله {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} أي بأن يطلبوا لأنفسهم الراحة دون نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله {ذلك} أي النهي الدال عليه بصيغة ما كان لأهل المدينة وهي أبلغ من النهي بأداته (لا) لأنه نفي للشأن أي هذا مما لا ينبغي أن يكون أبداً. وقوله {بأنهم لا يصيبهم} بسبب أنهم لا يصيبهم {ظمأ} أي عطش {ولا نصب} أي تعب {ولا مخمصة} 1 أي جوع شديد في سبيل الله أي في جهاد أهل الكفر لإعلاء كلمة الإسلام التي هي كلمة الله {ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار} أي ولا يطأون أرضاً من أرض العدو يغتاظ لها العدو الكافر ويحزن {ولا ينالون من عدو} 2 أي لله تعالى {نيلاً} أي منالاً أي أسرى أو قتلى أو غنيمة منه أو هزيمة له {إلا كتب لهم به عمل صالح} فلهذا لا ينبغي لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يفوتهم هذا الأجر العظيم. وقوله {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} تعليل لتقرير الأجر وإثباته لهم إن هُم خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحسنوا الصحبة والعمل وقول تعالى {ولا ينفقون نفقة} أي في سبيل الله الذي هو هنا الجهاد {صغيرة ولا كبيرة} أي قليلة ولا كثيرة {ولا يقطعون وادياً} ذاهبين إلى العدو أو راجعين {إلا كتب لهم} 3 أي ذلك المذكور من النفقة والسير4 في سبيل الله. وقوله تعالى {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} أي جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه قبل خروجهم في سبيل الله. وقوله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة} 5 أي قبيلة منهم طائفة أي جماعة {ليتفقهوا في الدين} بما
__________
1 أصل المخمصة: ضمور البطن يقال: رجل خمص الباطن أي: ضامره وامرأة خمصانة.
2 يقال: نال الشيء يناله: إذا أصابه، فينالون: بمعنى يصيبون.
3 قال ابن عباس بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. وجاء في الصحيح في شأن الخيل وفيه: "وأمّا التي هي له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات".
4 روى مسلم وأبو داود أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم في المدينة؟ قال حبسهم العذر".
5 هذه الآية دليل على أن الجهاد فرض كفاية ولا يتعين إلا إذا عيّنة الإمام أو هاجم العدو دار قوم مؤمنين فيجب عليهم قتاله كافة كما هي نص في وجوب طلب العلم وهو بالرحلة الطويلة إليه. وفي الحديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهذا الحديث دليل على أن طلب العلم يكون فرض عين ويكون فرض كفاية.(2/437)
يسمعون من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتعلمونه منه {ولينذروا قومهم} عواقب الشرك والشر والفساد {لعلهم يحذرون} ذلك فينجون من خزى الدنيا وعذاب الآخرة هذه الآية نزلت لما سمع المسلمون ورأوا نتائج التخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا لن نتخلف بعد اليوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً ولا نتخلف عن غزو ما حيينا فأنزل الله تعالى هذه الآية يرشدهم إلى ما هو خير وأمثل فقال {فلولا} أي فهلا نفر من كل فرقة منهم أي قبيلة أو حيّ من أحيائهم طائفة فقط وتبقى طائفة منهم بدل أن يخرجوا كلهم ويتركون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فإن خروجهم على هذا النظام أنفع لهم فالذين يبقون مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يخرجون معه إذا خرج يتفقهون في الدين لصحبتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والباقون هم في مهام دينهم أيضاً ودنياهم فإذا رجع أولئك المتفقهون علموا إخوانهم ما فاتهم من العلم وأسرار الشرع كما أن الذين ينفرون إلى الجهاد قد يشاهدون من نصر الله لأوليائه وهزيمته لأعدائه ويشاهدون أيضاً ضعف الكفار وفساد قلوبهم وأخلاقهم وسوء حياتهم فيعودون إلى إخوانهم فينذرونهم ما عليه أهل الكفر والفساد فيحذرون منه ويتجنبونه وفي هذا خير للجميع وهو معنى قوله تعالى {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} .
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- وجوب إيثار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النفس بكل خير بل بالحياة كلها.
2- بيان فضل السير في سبيل الله، وما فيه من الأجر العظيم.
3- فضل الإحسان وأهله.
4- تساوي فضل طلب العلم والجهاد على شرط النية الصالحة في الكل وطالب العلم لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان يتعلم ليعلم فيعمل فيعلم مجاناً في سبيل الله والمجاهد لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان لإعلاء كلمة الله خاصة.
5- حاجة الأمة إلى الجهاد والمجاهدين كحاجتها إلى العلم والعلماء سواء بسواء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)(2/438)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
شرح الكلمات:
آمنوا: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
الذين يلونكم: أي يلون بلادكم وحدودها.
من الكفار: من: بيانية، أي الكافرين.
وليجدوا فيكم غلظة: أي قوة بأس وشدة مراس ليرهبوكم وينهزموا أمامكم.
مع المتقين: أي بنصره وتأييده والمتقون هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والخروج عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة.
معنى الآية الكريمة:
لما طهرت الجزيرة من الشرك وأصبحت دار إسلام وهذا في أخريات حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بعد غزوة تبوك أمر الله تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهاد في سبيله بعد وفاة نبيه وأرشدهم إلى الطريقة التي يجب أن يتبعوها في ذلك وهي: أن يبدأوا بدعوة وقتال أقرب كافر منهم والمراد به الكافر المتاخم لحدودهم كالأردن أو الشام أو العراق مثلاً فيعسكروا على مقربة منهم ويدعونهم إلى خصلة من ثلاث: الدخول في دين الله الإسلام أو قبول حماية المسلمين لهم بدخولهم البلاد وضرب الجزية على القادرين منهم مقابل حمايتهم وتعليمهم وحكمهم بالعدل والرحمة الإسلامية أو القتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم فإذا ضمت أرض هذا العدو إلى بلادهم وأصبحت لهم حدود أخرى فعلوا كما فعلوا أولاً وهكذا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فتسعد البشرية في دنياها وآخرتها. وأمرهم أن يعلموا أن الله ما كلفهم بالجهاد إلا وهو معهم وناصرهم ولكن على شرط أن يتقوه في أمره ونهيه فهذا ما دلت عليه الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا1 قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} 2 أي قوة بأس وشدة مراس في الحرب {واعلموا3 أن الله مع المتقين} أي بنصره وتأييده.
__________
1 توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه إيماء إلى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغزو لله بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب، وفعلا فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما غزا بعد تبوك وإنما حجّ حجة الوداع وبعدها بواحد وثمانين يوماً استأثر الله تعالى بروحه الطاهرة الشريفة.
2 {غلظة} مثلثة الغين غُلظة الكسر لغة الحجاز، والضم لغة بني تميم، والمراد الجرأة على القتال والصبر عليه مع العنف. والشدة في القتل والقصد من هذا إلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يخشوا قتال المسلين.
3 افتتاح الجملة بـ اعلموا: للاهتمام بما يراد العلم به، وفي الجملة تسلية للمؤمنين بعد فقد نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله معهم بالنصر والتأييد فاتقوه بلزوم طاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرهما ونهيهما في السلم والحرب.(2/439)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة
1- وجوب الجهاد واستمراريته إلى أن لا تبقى فتنة أو شرك أو اضطهاد لمؤمن ويكون الدين والحكم كلاهما لله تعالى.
2- مشروعية البداءة في الجهماد بأقرب الكفار إلى بلاد المسلمين من باب (الأقربون أولى بالمعروف) .
3- إذا اتسعت بلاد الإسلام تعين على أهل كل ناحية قتال من يليهم الأقرب فالأقرب.
4- وعد الله بالنصر والتأييد لأهل التقوى العامة والخاصة.
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127)
شرح الكلمات:
سورة: أي قطعة من القرآن وسواء كانت آيات من سورة أو سورة بكاملها وحدها.
زادته إيماناً: أي السورة قَوَّت إيمانه وزادت فيه لأنها كالغيث النافع.
يستبشرون: فرحين بفضل الله تعالى عليهم.(2/440)
في قلوبهم مرض: أي شك ونفاق وشرك.
فزادتهم رجساً: أي نجساً إلى نجس قلوبهم ونفوسهم.
يفتنون: أي يمتحنون.
ولا هم يذكرون: أي لا يتعظون لموات قلوبهم.
صرف الله قلوبهم: دعاء عليهم بأن لا يرجعوا إلى الحق بعد انصرافهم عنه.
لا يفقهون: أي لا يفهمون أسرار الخطاب لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.
معنى الآيات..
هذا آخر حديث عن المنافقين في سورة براءة الفاضحة للمنافقين يقول تعالى {وإذا ما أنزلت سورة} 1 أي من سور القرآن التي بلغت 114 سورة نزلت وتليت وهم غائبون عن المجلس الذي تليت فيه، فمنهم أي من المنافقين من يقول: {أيكم زادته هذه إيماناً} 2 وقولهم هذا تهكم منهم وازدراء قال تعالى {فأما الذين آمنوا} بحق وصدق {فزادتهم إيماناً} لأنها نزلت بأحكام أو أخبار لم تكن عندهم فآمنوا بها لما نزلت فزاد بذلك إيمانهم وكثر كما كان أن إيمانهم يقوى حتى يكون يقيناً بما يتنزل من الآيات وقوله {وهم يستبشرون} أي فرحون مسرورون بالخبر الذي نزل والقرآن كله خير كما هم أيضاً فرحون بإيمانهم وزيادة يقينهم {وأما الذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق {فزادتهم رجساًَ} 3 أي شكاً ونفاقاً {إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} . وقوله تعالى {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين} 4 أي أيستمر هؤلاء المرضى بالنفاق على نفاقهم ولا يرون أنهم يفتنون أي من أجل نفاقهم مرة أو مرتين أي يختبرون بالتكاليف والفضائح وغيرها {ثم لا يتوبون} من نفاقهم {ولا هم يذكرون} فيتعظون فيتوبون هذا ما دلت عليه الآيات الأولى (124) والثانية (125) والثالثة (126) أما الآية الرابعة (127) فقد تضمنت سوء حال هؤلاء المنافقين وقبح سلوكهم فسجَّلت عليهم وصمة عار وخزي إلى يوم القيامة إذ قال
__________
1 {ما} صلة لتقوية الكلام حسب الأسلوب العربي البليغ.
2 الإيمان لغة: التصديق. وشرعاً: تصديق الله ورسوله في كل ما أخبرا به وأركانه ستة ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
3 شكّاً إلى شكّهم، وكفراً إلى كفرهم، وإثما إلى إثمهم إذ الشك والكفر من أعظم الآثام.
4 قال قتادة والحسن ومجاهد: بالغزو والجهاد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويرون ما وعد الله من النصر يُريد يتحقق أمامهم وكأنهم لا يعقلون.(2/441)
تعالى {وإذا ما أُنزلت سورة} 1 أي وهم في المجلس وقرئت على الجالسين وهم من بينهم. {نظر بعضهم إلى بعض} وقال في سرية ومُخافَتَه هيا نقوم من هذا المجلس الذي نعير فيه ونشتم {هل يراكم من أحد} أي من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كان الجواب: لا يرانا أحد انصرفوا متسللين لواذاً قال تعالى في دعاء عليهم: {صرف الله قلوبهم} 2 أي عن الهدى {بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفقهون أسرار الآيات وما تهدي إليه، فعلتهم سوء فهمهم وعلة سوء فهمهم ظلمة قلوبهم وعلة تلك الظلمة الشك والشرك والنفاق والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ زيادة الإيمان ونقصانه زيادته بالطاعة ونقصانه بالعصيان.
2- جواز الفرح بالإيمان وصالح الأعمال.
3- مريض القلب يزداد مرضاً وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن الله في العباد.
4- كشف أغوار المنافقين وفضيحتهم في آخر آية من سورة التوبة تتحدث عنهم.
5- يستحب أن لا يقال انصرفنا3 من الصلاة أو الدرس ولكن يقال انقضت الصلاة أو انقضى الدرس ونحو ذلك.
لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
__________
1 {ما} صلة لتقوية الكلام.
2 هذه الجملة خبرية أخبر تعالى أنه جزاهم على انصرافهم من مجلس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصرف قلوبهم عن الهدى فهم لا يهتدون إذاً أبدا وضمّن الخبر الدعاء عليهم، وقد تحقق معناه وهو صرف قلوبهم.
3 لأنّ الله ذمّ المنافقين لانصرافهم ودعا عليهم بصرف قلوبهم وصرفها ولو قيل انقلبنا من الصلاة أو من الجنازة لكان خيراً لقوله تعالى: {فانقلبوا برحمة من الله وفضل} الآية من سورة آل عمران.(2/442)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
شرح الكلمات:
رسول من أنفسكم: أي محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جنسكم عربي.
عزيز عليه: أي شاق صعب.
ما عنتم: أي ما يشق عليكم ويصعب تحمله.
حريص عليكم: أي حريص على هدايتكم وما فيه خيركم وسعادتكم.
رؤوف: شفيق.
رحيم: برق ويعطف ويرحم.
فإن تولوا: أي أعرضوا عن دين الله وما جئت به من الهدى.
حسبي الله: أي كافيّ الله.
لا إله إلا هو.: أي لا معبود بحق إلا هو.
توكلت: أي فوضت أمري إليه واعتمدت عليه.
رب العرش العظيم: عرش الله تعالى لا أعظم منه إلا خالقه عز وجل إذ كرسيه تعالى وسع السموات والأرض ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة.
معنى الآيتين الكريمتين:
في ختام سورة التوبة يقول الله تعالى لكافة العرب: {لقد جاءكم رسول} 1 أي كريم عظيم {من أنفسكم} 2 عدناني قرشي هاشمي مُطًَّلِبي تعرفون نسبه وصدقه وأمانته. {عزيز عليه ما عنتم} 3 أي يشق عليه ما يشق عليكم ويؤلمه ما يؤلمكم لأنه منكم ينصح لكم نصح القومي لقومه. {حريص عليكم} أي على هدايتكم وإكمالكم وإسعادكم
__________
1 روي عن أبي أنه قال: هاتان الآيتان أقرب القرآن بالسماء عهدا وهذا لا ينافي أنّ آخر ما نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} .
2 قرىء: {من أنفسكم} أي: أشرفكم وأفضلكم إذ هو من النفاسة وهي تعلّق نفوس البشر بما هو أجمل وأكمل. وقراءة الجمهور أولى وهي الضم أي: من أنفسكم إذ ما من قبيلة من فبائل العرب إلا وولدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وشاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية مسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم " وفي لفظ: "فأنا خيار من خيار" وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك.
3 {ما} مصدرية تُسبكُ مع الفعل بمصدر فيكون الكلام عزيز عليه ما عنتكم والعنت: التعب، وهو مصدر عنت يعنت عنتا. كأنّه يشير إلى أنّ ما لاقاه أصحابه من عنت أيام كانوا يحاربون أهليهم، وذويهم وما نالهم من الغربة والفاقة، والحرب كل ذلك كان يعزّ عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويألم له فصلى الله وسلم عليه ما أرحمه وأوفاه!!(2/443)
{بالمؤمنين} منكم ومن غيركم من سائر الناس {رؤوف رحيم} أي شفوق عطوف يحب رحمتهم وإيصال الخير لهم. إذا فآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به تهتدوا وتسعدوا ولا تكفروا فتضلوا وتشقوا. وقوله تعالى {فإن تولوا} أي أعرضوا عن دعوتك فلا تأْسَ وقل حسبي الله أي يكفيني ربي كل ما يهمني {لا إله إلا هو} أي لا معبود بحق سواه لذا فإني أعبده وأدعو إلى عبادته، {عليه توكلت} 1 أي في شأني كله {وهو رب العرش العظيم} ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيتين.
من هداية الآيتين:
1- بيان مِنَّه الله تعالى على العرب خاصة وعلى البشرية عامة ببعثه خاتم أنبيائه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- بيان كمال أخلاقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- وجوب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في كل شيء يقوم به العبد.
4- عظمة عرش الرحمن عز وجل.
__________
1 عن أبي الدرداء أنّ من قال: إذا أصبح وإذا أمسى: "حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم: سبع مرات كفاه الله ما أهمّه صادقاً كان أو كاذباً"(2/444)
سورة يونس
مكية1
وآياتها مائة وتسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2)
__________
1 ذكر بعضهم أن منها آيات قليلة مدنية، والظاهر أنها كلها مكية ومن تدبر آياتها من أوله إلى آخره لم ير ما يدعو إلى خلافه.(2/444)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
شرح الكلمات:
الر: هذه السورة الرابعة من السور المفتتحة بالحروف المقطعة نكتب الر وتقرأ ألفْ. لام. را.
الكتاب: أي القرآن العظيم.
الحكيم: القائل بالحكمة والقرآن مشتمل على الحِكَم فهو حكيم ومحكم أيضاً.
عجباً: العجب ما يتعجب منه.
رجل منهم: هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قدم صدق: أي أجراً حسناً بما قدموا في حياتهم من الإيمان وصالح الأعمال.
إن هذا: أي القرآن.
لسحر1 مبين: أي بين ظاهر لا خفاء فيه في كذبهم وادعائهم الباطل.
معنى الآيتين:
مما تعالجه السور المكية قضايا التوحيد والوحي والبعث الآخر وسورة يونس افتتحت بقضية الوحي أي إثباته وتقريره من الله لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى {آلر تلك آيات2 الكتاب الحكيم} 3 أي هذه آيات القرآن الكريم المحكم آياته المشتمل على الحكم الكثيرة حتى لكأنه الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه وقوله تعالى {أكان للناس4 عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} أي أكان ايحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجباً لأهل مكة يتعجبون منه؟ والموحى به هو: {أن أنذر الناس} ، أي خوفهم عاقبة الشرك والكفر والعصيان {وبشر الذين آمنوا} أي بأن لهم قدم5 صدق عند ربهم وهو
__________
1 هذه قراءة نافع.
2 يذكر المفسرون عن السلف توجيهات عدة لهذه الحروف منها: ما رووه عن ابن عباس أن الر: معناها. أنا الله.. وكل ما ذكروه قول بالظن وإنّ الظن أكذب الحديث، ومن الخير تفويض أمر معناها إلى من أنزلها وقد ذكرنا في التفسير، فائدتين عظيمتين فلنكتف بهما.
3 قال مقاتل: الحكيم بمعنى: المحكم من الباطل لا يدخله ففعيل بمّعنى مُفعل واستشهد بقول الأعشى بذكر قصيدته التي قالها:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
4 {أكان للناس عجباً} : الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وعجباً: خبر كان والاسم: أن أوحينا، والتقدير: أكان عجباً للناس إيحاؤونا.
5 ذكر القرطبي في تفسير {قدم صدق} أقوالا متعددة منها: سبق السعادة في الأزل، ومنها: أجر حسن، ومنها: منزل صدق، ومنها: ولد صالح قدّموه ومنها: يؤثر ذلك عن السلف، وما في التفسير هو الراجح إذ رجّحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.(2/445)
الجزاء الحسن لما قدموا من الإيمان وصالح الأعمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الآخرة فلما أنذر وبشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الكافرون هذا سحر مبين ومرة قالوا: ساحر مبين وقولهم هذا لمجرد دفع الحق وعدم قبوله لا أن ما أنذر به وبشر هو سحر، ولا المنذر المبشر هو ساحر وإنما هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي بشهادة الكتاب الموحى به.
2- إثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريرها بالوحي إليه.
3- بيان مهمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي النذارة والبشارة.
4- بشرى أهل الإيمان والعمل الصالح، بما أعد لهم عند ربهم.
5- عدم تورع أهل الكفر عن الكذب والتضليل.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ(2/446)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
شرح الكلمات:
إن ربكم الله: أي معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه وحده هو الله.
خلق السموات والأرض: أي أوجدها من العدم حيث كانت عدماً فأصبحت عوالم.
في ستة أيام: هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، والجمعة.
ثم استوى على العرش: أي استوى استواء يليق به عز وجل فلا يقال كيف؟
ما من شفيع إلا من بعد إذنه: أي لا يشفع أحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له.
أفلا تذكرون: أي أتستمرون في جحودكم وعنادكم فلا تذكرون.
ثم يعيده: أي بعد الفناء والبلى وذلك يوم القيامة.
شراب من حميم: أي من ماء أُحمى عليه وغلى1 حتى أصبح حميماً يشوي الوجوه.
جعل الشمس ضياء2: أي جعلها تضيء على الأرض.
والقمر نوراً.: أي جعل القمر بنور الأرض وهو الذي خلق ضوء الشمس ونور القمر.
وقدره منازل: أي قدر القمر منازل والشمس كذلك.
لتعلموا: أي قدرهما منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب.
يتقون: أي مساخط الله وعذابه وذلك بطاعته وطاعة رسوله.
معنى الآيات:
هذه الآيات في تقرير الألوهية بعد تقرير الوحي وإثباته في الآيتين السابقتين فقوله تعالى {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر} إخبار منه تعالى أنه عز وجل هو رب أي معبود أولئك المشركين به آلهة أصناماً
__________
1 غلى الماء يغلي غليانا إذا اشتدت حرارته ففار دخاناً.
2 الضياء: نور ساطع يضيء للرائي الأشياء وهو اسم مشتق من الضوء فالضياء أقوى من الضوء.(2/447)
يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئاً أما الله فإنه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام بمقدار أيامنا هذه إذ لم تكن يومئذ أياماً كأيام الدنيا هذه، ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله يدبر1 أمر السماء والأرض. هذا هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه. وقوله: {ما من2 شفيع إلا من بعد إذنه} أي وأنه لعظمته وعزة سلطانه لا يقدر أحد أن يشفع لآخر إلا بعد إذنه له فكيف إذاً تعبد هذه الأصنام رجاء شفاعتها لعابديها، والله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؟ وقوله تعالى {ذلكم الله ربكم فاعبدوه} أي هذا الموصوف بهذه الصفات المعرَّف بهذه النعوت من الجلال والكمال هو ربكم الحق فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات تكملوا وتسعدوا وقوله {أفلا تذكرون} هر توبيخ للمشركين لهم لِمَ لا تتعظون بعد سماع الحق. وقوله تعالى {إليه مرجعكم بعد موتكم جميعاً وعد الله حقاً} 3 تقرير لمبدأ البعث الآخر أي إلى الله تعالى ربكم الحق مُرجعكم بعد موتكم جميعاً إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه وقوله {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} 4 أي بالعدل: بيان لعلة الحياة بعد الموت إذ هذه الدار دار عمل والآخرة دار جزاء على هذا العمل فلذا كان البعث واجباً حتماً لا بد منه ولا معنى لإنكاره لأن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى وأحرى وقوله تعالى {والذين كفروا لهم شراب من حميم} أي ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته وعذاب أليم أي موجع إخبار منه تعالى بجزاء أهل الكفر يوم القيامة وهو علة أيضاً للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء وبهذا تقرر مبدأ البعث كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحي إذ على هذه القضايا تدور السور المكية وقوله تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء} أي ذات ضياء والقمر نوراً ذا نور وقدر القمر منازل5 وهي ثمانية وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر، فعل ذلك {لتعلموا عدد السنين والحساب} 6 فتعرفون
__________
1 قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده، وقيل: يأمر به ويمضيه. قال القرطبي: والمعنى متقارب.
2 {ما من شفيع} أي: لا شفيع يشفع إلا بعد إذنه له بالشفاعة.
3 {وعدا} و {حقا} : مصدران بمعنى وعدكم وعدا وأحقه حقا. أي: صدقا لا خلف فيه.
4 الجملة: {انه يبدؤ الخلق} : واقعة موقع الدليل على إنجاز وعده تعالى لأن الذي خلق من تراب وماء قادر على البعث والجزاء.
5 المنازل: جمع منزل، وهو مكان النزول والمراد بها سُمُوتُ بلوغ القمر فيها للناس كل ليلة في سمت منها كأنه ينزل بها، وللشمس منازل تسمى بروجاً وهي اثنا عشر برجا تحل فيها الشمس في فصول السنة لكل برج منزلتان وثلث.
6 {الحساب} مصدر حسُب يحسُب لضم السين حسابا بمدد عدَّ أما حسِب بكسر السين فهو بمعنى ظن ومضارعه يحسب بفتح السين وكسرها لغتان فصيحتان. وبهما قرىء: أيحسب الإنسان وكل يحسب بمعنى يظن.(2/448)
عدد السنوات والشهور والأيام والساعات إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك فهذا الرب القادر على هذا الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ولا تعبدوا سواه فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد له. وقريه {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} أي لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثاً فتفنى وتبلى بعد حين ولا شيء وراء ذلك بل ما خلق ذلك إلا بالحق أي من أجل أن يأمر وينهى ثم يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضاً وقوله {يفصل الآيات} أي هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق {لقوم يعلمون} إذ هم الذين ينتفعون به أما الجهلة فلا ينتفعون بهذا التفصيل والبيان وقوله تعالى في الآية الأخيرة {إن في اختلاف الليل والنهار} أي بالطول والقصر والضياء والظلام {وما خلق الله في السموات والأرض} 1 من أفلاك وكواكب ورياح وأمطار وما خلق في الأرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار وجبال وَوِهاد {لآيات} أي علامات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق وعلى جلاله وجماله وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه فيُعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته والخشية منه غاية الرهبة والخشية ويذكر فلا يُنسى ويشكر فلا يُكفر ويطاع فلا يُعصى وقوله تعالى {لقوم يتقون} 2 خص أهل التقوى بالآيات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته لأنهم هم الذين حقاً يبصرون ذلك ويشاهدونه لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم أما أهل الشرك والمعاصي فهم في ظلمة لا يشاهدون معها شيئاً والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ألوهية الله تعالى وأنه الإله الحق.
2 - تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
3- بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما.
4- مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين؟
__________
1 قوله: {وما خلق الله في السموات والأرض} شمل الأجسام والأحوال معاً أي: الذوات والصفات، والأقوال والأعمال أيضاً إذ قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} .
2 خصهم بالآيات لأنهم هم الذين ينتفعون بها أما أهل الشرك والفجور والمعاصي فلا ينتفعون بها فهي إذاً ليست لهم بل هي لغيرهم ممن ينتفعون بها.(2/449)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
5- فضل العلم والتقوى وأهلهما من المؤمنين.
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا: أي لا ينتظرون ولا يؤملون في لقاء الله تعالى يوم القيامة.
ورضوا بالحياة الدنيا: أي بدلاً عن الآخرة فلم يفكروا في الدار الآخرة.
واطمأنوا بها: أي سكنوا إليها وركنوا فلم يروا غيرها حياة يُعمل لها.
غافلون: لا ينظرون إليها ولا يفكرون فيها.
مأواهم النار: أي النار هي المأوى الذي يأوون إليه وليس لهم سواها.
يهديهم ربهم بإيمانهم1: أي بأن يجعل لهم بإيمانهم نوراً يهتدون به إلى الجنة.
دعواهم فيها سبحانك اللهم2: أي يطلبون ما شاءوا بكلمة سبحانك اللهم.
وآخر دعواهم أن الحمد لله: أي آخر دعائهم: الحمد لله رب العالمين.
معنى الآيات:
بعد تقرير الوحي والأُلوهية في الآيات السابقة ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث
__________
1 قال مجاهد: {يهديهم ربهم} بالنور على الصراط إلى الجنة بأن يجعل لهم نوراً يمشون به، وشاهده قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات الخ} .
2 الدعوى هنا: بمعنى الدعاء يقال: دعوة بالهاء ودعوى بألف التأنيث وسبحان: مصدر بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه.(2/450)
الكريمة بيان جزاء كل ممن كذب بلقاء الله فلم يرجُ ثواباً ولم يخشَ عقاباً ورضيَ بالحياة الدنيا واطمأن بها، وممن آمن بالله ولقائه ووعده ووعيده فآمن بذلك وعمل صالحاً فقال تعالى {إن الذين لا يرجون1 لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} 2 أي سكنت نفوسهم إليها وركنوا فعلاً إليها {والذين هم عن آياتنا غافلون} أي آياته الكونية في الآفاق والقرآنية وهي حُجج الله تعالى وأدلته الدالة على وجوده وتوحيده ووحيه وشرعه غافلون عنها لا ينظرون فيها ولا يفكرون فيما تدل لإنهماكهم في الدنيا حيث أقبلوا عليها وأعطوها قلوبهم ووجوههم وكل جوارحهم. هؤلاء يقول تعالى في جزائهم {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} أي من الظلم والشر والفساد. ويقول تعالى في جزاء من آمن بلقائه ورجا ما عنده {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم} أي إلى طريق الجنة {بإيمانهم} أي بنور إيمانهم فيدخلونها {تجري من تحتهم3 الأنهار في جنات النعيم} . ونعيم الجنة روحاني وجسماني فالجسماني يحصلون عليه بقولهم: سبحانك اللهم، فإذا قال أحدهم هذه الجملة "سبحانك اللهم"4 حضر لديه كل مُشتهى له. والروحاني يحصلون عليه بسلام الله تعالى عليهم وملائكته {وتحيتهم فيها سلام} وإذا فرغوا من المآكل والمشارب قالوا: الحمد لله رب العالمين. وهذا معنى قوله {دعواهم فيها سبحانك اللهم} أي دعاؤهم أي صيغة طلبهم {وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم} أي دعائهم {أن} أي أنه: {الحمد لله رب العالمين} 5
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من نسيان االآخرة والإقبال على الدنيا والجري وراء زخارفها.
__________
1 {لا يرجون لقاءنا} معناه أنهم لا يطلبونه ولا يتوقعونه، ولازم ذلك أنهم لا يخافون عقاباً أخرويا ولا ثوابا.
2 أي: سكنت نفوسهم إليها وصرفوا كل همهم لها طلباً لتحصيل منافعها فلم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الآخرة لأنهم سكنوا إلى الدنيا، والساكن لا يتحرّك ووصف بأنه لها يرضى لها يغضب ولها يفرح ولها يهتم ويحزن.
3 {من تحتهم} من تحت بساتنهم ومن تحت أسرّتهم كذلك وهو أحسن قي النزهة والفرجة.
4 إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة النعيم من طعام وشراب وهو كما قال ابن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء
5 في الآية دليل على إطلاق لفظ التسبيح على الدعاء وشاهده: دعوة ذي النون: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وفيها دليل على مشروعية بل سنية بدء الطعام والشراب ببسم الله. وإنهائه بحمد الله تعالى كما هي السنة في ذلك.(2/451)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
2- التحذير من الغفلة بعدم التفكر بالآيات الكونية والقرآنية إذ هذا التفكير هو سبيل الهداية والنجاة من الغواية.
3- الإيمان والعمل الصالح مفتاح الجنة والطريق الهادي إليها.
4- نعيم الجنة روحاني وجسماني وهو حاصل ثلاث كلمات هي:
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
شرح الكلمات:
الشر: كل ما فيه ضرر في العقل أو الجسم أو المال والولد، والخير عكسه: ما فيه نفع يعود على الجسم أو المال أو الولد.
لقضي إليهم أجلهم: لهلكوا وماتوا.
فنذر: أي نترك.
في طغيانهم يعمهون: أي في ظلمهم وكفرهم يترددون لا يخرجون منه كالعميان.
الضر: المرض وكل ما يضر في جسمه، أو ماله أو ولده.(2/452)
مر كأن لم يدعنا: مضى في كفره وباطله كأن لم يكن ذاك الذي دعا بكشف ضره.
كذلك زين 1: مثل ذلك النسيان بسرعة لما كان يدعو لكشفه، زين للمسرفين إسرافهم في الظلم والشر.
القرون: أي أهل القرون.
بالبينات: بالحجج والآيات على صدقهم في دعوتهم.
خلائف: أي لهم، تخلفونهم بعد هلاكهم.
معنى الآيات:
هذه الفترة التي كانت تنزل فيها هذه السورة المكية كان المشركون في مكة في هيجان واضطراب كبيرين حتى إنهم كانوا يطالبون بنزول العذاب عليهم إذ ذكر تعالى ذلك عنهم في غير آية من كتابه منها {سأل سائل بعذاب واقع} ومنها {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى {ولو يعجِّل الله للناس الشر} 2 أي عند سؤالهم إياه3، أو فعلهم ما يقتضيه كاستعجاله الخير لهم {لقضي إليهم أجلهم} أي لهلكوا الهلاك العام وانتهى أجلهم في هذه الحياة، وقوله تعالى {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} أي لم نعجل لهم العذاب فنذر الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يؤمنون بلقائنا وما عندنا من نعيم وجحيم نتركهم في طغيانهم في الكفر والظلم والشر والفساد يعمهون حيارى يترددون لا يعرفون مُتجهاً ولا مخرجاً لما هم فيه من الضلال والعمى.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (11) أما الآية الثانية (12) فقد تضمنت بيان حقيقة وهي أن الإنسان الذي يعيش في ظلمة الكفر ولم يستنر بنور الإيمان إذا مسه الضر وهو
__________
1 قال القرطبي وهو صادق، كما زيّن لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء زيّن للمسرفين في الشرك والمعاصي أعمالهم في دلك.
2 فسّر الشرّ بالعقوبة إذ الشر كل ما يلحق الضرر بالإنسان عاجلاً أو آجلاً، والعقوبة كلها شر إذ هي عذاب انتقام ينزل بصاحبه.
3 قال مجاهد: هذه الآية نزلت في الرجل يدعر على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب. اللهم أهلكه اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضى إليهم أجلهم. ولا أحسب أنّ الآية نزلت في هذا وإنما هي شاهد لما قال فقط، وشاهد آخر رواه البزار وأبو داود وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم".(2/453)
المرض والفقر وكل ما يضر دعا ربه على الفور لجنبه أو قاعداً أو قائماً يا رباه يا رباه فإذا استجاب الله له وكشف ما به من ضر مرَّ كأن لم يكن مرض ولا دعا واستجيب له واستمر في كفره وظلمه وغيِّه. وقوله تعالى {كذلك زُين للمسرفين ما كانوا يعملون} أي كما أن الإنسان الكافر سرعان ما ينسى ربه الذي دعاه ففرج ما به كذلك حال المسرفين في الظلم والشر فإنهم يرون ما هم عليه هو العدل والخير ولذا يستمرون في ظلمهم وشرهم وفسادهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} .
وقوله تعالى في الآية الثالثة {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} هذا خطاب لأهل مكة يخبرهم تعالى مهدداً إياهم بإمضاء سنته فيهم بأنه أهلك أهل القرون من قبلهم لَمَّا ظلموا أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات1 أي بالآيات والحجج، وأبوْا أن يؤمنوا لِما ألفوا من الشرك والمعاصي فأهلكهم كعاد وثمود وأصحاب مدين وقوله تعالى {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي مثل ذلك الجزاء بالإهلاك العام نجزي القوم المجرمين في كل زمان ومكان إن لم يؤمنوا ويستقيموا. وقوله تعالى {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} أي يقول لمشركي العرب من أهل مكة وغيرها، ثم جعلناكم خلائف2 في الأرض بعد إهلاك من قبلكم لننظر3 كيف تعملون فإن كان عملكم خيراً جزيناكم به وإن كان سوءاً جزيناكم به وتلك سنتنا في عبادنا وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر رحمة الله بعباده إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عندما يطلبونه لأهلكهم وقضى إليهم أجلهم فماتوا.
2- يعصي الله العصاةُ ويكفر به الكافرون وبتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب لعلهم يرجعون.
__________
1 أي: بالمعجزات الواضحات كالتي آتى بها موسى وعيسى عليهما السلام.
2 الخلائف: جمع خليفة وحرف ثم مُؤذن ببعد ما بين الزمانين، والأرض: هي أرض العرب إذ هم الذين خلفوا عاداً وثموداً وقبلهما طسما وجديساً.
3 هذا التعليل كقوله تعالى: {هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا} إذ علَّة الوجود هي أن يذكر الله ويشكر، فمن ذكره وشكره أكرمه وأسعده ومن كفره ونساه عذّبه وأشقاه.(2/454)
3- بيان أن الإنسان الكافر يعرف الله عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه فإذا نجاه عاد إلى الكفر به كأن لم يكن يعرفه.
4- استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مُزين لهم1 حسب سنة الله تعالى. فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج.
5- وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا.
6- كل الناس أفراداً وأمماً مُمهَلُون مُراقَبُون في أعمالهم وسلوكهم ومَجزيون بأعمالهم خيرها وشرها لا محالة.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
__________
1 شاهده قوله تعالى: {كذلك زيّنا لكلّ أمة عملهم} من سورة الأنعام.(2/455)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا: أي لا يؤمنون بالبعث والدار الآخرة.
من تلقاء نفسي: أي من جهة نفسي.
ولا أدراكم به: أي لا أعلمكم به.
عمراً من قبله: أي أربعين سنة قبل أن يوحى إليّ.
المجرمون: المفسدون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
ما لا يضرهم: أي إن لم يعبدوه.
ومالا ينفعهم: أي إن عبدوه.
أتنبئون: أي أتعلمون وتخبرون الله.
سبحانه: أي تنزيها له.
عما يشركون: أي به معه من الأصنام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير قضايا أصول الدين الثلاث: التوحيد والوحي والبعث فقوله تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا} أي إذا قرئت عليهم آيات الله عز وجل {قال الذين لا يرجون لقاءنا} 1 وهم المنكرون للبعث إذ به يتم اللقاء مع الله تعالى للحساب والجزاء. {إئت بقرآن غير هذا} أي بأن يكون خالياً من عيب آلهتنا وانتقاصها. أو أبَقه ولكن بدل كلماته بما لا يسوءنا فاجعل مكان آية فيها ما يسوءنا آية أخرى لا إساءة فيها لنا وقولهم هذا إما أن يكون من باب التحدي أو الاستهزاء والسخرية2 ولكن الله تعالى علَّم رسوله طريقة الرد عليهم بناء على ظاهر قولهم فقال له {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} أي إنه لا يتأتَّى لي بحال أن أبدله من جهة نفسي لأني عبد الله ورسوله ما اتبع إلا ما يوحى
__________
1 عن مجاهد: أن المطالبين بهذا هم خمسة أنفار: عبد الله بن أميّة والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس والعاصي بن عامر قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إئت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللاّت والعزّى ومناة وهبل وليس فيه عيبها.
2 وإمّا أن يكون من باب توهمهم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي به من تلقاء نفسه إلاّ أنّ هذا الاحتمال ضعيف.(2/456)
إلى {إني1 أخاف إن عصيت ربي} بتبديل كلامه {عذاب يوم عظيم} أي عذاب يوم القيامة وقوله {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} أي قل لهم رداً على طلبهم: لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم، ولا أدراكم هو به أي ولا أعلَمكم فالأمر أمره وأنا لا أعصيه ويدل لكم على صحة ما أقول: إني لبثت فيكم عمراً2 أي أربعين سنة قبل أن آتيكم به {أفلا تعقلون} : معنى ما أقول لكم من الكلام وما أذكر لكم من الحجج؟.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (15- 16) أما الآية الثالثة فقد تضمنت التنديد بالمجرمين الذين يكْذِبون على الله تعالى بنسبة الشريك إليه ويكذِّبون بآياته ويجحدونها فقال تعالى {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} 3 أي لا أحد أظلم منه {أو كذب بآياته} بعدما جاءته أي لا أحد أظلم من الاثنين، وقوله تعالى {إنه لا يفلح المجرمون} دل أولاً على أن المذكورين مجرمون وأنهم لا يفلحون شأنهم شأن كل المجرمين. وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا. وقوله تعالى في الآية الرابعة {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} أي من الأصنام {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} 4 وهم في ذلك كاذبون مفترون فلذا أمر الله أن يرد عليهم بقوله {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} إذ لو كان هناك من يشفع عنده لعلِمَهُم وأخبر عنهم فلم الكذب على الله والافتراء عليه ثم نزه الله تعالى نفسه عن الشرك به والشركاء له فقال {سبحانه وتعالى عما يشركون} .
هداية الآلات
من هداية الآيات
1- من الدعوة إلى الله تعالى تلاوة آياته القرآنية على الناس تذكيراً وتعليماً.
__________
1 جملة: {إنّي أخاف} جملة تعليلية لجملة: {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} .
2 العمر: الحياة مشتق من العمران، لأنّ مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الأرضي، ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش الإنسان مقدارها لكان أخذ حظه من البقاء. والمراد من قوله {عمراً} أي: لبثت بينكم مدة عمر كامل. إذ هي أربعون سنة.
3 في هذه الآية زيادة ردَّ على المطالبين بتبديل القرآن إذ تبديله ظلم والزيادة فيه كذب على الله تعالى ولا أحد أظلم ممن يفترى على الله الكذب، فكيف يسوغ لي أن افتري على الله الكذب أو أبدل كلامه.
4 إن قولهم: هؤلاء {شفعاؤنا} لأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر هو غاية الجهل، ومرادهم من شفاعتها أنها تشفع لهم عند الله في إصلاح معاشهم في الدنيا.(2/457)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
2- بيان ما كان عليه المشركون من تعنت وجحود ومكابرة.
3- كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش أربعين سنة لم يعرف فيها علماً ولا معرفة ثم برز في شيء من العلوم والمعارف فتفوق وفاق كل أحد دليل على أنه نبي يوحى إليه قطعاً.
4 - لا أحد أظلم من أحد رجلين رجل يكذب على الله تعالى وآخر يكذِّب الله تعالى.
5- إبطال دعوى المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله يوم القيامة.
6- بيان سبب عبادة المشركين لآلهتهم وهو رجاؤهم شفاعتها لهم.
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20)
شرح الكلمات:
أمة واحدة: أي على دين واحد هو الإسلام.
فاختلفوا: أي تفرقوا بأن بقى بعض على التوحيد وبعض على الشرك.
كلمة سبقت: بإبقائهم إلى آجالهم ومجازاتهم يوم القيامة.
آية: خارقة كناقة صالح عليه السلام.
إنما الغيب لله: أي إن علم الآية متى تأتي من الغيب والغيب لله وحده فلا أنا ولا أنتم تعلمون إذاً فانتظروا إنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى رسوله بحقيقة علمية تاريخية من شأن العلم بها المساعدة على الصبر والتحمل فيقول {وما كان الناس إلا أمة واحدة} أي في زمن سابق أمة واحدة على دين التوحيد دين الفطرة ثم حدث أن أحدثت لهم شياطين الجن والإنس البدع والأهواء(2/458)
والشرك فاختلفوا فمنهم من ثبت على الإيمان والتوحيد ومنهم من كفر بالشرك والضلال. وقوله تعالى {ولولا كلمة سبقت من ربك} 1 وهي أنه لا يعجل العذاب للأمم والأفراد بكفرهم وإنما يؤخرهم إلى آجالهم ليجزيهم في دار الجزاء بعذاب النار يوم القيامة لولا كلمته والتي هي {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} لعجل لهم العذاب فحكم بينهم بأن أهلك الكافر وأنجى المؤمن.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (19) أما الآية الثانية (20) فيخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا {لولا أنزل عليه آية من ربه} 2 أي هلاَّ أُنزل على محمد آية خارقة من ربه لنعلم ونستدل بها على أنه رسول الله وقد يريدون بالآية عذاباً فلذا أمر الله رسوله أن يرد عليهم بقوله {إنما الغيب لله} فهو وحده يعلم متى يأتيكم العذاب وعليه {فانتظروا إني معكم3 من المنتظرين} ولم تطل مدة الانتظار ونزل بهم العذاب ببدر فهلك رؤساؤهم وأكابر المستهزئين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأصل هو التوحيد والشرك طارىء.
2- الشر والشرك هما اللذان يحدثان الخلاف في الأمة والتفرق فيها أما التوحيد والخير فلا يترتب عليهما خلاف ولا حرب ولا فرقة.
3- بيان علة بقاء أهل الظلم والشرك يظلمون ويفسدون إلى آجالهم.
4- الغيب كله لله فلا أحد يعلم الغيب إلا الله ومن علَّمه الله شيئاً منه وهذا خاص بالرسل لإقامة الحجة على أممهم.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ
__________
1 في الآية إشارة إلى القضاء والقدر أي: لولا ما سق في حكمه أنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة.
2 يريدون معجزة كمعجزات صالح وموسى وعيسى عليهم السلام أو آية غير القرآن كأن يحيي لهم الموتى أو يجعل الجبل ذهباً أو يكون له بيت من زخرف.
3 في الجملة تعريض بتهديدهم على جراءتهم على الله ومطالبتهم بالآيات، والآيات القرآنية معرضون عنها وهي أعظم مما يطلبون.(2/459)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
(21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
شرح الكلمات:
رحمة: أي مطر بعد قحط أو صحة بعد مرض أو غنى بعد فاقة.
ضراء: حالة من الضر بالمرض والجدب والفقر.
مكر في آياتنا: أي استهزاء بها وتكذيب.
إن رسلنا: أي الحفظة من الملائكة.
يسيركم1: أي يجعلكم تسيرون بما حولكم من مراكب وما يسر لكم من أسباب.
بريح طيبة.: أي مناسبة لسير السفن موافقة لغرضهم.
ريح عاصف: أي شديدة تعصف بالشجر فتقتلعه والبناء فتهدمه.
وأحيط بهم: أي أحدق بهم الهلاك من كل جهة.
يبغون بغير الحق2: أي يظلمون مجانبين للحق والاعتدال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة أهل مكة إلى توحيد الله والإيمان برسوله والدار الآخرة فيقول
__________
1 قرأ ابن عامر ينشركم بالنون والشين أي يبثكم ويفرقكم والفلك: يطلق على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث.
2 البغي: الاعتداء والظلم مأخوذ من بغا الجرح إذا فسد فهو من الفساد.(2/460)
تعالى {وإذا أذقنا الناس} أي كفار مكة {رحمة من بعد ضراء مستهم} أي أذقناهم طعم الرحمة التي هي المطر بعد الجفاف والغنى بعد الفاقة والصحة بعد المرض وهي الضراء التي مستهم فترة من الزمن. يفاجئونك1 بالمكر بآيات الله وهو استهزاؤهم بها والتكذيب بها وبمن أُنزلت عليه. وقوله تعالى {قل الله أسرع مكراً} أي قل يا رسولنا لهؤلاء الماكرين من المشركين الله عز وجل أسرع مكراً منكم فسوف يريكم عاقبة مكره بكم وهي إذلالكم وخزيكم في الدنيا وعذابكم في الآخرة إن متم على كفركم وقوله {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} تقرير لما أعلمهم به من مكر الله تعالى بهم إذ كتابة الملائكة ما يمكرون دليل على تبييت الله تعالى لهم المكروه الذي يريد أن يجازيهم به على مكرهم.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (21) أما الآية الثانية (22) فهي تُري المشركين ضعفهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله تعالى، ومن كان كذلك فكيف يستهزىء بربه ويسخر من آياته ويكذب رسوله إن أمرهم لعجب فيقول تعالى هو أي الله الذي تمكرون بآياته الذي يسيركم في البر بِما خلق لكم من الظهر الإبل والخيل والحمير، وفي البحر بما سخر لكم من الفلك تجري في البحر بأمره. حتى إذا كنتم في البحر وجرين2 أي السفن بهم أي بالمشركين بريح طيبة مناسبة لسير السفن وفرحوا بها على عادة ركاب3 البحر يفرحون بالريح المناسبة لسلامتهم من المَيَدَان4 والقلق والاضطراب. جاءتها أي السفن ريح عاصف أي شديدة الهبوب تضطرب لها السفن ويخاف ركابها الغرق، وجاءهم أي الكفار الراكبين عليها الموج من كل مكان من جهات البحر والموج هو ارتفاع ماء البحر وتموجه كزوابع الغُبور في البر. وظنوا أي أيقنوا أو كادوا أنهم أحيط بهم أي هلكوا {دعوا الله مخلصين
__________
1 قيل: إنّ أبا سفيان قال: قحطنا بدعائك فإن سقيتنا صدّقناك فسُقوا باستسقائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يؤمنوا وهذا من مكرهم.
2 وجرين بهم: فيه خروج من الخطاب إلى الغيبة وهو ضرب من الأساليب البلاغية وهر في القرآن كثير، وكذا في أشعار العرب قال النابغة:
لا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
ويقال له: التفات من كذا إلى كذا.
3 في الآية دليل على جواز ركوب البحر مطلقاً، وشاهده من السنة حديث: "إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وحديث أم حرام يدلّ على جواز ركوبه في الغزو.
4 الميدان: دوّار أو غشيان بصيب راكب البحر.(2/461)
له الدين} أي الدعاء يا رب يا رب1 نجنا ويَعِدُونَه قائلين {لئن أنجيتنا من هذه} أي الهلكة {لنكونن من الشاكرين} لك أي المطيعين المعترفين بنعمتك علينا الموحدين لك بترك الآلهة لعبادتك وحدك لا شريك لك. فلما أنجاهم من تلك الشدة يفاجئونك ببغيهم في الأرض بغير الحق شركاً وكفراً وظلماً وفساداً فعادوا لما كانوا وإنهم لكاذبون وقوله تعالى {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} يخبرهم تعالى بقوله يا أيها الناس الباغون في الأرض بغير الحق في أي زمان كنتم وفي أي مكان وجدتم إنما بغيكم2 أي عوائده عائدة على أنفسكم إذ هي التي تتأثم وتخبث في الدنيا وتفسد وتصبح أهلاً لعذاب الله يوم القيامة وقوله {متاع الحياة الدنيا} أي ذلك متاع3 الحياة الدنيا شقاء كان أو سعادة {ثم إلينا مرجعكم} أي لا إلى غيرنا وذلك بعد الموت يوم القيامة {فننبئكم بما كنتم تعملون} من خير وشر ونجزيكم به الجزاء العادل في دار الجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- من مكر مكر الله به والله أسرع مكراً وأكبر أثراً وضرراً.
2- بيان ضعف الإنسان وفقره إلى الله وحاجته إليه عز وجل في حفظ حياته وبقائه إلى أجله.
3- إخلاص العبد الدعاء في حال الشدة آية أن التوحيد أصل والشرك طارىء.
4- المشركون الأولون أحسن حالاً من جهلة هذه الأمة إذ يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة أما جهال المسلمين اليوم فشركهم دائم في الرخاء والشدة على السواء.
5- بَغْيُ الإنسان عائد على نفسه كمكره ونكثه وفى الحديث "ثلاث على أصحابها رواجع: البغي والمكر والنكث".
6- تقرير مبدأ البعث والجزاء يوم القيامة.
__________
1 روي أنهم قالوا في دعائهم هذا يا حي يا قيوم.
2 مصداقه من الحديث الشريف: "ما من ذنب أحق أن يعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".
3 المتاع: ما يتمتع به انتفاعاً غير دائم.(2/462)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)
شرح الكلمات:
مثل الحياة الدنيا: أي صفتها المنطبقة عليها المُتَّفِقة معها.
ماء: أي مطر.
فاختلط1 به: أي بسببه نبات الأرض أي اشتبك بعضه ببعض.
مما يأكل الناس: كالبر وسائر الحبوب والفواكه والخضر.
والأنعام: أي من الكلأ والعشب عادة وإلا قد يعلف الحيوان الشعير.
زخرفها2: أي نضرتها وبهجتها.
وازينت3: أي تجملت بالزهور.
وظن أهلها أنهم قادرون عليها: أي متمكنون من تحصيل حاصلاتها الزراعية.
أتاها أمرنا: أي قضاؤنا بإهلاكها وتدميرها عقوبة لأصحابها.
حصيداً: أي كأنها محصودة بالمنجل ليس فيها شيء قائم.
__________
1 أي: اختلط النبات بالمطر أي: شرب منه فتندى وحسن واخضر والاختلاط هو: تداخل الشيء في الشيء.
2 الزخرف: اسم للذهب، ويطلق على كل ما يزيّن به مما فيه ذب وتلوين من الثياب والحلي وأنواع الزينة.
3 {وازينت} أصلها: تزينت فقلبت ألتاء زايا وأدغمت في الزاء لقرب مخرجيهما وجلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.(2/463)
كأن لم تغن بالأمس1: أي كان لم تكن موجودة غانية بالأمس.
نفصل الآيات: أي نبينها.
والله يدعو إلى دار السلام2: دار السلام. الجنة والله يدعو إليها عباده ليأخذوا بالأهبة لدخولها وهى الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم يعرض الهدايات الإلهية على الناس لعلهم يهتدون ففي هذه الآية يضرب تعالى3 مثلا للحياة الدنيا التي يتكالب الغافلون عليها ويبيعون آخرتهم بها فيكذبون ويظلمون من أجلها إنما مثلها في نضارتها الغارة بها وجمالها الخادعة به كمثل ماء نزل من السماء فاختلط بالماء نبات الأرض فسقى به ونما وازدهر وأورَق وأثمر وفرح به أهله وغلب على ظنهم أنهم منتفعون به فائزون به وإذا بقضاء الله فيه تأتيه فجأة في ساعة من ليل أو نهار فإذا هو حصيد ليس فيه ما هو قائم على ساق، هشيم تذروه الرياح كأن لم لم يغْن بالأمس أي كأن لم يكن موجوداً أمس قائماً يعمُر مكانه أتاه أمر الله لأن أهله ظلموا فعاقبهم بجائحة أفسدت عليهم زرعهم فأمسوا يائسين حزينين. هذه الصورة المثالية للحياة الدنيا فهلا يتنبه الغافلون أمثالي!! أو هلا يستيقظ النائمون من حالهم كحالي؟؟
وقوله تعالى في الآية الثانية (25) {والله يدعو إلى دار السلام} 4 أي بترك الشرك والمعاصي والإقبال على الطاعات والصالحات ودار السلام الجنة إذ هي الخالية من الكدر والتنغيص فلا مرض ولا هرم، ولا موت ولا حزن. ودعاة الضلالة يدعون إلى الدنيا
__________
1 كأن لم تكن عامرة يقال غني بالمكان إذا قام به وعمره والمغاني النازل التي يعمرها الناس قال لبيد
وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
2 وقبل المعنى والله يدعو إلى دار السلام إذ السلام والسلامة بمعنى كالرضاعة والرضاع، قال الشاعر:
تحيي بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد قومك في سلام
3 المثل الصفة وعليه فصفة الحياة الدنيا المنطبقة عليها أنها في سرعة انقضائها وزوال نعيمها بعد البهجة والنضرة الحسنة كنبات أخضر وازدهر ثم يبس فصار هشيماً تذروه الرياح.
4 روي أن الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً على أصحابه فقال: "رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل عقلك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ثم تلا: {والله يدعو إلى دار السلام} إلى قوله {مستقيم} .(2/464)
والتي صورتها ومآلها. أنها دار الكدر والتنغيص والهم والحزن فأي الدعوتين تجاب؟ {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} فلتطلب هدايته بصدق فإنه لا يهدي إلا هو والصراط المستقيم هو الإسلام طريق الجنة وسُلَّم الوصول إليها رزقنا الله تعالى السير فيه والثبات عليه.
هداية الآيتين.
من هداية الآيتين:
1- بيان الصورة الحقيقية للحياة الدنيا في نضرتها وسرعة زوالها.
2- التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها.
3- التحذير من الذنوب فإنها سبب الشقاء وسلب النعم.
4- فضيلة التفكر وأهله.
5- فضل الله على عباده ورحمته بهم إذ يدعوهم إلى داره لإكرامهم والإنعام عليهم.
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ1 وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
__________
1 القول بأن الزيادة هما النظر إلى وجه الله الكريم هو قول أنس بن مالك وأبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وحذيفة وابن عباس وعامة الصحابة رورى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل".(2/465)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30)
شرح الكلمات:
الحسنى وزيادة: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
ولا يرهق وجوههم: أي لا يغشى وجوههم.
قتر: غَبرة من الكآبة والحزن.
السيآت: جمع سيئة ما يُسيء إلى النفس من ذنوب الشرك والمعاصي.
مكانكم: أي الزموا مكانكم لا تفارقوه.
فزيلنا بينهم: فرقنا بينهم.
هنالك: أي ثَمَّ.
تبلو كل نفس: أي تَختبر.
ما أسلفت: أي ما قدمت.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون.
معنى الآيات:.
بعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أنه يدعو إلى دار السلام ذكر جزاء من أجاب الدعوة ومن لم يجبها فقال للذين أحسنوا فآمنوا وعبدوا الله بما شرع ووحدوه تعالى في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته فهؤلاء جزاؤهم الحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجهه الكريم في دار السلام، وأنهم إذا بعثوا لا يرهق1 وجوههم قتر ولا ذلة كما يكون ذلك لمن لم يجب دعوة الله تعالى، وقرر جزاءهم ووضحه بقوله: {أولئك أصحاب الجنة هم2 فيها خالدون} وذكر جزاء من أعرض عن الدعوة ورفضها فأصر على الكفر والشرك والعصيان
__________
1 الرهق: الغشيان، يقال رهقه يرهقه رهقاً: إذا غشيه من باب خرج.
2 اسم الإشارة عائد إلى الذين أحسنوا.(2/466)
فقال {والذين كسبوا السيآت جزاء سيئة بمثلها} فالذين كسبوا سيآت الشرك1 والمعاصي فأساء ذلك إلى نفوسهم فدساها وخبثها جزاؤهم جهنم وترهقهم ذلة في عرصات القيامة وليس لهم من الله من عاصم يعصمهم من عذاب الله. كأنما وجوههم لسوادها قد أغشيت قطعاً من2 الليل مظلماً وقوله تعالى {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} تقرير لمصيرهم والعياذ بالله وهو ملازمة النار وعدم الخروج منها بخلودهم فيها.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (26) والثانية (27) أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة فإنها تضمنت عرضاً سريعاً لحشر الناس يوم القيامة، والمراد بذلك تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر فقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً} 3 أي في عرصات القيامة {ثم نقول للذين أشركوا} أي بِنا آلهة عبدوها دوننا {مكانكم} أي قفوا لا تبرحوا مكانكم {أنتم وشركاؤكم} ، ثم يزايل الله تعالى أي يفرق بينهم وهو معنى قوله تعالى {فزيلنا بينهم} ولا شك أنهم يقولون ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين ندعو من دونك فلذا ذكر تعالى ردهم عليهم في قوله {وقال شركاؤهم4 ما كنتم إيانا تعبدون} أي لأننا ما كنا نسمعكم ولا نبصركم ولا أمرناكم بعبادتنا وهذا قول كل من عُبد من دون الله من سائر الأجناس {فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا} أي والله {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} غير شاعرين بحال من الأحوال بعبادتكم. قال تعالى {هنالك} أي في ذلك الموقف الرهيب {تبلو كل نفس ما أسلفت} أي تَختبر ما قدمت في دنياها وتعرفه هل هو ضارٌ بها أو نافع لها {وردوا إلى الله مولاهم5 الحق6 وضل عنهم ما كانوا يفترون} هكذا يجدون أنفسهم أمام مولاهم ومالك
__________
1 ذكرنا في التفسير: كسبوا الشرك والمعاصي لأن الشرك هو الموجب للخلود في النار لا المعاصي، بدليل الحكم عيهم بالخلود في النار في آخر السياق.
2 جمع قطعة، وهي الجزء من الشيء فهي فعلة بمعنى مفعولة إذ هي مقطوعة من شيء كامل. والمظلم: الإظلام لا كواكب فيه ولا قمر.
3 أي: سعداء وأشقياء أهل الحسن وأهل الذلة، إذ الحشر يكون لسائر الخلائق لا يتخلف أحد من الخلق.
4 الشركاء: يكونون من الأصنام والأوثان والملائكة والإنس والجنّ والتبرؤ حاصل إذ ليس هناك من يقوى على الاعتراف بجريمة الشرك، إمّا الملائكة والأنبياء والصالحون فإنهم لم يكونوا راضين بعبادة المشركين لهم فتبرّؤهم صحيح، وأمّا الأصنام والأوثان فإنها لم تأمر بعبادتها وإنما الذي أمر بعبادتها الشياطين فتبرؤها صحيح.
5 مولاهم: الخالق، الرازق، المدبر لأمررهم وشؤون حياتهم والمستوجب لعبادتهم هو الله جل جلاله، فهو مولاهم الحق، لا الذي اختلقوه كذبا وعبدوه من دون الله فذاك مولىً باطل وإله مكذوب.
6 الحق: هو الموافق للواقع والصدق، فالمولوية الحقة لله تعالى لا لمخلوقاته، وكلها مخلوقة له مربوبة.(2/467)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
أمرهم ومعبودهم الحق والذي طالما كفروا به وتنكروا له وجحدوا آياته ورسله وضل1 أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الأكاذيب والترهات والأباطيل من تلك الأصنام التي سموها آلهة وعبدوها وندموا يوم لا ينفع الندم وجزاهم بما لم يكونوا يحتسبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الحسنة وما تعقبه من نيل الحسنى.
2- بيان سوء السيئة وما تورثه من حسرة وندامة وما توجبه من خسران.
3- تقرير معتقد البعث والجزاء بعرض صادق وأضح له.
4- تبرؤ ما عُبد من دون الله من عابديه وسواء كان المعبود ملكاً أو إنساناً أو جاناً أو شجراً أو حجراً الكل يتبرأ من عابديه ويستشهد الله تعالى عليه.
5- في عرصات القيامة تعلم كل نفس ما أحضرت، وما قدمت وأخرت وتبلو ما أسلفت فتعرف وأنى لها أن تنتفع بما تعرف؟.
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33)
شرح الكلمات:
من السماء: أي بالغيث والمطر.
والأرض: أي بالنبات والحبوب والثمار.
__________
1 ضلّ: بمعنى ضاع وغاب ولم يجدوه ولم ينتفعوا به، فما كانوا يختلقونه من الآلهة الباطلة وما كانوا يقدّمونه لها من أنواع العبادات قد ضاع وغاب عنهم فلم يروه.(2/468)
أمّن يملك السمع والأبصار: أي يملك أسماعكم وأبصاركم إن شاء أبقاها لكم وإن شاء سلبها منكم.
ومن يخرج الحي من الميت: أي الجسم الحي من جسم ميت والعكس كذلك.
ومن يدبر الأمر: أي أمر الخلائق كلها بالحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع.
أفلا تتقون: أي الله فلا تشركوا به شيئاً ولا تعصوه في أمره ونهيه.
فأنى تصرفون: أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته والحق هو أنه لا اله إلا الله.
حقت: أي وجبت.
أنهم لا يؤمنون: وذلك لبلوغهم حداً لا يتمكنون معه من التوبة البتة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد فيقول تعالى لرسوله {قل} يا رسولنا لأولئك المشركين مستفهماً إياهم {من يرزقكم من السماء والأرض} بإنزال المطر وبانبات الحبوب والثمار والفواكه والخضر التي ترزقونها، وقل لهم {أم من يملك السمع والأبصار} أي أسماعكم وأبصاركم بحيث إن شاء أباقاها لكم وأمتعكم بها، وإن شاء أخذها منكم وسلبكم إياها فأنتم عمي لا تبصرون وصم لا تسمعون {ومن يخرج الحي من الميت} كالفرخ من البيضة {ويخرج الميت من الحي} كالبيضة من الدجاجة، والنخلة من النواة، والنواة من1 النخلة. {ومن يدبر الأمر} في السماء والأرض كتعاقب الليل والنهار ونزول الأمطار، وكالحياة والموت والغنى والفقر والحرب والسلم والصحة والمرض إلى غير ذلك مما هو من مظاهر التدبير الإلهي في الكون. {فسيقولون الله} ، إذ لا جواب لهم إلا هذا إذاً فما دام الله هو الذي يفعل هذا ويقدر عليه دون غيره كيف لا يُتَّقى عز وجل بتوحيده وعدم الإشراك به، فلم لا تتقونه؟ 2
__________
1 وكالنطفة من الإنسان، والإنسان من النطفة، ومثلها نطفة الحيوان مخرجها من حيوان حي، ومن الحيوان الحي تخرج نطفة ميتة.
2 أي: فقل لهم يا رسولنا: أفلا تتقون: أي: أفلا تخافون عقابه ونقمه في الدنيا والآخرة.(2/469)
وقوله تعالى {فذلكم الله ربكم الحق} 1 أي فذلكم الذي يرزقكم من السماء والأرض ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأمر هو ربكم2 الحق الذي لا رب لكم سواه إذاً {فماذا بعد الحق إلا الضلال، 3 فأنى تصرفون} أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال؟ إنه أمر يدعو إلى الاستغراب والتعجب!
وقوله تعالى {كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} أي مثل ذلك الصرف الذي يصرفه المشركون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال أي كما حق ذلك حقت كلمة ربك وهي أن الله لا يهدي القوم الفاسقين فهم لا يهتدون، وذلك أن العبد إذا توغل في الشر والفساد بالإدمان والاستمرار عليه يبلغ حداً لا يتأتَّى له الرجوع منه والخروج بحال فهلك على فسقه لتحق عليه كلمة العذاب وهي {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشركوا العرب كانوا يشركون في الألوهية ويوحدون في الربوبية.
2- وليس بنافع أن يوحد العبد في الربوبية ويشرك في الألوهية.
3- ليس بعد الحق4 إلا الضلال فلا واسطة بينهما فمن لم يكن على حق فهو على ضلال.
4- التوغل في الشر والفساد يصبح طبعاً لصاحبه فلا يخرج منه حتى يهلك به.
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن
__________
1 في الصحيح من دعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من جوف الليل يقول "اللهم أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق.." في حديث طويل هذا من وسطه، والشاهد في قوله: "أنت الحق".
2 أي: إلهكم ومعبودكم الحق لا ما تعبدون من أصنام وأوثان فإذا عرفتم إلهكم الحق فإنّ ما بعده من آلهة هو الضلال.
3 روي عن مالك في قوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} قال: اللعب بالشطرنج والنرد: هو الضلال، وسئل عن الغناء فقال: هل هو حق؟ قالوا: لا. قال فما بعد الحق إلاّ الضلال. وفي صحيح مسلم: "من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه".
4 روي عن عمر رضي الله عنه أنه رخّص فيما كان فيه دربة على الحرب من أنواع اللعب، إذ الغرض صحيح، وهو تعلم فنون الحرب، وحذق أساليبها.(2/470)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
شرح الكلمات:
من شركائكم1: جمع شريك وهو من أشركوه في عبادة الله تعالى.
من يبدأ الخلق: أي ينشيء الإنسان والحيوان أول ما ينشئه فذلك بدء خلقه.
فأنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته.
أمَّن لا يَهِدِّي: أي لا يهتدي.
كيف تحكمون: أي هذا الحكم الفاسد وهو إتباع من لا يصح اتباعه لأنه لا يهدي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج المشركين لبيان الحق لهم ودعوتهم إلى اتباعه فيقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل لهؤلاء المشركين {قل هل من شركائكم2 من يبدأ الخلق ثم يعيده؟} أي هل يوجد من بين آلهتكم التي تعبدونها من يبدأ خلق إنسان من العدم ثم يميته، ثم يعيده؟ وجوابهم معروف وهو لا يوجد إذاً فكيف تؤفكون أي تصرفون عن الحق بعد معرفته والإقرار به؟ وقل لهم أيضاً {قل هل3 من شركائكم من يهدي إلى الحق} أي يوجد من آلهتكم من يهدي إلى الحق؟ والجواب لا يوجد لأنها لا تتكلم ولا تعلم إذاً فقل لهم الله يهدي إلى الحق أي بواسطة نبيه ووحيه وآياته.
وقل لهم {أفمن يهدي إلى4 الحق أحق أن يتبع أمَّن لا يهدي إلا أن يهدى} 5 والجواب معروف الذي يهدي إلى الحق أحق بأن يتبع ممن لا يهتدي إلا أن يُهدى، إذاً لم لا تتقون
__________
1 أي: آلهتكم ومجوداتكم من الأصنام والأوثان.
2 يقول لهم: (هل) على جهة التوبيخ والتقرير، فان أجابوك فذاك وإلا فقل الله يبدأ الخلق.
3 هذا الاستفهام كالأول للتوبيخ والتقرير فان أجابوا فذاك المطلوب لهان لم يجيبوا فأجب أنت بقولك: الله يبدأ الخلق.
4 هذا الاستفهام؟ كسابقيه للتوبيخ والتقرير ثم إقامة الحجة.
5 في: {أمّن لا يهدي} قراءات منها: (لا يهدي) ، بالتخفيف. (لا يهدّي) بتشديد الدال، وفتح الهاء وهي قراءة ورش، و (لا يَهدي) بكسر الهاء، وتشديد الدال وهي قراءة حفص.(2/471)
الله فتوحدوه وتؤمنوا برسوله وكتابه فتهتدوا، وتتركوا آلهتكم التي لا تهدي إلى الحق؟ {فما لكم} أي أيُّ شيء ثبت لديكم في ترك عبادة الله لعبادة غيره من هذه الأوثان، {كيف تحكمون} أي حكم هذا تحكمون به وهو اتباع من لا يهدي وترك عبادة من يهدي إلى الحق. وقوله تعالى {وما يتبع أكثرهم إلا ظناً} 1 أي أن أكثر هؤلاء المشركين لا يتبعون في عبادة أصنامهم إلا الظن فلا يقين عندهم في أنها حقاً آلهة تستحق العبادة، {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} أي إن الظن لا يكفي عن العلم ولا يغني عنه أي شيء من الإغناء، والمطلوب في العقيدة العلم لا الظن2. وقوله تعالى {إن الله عليم بما يفعلون} هذه الجملة تحمل الوعيد الشديد لهم على إصرارهم على الباطل وعنادهم على الحق فسيجزيهم بذلك الجزاء المناسب لظلمهم وعنادهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بإبطال الآلهة المزعومة حيث اعترف عابدوها بأنها لا تبدأ خلقاً ولا تعيده بعد موته، ولا تهدي إلى الحق، والله يبدأ الخلق ثم يعيده ويهدي إلى الحق.
2- إبطال الأحكام الفاسدة وعدم إقرارها ووجوب تصحيحها.
3- لا يقبل الظن في العقائد بل لا بد من العلم اليقيني فيها.
4- كراهية القول بالظن والعمل به وفي الحديث (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) .
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ
__________
1 في الآية دليل على أن عابدي غير الله تعالى ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها بل أكثرهم لا يتبعون في عبادتها إلا مجرّد الظن، والبعض الآخر القليل لا اعتقاد لهم إلا اتباع غيرهم وتقليد سواهم من رؤسائهم، وأهل الكلمة فيهم، فكلا الفريقين هالك.
2 الظن يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه كقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} ويطلق على الاعتقاد المشكوك فيه كقول قوم نوح لنوح: {وإنا لنظنّك من الكاذبين} ويطلق على الاعتقاد المخطىء كآية: {إن بعض الظن إثم} وحديث: "فإن الظن أكذب الحديث".(2/472)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
شرح الكلمات:
أن يفترى من دون الله: أي افتراء أي لم يكن هذا القرآن افتراء.
وتفصيل الكتاب: أي بيان ما فرض الله تعالى على هذه الأمة وما أحل لها وما حرم.
أم يقولون افتراه.: أي اختلقه من نفسه وَتَقوَّلَه من عنده.
بما لم يحيطوا بعلمه: أي بما توعدهم الله تعالى به من العذاب.
ولما يأتهم تأويله: أي ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه ذلك الوعيد من العذاب.
كذلك كذب الذين من قبلهم: أي كتكذيب هؤلاء بوعد الله لهم كذب الذين من قبلهم.
معنى الآيات:
هذه الآيات في تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى: {وما كان هذا1 القرآن} أي لم يكن من شأن هذا القرآن العظيم {أن يفترى من دون الله} أي يُختلق من غير الله تعالى من سائر خلقه، {ولكن تصديق الذي بين يديه} 2 أي ولكنه كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله وأنزله تصديق الذي بين يديه أي من الكتب التي سبقت نزوله وهي التوراة والإنجيل {وتفصيل الكتاب} الذي كتبه الله تعالى على أمة الإسلام من الفرائض والشرائع والأحكام. وقوله تعالى {لا ريب فيه} أي لا شك في أنه وحي الله وكلامه نزل من رب العالمين، وهو الله مربي الخلائق أجساماً وعقولاً وأخلاقاً وأرواحاً ومن مقتضى ربوييته إنزال كتاب فيه تبيان كل شيء يحتاج إليه العبد في تربيته وكماله البدني والروحي والعقلي والخلقي.
__________
1 علم الله تعالى أنّ غيره تعالى لا يتأتى له الإتيان بمثل هذا القرآن كما قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} .
2 أي: أنزله مصدقاً لما بين يديه أي: لما تقدمه من الكتب الإلهية. هذا كقوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه} . ونصب (تصديق) على أنه اسم كان، والتقدير: ولكن كان تصديق الذي.(2/473)
وقوله تعالى في الآية الثانية (38) {أم يقولون افتراه} 1 أي بل يقول هؤلاء المشركون المجاحدون وهو قول في غاية السُّخّف والقباحة يقولون القرآن افتراه محمد ولم يكن بوحي أُنزل عليه، قل يا رسولنا متحدياً إياهم أن يأتوا بسورة مثله2. فإنهم لا يستطيعون وبذلك تبطل دعواهم، وقل لهم ادعوا لمعونتكم على الإتيان بسورة مثل سور القرآن من استطعتم الحصول على معونتهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن لم يكن وحياً من الله، وإنما هو اختلاق اختلقه محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه3 ولما يأتهم تأويله} أي إن القضية ليست قضية أنهم ما استطاعوا أن يدركوا أن القرآن كلام الله، وإنما القضية هي أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه من وعيد الله تعالى لهم بالعذاب، ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه الوعيد إذ لو رأوا العذاب ما كذبوا، ولذا قال تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أي {حتى ذاقوا بأسنا} كما في آية الأنعام. وهو قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} فقد أهلك تعالى الظلمة من قوم نوح بالغرق ومن قوم هود بريح صرصر ومن قوم صالح بالصيحة ومن قوم شعيب بالرجفة ومن أمم أخرى بما شاء من أنواع العذاب فهؤلاء إن لم يتوبوا واستمروا في تكذيبهم فسوف يحل بهم ما حل بغيرهم {وما الله بغافل عما يعمل الظالمون} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- من أدلة أن القرآن كلام الله تصديقه للكتب السالفة وعدم التناقض معها إذ هما من مصدر واحد وهو الله رب العالمين.
3- من أدلة القرآن على أنه وحي الله تحدي الله العرب بالإتيان بسورة واحدة في فصاحته.
__________
1 {أم يقولون} أم هنا: هي المنقطعة التي تفسَّر ببل، والهمزة: أي بل أيقول افتراه، والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ.
2 هذا دليل على أن القرآن الكريم معجز، وهو كذلك معجز بألفاظه ومعانيه معاً.
3 {بل كذّبوا بما لم يحيطوا يعلمه ولما يأتهم تأويله} . هذا الكلام الإلهي يحتمل معنيين صحيحين. الأول: هو ما في التفسير، والثاني: المراد بما لم يحيطوا بعلمه: القرآن الكريم، فهم لم يتدبروه، ولم يفهموا ما يدعو إليه وكذبوا به عن جهل مع العناد والمكابرة فما في قوله: {بما لم يحيطوا بعلمه} اسم موصول المراد به: القرآن الكريم أمّا على المعنى الأول فإن المراد به العذاب الذي كذّبوا به، ولم يحل بهم بعد.(2/474)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
وبلاغته وإعجازه وعجزهم عن ذلك.
4- استمرار المشركين في العناد والمجاحدة علته أنهم لم يذوقوا ما توعدهم الله به من العذاب إذ لو ذاقوا لآمنوا ولكن لا ينفعهم حينئذ الإيمان.
وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
شرح الكلمات:
ومنهم من يؤمن به: أي من أهل مكة المكذبين بالقرآن من يؤمن به مستقبلاً.
وربك أعلم بالمفسدين: وهم دعاة الضلالة الذين يفسدون العقول والقلوب والجملة تهديد لهم.
وإن كذبوك: أي استمروا على تكذيبك.
ومنهم من يستمعون إليك: أي إذا قرأت القرآن.
ومنهم من ينظر إليك: أي يبصر ويشاهد آيات النبوة وأعلام صدقك، ولا يهتدي إلى معرفة أنك رسول الله لأن الله تعالى حرمه ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى في خطاب رسوله ليُسلِّيه ويصبِّره على عدم إيمان قومه مع ظهور الأدلة وقوة البراهين {ومنهم من يؤمن به} أي بالقرآن وبالنبي(2/475)
أيضاً إذ الإيمان بواحد يستلزم الإيمان بالثاني، {ومنهم من لا يؤمن به} 1، وهذا إخبار غيب فتم كما أخبر تعالى فقد آمن من المشركين عدد كبير ولم يؤمن عدد آخر. وقوله {وربك أعلم بالمفسدين} أي الذين لا يؤمنون وفي الجملة تهديد لأولئك الذين يصرفون الناس ويصدونهم عن الإيمان والتوحيد. وقوله تعالى: {وإن كذبوك} أي استمروا في تكذيبهم لك فلا تحفل بهم وقل {لي عملي2 ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء مما تعملون} فإذا كان هناك عقاب دنيوي فإنك تسلم منه ويهلكون هم به.
وقوله تعالى في الآية (42) {ومنهم من يستمعون إليك} 3 إلى قراءتك القرآن وإلى قولك إذا قلت داعياً أو آمراً أو ناهياً، ومع هذا فلا يفهم ولا ينتفع بما يسمع، ولا لوم عليك في ذلك لأنك لا تسمع الصم، وهؤلاء صم لا يسمعون، ومنهم من ينظر إليك بأعين مفتحة ويرى علامات النبوة وآيات الرسالة ظاهرةً في حالك ومقالك ومع هذا لا يهتدي ولا لوم عليك فإنك لا تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون4. وقوله تعالى {إن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون} بيان لسنة الله تعالى في أولئك الذين يسمعون ولا ينتفعون بسماعهم، ويبصرون ولا ينتفعون بما يبصرون، وهي أن من توغل في البغض والكراهية لشيء يصبح غير قادر على الانتفاع بما يسمع منه ولا بما يبصر فيه. ولذا قيل حبك الشيء يُعمي ويُصم، والبغض كذلك كما أن الاسترسال في الشر والفساد مدة من الزمن يحرم صاحبه التوبة إلى الخير والصلاح، ومن هنا قال تعالى {إن الله لا يظلم5 الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.
2- تقرير معنى آية {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} .
__________
1 كأبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وغيرهم.
2 أي لي ثواب عملي على التبليغ والطاعة لله تعالى ولكم جزاء عملكم الذي هو الشرك والكفر والتكذيب.
3 أي: في ظواهرهم أمّا قلوبهم فلا تعي شيئا مما تقول من الحق وتتلوه من القرآن.
4 أي: ولو انظمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة.
5 في هذا إشارة إلى أنّ عدم هدايتهم يكن خارجاً عن إرادتهم ولكن كان باستحبابهم العمى على الهدى وإيثارهم للدنيا على الآخرة.(2/476)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
3- تعليم رسول الله طريق الحِجاج والرد على الخصوم المشركين.
4- انتفاء الظلم عن الله تعالى، وإثباته للإنسان لنفسه.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48)
شرح الكلمات:
يحشرهم: أي نبعثهم من قبورهم ونجمعهم لساحة فصل القضاء.
كأن لم يلبثوا: أي في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتاً في قبورهم.
أو نتوفينك: أي نميتك قبل ذلك.
فإذا جاء رسولهم: أي في عرصات القيامة.
بالقسط: أي بالعدل.
متى هذا الوعد: أي بالعذاب يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {ويوم يحشرهم} أي اذكر لهم يوم نحشرهم من قبورهم بعد بعثهم أحياء {كأن لم يلبثوا} 1 في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتاً في قبورهم. {إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} 2 أي ليرى بعضهم بعضاً
__________
1 أصلها: كأنهم ثم خففت: أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم.
2 الجملة في موضع نصب على الحال. وتعارفهم هذا في عرصات القيامة إنما هو تعارف توبيخ وافتضاح فيقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وحملتني على الكفر، ثم تنقطع المعرفة عند معاينتهم العذاب يوم القيامة.(2/477)
ساعة ثم يحول بينهم هول الموقف، وقوله تعالى {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله1 وما كانوا مهتدين} يخبر تعالى أن الذين كذبوا بالبعث الآخر والحساب والجزاء الأخروي فلم يرجوا لقاء الله فيعملوا بمحابه وترك مساخطه قد خسروا في ذلك اليوم أنفسهم وأهليهم في جهنم، وقوله {وما كانوا مهتدين} أي في حياتهم حيث انتهوا إلى خسران وعذاب أليم.
وقوله تعالى {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} 2 أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل ذلك فعلى كل حال مرجعهم إلينا جميعاً بعد موتهم، فنحاسبهم ونجازيهم بحسب سلوكهم في الدنيا الخير بالخير والشر بمثله، وقوله تعالى {ثم الله شهيد على ما يفعلون} 3 تقرير وتأكيد لمجازاتهم يوم القيامة لأن علم الله تعالى بأعمالهم وشهادته عليها كافٍ في وجوب تعذيبهم. وقوله تعالى {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} أي ولكل أمة من الأمم رسول أرسل إليها وبلغها فأطاع من أطاع وعصى من عصى فإذا جاء رسولها في عرصات القيامة قضي بينهم أي حوسبوا أو جوزوا بالقسط أي بالعدل وهم لا يظلمون بنقص حسنات المحسنين ولا بزيادة سيئآت المسيئين. وقوله تعالى {ويقولون} أي المشركون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، {متى هذا الوعد} 4 أي بالعذاب يوم القيامة. {إن كنتم صادقين} يقولون هذا استعجالاً للعذاب لأنهم لا يؤمنون به. والجواب في الآية التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
2- الإعلان عن خسران منكري البعث يوم القيامة.
__________
1 أي: يوم العرض عليه بين الخلائق.
2 وإما أصلها إن الشرطة وما الزائدة لتقوية الكلام و {بعض الذي نعدهم} هو عذاب الدنيا كما هو إظهار الدين ونصرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 أي: بعد وفاتك، فالله عز وجل خليفتك فيهم وسوف يجزيهم بحسب كسبهم خيراً وشراً.
4 أي: متى العذاب، أو متى القيامة التي يعدنا بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/478)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
3- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر حتى يؤدي رسالته بإعلامه بأنه سيعذب أعداءه.
4- بيان كيفية الحساب يوم القيامة بأن يأتي الرسول وأمته ثم يجزي الحساب بينهم فينجي الله المؤمنين ويعذب الكافرين.
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
شرح الكلمات:
لنفسي ضراً.: أي لا أقدر على دفع الضر إذا لم يُعِنِّي الله تعالى.
ولا نفعاً: أي لا أقدر على أن أجلب لنفسي نفعاً إذا لم يُرده الله تعالى لي.
لكل أمة أجل: أي وقت معين لهلاكها.
فلا يستأخرون ساعة: أي عن ذلك الأجل.
ولا يستقدمون: أي عليه ساعة.
قل أرأيتم: أي قل لهم أخبروني.
أثم إذا ما وقع: أي حل العذاب.
عذاب الخلد: أي الذي يخلدون فيه فلا يخرجون منه.
ويستنبئونك: أي ويستخبرونك.
قل إي: أي نعم.
وما أنتم بمعجزين: أي بفائتين العذاب ولا ناجين منه.(2/479)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين فقد طالبوا في الآيات السابقة بالعذاب فقالوا {متى هذا الوعد} أي بالعذب {إن كنتم صادقين} فأمر الله تعالى رسوله في هذه الآيات أن يقول لهم إني {لا أملك لنفسي ضراً} أي لا أملك دفع الضر عني، ولا جلب النفع لي إذا لم يشأ الله تعالى ذلك، فكيف أعلم الغيب وأعرف متى يأتيكم العذاب كما لا أقدر على تعجيله إن كان الله يريد تأجيله، واعلموا أنه لكل أمة من الأمم أجل أي وقت محدد لهلاكها وموتها فيه، فلا يتأخرون عنه ساعة ولا يتقدمون عليه بأخرى فلذا لا معنى لمطالبتكم بالعذاب. وشيء آخر أرأيتم أي أخبروني إن أتاكم العذاب الذي تستعجلونه بياتاً1 أي ليلاً أو نهاراً أتطيقونه وتقدرون على تحمله إذاً فماذا تستعجلون منه أيها المجرمون2 إنكم تستعجلون أمراً عظيماً. وقوله تعالى {أثم إذا ما وقع آمنتم به؟} 3 أي اتستمرون على التكذيب والعناد، ثم إذا وقع آمنتم به، وهل ينفعكم إيمانكم يومئذ؟ فقد يقال لكم توبيخاً وتقريعاً آلآن مؤمنون به، وقد كنتم به تستعجلون.
وقوله تعالى {ثم4 قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون} ؟ يخبر تعالى أنه إذا دخل المجرمون النار وهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ذوقوا- تهكماً بهم- عذاب الخلد أي العذاب الخالد الذي لا يفني ولا يبيد إنكم ما تجزون أي ما تثابون إلا بما كنتم تكسبونه من الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: {ويستنبؤنك أحق هو؟} أي ويستخبرك المشركون المعاندون قائلين لك أحق ما تعدنا به من العذاب يوم القيامة؟ أجبهم بقولك {قل إي وربي5 إنه لحق، وما أنتم بمعجزين} الله ولا فائتينه بل لا بد وأن يلجئكم إلى العذاب إلجاءً، ويذيقكموه عذاباً أليماً دائماً وأنتم صاغرون.
__________
1 البيات: اسم مصدر ليلا كالسلام للتسليم.
2 المجرمون: أصحاب الجرم الذي هو الشرك والقائلون متى هذا الوعد من كفار مكة.
3 {أثم} الهمزة للاستفهام وقدمت على ثم العاطفة، لأنّ لها حق الصدارة والتقدير: ثم إذا وقع، والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب، وهو غير نافع لصاحبه فكيف ترضونه أنتم لأنفسكم.
4 {ثم} : حرف عطف، وهي هنا للتراخي الرتبي فهذا يقال للمشركين عند دخولهم النار وهو من باب التهكم بهم والتقريع لهم، وإعلامهم بمالا يستطيعون دفعه بحال: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} والقائلون هم خزنة جهنم.
5 {إي} : كلمة تحقيق وإيجاب، وتأكيد هي بمعنى (نعم) {وربى} قسم جوابه: {إنه لحق} أي: هو كائن لا شك فيه ولا محالة من وقوعه.(2/480)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يملك أحد من الخلق لنفسه فضلاً عن غيره ضراً يدفعه ولا نفعاً يجلبه إلا بإذن الله تعالى ومشيئته، وخاب الذين يُعولون على الأولياء في جلب النفع لهم ودفع الشر عنهم.
2- الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر فلذا لا معنى للجبن من العبد.
3- لا ينفع الإيمان ولا التوبة عند معاينة العذاب أو مَلَك الموت.
4- جواز الحلف بالله إذا أريد تأكيد الخبر.
5- إي حرف إجابة وتقترن دائماً بالقسم نحو إي والله، إي وربي.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)
شرح الكلمات:
لافتدت به: لقدمته فداء لها.
وأسروا الندامة: أخفوها في أنفسهم على ترك الإيمان والعمل الصالح.
وقضي بينهم بالقسط: أي حكم الله بينهم بالعدل.
وعد الله حق: أي ما يعدهم الله به هو كائن حقاً.(2/481)
موعظة من ربكم: أي وصية من ربكم بالحق والخير، وباجتناب الشرك والشر.
وهدى: أي بيان لطريق الحق والخير من طريق الباطل والشر.
فضل الله ورحمته: ما هداهم إليه من الإيمان والعمل الصالح، واجتناب الشرك والمعاصي.
فبذلك فليفرحوا: أي فبالإيمان والعمل الصالح بعد العلم والتقوى فليسروا وليستبشروا.
هو خير مما يجمعون: أي من المال والحطام الفاني.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أن ما وعد الله تعالى به المشركين من العذاب هو آت لا محالة إن لم يؤمنوا وإنه عذاب لا يطاق فقال تعالى {ولو أن لكل نفس ظلمت} أي نفسها بالشرك والمعاصي، لو أن لها ما في الأرض من مال صامت وناطق وقبل منها لقدمته فداء1 لها من العذاب، وذلك لشدة العذاب. وقال تعالى عن الكافرين وهم في عرصات القيامة وقد رأوا النار {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} 2 أي أخفوها في صدورهم ولم ينطقوا بها وهى ندمهم الشديد على عدم إيمانهم وإتباعهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى {وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} أي وقضى الله تعالى أي حكم بين الموحدين والمشركين والظالمين والمظلومين3 بالقسط الذي هو العدل الإلهي والحال أنهم لا يظلمون بأن يؤاخذوا بما لم يكتسبوا. وقوله تعالى {ألا إن4 لله ما في السموات والأرض} أي انتبهوا واسمعوا أيها المشركون إن لله ما في السموات والأرض من سائر المخلوقات ملكاً حقيقياً لا يملك معه أحد شيئا من ذلك فهو يتصرف في ملكه كما يشاء يعذب ويرحم يشقي ويسعد لا اعتراض عليه ألا أن وعد الله حق أي تنبهوا مرة أخرى واسمعوا إن وعد الله أي ما وعدكم به من العذاب حق ثابت لا يتخلف. وقوله تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} .
__________
1 ولكن لا يقبل منها كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} .
2 إسرارهم الندامة كان عند معاينة العذاب، وقبل الدخول فيه، والندامة: الحسرة على وقوع مكروه أو فوات محبوب.
3 وبين الرؤساء والمرؤوسين، أي: بين المتبوعين والتابعين لهم.
4 {ألا} : كلمة استفتاح وتنبيه يؤتى بها في أوّل الكلام، معناها: انتبهوا لما أقول لكم.(2/482)
إذ لو علموا أن العذاب كائن لا محالة وعلموا مقدار هذا العذاب ما كفروا به وقوله تعالى {هو يحي ويميت وإليه ترجعون} يخبر تعالى عن نفسه أنه يحيي ويميت ومن كان قادراً على الإحياء والإماتة فهو قادر على كل شيء، ومن ذلك إحياء الكافرين بعد موتهم وحشرهم إليه ومجازاتهم على ما كسبوا من شر وفساد وقوله {وإليه ترجعون} تقرير مبدأ المعاد الآخر. بغد هذه التقريرات لقضايا العقيدة الثلاث: التوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء نادى الله تعالى العرب والعجم سواء قائلاً {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة1 من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} وكل من الموعظة التي هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب والشفاء والهدى والرحمة قد حواها القرآن الكريم كأنه قال يا أيها الناس وفيكم الجاهل والفاسق والمريض بالشرك والكفر والضال عن الحق، والمعذب في جسمه ونفسه قد جاءكم القرآن يحمل كل ذلك لكم فآمنوا به واتبعوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلاً وخلقاً وروحاً وتسعدوا في الحياتين معاً.
وقوله تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك2 فليفرحوا هو خير مما يجمعون} أي بلِّغهم يا رسولنا آمراً إياهم بأن يفرحوا3 بالإسلام وشرائعه والقرآن وعلومه فإن ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني، وما يعقب من آثار سيئة لا تحتمل ولا تطاق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم عذاب يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن يفتدى منه بما في الأرض جميعاً.
2- تقرير ربوبية الله تعالى لسائر المخلوقات في العالمين العلوي والسفلي.
3- الإشادة بفضل القرآن وعظمته لما يحمله من المواعظ والهدى والرحمة والشفاء.
4- يستحب الفرح بالدين ويكره الفرح بالدنيا.
__________
1 المراد بالموعظة وما بعدما من الصفات القرآن الكريم إذ هو الجامع لكل ما ذكر، وإنما عطفت المذكورات لتأكيد المدح. كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
2 قال أبو سعيد الخدري وابن عباس: فضل الله: القرآن، ورحمته الإسلام، وصحّت الإشارة بذلك إلى الاثنين لأنّ العرب تشير بذلك إلى المفرد والمثنى والجمع.
3 روي أن من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة (الفقر) كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا: {قل بفضل الله} الآية.(2/483)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني.
ما أنزل الله لكم من رزق: أي الذي خلق لكم من رزق كلحوم الأنعام.
ءآلله أذن لكم: أي في التحريم حيث حرمتم البحيرة والسائبة وفي التحليل حيث أحللتم الميتة.
يفترون على الله الكذب: أي يختلقون الكذب تزويراً له وتقديراً في أنفسهم.
وما تكون في شأن: أي في أمر عظيم.
شهوداً إذْ تفيضون فيه: أي تأخذون في القول أو العمل فيه.
وما يعزب عن ربك: أي يغيب.
من مثقال ذرة: أي وزن ذرة والذرة أصغر نملة.
إلا في كتاب مبين: أي اللوح المحفوظ ومبين أي واضح.
معنى الآيات:
سياق الآيات في تقرير الوحي وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي قال(2/484)
تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل لهؤلاء المشركين1 {أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} أي أخبروني عما خلق الله لكم من نبات وطعام وحرث فجعلتم منه حراماً كالبحيرة والسائبة والثياب التي تحرِّمون الطواف بها والحرث الذي جعلتموه لالهتكم، وحلال كالميتة التي تستبيحونها {ءالله أذن لكم} 2 في هذا التشريع بوحي منه {أم على الله تفترون} فإن قلتم الله أذن لنا بوحي فلم تنكرون الوحي وتكذبون به، وإن قلتم لا وحي ولكننا نكذب على الله فموقفكم إذاً شر موقف إذ تفترون على الله الكذب والله تعالى يقول: {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة} أي إذا هم وقفوا بين يديه سبحانه وتعالى ما ظنهم أيغفر لهم ويعفى عنهم لا بل يلعنون وفي النار هم خالدون وقوله تعالى {إن الله لذو فضل على الناس} في كونه لا يعجل لهم العقوبة وهم يكذبون عليه ويشركون به ويعصونه ويعصون رسوله، {ولكن أكثرهم لا يشكرون} 3 وذلك لجهلهم وسوء التربية الفاسدة فيهم، وإلا العهد بالإنسان أن يشكر لأقل معروف وأتفه فضل.
وقوله تعالى {وما تكون في شأن4 وما تتلو منه من قرآن} أي وما تكون يا رسولنا في أمر من أمورك الهامة وما تتلو من القرآن من آية أو آيات في شأن ذلك الأمر {إلا كنا} أي نحن رب العزة والجلال {عليكم شهوداً} أي حضوراً {إذ تفيضون فيه5} أي في الوقت الذي تأخذون فيه، وقوله تعالى {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة6 في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} يخبر تعالى عن سعة علمه تعالى وإحاطته بسائر مخلوقاته بحيث لا يعزب أي لا يغيب عن علمه تعالى مثقال ذره أي وزن ذرة وهي النملة الصغيرة وسواء كانت في الأرض أو في السماء، وسواء كانت أصغر من النملة أو
__________
1 من كفّار قريش.
2 الاستفهام تقريري مشوب بالإنكار عليهم أيضاً. وعبر عن إعطائهم الرزق بإنزاله لهم، لأنّ أرزاقهم من حبوب وثمار وأنعام كلها متوفقة على المطر النازل من السماء حتى سمى العرب ببني ماء السماء. وشاهده قوله تعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صبّا..} الآية.
3 بذكره وعبادته وحده بما شرع أن يعبد به، وعلّة عدم الشكر، انظرها في التفسير.
4 الشأن والجمع شؤون: الخطب والأمر الهام، والخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمّة معه وقدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلو شأنه وسمو مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5 الإفاضة في العمل: الشروع والدخول فيه.
6 الذرة: النملة الصغيرة، أو الهباءة التي تُرى في ضوء الشمس.(2/485)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
أكبر منها. بالإضافة إلى أن ذلك كله في كتاب مبين أي في اللوح المحفوظ. لهذا العلم والقدرة والرحمة استوجب التأليه والعبادة دون سائر خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي وإثباته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- التحريم والتحليل من حق الله تعالى دون سائر خلقه.
3- حرمة الكذب على الله، وإن صاحبه مستوجب للعذاب.
4- ما أعظم نعم الله تعالى على العباد ومع هذا فهم لا يشكرون إلا القليل منهم
5- وجوب مراقبة الله تعالى، وحرمه الغفلة في ذلك.
6- إثبات اللوح المحفوظ وتقريره كما صرحت به الآيات والأحاديث.
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
شرح الكلمات:
ألا: أداة استفتاح وتنبيه.
إن أولياء الله: جمع وليّ وهو المؤمن التقي بشرط أن يكون إيمانه وتقواه على نور من الله.
لا خوف عليهم: أي لا يخافون عند الموت ولا بعده، ولا هم يحزنون على ما تركوا بعد موتهم.
آمنوا: أي صدقوا بالله وبماء جاء عن الله وبرسول الله وبما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/486)
يتقون: أي ما يسخط الله تعالى من ترك واجب أو فعل حرام.
لهم البشرى: أي بالجنة في القرآن الكريم وعند الموت وبالرؤيا الصالحة يراها أو ترى له.
لا تبديل لكلمات الله: أي لوعده الذي يعده عباده الصالحين، لأن الوعد بالكلمة وكلمه الله لا تبدل.
الفوز: النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأداة التنبيه {ألا} وأداة التوكيد {إن} فيقول: {ألا إن أولياء1 الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي لا يخافون عند الموت ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم بعد موتهم ولا في الدار الآخرة وبين تعالى أولياءه وعرف بهم فقال: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} 2 أي آمنوا به وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله عن ربه، وكانوا يتقون طوال حياتهم وسائر ساعاتهم سخط الله تعالى فلا يتركون واجباً هم قادرون على القيام به، ولا يغشون محرماً لم يُكرهوا عليه. وقوله تعالى: {لهم البشرى} في الحياة الدنيا3 وفي الآخرة: أي لهم بشرى ربهم في كتابه برضوانه ودخول الجنة ولهم البشرى بذلك عند الاحتضار تبشرهم الملائكة برضوان الله وجنته وفي الآخرة عند قيامهم من قبورهم تتلقاهم الملائكة بالبشرى.
وقوله تعالى: {لا تبديل لكلمات الله} 4 وهو تأكيد لما بشرهم، إذ تلك البشرى كانت بكلمات الله وكلمات الله لا تتبدل فوعد الله إذاً لا يتخلف.
__________
1 الولي: مشتق من الولي بسكون اللام الذي هو القرب، ومتى زكت نفس المؤمن بالإيمان والعمل الصالح، وتخلّيها عن الشرك، والمعاصي قُرب من الله تعالى فوالاه، ومن آيات الولاية: استجابة الدعاء وهرمن الكرامات التي يكرم الله تعالى بها أولياءه وفي الحديث: "الذين يُذْكَرُ الله برؤيتهم" وفي لفظ. "الذين إذا رُؤوا ذُكر الله" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء، والشهداء. قيل من هم يا رسول الله؟ لمنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تخابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ: {ألا إن أولياء الله} الآية.
2 الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أي: كأنّما سائل قال: مَنْ هم أولياء الله؟ فأجيب: الذين آمنوا وكانوا يتقون".
3 لحديث: "انقطع الوحي ولم يبق إلاّ المبشرات قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها البد المؤمن أو تُرى له".
4 كلمات الله هي: التي بها مواعيده ولذا فما يباشر الله تعالى به أولياءه هو كائن لا محالة إذ مواعيده لا تتبدل ووعوده لا تخلف.(2/487)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ولاية الله تعالى بطاعته وموافقته في محابه ومكارهه فمن آمن إيماناً يرضاه الله، واتقى الله في أداء الفرائض واجتناب المناهي فقد صار ولي الله والله وليه.
2- البشرى هي ما يكرم الله به برؤيا صالحة يراها الولي أو تُرى له.
3- الأولياء هم أهل الإيمان والتقوى فالكافر والفاجر لا يكون وليا أبداً، إلا إذا آمن الكافر، وبَرَّ الفاجر بفعل الصالحات وترك المنهيات.
4- صدق إخبار الله تعالى وعدالة أحكامه، وسر ولايته إذ هي تدور على موافقة الرب تعالى فيما يجب من الاعتقادات والأعمال والأقوال والذوات والصفات وفيما يكره من ذلك فمن وافق ربه فقد والاه ومن خالفه فقد عاداه.
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
شرح الكلمات:
لا يحزنك: أي لا يجعلك قولهم تحزن.
إن العزة لله: العزة الغلبة والقهر.
شركاء: أي شركاء بحق يملكون مع الله لعابديهم خيراً أو يدفعون عنهم ضراً.
إلا الظن: الظن أضعف الشك.(2/488)
يخرصون: أي يحزرون ويكذبون.
لتسكنوا فيه: أي تخلدوا فيه إلى الراحة والسكون عن الحركة.
مبصراً: أي مضيئاً ترى فيه الأشياء كلها.
في ذلك: أي من جَعْلِهِ تعالى الليل سكناً والنهار مبصراً لآيات.
يسمعون: أي سماع إجابة وقبول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير قضايا التوحيد الثلاث التوحيد والنبوة والبعث قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ولا يحزنك قولهم} أي لا يجعلك قول المشركين المفترين {لست مرسلاً} وأنك {شاعر مجنون} تحزن فإن قولهم هذا ينتج لهم إلا سوء العاقبة والهزيمة المحتمة، {إن العزة لله جميعاً} 1 فربك القوى القادر سيهزمهم وينصرك عليهم. إذا فاصبر على ما يقولون ولا تأس ولا تحزن. إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. {ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض} خلقاً وملكاً وتصرفاً، كل شيء في قبضته وتحت سلطانه وقهره فكيف تبالي بهم يا رسولنا فتحزن لأقوالهم {وما يتبع الذين يدعون من دون ألله شركاء} أي آلهة حقاً بحيث تستحق العبادة لكونها تملك نفعاً أو ضراً، موتاً أو حياة لا بل ما هم في عبادتها متبعين إلا الظن {وإن هم إلا يخرصون} أي يتقولون ويكذبون. وقوله تعالى {هو الذي2 جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً} أي الإله الحق الذي يجب أن يدعى ويعبد الله الذي جعل لكم أيها الناس ليلاً مظلماً لتسكنوا فيه فتستريحوا من عناء العمل في النهار. وجعل لكم النهار مبصراً3 أي مضيئاً لتتمكنوا من العمل فيه فتوفروا لأنفسكم ما تحتاجون إليه في حياتكم من غذاء وكساء وليست تلك الآلهة من أصنام وأوثان بالتي تستحق الألوهية فتُدْعى وتُعبد. وقوله {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون4} أي إن فيما
__________
1 أي: القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، والقدرة التامة لله وحده، والعزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، والقوي الذي لا يُحال بينه وبين مراده. و {جميعاً} منصوب على الحال، وعزّة المؤمنين هي بعزّة الله فلا منافاة إذاً.
2 من الآية استدلال على عزته تعالى وملكه لكل شيء وقدرته وتصرفه في كل شيء وهو ما أوجب له العبادة دون ما سواه.
3 يقال أبصر النهار، إذا صار ضياء، وأظلم الليل إذا صار ذا ظلام.
4 الجملة المستأنفة، والآيات: الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته، والدلالة تكون مرئية ومسموعة ومعقولة، وعليه فالأعمى والأصم وغير العاقل لا يستفيدون منها فهذه علّة عدم استفادة المشركين من الآيات لفقدهم آلات العقل والسمع والبصر، إذ فسدت بالجهل والتقليد والعناد والمكابرة والجحود.(2/489)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
ذكر تعالى من كماله وعزته وقدرته وتدبيره لأمور خلقه آيات علامات واضحة على أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره، ولكن يرى تلك الآيات من يسمع سماع قبول واستجابة لا من يسمع الصوت ولا يفكر فيه ولا يتدبر عانيه فإن مثله أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- على المؤمن الداعي إلى الله تعالى أن لا يحزنه أقوال أهل الباطل وأكاذيبهم حتى لا ينقطع عن دعوته، وليعلم أن العزة لله جميعاً وسوف يعزه بها، ويذل أعداءه.
2- ما يُعبد من دون الله لم يقم عليه عابدوه أي دليل ولا يملكون له حجة وإنما هم مقلدون يتبعون الظنون والأوهام.
3- مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والتدبير كافية في إثبات العبادة له ونفيها عما سواه.
قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)
شرح الكلمات:
سبحانه: أي تنزه عن النقص وتعالى أن يكون له ولد.
الغَنِيُّ: أي الغِنَى المطلق بحيث لا يفتقر إلى شيء.
إن عندكم من سلطان: أي ما عندكم من حجة ولا برهان.
بهذا: أي الذي تقولونه وهو نسبة الولد إليه تعالى.
متاع في الدنيا: أي ما هم فيه اليوم هو متاع لا غير وسوف يموتون ويخسرون.(2/490)
كل شيء.
يكفرون: أي بنسبة الولد إلى الله تعالى، وبعبادتهم غير الله. سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تحقيق التوحيد وتقريره بإبطال الشرك وشبهه فقال تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} أي قال المشركون أن الملائكة بنات الله1 وهو قول مؤسف محزن للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقولهم له {لست مرسلاً} ، وقد نهي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحزن من جراء أقوال المشركين الفاسدة الباطلة. ونزه الله تعالى نفسه عن هذا الكذب فقال سبحانه، وأقام الحجة على بطلان قول المشركين بأنه هو الغَنيُّ الغِنَى الذاتي الذي لا يفتقر معه إلى غيره فكيف إذاً يحتاج إلى ولد أو بنت فيستغني به وهو الغني الحميد، وبرهان آخر على غناه أن له ما في السموات وما في الأرض الجميع خلقه وملكه فهل يعقل أن يتخذ السيد المالك عبداً من عبيده ولداً له. وحجة أخرى هل لدى الزاعمين بأن لله ولداً حجة تثبت ذلك والجواب لا، لا. قال تعالى مكذباً إياهم: {إن عندكم من سلطان بهذا} 2 أي ما عندكم من حجة ولا برهان بهذا الذي تقولون ثم وبخهم وقرعهم بقوله: {أتقولون على3 الله ما لا تعلمون؟} وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول معلناً عن خيبة الكاذبين وخسرانهم: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} 4 إن قيل كيف لا يفلحون وهم يتمتعون بالأموال والأولاد والجاه والسلطة أحياناً فالجواب في قوله تعالى {متاع في الدنيا} 5 أي ذلك متاع في الدنيا، يتمتعون به إلى نهاية أعمارهم، ثم إلى الله تعالى مرجعهم جميعاً، ثم يذيقهم العذاب الشديد الذي ينسون معه كل ما تمتعوا به في الحياة الدنيا، وعلل
__________
1 وقال اليهود: عزير بن الله وقال النصارى عيسى بن الله والكل مفتر كذَّاب، ولا شك أن الشيطان هو الذي زيّن لهم هذا الباطل ليغويهم فيضلهم ويهلكهم.
2 إن نافية بمعنى: (ما) كما هي في التفسير أي: ما عندكم من حجة تثبت ما ادعيتموه وتُلزم به لقوتها كقوة ذي السلطان.
3 الاستفهام للتوبيخ والتقريع بجهلهم وكذبهم إذ الولد يتطلب المجانسة والمشابهة بينه وبين من ينسب إليه وأين ذلك؟ والله ليس كمثله شيء إذ هو خالق كل شيء.
4 الفلاح: الفوز، والفوز هي السلامة من المرهوب والظهر بالمحبوب المرغوب، والمفترون على الله الكذب لا ينجون من النار ولا يدخلون الحنة فهم إذا خاسرون غير مفلحين.
5 هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها جواب سؤال هو: كيف لا يفلحون وهم في عزّة وقدرة وسلطان فيجاب السائل: بأن هذا متاع في الدنيا زائل لا قيمة له، بالمقابلة بالفلاح المنتفي عنهم وهو فلاح الآخرة.(2/491)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
تعالى ذلك العذاب الشديد الذي أذاقهم بكفرهم فقال: {بما كانوا يكفرون} 1 أي يجحدون كمال الله وغناه فنسبوا إليه الولد والشريك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر من ينسب إلى الله تعالى أي نقص كالولد والشريك أو العجز مطلقاً.
2- كل دعوى لا يقيم لها صاحبها برهاناً قاطعاً وحجة واضحة فلا قيمة لها ولا يحفل بها.
3- أهل الكذب على الله كالدجالين والسحرة وأهل البدع والخرافات لا يفلحون ونهايتهم الخسران.
4- لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بما يرى عليه أهل الباطل والشر من المتع وسعة الرزق وصحة البدن فإن ذلك متاع الحياة الدنيا، ثم يؤول أمرهم إلى خسران دائم.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73)
شرح الكلمات:
واتل عليهم نبأ نوح: أي اقرأ على المشركين نبأ نوح أي خبره العظيم الخطير.
__________
1 الباء في {بما كانوا يكفرون} للتعليل الذي هو السببيّة أي: بسبب كفرهم، إذ الكفر خبث نفوسهم فاستوجبوا النار وعذابها.(2/492)
كبر عليكم مقامي: أي عظم عليكم مقامي بينكم أدعو إلى ربي.
فأجمعوا أمركم: أي اعزموا عزماً أكيداً.
غمّة: أي خفاء ولبساً لا تهتدون منه إلى ما تريدون.
ثم اقضوا إلي: أي انفذوا أمركم.
ولا تنظرون: أي ولا تمهلون رحمة بي أو شفقة علي.
فإن توليتم: أي أعرضتم عما أدعوكم إليه من التوحيد.
في الفلك: أي في السفينة.
خلائف: أي يخلف الآخر الأول جيلاً بعد جيل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية المشركين بالرد على دعاواهم وبيان الحق لهم وفي هذه الآيات يأمر الله تعالى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرأ عليهم طرفاً من قصة نوح مع قومه المشركين الذين كانت حالهم كحال مشركي العرب سواء بسواء وفي قراءة هذا القصص فائدتان الأولى تسلية الرسول وحمله على الصبر، والثانية تنبيه المشركين إلى خطإهم، وتحذيرهم من الاستمرار على الشرك والعصيان فيحل بهم من العذاب ما حل بغيرهم قال تعالى: {واتل عليهم نبأ نوح} 1 أي خبره العظيم الشأن وهو قوله لهم {يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي} 2 أي عظم وشق عليكم وجودي بينكم أدعوكم إلى الله، وتذكيري إياكم بآيات الله، فإني3 توكلت على الله فأجمعوا أمركم أي اعزمرا عزماً أكيداً وادعوا أيضاً شركاءكم للاستعانة بهم، ثم أحذركم أن يكون أمركم عليكم غمة أي4 خفياً ملتبساً عليكم فيجعلكم تترددون في إنفاذ ما عزمتم عليه، ثم اقضوا5 إليَّ ما تريدون من قتلي أو نفعي ولا
__________
1 {اتل} فعل أمر حذفت منه الواو لبنائه على حذفها إذ ماضيه تلا ومضارعه يتلو، والأمر: اتل بمعنى اقرأ، والتلاوة: موالاة الكلمات والقراءة جمعها.
2 المقام: بفتح القاف، موضع القيام، والمُقام بالضمّ الإقامة، ومعنى كبُر: ثقل وعظم.
3 هذه الجملة {فعلى الله توكلت} هي جواب الشرط الذي هو: فان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله التي هي دلائل فضله ودلائل وحدانيته تعالى.
4 الغمّة والغمَ بمعنى واحد، ومعناه التغطية والستر ومنه: غم الهلال إذا استتر، قال الشاعر:
لعمرك ما أمري عَليّ بغمّة ... نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمد
وأصل الغمّ: مشتق من الغمامة، وكل أمر مبهم ملتبس فهو غمّة.
5 أي: أنفذوا ما حكتم به عليَّ من قتلي إن أردتم ذلك.(2/493)
تنظرون أي لا تؤخروني أي تأخير. وقوله تعالى: {فإن توليتم} أي أعرضتم عن دعوتي وتذكيري ولم تقبلوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله تعالى وحده، فما سألتكم عليه من أجر أي ثواب، حتى تتولوا. إن أجري إلا على ربي الذي أرسلني وكلفني. وقد أمرني أن أكون من المسلمين له قلوبهم ووجوههم وكل أعمالهم فأنا كذلك كل عملي له فلا أطلب أجراً من غيره قال تعالى: {فكذبوه} أي دعاهم واستمر في دعائهم إلى الله زمناً غير قصير وكانت النهاية: أن كذبوه، ودعانا لنصرته فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة وجعلناهم خلائف1 لبعضهم بعضاً أي يخلف الآخر الأول، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها عبدنا نوحاً فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبة المنذرين الذين لم يقبلوا النصح ولم يستجيبوا للحق إنها عاقبة وخيمة إذ كانت إغراقاً في طوفان وناراً في جهنم وخسراناً قال تعالى في سورة نوح: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الدعاة بمثل موقف نوح العظيم إذ قال لقومه: أجمعوا أمركم ونفذوا ما تريدون إني توكلت على الله.
2- ثمرة التوكل شجاعة واطمئنان نفس وصبر وتحمل مع مضاء عزيمة.
3- دعوة الله لا ينبغي أن يأخذ الداعي عليها أجراً إلا للضرورة.
4- بيان سوء عاقبة المكذبين بعد إنذارهم وتحذيرهم.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75)
__________
1 جمع خليفة وهو اسم لمن يخلف غيره.(2/494)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
شرح الكلمات:
بالبينات: أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم، وما يدعون إليه من توحيد الله تعالى.
نطبع: الطبع على القلب عبارة عن تراكم الذنوب على القلب حتى لا يجد الإيمان إليه طريقاً.
المعتدين: الذين تجاوزوا الحد في الظلم والاعتداء على حدود الشرع.
الحق.: الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام وهي تسع.
لتلفتنا: لتصرفنا وتحول وجوهنا عما وجدنا عليه آباءنا.
الكبرياء: أي العلو والسيادة والملك على الناس.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى طرفاً من قصة نوح عليه السلام وأبرز فيها مظهر التوكل على الله تعالى من نوح ليُقتدى به، ومظهر نصرة الله تعالى لأوليائه وهزيمته أعدائه ذكر هنا سنة من سننه في خلقه وهي أنه بعث من بعد نوح رسلاً كثيرين1 إلى أممهم فجاؤوهم بالبينات أي بالحجج والبراهين على صدقهم وصحة ما جاءوا به ودعوا إليه من توحيد الله، فما كان أولئك الأقوام ليؤمنوا بما كذب به من سبقهم من أمة نوح. قال تعالى: {كذلك نطبع على2
__________
1 كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم.
2 {نطبع} نختم، إذ الختم والطبع واحد، والطبع يكون بالخاتم.(2/495)
قلوب المعتدين} هذا بيان سنة الله تعالى في البشر وهي أن العبد إذا أذنب وواصل الذنب بدون توبة يصبح الذنب طبعاً من طباعه لا يمكنه أن يتخلى عنه، وما الذنب إلا اعتداء على حدود الشارع فمن اعتدى واعتدى وواصل الاعتداء حصل له الطبع وكان الختم على القلب فيصبح لا يقبل الإيمان ولا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر. وقوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون} 1 أي من بعد الأمم الهالكة بعثنا رسولينا موسى وهرون ابني عمران إلى فرعون وملئه بآياتنا المتضمنة الدليل على صحة مطلب رسولينا وهو توحيد الله وإرسال بني إسرائيل معهما، {فاستكبروا} أي فرعون وملؤه {وكانوا قوماً مجرمين} حيث أفسدوا القلوب2 والعقول وسفكوا الدماء وعذبوا الضعفاء يقول تعالى عنهم {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين} أي لما بهرتهم المعجزات وهي آيات موسى وأبطلت إفكهم قالوا إن هذا لسحر مبين تخلصاً من الهزيمة التي لحقتهم، فرد موسى عليهم بقوله {أتقولون للحق لما جاءكم} هذا سحر3 ثم بعد توبيخهم استدل على بطلان قولهم بكونه انتصر عليهم فأفلح بينهم وفاز عليهم فقال: {أسحر هذا ولا يفلح الساحرون} فلو كان ما جئت به سحراً فكيف أفلحت في إبطال سحركم وهزيمة سحرتكم. فلما أفحمهم بالحجة قالوا مراوغين: {أجئتنا لتلفتنا} أي تصرفنا {عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكما الكبرياء في الأرض} أي وتكون لكما السيادة والملك في أرض مصر فسلكوا مسلك الاتهام السياسي. وقالوا {وما نحن لكما بمؤمنين} أي بمصدقين ولا متبعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في البشر وهي أن التوغل في الشر والفساد والظلم يوجب الختم على
__________
1 أي: من بعد الرسول والأمم إذ لكل امّة رسول.
2 أفسدوا القلوب بالشرك والكفر والعقول بالسحر والأباطيل وسفكوا الدماء بقتل ذكران بني إسرائيل الصغار (المواليد) .
3 مفعول {أتقولون} محذوف لدلالة الكلام عليه وهو: إن هذا لسحر مبين وتقدير الكلام أنهم لما قالوا في الآيات لسحر مبين رد عليهم موسى بقوله: أتقولون للحق لما جاءكم هذا. أسحر هذا؟ أي كيف يكون هذا الذي جئتكم به من الآيات سحراً؟ والساحر لا يفلح وقد أفلحت فبطل أن يكون ما جئتكم به من الآيات سحراً للحق: اللام يسميهم بعضهم لام المجاوزة فهي بمعنى عن أي: تقولون عن الحق كذا. والظاهر أنها لام التعليل.(2/496)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
القلوب فيحرم العبد الإيمان والهداية.
2- ذم الاستبكار وأنه سبب كثير من الإجرام.
3- تقرير أن السحر صاحبه لا يفلح أبداً ولا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مرهوب.
4- الاتهامات الكاذبة من شأن أهل الباطل والظلم والفساد.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
شرح الكلمات:
ساحر عليم: أي ذو سحر حقيقي له تأثير عليم بالفن.
ألقوا: أي ارموا في الميدان ما تريدون إلقاءه من ضروب السحر.
إن الله سيبطله: أي يظهر بطلانه أمام النظارة من الناس.
ويحق الله الحق: أي يقرر الحق ويثبته.
بكلماته: أي بأمره إذ يقول للشيء كن فيكون.
المجرمون: أهل الإجرام على أنفسهم وعلى غيرهم وهم الظلمة المفسدون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصة موسى بعد قصة نوح عليهما السلام في الآيات السابقة لما غلب موسى فرعون وملأه بالحجة اتهم فرعون موسى وأخاه هارون بأنهما سياسيان يريدان الملك والسيادة على البلاد لا همَّ لهما إلا ذاك وكذب فرعون وهو من الكاذبين وهنا أمر(2/497)
رجال دولته أن يحضروا له علماء السحر1 ليبارى موسى في السحر فجمع سحرته فقال لهم موسى {ألقوا ما أنتم ملقون} 2 فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فنظر إليه موسى وقال: {ما جئتم3 به السحر إن الله سيبطله4 إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولوكره المجرمون} 5 وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- للسحر طرق يتعلم بها وله علماء به وتعلمه حرام واستعماله حرام.
2- حد الساحر القتل لأنه إفساد في الأرض.
3- جواز المبارزة للعدو والمباراة له إظهاراً للحق وإبطالاً للباطل.
4- عاقبة الفساد وعمل أصحابه الخراب والدمار.
5- متى قاوم الحق الباطل انهزم الباطل وانتصر الحق بأمر الله تعالى ووعده الصادق.
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) َقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) َقَالُواْ عَلَى اللهِ
__________
1 طلب فرعون بإتيانه بالسحرة إذ قال: أئتوني بكل ساحر عليم قال هذا لما شاهد العصا واليد البيضاء فاعتقد أنها سخر فأراد أن يقابله بسحر قومه.
2 أي: اطرحوا ما معكم من حبالكم وعصّيكم.
3 أي: ما أظهرتموه لنا من هذه الحبال والعصي، وقد تراءت وكأنها حيّات وثعابين هو السحر وعلّل لذلك. بقوله إنّ الله سيبطله وعلة أخرى وهو أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وإظهار اسم الجلالة في التعليلين: {إن الله سيبطله} {إنّ الله لا يصلح عمله المفسدين} لإلقاء الروع وتربية المهابة في النفوس.
4 قال ابن عباس رضي الله عنه من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. {ما جئتم به السحر إنّ الله سيبطله إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين} لم يضرّه كيد ساحر.
5 أراد بالمجرمين: فرعون وملأه، وفي الكلام تعريض بهم، وعدل عن وصفهم بالإجرام لأنّه مأمور أن يقول قولاً ليّنأ فاستغنى بالتعريض بدل التصريح.(2/498)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
شرح الكلمات:
فما آمن لموسى: أي لم يَنْقَدْ له ويتبعه.
إلا ذرية: أي طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل.
وملائهم: أي أشرافهم ورؤسائهم.
أن يفتنهم: أن يضطهدهم ويعذبهم.
لعال في الأرض: قاهر مُستبدّ.
مسلمين: مذعنين منقادين لأمره ونهيه.
فتنة للقوم الظالمين: أي لا تفتنهم بنا بأن تنصرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا كفراً.
أن تبوَّءا: اتخذا لقومكما بمصر بيوتا تبوءون إليها وترجعون.
قبلة: أي مساجد تصلون فيها.
معنى الآيات:
بعد ذلك الانتصار الباهر الذي تم لموسى على السحرة، والهزيمة المرة التي لحقت فرعون ولم يؤمن لموسى ويتابعه إلا ذرّيّة من بني إسرائيل، وعدد قليل من آل فرعون كامرأته ومؤمن آل فرعون والماشطة قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية1 من قومه على خوف من فرعون} أي مع خوف من فرعون أن يفتنهم وقوله: {وملائهم} عائد إلى مؤمنى آل فرعون أي مع خوف من ملائهم أي رؤسائهم وأشرافهم أن يفتنوهم أيضاً، وقوله تعالى {وإن فرعون لعال في الأرض} أي إنه قاهر متسلط مستبد ظالم، {وإنه لمن
__________
1 المراد بالذرية أولاد بني إسرائيل الشبان الذين آمنوا عند مشاهدّة المباراة وانتصار موسى فيها.(2/499)
المسرفين} 1 في الظلم فلذا خافوه لما آمنوا، ولما ظهر الخوف علي بني إسرائيل قال لهم موسى {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} 2 ففوضوا أمركم إليه إن كنتم حقاً مسلمين لله منقادين لأمره ونهيه، فأجابوا قائلين: {على الله توكلنا} وسألوا الله تعالى أن لا يفتن قوم فرعون بهم بأن ينصرهم عليهم فيزدادوا كفراً وظلماً، وضمن ذلك أن لا تسلط الظالمين علينا فيفتونا في ديننا بصرفنا عنه بقوة التعذيب {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} وهذا حسن توسل منهم إذا قالوا برحمتك فتوسلوا إلى الله برحمته ليستجيب دعاءهم، والمراد من القوم الكافرين هنا فرعون وملأه. وقوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه} أي هارون {أن تبوءا لقومكما} 3 أي من بني إسرائيل {بمصر} أي بأرض مصر4 {بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة} 5 أي متقابلة ومساجد6 تصلون فيها {وأقيموا الصلاة} على الوجه الذي شرع لكم. وهذا بناء على أن بني إسرائيل بعد الانتصار على فرعون أخذوا ينحازون من مجتمع فرعون فأمروا أن يكونوا حياً مستقلاً استعداداً للخروج من أرض مصر فأمرهم الرب تبارك وتعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة أي متقابلة ليعرفوا من يدخل عليهم ومن يخرج منهم وليصلوا فيها كالمساجد حيث منعوا من المساجد إما بتخريبها وإما بمنعهم منها ظلماً وعدواناً وقوله تعالى {وبشر المؤمنين} أي وبشر يا رسولنا7 المؤمنين الصادقين في إيمانهم الكاملين فيه بحسن العاقبة بكرامة الدنيا وسعادة الآخرة بدخول دار السلام.
__________
1 {المسرفين} : أي المجاوزين الحد في الكفر لأنه كان عبداً فادعى الربوبية.
2 كرر جملة الشرط تأكيداً، مبيّناً أن كمال الإيمان يقتضي التوكل على الله تعالى.
3 أي: اتخذا، يقال: بوّاه الدار: انزله إيَّاها وأسكنه فيها. وفي الحديث "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" أي: فلينزله ملازما له.
4 قيل: المراد بمصر: الأسكندرية.
5 في الآية دليل علي جواز صلاة الخائف المكتوبة في بيته، أمّا النافلة فهي في البيوت أفضل لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
6 في هذا جمع بين رأيين الأول: أن المراد من كلمة قبلة: أنها مساجد والثاني: أنها متقابلة ليتم لهم بذلك حمايتهم من عدوهم بعد أن استقلوا عنه.
7 هو موسى علبه السلام، بدليل السياق الكريم.(2/500)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أراه كيف انتصر موسى بالمعجزات ومع ذلك لم يتابعه إلا القليل من قومه.
2- التنديد بالعلو في الأرض والإسراف في الشر والفساد وبأهلهما.
30- وجوب التوكل على الله تعالى لتحمل عبء الدعوة إلى الله تعالى والقيام بطاعته.
4- مشروعية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته.
5- اتخاذ المساجد في المنازل للصلاة فيها عند الخوف.
6- وجوب إقام الصلاة.
7- بشرى الله تعالى للمؤمنين والمقيمين للصلاة بحسن العاقبة في الدارين.
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89)
شرح الكلمات:
زينة: أي حلياً وحللاً ورياشاً ومتاعاً.
أموالاً: أي كثيرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.
اطمس: أي أزل أثرها من بينهم بإذهابها.
واشدد على قلوبهم: اربط عليها حتى لا يدخلها إيمان ليهلكوا وهم كافرون.(2/501)
أجيبت دعوتكما:. أي استجابها الله تعالى.
فاستقيما: على طاعة الله بأداء رسالته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
سبيل الذين لا يعلمون: أي طريق الجهلة الذي لا يعرفون محاب الله ومساخطه ولا يعلمون شرائع الله التي أنزل لعباده.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل فبعد أن لج فرعون في العناد والمكابرة بعد هزيمته سأل موسى ربه قائلاً {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه} أي أعطيتهم {زينة} أي ما يتزين به من الملابس والفرش والأثاث وأنواع الحلي والحلل وقوله {وأموالاً} 1 أي الذهب والفضة والأنعام والحرث {في الحياة الدنيا} أي في هذه الحياة الدنيا وقوله: {ربنا ليضلوا عن سبيلك} 2 أي فيسبب ذلك لهم الضلال إذاً {ربنا اطمس3 على أموالهم} أي أذهب أثرها بمسحها وجعلها غير صالحة للانتفاع بها، {واشدد على4 قلوبهم} أي اطبع على قلوبهم واستوثق منها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الموجع أشد الإيجاع، قال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما، فاستقيما} 5 على طاعتنا بالدعوة إلينا وأداء عبادتنا والنصح لعبادنا والعمل على إنقاذ عبادنا من ظلم الظالمين، {ولا تتبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون} أي فتستعجلا وقوع العذاب فإن الذين لا يعلمون ما لله من حكم وتدابير وقضاء وقدر يستعجلون الله تعالى في وعده لهم فلا تكونوا مثلهم بل انتظروا وعدنا واصبروا حتى يأتي وعد الله وما الله بمخلف وعده.
__________
1 قيل: إنه كان لهم من فسطاط مصر إلى ارض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد، والياقوت.
2 في هذه اللام أقوال: أصحها: أنها لام العاقبة، والصيرورة. أي: يا رب إنك آتيت فرعون وقومه أموالاً ليؤول أمرهم بسبب تلك الأموال إلى ضلالهم.
3 أي: عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. وفعلا أصبحت حجارة لا ينتفع لها وكان ذلك عقوبة منه تعالى لهم على كفرهم وعنادهم.
4 قد استشكل العلماء وجه دعاء موسى على فرعون وقومه بالهلاك إذ المفروض أن يدعو لهم بالهداية. وأجيب بأنه قد علم بإعلام الله تعالى له أنهم لا يؤمنون فلذا دعا عليهم، كما أعلم الله تعالى نوحاً بعدم إيمان قومه فلذا دعا عليهم، إذ قال له ربَّه: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} وهنا دعا عليهم قائلاً: {ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً} .
5 كان موسى يدعو، وهارون يؤمن أي: يقول: آمين فاعتبر داعيا مع أخيه. لأنّ قول آمين معناه: اللهم استجب دعاءنا.(2/502)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية الدعاء بالهلاك على أهل الظلم.
2- كثرة المال وأنواع الزينة، والانغماس في ذلك والتلهي به يسبب الضلال لصاحبه.
3- الذين بلغوا حداً من الشر والفساد فطبع على قلوبهم لا يموتون إلا على الكفر فيخسرون.
4- المؤمِّن داع فهو شريك في الدعاء1 فلذا أهل المسجد يؤمِّنون على دعاء الإمام في الخطبة فتحصل الإجابة للجميع، ومن هنا يخطيء الذين يطوفون أو يزورون إذ يدعون بدعاء المطوف ولا يؤمِّنون.
5- حرمة إتباع طرق أهل الضلال، وتقليد الجهال والسير وراءهم.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
شرح الكلمات:
وجاوزنا ببني إسرائيل: أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه.
البحر: بحر القلزم.
__________
1 روى الترمذي الحكيم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن الله قد أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم: السلام، وهي تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة وآمين إلاَّ ما كان من موسى وهارون" وعلى هذا فموسى كان يدعو وهارون يؤمن فاعتبر داعياً.(2/503)
بغيا وعدوا 1: أي بغيا على موسى وهرون واعتداء عليهما.
الآن: أي أفي هذا الوقت تقر بالوحدانية وتعترف له بالذلة؟!.
ببدنك: أي بجسدك لا روح فيه.
آية: علامة على أنك عبد وليس برب فيعتبروا بذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة موسى وهرون مع فرعون وبني إسرائيل قال تعالى: {وجاوزنا2 ببني إسرائيل البحر} وذلك بداية استجابة الله تعالى دعوة موسى وهرون ومعنى {جاوزنا} أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه، وذلك بأن أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ويَبِسَت الأرض ودخل موسى مع بني إسرائيل يتقدمهم جبريل عليه السلام على فرس حتى تجاوزوا البحر إلى الشاطىء، وجاء فرعون على فرسه ومعه ألوف3 الجنود فتبعوا موسى4 وبني إسرائيل فدخلوا البحر فلما توسطوه أطبق5 الله تعالى عليهم البحر فغرقوا أجمعين إلا ما كان من فرعون فإنه لما أدركه الغرق أي لحقه ووصل الماء إلى عنقه أعلن عن توبته فقال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} ولكبريائه لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتاب الله عليه فأنجاه بل قال: {لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} وهو يعرف أنه الله. وقوله: {وأنا من المسلمين} مبالغة في طلب النجاة من الغرق بالتوبة حيث أعلن أنه من المسلمين أي المستسلمين المنقادين لأمره. فرد الله تعالى بقوله: {آلآن} أي وقت التوبة6 والإسلام بعد الإيمان،
__________
1 {بغياً} منصوب على الحال. و {عدوا} معطوف عليه، وكان اتباع فرعون بني إسرائيل بغيا وعدوا لأنه ليس له شائبة حق في منعهم من الخروج من بلاده إلى بلادهم.
2 جاوزنا وجوّزنا: بمعنى واحد.
3 قال القرطبي: كان بنو إسرائيل ستمائة وعشرين ألفاً، وكان جيش فرعون ألفي ألف وستمائة ألف. أي مليونين ونصفاً وزيادة.
4 تبع واتبع بمعنى واحد إذا لحقه وأدركه، وأمّا اتبع بالتشديد فإن معناه: سار خلفه.
5 روى الترمذي وحسّنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "لما أغرق الله فرعون قال: آمنت انه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من وحل البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمه" وحل البحر: الطين الأسود الذي بكون في أسفله، ومعنى تدركه الرحمة: أي يقول لا اله إلا الله.
6 لأنّ التوبة تقبل من العبد ما لم يرَ علامات الموت بمشاهدة الملائكة، وفي الحديث الصحيح: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر".(2/504)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{وقد عصيت قبل} وتمردت على الله وشرعه وكفرت به وبرسوله {وكنت من المفسدين} للبلاد والعباد بالظلم والشر والفساد، {فاليوم ننجيك} أي نجعلك على نجوة من الأرض أي مرتفع منها {ببدنك} أي يجسمك دون روحك، وبذلك {لتكون لمن خلفك} أو بعده من الناس {آية} أي علامة على أنك عبد مربوب وليس كما زعمت أنك رب وإله معبود، وتكون عبرة لغيرك فلا يطغى طغيانك ولا يكفر كفرانك فيهلك كما هلكت، وقوله تعالى: {وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} إخبار منه بواقع الناس ومن أولئك الغافلين عن آيات الله وهي تتلى عليهم أهل مكة من كفار قريش وما سيق هذا القصص إلا لأجل هدايتهم. لو كانوا يهتدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا تقبل التوبة عند معاينة العذاب وفي الحديث "تقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
2- أكمل الأديان وأفضلها الإسلام ولهذا أهل اليقين يسألون الله تعالى أن يتوفاهم مسلمين ولما أيقن فرعون بالهلاك زعم أنه من المسلمين.
3- فضل لا إله إلا الله فقد ورد أن جبريل كان يحول بين فرعون وبين أن يقول: لا إله إلا الله فينجو فلم يقلها فغرق وكان من الهالكين.
4- تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس في هذه الحياة غافلون عما يراد بهم ولهم ولم ينتبهوا حتى يهلكوا.
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
شرح الكلمات:
مبوأ صدق: أي أنزلناهم منزلاً صالحاً طيباً مرضياً.
من الطيبات: أي من أنواع الأرزاق الطيبة الحلال.(2/505)
حتى جاءهم العلم: وهو معرفتهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو النبي المنتظر وأنه المنجي.
يقضي بينهم: يحكم بينهم.
فيما كانوا في يختلفون: وأي في الذي اختلفوا من الحق فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار.
معنى الآية الكريمة:
هذه خاتمة الحديث عن موسى وبني إسرائيل بعد أن نجاهم الله من عدوهم بإهلاكه في اليم قال تعالى: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} أي أنزلناهم مبوأ صالحاً طيباً وهو بلاد فلسطين من أرض الشام المباركة1، وذلك بعد نجاتهم من التيه ودخولهم فلسطين بصحبة نبي الله يوشع بن نون عليه السلام، وقوله {ورزقناهم من الطيبات} إذ أرض الشام أرض العسل والسمن والحبوب والثمار واللحم والفحم وذكر هذا إظهار لنعم الله تعالى ليشكروها. وقوله: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} يريد أن بني إسرائيل الذين أكرمهم ذلك الإكرام العظيم كانوا قبل مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متفقين على دين واحد منتظرين النبي المنتظر المبشر به في التوراة الذي سينقذ بني إسرائيل مما حل بهم من العذاب والاضطهاد على أيدي أعدائهم الروم، فلما جاءهم وهو العلم وهو القرآن والمنزل عليه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلفوا فمنهم من آمن به2، ومنهم من كفر. وقوله تعالى في خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن ربك يقضي3 بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الإيمان لك واتباعك واتباع ما جئت به من الهدى ودين الحق، فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- بيان إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.
__________
1 وروي ان ابن عباس رضي الله عنهما قال: في المبوأ الصدق: هو بنو قريظة وبنو النضير، وأهل عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقرينة: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} الذي هو القرآن يحمله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرينة ما في التفسير هي أنّ الحديث كان في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك فرعون وهو يناسبه أن يكون المبوأ: أرض فلسطين والشام.
2 كعبد الله بن سلام وأمثاله.
3 يقضي: معناه يحكم، فيحكم لأهل الإيمان والاستقامة بدخول الجنة ويحكم لأهل الكفر والضلال النار.(2/506)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
2- الرزق الطيب هو ما كان حلالاً لا ما كان حراماً.
3- إذا أراد الله هلاك أمة اختلف بسبب العلم الذي هو في الأصل سبب الوحدة الوئام.
4- حرمة الاختلاف في الدين إذ كان يؤدي إلى1 الانقسام والتعادي والتحارب.
5- يوم القيامة هو يوم الفصل الذي يقضي الله تعالى فيه بين المختلفين بحكمه العادل.
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97)
شرح الكلمات:
شك:. ما قابل التصديق فالشاك غير المصدق.
مما أنزلنا إلبك: أي في أن بني إسرائيل لم يختلفوا إلا من2 بعد ما جاءهم العلم.
الكتاب: أي التوراة والإنجيل.
فلا تكونن من الممترين: أي لا تكونن من الشاكين.
حقت عليهم: أي وجبت لهم النار بحكم الله بذلك في اللوح المحفوظ.
حتى يروا العذاب: أي يستمرون على تكذيبهم حتى يروا العذاب يؤمنوا حيث لا ينفع الإيمان3.
__________
1 مثال الاختلاف الذي لا يؤدي إلى الانقسام والتعادي والتحارب: الخلاف الفقهي بين الأئمة الأربعة، ومثال الخلاف المفضي إلى التعادي والتحارب الخلاف بين أهل السنة والفرق الضالة كالخوارج والروافض وأمثالهما.
2 هذا وجه من جملة أوجه فَسّرت بها الآية.
3 لا خلاف في أن الإيمان كالتوبة لا يقبلان عند معاينة الموت ففي سورة النساء قال تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار} . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.(2/507)
معنى الآيات:
يقرر تعالى نبوة رسوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل1 الذين يقرأون الكتاب من قبلك} أحبار اليهود ورهبان النصارى فإنهم يعرفون نعوتك وصفاتك في التوراة والإنجيل وإنك النبي الخاتم والمنقذ وأن من آمن بك نجا ومن كفر هلك وهذا من باب الفرض وليكون تهييجاً للغير ليؤمن وإلا فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال: {لا أشك ولا أسأل" وقوله {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} ، يقسم تعالى لرسوله بأنه قد جاءه الحق من ربه وهو الحديث الثابت بالوحي الحق وينهاه أن يكون من الممترين أي الشاكين في صحة الإسلام، وأنه الدين الحق الذي يأبى الله إلا أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقوله {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} أي وينهاه أيضاً أن يكون من الذين كذبوا بوحي الله وشرعه ورسوله المعبر عنها بالآيات لأنها حاملة لها داعية إليها، فتكون من الخاسرين يوم القيامة. وهذا كله من باب ("إياك أعني واسمعي يا جاره") وإلا فمن غير الجائز أن يشك الرسول أو يكذب بما أنزل عليه من الآيات الحاملة من الشرائع والأحكام. وقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} هو كما أخبر عز وجل فالذين قضى2 الله بعذابهم يوم القيامة فكتب ذلك في كتاب المقادير عنده هؤلاء لا يؤمنون أبداً مهما بذل في سبيل إيمانهم من جهد في تبيين الحق وإقامة الأدلة وإظهار الحجج عليهم وفي هذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جراء ما يألم له ويحزن من إعراض كفار قريش وعدم استجابتهم وقوله {ولو جاءتهم كل آية} تأكيد للحكم السابق وهو أن الذي حكم الله بدخولهم النار لا يؤمنون ولا يموتون إلا كافرين لينجز الله ما وعد ويمضي ما قضى وحكم. وقوله: {حتى يروا العذاب الأليم} أي يستمرون على كفرهم بك وبما جئت به حتى يشاهدوا العذاب الأليم وحينئذ يؤمنون كما آمن فرعون عندما أدركه الغرق ولكن لم ينفعه إيمانه فكذلك هؤلاء المشركون من
__________
1 لا حاجة إلى طلب حلول بعيدة لحلّ ما في ظاهر الآية من إشكال، إذ لهذه الآية نطير وهو قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} معنى الآية: أنّ الله تعالى يوجه الخطاب إلى رسوله، وأحبّ الخلق إليه ليكون غيره من باب أولى ألف مرة ومرّة وإلا فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشك ولا يسأل وكيف يشك ويسأل وهو يتلقى الوحي من ربّه؟ وقد قال وقت ما نزلت الآية: "لا أشك ولا أسأل"، وتوجيهنا للآية في التفسير في غاية الوضوح، والحمد لله.
2 إن قيل: كيف يعذبهم لمجرد أن كتب ذلك عليهم؟ قلنا في الجواب إنه ما كتب شقوة نفس أو سعادة أخرى حتى علم ما ستفعله النفس باختيارها من كفر أو إيمان أو خير أو شر.(2/508)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قومك الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم وعندئذ لا ينفعهم إيمانهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- سؤال من لا يعلم من يعلم.
3- التكذيب بآيات الله كفر وصاحبه من الخاسرين.
4- الشك والافتراء في أصول الدين وفروعه كفر.
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر، وإن الشقي من شقي في كتاب المقادير1 والسعيد من سعد فيه.
6- عدم قبول توبة من عاين العذاب في الدنيا بأن رأى ملك الموت وفي الآخرة بعد أن يبعث ويشاهد أهوال القيامة.
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100)
شرح الكلمات:
فلولا: أداة تحضيض هنا بمعنى هلاّ وفيها معنى التوبيخ والنفي.
__________
1 طالع النهر، فقد أوردنا سؤالاً عن هذه المسألة وأجبنا عنه تحت رقم (3) بما يكفي ويغني بإذن الله تعالى.(2/509)
قرية آمنت: أي أهل قرية آمنوا.
يونس: هو يونس بن مَتَّى نبي الله ورسوله1.
إلى حين: أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
أفأنت تكره الناس: أي إنك لا تستطيع ذلك.
إلا بإذن الله.: أي بإرادته وقضائه.
الرجس: أي العذاب
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى في الآيات السابقة أن الخسران لازم لمن كذب بآيات الله، وأن الذين وجب لهم العذاب لإحاطة ذنوبهم بهم لا يؤمنون لفقدهم الاستعداد للإيمان ذكر هنا ما يحض به أهل مكة على الإيمان وعدم الإصرار على الكفر والتكذيب فقال: {فلولا2 كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها} أي فهلا أهل قرية آمنوا فانتفعوا بإيمانهم فنجوا من العذاب اللازم لمن لم يؤمن أي لِمَ لا يؤمنون وما المانع من إيمانهم وهذا توبيخ لهم.
وقوله {إلا قوم3 يونس4 لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} فلم نهلكهم بعذاب استئصال وإبادة شاملة لأنهم لما رأوا أمارات العذاب بادروا إلى التوبة قبل نزوله بهم فكشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتعهم بالحياة إلى حين انقضاء آجالهم فما لأهل أم القرى لا يتوبون كما تاب أهل نَيْنَوى من أرض الموصل وهم قوم يونس عليه السلام.
وقوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} يحمل دلالتين الأولى أن عرض الله تعالى الإيمان على أهل مكة وحضهم عليه وتوبيخهم على تركه لا ينبغي
__________
1 احد أنبياء بني إسرائيل.
2 لولا حرت الأصل فيها أنها للتحضيض، وهو طلب الفعل بحثّ، ولكن إذا دخلت على ماض لم تصبح للتحضيض قطعاً بل للتغليط والتنديم والتوبيخ، وهي هنا لتغليط أهل مكة وتوبيخهم وتنديمهم على إصرارهم على الكفر وعدم توبتهم كما تاب قوم يونس حتى ينجوا من العذاب كما نجوا.
3 كان هؤلاء القوم خليطاً من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر، وكانت بعثة يونس عليه السلام إليهم في بداية القرن الثامن قبل المسيح عليه السلام.
4 إن قوم يونس كانوا بقرية تسمّى نينوي من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، أقام في قومه يدعوهم إلى التوحيد وترك الشرك تسع سنين فيئس من إيمانهم فتوعدهم بالعذاب وخرج من بين أظهرهم وتركهم فلمّا رأوا ذلك خافوا نزول العذاب بهم فجأروا إلى الله تعالى بالاستغفار والدعاء والضراعة يا حي حين لا حي يا حي محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت ارفع عنا العذاب وقد ظهرت أماراته، فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى: {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} .(2/510)
أن يفهم منه أن الله تعالى عاجز عن جعلهم يؤمنون بل لو شاء إيمانهم لآمنوا كما لو شاء إيمان أهل الأرض جميعاً لآمنوا والثانية تسلية الرسول والتخفيف عنه من ألم وحزن عدم إيمان قومه وهو يدعوهم بجد وحرص ليل نهار فأعلمه ربه أنه لو شاء إيمان كل من في الأرض لآمنوا، ولكنه التكليف المترتب عليه الجزاء فيعرض الإيمان على الناس عرضاً لا إجبار معه فمن آمن نجا، ومن لم يؤمن هلك وبدل على هذا قوله له {أفأنت تكره1 الناس حتى يكونوا مؤمنين} أي إن هذا ليس لك، ولا كلفت به، وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} تقرير وتأكيد لما تضمنه الكلام السابق من أن الإيمان لا يتم لأحد إلا بإرادة الله وقضائه، وقوله تعالى: {ويجعل الرجس2 على الذين لا يعقلون} أي إلا أنه تعالى يدعو الناس إلى الإيمان مبيناً لهم ثمراته الطيبة ويحذرهم من التكذيب مبيناً لهم آثاره السيئة فمن آمن نجاه وأسعده ومن لم يؤمن جعل الرجس الذي هو العذاب عليه محيطاً به جزاء له لأنه لا يعقل إذ لو عقل لما كذب ربه وكفر به وعصاه وتمرد عليه وهو خالقه ومالك أمره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده دعوته إياهم إلى الإيمان به وحضهم عليه.
2- قبول التوبة قبل معاينة العذاب، ورؤية العلامات لا تمنع من التربة.
3- إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبداً، وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف.
لا إيمان إلا بإذن الله وقضائه فلذا لا ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم يؤمنوا لأن الله تعالى كتب عذابهم أزلاً وقضى به.
__________
1 الاستفهام: إنكاري ينكر تعالى على رسوله شدّة حرصه على إيمان قومه، حتى لكأنه يريد إكراههم على الإيمان به وبما جاء به من التوحيد.
2 الرجس: بضم الراء وكسرها: العذاب.(2/511)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
شرح الكلمات:
ماذا في السموات والأرض: أي من عجائب المخلوقات، وباهر الآيات.
وما تغني الآيات والنذر: أي ما تغني أيِّ إغناء إذا كان القوم لا يؤمنون.
فهل ينتظرون.: أي ما ينتظرون.
خلوا من قبلهم: أي مضوا من قبلهم من الأمم السابقة.
قل فانتظروا: أي العذاب.
ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا: أي من العذاب المنتظر.
كذلك: أي كذلك الإنجاء ننج المؤمنين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: {قل انظروا1 ماذا في السموات والأرض} من سائر المخلوقات وما فيها من عجائب الصنعة، ومظاهر الحكمة والرحمة والقدرة فإنها تدعو إلى الإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه، وتفند دعوى ألوهية الأصنام والأحجار.
ثم قال تعالى: {وما تغني الآيات والنذر} أي الرسل في هداية قوم قضى الله تعالى أزلاً
__________
1 الفاء للتفريغ فالكلام متفرّع على جملة ما تغني الآيات والنذر. والاستفهام إنكاري تهكمي، وفيه معنى النفي أيضاً، والنكات لا تتزاحم.(2/512)
أنهم لا يؤمنون حتى ينتهوا إلى ما قدر لهم وما حكم به عليهم من عذاب الدنيا والآخرة ولكن لما كان علم ذلك إلى الله تعالى فعلى النذر أن تدعو وتبلغ جهدها والأمر لله من قبل ومن بعد. وقوله: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين1 خلوا من قبلهم} أي إنهم ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلفوا من قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم دعتهم رسلهم وبلغتهم دعوة ربهم إليهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة فاعرضوا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم {فانتظروا2} أي ما كتب عليكم من العذاب إن لم تتوبوا إليه وتسلموا {إني معكم من المنتظرين} فإن كان العذاب فإن سنة الله فيه أن يهلك الظالمين المشركين المكذبين وينجي رسله والمؤمنين وهو معنى قوله تعالى3 في الآية الأخيرة (103) {ثم ننجى4 رسلنا والذين آمنوا، كذلك} أي الإنجاء {حقاً علينا5 ننج المؤمنين} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا تنفع الموعظة مهما بولغ فيها عبداً كُتب أزلاً أنه من أهل النار.
2- ما ينتظر الظلمة في كل زمان ومكان إلا ما حل بمن ظلم من قبلهم من الخزي والعذاب.
3- وعد الله تعالى ثابت لأوليائه بإنجائهم من الهلاك عند إهلاكه الظلمة المشركين.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ
__________
1 المراد من الأيام: العذاب الذي يقع فيها، ويقال فيها الوقائع وهو نحو قولهم: أيام العرب، فلان عالم بأيام العرب أي: ما جرى فيها من أحداث ومنه قوله تعالى: {وذكرهم بأيّام الله} أي: بالعذاب الذي وقع فيها.
2 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة موقع جواب سؤال تقديره: نحن أولاء منتظرون وأنت ماذا تفعل؟
3 {حقا علينا} جملة معترضة لأن المصدر يدل على الفعل، والتقدير أي: حق ذلك علينا حقا أي: أحققناه حقا علينا.
4 {ننجي} قرىء بالتخفيف، والتشديد، والمعنى واحد، وفي المصحف ننج بدون ياء لالتقاء الساكنين.
5 إن انتظار العذاب منذر بنزوله قريباً بديارهم والرسول معهم فمن هنا عطف جملة {ثم ننجي رسلنا} فأعلمهم بنجاة الرسل فكانت بشرى للرسول والمؤمنين.(2/513)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
شرح الكلمات:
من دينى: أي الإسلام في أنه حق.
يتوفاكم: أي يقبض أرواحكم فيميتكم.
وأن أقم وجهك للدين حنيفاً: أي أمرني ربى أن أقم وجهي للدين الإسلامي حنيفاً أي مائلاً عن كل الأدبان إليه دون غبره.
مالا ينفعك ولا يضرك: أي آلهة لا تنفع ولا تضر وهي أصنام المشركين وأوثانهم.
إنك إذاً من الظالمين: أي انك إذا دعوتها من المشركين الظالمين لأنفسهم.
فلا كاشف له إلا هو: أي لا مزيل للضُّر ومبعده عمن أصابه إلا هو عز وجل.
يصيب به: أي بالفضل والرحمة.
وهو الغفور الرحيم: أي لذنوب عباده التائبين الرحيم بعباده المؤمنين.
معنى الآيات:
بعد أن بين تعالى طريق الهدى وطريق الضلال وأنذر وحذر وواعد وأوعد في الآيات السابقة بما لا مزيد عليه أمر رسوله هنا أن يواجه المشركين من أهل مكة وغيرهم بالتقرير التالي فقال: {قل يا أيها الناس} أي مشركي مكة والعرب من حولهم {إن كنتم في شك} وريب1 في صحة ديني الإسلام الذي أنا عليه وأدعو إليه، {فلا أعبد الذين تعبدون من
__________
1 أي: إن كنتم في شك من صحة ديني فأنا غير شاكٍ في صحته وبطلان دينكم فلذا لا أعبد الذين تعبدون. من دون الله.(2/514)
دون الله} فمجرد شككم في صحة ديني لا يجعلني أعبد أوثاناً وأصناماً لا تنفع ولا تضر، {ولكن أعبد الله} الذي ينفع ويضر، يحيى ويميت، الله الذي يتوفاكم أي يميتكم بقبض أرواحكم فهو الذي يجب أن يعبد ويخاف ويرهب {وأمرت أن أكون من المؤمنين} أي أمرني ربي أن أومن به فأكون من المؤمنين فآمنت وأنا من المؤمنين. وقوله تعالى: {وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين} أي وأوحى إليّ ربي آمراً إياي بأن أقيم وجهي لدينه1 الحق فلا ألتفت إلى غيره من الأديان الباطلة، ونهاني مشدداً عليّ أن أكون من المشركين الذين يعبدون معه آلهة أخرى بعد هذا الإعلان العظيم والمفاصلة الكاملة والتعريض الواضح بما عليه أهل مكة من الضلال والخطأ الفاحش، واجه الله تعالى رسوله بالخطاب وهو من باب "إياك أعنى واسمعي يا جاره" فنهاه بصريح القول أن يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره وهو كل المعبودات ما سوى الله عز وجل فقال: {ولا تدع من دون ما لا ينفعك} أي لا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضراً، ولا يضرك بمنع خير عنك، ولا بإنزال شربك فإن فعلت بأن دعوت غير الله فإنك إذاً من الظالمين، ولما كان دعاء النبي غير الله ممتنعاً فالكلام إذاً تعريض بالمشركين وتحذير للمؤمنين، وقوله تعالى: في خطاب رسوله: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له} 2 عنك {إلا هو} عز وجل، {وإن يردك بخير} من الخيور عافية وصحة رخاء ونصر {فلا راد لفضله} أي ليس هناك من يرده عنك بحال من الأحوال، وقوله: {يصيب} 3 أي بالفضل والخير والنعمة {من يشاء من عباده} إذ هو الفاعل المختار، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقوله: {وهو الغفور الرحيم} بيان لصفات الجلال والكمال فيه فإنه تعالى يغفر ذنوب التائبين إليه مهما بلغت في العظم، ويرحم عباده المؤمنين مهما كثروا في العدد، وبهذا استوجب العبادة بالمحبة والتعظيم والطاعة والتسليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- على المؤمن أن لا يترك الحق مهما شك وشكك فيه الناس.
__________
1 الأمر بإقامة الوجه لله كناية عن توجه النفس والإقبال بها على الله تعالى فلا تلتفت راغبة ولا راهبة إلى غير الله تعالى، وهذا كإسلام الوجه لله تعالى في آية: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن} ولازمه ترك كل دين إلى دين الله عزّ وجل.
2 تنكير ضرّ، كتنكير خير يُراد به النوعية الصالحة للقلة والكثرة.
3 يقال: أصابه بكذا: إذا أورده عليه ومسّه به.(2/515)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
2- تحريم الشرك ووجوب تركه وترك أهله..
3- دعاء غير الله مهما كان المدعو شرك محرم فلا يحل أبداً، وإن سموه توسلاً.
4- لا يؤمن عبد حتى يوقن أن ما أراده الله له من خير أو شر لا يستطيع أحد دفعه ولا تحويله بحال من الأحوال، وهو معنى حديث1: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك".
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
شرح الكلمات:
يا أيها الناس: أي يا أهل مكة.
قد جاء الحق: أي الرسول يتلو القرآن ويبين الدين الحق.
من اهتدى: أي آمن بالله ورسوله وعبد الله تعالى موحداً له.
ومن ضل: أي أبى إلا الإصرار على الشرك والتكذيب والعصيان.
فعليها: أي وبال الضلال على نفس الضال كما أن ثواب الهداية لنفس المهتدي.
وما أنا عليكم بوكيل: أي بمجبر لكم على الهداية وإنما أنا مبلغ ونذير.
واصبر حتى يحكم الله: أي في المشركين بأمره.
خير الحاكمين: أي رحمة وعدلاً وإنفاذاً لما يحكم به لعظيم قدرته.
معنى الآيتين:
هذا الإعلان الأخير في هذه السورة يأمر الله تعالى رسوله أن ينادى المشركين بقوله:
__________
1 هذا الكلام مستأنف يحمل إعلاناً عظيماً لأهل مكة أوّلاً، وللناس كافّة ثانياً مفاده: مجيئهم الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق من ربهم وهو الدين الإسلامي فمن دخل فيه اهتدى إلى طريق سعادته ومن أعرض عنه ضل طريق نجاته وسعادته.(2/516)
{يا أيها الناس} وهو نداء عام يشمل البشرية كلها وإن أريد به ابتداء أهل مكة {قد جاءكم الحق من ربكم} وهو القرآن يتلوه رسول الله وفيه بيان الدين الحق الذي لا كمال للإنسان له إلا بالإيمان به والأخذ الصادق بما تضمنه من هدى. وبعد فمن اهتدى بالإيمان والاتباع فإنما ثواب هدايته لنفسه إذ هي التي تزكو وتَطْهُر وتتأهل لسعادة الدارين، ومن ضل بالإصرار على الشرك والكفر والتكذيب فإنما ضلاله أي جزاء ضلاله عائد على نفسه إذ هي التي تَتَدَسَّى وتخبُث وتتأهل لمقت الله وغضبه وأليم عقابه. وما على الرسول المبلغ من ذلك شيء، إذ لم يوكل إليه ربه هداية الناس بل أمره أن يصرح لهم بأنه ليس عليهم بوكيل {وما أنا عليكم بوكيل} 1 وقوله تعالى: {واتبع ما يوحى إليك} 2 أمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتزام الحق باتباع ما يوحى إليه من الأوامر والنواهي وعدم التفريط في شيء من ذلك، ولازم هذا وهو عدم اتباع ما لا يوحى إليه به ربه وقوله: {واصبر حتى يحكم الله3 وهو خير الحاكمين} أمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر على اتباع الوحي والثبات على الدعوة وتحمل الأذى من المشركين إلى غاية أن يحكم الله فيهم وقد حكم فأمره بقتالهم فقتلهم في بدر وواصل قتالهم حتى دانوا لله بالإسلام ولله الحمد والمنَّة، وقوله {وهو خير الحاكمين} 4 ثناء على الله تعالى بأنه خير من يحكم وأعدل من يقضي لكمال علمه وحكمته، وعظيم قدرته، وواسع رحمته.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- تقرير أن القرآن والرسول حق والإسلام حق.
__________
1 هذه الجملة داخلة ضمن الإعلان، وهي أن يعلم أهل مكة والناس من حولهم أن الرسول المبلّغ الإسلام لهم غير موكل بهدايتهم وأنّ أمر ذلك متروك لهم، فمن شاء اهتدى، ومن شاء ضلّ، وما عليه إلا البلاغ. وقد بلّغ.
2 هذا إرشاد للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يلزم المنهج الذي وضعه له بطريق الوحي ولا يخرج عنه بحال فإِنه سبيل نجاته ونجاة المؤمنين معه.
3 هذا إرشاد آخر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر على إبلاغ أهل مكة ومن حولهم دعوة الله حتى يحكم الله بينه وبينهم بنصر رسوله والمؤمنين، وخذلان الكفر والكافرين.
4 خير هنا بمعنى أخير اسم تفضيل، وإنما عدل عن أخير إلى خير لكثيرة الاستعمال كاسم شرّ أيضاً، وقد يأتي لفظ شر وخير لغير تفضيل.(2/517)
2- تقرير مبدأ أن المرء يشفى ويسعد بكسبه لا بسكب غيره. 1
3- وجوب اتباع الوحي الإلهي الذي تضمنه القرآن والسنة الصحيحة.
4- فضيلة الصبر وانتظار الفرج من الله تعالى.(2/518)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
سورة هود
مكية 2
وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
شرح الكلمات
آلر: هذا أحد الحروف المقطعة: يكتب آلر ويقرأ ألف، لام، را.
__________
1 شواهد هذه الحقيقة في المراد كثيرة منها: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} ومنها: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومنها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} .
2 واستثنى منها بعضهم آية: {وأقم الصلاة طرفي النهار..} الآية فإنها مدنية وروي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "شيبتني هود وأخواتها" ويذكر القرطبي فيقول: قال أبو عبد الله: فالفزع يورث الشيب، وذلك أن الفزع يذهل النفر فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع ومنه يعرق فإذا نشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر فابيضّ، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيضّ، وإنما يبيضّ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده.(2/518)
أحكمت: أي نظمت نظماً متقناً ورصفت ترصيفاً لا خلل فيه.
فصلت: أي ببيان الأحكام، والقصص والمواعظ، وأنواع الهدايات.
من لدن: أي من عند حكيم خبير وهو الله جل جلاله.
متاعاً حسناً: أي بطيب العيش وسعة الرزق.
إلى أجل مسمى.: أي موت الإنسان لأجله الذي كتب له.
ويؤت كل ذي فضل: أي ويعط كل ذي عمل صالح فاضل جزاءه الفاضل.
عذاب يوم كبير: هو عذاب يوم القيامة.
يثنون صدورهم: أي يطأطئون رؤوسهم فوق صدورهم ليستتروا عن الله في زعمهم.
يستغشون ثيابهم: يغطون رؤوسهم ووجوههم حتى لا يراهم الله في نظرهم الباطل.
معنى الآيات:
قوله تعالى {آلر} هذا الحرف مما هو متشابه ويحسن تفويض معناه إلى الله فيقال: الله أعلم بمراده بذلك. وإن أفاد فائدتين الأولى: أن القرآن الكريم الذي تحداهم الله بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله قد تألف من مثل هذه الحروف: آلم، آلر، طه، طس حم، ق، ن، فألفوا مثله فإن عجزتم فاعلموا أنه كتاب الله ووحيه وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا به، والثانية أنهم لما كانوا لا يريدون سماع القرآن بل أمروا باللغو عند قراءته، 1 ومنعوا الاستعلان به جاءت هذه الحروف على خلاف ما ألفوه في لغتهم واعتادوه في لهجاتهم العربية فاضطرتهم إلى سماعه فإذا سمعوا تأثروا به وآمنوا ولنعم الفائدة أفادتها هذه الحروف المقطعة.
وقوله تعالى {كتاب2 أحكمت آياته} أي المؤلف من هذه الحروف كتاب عظيم أحكمت آياته أي رصفت ترصيفاً ونظمت تنظيماً متقناً لا خلل فيها ولا في تركيبها ولا معانيها، وقوله: {ثم فصلت} أي بين ما تحمله من أحكام وشرائع، ومواعظ وعقائد
__________
1 شاهده في قوله تعالى من سورة (فصلت) : {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} .
2 التنكير في {كتاب} للتفخيم والتعظيم، والأحكام أصله: إتقان الصنعة مشتق من الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعهء فإحكام الآيات: سلامتها من الأخلال: التي تعرض لنوعها كمخالفة الواقع، والخلل في اللّفظ أو في المعنى.(2/519)
وآداب وأخلاق بما لا نظير له في أي كتاب سبق، وقوله: {من لدن حكيم خبير} أي تولى تفصيلها حكيم خبير، حكيم في تدبيره وتصرفه، حكيم في شرعه وتربيته وحكمه وقضائه، خبير بأحوال عباده وشؤون خلقه، فلا يكون كتابه ولا أحكامه ولا تفصيله إلا المثل الأعلى في كل ذلك.
وقوله: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} أي أنزل الكتاب وأحكم آيَةُ وفصَّل أحكامه وأنواع هدايته بأن1 لا تعبدوا إلا الله إذ لا معبود حق إلا هو ولا عبادة تنفع إلا عبادته. وقوله {إنني لكم منه نذير وبشير} هذا قول رسوله المبلغ عنه يقول أيها الناس إني لكم منه أي من ربكم الحكيم العليم نذير بين يدي عذاب شديد إن لم تتوبوا فتؤمنوا وتوحدوا. وبشير أي أبشر من آمن ووحد وعمل صالحاً بالجنة في الآخرة {وأن استغفروا2 ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى} أي وبأن تستغفروا ربكم باعترافكم بخطأكم بعبادة غيره، ثم تتوبوا إليه أي ترجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وطاعته في أمره ونهيه، ولكم جزاء على ذلك وهو أن يمتعكم في هذه الحياة متاعاً حسناً بالنعم الوفيرة والخيرات الكثيرة إلى نهاية آجالكم المسماة لكل واحد منكم. وقوله {ويؤت كل ذي فضل فضله} 3 أي ويعط سبحانه وتعالى كل صاحب فضل في الدنيا من بر وصدقة وإحسان فضله تعالى يوم القيامة في دار الكرامة الجنة دار الأبرار. وقوله: {وإن تولوا} أي تعرضوا عن هذه الدعوة فتبقوا على شرككم وكفركم {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} وهو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم} يخبرهم تعالى بعد أن أنذرهم عذاب يوم القيامة بأن مرجعهم إليه تعالى لا محالة فسوف يحييهم بعد موتهم ويجمعهم عنده ويجزيهم بعدله ورحمته {وهو على كل شيء قدير} ومن ذلك إحياؤهم بعد موتهم ومجازاتهم السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها وهذا هو العدل والرحمة اللذان لا نظير لهما.
__________
1 فالباء سببية، وأن: تفسيرية، إذ لو سأل سائل فقال: لم أحكمت الآيات ثم فُصلت؟ لكان الجواب: بأن لا يعبد إلا الله وأن يُستغفر وان يتاب إليه تعالى.
2 إن قيل: لم قدّم الاستغفار عن التوبة؟ فالجواب: بأن العبد لا يستغفر إلاّ إذا علم أنه أذنب، ولا يتوب العبد حتى يعلم أنه مذنب وعندها يتوب فهذا سرّ تقديم الاستغفار عن التوبة.
3 هذا كقوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله} فالفضل الأوّل من العبد، وهو العمل الصالح، والفضل الثاني من الرّب وهو دخول الجنة.(2/520)
وقوله تعالى: {ألا إنهم يثنون1 صدورهم ليستخفوا منه} هذا النوع من السلوك الشائن الغبي كان بعضهم يثني صدره أي يطأطىء رأسه ويميله على صدره حتى لا يراه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعضهم يفعل ذلك ظناً منه أنه يخفي نفسه عن الله تعالى وهذا نهاية الجهل، وبعضهم يفعل ذلك بغضاً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يراه فرد تعالى هذا بقوله: {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يتغطون بها {يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} فلا معنى لاستغشاء الثياب استتاراً بها عن الله تعالى فإن الله يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما تخفي صدورهم وإن كانوا يفعلون ذلك بغضاً2 للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبئس ما صنعوا وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- مظهر من مظاهر إعجاز القرآن وهو أنه مؤلف من الحروف المقطعة ولم تستطع العرب الإتيان بسورة مثله.
2- بيان العلة في إنزال الكتاب وأحكام آية وتفصيلها وهي أن يعبد الله تعالى وحده وأن تستغفره المشركون ثم يتوبون إليه ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة.
3- وجوب التخلي عن الشرك أولا، ثم العبادة الخالصة ثانياً.
4- المعروف لا يضيع عند الله تعالى إذا كان صاحبه من أهل التوحيد {ويؤت3 كل ذي فضل فضله} .
5- بيان جهل المشركين الذين كانوا يستترون عن الله برؤوسهم وثيابهم4.
6- مرجع الناس إلى ربهم شاءوا أم أبوا والجزاء عادل ولا يهلك على الله إلا هالك.
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه، ونزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنطق يلقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء، وقيل نزلت في بعض المنافقين كان أحدهم إذا مرّ به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى وجهه كي لا يراه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدعوه إلى الإيمان.
2 لا مانع من توجيه الآية إلى هذا إذ مازال الناس إلى اليوم، إذا كرهوا الداعية إلى الله تعالى لا يحبون أن يروه أو يسمعوا صوته وقد يثنون صدورهم ويغطون وجوههم حتى لا يروه بغضاً له وكرهاً. والله عليم خبير.
3 الثني: الطيّ، طوى الثوب إذ ثناء، وهو مأخوذ من جعل الواحد اثنين.
4 أي: يطأطئون رؤوسهم على صدورهم ويتغطون بثيابهم إذ روي أن المشرك كان يدخل بيته ويرخي الستر عليه، ويستغشي ثوبه ويحنى ظهره ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك لجهلهم بعظمة الله تعالى وقدرته وعلمه.(2/521)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
الجزء الثاني عشر
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (8)
شرح الكلمات:
من دابّة: أي حيّ يدبّ على الأرض أي يمشي من إنسان وحيوان.
مستقرها: أي مكان استمرارها من الأرض.
ومستودعها: أي مكان استيداعها قبل استقرارها كأصلاب الرجال وأرحام النساء.
في كتاب مبين: أي اللوح المحفوظ.
في ستة أيام: أي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
وكان عرشه على الماء: إذ لم يكن قد خلق شيئاً من المخلوقات سواه، والماء على الهواء.
ليبلوكم: أي ليختبركم ليرى أيكم أحسن عملاً.
إلى أمة معدودة: أي إلى طائفة من الزمن معدودة.
وحاق بهم: أي نزل وأحاط بهم.(2/522)
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى في الآية السابقة انه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريراً لما تضمنته الآية السابقة فقال عز وجل {وما من دابّة في الأرض} 1 من إنسان يمشي على الأرض أو حيوان يمشي عليها زاحفاً أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إلا وقد تكفّل الله برزقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه، وهو تعالى يعلم كذلك مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الأرض، كما يعلم أيضاً مستودعها بعد موتها إلى أن تبعث بيوم القيامة.
وقوله تعالى {كل في كتاب مبين} أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دوّن قبل خلقه في كتاب المقادير اللوح المحفوظ، وقوله تعالى في الآية (7) {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} أي أوجد السموات السبع والأرض وما فيها في ظرف ستة أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة الحج {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} وقوله {وكان عرشه على الماء} 2 أي خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، والعرش: سرير المُلك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة، وقوله {على الماء} إذ لم يكن أرض ولا سماء فلم يكن إلا الماء كالهواء. وقوله تعالى {ليبلوكم أيكم أحسن3 عملاً} أي خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملا أي بإخلاصة لله تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه الله وبيّنه رسوله.
هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها عُلم أنه لا يخفى عليه من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني صدورهم واستغشاء ثيابهم ألا ساء ما يعملون.
وقوله تعالى {ولئن قلت} - أي أيها الرسول للمشركين- إنكم مبعوثون من بعد الموت،
__________
1 {وما من دابّة} : ما: نافية، ومن: مزيدة لتقوية النفي ليكون أكثر شمولاً، والتقدير: وما دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها أي: تكفّل الله برزقها فضلا منه ومنّة.
2 روى البخاري في حديث منه: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء".
3 قال مقاتل: أيكم اتقى لله، وقال ابن عباس رضي الله عنه أيكم أعمل بطاعة الله عزّ وجلّ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا {أيكم أحسن عملا} قال: أيّكم أحسن عقلا وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله، ولو صحّ هذا الخبر لكان أتمّ وأجمع، وقال الفضيل: أحسن العمل: أخلصه وأصوبه. وهو كما قال.(2/523)
أي مخلوقون خلقاً جديداً ومبعوثون من قبوركم لمحاسبتكم ومجازاتكم بحسب أعمالكم في هذه الحياة الدنيا {ليقولن الذين كفروا} أي عند سماع أخبار الحياة الثانية وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب مهين {إن هذا إلا سحر مبين} أي ما يقوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الكلام ما هو إلا سحر مبين يريد به صرف الناس عن ملذاتهم، وجمعهم حوله ليترأس عليهم ويخدموه، وهو كلام باطل وظن كاذب وهذا شأن الكافر، وقوله تعالى في الآية (8) {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} 1 أي ولئن أخرنا أي أرجأنا ما توعدناهم به من عذاب ألى أوقات زمانية معدودة الساعات والأيام والشهور والأعوام {ليقولن ما يحبسه} أي شيء حبس العذاب يقولون هذا إنكاراً منهم واستخفافاً قال تعالى {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} أي ليس هناك من يصرفه ويدفعه عنهم بحال من الأحوال، {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون بقولهم: ما يحبسه!!؟
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- سعة علم الله تعالى وتكفله بأرزاق2 مخلوقاته من إنسان وحيوان.
2- بيان خلق الأكوان، وعلة الخلق.
3- تقرير مبدأ البعث الآخر بعد تقرير الألوهية لله تعالى.
4- لا ينبغي الاغترار بإمهال الله تعالى لأهل معصيته، فإنه قد يأخذهم فجأة وهم لا يشعرون.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء
__________
(إلى أمّة) : أي: إلى أجل معدود وحين معلوم، فالأمّة هنا: المدّة، ولفظ الأمة يطلق على معانٍ منها: الجماعة، وسميت مجموعة السنين أمّة لاجتماعها. والأمّة: أتباع أحد الأنبياء والأمّة، الملّة والدين، والأمّة: الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به.
2 قيل لحاتم الأصمّ: من أين تأكل؟ فقال من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأنّ ماله إلاّ السماء! يا هذا: الأرض له والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد يقول:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ...
وللضب في البيداء وللحوت في البحر(2/524)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
شرح الكلمات:
أذقنا الإنسان: أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة.
ثم نزعناها منه: أي سلبناها منه.
يؤوس كفور: أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر.
نعماء بعد ضراء: أي خيراً بعد شر.
السيئات: جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب.
فرح فخور: كثير الفرح والسرور والبطر.
صبروا: أي على الضراء والمكاره.
مغفرة: أي لذنوبهم.
وأجر كبير: أي الجنة دار الأبرار.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الإنسان1 الذي لم يستنر بنور الإيمان ولم يتحل بصالح الأعمال إن أذاقه الله تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن، ثم نزعها منه لأمر أراده الله تعالى {إنه} أي ذلك الإنسان {ليؤوس} 2 أي كثير اليأس والقنوط {كفور} لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد أنعم به عليه.
وقوله {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء} أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض {ليقولن} بدل أن يحمد الله ويشكره على إسعاده بعد شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحاً {ذهب السيئات عني
__________
1 الإنسان هنا: اسم جنس يشمل كل إنسان كافر، وإن قيل: إن الآية في كافر معيّن، وهو الوليد بن المغيرة، أو عبد الله بن أبي أميّة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2 هو من باب: فحل بفعل يئس ييأس بأساً فهو آيس، وللمبالغة: يؤوس أي: كثير اليأس الذي هو: القنوط بانقطاع الرجاء، وجمله: {إنه ليؤوس كفور} : جواب القسم في قوله: {ولئن أذقنا الإنسان} الخ.(2/525)
إنه لفرح} أي كثير السرور {فخور} كثير الفخر والمباهاة، وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر والمعاصي، أما الإنسان المؤمن المطيع لله ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وذلك لما في قلبه من نور الإيمان وفي نفسه من زكاة الأعمال.
هذا ما تضمنه قوله تعالى {إلا الذين1 صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة} 2 أي لذنوبهم {وأجر كبير} عند ربهم وهو الجنة دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أن الإنسان قبل أن يطهر بالإيمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والانحطاط النفسي.
2- ذم اليأس والقنوط3 وحرمتهما.
3- ذم الفرح بالدنيا والفخر بها.
4- بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة.
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14)
__________
1 يعني المؤمنين مدحهم بالصبر على الشدائد وهو استثناء من لفظ الإنسان الذي هو بمعنى الناس، فالاستثناء متصل وليس بمنقطع.
2 {أولئك لهم مغفرة} مبتدأ وخبر، {وأجر كبير} أجر: معطوف، وكبير: نعت.
3 لقول الله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون} .(2/526)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
شرح الكلمات:
فلعلك: للاستفهام الإنكاري أي لا يقع منك ترك ولا يضق صدرك.
ضائق به صدرك: أي بتلاوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا.
كنز: مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك.
وكيل: أي رقيب حفيظ.
افتراه: اختلقه وكذبه.
من استطعتم: من قدرتم على دعائهم لإعانتكم.
فهل أنتم مسلمون: أي أسلموا لله بمعنى انقادوا لأمره وأذعنوا له.
معني الآيات:
بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يحول لهم جبال مكة ذهباً في اقتراحات منها لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فلعلك نارك بعض ما يوحى إليك} 1 أي لا تتلوه على المشركين ولا تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه {وضائق به صدرك} أي بالقرآن، كراهة أن تواجههم به فيقولوا {لولا أنزل عليه كنز} 2 أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال الله له {أو جاء معه ملك} يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فلا ينبغي أن يكون ذلك منك أي فبلغ ولا يضق صدرك {إنما أنت3 نذير} أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي، والله الوكيل على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت فليس عليك من ذلك شيء.
وقوله تعالى {أم يقولون افتراه} أي بك يقولون افتراه أي افترى القرآن وقاله من نفسه بدون ما أوحي إليه، قل في الرد عليهم {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم} 4 دعوتهم لإعانتكم {إن كنتم صادقين} في دعواكم أني افتريته، فإن لم تستطيعوا ولن
__________
1 {فلعلك..} الخ كلام معناه: الاستفهام أي: هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما سألوك؟ إذ ورد أنهم قالوا له: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتبعناك.
2 أي: هلا فهي للتحضيض وليست للامتناع.
3 القصر هنا إضافي إذ معناه أنه مقصور على الإنذار وليس عليه هداية القلوب.
4 أي: كالكهنة والأعوان والأصنام إذ يعتقدون أنها تنصرهم وتدفع عنهم وإلا لما عدوها مع الله تعالى.(2/527)
تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له.
وقوله {فإن لم يستجيبوا لكم} 1 أي قل لهم يا رسولنا فإن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه وعجزتم {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} 2 أي أنزل القرآن متلبساً بعلم الله وذلك أقوى برهان على أنه وحيه وتنزيله {وأن لا إله إلا هو} 3 أي وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه، وأخيراً {فهل أنتم مسلمون} أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم، وذلك خير لكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ولاية الله لرسوله وتسديده له وتأييده.
2- بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة.
3- بيان أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلَّفْ هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم وعصيانهم، وعلى الله تعالى بعد ذلك مجازاتهم.
4- تحدي الله تعالى منكري النبوة والتوحيد بالإتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلام الله ووحيه وأن محمداً عبده ورسوله وأن الله لا إله إلا هو.
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ4
__________
1 الاستجابة هنا: بمعنى الإجابة والسين والتاء فيه للتأكيد.
2 العلم: الاعتقاد اليقيني، أي: فأيقنوا أنّ القرآن ما أنزل إلاَّ بعلم الله أي: ملابساً له.
3 معطوف على جملة: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} أي: واعلموا أيضاً موقنين أنه لا إله إلا الله. حيث قامت الحجة عليهم بعجز آلهتهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن.
4 روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار".(2/528)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17)
شرح الكلمات:
زينة الحياة الدنيا: المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب.
توفّ إليهم: نعطهم نتاج أعمالهم وافياً.
لا يبخسون: أي لا ينقصون ثمرة أعمالهم.
وحبط: أي بطل وفسد.
على بينة من ربه.: أي على علم يقيني.
ويتلوه شاهد منه: أي يتبعه.
كتاب موسى: أي التوراة.
ومن يكفر به: أي بالقرآن.
فالنار موعده: أي مكان وعد به فهو لا محالة نازل به.
في مرية منه: أي في شك منه.
معنى الآيات:
لما أقام الله تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد افتراه ولم يبق إلا أن يختار المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الآخرة الجنة أو النار فقال تعالى {من كان يريد الحياة1 الدنيا وزينتها} من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش. {نوف2 إليهم أعمالهم فيها} 3 نعطهم نتاج عملهم فيها وافياً غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم لكفرهم وتركهم، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا
__________
1 أي: ممن رفضوا الإسلام وأبوه بعد قيام الحجة على بطلان ما هم عليه من الكفر ورضوا بالكفر بإرادة الحياة الدنيا.
2 التوفية: إعطاء الشيء وافياً، وعُدي نوف: بإلى لأنه مضمن معنى: نوصل.
3 لفظ {أعمالهم} يشمل الأعمال الخيرية والأعمال الدنيوية فالأعمال الخيرية كصلة الرحم، وقرى الضيف، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، فهذه لا يحرمها الكافر بل يجد جزاءها في الدنيا: بركة في ماله وولده وحياته، وأمّا الأعمال الدنيوية كالصناعة والزراعة والتجارة فهذه يوفى قدر جهده فيها، فبقدر ما يبذل من طاقة يحصل له من الكسب والربح والإنتاج فكفره لا يمنعه نتاج عمله بقدر ما يبذل فيه.(2/529)
إلى ربهم. هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار {وحبط ما صنعوا} 1 في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (15 والثانية 16) وهو قوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} وقوله تعالى في الآية الثالثة (17) {أفمن كان على بينة من ربه} 2 بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الأدلة والبراهين على توحيد الله ونبوة رسوله، وعلى المعاد الآخر، وقوله {ويتلوه شاهد منه} أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان الصدق الذي ينطق به وكمالاته الخُلُقَيَّة والروحية حيث نظر إليه إعرابي فقال والله ما هو بوجه كذّاب، ودليل ثالث في قوله {ومن قبله كتاب موسى} أي التوراة {إماماً ورحمة} شاهد له حيث حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه البينات والدلائل والبراهين من صحة دينه، كمن لا دليل له ولا برهان إلا التقليد للضلال والمشركين، وقوله {أولئك يؤمنون به} أي أولئك الذين ثبتت لديهم تلك البيّنات والحجج والبراهين {يؤمنون به} أي بالقرآن الحق والنبي الحق والدين الحق. وقوله تعالى {ومن يكفر به} أي بالقرآن ونبيه ودينه من الأحزاب3 أي من سائر الطوائف والأمم والشعوب فالنار موعده، وحسبه جهنم وبئس المصير4
وقوله تعالى {فلا تك في مرية منه} 5 أي فلا تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من الأحزاب النار. وقوله {إنه الحق من ربك} أي6 القرآن الذي كذّب به المكذبون وما تضمنه من الوعد والوعيد، والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك، إلا أن {أكثر الناس لا يؤمنون} 7 وإن ظهرت الأدلة ولاحت الأعلام وقويت البراهين.
__________
1 أعمال الكفار في الدنيا خيرية كانت أو دنيوية تذهب في الدار الآخرة هباء كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} .
2 اختلف في عود الضمائر في هذه الآية اختلافاً كثيراً، وقد اخترنا في التفسير عودها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مانع من عودها على كل مؤمن صادق الإيمان، بقرينة الخبر وهو قوله: {أولئك يؤمنون به} وهم الفريق الذين أسلموا لمّا شاهدوا الحجج والبراهين.
3 أظهرهم: المشركون واليهود، والنصارى والصابئة والمجوس.
4 لأنهم لم يزكوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح فلذا فلا مأوى لهم إلاّ النّار.
5 الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل مؤمن أي: لا يشكنّ مؤمن في أن القرآن حق وأنّ ما أخبر به عن الكافرين مِن أنّ مأواهم النار حق.
6 جملة: {انه الحق من ربك} ، مستأنفة مؤكدة لجملة: {فلا تك في مرية منه} .
7 لما سبق في علم الله وما قضى به قوله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} .(2/530)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ زرع، ويربح إذا اتجر، وينتج إذا صنع.
2- بيان أن الكافر لا ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحاً وأن الخسران لازم له.
3- المسلمون على بينة من دينهم، وسائر أهل الأديان الأخرى لا بينة لهم وهم في ظلام التقليد وضلال الكفر والجهل.
5- بيان سنة الله في الناس وهي أن أكثرهم لا يؤمنون.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20)
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً: أي لا أحد فالاستفهام للنفي.
يعرضون على ربهم: أي يوم القيامة.
الأشهاد: جمع شاهد وهم هنا الملائكة.
لعنة الله: أي طرده وإبعاده.
على الظالمين: أي المشركين.(2/531)
سبيل الله: أي الإسلام.
عوجاً: أي معوجة.
معجزين في الأرض: أي الله عز وجل أي فائتين بل هو قادر على أخذهم في أيّة لحظة.
من أولياء: أي أنصار يمنعونهم من عذاب الله.
وما كانوا يبصرون: ذلك لفرط كراهيتهم للحق فلا يستطيعون سماعه، ولا رؤيته.
معنى الآيات:
بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعاً من إجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عز وجل {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي لا أحد في الناس أعظم ظلماً من أحد افترى على الله كذباً ما من أنواع1 الكذب وإن قل وقوله {أولئك يعرضون على ربهم} أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلاله في عرصات القيامة، ويقول الأشهاد من الملائكة شاهدين2 عليهم {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} ثم يُعْلِنُ مُعْلِنٌ قائلاً {ألا لعنة الله على3 الظالمين} أي ألا بعداً لهم من الجنة وطرداً لهم منها إلى نار جهنم.
ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال {الذين يصدون عن سبيل الله} 4 أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين الإسلامي، {ويبغونها} أي سبيل الله {عوجاً} أي معوجه كما يهوون ويشتهون فهم يريدون الإسلام أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور، ويريدون من الإسلام أن يأذن لهم في عبادة القبور والأشجار والأحجار إلى غير ذلك، ويضاف إلى هذا ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الآخرة. قال تعالى {أولئك} أي المذكورون {لم يكونوا معجزين في الأرض} أي لم يكن من شأنهم
__________
1 من أنواع كذبهم على الله تعالى: زعمهم أنّ له شريكاً وولداً، وقولهم في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وتحريمهم ما أحل الله ونسبة ذلك إليه تعالى.
2 ومن الأشهاد: الأنبياء والعلماء والمبلغون لدعوة الله تعالى لعباده وفي صحيح مسلم. "وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم".
3 لعنة الله: أي: بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
4 يجوز أن يكون: {الذين} مجروراً لمحل نعتاً للظالمين، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر، والمبتدأ محذوف. أي: هم الذين يصدّون.(2/532)
ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا الله تعالى في الأرض فإنه مدركهم مهما حاولوا الهرب1 ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم، وليس لهم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعونهم من العذاب متى أنزله بهم، وقوله تعالى {يضاعف لهم العذاب} إخبار منه بأن هؤلاء الظالمين يضاعف لهم العذاب يوم القيامة لأنهم صدوا غيرهم عن سبيل الله فيعذبون بصدهم أنفسهم عن الإسلام، وبصد غيرهم عنه، وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم {ما كانوا يستطيعون2 السمع وما كانوا يبصرون} إخبار بحالهم في الدنيا أنهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولأهله من الداعين إليه لا يستطيعون سماعه ولا رؤيته ولا رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم ذنب من يكذب على الله تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه.
2- عظم جرم من يصد عن الإسلام بلسانه أو بحاله، أو سلطانه.
3- عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة الإسلامية لهواه وشهواته بالتأويلات الباطلة والفتاوى غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم.
4- بيان أن من كره قولاً أو شخصاً لا يستطيع رؤيته ولا سماعه3.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم، وفي سورة سبأ {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء} .
2 {ما كانوا يستطيعون السمع..} قال القرطبي ما: في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا يستطيعون السمع. يُريد أن الباء المحذوفة سببية أي: يُضاعف لهم العذاب بسبب أنهم كانوا لا يستطيعون السمع لما ران على قلوبهم من الآثام فحجب الإثم أسماعهم وأبصارهم، وفي المثل: حبّك الشيء يعمي ويصم، فحبّهم للكفر والشرك والآثام عطّل حواسهم.
3 أقول: ما كنت أدرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع} حتى كان صوت العرب على عهد بطل الاشتراكية "عبد الناصر" وأخذ يسبّ ويشتم ويعيّر ويقبّح سلوك كل من لم يوال الاشتراكيين فكنت-والله-لا أستطيع سماع ما يذيعه، وثَمَّ فهمت معنى الآية على حقيقته.(2/533)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24)
شرح الكلمات:
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء الله تعالى.
لا جرم: أي حقاً وصدقاً أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وأخبتوا إلى ربهم: أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته.
مثل الفريقين: أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين.
أفلا تذكرون: أي تتعظون، فتستغفروا ربكم ثم تتوبوا إليه.؟
معنى الآيات:
مازال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الآخرة فقال تعالى {أولئك} أي البعداء {الذين خسروا أنفسهم} حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شركاء، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم قال تعالى: {لا جرم} 1 أي حقاً {أنهم في الآخرة} أي في دار الآخرة {هم الأخسرون} أي الأكثر خسراناً من غيرهم لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى الضلال، ويصدونهم عن الإسلام سبيل الهدى والنجاة من النار. ولما ذكر تعالى حال الكافرين وملأ انتهوا إليه من خسران. ذكر تعالى حال المؤمنين فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} 2 أي آمنوا بالله وبوعده ووعيده. وآمنوا برسول الله وبما جاء به، وعملوا الصالحات التي شرعها الله
__________
1 {لا جرم} كلمة: جزم ويقين، واختلف في تركيبها وأطهر أقوالهم فيها: أن تكون لا: حرف نفي، وجزم: بمعنى محالة. ويصح معنى الكلمة. لا محالة أو: لا بدّ أن يكون كذا وكذا، أو لتفسّر بحقاً، ولا محالة ولابد، إذ جرم مأخوذ من الجرم الذي هو القطع.
2 الموصول: اسم إنَّ، وآمنوا: صلة {وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربّهم} معطوفان على الاسم، والخبر: {أولئك أصحاب الجنة} وجملة {هم فيها خالدون} جملة بيانية أي مبيّنة لحال أهل الجنة.(2/534)
تعالى لهم من صلاة وزكاة {وأخبتوا إلى ربهم} أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أولئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها {هم فيها خالدون} أي لا يبرحون منها ولا يتحولون عنها، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (24) وهي قوله تعالى {مثل الفريقين كالأعمى1 والأصم والسميع والبصير هل يستويان مثلا} ؟ فقد ذكر تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحاً للمعنى وتقريراً للحكم فقال {مثل الفريقين} أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالأعمى والأصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع والبصير. وهذا فريق أهل الإيمان والتوحيد فهل يستويان مثلا أي صفة الجواب لا، لأن بين الأعمى والبصير تبايناً كما بين الأصم والسميع تبايناً فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم وصفاً له ولا يكون البصر والسمع وصفاً له؟ والجواب لا أحد إذاً {أفلا تذكرون} أي أفلا تتعظون بهذا المثل2 وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه، وبكتابه وتعملوا بما فيه؟
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان المقارنات بين الأشياء المتضادة للعبرة والاتعاظ.
2- الكافر ميت موتاً معنوياً فلذا هو لا يسمع ولا يبصر، والمسلم حيُّ فلذا هو سميع بصير.
3- بيان ورثة دار النعيم وهم أهل الإيمان والطاعة، وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ
__________
1 فريق الإيمان وفريق الكفر والشرك.
2 المثل الذي كشف الحقيقة وبيّن أنّ الكفار عمي صم، وأنّ المؤمنين يبصرون ويسمعون، فأي عاقل يرضى أسوأ الوصفين؟!(2/535)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
شرح الكلمات:
نوحا: هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه السلام.
إني لكم نذير مبين: أي مخوف لكم من عذاب الله بَيِّنُ النذارة.
عذاب يوم أليم: هو عذابه يوم القيامة.
الملأ: الأشراف وأهل الحل والعقد في البلاد.
أراذلنا 1: جمع أرذل وهو الأكبر خسة ودناءة.
بادي الرأي: أي ظاهر الرأي، لا عمق عندك في التفكير والتصور للأشياء.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة نوح عليه السلام وهي بداية لخمس قصص2 جاءت في هذه السورة سورة هود عليه السلام قال تعالى {ولقد أرسلنا نوحاً3 إلى قومه إني لكم نذير4 مبين} أي قال لهم إني لكم نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بالله وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الأوثان والأصنام. وقوله {أن لا تعبدوا5 إلا الله} أي نذير لكم بأن لا تعبدوا إلا الله، وتتركوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان وقوله {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم6 وهو عذاب يوم القيامة {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي فرد على نوح ملأ قومه اشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم ممن كفروا بالله ورسوله فقالوا {ما نراك إلا بشراً مثلنا} 7 أي لا فضل لك علينا فكيف تكون رسولاً لنا ونحن مثلك هذا
__________
1 الأرذل: اسم تفضيل والمفضّل عنه يقال له: رذْل ككلب ويجمع على أرذل كأكلب.
2 هذا العطف من باب عطف قصّة على قصّة: الواو: تسمى الواو الابتدائية.
3 كُسرت: إنّ لأنّ الإرسال فيه معنى القول وإن تكسر بعد القول.
4 الِقصّة: بكسر القاف والجمع: قصص كحجّة وحجج: الخبر يروى وتُتَتّبع أجزاؤه بعناية، والقصص بفتح القاف: مصدر قصّ الحديث يقصّه قصاً.
5 هذه الجملة مفسّرة لجملة {أرسلنا نوحاً} أو لقوله: {إني لكم نذير مبين} .
6 وجائز أن يكون {عذاب يوم أليم} في الدنيا وهو عذاب الطوفان وقد كان.
7 مثلنا: منصوب على الحال.(2/536)
أولاً وثانياً {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أي سفلتنا من1 أهل المهن المحتقرة كالحياكة والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم2 بادي الرأي أي ظاهر الرأي لا عمق في التفكير ولا سلامة في التصور عندك وقولهم {وما نرى لكم علينا من فضل} أي وما نرى لكم علينا من أي فضل تستحقون به أن نصبح أتباعاً لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إن نوحاً واسمه عبد الغفار أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره من الأوثان والآلهة الباطلة.
2- قوله أن لا تعبدوا إلا الله هو معنى لا إله إلاّ الله
3- التذكير بعذاب يوم القيامة.
4- اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء وخَصُوُمهم الأغنياء والأشراف والكبراء.
5- احتقار أهل الكبر لمن دونهم. وفي الحديث "الكبر3 بطر الحق وغمط الناس".
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ
__________
1 قال القرطبي: اختلف في السفلة فقيل: هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاء والسلاطين يطلبون الشهادات، وقال مالك: السفلة: الذين يسبون الصحابة. وقال آخر: الذين يأكلون على حساب دينهم.
2 ومنه البادية وهي الأراضي الظاهرة لا تحوطها مبانٍ ولا بساتين ولا مصانع.
3 الحديث في الصحيح فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنّ الله لا يدخل الجنة مَنّ كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر" فسئل عن الكبر فقال: الكبر: بطر الحق وغمط الناس" وبطر الحق: عدم قبوله، وغمط الناس: احتقارهم.(2/537)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني.
على بينة من ربي: أي على علم علمنيه الله فعلمت أنه لا إله إلا الله.
فعميت عليكم:. أي خفيت عليكم فلم تروها.
أنُلزِمُكمُوها: أي أجبركم على قبولها.
بطارد الذين آمنوا: أي بمبعدهم عني ومن حولي.
خزائن الله: التي فيها الفضل والمال.
تزدري أعينكم: تحتقر أعينكم.
معنى الآيات:
مازال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحاً قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بيَّنة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرني به من عبادته وتوحيده والدعوة إلى ذلك. وقوله {وآتاني رحمة من عنده} وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته. {فعميت عليكم} أنتم1 فلم تروها. فماذا أصنع معكم {أنلزمكموها} أي2 أنجبركم أنا ومن آمن بي على رؤيتها والإيمان بها والعمل بهداها، {وانتم لها كارهون} 3 أي والحال أنكم كارهون لها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (27) أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر أيضاً عن قيل نوح لقومه: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا} أي لا أطلب منكم أجراً على إبلاغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها. {إن أجري إلا على الله} أي ما أجري إلا على الله إذ هو الذي كلفنى
__________
1 قرىء: {عميت} بتشديد الميم، وقرأ ورش بتخفيفها، ومعناه: إنّ الرسالة عميت عليكم فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي عليّ كذا: أي: لم أفهمه.
2 {أنلزمكموها} أي: الرحمة التي هي عبادة الله وحده وترك عبادة سواه والاستفهام إنكاري. أي: ما كان لي ذلك والحال أنكم كارهون لها.
3 قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه. ولكنّه لم يملك ذلك.(2/538)
بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالأجر عليها. وقوله {وما أنا بطارد المؤمنين} أي وما أنا بمطيعكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم عليّ، إنهم ملاقو ربهم، ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم فكيف يصح مني ابعادهم عن سماع الحق وتعلمه والأخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ العبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح بواسطة الإيمان والعمل الصالح لا بالشرف والمال والجاه كما تتصورون ولذا فإني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الآية الثانية (28) ثم قال لهم في الآية الثالثة {ويا قوم من ينصرني1 من الله إن طردتهم} أي من هو الذي يرد عنى عذاب الله ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي أقصيت وأبعدت عباده المؤمنين عن سماع الهدى وتعلم الخير ولا علة لذلك إلا لأنهم فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي لا تقدر على رؤية الحق وأهله والداعين إليه. ثم قال لهم {أفلا تذكرون2} أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم فتثوبوا إلى رشدكم. وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده لا شريك له ثم قال لهم في الآية الأخيرة (31) {ولا أقول لكم عندي خزائن الله3} رداً على قولهم: {وما نرى لكم علينا من فضل} {ولا أعلم الغيب} فأعرف ما تخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأبقي هذا، ولا أقول إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} 4 لفقرهم وضعفهم {لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم} أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا حول نوح، وقوله {إني إذاً لمن الظالمين} أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم الله خيراً كنت بعد ذلك من الظالمين5 الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم.
هداية الآيات:
__________
1 أي: مَنْ يرد عنّي عذابه أن استوجبته بطرد عباده المؤمنين؟ والجواب: لا أحد فكيف إذاً يسوغ لي أن أطردهم كما ترغبون.
2 {أفلا تذكرون} قرىء: تذكرون بحذف إحدى التائين وقرىء تذّكرون: بتشديد الذال، بإدغام إحدى التائين في الأخرى. والاستفهام للإنكار أي: ينكر عليهم غفلتهم وجهلهم وعدم تذكرهم ليتّعظوا.
3 اخبر عليه السلام بتذلله وتواضعه لربّه عزّ وجلّ فنفى عن نفسه القدرة على امتلاك خزائن الفضل والمال كما نفي عن نفسه علم الغيب وأن يكون ملكاً من الملائكة.
4 أي: تحتقر أعينكم. والأصل: تزدريهم، حذفت الهاء والميم لطول الاسم، والازدراء: افتعال من الزري الذي هو الاحتقار، وإلصاق العيب فالازدراء أصله الازتراء فقلبت فيه التاء دالاً فصار: الازدراء كما قلبت في: الازدياد.
5 في قوله: {من الظالمين} : تعريض بقومه، فوصفهم بالظلم من حيث لا يشعرون.(2/539)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
من هداية الآيات:
1) كُرهُ الشيء يجعل صاحبه لا يراه ولا يسمعه ولا يفهم ما يقال له فيه.
2) كراهية أخذ الأجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني.
3) وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحرمة احتقارهم وازدرائهم.
4) علم الغيب استأثر الله تعالى به دون سائر خلقه إلا من علمه الله شيئاً منه فإنه يعلمه.
5) حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم
قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
شرح الكلمات:
جادلتنا: أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه.
بما تعدنا: أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه.
إن كنت من الصادقين: أي في دعواك النبوة والإخبار عن الله عز وجل.
بمعجزين: أي بغالبين ولا فائتين الله تعالى متى أراد الله عذابكم.
نصحي: أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم على الكفر به وبلقائه ورسوله.
أن يغويكم: أي يوقعكم في الضلال ويبقيكم فيه فلا يهديكم أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة نوح عليه السلام مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه(2/540)
السلام: فقال: {قالوا يا نوح قد جادلتنا1} أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد. فأخبر تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن يقوله: فقال {قل إنما يأتيكم به الله} أي بالعذاب الله إن شاء ذلك. {وما أنتم بمعجزين} أي فائتين الله ولا هاربين منه. وقوله: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم 2 هو ربكم واليه ترجعون} . أي إن نصحي لا شفعكم بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى بل الأولى بهم الضلالة حتى3 يهلكوا ضالين فيشقوا في الدار الآخرة. وقوله تعالى: {هو ربكم وإليه ترجعون} أي فالأمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل بشرط الأسلوب الحسن.
2- إرادة الله تعالى قبل كل إرادة وما شاءه الله يكون وما لم يشأه لم يكن.
3- لا ينفع نصح الناصحين ما لم يرد الله الخير للمنصوح له.
4- ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله. إلاَّ قول الله أعلم به.
أَمْ يَقُولُونَ4 افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35)
__________
1 {جادلتنا} أي: خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها، والجدل في لغة العرب: المبالغة في الخصومة. مأخوذ من الجدل: الذي هو شدّة الفتل، وقالوا في الصقر أجدل: لشدته في الطيران.
2 فيه الرد على بطلان مذهب المعتزلة، والقدرية إذ زعموا أن الله لا يريد أن يعصي العاصي ولا أن يكفر الكافر ولا أن يغوي الغاوي وتجاهلوا أنه لا يقع في ملك الله إلا ما يريد، ولا يقع شيء إلاّ بإذنه فهو الهادي لمن شاء هدايته، والمضل لمن شاء إضلاله، ولكن كُلاَّ من هدايته وإضلاله يتمان حسب سنته في الهداية والإضلال فلم يظلم ربّك أحداً.
3 ومن فسّر {أن يغويكم} : يهلككم: أراد أنّ الهلاك سبب للإغواء، فمن أغواه أهلكه، إذ لا يُهلك إلاَّ الغاوي.
4 شرح هذه الآية في (ص 545) وأخرت على أنها معترضة لقصة نوح عليه السلام.(2/541)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39)
شرح الكلمات:
وأوحى إلى نوح: أي اعلم بطريق الوحي الذي هو الإعلام السريع الخفي.
فلا تبتئس: لا تحزن ولا يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم.
الفلك: أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها.
سخروا منه: أي استهزئوا به كقولهم: تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه.
يخزيه: أي يذله ويهينه.
ويحل عليه عذاب مقيم: أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فلا يفارقه.
معنى الآيات:
عاد السياق بعد الاعتراض بالآية (35) إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى {وأوحى إلى نوح أنه1 لن يؤمن من قومك إلا من2 قد آمن} . وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إلا
__________
1 {أنّه} في موضع رفع نائب فاعل لأوحي أي: أوحي إلى نوح عدم إيمان قومه ومعنى الكلام: الإِياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم تحقيقاً للوعيد بنزول العذاب بهم.
2 روي أنَّ رجلاً من قوم نوح مرّ بنوح وهو يحمل طفلهُ فلما رأى الطفل نوحاً قال لأبيه ناولني حجراً فناوله إياها فرمى بها نوحاً فأدماه، فأوحى الله تعالى إلى نوح: {أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن..} .(2/542)
خمسين عاماً أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فلا تبتئس1 أي لا تغتم ولا تحزن بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإني منجيك ومن معك من المؤمنين ومهلكهم بالغرق. وقوله تعالى في الآية الثانية (37) {واصنع الفلك بأعيينا ووحينا} أي وأمرناه أن يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا. إذ لم يكن يعرف السفن ولا كيفية صنعها وقوله {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} أي لا تسألني لهم صرف العذاب ولا تشفع لهم في تخفيفه عليهم، لأنا قضينا بإهلاكهم بالطوفان فهم لا محالة مغرقون قوله تعالى {ويصنع الفلك2 وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره وتركيبه وقومه يمرون عليه وكلما مرّ عليه أشراف القوم وعليتهم يسخرون منه كقولهم يا نوح أصبحت نجاراً أو وهل تنقل البحر إليها، أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عليه السلام بقوله {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} أي منا فسوف تعلمون أي مستقبلاً من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه، ويحل3 عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة وهو عذاب دائم لا ينتهى أبداً.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كراهية الحزن والأسى والأسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد.
2- بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم الله لنوح عليه السلام.
3- بيان سنة البشر في الاستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي.
4 بيان صدق وعد الله رسله.
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا
__________
1 الابتئاس: افتعال من البؤس الذي هو الهمّ والحزن. قال الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزأته
فلم ابتئس والرزء فيه جليل
2 اختلفت الأقوال في مدّة صنع السفينة، أكثرها أنها: أربعون سنة. وجائز أن تكون أكثر، لأن عمل فرد واحد في صنع سفينة يتطلب وقتاً طويلاً أمّا حجمها فيدل على كبره ما حمل فيها، إذ حمل فيها كل مؤمن ومؤمنة ومن كل زوجين اثنين، فحجمها لا شك أنه واسع كبير، وقيل: كانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور. والله اعلم، والحديث عن طول السفينة وعرضها ومادتها كله من باب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.
3 أي: يجب عليه وينزل به.(2/543)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
شرح الكلمات:
فار التنور: أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز.
زوجين اثنين: أي من كل ذكر وأنثى من سائر أنواع المخلوقات اثنين.
وأهلك: أي زوجتك وأولادك.
مجريها ومرساها: أي إجراؤها وإرساؤها.
في موج كالجبال: الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الارتفاع.
يعصمني من الماء: يمنعني من الماء أن يغرقني.
وغيض الماء: أي نقص بنضوبه في الأرض.
على الجودي: أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل.
بعدا للقوم الظالمين: أي هلاكاً لهم.(2/544)
شرح الكلمات:.
أم يقولون: أي بل يقولون افتراه.
افتراه: أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه.
فعلى إجرامي1: أي عاقبة الكذب الذي هو الإجرام تعود عليَّ لا على غيري.
وأنا بريء: أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فلا أتحمل مسؤوليته.
مما تجرمون: أي على أنفسكم بإفسادها بالشرك والكفر والعصيان.
معنى الآية:
هذه الآية الكريمة أوقعها الله مُنَزِلُها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه، وحسن موقعها هنا لأن الحديث عن نوح وقومه لا يتأتى لأحد إلا لنبي يوحى إليه، وذلك لبعده في الحاريخ فَقَصُّ النبي له اليوم دليل على أنه نبي يُوحى إليه، فلذا قال أم يقولون افتراه2 أي يقولون افترى القرآن وكذبه ولم يوح إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعليّ إجرامي أي أثم كذبي وأنا بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الاعتراض في الكلام إذا حسن موقعه لإقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر مهم.
1- قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوى النبوة ودعوته إلى الله تعالى.
3- تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن لا تزر وازرة وزر أخرى.
__________
1 الإجرام: مصدر أجرم يجرم إجراماً: إذا اقترف السيئات وجرم الثلاثي كأجرم الرباعي، قال الشاعر وهو أحد لصوص بني سعد:
طريد عشيرة ورهين جرم
بما جرمت يدي وجنى لساني
2 فسرت الآية في التفسير بالقول الراجح وهو: أنّ المراد بمن يقول افتراه: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والآية معترضة أحاديث قصة نوح وذهب بعضهم نقلاً عن ابن عباس أنها من محاورة نوح عليه السلام مع قومه: واستظهروها من أجل السياق السابق واللاحق والله أعلم.(2/545)
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} أي واصل صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك المشركين، وفار1 التنور أي خرج الماء من داخل التنور وفار وتلك علامة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين2 اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكراً وأنثى. وأهلك أي واحمل أهلك من زوجة وولد كسام وحام ويافث إلا من سبق عليه القول أي بالإهلاك كامرأته واعلة وولده كنعان. ومن آمن3 أي واحمل من آمن من سائر الناس، {وما آمن معه إلا قليل} أي نحو من ثمانين رجلاً وامرأة هذا ما دلت عليه الآية الأولى (40) أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن نوحاً قال لجماعة المؤمنين {اركبوا فيها} أي في السفينة {باسم الله مجراها4 ومرساها} أي باسم الله تجري وباسم الله ترسو أي تقف {إن ربي لغفور رحيم5} أي فهو لا يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب ويرحمنا فينجينا ويكرمنا. وقوله تعالى في الآية الثالثة (42) {وهي تجري بهم في موج كالجبال} وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان، وهو في هذه الساعة في معزل6 أي من السفينة حيث رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره7 فقال له {يا بني اركب8 معنا ولا تكن مع الكافرين} فتغرق كما يغرقون فأجاب الولد قائلاً
__________
1 الفوران: غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلى، والتنور: اسم لموقد النار للخبز.
2 قرأ حفص {من كلٍ} بتنوين كل فالتنوين عوض عن مضاف إليه أي: من كل المخلوقات، و {زوجين} مفعول لـ (احمل) ، واثنين: نعت له وقرأ الجمهور بإضافة كل إلى زوجين، والمراد بالزوجين هنا: الذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوانات.
3 ومن آمن: أي: كل المؤمنين.
4 جائز أن يكون القائل: {اركبوها} الله جلّ جلاله، وجائز أن يكون نوحاً عليه السلام والركوب: العلو على ظهر شيء، وقال: فيها، ولم يقل عليها لأنها ظرفٌ لهم يدخلون فيها.
5 قرأ الجمهور بضم الميم في كل من مجراها، ومرساها، وهما مصدران من: أجرى وأرسى، وقرأ عاصم بفتح ميم مجراها، وضم ميم مرساها كالجمهور، ولم يفتح ميم مرساها لاشتباهه. حينئذ المرسى مكان الرسو، وقرىء مجريها، ومرسيها باسم الفاعل أي: بسم الله مجريها ومرسيها.
6 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم" {وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون. {بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم} .
7 وقيل: في معزل أي: من دين أبيه.
8 قرأ حفص: {يا بنيَّ} بفتح الياء المشددة وكسرها غير عاصم.(2/546)
{سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} أي يمنعني منه حتى لا أغرق، فأجابه نوح قائلاً {لا عاصم اليوم من أمر الله} أي بعذاب الكافرين {إلا من رحم} أي الله فهو المعصوم. قال تعالى {وحال بينهما الموج} أي بين الولد العاق والوالد الرحيم {فكان} أي الولد {من المغرقين} . وقوله تعالى {وقيل يا أرض ابلعي ماءك} أي اشربيه وابتلعيه، ويا سماء اقلعي أي من الصب والإمطار، والآمر للأرض والسماء هو الله تعالى. {وغيض الماء} أي نقص ونضب. {واستوت على الجودي1} أي ورست السفينة بركابها على الجودي وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل {وقيل بعداً للقوم الظالمين} أي هلاكاً لهم فلم يبق منهم أحداً إذ أخذهم الطوفان وهم ظالمون بدأ الطوفان أول يوم من رجب واستمر ستة أشهر حيث رست السفينة في أول محرم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الإيمان ينجي، والكفر يهلك ويردي.
- 2- مشروعية التسمية عند الركوب في سفينة أو غيرها.
3- عقوق الوالدين كثيراً ما يسبب الهلاك في الدنيا، أما عذاب الآخرة فهو لازم له.
- 4- مظهر من مظاهر رحمة الوالد بولده.
5- مظاهر عظمه الرب تعالى وإطاعة الخلق أمره حتى الأرض والسماء.
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ
__________
1 {الجودي} أحد جبال ثلاثة أكرمهم الله تعالى، الجودي بإرساء السفينة عليه، وطور سينا: بمناجاة موسى عليه، وحراء بتعبد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ونزول جبريل عليه فيه.(2/547)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
شرح الكلمات:
من أهلي: أي من جملة أهلي من أزواج وأولاد.
وإن وعدك الحق: أي الثابت الذي لا يخلف.
إنه عمل غير صالح: أي إن سؤالك هذا إياي عمل غير صالح.
أعظك: أي أنهاك وأخوفك من أن تكون من الجاهلين.
من الجاهلين: أي من الذين لا يعرفون جلالي وصدق وعدي ووفائي فتسألني ما ليس لك به علم.
سنمتعهم: أي بالأرزاق والمتع إلى نهاية آجالهم ثم يحل بهم عذابي وهم الكفرة.
للمتقين: أي الذين يتقون الله فيعبدونه ولا يشركون به شيئاً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى، {ونادى نوح ربه} أي دعاه سائلاً {ربّ إن ابني من أهلي1 وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} ، وهذا كان منه حال الإركاب في الفلك، وامتناع ولده كنعان من الركوب أي رب إن ولدي كنعان من زوجتي ومن جملة أولادي، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ومن معي من المؤمنين، {وإن وعدك الحق} أي الذي لا خلف فيه أبداً، {وأنت أحكم الحاكمين} أعلمهم وأعدلهم، وهذا ابني قد استعصى عنّي ولم يركب معي وسيهلك مع الهالكين إن لم ترحمه يا رب.
__________
1 أي: الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق. سأل نوح ربّه نجاة ولده لقوله تعالى {وأهلك} وكان كنعان يظهر الإيمان ويبطن الكفر.(2/548)
العالمين فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله الحق: {إنه ليس من أهلك} أي الذين وعدتك بإنجائهم لأنه على غير دينك وعلى خلاف منهجك، {إنه عمل1 غير صالح} أي إن سؤالك هذا إليّ بإنجاء ولدك وهو كافر على غير ملتك، وقد أعلمتك إني مغرق الكافرين. سؤالك هذا عمل غير صالح يصدر عنك: {إني أعظك} أي أنهاك وأخوفك {أن تكون من الجاهلين} فتسألني ما ليس لك به علم. قال نوح {ربّ} أي يا رب إنّي أعوذ بك أي استجير وأتحصن بك أن أسألك بعد الآن ما ليس لي به علم. وإلا تغفرلي وترحمني أكن من الخاسرين أي الذين غبنوا أنفسهم حظوظها فهلكوا، فأجابه الرب2 تعالى {يا نوح أهبط} من السفينة أنت ومن ومعك من المؤمنين بسلام منا أي بأمن منا وتحيات، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي من ذريّة من معك، فلا تخافوا جوعاً ولا شقاء، وأمم من ذريّة من معك سنمتعهم متاع الحياة الدنيا بالأرزاق ثم يمسهم منا عذاب أليم يوم القيامة لأنهم ينحرفون عن الإسلام ويعيشون على الشرك والكفر. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله تعالى به فكان كما أخبر فقد نشأت أجيال وأجيال من ذريّة نوح منهم الكافر ومنهم المؤمن وفي الجميع ينفذ حكم الله ويتم فيهم وعده ووعيده. وقوله تعالى في الآية (49) وهي الأخيرة في هذا السياق يقول تعالى {تلك من أنباء الغيب3 نوحيها} أي هذه القصة التي قصصناها عليك من أنباء الغيب الذي لا يعلم تفصيله إلا الله نوحيها إليك ضمن آيات القرآن ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على وجه التفصيل من قبل هذا القرآن إذاً فاصبر يا رسولنا على أذى قومك مبلغاً دعوة ربك حتى يأتيك نصرنا فإن العاقبة4 الحسنى الحميدة وإنما للمتقين ربهم بطاعته والصبر عليها حتى يلْقوهُ مؤمنين صابرين محتسبين.
__________
1 قرأ ابن عباس، وعروة وعكرمة، ويعقوب، والكسائي: {إنه عَمِل غيرَ صالح} أي: إن ابنك عمل عملاً غير صالح، وهو الكفر والتكذيب وقرأ الباقون {عملٌ غير صالح} أي: ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف كقول الشاعر:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت
فإنما هي إقبال وإدبار
أي: ذات إقبال وإدبار.
2 وجائز أن يكون القائل: {اهبط} : الملائكة عليهم السلام بإذن الله تعالى.
3 اشتملت الآية على ثلاثة أمور هي: الامتنان والصبر، والتسلية، فالامتنان في قوله: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك} والموعظة في قوله {فاصبر} الخ.. والتسلية في قوله، {إن العاقبة للمتقين} .
4 العاقبة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز وهو النجاة من النار، ودخول الجنة.(2/549)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- رابطة الإيمان والتقوى أعظم من رابطة النسب.
2- حرمة العمل بغير علم فلا يحل القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.
3- ذم الجهل وأهله.
4- شرف نوح عليه السلام وانه أحد أولى العزم من الرسل.
5- بيان العبرة من القصص القرآني وهي تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.
6- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإثباتها ببرهان عقلي وهو الإخبار بالغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي.
7- بيان فضل الصبر، وأن العاقبة الحميدة للمتقين وهم أهل ألتوحيد والعمل الصالح.
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52)
شرح الكلمات:
وإلى عاد أخاهم هودا: أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم في النسب لا في الدين أخاهم هوداً. وهود من قبيلة عاد وعاد من ولد سام بن نوح عليه السلام.
اعبدوا الله: أي اعبدوه وحده ولا تعبدوا معه غيره.
ما لكم من إله غيره: أي ليس لكم معبود بحق يستحق عبادتكم غيره.(2/550)
إن أنتم إلا مفترون: أي ما أنتم في تأليه غير الله من الأوثان إلا كاذبون.
لا أسألكم عليه أجراً: أي لا أطلب منكم أجراً على إبلاغي دعوة التوحيد إليكم.
فطرني: أي خلقني.
مدرارا: أي كثيرة الدرور للمطر النازل منها.
ولا تتولوا مجرمين: أي ولا تعرضوا عن دعوة التوحيد مجرمين على أنفسكم بالشرك بالله.
معنى الآيات:
هنا شروع في قصة هود مع قومه عاد بعد قصة نوح عليه السلام ومغزى القصة تقرير توحيد الله ونبوة رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى {وإلى عاد أخاهم1 هوداً} أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد2 أخاهم هوداً وهو أخوهم في النسب وأول من تكلم بالعربية فهو أحد أربعة أنبياء من العرب وهم هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله {قال يا قوم اعبدوا الله} أي قال هود لقومه بعد أن أرسله الله إليهم يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه غيره فإنه ما لكم من إله غير3 الله سبحانه وتعالى. وقوله {إن أنتم إلا مفترون} أي ما أنتم في عبادة غير الله من الأصنام والأوثان إلا كاذبون، إذ لم يأمركم الله تعالى ربكم بعبادتها، وإنما كذبتم عليه في ذلك. وقوله {يا قوم لا أسألكم عليه أجراً} يريد لا أسألكم على دعوتي إياكم إلى توحيد ربكم لتكملوا بعبادته وتسعدوا أجراً أي مالاً {إن أجرى إلا على الله الذي فطرني} أي ما أجري إلا على الله الذي خلقني. وقوله {أفلا تعقلون4} أي أفلا تعقلون أني لو كنت أبغي بدعوتي إلى التوحيد أجراً لطلبت ذلك منكم، غير أني لم أطلب من غير ربي أجراً فبان بذلك صدقي في دعوتكم ونصحي لكم.
وقوله تعالى عن قيل هود {يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} يخبر تعالى أن هوداً نادى قومه فقال يا قوم استغفروا ربكم أي آمنوا به واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم، ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته وحده بما شرع لكم على لسان نبيكم، واتركوا عبادة غيره يكافئكم بأن
__________
1 وجائز أن تكون أخوة بني آدم إذ الكل من آدم عليه السلام.
2 هما: عادان، الأولى والثانية لقوله تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى} فهؤلاء هم عاد الأولى، وأمَّا الأخرى فالله أعلم بها.
3 يصح في: {غير} الجر والرفع والنصب، فالجرّ على اللفظ، والرفع على الموضع والنصب على الاستثناء.
4 وجائز أن يكون {أفلا تعقلون} لما جرى لقوم نوح لمّا كذّبوا الرسل، وما في التفسير أولى وأكثر فائدة.(2/551)
يرسل السماء عليكم مدرارا1 أي بالأمطار المتتالية بعد الذي أصابكم من الجفاف والقحط والجدب، ويزدكم قوة روحية إلى قوتكم المادية، وقوله {ولا تتولوا مجرمين} ينهاهم ناصحاً لهم أن يرفضوا نصيحته ويرجعوا إلى عبادة الأوثان فيُجْرِمُوا على أنفسهم بإفسادها بأوضار الشرك والعصيان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- دعوة الرسل من نوح إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدة وهي أن يُعبَدَ الله وحده.
2- تقرير مبدأ لا إله إلا الله.
3- المشركون والمبتدعون الكل مفترون على الله كاذبون حيث عبدوه بما لم يشرع لهم.
4- وجوب الإخلاص في الدعوة.
5- فضل الاستغفار ووجوب التوبة.
6- تقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولاً بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه.
قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
__________
1 أي: كثيرة المطر المتتابع الذي يتلو بعضهُ بعضاً، يقال: درّت السماء تدرّ فهي مدرار، وكان قوم هود أهل بساتين وزروع حياتهم متوقفة على المطر.(2/552)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
شرح الكلمات:
بيّنة: أي بحجة وبرهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده.
وما نحن بتاركي آلهتنا: أي عبادة آلهتنا لأجل قولك إنها لا تستحق أن تعبد.
إلاّ اعتراك: أي أصابك.
بسوء: أي بِخَبَل فأنت تهذي وتقول مالا يقبل ولا يعقل.
ثم لا تنظرون: أي لا تمهلون.
آخذ بناصيتها: أي مالكها وقاهرها ومتصرف فيها. فلا تملك نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه.
إن ربي على صراط مستقيم: أي على طريق الحق والعدل.
فإن تولوا: أصلها تتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التائين ومعناه تُدبروا.
على كل شيء حفيظ: أي رقيبٌ ولا بد انه يجزي كل نفس بما كسبت.
معنى الآيات:
مازال السياق في قصة هود مع قومه إذ أخبر تعالى عن قيل قوم هود إلى هود فقال {قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة} أي بحجة أو برهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وترك عباده آلهتنا والاعتراف بنبوتك {وما نحن بتاركي آلهتنا} أي عبادتها {عن قولك} أي من أجل قولك إنها لا تستحق أن تعبد لكونها لا تنفع ولا تضر، {وما نحن لك بمؤمنين} أي بمتابعين لك على دينك ولا مصدقين لك فيما تقول {إن نقول إلا اعتراك1 بعض آلهتنا بسوء} أي ما نجد ما نقول فيك إلا أن بعض آلهتنا التي تسبها وتشتمها قد أصابتك بسوء بخبل وجنون فأنت تهذر وتهذي ولا تدري ما تقول. فأجابهم قائلا {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون} فأعلن براءته في وضوح من آلهتهم وأنه لا يخافها إبطالا لدعواهم أنَّها أصابته بسوء وأعلمهم أنه يشهد الله على ذلك، ثم أمرهم أن يشهدوا هم كذلك2. وقوله {من دونه} أي من دون الله من سائر الآلهة والشركاء ثم تحداهم مستخفا
__________
1 عراه واعتراه بممنى واحد، وهو: أصابك، يقال: اعتراني كذا، أي، أصابني، كما يقال: عراني نعاس أو تفكير أي: أصابني.
2 ما أمرهم بالشهادة لكونهم أهلا لها، وإنما زيادة في التقرير، وخالف بين الفعلين حتى لا يسوي بين شهادة الله تعالى وشهادتهم.(2/553)
بهم وبآلهتهم، فقال {فكيدوني1 جميعا} أي احتالوا على ضري ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون ولا تمهلون، ثم كشف لهم عن مصدر قوته وهو توكله على ربّه فقال {إني توكلت على الله ربي وربكم} أي فوضت أمري إليه وجعلت كل ثقتي فيه فهو لا يسلمني إليكم ولا يخذلني بينكم. ثم أعلمهم بإحاطة قدرة الله بهم وقهره لهم فقال {وما من2 دابّة إلا هو آخذ بناصيتها3} أي قاهر لها متحكم فيها يقودها حيث شاء وينزل بها من العذاب ما يشاء، ثم أعلمهم أن ربّه تعالى على طريق العدل والحق فلا يُسلط أعداءه على أوليائه، فقال {إن ربّي على صراط مستقيم} فلذا أنا لست بخائف ولا وجل ثم قال لهم {فإن تولوا} أي فإن تدبروا عن الحق وتعرضوا عنه فغير ضائري ذلك إذ أبلغتكم ما أرسلني به ربي إليكم وسيهلككم ويستخلف قوماً غيركم4، ولا تضروه شيئاً من الضرر لا قليلاً ولا كثيراً، {إن ربّي على كل شيء حفيظ} أي رقيب، وسيجزي كلا بما كسب بعدله ورحمته. وله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مدى مجاحدة ومكابرة المشركين في كل زمان ومكان.
2- تشابه الفكر الشركي وأحوال المشركين إذ قول قوم هود {إن نقول إلا اعتراك} .. الخ. يردده جهلة المسلمين وهو فلان ضربه الولي الفلاني.
3- مواقف أهل الإيمان واحدة فما قال نوح لقومه متحدياً لهم قاله هود لقومه.
4- تقرير مبدأ أن كل شيء في الكون خاضع لتدبير الله لا يخرج عما أراده له أو به.
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
__________
1 في قوله: {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} علم من أعلام النبوة إذ لا يقدر فرد أن يقول لأمّة بكاملها: افعلي بي من الشر والأذى ما تستطيعين إلاّ أن يكون نبياً عالما بقدرة الله تعالى على حفظه وحمايته، وقد وقف هذا الموقف نوح من قبل ووقفه محمد بعد صلى الله عليهم أجمعين وسلم تسليماً.
2 كل ما فيه روح يقال له دابّ، والتاء فيه: للمبالغة، فيقال. دابة بالغة في الدبيب.
3 الناصية: ما انسدل من شعر الرأس على الجبهة، والأخذ: الإمساك، وهذا كناية عن التمكن والقدرة الكاملة على التصرف في المخلوقات.
4 أي: يخلق من هم أطوع لله تعالى منكم فيعبدونه ويوحدّونه.(2/554)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
شرح الكلمات:
ولما جاء أمرنا: أي بعذابهم وهي الريح الصرر.
برحمة منا: أي بفضل منا ونعمة.
جبار عنيد: أي مستكبر عن الحق لا يذعن له ولا يقبله.
ويوم القيامة: أي ولعنة في يوم القيامة.
ألا بعداً لعاد: أي هلاكاً لعاد وإبعاداً لهم من كل رحمه.
معنى الآيات:
مازال السياق في هود وقومه قال تعالى {ولما جاء أمرنا} أي عذابنا1 {نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة2 منا} أي بلطف وفضل ونعمة {ونجيناهم3 من عذاب غليظ} هو عذاب يوم القيامة فهما نجاتان نجاة في الدنيا من عذاب الريح العقيم الصرر التي دمرت كل شيء بأمر ربها ونجاة من عذاب النار يوم القيامة وهي أعظم. وقوله تعالى {وتلك عاد} أي هذه عاد قوم هود جحدوا بآيات4 ربهم فلم يؤمنوا وعصوا رسله أي هوداً وجمُع لأن من كذب برسول كأنما كذب بكل الرسل {واتبعوا أمر كل جبار عنيد5} أي اتبعوا أمر دعاة الضلالة من أهل الكبر والعناد للحق فقادوهم إلى سخط الله وأليم عقابه وقوله {واتبعوا في هذه الدنيا لعنة} أي اتبعهم الله غضبه وسخطه وهلاكه، ويوم القيامة كذلك وأشد. ويختم الحديث عن هذه القصة بقول الله تعالى {ألا إن عاداً كفروا ربهم} أي جحدوه فلم يعترفوا بألوهيته
__________
1 بهلاك عاد.
2 في صحيح مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لن ينجي أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة".
3 قبل: كانوا ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف نسمة ما بين رجل وامرأة.
4 المراد من الآيات: المعجزات وأنكروها.
5 العنيد والعنود، والعاند والمعاند: المعارض، المخالف.(2/555)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
وعبادته {ألا1 بعداً} أي هلاكاً لعادٍ قوم هود. فهل يعتبر مشركو قريش بهذه القصة فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا ويفلحوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد إذ القصة كلها مسوقة لذلك.
2- بيان سنة الله في الأولين وهي انه لبعث الرسل مبشرين ومنذرين فَإنِ استجابَ المرسل إليهم سعدوا، وإن لم يستجيبوا يمهلهم حتى تقوم الحجة عليهم ثم يهلكهم، وينجي المؤمنين.
3- التنديد بالكبر والعناد إذ هما من شر الصفات الخلقية في الإنسان.
4- اتباع الطغاة والظلم والكفر والفساد لا تقود إلا إلى الدمار والخسار.
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
شرح الكلمات:
وإلى ثمود: أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود.
أخاهم صالحاً: أي في النسب لأنه من قبيلة ثمود، بينه وبين ثمود أبي القبيلة خمسة أجداد.
__________
1 والبعد: التباعد عن الخير أيضاً.(2/556)
واستعمركم: أي جعلكم عماراً فيها تعمرونها بالسكن والإقامة فيها.
قريب مجيب: أي من خلقه، إذ العوالم كلها بين يدله ومجيب أي لمن سأله.
مرجوا قبل هذا: أي قبل أن تقول ما قلت كنا نرجو أن تكون سيداً فينا.
أرأيتم: أي أخبروني.
على بيّنة من ربي: أي على علم بربي علمنيه سبحانه وتعالى فهل يليق بي أن أعبد غيره.
غير تخسير: أي خسار وهلاك.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة صالح مع قومه إذ قال تعالى مخبراً عن إرساله إلى قومه {وإلى ثمود1 أخاهم صالحا! أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود بالحجر بين الحجاز والشام أخاهم في القبيلة لا في الدين صالحاً. فقال {يا قوم أعبدوا الله ما لكم من إله غيره} فناداهم بعنوان القومية جمعا لقلوبهم على ما يقول لهم فقال {يا قوم اعبدوا الله} أي آمنوا به ووحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه أحداً. إذ ليس لكم من إله غيره. إذ هو ربكم أي خالقكم ورازقكم ومدير أمركم. {أنشأكم من الأرض} أي ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم منها {واستعمركم2 فيها} أي جعلكم تعمرونها بالسكن فيها والعيش عليها، إذا فاستغفروه بالاعتراف بألوهيته ثم توبوا إليه فاعبدوه وحده ولا تشركوا في عبادته أحداً. وقوله {إنّ ربّي قريب مجيب} أخبرهم بقرب الربّ تعالى من عباده وإجابته لسائليه ترغيباً لهم في الإيمان والطاعة، وترك الشرك والمعاصي. هذا ما تضمّنته الآية الأولى (61) أما الآية الثانية فقد تضمنت رد القوم عليه عليه السلام إذ قالوا بما اخبر تعالى عنهم {يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} أي كنا نأمل فيك الخير ونرجو أن تكون سيداً فينا حتى فاجأتنا بما تدعونا إليه من ترك آلهتنا لإلهك ثم أنكروا عليه دعوته فقالوا {أتنهانا3 أن نعبد ما يعبد آباؤنا} وأخبروه أنهم
__________
1 اختلف في صرف ثمود فمن القراء من صرفه أبداً وإلى ثمود بالجر والتنوين ومنهم من صرفه في موضع من القرآن ومنه في موضع آخر ولكل فيما رآه وجه صحيح.
2 استعمر بمعنى أعمر كاستجاب بمعنى أجاب أعمركم جعلكم تعمرونها فأنتم عمارها إلى نهاية آجالكم المحددة لكم، وليس هذا من باب استسهل الشيء إذا وجده سهلاً واستصعبه إذا وجده صعباً فإن الله تعالى لا يعجزه شيء وفي الآية دليل على العمري وهو أن يقول مالك لآخر أعمرتك داري فتصبح له واختلف هل تبقى لذريته بعد موته أو هي له ما دام حياً فإذا مات عادت لمن أعمره إياها مذهبان مشهوران وفي الحديث العمري جائزة والعُمري لمن وهبت له.
3 الاستفهام للإنكار.(2/557)
غير مطمئنين إلى صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله تعالى فقالوا {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} أي موقع في الريب وهو اضطراب النفس وعدم سكونها إلى ما قيل لها أو أخبرت به هذا ما تضمنه الآية الثانية (62) أما الآية الثالثة (63) فقد تضمنت دعوة صالح لقومه بأسلوب رفيع رغبة منه في إقامة الحجة عليهم لعلهم يؤمنون ويوحدون إذ قال بما أخبر الله تعالى في قوله: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي} أي على علم يقيني بالإيمان بربي ووجوب عبادته وتوحيده وآتاني منه رحمة وهي النبوة والرسالة، فمن ينصرني1 من الله إن عصيته اللهم إنه لا أحد أبداً إذاً فإنكم ما تزيدونني إن أنا أطعتكم في ترك عبادة ربي والرضا بعبادة آلهتكم إلا خساراً2 وضلالاً في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة..
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وحدة الوسيلة والغاية عند كافّة الرسل فالوسيلة عبادة الله وحده، والغاية رضا الله والجنة.
2- تقديم الاستغفار على التوبة في الآية سره إن المرء لا يقلع عن ذنبه حتى يعترف به.
3- بيان سنة في الناس وهي أن المرء الصالح يرجى في أهله حتى إذا دعاهم إلى الحق وإلى ترك الباطل كرهوه وقد يصارحونه بما صارح به قوم صالح نبيّهم إذ قالوا {قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} .
4- حرمة الاستجابة لأهل الباطل بأي نوع من الاستجابة، إذ الاستجابة لا تزيد العبد إلا خساراً.
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاء
__________
1 الاستفهام للنفي أي لا أحد ينصرني.
2 اختلف في توجيه قوله عليه السلام فما تزيدونني غير تخسير فمن قائل: غير بصيرة بخسارتكم ومن قائل التخسير لهم لا له عليه السلام وأوجه الأقوال ما في التفسير وأشكل لفظ زيادة التخسير والخروج منه أنه يعرض بهم فأفهمهم أنهم في خسران كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} ثم بشركهم يزدادون خسراناً وتخسيراً أعظم.(2/558)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ (68)
شرح الكلمات:
آية.: أي علامة على صدقي فيما جئتكم به من أنه لا إله إلا الله.
فذروها تأكل في أرض الله: أي اتركوها ترعى في المراعي غير المحميّة لآحد.
بسوء: أي كضربها أو قتلها، أو منعها من الماء الذي تشرب منه.
فعقروها: أي قتلوها بالعقر الذي هو قطع قوائمها بالسيف.
تمتعوا في دياركم: أي ابقوا في دياركم تأكلون وتشربون وتتمتعون في الحياة ثلاثة أيام.
وعد غير مكذوب: أي صادق لم أكذبكم فيه ولم يكذبني ربي الذي وعدكم به.
في ديارهم جاثمين.: أي ساقطين على ركبهم ووجوههم.
كأن لم يغنوا فيها: أي كأن لم يكونوا بها أمس ولم تعمر بهم يوما.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن صالح وقومه. إنه لما دعاهم صالح إلى توحيد الله تعالى كذبوه وطالبوه بما يدل على صدق ما دعا إليه فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به في هذه الآية {ويا قوم1 هذه ناقة الله لكم آية} وذلك أنهم سألوا أن يخرج لهم ناقة من جبل أشاروا
__________
1 هذه ناقة الله لكم آية مبتدأ وخبر وآية منصوب على الحال.(2/559)
إليه فدعا صالح ربّه فاستجاب الله تعالى له وتمخض الجبل عن ناقة عشراء هي عجب في خلقتها وكمالها فقال عندئذ {يا قوم هذه ناقة الله} أضافها إلى الله لأنها كانت بقدرته ومشيئته {لكم آية} أي علامة لكم على صدق ما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، فذروها1 تأكل في أرض الله أي خلّوها تأكل من نبات الأرض من المراعي العامة التي ليست لأحد، ولا تمسوها بسوء كعقرها أو ذبحها وقتلها فيأخذكم عذاب قريب2 قد لا يتأخر أكثر من ثلاثة أيام. فكذبوه فعقروها فلما رأى ذلك قال لهم بأمر الله {تمتعوا في داركم3 ثلاثة أيام} أي عيشوا فيها. {ذلك وعد غير مكذوب} أي ذلك الوعد وعد صادق غير مكذوب فيه. هذا ما دلت عليه الآيتان (64- 65) وقال تعالى: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا} أي لما اكتملت المدة التي حددت لهم وجاء أمر الله بعذابهم نجى الله تعالى رسوله صالحاً والمؤمنين برحمة منه أي بلطف ونعمة منه عز وجل وقوله {ومن خزي4 يومئذ} أي ونجاهم من ذل ذلك اليوم وعذابه، وقوله {إن ربك قوي عزيز} أي إن ربك يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوي إذا بطش عزيز غالب لا يٌغلب على أمر يريده. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (66) وأما الآيتان بعد فقد أخبر تعالى فيهما عن هلاك ثمود بقوله {وأخذ الذين ظلموا الصيحة5 فأصبحوا في ديارهم جاثمين} أي إنّ الذين أشركوا بربهم وكذبوا بآياته أخذتهم الصيحة فانخلعت لها قلوبهم فهلكوا وأصبحوا في ديارهم جاثمين على ركبهم كأن لم يغنوا بديارهم ولم يعمروها قال تعالى {ألا إن ثموداً كفروا ربّهم ألا بعداً لثمود} أي هلاكاً لثمود، وبهذا التنديد والوعيد بعد الهلاك والعذاب المخزي انتهت قصة صالح مع قومه ثمود الذين آثروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد
هداية الآيات:
هن هداية الآيات:
1- إعطاء الله تعالى الآيات للمطالبين بها لا يستلزم الإيمان بها.
__________
1 ذروها أمر، وماضيه وذر شاذ وكذا اسم الفاعل فلا يقال وذر فهو واذر، والمستعمل منه المضارع والأمر لا غير. ومعناه ترك وبه استغنى عن وذر.
2 أي من يوم قتلها وهو كذلك فلم يتأخر.
3 ليتمتع كل واحد منكم في داره عن ثلاثة أيام إذ عقروا الناقة يوم الأربعاء فأصبحوا يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة وأصبحوا يوم الجمعة وهو اليوم الثاني من أيام التمتع في ديارهم ووجوههم محمرة وأصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة وأخذوا صباح الأحد.
4 من فضيحته وذلته وقرأ نافع بنصب يومئذ وقرأ غيره بكسرها على الإضافة.
5 جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فخروا على الأرض جاثمين جثوم الطير على الأرض إذا الصقت بطونها بها وسكنت لا تتحرك.(2/560)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
2- آية صالح عليه السلام من أعظم الآيات ولم يؤمن عليها قومه.
3- إقامة ثلاثة أيام لا يعد صاحبها مقيما وعليه أن يقصر الصلاة.
4- شؤم الظلم وسوء عاقبة أهله.
وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)
شرح الكلمات:
بالبشري: أي بإسحاق ومن وراء اسحق يعقوب.
فما لبث: أي ما أبطأ.
بعجل حنيذ: أي مشوي على الحجارة.
لا تصل إليه: أي لم يتناولوه فيأكلوا منه.
نكرهم: أي لم يعرفهم.
وأوجس: أي أحس بالخوف وشعر به.
لوط: هو ابن هاران أخي إبراهيم عليه السلام.
يا ويلتا: أي ياويلتي احضري هذا أوان حضورك.
وهذا بعلي شيخا: إشارة إلى إبراهيم إذ هو بعلها أي زوجها.
إن هذا لشيء عجيب: أي أمر يتعجب منه استبعاداً له واستغراباً.(2/561)
معنى الآيات:
هذه بشارة إبراهيم عليه السلام التي بشره الله تعالى بها إذ قال تعالى {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى1} والمراد بالرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل، إذ دخلوا عليه داره فسلموا عليه فرد عليهم السلام وهو معنى قوله تعالى {قالوا سلاما2 فقال سلام} وقوله تعالى {فما لبث أن جاء3 بعجل حنيذ} أي لم يبطأ حتى جاء بعجل4 مشوي فحنيذ بمعنى محنوذ وهو المشوي على الحجارة. فقربه إليهم وعرض عليهم الأكل بقوله {ألا تأكلون5} فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لم يتناولوه نكرهم بمعنى أنكرهم وأوجس منهم خيفة لأن العادة أن الضيف إذا نزل على أحد فقدم إليه طعاماً فلم يأكل عرف أنه ينوي شراً ولما رأت الملائكة ذلك منه قالوا له لا تخف وبينوا له سبب مجيئهم فقالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط أي لإهلاكهم وتدميرهم بسبب إجرامهم. وكانت امرأته قائمة وراء الستار تخدمهم مع إبراهيم. فلما سمعت بنبأ هلاك قوم لوط ضحكت فرحاً بهلاك أهل الخبث فعندئذ بشرها الله تعالى على لسان الملائكة بإسحق ومن بعده يعقوب أي بولد وولد ولد، فلما سمعت البشرى صكت وجهها تعجباً على عادة النساء وقالت {ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي} تشير إلى زوجها إبراهيم {شيخا} أي كبير السن إذ كان سنه يومئذ مائة سنة وسنها فوق التسعين. {إن هذا لشيء عجيب} أي ولادتي في هذه السن أمر يتعجب منه. قالوا أتعجبين من أمر6 الله {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} أي بيت إبراهيم، {إنه حميد مجيد} أي محمود بإفضاله وإنعامه عليكم {مجيد} أي ذو مجد وثناء وكرم. وامرأة إبراهيم المبشرة هي سارة بنت عم إبراهيم عليه السلام، والبشارة هنا لإبراهيم {إنه حميد مجيد} أي محمود بإِفضاله وإنعامه عليكم {مجيد} أي ذو مجد وثناء وكرم. وامرأة ابراهيم المبشرة هي سارة بنت عم إبراهيم عليه السلام، والبشارة هنا لإبراهيم، وزوجه سارة معاً وهي مزدوجة إذ هي بهلاك الظالمين، وبإسحاق ويعقوب.
__________
1 قيل أن البشرى كانت بإسحاق وقيل بإهلاك قوم لوط والظاهر أنها بإسحق.
2 سلاماً نصب بوقوع فعل قالوا نحو قال فلان خيراً ويجوز عربيّة الرفع والنصب في قوله تعالى {قالوا سلاماً قال سلام} ، والرفع يكون على تقدير مبتدأ أي هو سلام، وسلام عليكم وجاز الابتداء بالنكرة لكثرة تكرار هذا اللفظ نظيره لا هم حيث حذفوا الألف واللام لكثرة استعمال اللهم.
3 إن هنا بمعنى حتى قاله كبراء النحو أي فما لبث حتى جاءهم.
4 في الآية دليل على فضل الضيافة ومشروعيتها والندب إليها إذ هي من خلق البشر وفي الحديث، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه والضيافة ثلاثة أيام".
5 ذكر الطبري رحمه الله تعالى أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل وقال للملائكة ألا تأكلون! قالوا لا نأكل طعاماً إلا بثمن قال كلوه بثمنه قالوا وما ثمنه؟ قال أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل لأصحابه حق للرجل أن يتخذه ربّه خليلا.
6 من أمر الله أي قضائه وقدره.(2/562)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحباب تبشير المؤمن بما هو خير له ولو بالرؤيا الصالحة.
2- مشروعية السلام1 لمن دخل على غيره أو وقف عليه أو مرّ به ووجوب رد السلام.
3- مشروعية خدمة أهل البيت2 لضيوفهم ووجوب إكرام الضيف وفي الحديث الصحيح "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
4- شرف أهل بيت إبراهيم عليه السلام.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
شرح الكلمات:
الروع3: الفزع والخوف.
البشرى: أي الخبر السار المفرح للقلب.
يجادلنا: أي يخاصمنا.
في قوم لوط: أي في شأن هلاك قوم لوط، ولوط هو رسول الله لوط بن هاران بن عم إبراهيم.
حليم أواه: الحليم الذي لا يعامل بالعقوبة والأواه كثير التأوه مما يسيء ويحزن.
أعرض عن هذا: أي اترك الجدال في قوم لوط.
__________
1 في الآية دليل على أن لفظ السلام ينتهي بكلمة وبركاته.
2 في الآية دليل على أن امرأة الرجل تعد من أهل بيته.
3 يقال ارتاع يرتاع من كذا إذا خاف قال النابغة.
فارتاع من صوت كلاّب فبات له
طوع الشوامت من خوف ومن ضرر
الشاعر يصف ثوراً وحشياً والكلاب: صاحب الكلاب.(2/563)
غير مردود: أي لا يستطيع أحد رده لأن الله تعالى قد قضى به فهو واقع لا محالة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الحديث عن بشارة إبراهيم قال تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي الفزع والخوف من الملائكة قبل أن يعرفهم وجاءته البشرى بالولد وبهلاك قوم لوط أخذ يجادل الملائكة في شأن هلاك قوم لوط لأجل ما بينهم من المؤمنين فقال إن فيها لوطاً فأجابوه بقولهم الذي ذكر تعالى في سورة العنكبوت {نحن أعلم بمن فيها لننجيّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقوله تعالى {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} 1 تعليل لمجادلة إبراهيم الملائكة في قوم لوط، وذلك أن إبراهيم رقيق القلب حليم لا يعامل بالعقوبة فأراد تأخير العذاب عنهم لعلهم يتوبون، وكان أواهاً ضارعا قانتا يكثر من قول آه إذا رأى أو سمع2 ما يسوء ومنيباً أي توابا رجاعاً إلى ربّه في كل وقت. ولما الحّ إبراهيم في مراجعة الملائكة قالوا له يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال إنه قد جاء3 أمر ربك أي بهلاك القوم. {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} أي غير مدفوع من أحد وهو ما سَيُذْكَرُ في السياق بعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجدال عمن يُرجى له الخير من الناس، وذلك في غير الحدود الشرعية إذا رفعت إلى الحاكم.
2- فضيلة خلق الحلم.
3- فضل الإنابة إلى الله تعالى.
4- قضاء الله لا يرد أي ما حكم الله به لابد واقع.
__________
1 المنيب: الراجع يقال أناب إذا رجع وإبراهيم كان راجعاً إلى ربه في أموره كلها والأواه الكثير لقول أوّه وأواه اسم فعل. نائب مناب اتوجع.
2 جائز أن يكون هذا وحياً أوحاه الله تعالى إلى إبراهيم وجائز أن يكون قول الملائكة، وأمر الله قضاؤه بإهلاك قوم لوط.
3 في هذا دليل على رحمة إبراهيم القلبية فما أن يرى أو يسمع ما يضر أو يسيء إلاّ أخذ في التأوه والتحسر والتحزن، وقيل اسم إبراهيم مركب من كلمتين: أب رحيم، وظهر هذا في سلوكه ورحمته.(2/564)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
شرح الكلمات
سيء بهم: أي حصل له غم وهم بمجيئهم إليه.
وضاق بهم ذرعا1: أي عجزت طاقته عن تحمل الأمر.
يوم عصيب: أي شديد لا يحتمل.
يهرعون إليه: أي مدفوعين بدافع الشهوة يمشون مسرعين في غير اتزان.
السيئات: أي كبائر الذنوب بإتيان الذكور.
ولا تخزون في ضيفي: أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض لضيفي.
رجل رشيد: أي ذو رشد وعقل ومعرفة بالأمور وعواقبها.
أو آوى إلى ركن شديد: أي إلى عشيرة قوية تمنعني منكم. ولم تكن له عشيرة لأنه من غير ديارهم.
معنى الآيات:.
هذه فاتحة حديث لوط عليه السلام مع الملائكة ثم مع قومه قال تعالى {ولما جاءت
__________
1 أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه، ويقال ضاق وسعه وطاقته وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه فإذا عمل عليه أكثر من طوقه ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع.(2/565)
رسلنا} وهم ضيف إبراهيم عليه السلام {لوطاً سيىء بهم} أي تضايق وحصل له هم وغم خوفا عليهم من مجرمي قومه. وقال هذا يوم عصيب أي شديد لما قد يحدث فيه من تعرض ضيفه للمذلة والمهانة وهو بينهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (77) أما الثانية (78) فقد أخبر تعالى عن مجيء قوم لوط إليه وهو في ذلك اليوم الصعب والساعة الحرجة فقال عز وجل {وجاءه قومه يهرعون إليه1} أي مدفوعين بدافع الشهوة البهيمية مسرعين ومن قبل2 كانوا يعملون السيئات أي من قبل مجيئهم كانوا يأتون الرجال في أدبارهم فأراد أن يصرفهم عن الضيف فقال {يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم3} أي هؤلاء نساء الأمة هن أطهر لكم فتزوجوهن. واتقوا الله أي خافوا نقمته ولا تخزوني في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني فيهم. أليس منكم رجل رشيد؟ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فأجابوه لعنهم الله قائلين: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي من رغبة وحاجة4، وإنك لتعلم ما نريد أي من إتيان الفاحشة في الرجال. وهنا قال لوط عليه السلام: {لو أن لي بكم قوة} أي أنصاراً ينصرونني وأعواناً يعينوني لحلت بينكم وبين ما تشتهون، أو آوي إلى ركن شديد يريد عشيرة قوية يحتمي بها فتحميه وضيفه من قومه المجرمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة إكرام الضيف وحمايته من كل ما يسوءه..
2- فظاعة العادات السيئة وما تحدثه من تغير في الإنسان.
3- بذل ما يمكن لدفع الشر لوقاية لوط ضيفه ببناته5.
4- أسوأ الحياة أن لا يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
5- إظهار الرغبة في القوة لدفع الشر وإبعاد المكروه ممدوح.
__________
1 الاهراع السرعة في المشي مع رعدة. يقال أهرع الرجل إهراعاً إذا أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حُمَّى فهو مهرع وفعله على صيغة المبني للمجهول دائماً لأن أصله من مشى الأسير الذي يسرع به.
2 جائز أن يكون من قبل مجيء لوط إليهم، وجائز أن يكون من قبل مجيء الضيف وهم الرسل عليهم السلام.
3 أراد نساء الأمة إذ نبي القوم أب لهم شاهده قراءة ابن مسعود، وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم الآية من سورة الأحزاب.
4 قيل أنهم كانوا خطبوا بناته ولم يزوجهم بهن إذ سنتهم أن الرجل إذا خطب امرأة ثم لم يعطها لا تحل له بعد ولذا قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وما في التفسير أوجه.
5 هذا بناء على أن المراد من قوله هؤلاء بناتي: إنهن بناته لصلبه لا بنات أمته وحتى ولو كان المراد بنات القوم فإن فيه معنى دفع الشر بشر أخف.(2/566)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
شرح الكلمات:
فأسر بأهلك: أي اخرج بهم من البلد ليلا.
بقطع من الليل: أي بجزء وطائفة من الليل.
الصبح: هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
جعلنا عاليها: أي عالي القرية سافلها.
من سجيل: أي من طين متحجر.
منضود: أي منظم واحدة فوق أخرى بانتظام.
مسومة: أي معلمة بعلامة خاصة.
عند ربك: أي معلمة من عند الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن ضيف لوط مع قومه إنه بعد أن اشتد بلوط الخوف وتأسف من عدم القدرة على حماية الضيف الكريم وقال متمنياً لو أنّ لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد. هنا قالت له الملائكة1 {يا لوط إنا رسل ربك إليك لنُنَجِيّنَّكَ ونهلك قومك لن
__________
1 أي بعد أن رأت حزنه واضطرابه.(2/567)
يصلوا إليك أي بأي سوء أو بأدنى أذى فأسر1 بأهلك أي فاخرج بهم بقطع من الليل أي بطائفة وجزء من الليل ولا يلتفت2 منكم أحد كراهة أن يرى ما ينزل بالقوم من العذاب فيصيبه كرب من ذلك إلا امرأتك وهي عجوز السوء فخلفها في القرية وإن خرجت دعها تلتفت فإنها مصيبها ما أصابهم. وسأل لوط عن موعد نزول العذاب بالقوم فقالوا إن موعدهم الصبح، وكان لوط قد استبطأ الوقت فقالوا له: أليس الصبح بقريب؟ وقول تعالى: {فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها} 3 أي فلما جاء أمر الله بعذاب القوم أمر جبريل عليه السلام فقلبها على أهلها فجعل عالي القرية سافلها، وسافلها عاليها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل فمن كان خارج القرية أصابه حجر فأهلكه وقوله تعالى {منضود مسومة} أي مركب بعضها فوق بعض معلمة كل حجر عليها اسم من يرمى به، وقوله {عند ربك} أي معلمة من عند ربك يا رسول الله، وما هي من الظالمين ببعيد أي وما تلك القرية الهالكة من الظالمين وهم مشركو العرب ببعيد، أو وما تلك الحجارة التي أهلك بها قوم لوط ببعيد نزولها بالظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحباب السير في الليل لما فيه من البركة بقطع المسافات البعيدة بدون تعب.
2- كراهة التأسف لهلاك الظالمين.
3- مظاهر قدرة الله تعالى في قلب أربع مدن في ساعة فكان الأعلى أسفل4 والأسفل أعلى.
4- وعيد الظالمين في كل زمان ومكان بأشد العقوبات وأفظعها.
__________
1 فأسر بقطع الهمزة واسر بوصلها قراءتان سبعيتان وقيل يقال أسرى إذا مشى أول الليل، وسرى يسري إذا مشى آخر الليل.
2 ألاّ ينظر وراءه منكم أحد، أو لا يتخلف منكم أحد، أو لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع وما في التفسير أوجه وإلا امرأتك بالنصب على الاستثناء أي فأسر بأهلك إلا امرأتك فاتركها فإنها من الغابرين أي الهالكين.
3 جعلنا عاليها سافلها قيل أن جبريل ادخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس، سدوم وعامورا ودادوما وضعوه وقتم فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها.
4 في الآية بيان عقوبة من عمل عمل قوم لوط وهي الإرسال من أعلى جبل ثم الرمي بالحجارة وهذا مذهب أبي حنيفة. وعند الشافعي أن يقتل الفاعل والمفعول به سواء من احصن ومن لم يحصن، وقيل غير المحصن يجلد، وفي الحديث "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به".(2/568)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86)
شرح الكلمات:
وإلى مدين: أي أرسلنا إلى مدين1 إلى أهل مدين.
المكيال والميزان: أي إذا بعتم لأحد فلا تنقصوا المكيال والميزان.
عذاب يوم محيط: أي يحيط بكم من جميع جهاتكم فلا ينجو منه أحد منكم.
بالقسط: أي بالعدل أي بالمساواة والتساوي في البيع والشراء على حد سواء.
ولا تبخسوا: أي لا تنقصوهم حقوقهم التي هي لهم عليكم في الكيل والوزن وفي غير ذلك.
ولا تعثوا في الأرض: أي ولا تعثوا في الأرض بالفساد.
بقية الله خير لكم: أي ما يبقى لكم بعد توفية المكيال والميزان خير لكم من الحرام الذي حرم الله عليكم.
وما أنا عليكم بحفيظ: أي رقيب أراقب وزنكم وكيلكم وإنما أنا واعظ لكم وناصح لا غير.
__________
1 مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم عليهما السلام وكان متزوجاً بإحدى بنات لوط عليه السلام.(2/569)
معنى الآيات:
هذا بداية قصص شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين قال تعالى {وإلى مدين أخاهم شعيبا} أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين أخاهم في النسب شعيباً {قال يا قوم اعبدوا الله ما1 لكم من إله غيره} أي وحّدوا الله تعالى ليس لكم إله تعبدونه بحق إلا هو إذ هو ربكم الذي خلقكم ورزقكم ويدبر أمركم. وقوله {ولا تنقصوا المكيال والميزان} أي لا تنقصوا المكيال إذا كلتم لغيركم، والميزان إذا وزنتم لغيركم. وقوله {إني أراكم بخير} أي في رخاء وسعة من الرزق، {واني أخاف عليكم عذاب يوم محيط2} إن أصررتم على الشرك والنقص والبخس3 وهو عذاب يحيط بكم فلا يفلت منكم أحد. وقوله {يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} أمر بتوفية المكيال والميزان بالعدل بعد أن نهاهم عن النقص تأكيداً لما نهاهم عنه وليعطف عليه نهيا آخر وهو النهي عن بخس الناس أشياءهم إذ قال {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أي تنقصوهم حقوقهم وما هو لهم بحق من سائر الحقوق.
ونهاهم عما هو أعم من ذلك فقال {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تسعوا في الأرض بالفساد وهو شامل لكل المعاصي والمحرمات. وقوله {بقية الله خير لكم إن كنتم4 مؤمنين} أي وما يبقى لكم بعد توفية الناس حقوقهم خير لكم مما تأخذونه بالنقص والبخس لما في الأول من البركة ولما في الثاني من المحق إن كنتم مؤمنين بشرع الله ووعده ووعيده وقوله {وما أنا عليكم بحفيظ} أي بمراقب لكم حين تبيعون وتشترون، ولا بحاسب مُحصرٍ عليكم ظلمكم فأجازيكم به، وإنما أنا واعظ لكم ناصح ليس غير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وحدة دعوة الرسل وهي البداية بتوحيد الله تعالى أولا ثم الأمر والنهي لإكمال الإنسان
__________
1 ناداهم بعنوان القومية، لأن القومي عادة لا يخون قومه وأرشدهم إلى ما يلي:
أ- عبادة الله وحده وفيه إصلاح عقائدهم وبصلاح عقائدهم تصلح جميع أمورهم.
ب- صلاح أعمالهم في تصرفاتهم في أمور دنياهم.
2 جائز أن يكون عذاب إبادة واستئصال وهو ما تم لهم بعد اصرارهم على الشرك والعصيان وجائز أن يكون عذاب يوم القيامة وهو كائن لا محالة.
3 في الحديث: "ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء".
4 قال مجاهد: بقية الله خبر لكم يريد طاعته، وقال الربيع: وصية الله وقال الفراء: مراقبة الله وقال ابن زيد: رحمة الله، وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم، وقال الحسن: حظكم من ربكم خير لكم. كل هذا بشرط الإيمان والتوحيد وأرجح هذه الأقوال ما في التفسير.(2/570)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
وإسعاده بعد نجاته من الخسران.
2- حرمة نقص الكيل والوزن أشد حرمة1.
3- وجوب الرضا بالحلال وإن قل، وسخط الحرام وإن كثر.
4- حرمة بخس الناس حقوقهم كأجور العمال، وأسعار البضائع ونحو ذلك.
5- حرمة السعي بالفساد في الأرض بأي نوع من الفساد وأعظمه تعطيل شرائع الله تعالى.
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
شرح الكلمات:
أصلاتك2: أي كثرة الصلاة التي تصليها هي التي أثرت على عقلك فأصبحت تأمرنا بما لا ينبغي من ترك عبادة آلهتنا والتصرف في أموالنا.
__________
1 وشاهده من القرآن {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} .
2 قُرئ بالإفراد أصلاتك وبالجمع أصلواتك، والمعنى واحد إذ الإفراد اسم جنس شمل كل صلاة له فهو كالجمع.(2/571)
الحليم الرشيد: أي ذو الحلم والرشد، والحلم ضد الطيش والرشد ضد السفه ولم يكن قولهم هذا مدحاً له وإنما هو استهزاء به.
أن أخالفكم: أي لا أريد أن أنهاكم عن الشيء لتتركوه ثم أفعله بعدكم.
إن أريد إلا الإصلاح:: أي ما أريد إلا الإصلاح لكم.
وما توفيقي إلا بالله:: أي وما توفيقي للعمل الإصلاحي والقيام به إلا بفضل الله عليّ.
وإليه أنيب:: أي ارجع في أمري كله.
لا يجرمنكم شقاقي: أي لا تكسبنكم مخالفتي أن يحل بكم من العذاب ما حل بقوم نوح والأقوام من بعدهم.
وما قوم لوط منكم ببعيد:: أي في الزمن والمكان إذ بحيرة لوط قريبة من بلاد مدين التي هي بين معان والأردن.
رحيم ودود:: أي رحيم بالمؤمنين ودود محب للمتقين.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الحديث عن شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين إنه لما أمرهم بعبادة الله تعالى وحده ونهاهم نقص الكيل والوزن وبخس الناس أشياءهم والسعي في الأرض بالفساد، إذ كانوا يكسرون الدراهم وينشرونها ويقطعون الطريق. فردوا عليه قوله بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في1 أموالنا ما نشاء} ؟ إنهم بهذا الخطاب ينكرون عليه نهيه لهم عن عبادة الأوثان والأصنام التي كان يعبدها آباؤهم من قبلهم كما ينكرون عليه نهيه لهم عن نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأمره إياهم بالتزام الحق والعدل في ذلك، ينكرون عليه نهيه لهم وأمره إياهم وينسبون ذلك إلى كثرة صلاته فهي التي في نظرهم قد أصابته بضعف العقل وقلة الإدراك، وقولهم له {إنك لأنت الحليم الرشيد} إنما هو تهكم2.
__________
1 روي أنهم كانوا يحذفون الدراهم أي يقطعونها من أطرافها وهو تصرف فاسد ظالم حملهم علبه حب الدنيا والمال.
2 هو كقول خزنة جهنم لأبي جهل: ذق إنك أنت العزيز الكريم وقيل إنهم وصفوه بالحلم والرشد لمعرفتهم بحلمه ورشده ولم يكن تهكماً واستهزاء منهم. وجائز أن يكون هذا وذاك إذ ما بعد الكفر ذنب كما يقال.(2/572)
واستهزاء منهم لا أنهم يعتقدون حلم شعيب ورشده وإن كان في الواقع هو كما قالوا حليم رشيد إذ الحليم هو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل مالا يفعله في حال الرضا والرشيد خلاف السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال وغيره هذا ما تضمنته الآية الأولى (87) وأما الآيات الثلاث بعدها فقد تضمنت رد شعيب عليه السلام على مقالتهم السابقة إذ قال {يا قوم أرأيتم} أي أخبروني {إن كنت على بيّنة من ربي} أي على برهان وعلم يقيني بألوهيته ومحابه ومساخطه ووعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، ورزقي منه رزقاً حسناً أي حلالاً طيباً أخبروني فهل يليق بي أن أتنكر لهذا الحق والخير وأٌجَارِيكًمْ على باطلكم. اللهم لا، وشيء آخر وهو أني ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فإني لا آمركم بتوفية الكيل والوزن وأنقصها ولا بترك عبادة الأوثان وأعبدها، ولا أنهاكم عن كسر الدراهم1 وأكسرها فأكون كمن يأمر بالشيء ولا يفعله، وينهى عن الشيء ويفعله فيستحق اللوم والعتاب ونزع الثقة منه، وعدم اعتباره فلا يؤخذ بقوله ولا يعمل برأيه. وأمر آخر هو أني ما أريد بما أمرتكم به ولا بما نهيتكم عنه إلا الإصلاح لكم ما استطعت ذلك وقدرت عليه.
وما توفيقي في ذلك إلا بالله ربّي وربكم عليه توكلت في أمري كله وإليه وحده أنيب أي أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة. ثم ناداهم محذراً إياهم من اللجاج والعناد فقال: ويا قوم لا يجرمنكم أي لا يحملنكم شقاقي أي خلافي على الاستمرار في الكفر والعصيان فيصيبكم عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق أو قوم هود وهو الريح المدمرة أو قوم صالح وهو الصيحة المرجفة {وما قوم لوط منكم ببعيد} في الزمن والمكان وقد علمتم ما حل بهم من دمار وخراب. أي لا يحملنكم شقاقي وعداوتي على أن ينزل بكم العذاب، واستغفروا ربكم مما أنتم عليه من الشرك والمعاصي، ثم توبوا إليه بالطاعة، {إن ربي رحيم} لا يعذب من تاب إليه ودود2 يحب من أناب إليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التعريض القريب يُعطي حكم القذف الصريح.
2- كراهية إتيان الشيء بعد النهى عنه، وترك الشيء بعد الأمر به والحث عليه.
__________
1 لا خلاف في أن من كسر الدراهم أو بردها ليأخذ منها قد أفسد واقترف ما يستوجب العقوبة وهل هي ضرب وتعزير أو قطع يد خلاف وما يراه الحاكم كافياً في الردع اجزأ ولا فرق في الكسر والبرد بين الدنانير والدراهم.
2 مأخوذ من قول شعيب له: {إنك لأنت الحليم الرشيد} وهم يعنون الأحمق السفيه، فمن قال لرجل في حال النزاع أنت الطيب الطاهر فإنه يعرض به بأنه الخبيث الزاني فيحد حد القذف.(2/573)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
3- كراهية اللجاج والعناد لما يمنع من الاعتراف بالحق والالتزام به.
4- وجوب لاستغفار والتوبة من الذنوب.
5- وصف الرب تعالى بالرحمن والمودة.
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
شرح الكلمات:
ما نفقه: أي ما نفهم بدقة كثيراً من كلامك.
ولولا رهطك: أي أفراد عشيرتك.
وما أنت علينا بعزيز: أي بقوي ممتنع.
ظهرياً1: أي لم تأبهوا به ولم تلتفتوا إليه كالشيء الملقى وراء الظهر.
__________
1 الظهري نسبة إلى الظهر إلى غير قياس وهو منصوب على الحال المؤكدة.(2/574)
على مكانتكم: أي على ما أنتم عليه من حال التمكن والقدرة.
الصيحة: أي صحة العذاب التي أخذتهم.
جاثمين: أي على ركبهم.
كأن لم يغنوا فيها: أي كأن لم يقيموا بها يوماً.
ألا بعداً لمدين: أي هلاكاً لمدين قوم شعيب
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن شعيب وقومه إنه بعد الحوار الذي دار بين شعيب وقومه يقول ويقولون وكان عليه السلام فصيحاً مؤيداً من الله تعالى فيما يقول فأفحمهم وقطع الحجة عليهم لجأوا إلى أسلوب القوة والتهديد بل والشتم والإهانة وكان هذا منهم إيذاناً بقرب ساعة هلاكهم فقالوا فيما قص تعالى عنهم في هذه الآيات {يا شعيب1 ما نفقه كثيراً مما تقول} فقد نادوه ليسمع منهم ثم أعلموه أنهم لا يفقهون كثيراً من كلامه مع أنه يخاطبهم بلغتهم، ولكنه الصلف والكبرياء فإن صاحبها لا يفهم ما يقوله الضعفاء. وقالوا له: وإنا لنراك فينا ضعيفاً وهو احتقار منهم له، وقالوا: ولولا رهطك لرجمناك2 أي ولولا وجود جماعة من عشيرتك نحترمهم لرجمناك أي لقتلناك رمياً بالحجارة، وأخيراً وما أنت علينا بعزيز أي بممتنع لو أردناك. وهنا رد شعيب عليه السلام علمهم بقوله فقال ما أخبر تعالى به عنه {قال يا قوم أرهطي3 أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريّاً} أي غير مبالين بأمره ولا نهيه كما جعلتموه وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تسمعون منه ولا تطيعونه، يا ويلكم {إنّ ربّي بما تعملون محيط} أي علمه فأعمالكم معلومة له لا يخفى منها عليه شيء ولسوف يجزيكم بها عاجلا أو آجلا وقابل تهديدهم له بمثله فقال لهم {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} أي على تمكنكم من عملكم {إني عامل} أي على تمكني من العمل الذي أعمله {سوف تعلمون بعد من يأتيه عذاب يخزيه} يذله ويهينه ومن هو كاذب منا فيعذب ويخزى ويذل ويهان أيضاً وعليه فارتقبوا يومذاك {وارتقبوا فإني
__________
1 الاستفهام: إنكاري.
2 إما أن يكون قولهم هذا استخفافاً وتجاهلاً منهم وإما أن يكون ثقل عليهم فهم البعث الآخر والحساب فيه والجزاء بالجنة والنار.
3 رهط الرجل عشيرته وقولهم لرجمناك جائز أن يراد به حقيقته وهو القتل رجماً بالحجارة إذ كانوا يقتلون من أرادوا قتله كذلك، وجائز أن يكون لرجمناك بالقول سباً وشتماً كما قال الشاعر:
تراجمنا بمُر القول حتى
نصير كأننا فرسا رهان(2/575)
معكم رقيب} منتظر قال تعالى {ولما جاء أمرنا} أي بالعذاب {نجيّنا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا} أي بفضل منا ونعمة من عندنا، {وأخذت الذين ظلموا} أي بالشرك والعصيان {الصيحة} أي صيحة العذاب1 التي ارتجفت لها قلوبهم وانخلعت فبركوا على ركبهم جاثمين هلكي لا يتحركون. قال تعالى في بيان حالهم {كأن لم يغنوا فيها} أي كأن لم يقيموا في تلك الديار ويعمروها زمنا طويلا. ثم لعنهم فقال: {ألا بعداً لمدين} بعداً لها من الرحمة وهلاكاً، كما بعدت2 قبلها ثمود وهلكت.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما أوتي نبي الله شعيب العربي من فصاحة وبيان حتى قيل فيه خطيب الأنبياء.
2- اشتداد الأزمات مؤذن بقرب انفراجها3.
3- بيان فساد عقل من يهتم بتنفيذ أوامر الناس ويهمل أوامر الله تعالى ولا يلتفت إليها.
4- فضل انتظار الفرج من الله تعالى وهو الرجاء المأمور به.
5- صدق وعد الله رسله وعدم تخلفّه أبداً.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
__________
1 قيل كانت الصيحة صيحة جبريل عليه السلام والله أعلم.
2 قرأ السلميّ بعدت بضم العين ووجه بأنه لغة وتستعمل في الخير وفي الشر وأما بعدت بكسر العين فإنها في الشر خاصة يقال بعد يبعد بعداً كفرح يفرح فرحاً إذا أبعد وهلك.
3 شاهده من القرآن {إن مع العسر يسرا} .(2/576)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
شرح الكلمات:
موسى: هو موسى بن عمران كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل.
بآياتنا: هي التسع الآيات التي ذكر أكثرها في آية الأعراف.
وسلطان مبين: أي بحجة قوية على عدو الله فرعون فهزمه بها.
وملئه: أي أشرف رجال دولة فرعون.
وما أمر فرعون برشيد: أي بذي رشد بل هو السفه كله.
يقدم قومه: أي تقدمهم إلى النار فأوردهم النار.
بئس الورد المورود: أي قبح وساء ورداً يورد النار.
وأتبعوا في هذه لعنة: أي ألحقتهم في دار الدنيا لعنة وهي غرقهم.
بئس الرفد المرفود: أي قبح الرفد الذي هو العطاء المرفود به أي المعطى لهم. والمراد لعنة الدنيا ولعنة الآخرة.
معنى الآيات:
هذه لمحة خاطفة لقصة موسى عليه السلام مع فرعون تضمنتها أربع آيات قصار قال تعالى {ولقد أرسلنا موسى} أي بعد إرسالنا1 شعيباً إلى أهل مدين أرسلنا موسى بن عمران مصحوباً بآياتنا الدالة2 على إرسالنا له وصدق ما يدعوا إليه ويطالب به وسلطان مبين3 أي وحجة قوية ظاهرة على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان أولوهية من عداه كفرعون عليه لعائن الله {إذ قال ما علمت لكم من إله غيري} وقوله تعالى {إلى فرعون وملئه} أرسلناه بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وأشراف جنده وزعماء دولته فأمرهم موسى بإتباع الحق وترك الباطل فأبوا واتبعوا أمر فرعون فأضلهم. {وما أمر فرعون برشيد} حتى يهدي إلى الفلاح من اتبعه. قال تعالى (يقدم قومه4 يوم القيامة} أي لتقدمهم إلى النار فيوردهم حياضها {وبئس الورد المورود} أي نار جهنم قوله تعالى {واتبعوا في هذه لعنة} أي فرعون وقومه لعنوا في الدنيا، ويوم القيامة يلعنون أيضاً {فبئس الرفد المرفود5} وهما لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، والرفد العون والعطاء والمرفود به هو المعان به والمعطى لمن
__________
1 تابع الحق عز وجل إرسال الرسل بياناً للمحجة وإقامة للحجة.
2 التوراة والمعجزات أيضاً إذ كلاهما آيات.
3 هي العصا فإنها أكبر برهان وأعظم حجة وأقوى سلطان.
4 يقال قدمه يقدمه إذا تقدمه وأما قدم يقدم فإنه بمعنى أتى وجاء ووفد.
5 رفده يرفده رفداً إذا أعانه وأعطاه واسم العطية الرفد بكسر الراء وسكون الفاء.(2/577)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
يرفد من الناس
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من كتب الله شقاءه لا يؤمن بالآيات بل يردها ويكذب بها حتى يهلك.
2- قوة الحجج وكثرة البراهين لا تستلزم إذعان الناس وإيمانهم.
3- التحذير من اتباع رؤساء الشر وأئمة الفساد والضلال.
4- ذم موارد الباطل والشر والفساد.
5- شر المعذبين من جمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
شرح الكلمات:
ذلك: الإشارة إلى قصص الأنبياء الذي تقدم في السورة.
من أنباء القرى: أي أخبار أهل القرى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون.
منها قائم وحصيد: منها مدن بقيت آثارها كمدائن صالح، ومنها مدن لم يبق منها شيء كديار عاد.
التي يدعون: أي يعبدونها بالدعاء وغيره كالذبح لها والنذور والحلف بها.
غير تتبيب: أي تخسير وهلاك.(2/578)
إذا أخذ القرى: أي عاقبها بذنوبها.
أليم شديد: أي موجع شديد الإيجاع.
معنى الآيات:
لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة ما قص من أخبار الأمم السابقة خاطبه قائلا {1ذلك} أي ما تقدم في السياق {من أنباء القرى} أي أهلها نقصه عليك تقريراً لنبوتك وإثباتاً لرسالتك وتثبيتاً لفؤادك وتسلية لك. وقوله تعالى {منها قائم وحصيد2} أي ومن تلك القرى البائدة منها آثار قائمة من جدران وأطلال، ومنها ما هو كالحصيد ليس فيه قائم ولا شاخص لاندراسها وذهاب آثارها. وقوله تعالى {وما ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم ولكن هم ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي والمجاحدة لآياتنا والمكابرة لرسولنا. وقوله تعالى {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء3} أي لم تغن عنهم أصنامهم التي اتخذوها آلهة فعبدوها بأنواع العبادات من دعاء ونذر وذبح وتعظيم إذ لم تغن عنهم شيئاً من الإغناء {لما جاء أمر ربك} بعذابهم {وما زادوهم غير تتبيب4} أي تخسير ودمار وهلاك. ثم في الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وكذلك أخذ ربك} أي وكذلك الأخذ المذكور أخذ ربك {إذا أخذ القرى} أي العواصم والحواضر بمن فيها والحال5 أنها ظالمة بالشرك والمعاصي. {إن أخذه أليم شديد} أي ذو وجع شديد لا يطاق فهل يعتبر المشركون والكافرون والظالمون اليوم فيترك المشركون شركهم والكافرون كفرهم والظالمون ظلمهم قبل أن يأخذهم الله كما أخذ من قبلهم؟.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونشر رسالته وتسليته بما يقص الله عليه من أنباء السابقين.
__________
1 ذلك مبتدأ أي ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى، ونقصه في محل رفع خبر ورجح أن يكون ذلك خبراً والمبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك.
2 شاهده من قول الشاعر:
والناس في قسم المنية بينهم
كالزرع منه قائم وحصيد
3 من شيء نكرة في سياق النفي ومؤكده بمن الزائدة فدل هذا على أن آلهتهم لم تدفع عضهم ما أراد الله بهم من الهلاك أدنى شيء.
4 شاهده في قول لبيد:
فلقد بليت وكل صاحب جدة
يبلى يعود وذاكم التتبيب
أي التخسير والتباب الهلاك والخسران.
5 قوله وهي ظالمة الجملة في محل نصب حال من المفعول.(2/579)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
2- تنزه الله تعالى عن الظلم في إهلاك أهل الشرك والمعاصي.
3- آلهة المشركين لم تغن عنهم عند حلول النقمة بهم شيئاً.
4- التنديد بالظلم وسوء عاقبة الظالمين.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109)
شرح الكلمات:
لآية: أي علامة على أن الذي عذب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة.
يوم مشهود: أي يشهد جميع الخلائق وهو يوم القيامة.
إلا لأجل معدود: أي أجل الدنيا المعدود الأيام والساعات.
إلا بإذنه: أي إلا بإذن الله تعالى.
شقي وسعيد: أي فمن أهل الموقف من هو شقي أزلاً وسيدخل النار، ومنهم سعيد أزلاً وسيدخل الجنة.(2/580)
زفير وشهيق: أي صوت شديد وهو الزفير وصوت ضعيف وهو الشهيق.
عطاء غير مجذوذ: أي غير مقطوع بل هو دائم أبداً.
فلا تك شك في مرية مما يعبد هؤلاء: أي في شك من بطلان عبادة هؤلاء المشركين.
نصيبهم غير منقوص: ما قدر لهم من خير أو شر رحمة أو عذاب.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إن في ذلك لآية} أي إن في أخذ الله تعالى للأمم الظالمة وتعذيبها بأشد أنواع العذاب آية أي علامة واضحة على أن من عذّب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة فالمؤمنون بلقاء الله تعالى يجدون فيما أخبر تعالى به من إهلاك الأمم الظالمة آية هي عبرة لهم فيواصلون تقواهم لله تعالى حتى يلاقوه وهم به مؤمنون ولأوامره ونواهيه مطيعون. وقوله تعالى {ذلك يوم مجموع1 له الناس وذلك يوم مشهود} أي ذلك التي فيه عذاب الآخرة هو يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس لفصل القضاء {وذلك يوم مشهود} إذ تشهده الخلائق كلها وقوله تعالى {وما نؤخره إلا لأجل معدود} أي وما يؤخر يوم القيامة إلا لإكمال عمر الدنيا المعدود السين والأيام بل والساعات. وقوله تعالى {يوم يأتي} أي2 يوم القيامة {لا تكلّم نفس3 إلا بإذنه} أي4 بإذن الله تعالى وقوله {فمنهم شقي وسعيد} أي والناس فيه ما بين شقي وسعيد، وذلك عائد إلى ما كتب لكل إنسان من شقاوة أو سعادة في كتاب المقادير، أولاً، ولما كسبوا من خير وشر ثانياً. وقوله تعالى {فأما الذين شقوا} أي في حكم الله وقضائه ففي النار لهم فيها زفير وهو صوت شديد وشهيق5 وهو صوت ضعيف والصوتان متلازمان إذ هما كأول النهيق وآخره عند الحمار. وقوله تعالى {خالدين فيها} أي في النار {ما دامت السموات والأرض} أي مدة دوامهما، وقوله {إلا ما شاء ربك} أن لا يخلد فيها وهم أهل التوحيد ممن ماتوا على كبائر الذنوب. وقوله تعالى {إن ربك فعال لما يريد} أي إن ربك أيها الإنسان فعال لما يريد إذا أراد شيئا فعله
__________
1 الجمع أصله لمّ الشتات والمتفرق منه يكون واحداً والجمع حشر الناس يوم القيامة في صعيد فصل القضاء.
2 قرىء يوم يأت بدون ياء لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة.
3 لا تحلم الأصل لا تتكلم بتائين وحذفت إحداهما للتخفيف وقرىء يأتي بالياء وهو الأصل والحذف للتخفيف لا غير كقول الرجل لا أدر فيما لا يدري.
4 وردت آيات فيها نفي الكلام عن أهل الموقف إلا بإذن الله تعالى وأخرى تثبت ذلك والجمع أن للمحشر مواقف وأحوالا فيؤذن لهم فيها أحياناً ولا يؤذن لهم أحياناً أخرى ولا خلاف في أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى له بالكلام.
5 اختلف في تحديد معنى كل من الزفير والشهيق وما في التفسير خلاصته وهما أصوات المحزونين والزفير مأخوذ من الزّفر وهو الحمل على الظهر لشدته، والشهيق النفس الطويل مأخوذ من قولهم جبل شاهق طويل.(2/581)
لا يحال بينه وبين فعله1. وقوله {وأما الذين سعدوا} أي حكم الله تعالى بسعادتهم لما وفقهم الله من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي {ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات2 والأرض إلا ما شاء رَبَّك} إذ إرادة الله مطلقة لا تحد إلا بمشيئته العليا وقوله {عطاء غير مجذوذ} أي عطاء من ربك لأهل طاعته غير مقطوع أبداً وهذا دليل خلودهم فيها أبداً. وقوله تعالى {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء} هو خطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهاه ربه تعالى أن يشك في بطلان عبادة المشركين أصنامهم فإنهم لا دليل لهم على صحة عبادتها وإنما هم مقلدون لآبائهم يعبدون ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان، وقوله تعالى {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} يخبر تعالى انه موفي المشركين ما كتب لهم من خير وشر أو رحمة وعذاب توفية كاملة لا نقص فيها بحال.
هداية الآيات:.
من هداية الآيات:
1- فضل وفضيلة الإيمان بالآخرة.
2-حتمية البعث الآخر وأنه لا شك فيه.
3- الشقاوة والسعادة مضى بهما القضاء والقدر قبل وجود الأشقياء والسعداء.
4- عجز كل نفس عن الكلام يوم القيامة حتى يؤذن لها به.
5- إرادة الله مطلقة، لو شاء أن يخرج أهل النار لأخرجهم منها ولو شاء أن يخرج أهل الجنة لأخرجهم إلا أنه حكم بما أخبر به وهو العزيز الحكيم.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
__________
1 أي لا يرد قضاؤه ولا يوقف فعله ولا يحال بينه وبين مراده.
2 قيل إن هذا تعبير عربي معتاد المقصود منه التأييد كقولهم لا أكلمك ما طلع نجم أو ما نبح كلب وما إلى ذلك وما في التفسير أوجه وهو الذي عليه المحققون.(2/582)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113)
شرح الكلمات:
الكتاب: أي التوراة.
ولولا كلمة سبقت: أي لولا ما جرى به قلم القدر من تأخير الحساب والجزاء إلى يوم القيامة.
لفي شك منه مريب: أي موقع في الريب الذي هو اضطراب النفس وقلقها.
فاستقم كما أمرت: أي على الأمر والنهي كما أمرك ربك بدون تقصير.
ولا تطغوا: أي لا تجاوزوا حدود الله.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا: أي لا تميلوا إليهم بموادة أو رضا بأعمالهم.
فتمسكم النار: أي تصيبكم ولازم ذلك دخولها.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر والثبات وهو يبلغ دعوة الله تعالى ويدعو إلى توحيده مواجها صلف المشركين وعنادهم فيقول له {ولقد آتينا موسى الكتاب1} أي التوراة كما أنزلنا عليك القرآن. فاختلفت اليهود في التوراة فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كما اختلف قومك في القرآن فمنهم من آمن به ومنهم من كفر إذاً فلا تحزن. وقوله تعالى {ولولا كلمة سبقت من ربك} وهي تأخير الجزاء على الأعمال في الدنيا إلى يوم القيامة {لقضي بينهم} فنجى المؤمنين وأهلك الكافرين. وقوله تعالى {وإنهم لفي شك منه مريب} وإن قومك من مشركي العرب لفي شك من القرآن هل هو وحي الله وكلامه أو هو غير ذلك مريب أي موقع في الريب الذي هو شك مع اضطراب النفس وقلقها وحيرتها وقوله تعالى {وإن كلاّ لما ليوفينهم2 ربك
__________
1 ظاهر البيان أن اله تعالى يبتلي رسوله ويخفف عنه ما يجده من ألم من جراء كفر قريش بما جاءها به من الهدى ودين الحق فقال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة فاختلف الناس في ذلك فآمن بعض وكفر بعض واليهود ما زالوا مختلفين في التوراة أي فيما تحمله من أحكام فهذا يحلل وهذا يحرّم.
2 قرئ وإن كلا بتخفيف إن وأعمالها على أنها المخففة من الثقيلة وقالوا سمع من يقول إن زيداً لمنطلق وشددها آخرون ونصبوا بها كلاً، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر لما بالتشديد وقرأ نافع وغيره بالتخفيف بناء على أن ما صلة واللام هي لام الابتداء التي تدخل على الخبر واللام الثانية لام القسم وفصل بين اللامين بما كراهية توالي لامين وعلى قراءة تشديد لما فقد خرجوها على أن الأصل لمن ما فأدغمت النون في الميم فصارت لما فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفاً فصارت لمّا وتوجيه الكلام وإن جميعهم للاقون جزاء إعمالهم.(2/583)
أعمالهم} أي وان كل واحد من العباد مؤمناً كان أو كافراً باراً أو فاجراً ليوفيّنه جزاء عمله يوم القيامة ولا ينقصه من عمله شيئاً وقوله {إنه بما يعملون خبير} تقرير لما أخبر به من الجزاء العادل إذ العلم بالعمل والخبرة التامة به لابد منهما للتوفية العادلة. وقوله تعالى {فاستقم1 كما أمرت ومن تاب معك} أي بناء على ذلك فاستقم كما أمرك ربك في كتابه فاعتقد الحق واعمل الصالح واترك الباطل ولا تعمل الطالح أنت ومن معك من المؤمنين لكون جزاؤكم خير جزاء يوم الحساب والجزاء. وقوله {ولا تطغوا} أي لا تتجاوزوا ما حد لكم في الاعتقاد والقول والعمل وقوله {إنه بما تعملون بصير} تحذير لهم من الطغيان الذي نهوا عنه، وتهديد لمن طغى فتجاوز منهج الاعتدال المأمور بالتزامه. وقوله تعالى {ولا تركنوا2 إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} أي لا تميلوا إلى المشركين بمداهنتهم أو الرضا بشركهم فتكونوا مثلهم فتدخلوا النار مثلهم فتمسكم النار كما مستهم، وقوله تعالى {وما لكم من دون الله من3 أولياء ثم لا تنصرون} أي إن أنتم ركنتم إلى الذين ظلموا بالشرك بربهم فكنتم في النار مثلهم فإنكم لا تجدون من دون الله وليّاً يتولى أمر الدفاع عنكم ليخرجكم من النار ثم لا تنصرون بحال من الأحوال، وهذا التحذير وإن وجه إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتداء فإن المقصود به أمته إذ هي التي يمكنها فعل ذلك أما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو معصوم من أقل من الشرك فكيف بالشرك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتخفيف عنه مما يجده من جحود الكافرين.
2- بيان سبب تأخر العذاب في الدنيا، وهو أن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا.
3- الجزاء الأخروي حتمي لا يتخلف أبداً إذ به حكم الحق عز وجل.
4- وجوب الاستقامة على دين الله تعالى عقيدة وعبادة وحكماً وأدباً.
__________
1 قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية ولذا قال وقد سأله أبو بكر عن إسراع الشيب إليه شيبتني هود وأخواتها، وليس الرسول وحده مأموراً بالاستقامة بل كل مؤمن ومؤمنة لقوله {ومن تاب معك} فاللهم أعنا على ذلك.
2 حقيقة الركون هي الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به قال قتادة معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم ولا ترضوا أعمالهم.
3 في الآية دليل على وجوب هجران أهل الكفر والمعاصي وأهل البدع والأهواء فإن صحبتهم كفر أوْ مَعصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة قال حكيم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي(2/584)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
5- حرمة الغلو وتجاوز ما حد الله تعالى في شرعه.
6- حرمة مداهنة المشركين1 أو الرضا بهم أو بعملهم، لأن الرضا بالكفر كفر.
وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
شرح الكلمات:
وأقم الصلاة: أي صل الصلاة المفروضة.
طرفي النهار: أي الصبح، وهي في الطرف الأول، والظهر والعصر وهما في الطرف الثاني.
وزلفاً من الليل: أي ساعات الليل والمراد صلاة المغرب وصلاة العشاء.
إن الحسنات يذهبن السيئات: أي حسنات الصلوات الخمس يذهبن صغائر الذنوب التي تقع بينهن.
ذلك ذكرى للذاكرين: أي ذلك المذكور من قوله وأقم الصلاة عظة للمتعظين.
المحسنين: أي الذين يحسنون نياتهم وأقوالهم وأعمالهم بالإخلاص فيها لله وأدائها على نحو ما شرع الله وبيّن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في توجيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين وهدايتهم إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم فقال تعالى {وأقم الصلاة طرفي2 النهار وزلفاً من الليل3} أقمها في
__________
1 المداهنة هي أن يتنازل العبد عن دينه لأجل دنياه وهي محرمة والمداراة جائزة وهي أن يتنازل العبد عن دنياه ليحفظ دينه.
2 طرف النهار- أوله- وهو من طلوع الفجر وآخره من العصر إلى غروب الشمس.
3 الزلف جمع زلفة كغرفة وغرف وير الساعة القريبة من أختها والمراد بها صلاة المغرب والعشاء، وهذه الآية إحدى ثلاث آيات ذكرت أوقات الصلوات الخمس. الثانية آية الإسراء {وأقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهود} والثانية آية الروم {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} .(2/585)
هذه الأوقات الخمس وهي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومعنى أقمها أدها على الوجه الأكمل لأدائها، فيكون ذلك الأداء حسنات يمحو1 الله تعالى بها السيئات2، وقوله تعالى: {ذلك} أي المأمور به وما يترتب عليه {ذكرى} أي عظة {للذاكرين} أي المتعظين وقوله {واصبر} أي على الطاعات فعلاً وتركاً وعلى أذي المشركين ولا تجزع {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أي جزاءهم يوم القيامة، والمحسنون هم الذين يخلصون أعمالهم لله تعالى ويؤدونها على الوجه الأكمل في أدائها فتنتج لهم الحسنات التي يذهب الله بها السيئات.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان أوقات الصلوات الخمس إذ طرفي النهار هما الصبح وفيها صلاة الصبح والعشيّ وفيها صلاة الظهر والعصر كما أن زلفاً من الليل هي ساعاته فيها صلاة المغرب والعشاء.
2- بيان سنة الله تعالى في أن الحسنة تمحو السيئة وفي الحديث " الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر".
3- وجوب الصبر والإحسان وأنهما من أفضل الأعمال.
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
__________
1 قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} جملة تعليلية للأمر بإقام الصلاة وكون الحسنات يذهبن السيئات يتناول أمرين: الأول وهو الظاهر أن الحسنات يمحو الله تعالى بها السيئات وهي الصغائر والثاني أن فعل الحسنات يمنع من فعل السيئات وهو إذهابها.
2 روى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك فنزلت عليه {وأقم الصلاة} الآية فقال الرجل أليّ هذا؟ قال "لمن عمل بها من أمتي".(2/586)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
(118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
شرح الكلمات:
فلولا: لولا كلمة تفيد الحض على الفعل والحث عليه.
من القرون: أي أهل القرون والقرن مائة سنة.
أولو بقية: أي أصحاب بقيّة أي دين وفضل.
ما أترفوا فيه: أي ما نعموا فيه من طعام وشراب ولباس ومتع.
وكانوا مجرمين: أي لأنفسهم بارتكاب المعاصي ولغيرهم بحملهم على ذلك.
بظلم: أي منه لها بدون ما ذنب اقترفته.
أمة واحدة: أي على دين واحد وهو الإسلام.
ولذلك خلقهم: أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله {فلولا كان من القرون} من قبلكم أيها الرسول والمؤمنون {أولو1 بقيّة} من فهم وعقل وفضل ودين ينهون عن الشرك والتكذيب والمعاصي أي فهلاّ كان ذلك إنه لم يكن اللهم إلا قليلا ممن أنجى الله تعالى من إتباع الرسل عند إهلاك أممهم وقوله تعالى {واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين2} أي لم يكن بينهم أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجى الله وما عداهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي متبعين ما اترفوا فيه من ملاذ الحياة الدنيا وبذلك كانوا مجرمين فأهلكهم الله تعالى ونجى رسله والمؤمنين كما تقدم ذكره في قصة نوح وهود وصالح وشعيب
__________
1 أصحاب بقية والبقية أهل فضل ودين وصلاح يوجدون كبقية باقية في وسط أمة ضالة فاسدة غلب عليها الضلال والفساد فتوجد بقية صالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
2 أترفوا أي أترفهم الله بما وسع عليهم من الأرزاق ولم يشكروه هؤلاء المترفون اتبعوا ما أترفوا فيه وانقطعوا إليه فلا هم لهم إلا متاع الحياة الدنيا، وبذلك أجرموا على أنفسهم وعقولهم فأصبحوا بذلك مجرمين، في الآية ذم الترف إن اتبعه صاحبه وانقطع به عن طاعة الله ورسوله.(2/587)
عليهم السلام. وقوله تعالى {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون1} أي لم يكن من شأن ربّك أيها الرسول أن يهلك القرى بظلم منه وأهلها مصلحون، ولكن يهلكهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك والتكذيب والمعاصي. وما تضمنته هذه الآية هو بيان لسنة الله تعالى في إهلاك الأمم السابقة ممن قص تعالى أنباءهم في هذه السورة. وقوله تعالى {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة2} أي على الإسلام بأن خلق الهداية في قلوبهم وصرف عنهم الموانع. ولما لم يشأ ذلك لا يزالون مختلفين على أديان شتى من يهودية ونصرانية ومجوسية وأهل الدين الواحد يختلفون إلى طوائف ومذاهب مختلفة وقوله {إلا من رحم ربك3} أيها الرسول فإنهم لا يختلفون بل يؤمنون بالله ورسوله ويعملون بطاعتهما فلا فرقة ولا خلاف بينهم دينهم واحد وأمرهم واحد. وقوله {ولذلك خلقهم} أي وعلى ذلك خلقهم فمنهم كافر ومنهم مؤمن، والكافر شقي والمؤمن سعيد، وقوله {وتمت كلمة} أي حقت ووجبت وهي {لأملأن جهنم4 من الجنة والناس5 أجمعين} ولذا كان اختلاقهم مُهيّئاً لهم لدخول جهنم حيث قضى الله تعالى بامتلاء جهنم من الجن والإنس أجمعين فهو أمر لابد كائن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ما يزال الناس بخير ما وجد بينهم أولو الفضل والخير يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن الفساد والشر.
2- الترف كثيراً ما يقود إلى الإجرام على النفس بإتباع الشهوات وترك الصالحات.
3- متى كان أهل القرى صالحين فهم آمنون من كل المخاوف.
4- الاتفاق رحمة والخلاف عذاب.
__________
1 في الآية إشارة إلى مصداق مثل سائر بين الناس وهو قولهم يدوم الكفر ولا يدوم الظلم. فالأمة إذا كان أفرادها مصلحين لا يفسدون ولا يرضون الفساد ولا يقرونه فتطول حياتها ويعظم شأنها ولو كانت كافرة.
2 في الآية تقرير مشيئة الله تعالى التي لا يقع في الكون شيء إلا بها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم على ملة الإسلام أو ملة الكفر أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت اختلاف الناس لتتجلى في ذلك قدرته ورحمته وعدله وعفوه ومغفرته.
3 اجتماع الأمة وعدم اختلافها مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى واختلافها مظهر من مظاهر عذابها وشقائها وحرمانها.
4 جملة لأملان جهنم تفسير للكلمة التي أتمها الله تعالى وهي قوله {لأملان جهنم..} .
5 أي من الفريقين فمن تبعيضبة فيدخل بعض الجن والإنس الجنة ويدخل بعض الجن والإنس النار.(2/588)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
شرح الكلمات:
وكلاً نقص: أي وكل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصه علبك تثبيتاً لفؤادك.
ما نثبت به فؤادك: أي نقص عليك من القصص ما نثبت به قلبك لتصبر على دعوتنا وتبليغها.
وجاءك في هذه الحق: أي في هذه السورة الحق الثابت من الله تعالى كما جاءك في غيرها.
وموعظة وذكرى: أي وجاءك فيها موعظة وذكرى للمؤمنين إذ هم المنتفعون بها.
ولله غيب السموات والأرض: أي ما غاب علمه فيهما فالله يعلمه وحده وليس لغيره فيه علم.
فاعبده: أي وَحِّدْهُ في العبادة ولا تشرك به شيئاً.
وتوكل عليه: أي فوض أمرك إليه وثق تمام الثقة فيه فإنه يكفيك.
معنى الآيات:
لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة الشريفة ما قصه من أنباء الرسل مع أممهم مبيناً ما لاقت الرسل من أفراد أممهم من تكذيب وعناد ومجاحدة وكيف صبرت الرسل(2/589)
حتى جاءها النصر أخبر تعالى رسوله بقوله {وكلاً1 نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} أي ونقص عليك كل ما تحتاج إليه في تدعيم موقفك وقوة عزيمتك من أنباء الرسل أي من أخبارها مع أممها الشىء الذي نثبت به قلبك حتى تواصل دعوتك وتبلغ رسالتك. وقوله {وجاءك في هذه} أي السورة الحق2 من الأخبار كما جاءك في غيرها {وموعظة} لك3 تعظ بها غيرك، {وذكرى} يتذكر بها المؤمنون فيثبتون على الحق ويصبرون على الطاعة والبلاء فلا يجزعوا ولا يملوا، وقوله {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون} أي وقل يا رسولنا للذين لا يؤمنون من قومك ممن هم مصرون على التكذيب والشرك والعصيان اعملوا على حالكم وما أننم متمكنون منه إنا عاملون على حالنا كذلك، وانتظروا أينا ينتصر في النهاية أو ينكسر. وقوله ولله غيب4 السموات والأرض فهو وحده يعلم متى يجيء النصر ومتى تحق الهزيمة. وإليه برجع الأمر كله أمر الانتصار والانكسار كأمر الهداية والاضلال والإسعاد والاشقاء، وعليه فاعبده يا رسولنا وحده وتوكل5 عليه وحده، فإنه كافيك كل ما يهمك من الدنيا والآخرة، وما ربك بغافل عما تعملون أيها الناس وسيجزي كلاّ بما عمل من خَيْرٍ أو غيرٍ وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فائدة القصص القرآني وهي أمور منها:
أ) تثبيت قلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ب) إيجاد مواعظ وعبر للمؤمنين.
جـ) تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- علم الغيب لله وحده لا يعلمه غيره.
3- مرد الأمور كلها لله بدءاً وعوداً ونهاية.
__________
1 نصب كلاّ بفعل نقص أي نقص عليك كلا والتنوين عوض عن كلمة محذوفة تقديرها كل ما نحتاج إليه من أنباء الرسل.
2 لاشتمالها على خمس قصص. قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شيب، مع الإشارة إلى قصتي إبراهيم وموسى عليهما السلام.
3 الموعظة اسم مصدر الوعط وهي التذكير بما يصرف العبد عما يضره ويسيء إليه في سائر المحرمات فعلاً وتركاً.
4 أي له علمه وحده دون سواه أي غيره لا في السماء ولا في الأرض.
5 أي ثق فيه وفوض أمر نصرك إليه ولا تلتفت إلى غيره فإنه كافيك دون سواه.(2/590)
4- وجوب1 عبادة الله تعالى والتوكل عليه.(2/591)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
سورة يوسف
مكية
وآياتها مائة وإحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
شرح الكلمات:
ألر: تكتب آلر وتقرأ: ألف، لام، را، والله أعلم بمراده بذلك.
الكتاب المبين: أي القرآن المظهر للحق في الاعتقادات والعبادات والشرائع.
قرآنا عربيا: أي بلغه العرب العدنانيّون والقحطانيون سواء.
نحن نقص: نحدثك متتبعين آثار الحديث على وجهه الذي كان عليه وتم به.
بما أوحينا: أي بإيحائنا إليك فالوحي هو أداة القصص.
من قبله: أي من قبل نزوله عليك.
لمن الغافلين: أي من قبل إيحائنا إليك غافلا عنه لا تذكره ولا تعلم منه شيئاً.
__________
1 إذ لأجلها خلق الخلق كله، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الآية وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي". إذاً فِعلُهُ الحياة كلها ليُعْبَدَ الله تعالى.(2/591)
معنى الآيات:
إن المناسبة بين سورتي هود ويوسف عليهما السلام أن الثانية تتميم للقصص الذي اشتملت عليه الأولى إذ سورة يوسف اشتملت على أطول قصص في القرآن الكريم أوله {إذ قال يوسف لأبيه} رابع آية وآخره {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} الآية الثانية بعد المائة وأما سبب نزول هذه السورة فقد قيل للرسول1 صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى {ألر تلك آيات الكتاب المبين} إلى قوله {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} فقص أحداث أربعين سنة تقريباً، فقوله تعالى {ألر} من هذه الحروف المقطعة تألفت آيات القرآن الكريم، فأشار إليها بقوله {تلك آيات الكتاب المبين} أي المبيّن للحق المُظهر له ولكل ما الناس في حاجة إليه مما يصلح دينهم ودنياهم. وقوله تعالى {إنا أنزلناه} أي القرآن {قرآنا عربيّاً} 2 أي بلسان العرب ليفهموه ويعقلوا معانيه فيهتدوا عليه فيكملوا ويسعدوا. وقوله {لعلكم تعقلون3} أي ليمكنكم فهمه ومعرفة ما جاء فيه من الهدى والنور. وقوله تعالى {نحن نقص عليك} يا رسول الله {أحسن القصص4} أي أصحه وأصدقه وأنفعه وأجمله {بما أوحينا إليك هذا القرآن} أي بواسطة إيحائنا إليك هذا القرآن، {وإن كنت من قبله} أي من قبل إتيانه إليك {لمن الغافلين} عنه لا تذكره ولا تعلمه.
هداية الآيات:.
من هداية الآيات:
1- تقرير إعجاز القرآن إذ هو مؤلف من مثل ألر، وطس، وق، ومع هذا لم يستطع العرب أن يأتوا بسورة مثله.
2- بيان الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية وهي أن يعقله العرب ليبلغوه إلى غيرهم.
__________
1 روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: قالوا يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قصصت علينا فنزلت: {نحن نقص عليك أحسن القصص} الآية.
2 قرآناً عربياً حال من الضمير في أنزلناه وعربياً صفة له فلم يكن على نهج الأشعار- والقصص التي تقص وإنما هو كتاب منظم يقرأ ويحفظ ويعلم ما فيه ويعمل به لسعادة الدارين.
3 أي جعلناه قرآناً عربياً بلغتكم التي تتخاطبون بها وتفهمون أساليبها الكلامية ومعانيها الإفرادية والتركيبية رجاء أن تتمكنوا من فهمه ومعرفة ما يدعو إليه من الحق والصراط المستقيم.
4 القصص منقول من قص الأثر إذا تتبع آثار الأقدم ليعرف منتهى سير صاحبها فالقصص تتبع الأخبار للمعرفة والعظة والاعتبار.(2/592)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
3- القرآن الكريم أشتمل على أحسن القصص فلا معنى لسماع1 قصص غيره.
4- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإثباتها بأقوى برهان عقليّ وأعظم دليل نقليّ.
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
شرح الكلمات
لأبيه: أي يعقوب بن اسحق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
إني رأيت: أي في منامي.
أحد عشر كوكبا: أي من كواكب السماء.
ساجدين: أي نزل الكل من السماء وسجدوا ليوسف وهو طفل.
فيكيدوا لك: أي يحتالوا عليك بما يضرك.
عدو مبين: أي بين العداوة ظاهرها.
يجتبيك ربك: أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.
من تأويل الأحاديث: أي تعبير الرؤيا.
ويتم نعمته عليك: أي بأن ينبّئك ويرسلك رسولاً.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إذ قال يوسف} 2 هذا بداية القصص أي اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف بن
__________
1 روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فغضب وقال "أمتهوِّكُون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني.
2 إذ ظرف في محل نصب والعامل فيه أذكر أي اذكر لهم حين قال يوسف الخ.(2/593)
يعقوب لأبيه يعقوب {يا أبتِ1} أي يا أبى {إني رأيت أحد عشر كوكباً} أي من كواكب السماء {والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين2} أي نزلوا من السماء وسجدوا له تحيّة وتعظيماً. وسيظهر تأويل هذه الرؤيا بعد أربعين سنة حيث يجمع الله شمله بأبويه وإخوته الأحد عشر ويَسجدُ الكل له تحيّة وتعظيماًَ. وقوله تعالى {قال يا بنيّ} أي قال يعقوب لولده يوسف {لا تقصص رؤياك على إخوتك} 3 وهم إخوة له من أبيه دون أمه {فيكيدوا لك كيداً} أي يحملهم الحسد على أن يكيدوك بما يضرك بطاعتهم للشيطان حين يغريهم بك {إن الشيطان للإنسان عدو مبين} إذ أخرج آدم وحواء من الجنة بتزيينه لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها. وقوله {وكذلك يجتبيك ربّك} وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر ساجدين لك يجتبيك أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.
وقوله {ويعلمك من تأويل الأحاديث} أي ويعلمك معرفة ما يزول إليه أحاديث الناس ورؤياهم4 المنامية، ويتم نعمته عليك بالنبوة وعلى آل يعقوب أي أولاده. {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحق} اسحق جد يوسف الأدنى وإبراهيم جده الأعلى حيث أنعم عليهما بانعامات كبيرة أعظمها النبوة والرسالة، وقوله تعالى {إن ربك عليم} أي بخلقه {حكيم} أي في تدبيره فيضع كل شيء في موضعه فيكرم من هو أهل للإكرام، ويحرم من هو أهل للحرمان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ثبوت الرؤيا شرعاً ومشروعية تعبيرها5.
__________
1 في يا أبت لغات كسر التاء وفتحها وضمها، والأصل يا أبي فزيدت التاء عوضاً عن الياء فلذا لا يجمع بينهما فلا يقال يا أبتي.
2 ساجدين جمع ساجد وهو للعاقل، والشمس والقمر والنجوم من غير العقلاء. فلم ما قال ساجدة؟ والجواب لما كان السجود وهو طاعة لا يصدر إلا من عاقل ذكر الفعل فقال ساجدين.
3 الرؤيا ما يراه المرء في منامه من أمور وأحوال، وهي ثلاثة أنواع لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.
4 قيل لمالك أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: بالنبوة تلعب؟ لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيراً أخبر به وان رأى مكروهاً فليقل خيراً أو ليصمت.
5 روى البخاري عن أبي قتادة أنه قال كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره" وروى: "أن الرؤيا على رجل طائر مالم تعبّر فإذا عُبرت وقعت".(2/594)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
2-قد تتأخر الرؤيا فلا يظهر مصداقها إلا بعد السنين العديدة.
3- مشروعية الحذر والأخذ بالحيطة في الأمور الهامة.
5- بيان إفضال الله على آل إبراهيم بما أنعم عليهم فجعلهم أنبياء آباء وأبناء وأحفاداً.
لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
شرح الكلمات:
آيات للسائلين1: عبر للسائلين عن أخبارهم وما كان لهم من أحوال غريبة.
ونحن عصبة: أي جماعة إذ هم أحد عشر رجلا.
أو اطرحوه أرضا: أي ألقوه في أرض بعيدة لا يعثر عليه.
يخل لكم وجه أبيكم: أي من النظر إلى يوسف فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم.
في غيابة الجب: أي ظلمة البئر.
بعض السيارة: أي المسافرين السائرين في الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة يوسف عليه السلام قال تعالى {لقد كان في يوسف وإخوته} أي
__________
1 الآيات: الدلائل على ما تُطلبُ معرفتهُ من الأمور الخفية ذات الشأن وهي مأخوذة من آيات الطريق وهي علامات توضع على جنبات الطريق ترشد السائرين.(2/595)
في شأن يوسف وإخوته وما جرى لهم وما تم من أحداث جسام عبر وعظات للسائلين1 عن ذلك المتطلعين إلى معرفته. {إذ قالوا} أي إخوة يوسف {ليوسف وأخوه} بنيامين وهو شقيقه2 دونهم {أحب إلى أبينا منّا ونحن عصبة} أي جماعة فكيف يفضل3الاثنين على الجماعة {إن أبانا} أي يعقوب عليه السلام {لفي ظلال مبين} أي في خطأ بيّن بإيثاره يوسف وأخاه بالمحبة دوننا. وقوله {اقتلوا يوسف4 أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم} يخبر تعالى عما قاله إخوة يوسف وهم في خلوتهم يتآمرون على أخيهم للتخلص منه فقالوا {اقتلوا يوسف} بإزهاق روحه، {أو اطرحوه} في أرض بعيدة ألقوه فيها فيهلك وتتخلصوا منه بدون قتل منكم، وبذلك {يخل لكم وجه أبيكم} حيث كان مشغولاً بالنظر إلى يوسف، ويحبكم وتحبونه وتتوبوا إلى الله من ذنب إبعاد يوسف عن أبيه، وتكونوا بعد ذلك قوماً صالحين حيث لم يبق ما يورثكم ذنباً أو يكسبكم إثماً. وقوله تعالى: {قال قائل منهم} يخبر تعالى عن قيل إخوة يوسف لبعضهم البعض وهم يتشاورون في شأن يوسف وكيف يبعدونه عن أبيهم ورضاه عنهم قال قائل منهم هو يهودا أو روبيل وكان أخاه وابن خالته وكان أكبرهم سناً وأرجحهم عقلا قال: لا تقتلوا يوسف، لأن القتل جريمة لا تطاق ولا ينبغي ارتكابها بحال، والقوة في غيابة الجب5 أي في ظلمة البئر، وهي بئر معروفة في ديارهم بأرض فلسطين يلتقطه6 بعض السيارة من المسافرين إن كنتم فاعلين شيئاً إزاء أخيكم فهذا أفضل السبل لذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الإخوة.
__________
1 السائلون: من يتوقع منهم السؤال عن المواعظ والعبر، والحكم والعرب يستعملون هذا في أساليبهم للتشويق قال السمؤل:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليسوا سواء عالم وجهول
2 مهما يقال لها راحيل بنت لابان وباقي الأخوة منهم الأشقاء لبعضهم ومنهم لأب إذا لم تكن أمهم واحدة.
3 نظرتهم هذه مادية بحتة إذ رأوا أن نفع الجماعة لأبيهم أكثر من نفع الواحد والاثنين وهو ما فَضُلَ يوسفَ للمادة ولكن للكمال الروحي المهيأ له الدال عليه رؤياه. والعصبة الجماعة ولا واحد لها من لفظها.
4 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً قال فماذا قالوا في تآمرهم وتشاورهم فأجيب قالوا أقتلوا الخ.
5 غيابة الجب والجمع غيابات وهي ما غاب عن البصر من شيء والمراد هنا قعر الجب وسمي الجب جباً لأنه مقطوع من الأرض ويجمع على جياب وجيبة.
6 في الآية دليل على مشروعية التقاط اللقطة وقد أذن فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يأذن في ضالة الإبل إذ قال في اللقطة: "اعرف عقاصها (وعاءها) ووكاءها ثم عرَفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. وقال في ضالة الغنم هي لك أو لأخيك أو للذئب وقال في الإبل مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها.(2/596)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
2- الحسد1 سبب لكثير من الكوارث البشرية.
3- ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون.
4- الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب.
قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14)
شرح الكلمات:
لناصحون: لمشفقون عليه نحب له الخير كما نحبه لأنفسنا.
يرتع ويلعب2: أي يأكل ويشرب ويلعب بالمسابقة والمناضلة.
إني ليحزنني: أي يوقعني في الحزن الذي هو ألم النفس أي ذهابكم به.
الذئب: حيوان مفترس خداع شرس.
ونحن عصبة: أي جماعة قوية.
لخاسرون: أي ضعفاء عاجزون عرضة للخسران بفقدنا أخانا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة يوسف إنهم بعد ائتمارهم واتفاقهم السري على إلقاء يوسف في غيابة الجب طلبوا من أبيهم أن يترك يوسف يخرج معهم إلى البر كعادتهم للنزهة والتنفه
__________
1 شاهدها حسد إبليس آدم فكانت كارثة الهبوط في الأرض والفتنة فيها وآخر حسد قابيل هابيل فقتله لذلك وثالث حسد اليهود للإسلام والمسلمين فجرّ حروباً وويلات لا حد لها على الإسلام والمسلمين.
2 قرأ نافع يرتِعَ بكسر العين مجزوم في جواب الطلب بحذف الياء من ارتعى يرتعي الغنم ليتدرب بذلك وقرأها حفص بإسكان العين. جزماً من رتع يرتع في المكان إذا أكل كيف شاء قال الشاعر:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادّكرت
فإنما هي إقبال وإدبار(2/597)
وكأنهم لاحظوا عدم ثقة أبيهم فيهم فقالوا له {ما لك لا تأمنا1 على يوسف وإنا له لناصحون} أي محبون له كل خير مشفقون عليه أن يمسه أدنى سوء. {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب} أي يرتع في البادية يأكل الفواكه ويشرب الألبان ويأكل اللحوم ويلعب بما نلعب به من السباق والمناضلة، والمصارعة، {وإنا له لحافظون} من كل ما قد يضره أو يُسيءُ إليه. فأجابهم عليه السلام قائلاً {إني ليحزنني2 أن تذهبوا به} أي إنه ليوقعني في الحزن وآلامه ذهابكم به. {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} في رتعكم ولعبكم. فأجابوه قائلين والله {لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} أي لا خير في وجودنا ما دمنا نُغلب على أخينا فيأكله الذئب بيننا. ومع الأسف فقد اقنعوا بهذا الحديث والدهم وغداً سيذهبون بيوسف لتنفيذ مؤامرتهم الدنية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة: لا حذر مع القدر أي لا حذر ينفع3 في ردّ المقدور.
2- صدق المؤمن يحمله على تصديق من يحلف له ويؤكد كلامه.
3- جواز الحزن وأنه لا إثم فيه وفي الحديث "وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
4- أكل الذئب4 للإنسان إن أصاب منه غفلة واقع وكثير أيضاً.
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ
__________
1 قرئت لا تأمنا بالإدغام وبدون إشمام وقرئت بالإدغام مع الإشمام وقرئت لا تأمننا بنونين ظاهرتين وقرئت لا تمنّا بكسر التاء لغة تميم.
2 أي يشق على مفارقته مدة ذهابكم له وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة ومخائل الكمال.
3 وينفع في ما لم يقدر بإذن الله تعالى.
4 الذنب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وقرأ ورش عن نافع الذيب بدون همز لأن الهمزة ساكنة وقبلهما كسرة فحذفت تخفيفاً.(2/598)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
شرح الكلمات:
وأجمعوا: أي أمرهم على إلقائه في غيابة الجب.
في غيابة الجب: أي في ظلمة البئر.
وأوحينا إليه: أي أعلمناه بطريق خفي سريع.
عشاء: أي بعد غروب الشمس أول الليل.
نستبق: أي بالمناضلة.
عند متاعنا: أي أمتعتنا من ثياب وغيرها.
وما أنت بمؤمن لنا: أي بمصدّق لنا.
بدم كذب: أي بدم مكذوب أي دم سخلة وليس دم يوسف.
بل سولت لكم: أي زينت وحسنت.
على ما تصفون: أي من الكذب.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الإخبار عما عزم عليه إخوة يوسف أن يفعلوه فقد أقنعوا والدهم يوم أمس على إرسال يوسف معهم إلى البر وها هم أولاء وقد أخذوه معهم وخرجوا به، وما إن بعدوا به حتى تغيرت وجوههم عليه وصار يتلقى الكلمات النابية والوكز والضرب أحياناً، وقد أجمعوا أمرهم على إلقائه في بئر معلومة لهم في الصحراء، ونفذوا مؤامرتهم وألقوا أخاهم وهو يبكي بأعلى صوته وقد انتزعوا منه قميصه وتركوه مكتوفاً في قعر البئر. وهنا أوحى الله تعالى إليه أي أعلمه بما شاء من وسائط العلم انه سينبئهم في يوم من الأيام بعملهم الشنيع هذا وهو معنى قوله تعالى في السياق {وأوحينا1 إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} وبعد أن فرغوا من أخيهم ذبحوا سخلة ولطخوا بدمها قميصه، وعادوا
__________
1 هذا دليل على نبوته وأنه نبىء وهو صغير إذ النبوة لا يشترط لها بلوغ الرشد كالرسالة. وقيل الهاء في إليه تعود إلى يعقوب وعليه فلا إشكال إذ هو نبي ورسول عليه السلام.(2/599)
إلى أبيهم مساء يبكون يحملون الفاجعة إلى أبيهم الشيخ الكبير قال تعالى {وجاءوا أباهم عشاء} أي ليلا {يبكون} 1 وقالوا معتذرين {يا أبانا إنا ذهبنا نستبق2 وتركنا يوسف عند متاعنا3 فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا {ولو كنا صادقين} وقد دلت عباراتهم على كذبهم قال تعالى {وجاءوا على قميصه بدم كذب4} أي ذي كذب أو مكذوب إذ هو دم سخلة ذبحوها فأكلوها ولطخوا ببعض دمها قميص يوسف أخيهم ونظر يعقوب إلى القميص وهو ملطخ بالدم الكذب ولم يكن به خرق ولا تمزيق فقال إن هذا الذئب لحليم إذ أكل يوسف ولم يخرق ثوبه. ثم قال ما أخبر تعالى عنه بقوله {قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} أي لم يكن الأمر كما وصفتم وادعيتم وإنما سولت لكم أنفسكم أمراً فنفذتموه. {فصبر جميل5} أي فأمري صبر جميل والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى معه. {والله المستعان6 على ما تصفون} أي من الكذب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز صدور الذنب الكبير من الرجل المؤمن المهيء للكمال مستقبلا7.
2- لطف الله تعالى بيوسف وإكرامه له بإعلامه إياه أنه سينّبىء إخوته بفعلتهم هذه وضمن ذلك بشره بسلامة الحال وحسن المآل.
3- اختيار الليل للاعتذار دون النهار لأن العين تستحي من العين كما يقال. وكما قيل "كيف يرجو الحياء منه صديق ... ومكان الحياء منه خراب" يريد عينيه لا تبصران.
4- فضيلة الصبر الجميل وهو الخالي من الجزع والشكوى معاً.
__________
1 في الآية دليل على أن بكاء المرء لا يكون دليلاً على صدق قوله لاحتمال أن يكون تصنعاً كما حصل لأولاد يعقوب.
2 هو المسابقة وقيل ننتضل وهو نوع من المسابقة وهو في السهام لا في الأقدام وفي الآية دليل على مشروعية السباق وقد سابق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، والحفياء تبعد من ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة، أجمع المسلمون أنه لا يجوز الرهان في السباق إلا في الخيل والإبل والنصل وهي الرماية بالسهام لإصابة الهدف.
3 أي ثيابنا وأمتعتنا.
4 استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الامارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها إذ يعقوب عليه السلام استدل على كذب بنيه بصحة القميص وعدم تمزقه بأنياب الذئب.
5 فصبر جميل أولى به فصبر جميل مبتدأ وأولى به الخبر وهو محذوف وما في التفسير واضح كذلك.
6 والله مبتدأ والمستعان خبر وعلى ما تصفون متعلق به، والمعنى والله المستعان به على احتمال ما تصفون من الكذب.
7 لأن إخوة يوسف بعد فعلتهم تلك بأخيهم تاب الله عليهم ونجاهم ومن ألطافه بهم أنه حال بينهم وبين جريمة القتل ونجا يوسف وهم يعلمون.(2/600)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
شرح الكلمات:
سيارة: رُفْقَة من الناس تسير مع بعضها بعضا.
واردهم: أي الذي يرد لهم الماء.
فأدلى دلوه: أي دلى دلوه في البئر.
وأسروه بضاعة: أي أخفوه كبضاعة من البضائع.
وشروه بثمن بخس: أي باعوه بثمن ناقص.
وقال الذي اشتراه: أي الرجل الذي اشتراه واسمه قطفير ولقبه العزيز.
أكرمي مثواه: أي أكرمي موضع إقامته بمعنى أكرميه وأحسني إليه.
أو نتخذه ولدا: أي نتبناه فقال ذلك لأنه لم يكن يولد له.
من تأويل الأحاديث: أي تعبير الرؤيا.
ولما بلغ أشده: أي قوته البدنية والعقلية.
حكماً وعلماً: أي حكمة ومعرفة أي حكمة في التدبير ومعرفة في الدين.(2/601)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته إنه لما ألقى يوسف في الجب وترك هناك جاءت قافلة من بلاد مدين تريد مصر فأرسلوا وارداً لهم1 يستقي لهم الماء فأدلى دلوه في البئر فتعلق به يوسف فخرج معه وما إن رآه المدلي حتى صاح قائلاً يا بشراي2 هذا غلام وكان إخوة يوسف يترددون على البئر يتعرفون على مصير أخيهم فلما رأوه بأيدي الوارد ورفقائه قالوا لهم هذا عبد لنا أبق، وإن رأيتم شراءه بعناه لكم فقالوا ذاك الذي نريده فباعوه لهم بثمن ناقص وأسره3 الذين اشتروا أي أخفوه عن رجال القافلة حتى لا يطالبونهم بالاشتراك فيه معهم، وقالوا هذه بضاعة كلفنا أصحاب الماء بإيصالها إلى صاحبها بمصر. هذا ما دل عليه قوله تعالى {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة} {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} .
وكونها معدودة غير موزونة دال على قلتها {وكانوا فيه من الزاهدين} أي إخوته لا الذين اشتروه4. ولما وصلوا به مصر باعوه من وزير يقال له قطفير العزيز فتفرس فيه الخير فقال لامرأته زليخا أكرمي مقامه بيننا رجاء أن ينفعنا في الخدمة أو نبيعه بثمن غال، أو نتخذه ولداً حيث نحن لا يولد لنا. هذا معنى قوله تعالى {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً} قال تعالى {وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض} أي وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه العزيز مكّنا له في الأرض فيما بعد فصار ملك مصر بما فيها يحكمها ويسوسها بالعدل والرحمة. وقوله تعالى {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} أي ولنعلمه5 تعبير الرؤا من أحاديث الناس وما يقصونه منه. وقوله تعالى {والله غالب على أمره} 6 أي على أمر يوسف فلم يقدر إخوته أن يبلغوا منه مرادهم
__________
1 الوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم.
2 قرأ ورش بُشْرَايَ، وقرأ حفص بُشْرَى.
3 اختلف فيمن أسروا يوسف بضاعة. فقيل إنهم إخوة يوسف وقيل هم التجار الذين اشتروه وقيل هم الوارد وأصحابه وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنهم إخوة يوسف لما استخرج الوارد يوسف أدركهم إخوته وقالوا لهم هذا عبدنا أبق وإن شئتم بعناكموه فقالوا نود ذلك فباعوهم إياه كبضاعة لأنّ العبد يباع ويشترى كالبضاعة وما في التفسير وهو اختيار ابن جرير أصوب والله أعلم.
4 لفظ الزاهدين وصف للذين باعوا يوسف ومن هنا قيل هم إخوة يوسف وقيل الواردة وقيل السيارة فالخلاف عائد إلى الأول حيث اختلف فيمن أسروا يوسف بضاعة. واستدل مالك بالآية على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ويكون البيع لازماً.
5 قال القرطبي: أي فعلنا ذلك تصديقاً لقول يعقوب ويعلمك من تأويل الأحاديث.
6 اختلف في عود الضمير في قوله (على أمره) هل هو عائد إلى الله تعالى فهو الغالب على أمره دون سواه، إذ لا يغلب الله شيء بل هو الغالب على أمره وقيل الضمير يعود إلى يوسف أي أن الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره.(2/602)
كما هو تعالى غالب على كل أمر أراده فلا يحول بينه وبين مراده أحد وكيف وهو العزيز الحكيم. وقوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} إذ لو علموا لفوضوا أمرهم إليه وتوكلوا عليه ولم يحاولوا معصيته بالخروج عن طاعته. وفي هذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يجد من أقربائه من أذى إذ يوسف ناله الأذى من إخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه. وقوله تعالى {ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً1 وكذلك نجزي المحسنين} أي ولما بلغ يوسف اكتمال قوته البدنية بتجاوز سن الصبا إلى سن الشباب وقوته العقلية بتجاوزه سن الشباب إلى سن الكهولة آتيناه حكماً وعلماً أي حكمة وهي الإصابة في الأمور وعلماً وهو الفقه في الدين، وكما آتينا يوسف الحكمة والعلم نجزي المحسنين2 طاعتنا بالصبر والصدق وحسن التوكل وفي هذا بشارة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحسن العاقبة وأن الله تعالى سينصره على أعدائه ويمكن له منهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الفرح بما يسر3 والإعلان عنه.
2- جواز الاحتياط لأمر الدين والدنيا.
3- إطلاق لفظ الشراء على البيع.
4- شمخ التبنّي في الإسلام.
5- معرفة تعبير الرؤيا كرامة لمن علّمه الله ذلك.
6- من غالب الله غُلِبَ.
7- بلوغ الأشد يبتدى بانتهاء الصبا والدخول في البلوغ.
8- حسن الجزاء مشروط بحسن القيد والعمل.
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا
__________
1 أي وليناه حكم مصر فصار الحاكم فيها وآتيناه النبوة والعقل والفهم والعلم بالدين.
2 هذا الجزاء عام في كل مؤمن أحسن فبقدر إحسان العبد يكون جزاء الرب له فالخطاب يتناول يوسف ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتناول غيرهما لأن القرآن كتاب هداية فعمومه لا يخصص بالواحد والاثنين.
3 مأخوذ من قول الوارد، يا بشرى هذا غلام.(2/603)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
شرح الكلمات:
راودته: أي طالبته لحاجتها تريد أن ينزل عن إرادته لإرادتها وهو يأبى.
التي هو في بينها: أي زليخا امرأة العزيز.
وغلقت الأبواب: أغلقتها بالمغّاليق.
هيت لك: أي تعال عندي.
معاذ الله: أي أعوذ بالله أي أتحصن وأحتمي به من فعل مالا يجوز.
أحسن مثواي: أي إقامتي في بيته.
همت به: أي لتبطش به ضرباً.
وهم بها: أي ليدفع صولتها عليه.
برهان ربّه: ألهمه ربّه أن الخير في عدم ضربها.
السوء والفحشاء: السوء ما يسوء وهو ضربها، والفحشاء الخصلة القبيحة.
المخلصين: أي الذين استخلصناهم لولايتنا وطاعتنا ومحبتنا.
وقدت قميصه: أي قطعته من وراء.
وألفيا سيدها: أي وَجَدا العزيز زوجها وكانوا يطلقون على الزوج لفظ السيد لأنه يملك المرأة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وما جرى له من أحداث في بيت العزيز الذي اشتراه إنه ما إن أوصى العزيز امرأته بإكرام يوسف حتى بادرت إلى ذلك فأحسنت طعامه وشرابه ولباسه وفراشه، ونظراً إلى ما تجلبه الخلوة بين الرجل والمرأة من إثارة(2/604)
الغريزة الجنسية لا سيما إذا طالت المدة، وأمن الخوف وقلت التقوى حتى راودته بالفعل عن نفسه أي طلبت منه نفسه ليواقعها بعد أن اتخذت الأسباب المؤمّنة حيث غلّقت أبواب الحجرة والبهو والحديقة، وقالت تعال إلي. وكان رد يوسف على طلبها حازماً قاطعاً للطمع وهذا هو المطلوب في مثل هذا الموقف قال تعالى مخبراً عما جرى في القصر حيث لا يعلم أحدٌ من الناس ما جرى وما تم فيه من أحداث. {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت1 الأبواب وقالت هيت2 لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} . إنها بعد أن اتخذت كل ما يلزم للحصول على رغبتها منه أجابها قائلاً {إنه ربي3 أحسن مثواي} يريد العزيز أحسن إقامتي فكيف أخونه في أهله. وفي نفس الوقت أن سيده الحق الله جل جلاله قد أحسن مثواه بما سخّر له فكيف يخونه فيما حرم عليه.
وقوله إنه لا يفلح الظالمون تعليل ثان فالظالم بِوَضْعِ الشيء في غير موضعه يخيب في سعيه ويخسر في دنياه وأُخراه فكيف أرضى لنفسي ولك بذلك وقوله تعالى {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه4} أي همت بضربه لامتناعه عن إجابتها لطلبها بعد مراودات طالت مدتها، وهم هو بها أي بضربها دفعاً لها عن نفسه إلا إنه أراه الله برهاناً في نفسه فلم يضربها وآثر الفرار إلى خارج البيت، ولحقته تجري وراءه لترده خشية أن يعلم أحد بما صنعت معه. واستبقا الباب هو يريد الخروج وهي تريد رده إلى البيت خشيه الفضيحة وأخذته من قميصه فقدته أي شقته من دُبر أي من وراء لأنه أمامها وهي وراءه. وقوله تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء5} أي هكذا نصرف عن يوسف السوء فلا يفعله والفحشاء فلا يقربها، وعلل لذلك بقوله إنه من عبادنا المخلصين أي الذين استخلصناهم لعبادتنا ومحبتنا فلا نرضى لهم أن يتلوثوا بآثار الذنوب والمعاصي. يقوله تعالى {وألفيا سيّدها لدى الباب6} أي ووجدا زوجها عند الباب جالساً في حال هروبه منها
__________
1 أي أحكمت إغلاقها متحققة من ذلك وقد قيل إنها سبعة أبواب يقال غلق الباب وأغلقه وإذا أريد الكثرة قيل غلّق الأبواب.
2 أي هلم وأقبل وتعال ولا مصدر له ولا تصريف. كأنه اسم فعل أمر بمعنى أقبل وتعال وفيه سبع قراءات أفصحها وأجلها هَيْتَ لك بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء ونظيرها هيت بكسر الهاء وفتح التاء وهي قراءة نافع وروي أن عكرمة قال إنها لغة عربية تدعو بها إلى نفسها. قال الجوهري يقال هرّت وهيّت به إذا صاح به ودعاه. قال الشاعر:
قد رابني أن الكرىّ أسكتا
لو كان معنيا بها لهيّتا
(أي لصاح) ، وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيّاتِ.
3 يعني بقوله ربي زوجها أي سيده.
4 جواب لولا محذوف لعلم السامع به وتقديره لضربها أو لكان ما كان.
5 السوء هو ضرب وقدم في الذكر عن الفحشاء لأنه الحادث الأخير وأما الفحشاء فكانت قبل.
6 في عرف لغتهم إطلاق السيد على الزوج.(2/605)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وهي تجرى وراءه حتى انتهيا إلى الباب وإذا بالعزيز جالس عنده فخافت المعرة على نفسها فبادرت بالاعتذار قائلة ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أي يوما أو يومين، أو عذاب أليم يكون جزاءاً له كأن يضرب ضرباً مبرحاً.
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
شرح الكلمات:
وشهد شاهد من أهلها: أي ابن عمها.
قْدَّ من قُبل: أي من قدام.
قدَّ من دبُر: أي من وراء أي من خلف.
إنه من كيدكن: أي قولها، ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً.
يوسف أعرض عن هذا: أي عن هذا الأمر ولا تذكره لكيلا يشيع.
من الخاطئين: المرتكبين للخطايا الآثمين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث كل يوسف وأحداث القصة فقد ادعت زليخا أن يوسف راودها عن نفسها وطالبت بعقوبته فقالت {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم} وهنا رد يوسف ما قذفته به، ولولا أنها قذفته ما أخبر عن مراودتها إياه فقال ما أخبر تعالى به في هذه الآيات {هي راودتني عن نفسي} وهنا انطق الله جل جلاله طفلاً رضيعاً1
__________
1 وقيل إنه كان رجلاً حكيماً ذا عقل كان الوزير يستشيره في أموره وكان من أهل المرأة ورجح هذا غير واحد وما في التفسير أصحّ لصحة الحديث الشريف: تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم.(2/606)
إكراماً لعبده وصفيّه يوسف فقال هذا الطفل والذي سماه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهد يوسف {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} هذا ما قضى به الشاهد الصغير. {فلما رأى قميصه قد من دبر قال} . {إنه} أي قولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} {من1 كيدكن} أي من صنيع النساء {إن كيدكن عظيم} ، ثم قال ليوسف2 يا يوسف {أعرض عن هذا} الأمر ولا تذكره لأحد لكيلا يفشو فيضر. وقال لزليخا {استغفري لذنبك} أي اطلبي العفو من زوجك ليصفح عنك ولا يؤاخذك بما فرط منك من ذنب إنك كنت من الخاطئين أي الآثمين من الناس هذا ما تضمنته الآيات الأربع في هذا السياق الكريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الدفاع عن النفس ولو بما يُسيُّ إلى الخصم.
2- إكرام الله تعالى لأوليائه حيث أنطق طفلا في المهد فحكم ببراءة يوسف.
3- تقرير أن كيد النساء عظيم وهو كذلك.
4- استحباب الستر على المسيء وكراهية إشاعة الذنوب بين الناس.
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا
__________
1 الكيد: المكر والاحتيال وقال إن كيدكن عظيم، لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من الورطة.
2 القائل هو الشاهد وقيل الزوج، والراجح حسب السياق والعادة أنه الشاهد الذي أصبح حكماً بينهما.(2/607)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
شرح الكلمات:
في المدينة: أي عاصمة مصر يومئذ.
نراود فتاها: أي عبدها الكنعاني.
قد شغفها حبا: أي دخل حبّه شغاف قلبها أي أحاط بقلبها فتملكه عليها..
إنا لنراها في ضلال مبين: أي في خطأ بيّن بسبب حبها إياه.
فلما سمعت بمكرهن: أي بما تحدثن به عنها في غيبتها.
وأعتدت لهن متكئا: أي وأعدت لهن فراشاً ووسائد للاتكاء عليها.
أكبرنه: أي أعظمنه في نفوسهن.
فذلك الذي لمتنني فيه: أي قلتن كيف تحب عبداً كنعانياً.
فاستعصم: أي امتنع مستمسكا بعفته وطهارته.
الصاغرين: الذليلين المهانين.
أصب إليهن: أمل إليهن.
وأكن من الجاهلين: أي المذنبين إذ لا يذنب إلا من جهل قدرة الله وإطلاعه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة يوسف إنه بعد الحكم الذي أصدره شاهد يوسف عليه السلام انتقل الخبر إلى نساء بعض الوزراء فاجتمعن في بيت إحداهن وتحدثن بما هو لوم لامرأة العزيز حيث راودت عبداً لها كنعانياً عن نفسه وهو ما أخبر تعالى عنه في الآيات الآتية قال تعالى {وقال نسوة1 في المدينة} أي عاصمة مصر يومئذ {امرأة العزيز تراود
__________
1 نسوة بكسر النون وضمها والجمع الكثير نساء. ولا واحدة من لفظه إذ مفرد النسوة امرأة من غير لفظه.(2/608)
فتاها} 1 أي عبدها {عن نفسه قد شغفها حبا} أي قد بلغ حبها إياه شغاف قلبها أي غشاءه2. {إنا لنراها} أي نظنها {في ضلال مبين} أي خطأ واضح: إذ كيف تحب عبداً وهي من هي في شرفها وعلّو مكانتها. قوله تعالى {فلما سمعت بمكرهن} 3 أي ما تحدثن به في غيبتها {أرسلت إليهن4 وأعتدت لهن5 متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا} أي فقابلت مكرهن بمكر أعظم منه فأعدت لهن حفلة طعام وشراب فلما أخذن في الأكل يقطعن بالسكاكين الفواكه كالأترج وغيره أمرته أن يخرج عليهن ليرينه فيعجبن برؤيته فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن6 أيديهن بدل الفاكهة التي يقطعنها للأكل وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة، وهذا ما جاء في قوله تعالى {وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله7 ما هذا بشرا} أي إنسان من الناس. {إن هذا إلا ملك} أي ما هذا إلا ملك {كريم} وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال في خلقه وخلقه. وهنا قالت ما أخبر تعالى به في قوله {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} أي هذا هو الفتى الجميل الذي لمتنني في حبه ومراودته عن نفسه {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي راودته فعلا وامتنع عن إجابتي. {ولئن لم يفعل ما آمره} أي به مما أريده منه {ليسجنن وليكونا من الصاغرين} أي الذليلين المهانين. وهكذا اسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به. ومن هنا فزع يوسف إلى ربّه ليخلصه من مكر هذه المرأة وكيدها فقال ما أخبر تعالى به عنه {قال ربّ السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} أي يا رب فلذا عد كلامه هذا سؤالاً لربه ودعاء السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من الإثم، {وألاّ تصرف عني كيدهن} أي كيد النسوة {أصب إليهن} أي أَملْ إليهن {وأكن} أي بفعل ذلك {من الجاهلين} أي الآثمين بارتكاب معصيتك.
__________
1 {فتاها} نسب إليها وهو لزوجها باعتبار أنه يخدمها بملك زوجها له فصحّ نسبته إليها، وقيل: إن زوجها وهبه إيّاها كما وهبت سارة هاجر لإبراهيم عليه السلام.
2 شغاف القلب: غلافه، وهو: جلدة عليه، وقرىء: شعفها بالعين المهملة أي: أحرق حبّه قلبها، يقال: شعفه الحب: إذا أحرق قلبه.
3 وجه مكرهن: أنهن لما سمعن بجمال يوسف وحسنه، رغبن في النظر إليه فاحتلن لذلك بالحديث عن زليخا وانتقادها في حبها لخادمها.
4 في الكلام حذف تقديره: فأرسلت إليهن تدعوهنّ إلى وليمة لتوقعن فيما وقعت فيه. أعتدت: هذا من العتاد وهو ما جعل عدّة لشيء ومنه العتاد الحربي وهو ما أعدّ للحرب من أنواع السلاح.
5 أصل: {متكأ} موتكأ، حذفت منه الواو كمتزن من وزنت، ومتعدّ من وعدت وقرىء: متكاً غير مهموز وهو الأترج وأمّا مهموزاً فهو: كل ما اتكىء عليه عند الجلوس.
6 قال مجاهد: ليس قطعاً تبينُ به اليد، وإنما خدش وحزر وهو معروف في كلام العرب، يقال قطع يده إذا جرحها.
7 قرىء: {حاش لله} و {حاشا لله} ، وفيه أربع لغات، ويقال: حاشا زيداً وحاشاً زيداً، ومعناه هنا: معاذ الله.(2/609)
وهذا ما لا أريده وهو ما فررت منه {فاستجاب له ربه} أي أجابه في دعائه وصرف عنه كيدهن إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده ودُعَاءِ عبده وصفيه يوسف عليه السلام العليم بأحوال وأعمال عباده ومنهم عبده يوسف. ولذا استجاب له فطمأنه وأذهب الألم ألم الخوف من نفسه، وله الحمد والمنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان طبيعة الإنسان في حب الإطلاع وتتبع الأخبار.
2- رغبة الإنسان في الثأر لكرامته، وما يحميه من دم أو مال أو عرض.
3- ضعف النساء أمام الرجال، وعدم قدرتهن على التحمل كالرجال.
4- إيثار يوسف عليه السلام السجن على معصية الله تعالى وهذه مظاهر الصديقية.
5- الجهل بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ووعده ووعيده وشرعه هو سبب كل الجرائم في الأرض.
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)(2/610)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
شرح الكلمات:
ثم بدا لهم: أي ظهر لهم.
الآيات: أي الدلائل على براءة يوسف.
أعصر خمرا: أي أعصر عنباً ليكون خمرا.
واتبعت ملة: أي دين.
ما كان لنا: أي ما انبغى لنا ولا صح منّا.
أن نشرك بالله من شيء: أي أن أشرك بالله شيئا من الشرك وإن قل ولا من الشركاء وإن عظموا أو حقروا.
ذلك من فضل الله علينا: أي ذلك التوحيد والدين الحق.
وعلى الناس: إذ جاءتهم الرسل به ولكنهم ما شكروا فلم يتبعوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن يوسف عليه السلام وما حدث له بعد ظهور براءته من تهمة امرأة العزيز قال تعالى {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} أي ثم ظهر للعزيز ومن معه من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف وذلك كقدّ القميص من دُبر ونطق الطفل وحكمه في القضية بقوله {إن كان قميصه} الخ وهي أدلة كافية في براءة يوسف إلا أنهم رأوا سجنه إلى حين1 ما، أي ريثما تسكن النفوس وتنسى الحادثة ولم يبق لها ذكر بين الناس. وقوله تعالى {ودخل معه السجن2 فتيان} أي فقرروا سجنه وادخلوه السجن ودخل معه فتيان أي خادمان كانا يخدمان ملك البلاد بتهمة وجهت3 إليهما. وقوله تعالى {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ومال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} وكان هذا الطلب منهما بعد أن أعجبا بسلوكه مع أهل السجن وحسن معاملته وسألاه عن معارفه فأجابهم
__________
1 ذُكر للحين آماد مختلفة: فقد قيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاثة عشر شهراً وقيل: تسع سنين، وما في التفسير أصح تلك الأقوال.
2 رضي بالسجن ولم يرض ارتكاب الفاحشة لعصمة الله تعالى له، ومن هنا قال العلماء: لو أكره مؤمن على الفاحشة أو السجن لتعيّن عليه أن يدخل السجن ولا يرتكب الفاحشة.
3 هذه التهمة هي: تآمرهما على قتل الملك بوضع سمّ في طعامه أو شرابه، وفعلاً كان الطاهي قد وضع سماً في الطعام وأعطى حيواناً فمات لفوره، ومن ثمّ أدخلا السجن معاً نظراً للحكم عليهما.(2/611)
بأنه يعرف تعبير الرؤيا فعندئذ قالا هيا نجربه فندعي1 أنا رأينا كذا وكذا وسألاه فأجابهما بما أخبر تعالى به في هذه الآيات: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل2 أن يأتيكما} واللفظ محتمل لما يأتيهما في المنام أو اليقظة وهو لما علمه الله تعالى يخبرهما به قبل وصوله إليهما وبما يؤول إليه. وعلل لهما مبيّناً سبب علمه هذا بقوله {ذلكما مما علّمني ربّي إني3 تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة كافرون} وهم الكنعانيون والمصريون إذ كانوا مشركين يعبدون الشمس وغيرها، تركت ملة الكفر واتبعت ملة الإيمان بالله واليوم الآخر ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب، ثم واصل حديثه معهما دعوة لهما إلى الإيمان بالله والدخول في الإسلام فقال {ما كان لنا} أي ما ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء فنؤمن به ونَعْبُدُه معه، ثم أخبرهما أن هذا لم يكن باجتهاد منهم ولا باحتيال، وإنما هو من فضل الله تعالى عليهم، فقال ذلك من فضل الله علينا4، وعلى الناس إذ خلقهم ورزقهم وكلأهم ودعاهم إلى الهدى وبيّنه لهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون5 فهم لا يؤمنون ولا يعبدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- دخول يوسف السجن بداية أحداث ظاهرها محرق وباطنها مشرق.
2- دخول السجن ليس دائما دليلا على أنه بيت المجرمين والمنحرفين إذ دخله صفيٌ لله تعالى يوسف عليه السلام.
3- تعبير الرؤى تابع لصفاء الروح وقوة الفراسة وهي في يوسف علم لدني خاص.
4- استغلال المناسبات للدعوة إلى الله تعالى كما استغلها يوسف عليه السلام.
5- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
6- اطلاق لفظ الآباء على الجدود إذ كل واحد هو أب لمن بعده.
__________
1 روي أنه قال لهما: فما رأيتما؟ فقال الخباز: رأيت كأنّي اختبزت في ثلاثة تنانير وجعلته في ثلاث سلال فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منهن، وقال الآخر رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض فعصرتهن في ثلاث أوانٍ، ثمّ صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى هذا معنى قوله: {إني أراني أعصر خمرا} .
2 أي: بتفسيره في اليقظة، فقالا له: هذا من فعل العرّافين والكهنة فردّ عليهما قائلا: {ذلكما مما علّمني ربّي} .
3 لمّا ردّ عليهما بقوله: {ذلكما مما علمني ربي} علل له بقوله: {إني تركت ملة قوم..} .
4 إذ جعلنا أنبياء ورسلا ندعوا الناس إلى عبادة ربهم، وتوحيده فيها ليكملوا عليها ويسعدوا في الدارين.
5 أي: لا يعرفون نعمة الله تعالى عليهم بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين فلذا هم لا يعبدون الله ولا يوحدونه فيها.(2/612)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
شرح الكلمات:
يا صاحبي السجن: أي يا صاحبي في السجن وهما الفتيان صاحب طعام الملك وصاحب شرابه.
أأرباب متفرقون: أي آلهة متفرقون هنا وهناك أي في ذواتهم وصفاتهم وأماكنهم.
من دونه: أي من دون الله سبحانه وتعالى.
إلا أسماء.: أي مجرد اسم إله، وإلا في الحقيقة هو ليس بإله إنما هو صنم.
ما أنزل الله بها من سلطان: أي لم يأمر الله تعالى بعبادتها بأي نوع من أنواع العبادة.
فيسقي ربه خمرا: أي يسقي سيده الذي هو ملك البلاد شراب الخمر.(2/613)
فيصلب: يقتل مصلوباً على خشبة كما هي عادة القتل عندهم.
قضي الأمر: أي فرغ منه وبتّ فيه.
ظن انه ناج منهما: أي أيقن إنه محكوم ببراءته.
اذكرني عند ربك: أي أذكرني عند الملك بأني مسجون ظلما بدون جريمة.
فأنساه الشيطان ذكر ربه: أي أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في السجن لقد سبق أن استعبر الفتيان يوسف رؤياهما أي طلبا منه أن يعبرها لهما لما علما منه أنه يعبر الرؤى غير أن يوسف استغل الفرصة وأخذ يحدثهما عن أسباب علمه بتعبير الرؤى وأنه تركه لملّة الكفر وإيمانه بالله تعالى وحده وأنه في ذلك متّبع ملة آبائه إبراهيم واسحق ويعقوب، وانه لا ينبغي لهم أن يشركوا بالله وفي هذا تعريض بما عليه أهل السجن من الشرك بالله تعالى بعبادة الأصنام، وواصل حديثه داعياً إلى الله تعالى فقال ما أخبر به تعالى في هذا السياق {يا صاحبي1 السجن آرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} فخاطب صاحبيه يا صاحبي السجن أخبراني واصدقاني: آرباب أي آلهة متفرقون هنا وهناك، هذا صنم وهذا كوكب، وهذا إنسان، وهذا حيوان، وهذا لونه كذا وهذا لونه كذا خير أم الله الواحد في ذاته وصفاته القهار لكل ما عداه من سائر المخلوقات، ولم يكن لهم من جواب سوى {الله الواحد القهار} إن العقل يقضي بهذا. ثم خاطب أهل السجن كافة فقال {ما تعبدون من دونه} 2 أي من دون الله الواحد القهار {إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} إنها مجرد أسماء لا غير إذ كونكم تطلقون لفظ إله أو رب على صنم أو كوكب مرسوم له صورة لا يكون بذلك ربّاً وإلهاً إن الرب هو الخالق الرازق المدبر أما المخلوق المرزوق الذي لا يملك نفعا ولا ضراً لنفسه فضلا عن غيره فإطلاق الربّ والإله عليه كذب وزور، إنّها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان3 حجة ولا برهاناً فتعبد لذلك بحكم أن الله أمر بعبادتها. ثم قال لهم {إن الحكم إلا لله} أي ما الحكم إلا لله، وقد حكم بأن لا يعبد إلا هو، إذاً فكل عبادة لغيره
__________
1 أطلق لفظ الصحبة لطول مكثهما في السجن كقوله تعالى: {أصحاب الجنة} وأصحاب النار. وذلك لطول المقام فيهما.
2 بيّن بذلك عجز تلك الآلهة الباطلة.
3 أي: من حجّة تحكم بمشروعية عبادتها كما تفعلون.(2/614)
هي باطلة يجب تركها والتخلي عنها، ذلك الدين القيم أخبرهم أن عبادة الله وحده وترك عبادة غيره هي الدين القويم والصراط المستقيم إلا أن أكثر الناس لا يعلمون فجهلهم بمعرفة ربهم الحق الذي خلقهم ورزقهم ويدبر حياتهم وإليه. مرجعهم هو الذي جعلهم يعبدون ما ينحتون ويؤلهون ما يصنعون. ولما فرغ من دعوته إلى ربّه التفت إلى من طلبا منه تعبير رؤياهما فقال: ما أخبر تعالى به عنه {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربّه خمرا} أي سيطلق سراحه1 ويعود إلى عمله عند الملك فيسقيه الخمر كما كان يسقيه من قبل، وأما الآخر وهو طباخ الملك المتهم بأنه أراد أن يضع في طعام الملك السم ليقتله، فيصلب فتأكل الطير من رأسه بعد صلبه. وهنا قالا: إننا لم نر شيئاً وإنما سألناك لنجربك لا غير فرد عليهما قائلا {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} أي فرغ منه وبُت فيه رأيتما أم لم تريا. ثم قال للذي ظن أنّه ناج منهما ما أخبر تعالى به عنه {اذكرني عند ربك} 2 أي عند سيدك وكانوا يطلقون على السيد المالك لفظ الربّ. فأنساه الشيطان ذكر ربّه3 أي أنسى الشيطان يوسف عليها السلام ذكر ربّه تعالى حيث التفت بقلبه إلى الخادم والملك ونسى الله تعالى فعاقبه ربّه الحق فلبث في السجن بضع سنين أي سبع سنوات عداً.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى.
2- تقرير التوحيد عن طريق أحاديث السابقين.
3- لا حكم في شيء إلا بحكم الله تعالى فالحق ما أحقه الله والباطل ما أبطله والدين ما شرعه.
4- مشروعية الاستفتاء في كل مشكل من الأمور.
__________
1 أي: بعد ثلاثة أيام، وكذلك كان.
2 إطلاق لفظ الربّ على السيد كان عند من قبلنا أمّا نحن امّة الإسلام، فقد نهينا عن ذلك، روى مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقل أحدكم: اسق ربّك أطعم ربّك وضىء ربك، ولا يقل أحدكم: ربّي، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل: فتاي فتاتي غلامي".
3 عجباً لبعض المفسرين كيف يرجعون الضمير في قوله: {فأنساه الشيطان} إلى الفتى الخادم. ولم يرجعوه إلى يوسف عليه السلام كما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره، إذ لو كان الضمير يصحّ رجوعه إلى الخادم لكان النظم القرآني هكذا: فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربّه فلبث في السجن.(2/615)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
5-غفلة يوسف عليه السلام فإقباله على الفتى وقوله له اذكرني عند ربك ناسياً مولاه الحق ووليه الذي أنجاه من القتل وغيابة الجب، وفتنة النساء جعلته يحبس في السجن سبع سنين.
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
شرح الكلمات:
الملك: ملك مصر الذي العزيز وزير من وزرائه واسمه الريان بن الوليد.
سبع عجاف: هزال غير سمان.
يا أيها الملأ: أيها الأشراف والأعيان من رجال الدولة.
أفتوني في رؤياي: أي عبروها لي.
أضغاث أحلام: أي أخلاط أحلام كاذبة لا تعبير لها إلا ذاك.
وادّكر بعد امة: أي وتذكر بعد حين من الزمن أي قرابة سبع سنين.
يوسف أيها الصديق: أي يا يوسف أيها الصديق أي يا كثير الصدق علم ذلك منه في السجن.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في محنته إنه لما قارب الفرج أوانه رأى(2/616)
ملك مصر رؤيا أهالته وطلب من رجال دولته تعبيرها، وهو ما أخبر تعالى به في هذه الآيات إذ قال عز وجل: {وقال الملك} أي ملك البلاد {إني أرى} أي في منامي {سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف1} أي مهازيل في غاية الهزال {وسبع سنبلات خضر وأخر} أي سنبلات يابسات. ثم واجه رجال العلم والدولة حوله وقد جمعهم لذلك فقال {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون} أي تؤولون. فأجابوه بما أخبر تعالى عنهم بقوله {قالوا أضغاث أحلام2} أي رؤياك هذه هي من أضغاث الأحلام التي لا تعبر، إذ قالوا {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} والمراد من الأضغاث الأخلاط وفي الحديث الصحيح "الرؤيا من الرحمن والحلم من الشيطان". وقوله تعالى {وقال الذي نجا منهما} أي من صاحبي السجن، {وادّكر بعد امة3} أي وتذكر ما أوصاه به يوسف وهو يودعه عند باب السجن إذ قال له {اذكرني عند ربك} بعد حين من الزمن قرابة سبع سنوات. قال ما أخبر تعالى به عنه {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} أي إلى يوسف في السجن فإنه أحسن من يعبر الرؤى فأرسلوه فدخل عليه وقال ما أخبر به تعالى عنه في قوله {يوسف} أي يا يوسف {أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} وقوله {لعلي أرجع إلى الناس} أي الملك ورجاله {لعلهم يعلمون} أي ما تعبرها به أنت فينتفعون بذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الرؤيا الصالحة يراها الكافر والفاسق.
2- الرؤى نوعان حلم من الشيطان، ورؤيا من الرحمن.
3- النسيان من صفات البشر.
4- جواز وصف الإنسان بما فيه من غير إطراء كقوله أيها الصديق.
5- لعل تكون بمعنى كي التعليلية.
__________
1 {عجاف} جمع عجفاء من عجُف يعجُف كعظُم يعظُم، والعجاف، المهاذيل والهُزال في الحيوان: الضعف لقلة الشحم واللحم.
2 الأضغاث: جمع ضغث والضّغث في اللغة: الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ، والأحلام: الرؤيا المختلطة، ومالا تأويل له من الرؤى.
3 قرىء: {وادَّكَر بعد أمةٍ} بفتح الهمزة وتخفيف الميم أي: بعد نسيان يقال: أمِهَ أَمْهَاً إذا نُسي، قال الشاعر:
أمهت وكنت لا أنسى حديثاً
كذاك الدهر يودي بالعقول
{وادكر} أصلها: واذدكر، فأبدلت التاء دالا، ثم أدغمت الذال في الدال فصارت: وادكر، وذلك لمناسبتين الأولى: لقرب مخرج التاء من الذال والثانية: رخاوة الدال ولينها فحصل الإدغام لذلك.(2/617)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
شرح الكلمات:
دأبا: أي متتابعة على عادتكم.
فذروه في سنبله: أي اتركوه في سنبله لا تدرسوه.
سبع شداد: أي صعاب قاسية لما فيها من الجدب.
بما تحصنون: أي تحفظونه وتدخرونه للبذر والحاجة.
يغاث الناس: أي يُغيثهم ربهم بالأمطار وجريان النيل.
وفيه يعصرون: أي ما من شأنه أن يعصر كالزيتون والعنب وقصب السكر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {قال تزرعون} إلى آخره هو جواب يوسف للذي استفتاه أي طلب منه تعبير رؤيا الملك قال له في بيان تأويل الرؤيا تزرعون بمعنى ازرعوا سبع سنين دأباً أي1 متتالية كعادتكم في الزرع كل سنة وهي تأويل السبع البقرات السمان، فما حصدتم من زروع فذروه في سنبله أي اتركوه بدون درس حتى لا يفسد2 إلا قليلا مما تأكلون أي فادرسوه لذلك. ثم يأتي بعد ذلك أي من بعد المخصبات سبع3 شداد أي مجدبات صعاب وهي
__________
1 {دأبا} : أي: متتالية متتابعة وهي مصدر على غير معناه لأنّ معنى تزرعون تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقرىء دأباً بسكون الهمزة وأصل الدأب: العادة، ومنه قول الشاعر:
كدأبك من أم الحويرث قبلها
وجارتها أم الرباب بمأسل
2 أي: بأكل السوس له.
3 هذه الآية دليل على مشروعية المصالح الشرعية المرسلة، التي هي حفظ الأديان، والنفوس، والعقول، والأنساب، والأموال، فكل ما تضمّن تحصيل شيء من هذه الكليات الخمس فهو مصلحة، وكل ما يُفوِّت شيئاً منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة، ولا خلاف أن مقصود الشارع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية. على هذا أهل السنة والجماعة.(2/618)
تأويل السبع البقرات العجاف يأكلن ما قدمتم لهن أي من الحبوب التي احتفظتم بها من السبع المخصبات يريد تأكلونه فيهن إلا قليلا مما تحصنون1 أي تدخرونه للبذور ونحوه. ثم يأتي بعد ذلك عام فيه2 يغاث الناس وفيه يعصرون أي يأتي من بعد السبع السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس بالمطر وفيه يعصرون العنب والزيت وكل ما يعصر لوجود الخصب فيه. وقوله ثم يأتي من بعد ذلك عام الخ. هذا لم تدل عليه الرؤيا وإنما هو مما علّمه الله تعالى يوسف فأفادهم به من غير ما سألوه ذلك إحساناً منه ولحكمة عالية أرادها الله تعالى. وهو الحكيم العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أرض مصر أرض فلاحة وزراعة من عهدها الأول.
2- الاحتفاظ بالفائض في الصوامع وغيرها مبدأ اقتصادي هام ومفيد.
3- كمال يوسف في حسن تعبير الرؤى شيء عظيم.
4- فضل يوسف عليه السلام على أهل مصر حيث أفادهم بأكثر مما سألوا.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
__________
1 {تحصنون} : أي: تحبسونه وتخزنونه لتزرعوه وفي هذه دليل على رُؤْيا الكافرِ وأنّه قد يرى ما هو حق، وذلك بتدبير الله تعالى.
2 يقال: غوّث الرجل: إذا قال: واغوثاه، والاسم الغوث، والغواث واستغاثة فأغاثه إغاثة والاسم الغياث، والغيث: المطر.(2/619)
شرح الكلمات:
وقال الملك ائتوني به: أي بيوسف.
فلما جاءه الرسول: أي مبعوث الملك.
ارجع إلى ربّك: أي سيدك.
ما بال النسوة.: ما حالهن.
ما خطبكن: ما شأنكن.
حاش لله: أي تنزيهاً لله تعالى عن العجز أن يخلق بشراً عفيفا.
حصحص الحق: وضح وظهر الحق.
معنى الآيات:
إن رؤيا الملك كانت تدبيراً من الله تعالى لإخراج يوسف من السجن إنه بعد أن رأى الملك الرؤيا وعجز رجاله عن تعبيرها وتذكّر أحد صاحبي السجن ما وصّاه به يوسف، وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف في السجن ليستفتيه في الرؤيا وأرسلوه واستفتاه فأفتاه وذهب به إلى الملك فأعجبه التعبير وعرف مدلوله أمر بإحضار يوسف لإكرامه لما ظهر له من العلم والكمال وهو ما أخبر تعالى به في قوله {وقال الملك ائتوني به} أي يوسف {فلما جاءه الرسول} أي جاء يوسف رسول الملك وهو صاحبه الذي كان معه في السجن ونجا من العقوبة وعاد إلى خدمة الملك فقال له إن الملك يدعوك فقال له عد إليه1 وإسأله {ما بال النسوة2 التي قطّعن أيديهن} أي قل له يسأل عن حال النسوة اللائي قطعن أيديهن والمرأة التي اتهمتني فجمع الملك النسوة وسألهن قائلا ما خطبكن3 إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبن قائلات حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي نُنَزِهُ الله تعالى أن يعجز أن يخلق بشرا عفيفا مثل هذا. ما علمنا عليه من سوء.
__________
1 أبى أن يخرج إلا أن تصح براءته للملك مما قذف به وأنّ حبسه كان بلا جرم روى الترمذي أن الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنّ الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم. قال: لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت" وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له: {أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي} .
2 ذكر النسوة جملة: حتى لا يؤذي امرأة العزيز لو خصها بالذكر إكراما منه وحلماً، وكمالا خلقيا وإلاّ فالمراد زليخا.
3 قوله {ما خطبكن} : جرى فيه على سنّة يوسف إذ خاطب النسوة كافة ولم يفرد زليخا وهذا أيضاً من باب الستر متي أمكن ولم تحوج الحال إلى التعيين والكشف.(2/620)
وهنا قالت امرأة العزيز زليخا ما اخبر تعالى به عنها {الآن حصحص الحق1} أي وضح وبان وظهر {أنا راودته عن نفسه} وليس هو الذي راودني، {وإنه لمن الصادقين} وقوله تعالى {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} هذا إخبار عن يوسف عليه السلام فإنه قال ذلك أي امتناعي من الخروج من السجن وعدم إجابتي الملك وطلبي إليه أن يسأل عن حال النسوة حتى تم الذي تم من براءتي على لسان النسوة عامة، وامرأة العزيز خاصة حيث اعترفت قطعياً ببراءتي وقررت أنها هي التي راودتني عن نفسي فأبيت ورفضت فعلت هذا ليعلم زوجها العزيز أني لم أخنه في أهله في غيبته وأن عرضه مصان وشرفه لم يدنس لأنه ربي أحسن مثواي. وإن الله لا يهدى كيد الخائنين فلو كنت خائنا ما هداني لمثل هذا الموقف المشرف والذي أصبحت به مبرأ الساحة سليم العرض طاهر الثوب والساحة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل العلم وشرفه إذ به رفع الملك يوسف إلى حضرته وهو رفيع.
2- فضيلة الحلم والأناة وعدم التسرع في الأمور.
3- فضيلة الصدق وقول الحق ولو كان على النفس.
4- شرف زليخا2 بإقرارها بذنبها رفعها مقاما ساميا وأنزلها درجة عالية فقد تصبح بعد قليل زوجة لصفي الله يوسف الصديق بن الصديق زوجة له في الدنيا وزوجة له في الآخرة وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
__________
1 {حصحص} أي: تبيّن وظهر، وأصله: حصص فقيل: حصحص، نحو: كفكف في كفف، وأصل الحصّ: استئصال الشيء من حص الشعر: إذا استأصله جزاً، قال الشعر:
قد حصّت البيضة رأسي فما
أطعم نوماً غير تهجاع
أي: النوم الخفيف، ومنه الحصّة: القطعة من الشيء، فالمعنى إذاً بانت حصة الحق من حصة الباطل.
2 ذهبت في التفسير مذهب إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى وكثير من علماء السلف إلى أنّ القائل: {ذلك ليعلم إني لم أخنه بالغيب إلى قوله غفور رحيم} هو يوسف عليه السلام: أي: إنه لما جاء الرسول يدعوه إلى حضرة الملك أبى أن يجيب الدعوة حتى يحقق الملك في قضيته التي سجن فيها ثمّ بعد ذلك يخرج. ودعا الملك النسوة وحقق معهن وبرأن يوسف بقولهن: ما علمنا عليه من سوء، وقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين كأن سائلا قال ليوسف: لم لَم تجب الداعي؟ فأجاب: ذلك أي: فعلت ذلك ليعلم أي: العزيز: أني لم أخنه بالغيب، ثم قال تواضعاً: وما أبرىء نفسي إذ هم بضرب زليخا لما ألحت عليه وأرادت ضربه.
وذهبت إلى هذا مرجحاً له لأمرين الأول: ترجيح إمام المفسرين له والثاني: أنَّى لتلك المرأة المشركة أن ترقى إلى هذا المستوى فتقول: وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. إنّ هذا الكلام لا يجري إلا على لسان الأنبياء والصالحين.
ومع هدا فمن رجّح أن يكون القول قول زليخا كابن القيم رحمه الله تعالى فلا بأس، ويجب على الجميع أن يقول الله أعلم.
إذ قولنا مجرد ارتئاء رأيناه والعلم الحق لله وحده لا شريك له.(2/621)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
الجزء الثالث عشر
وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57)
شرح الكلمات:
لأمارة بالسوء: أي كثيرة الأمر والسوء هو ما يُسيء إلى النفس البشرية مثل الذنوب.
إلا ما رحم ربي: أي إلا من رحمه الله فإن نفسه لا تأمر بالسوء لطيبها وطهارتها.
استخلصه لنفسي: أجعله من خلصائي من أهل مشورتي وأسراري.
مكين أمين: أي ذو مكانة تتمكن بها من فعل ما تشاء، أمين مؤتمن على كل شيء عندنا.
خزائن الأرض: أي خزائن الدولة في أرض مصر.
إني حفيظ عليم: أي أحافظ على ما تسنده إليّ واحفظه، عليم بتدبيره.
يتبوأ: أي ينزل ويحل حيث يشاء بعد ما كان في غيابة الجُب وضيق السجن.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث على يوسف عليه السلام فقوله تعالى: {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} هذا من قول يوسف علية1
__________
1 على ما رجحته في التفسير. وعلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم فهو من قول امرأة العزيز.(2/622)
السلام، إذ قال لما طلب إلى الملك أن يحقق في قضية النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز وتم التحقيق بالإعلان عن براءة يوسف مما أتهم به قال ذلك، أي فعلت ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وهضماً لنفسه من جهة ومن جهة أخرى فقد همَّ بضرب زليخا كما تقدم، قال: {وما أبرىء نفسي} وعلل لذلك فقال {إن النفس} أي البشرية {لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي1} إلا نفساً رحمها ربي بتوفيقها إلى تزكيتها وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال فإنها تصبح نفساً مطمئنة تأمر بالخير وتنهى عن الشر2، وقوله: {إن ربي غفور رحيم} ذكر هذه الجملة تعليلاً لقوله: {وما أبرىء نفسي} فذكر وإن حصل منيّ هم بضرب وهو سوء فإني تبت إلى الله، والله غفور أي يعفو ويصفح فلا يؤاخذ من تاب إليه ويرحمه فإنه رحيم بالمؤمنين من عباده. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (53) أما الآية الثانية (54) والثالثة (55) فقد تضمنت استدعاء الملك ليوسف وما دار من حديث بينهما إذ قال تعالى: {وقال الملك} الريان بن الوليد {ائتوني به} أي بيوسف بعد أن ظهر له علمه وكماله الروحي {أستخلصه لنفسي} أي أجعله خالصاً لي أستشيره في أمري واستعين به على مهام ملكي وجاء يوسف من السجن وجلس إلى الملك وتحدث معه وسأله عن موضوع سني الخصب والجدب فأجابه بما أثلج صدره من التدابير الحكيمة السديدة وهنا قال له ما أَخْبرَ تعالى به قال له: {إنَّك اليوم لدينا مكين أمين} أي ذو مكانة عندنا تمكنك من التصرف في البلاد كيف تشاء أمين على كل شيء عندنا فأجابه يوسف بما أخبر به تعالى بقوله: {قال اجعلني3 على خزائن الأرض} أي أرض مصر ومعنى هذا أنه حل محل العزيز الذي قد مات في تلك الأيام. وعلل لطلبه وزارة المال والاقتصاد بقوله: {إنّي حفيظ عليم} أي حفيظ على ما أتولى تدبيره عليم بكيفية الإدارة وتدبير الشؤون. وقوله تعالى في الآية الرابعة (56) : {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} أي بمثل هذه الأسباب
__________
1 {ما رحم} ما: بمعنى: مَنْ، وهي شائعة الاستعمال، من ذلك: فانكحوا ما طاب لكم. أي: من طبن لكم من النساء.
2 وبذلك يتمّ عصمتها بإذن الله تعالى.
3 قال بعض أهل العلم: في الآية دليل على جواز عمل الرجل الصالح للرجل الكافر أو الفاجر إذا كان ذلك لا يضرّ بدينه، وهو كذلك، وفيها دليل على جواز ذكر طالب العمل كفاءته العلمية حتى يسند إليه العمل على أن يكون صادقاً في ذلك، وليس هذا من باب: {فلا تزكوا أنفسكم} ولا هو من باب طلب الإمارة حيث قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لن نستعمل على عملنا هذا مَنْ أراده" رواه مسلم.(2/623)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
والتدابير مكنا ليوسف في أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل حيث يشاء يتقلب فيها أخذاً وعطاء وإنشاء وتعميراً لأنه أصبح وزيراً مطلق التصرف. وقوله تعالى: {نصيب برحمتنا من نشاء} أي رحمته من عبادنا ولا نضيع أجر المحسنين، وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإحسان بتوفيتهم أجورهم، ويوسف عليه السلام من شاء الله رحمتهم كما هو من أهل الإحسان الذين يوفيهم الله تعالى أجورهم في الدنيا والآخرة، وأخبر تعالى أن أجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون، ترغيبا في الإيمان والتقوى إذ بهما تنال ولاية الله تعالى عز وجل إذ أولياؤه هم المؤمنون المتقون.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- فضيلة هضم النفس باتهامها بالنقص والتقصير.
2- تحقيق الحكمة القائلة: المرءُ مخبوء تحت لسانه.
3- جواز ذكْرِ المًرشِّح للعمل كحذق الصنعة ونحوه ولا يعد تزكية للنفس.
4- فضيلة الإحسان في المعتقد والقول والعمل.
5- فضل الإيمان والتقويم.
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
شرح الكلمات:(2/624)
وجاء إخوة يوسف: من أرض كنعان لما بلغهم أن ملك مصر يبيع الطعام.
وهم له منكرون: أي غير عارفين أنه أخوهم.
ولما جهزهم بجهازهم: أي أكرمهم وزودهم بما يحتاجون إليه في سفرهم بعدما كال لهم ما ابتاعوه منه.
بأخ لكم من أبيكم: هو بِنْيامين لأنه لم يجيء معهم لأن والده لم يقدر على فراقه.
سنراود عنه أباه: أي سنجتهد في طلبه منه.
وقال لفتيانه: أي غلمانه وخدمه.
بضاعتهم: أي دراهمهم التي جاءوا يمتارون بها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن قصة يوسف عليه السلام وتتبع أحداثها، إنه بعد أن ولي يوسف أمر الوزارة ومرت سنوات الخصب وجاءت سنوات الجدب فاحتاج أهل أرض كنعان إلى الطعام كغيرهم فبعث يعقوب عليه السلام بنيه يمتارون وكانوا عشرة رجال بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام، قال تعالى مخبراً عن حالهم: {وجاء إخوة1 يوسف} أي من أرض كنعان {فدخلوا عليه} أي على يوسف {فعرفهم وهم له منكرون} أي لم يعرفوه لتغيره بكبر السن وتغير أحواله2 وقوله تعالى: {ولما جهزهم بجهازهم3} أي كال لهم وحَمَّل لكل واحد بعيره بعد أن أكرمهم غاية الإكرام {قال ائتوني4 بأخ لكم من أبيكم} ولا شك أنه قد سألهم عن أحوالهم فأخبروه عن أبيهم وأولاده بالتفصيل فلذا قال لهم {ائتوني بأخ لكم من أبيكم} وهو بنيامين ورغبهم في ذلك بقوله: {ألا ترون أني أوفِ الكيل وأنا خير المنزلين} أي خير المضيفين لمن نزل عليهم {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} . بعد هذا الإلحاح عليهم أجابوه بما أخبر تعالى به عنهم بقوله: {قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون} أي سنبذل جهدنا في طلبه
__________
1 جاءوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليميروا.
2 ولطول المدة إذ مضى عليهم يوم فارقوه أربعون سنة.
3 الجهاز بالفتح والكسر: ما يحتاج إليه المسافر والمراد به: الطعام الذي امتاروه من عنده.
4 سبب طلب يوسف أخاهم أنه كان معهم أحد عشر بعيراً وهم عشرة وقالوا ليوسف: إنّ لنا أخاً تخلف عنا، وبعيره معنا، فسألهم لِمَ تخلّف؟ فقالوا: لحب أبيه إيّاه وذكروا له القصة وما جرى فيها، وهنا قال لهم: إن رجعتم للميرة مرّة أخرى فأتوني بأخٍ لكم من أبيكم، ورغّبهم في ذلك وحذّرهم من أن يأتوا بدونه فإنه لا يبيعهم الطعام الذي هو حاجتهم.(2/625)
حتى نأتي به، {وإنا لفاعلون} كما أخبرناك.
وقوله تعالى: {وقال لفتيانه1 اجعلوا بضاعتهم في رحالهم} يخبر تعالى عن قيل يوسف لغلمانه اجعلوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في رحالهم من حيث لا يشعرون {لعلهم يعرفونها2 إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون3} كل هذا كان رغبة من يوسف في إحضار أخيه الشقيق فجعل رد الدراهم وسيلة لذلك لأنهم إذا وجدوها تحرجوا من أخذها فرجعوا بها. وجاءوا بأخيهم معهم، وهو مطلب يوسف عليه السلام حققه الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عجيب تدبير الله تعالى إذ رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وظهورها كما عبرها كان تدبيراً لولاية يوسف ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام لأهليهم ولتتم سلسلة الأحداث الآتية، فلا إله إلا الله، ولا رب سواه.
2- حسن تدبير يوسف عليه السلام للإتيان بأخيه بنيامين تمهيداً للإتيان بالأسرة كلها.
3- أثر الإيمان في السلوك، إذ عرف يوسف أن أخوته لا يستحلون أكل مال بغير حقه فجعل الدراهم في رحالهم ليرجعوا بها ومعهم أخوهم الذي يريد إحضاره.
فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا
__________
1 قرئ: {لفتيانه} و {لفتيته} قراءتان سبعيتان نحو: صبية وصبيان.
2 قال لعلهم يعرفونها: إذ من الجائز أن لا تسلم لهم بضاعتهم بأن تؤخذ منهم في الطريق مثلا.
3 من الجائز أن يكون ردّ البضاعة إلى إخوته لأنه كره أن يأخذها من أبيه وإخوته، ومن الجائز أن يكون ردّها إليهم لعلمه أنهم لا يأكلون الطعام بغير حقّه فسيرجعون بها، وهو المراد.(2/626)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
شرح الكلمات:
منع منا الكيل: أي منع الملك منا الكيل حتى نأتيه بأخينا.
نكتل: أي نحصل على الكيل المطلوب.
على أخيه من قبل: أي كما أمنتكم على يوسف من قبل وقد فرطتم فيه.
ما نبغي: أي أي شيء نبغي.
ونزداد كيل بعير: أي بدل ما كنا عشرة نصبح أحد عشر لكل واحد حمل بعير.
ذلك كيل يسير: أي على الملك لغناه وطوله فلا يضره أن يزيدنا حمل بعير.
موثقاً: أي عهدا مؤكدا باليمين.
إلا أن يحاط بكم: أي تهلكوا عن آخركم.
من شيء: أي أراد الله خلافه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته قال تعالى مخبراً عن رجوع إخوة يوسف من مصر إلى أرض كنعان بفلسطين: {فلما رجعوا إلى أبيهم} أي يعقوب عليه(2/627)
السلام {قالوا يا أبانا منع منا الكيل} أي منع1 منا ملك مصر الكيل إلا أن نأتي بأخينا بنيامين {فأرسل معنا أخانا نكتل2 وإنا له لحافظون} أن يناله مكروه بحال من الأحوال. فأجابهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى عنه بقوله: {قال هل آمنكم عليه} أي ما آمنكم عليه {إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} يعني يوسف لما ذهبوا به إلى البادية. {فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين} 3 جرى هذا الحديث بينهم عند وصولهم وقبل فتح أمتعتهم، وأما بعد فتحها فقد قالوا ما أخبر تعالى به في قوله: {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم} أي دراهمهم {ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا} أي فأرسل معنا أخانا نذهب به إلى مصر {ونمير4 أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير} لأن الملك المصري لا يبيع للنفر الواحد إلا حمل بعير نظراً لحاجة الناس إلى الطعام في هذه السنوات الصعبة للجدب العام في البلاد. فأجابهم يعقوب بما قال تعالى عنه {قال لن أرسله معكم حتى تؤتونِ موثقاً من الله} أي حتى تعطوني عهداً مؤكداً باليمين على أن تأتوني به {لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} 5 بعدو ونحوه فتهلكوا جميعاً فأعطوه ما طلب منهم من عهد وميثاق، قال تعالى: {فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} أي شهيد عليّ وعليكم، أي فأشهد الله تعالى على عهدهم. ولما أرادوا السفر إلى مصر حملته العاطفة الأبوية والرحمة الإيمانية على أن قال لهم ما أخبر تعالى عنه: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} أي لا تدخلوا وأنتم أحد عشر رجلا من باب واحد فتسرع إليكم العين6، وإنما ادخلوا من عدة أبواب فلا
__________
1 إذ قال لهم: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} .
2 أصل نكتل: نكتال فحذفت الألف لسكون اللام بالجازم وقرىء بالياء يكتل: أي أخوهم بنيامين.
3 وقرىء: {خير حفظاً} ، قراءة سبعية.
4 {نمير أهلنا} أي نجلب لهم الطعام قال الشاعر:
بعثتك مائراً فمكثت حولاً
متى يأتي غياثك مَنْ تُغيث
5 أي: تهلكوا أو تموتوا وإلاّ أن تغلبوا عليه.
6 في الآية دليل على ما يلي:
أ- على التحرّز من العين، والعين حق لحديث: "إن العين لتدخل الرجل القبر ولجمل القدر" ولتعوذ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها في غير حديث.
ب- على المسلم إن أعجبه شيء أن يبرّك، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا برَّكت"!! والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه.
جـ - إذا أصاب العبد بعينه لأنّه لم يبرّك فإنه يؤمر بالاغتسال ويجبر عليه.
د – إذا عرف المرء بأذاه للناس بعينه يبعد عنهم وجوباً.
هـ- الاغتسال من العين: هو أن يغسل المعيان وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه وداخل إزاره في إناء ثم يصب على المصاب بالعين فيشفى بإذن الله تعالى.(2/628)
تُرون جماعة واحدة أبناء رجل واحد فلا تصيبكم عين الحاسدين ثم قال: {وما أغني عنكم من الله من شيء} ، وهو كذلك {إن الحكم إلا لله} فما شاءه كان. {عليه توكلت} أي فوضت أمري إليه {وعليه فليتوكل المتوكلون} أي فليفوض إليه المتوكلون أمورهم لأنه الكافي ولا كافي على الحقيقة إلا هو عز جاره وعظم سلطانه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مدى توكل يعقوب عليه السلام على الله وثقته في ربّه عز وجل، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وكيف لا وهو أحد أنبياء الله ورسله عليهم السلام.
2- جواز أخذ العهد المؤكد في الأمور الهامة ولو على أقرب الناس كالأبناء مثلاً.
3- لا بأس بتخوف المؤمن من إصابة العين وأخذ الحيطة للوقاية منها مع اعتقاد أن ذلك لا يغني من الله شيئاً وأن الحكم لله وحده في خلقه لا شريك له في ذلك.
4- وجوب التوكل على الله تعالى وإمضاء العمل الذي تعيَّن وتفويض أمر ما يحدث لله تعالى.
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ(2/629)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72)
شرح الكلمات:
إلا حاجة في نفس يعقوب: هي إرادة دفع العين عن أولاده شفقة عليهم.
آوى إليه أخاه: أي ضمه إليه أثناء الأكل وأثناء المبيت.
فلا تبتئس: أي لا تخزن.
جعل السقاية: أي صاع الملك وهو من ذهب كان يشرب فيه ثم جعله مكيالاً يكيل به.
أذن مؤذن: نادى مناد.
أيتها العير: أي القافلة.
صواع الملك.: أي صاع الملك. فالصاع والصواع بمعنى واحد.
وأنا به زعيم: أي بالحمل كفيل.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن إخوة يوسف فقد عهد إليهم إذا هم وصلوا إلى ديار مصر أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متعددة خشية العين عليهم، وقد وصلوا وعملوا بوصية أبيهم فقد قال تعالى مخبراً عنهم {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم} أي دخولهم من أبواب متفرقة {من الله} أي من قضائه {من شيء إلا حاجة} أي لكن حاجة {في نفس يعقوب} وهي خوف العين عليهم {قضاها} 1 أي لا غير.
وقوله تعالى: {وإنه لذو علم لما علمناه} ثناء على يعقوب أي إنه لصاحب علم وعمل لتعليمنا إياه وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} هو كما أخبر عز وجل أكثر
__________
1 {قضاها} أي: أنفذها إذ القضاء: إنفاذ المحكوم به.(2/630)
الناس لا يعلمون عن الله تعالى صفات جلاله وكماله ومحابه ومساخطه وأبواب الوصول، إلى مرضاته والحصول على رضاه ومحبته، وما يتقي مما يحرم على العبد من ذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (68) .
أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه في منزله آواى إليه أخاه أي شقيقه وهو بنيامين، وذلك لما جاء وقت النوم جعل كل اثنين في غرفة وهم أحد عشر رجلاً بقى بنيامين فقال هذا ينام معي، وأنه لما آواه إليه في فراشه أعلمه أنه أخوه يوسف، وأعلمه أن لا يحزن بسبب ما كان إخوته قد عملوه مع أبيهم ومع أخيهم يوسف وأعلمه أنه سيحتال على بقائه معه فلا يكترث بذلك ولا يخبر إخوته بشيء من هذا. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وهي قوله تعالى: {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس1 بما كانوا يعملون} .
أما الآية الثالثة (70) فقد تضمنت الإخبار عن تدبير2 يوسف لبقاء أخيه معه دونهم وذلك أنه لما جهزهم بجهازهم أي كال لهم الطعام وزودهم بما يحتاجون إليه بعد إكرامه لهم جعل بطريق خفيّ لم يشعروا به سقاية الملك وهي الصاع أو الصواع وهي عبارة عن إناء من ذهب كان يشرب فيه ثم جعل آلة كيل خاصة بالملك عرفت بصواع الملك أو صاعه. جعلها في رحل أخيه بنيامين، ثم لما تحركت القافلة وسارت خطوات نادى منادٍ قائلاً أيتها العير3 أي يا أهل القافلة إنكم لسارقون. هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى: {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير أنكم لسارقون} . قال تعالى إخباراً عنهم: {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} فأجابوا بقولهم: {نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير} أي مكافأة له {وأنا به زعيم4} أي وأنا بإعطائه حمل البعير كفيل.
هداية الآيات:
__________
1 الابتئاس من البؤس الذي هو الحزن والكدر، فالابتئاس مطاوع الابئاس أي: جعل المرء بائساً: صاحب بؤس.
2 قيل: إن بنيامين قال ليوسف: لا تردني إليهم فأجابه يوسف ودبر كيفية إبقاء أخيه معه وكلّ ذلك بتدبير الله تعالى لهم.
3 العير: لفظ يطلق على ما امتير عليه من الإبل والخيل والبغال، والحمير، والمراد بها هنا: الإبل.
4 الزعيم: الكفيل، والحميل، والضمين، والقبيل، وهي بمعنى واحد سواء، ويطلق الزعيم على الرئيس.(2/631)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
من هداية الآيات:
1- بيان فضل العلم وأهله.
2- تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس لا يعلمون.
3- حسن تدبير يوسف للإبقاء على أخيه معه بعد ذهاب إخوته.
4- مشروعية إعطاء المكافآت لمن يقوم بعمل معين وهي الجعالة في الفقه.
5- مشروعية الكفالة والكفيل غارم.
قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
شرح الكلمات:
تالله: أي والله.
لنفسد في الأرض: أي بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
وما كنا سارقين: أي لم نسرق الصوامع كما أنا لم نسرق من قبل متاع أحد.
من وجد في رحله فهو جزاؤه: أي يأخذ بالسرقة رقيقاً.
كذلك نجزي الظالمين: أي في شريعتنا.(2/632)
في وعاء أخيه: أي في وعاء أخيه الموجود في رحله.
كذلك كدنا ليوسف: أي يسرنا له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود.
في دين الملك: أي في شرعه إذ كان يضرب السارق ويغرم بمثل ما سرق.
نرفع درجات من نشاء: أي كما رفع يوسف عليه السلام.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في الحديث عن يوسف وإخوته، إنه لما أعلن عن سرقة صواع الملك وأوقفت القافلة للتفتيش، وأعلن عن الجائزة لمن يأتي بالصواع وأنها مضمونة هنا قال إخوة يوسف ما أخبر تعالى به عنهم: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} أي بالسرقة وغشيان الذنوب وإنما جئنا للميرة1 {وما كنا سارقين2} أي في يوم من الأيام. وهنا قال رجال الملك رداً على مقالتهم بما أخبر تعالى به: {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} فأجاب الإخوة بما أخبر تعالى عنهم بقوله: {قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه} يريدون أن السارق يُسترق أي يملك بالسرقة وقوله {كذلك نجزي الظالمين} أي في شريعتنا. وهنا أخذ يوسف بنفسه يفتش أوعية إخوته بحثاً عن الصواع، وبدأ بأوعيتهم واحداً بعد واحد وآخر وعاء وعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة والتواطؤ في القضية، حتى استخرجها من وعاء أخيه الذي كان في رحله، هذا ما دل عليه قوله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها3 من وعاء أخيه} وقوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} أي هكذا يسرنا4 له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود غير مذموم. وقوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} أي لم يكن في شرع مصر أن يأخذ أخاه عبداً بالسرقة بل السارق يضرب ويغرم فقط، {إلا أن يشاء الله} أمراً فإنه يكون. وقوله
__________
1 الميرة: الطعام الذي يدّخره الإنسان.
2 إذ لو كانوا سارقين ما ردّوا البضاعة التي وضعت لهم في رحالهم من أجل أن يرجعوا إلى مصر، فمن ردّ بضاعة بعد ما تمكن منها لا يكون سارقاً.
3 الوعاء: ما يحفظ فيه الشيء، وتُضمّ واوه وتكسر، والكسر أشهر قيل لمّا استخرج السقاية من وعاء بنيامين طأطأوا رؤوسهم حياءً، وقالوا لأخيهم بنيامين: ويلك يا بنيامين ما رأينا كاليوم قط.
4 قالت العلماء: يجوز للرجل أن يتصرف في ماله بالبيع والشراء والهبة والعطاء قبل حلول حول الزكاة ما لم ينو الفرار من الزكاة فإن حال الحول فلا يصح شيء إلا بعد إخراج الزكاة.(2/633)
تعالى: {نرفع درجات من نشاء1} أي في العلم كما رفعنا يوسف {وفوق كل ذي علم} 2 من الناس {عليم} إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فهو العليم الذي لا أعلم منه بل العلم كله له ومنه ولولاه لما علم أحد شيئاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز الحلف بالله تعالى للحاجة.
2- مشروعية دفع التهمة عن النفس البريئة.
3- معرفة حكم السرقة في شرعة يعقوب عليه السلام.
4- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه.
5- بيان حكم السرقة في القانون المصري على عهد يوسف عليه السلام.
6- علوّ مقام يوسف عليه السلام في العلم.
7- تقرير قاعدة {وفوق كل ذي علم عليم} إلى أن يبتهي العلم إلى الله تعالى.
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79)
__________
1 أي: بالإيمان والعلم شاهده: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} .
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما يكون ذا أعلم من ذا، وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عليم وقرأ الجمهور: {درجات من نشاء} بإضافة درجات إلى مَنْ وقرأ حفص {درجات} بالتنوين تمييز لتعلق فعل نرفع بمفعوله وهو: {من نشاء} .(2/634)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
شرح الكلمات:
إن يسرق: أي يأخذ الصواع خفية من حرزه.
فقد سرق أخ له: أي يوسف في صباه.
فأسرها يوسف: أي أخفى هذه التهمة في نفسه.
ولم يبدها لهم: أي لم يظهرها لهم.
أنتم شر وكاناً: أي منزلةً ممن رميتموه بالسرقة.
بما تصفون: أي بحقيقة ما تصفون أي تذكرون.
أباً شيخاً كبيراً: أي يعقوب عليه السلام.
معاذ الله: أي نعوذ بالله من أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده.
متاعنا: أي الصواع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع يوسف عليه السلام وإخوته، إنه بعد أن استخرج يوسف الصواع من متاع أخيه وتقرر ظاهراً أن بنيامين قد سرق، قال إخوته ما أخبر به تعالى عنهم في قوله: {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من أخ له من قبل} 1 أي إن يكن بنيامين قد سرق كما قررتم فلا عجب فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف أيام صباه، كان يسرق الطعام ويعطيه للمساكين وسوق صنماً لأبي أمه فكسره حتى لا يعبده، وليس هذا من السرقة المحرمة ولا المذمومة بل هي محمودة. وقوله تعالى: {فأسرها يوسف2 في نفسه ولم يبدها لهم} أي أسر يوسف قولتهم {فقد سرق أخ له من قبل} ولم يظهرها لهم وقال رداً لقولتهم الخاطئة: {أنتم شر3 مكاناً} ي شر منزلة ممن رميتموه بالسرقة {والله أعلم بما تصفون} أي بحقيقة ما تذكرون. ولما سمعوا قول يوسف وكان فيه نوع من الصرامة والشدة قالوا مستعطفين يوسف مسترحمينه بما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {قالوا يا
__________
1 وجائز أن يكون قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل} : مجرد رد تهمة وجهت إليهم وألزموا بها فدفعوها بقولهم: فقد سرق أخ له من قبل. وهو مجرد بهتان وقول باطل.
2 وجائز أن يكون: {فأسرها يوسف في نفسه} : أي أسرّ كلمة: {أنتم شرّ مكاناً} أي: أخفاها فلم يتلفظ بها إحسانا إليهم ثم جهر بقوله والله أعلمُ كما تصنعون.
3 شرّ: اسم تفضيل بمعنى: أشرّ، والمكان بمعنى: حالة أي: الحال التي أنتم عليها من أشر الأحوال.(2/635)
أيها العزيز1 إن له أباً شيخا ًكبيراً} 2 أي لأخينا والداً كبير السن يعز عليه فراقه ولا يطيقه. {فخذ أحدنا3 مكانه إنا نراك من المحسنين} أي واحداً منا بدلاً مِنهُ ومثلك يفعل ذلك لأنه إحسان وأنت عن المحسنين. فأجابهم بما أخبر تعالى به في قوله: {قال معاذ الله} 4 أي نعوذ بالله {أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون} أي إذا أخذنا من لم يَجْنِ ونترك من جنى أي سرق فقد كنا بذلك ظالمين وهذا مالا نرضاه ولا نوافق عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاعتذار عن الخطأ.
2-قد يضطر الحليم إلى أن يقول ما لم لكن يقوله لولا ما وُوجِهَ به من السوء.
3- مشروعية الاسترحام والاستعطاف لمن احتاج إلى ذلك رجاء أن يرحم ويعطف عليه.
4- حرمة ترك الجاني وأخذ غيره بدلاً منه إذ هذا من الظلم المحرم.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
__________
1 يبدو أن لفظ العزيز لقب لكل من يلي ولاية في تلك البلاد.
2 هذه أسلوب الاستعطاف والاسترحام، اقتضاه موقف يوسف الحازم الصارم فنادوه بعنوان الحكم وذكروا له ضعف أبيهم وحالته النفسية إزاء ولده.
3 أي: خذه عبداً لتسترقه لأنّه سبق أن قيل: إن شريعة يعقوب عليه السلام أنّ السارق يسترق بالسرقة.
4 {معاذ} : مصدر ميمي من العوذ الذي هو مصدر عاذ يعوذ عوذاً إذا تحصّن واستجار فهو مصدرٌ قام مقام الفعل.(2/636)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
(81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
شرح الكلمات:.
خلصوا نجيا: أي اعتزلوا يناجي بعضهم بعضاً.
أخذ عليكم موثقاً: أي عهداً وميثاقاً لتأتن به إلا أن يحاط بكم.
ومن قبل ما فرطتم: أي ومن قبل إضاعتكم لبنيامين فرطتم في يوسف كذلك.
فلن أبرح الأرض: أي لن أفارق الأرض، أي أرض مصر.
وما كنا للغيب حافظين: أي لما غاب عنا ولم نعرفه حافظين.
العير التي أقبلنا فيها: أي أصحاب القافلة التي جئنا معها وهم قوم كنعانيون.
سولت لكم أنفسكم: أي زينت وحسنت لكم أمراً ففعلتموه.
أن يأتيني بهم جميعاً: أي بيوسف وأخويه بنيامين وروبيل.
وتولى عنهم: أي معرضاً عن حديثهم.
وقال يا أسفى: أي يا حزني أحضر هذا أوان حضورك.
فهو كظيم: أي مغموم مكروب لا يظهر كربه.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث على قصة يوسف وإخوته، إنه بعد أن أخذ يوسف أخاه بالسرقة ولم يقبل استرحامهم له بأخذ غيره بدلاً عنه انحازوا ناحية يفكرون في أمرهم وهو(2/637)
ما أخبر به تعالى عنه في قوله: {فلما استيأسوا} أي يئسوا {خلصوا نجياً} 1 أي اعتزلوا يتناجون في قضيتهم {قال كبيرهم} وهو روبيل مخاطباً إياهم2 {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً} يذكرهم بالميثاق الذي أخذه يعقوب عليهم لما طلبوا منه أن يرسل معهم بنيامين لأن عزيز مصر طلبه. {ومن قبل ما فرطتم في3 يوسف} أي وذكرهم بتفريطهم في يوسف يوم ألقوه في غيابة الجب وباعوه بعد خروجه من الجب. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به: {فلن أبرح الأرض} أي أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه. {أو يحكم الله لي} بما هو خير4 {وهو خير الحاكمين} .
ولما أقنعهم بتخلفه عنهم أخذ يرشدهم إلى ما يقولونه لوالدهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله عنه: {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق5 وما شهدنا إلا بما علمنا} 6 أي حيث رأينا الصواع يستخرج من رحل أخينا {وما كنا للغيب حافظين} أي ولو كنا نعلم أن أخانا يحدث له هذا الذي حدث ما أخذناه معنا. كما أننا ما شهدنا بأن السارق يؤخذ بالسرقة إلا بما علمنا منك {واسأل القرية التي كنا فيها} 7 وهي عاصمة مصر {والعير التي أقبلنا فيها} إذ فيها كنعانيون من جيرانك {وإنا لصادقون} في كل ما أخبرناك به. هذا ما أرشد به روبيل إخوته، ولما ذهبوا به واجتمعوا بأبيهم وحدثوه بما علمهم روبيل أن يقولوه فقالوه لأبيهم. رد عليهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} أي زينت لكم أنفسكم أمراً ففعلتموه {فصبر جميل} أي فصبري على ما أصابني صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد غير الله {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} أي يوسف
__________
1 لفظ نجي: يطلق على الواحد والجماعة كلفظ عدو، ولجمع على أنجية قال الشاعر:.
إني إذا ما القوم كانوا أنجية
واضطرب القوم اضطراب الأدشية.
هناك أوصيني ولا توصي بيه2 قيل: هو شمعون إذ كان أكبرهم في الرأي، وقيل: يهوذا وكان أعقلهم. وقيل: هولاوى وهو أبو الأنبياء.
3 ما: مصدرية أي: تفريطكم في يوسف، والجملة معترضة.
4 بأن يطلق سراح أخي فأمضي معه إلى أبينا، أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب حتى أخلّص أخي، أو أغلب فأعذر إذ قال والدي: إلاّ أن يحاط بكم.
5 قرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين سُرّق بتشديد الراء والبناء للمجهول أي: نسب إلى السرقة ورمي بها، السرق: بفتح السين والراء: مصدر سرق والسِّرِق والسرقة: اسم الشيء المسروق.
6 في الآية دليل على مشروعية الشهادة بأي وجه حصل العلم بالبصر، بالسمع باللمس إذ الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعاً، وفي الحديث: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها".
7 المراد: أهل القرية إذ العادة أن القرية لا تنطق، ولو قال: أحد كلّم هنداً وهو يريد غلامها لما جاز.(2/638)
وبنيامين وروبيل {إنه هو العليم} بفقري إليه وحاجتي عنده {الحكيم} في تدبيره لأوليائه وصالحي عباده {وتولى عنهم} أي أعرض عن مخاطبتهم {وقال يا أسفى} أي يا أسفي وشدة حزني أحضر فهذا أوان حضورك {على يوسف} قال تعالى مخبراً عن حاله بعد ذلك {وابيضت عيناه من الحزن} فغلب بياضهما على سوادهما ومعنى هذا أنه فقد الإبصار بما أصاب عينيه من البياض. {فهو كظيم1} أي ممتلىء من الهم والكرب والحزن مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية المناجاة للتشاور في الأمر الهام.
2- مشروعية التذكير بالالتزامات والعهود والمحافظة على ذلك.
3- قد يغلب الحياء على المؤمن فيمنعه من أمور هي خير له.
4- مشروعية النصح وتزويد المنصوح له بما يقوله ويعمله.
5- جواز اتهام البرىء لملابسات أو تهمة سابقة.
6- جواز إظهار التأسف والحزن والشكوى لله تعالى.
قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
__________
1 الكظيم: مبالغة للكظم والكظم: الإمساك النفساني، أي: كاظم للحزن لا يظهره للناس، وكظيم، بمعنى مكظوم كمحزون.(2/639)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
شرح الكلمات:
تالله تفتؤا تذكر: أي والله لا تزال تذكر يوسف.
حرضاً: أي مشرفاً على الهلاك لطول مرضك.
أشكو بثي: أي عظيم حزني إذ البث الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الغير.
فتحسسوا: أي اطلبوا خبرهما بلطف حتى تصلوا إلى النتيجة.
من روح الله: أي من رحمة الله.
ببضاعة مزجاة: أي بدراهم مدفوعة لا يقبلها الناس لرداءتها.
يجزي المتصدقين: أي يثيب المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة.
معنى الآيات:
مازال السياق فيما جرى من حديث بين يعقوب عليه السلام وبنيه أنه بعدما ذكروا له ما جرى لهم في مصر اعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. قالوا له ما أخبر به تعالى في قوله: {قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف1} أي والله لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح حرضاً مشرفاً2 على الموت أو تكون من الهالكين أي الميتين. أجابهم بما أخبر تعالى به عنه: {قال إنما أشكو بثي} 3 أي همي {وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} يريد أن رجاءه في الله كبير وأن الله لا يخيب رجاءه وأن رؤيا يوسف صادقة وأن الله تعالى سيجمع شمله به ويسجد له كما رأى. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} 4 أي التمسوا أخبارهما
__________
1 حرف النفي مقدّر أي: تا الله لا تفتأ، ومعنى: تفتأ: لا تفتر إذ فتىء بمعنى فتر، وهذا القول إشفاق على يعقوب.
2 الحرض: شدة المرض المشفي بصاحبه على الهلاك، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل، من الحزن أو العشق أو الهرم.
3 البث: الهم الشديد.
4 هذا اللفظ دال على أنه تيقن حياة يوسف وذلك إمّا بوحي إلهي أو إلهام أو هداية عقل، وإلا كيف يطلب منهم التحسس على يوسف، والتحسس: شدة التَّطلب، والتعّرف وهو أعم من التجسس.(2/640)
بحواسكم بالسؤال عنهما والنظر إليهما، {ولا تيأسوا من روح الله} أي لا تقنطوا من فرج الله ورحمته وعلل للنهي فقال: {إنه لا ييأس من روح الله} 1 أي من فرجه ورحمته {إلا القوم الكافرون} .
وامتثل الأبناء أمر الوالد وذهبوا إلى مصر وانتهوا إليها ونزلوا بها وأتوا إلى دار العزيز {فلما دخلوا عليه قالوا} ما أخبر تعالى به عنهم {يا أيها العزيز مسنا2 وأهلنا الضر} أي من الجدب والقحط والمجاعة {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي دراهم رديئة مدفوعة لا تقبل كما تقبل الجيدة منها {فأوف3 لنا الكيل} بها {وتصدق علينا} بقبولها على رداءتها {إن الله يجزي4 المتصدقين} أي يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به خيراً.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو الموت.
2- تحرم الشكوى لغير الله عز وجل.
3- حرمة اليأس من الفرج عند الشدة والرحمة عند العذاب.
4- جواز الشكوى إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للإصلاح أو العلاج كأن يقول المحتاج إني جائع أو عار مثلاً وكأن يقول المريض للطيب أشكو ألماً في بطني أو رأسي مثلاً.
5- فضل الصدقة وثواب المتصدقين.
قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ
__________
1 الجملة تعليلية للنهي المتقدم، وهو اليأس من روح الله وهو رحمة الله وفَرَجُه.
2 أي: أصابهم الضرّ.
3 جملة تعليلية لاستدعائهم التصدق عليهم.
4 قال مالك: في الآية دليل على أنّ أجرة الكيال والوزان على البائع، إذ هو باع شيئاً لا بد وأن يبرزه ويفصله لمن اشتراه.(2/641)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
شرح الكلمات:.
إذ أنتم جاهلون: أي لا تعلمون ما يؤول إليه أمر يوسف.
قد منّ الله علينا: أي أنعم علينا بأن جمع بيننا بعد افتراق طويل أنتم سببه.
من يتق ويصبر: أي يتق الله فيخافه فلا يعصيه ويصبر على ما يناله من وصب ونصب.
لقد آثرك الله علينا: أي فضلك علينا بما من عليك من الإنعام والكمال.
لا تثريب عليكم: أي لا عتب عليكم ولا لوم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع يوسف وإخوته، إنه لما وصلوا إليه من أرض كنعان بأمر والدهم وشكوا إليه ما هم فيه من ضيق الحال إذ قالوا له: قد مسنا الضر1 وجئنا ببضاعة2 مزجاة، لما سمع منهم ذلك رق قلبه وارفَضَّت عيناه بالدموع وأراد أن ينهي التكتم الذي كان عليه وهو إخفاء حاله عليهم فقال لهم: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} 3 ذكرهم
__________
1 في الآية دليل على جواز الشكوى عند الضرّ بل يتعين على العبد إذا خاف على نفسه الضرر من جوع أو مرض أن يشكو ذلك لرفعه.
2 بضاعة مزجاة: البضاعة: القطعة من المال يقصد بها شراء شيء يقال: أبضعت الشيء واستبضعته أي: جعلته بضاعة، والمزجاة: المدفوعة الني لا تقبل من الإزجاء الذي هو السوق بدفع، ومنه قوله تعالى: {يزجي سحاباً} يريدون أنها بضاعة رديئة.
3 كأنه يقول: أنا يوسف أنا المظلوم أنا المراد قتله.(2/642)
بما صنعوا به من إلقائه في الجب وبيعه عبداً وبذلك فرقوا بينه وبين والده وأخيه شقيقه وقوله: {إذ أنتم جاهلون} أي بما يصير إليه أمر يوسف وهنا قالوا في اندهاش وتعجب: {أإنك لأنت يوسف} فأجابهم قائلاً بما أخبر تعالى به عنه {قال أنا يوسف1 وهذا أخي قد منّ الله علينا} أي أنعم علينا فجمع بيننا على أحسن حال ثم قال: {إنه من يتق ويصبر} أي يتق الله يخافه فيقيم فرائضه ويتجنب نواهيه ويصبر على ذلك وعلى ما يبتليه به {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} 2 أي في طاعة ربهم والإسلام له ظاهراً وباطناً. وهنا قالوا له ما أخبر به تعالى عنهم: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} 3 أي بالعلم والعمل والفضل {وإن كنا لخاطئين} فيما فعلنا بك، فكان هذا توبة منهم فقال لهم: {لا تثريب4 عليكم اليوم} أي لا عتب ولا لوم ولا ذكر لما صنعتم لأنه يؤذي {يغفر5 الله لكم وهو أرحم الراحمين} سأل الله تعالى له ولهم المغفرة وأثنى على الله تعالى بأنه أرحم الراحمين متعرضاً لرحمته تعالى له ولإخوته. ثم سألهم عن والده فأخبروه أنه قد عمي من الحزن عليه فقال: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} 6 أي يرجع بصيراً كما كان {وأتوني بأهلكم أجمعين} 7 يريد أبويه والنساء والأطفال والأحفاد. وهو تحول كامل للأسرة الشريفة من أرض كنعان إلى أرض مصر تدبيراً من الله العزيز الحكيم.
هداية الآيات
__________
1 الجملة تعليلية، والمعلل له محذوف هو جواب الشرط تقديره: ينعم الله تعالى عليه وينصره ويكرمه، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
2 آثره بكذا: إذا فضّله به، والمصدر: الإيثار، واسم الفاعل مؤثر.
3 التثريب: التوبيخ، والتقريع، واللوم، وفي الحديث الصحيح: "إذا زنت أمَة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يثرِّب عليها" أي: لا يعيّرها. قال الشاعر:
فعفوت عنهم غير مثرّب
وتركتهم لعقاب يوم سرمد
4 لا يصحّ تعليق اليوم بيغفر الله إذ لا يعلم الغفران متى يتم لهم فكيف يصح أن يقال: يغفر الله لكم اليوم أوغدا؟ بل يتعلق اليوم بكلمة لا تثريب.
5 قال عطاء الخرساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منها من الشيوخ ألم تَرَ إلى قول يوسف: يغفر الله لكم، وقال يعقوب: سوف استغفر لكم ربي.
6 لا شك أنّ هذا العلم حصل ليوسف بوحي من الله تعالى، ولعل يوسف بنئ ساعتئذ وأراد يوسف بإلقاء القميص على وجه أبيه المفاجأة السارة لتكون سبباً في رجوع البصر.
7 قال مسروق: كانوا ثلاثة وتسعين نسمة ما بين رجل وامرأة.(2/643)
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن المعاصي لن تكون إلا نتيجة للجهل بالله تعالى وجلاله وشرائعه ووعده ووعيده.
2- فضل التقوى والصبر وما لهما من حسن العاقبة.
3- فضل الصفح والعفو وترك عتاب القريب إذا أساء.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (64) قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)(2/644)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
شرح الكلمات:
ولما فصلت العير: أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى أرض فلسطين.
أني لأجد ريح يوسف: أشتمها لأن الريح حملتها إليه بأمر الله تعالى.
لولا أن تفندّون: أي تسفّهون، لصدقتموني فإني وجدت ريح يوسف.
إنك لفي ضلالك القديم: أي خطإك بإفراطك مي حب يوسف.
فلما أن جاء البشير1: هو يهودَا الذي حمل إليه القميص الملطخ بالدم الكذب.
فارتد بصيراً: أي رجع بصيراً.
سوف استغفر لكم ربي: أجَّلَ الاستغفار لهم إلى آخر الليل أو إلى ليله الجمعة.
على العرش: أي السرير.
وخروا له سجداً: أي سجدوا له تحية وتعظيماً.
من البدو: أي البادية، بادية الشام.
من بعد أن نزع: أي أفسد.
لطيف لما يشاء: أي لطيف في تدبيره لمن يشاء من عباده كما لطف بيوسف.
معنى الآيات:
هذه أواخر قصة يوسف عليه السلام، إنه بعد أن بعث بقميصه إلى والده وحمله أخوه يهودا ضمن القافلة المتجهة إلى أرض كنعان، ولما فصلت2 العير من عريش مصر حملت ريح الصبا ريح يوسف إلى أبيه قال: {إني لأجد ريح يوسف3 لولا أن تفندون} أي تسفهون لصدقتموني فإني4 أجدها فقال الحاضرون مجلسه من أفراد الأسرة والذين لم يعلموا بخبر يوسف بمصر قالوا له: {إنك لفي ضلالك القديم5} أي من خطإك بإفراطك في حب يوسف. واصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فاترد بصيراً كما أخبر يوسف إخوته بمصر. وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذى أخبر تعالى به في قوله: {قال أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} أي أعلم من لطف الله وحسن تبديره ورحمته وإفضاله ما لا تعلمون. وهنا طلبوا من الواحدهم أن يعفوا عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف استغفر لكم ربي إنه الغفور الرحيم} . أجَّلَ لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة. وتنفيذاً لأمر يوسف أخوته بأن يأتوه بأهلهم أجميعن تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر. وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه {فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه} أي ضمّهما إلى موكبه {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا {ورفع} يوسف {أبويه} أمه وأباه {على العرش} سرير الملك {وخروا له سجداً} تحية وتشريفاً. وهنا قال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين.
وقوله {وقد أحسن بي إذ أخرجني الله بنعمه وتذكير للحاضرين بالحادثة والطاف الله تعالى فيها. ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من من إخوته إلى الشيطان تلطيفاً للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة {إن ربي لطيف لما يشاء انه هو العليم} أي بخلقه
__________
1 أن: مزيدة.
2 فصلت: بمعنى: انفصلت، وبانت وبعدت من المكان الذي كانت فيه كقوله تعالى: {فلما فصل طالوت بجنوده} .
3 الريح: الرائحة، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسّة الشّم.
4 لصدّقتموني: جواب لولا، وهو يخاطب أحفاده أي: أولاد أولاده، والتفنيد النسبة إلى الفّند محرّك الفاء والنون وهو اختلال العقل من الهرم ونحوه قال الشاعر:
يا عاذليَّ دعا الملام وأقصرا
طال الهوى وأطلمتا التفنيدا
5 أي: لفي ذهاب عن طريق الحق والصواب، والقائلون ليعقوب هذا هم أحفاده أو بعض الأقارب لجهلهم بمقام يعقوب، وهي عبارة فيها خشونة لكن من الجائز أن تكون في عرفهم لا خشونة فيها ولا إساءة أدب.(2/645)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{الحكيم} في تدبيره وصنعه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- آية عظيمة هي حمل الريح ريح1 يوسف على مسافات بعيدة.
2- آية أخرى هي ارتداد بصر يعقوب بعد العمى بمجرد أن ألقي القميص على وجهه.
3- كرم يعقوب وحسن عفوه وصفحه على أولاده إذ استغفر لهم ربهم فغفر لهم.
4- مشروعية الخروج خارج المدينة لاستقبال أهل الكمال والفضل كالحجاج مثلاً.
5- صدق رؤيا يوسف عليه السلام إذ تمت حرفياً فجلس يوسف على عرشه وخر له أبواه وإخونه ساجدين.
6- قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين إذ تأخرت رؤية يوسف أربعين سنة.
7- تجليات الألطاف الإلهية والرحمات الربانية في هذه القصة في مظاهر عجيبة.
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
شرح الكلمات:
رب: أي يا رب خالقي ورازقي ومالك أمري ومعبودي الذي ليس لي معبود سواه.
من الملك: أي من بعض الملك إذ أصبح ملكًا لمصر فقط.
تأويل الأحاديث: تعبير الرؤا.
فاطر السموات والأرض: أي خالقهما على غير مثال سابق.
أنت ولي: أي متولي أمري في الحياتين الدنيا والآخرة.
__________
1 أي: رائحته.(2/647)
معنى الآية الكريمة:
هذا آخر الحديث عن قصة يوسف، إنه بعد أن جمع الله تعالى شمله بكافة أفراد أسرته وفتح عليه من خزائن رحمته ما فتح، وانقلبت الإحراقات: إحراقات الإلقاء في الجب، والبيع رقيقاً بثمن بخس، وفتنة امرأة العزيز، والسجن سبع سنين؛ انقلبت إلى اشراقات ملكاً ودولة، عزاً ورفعة، مالاً وثراء، اجتماعاً ووئاماً، وفوق ذلك العلم اللدنى والوحي الإلهي وتأويل الأحاديث. وبعد أن قبض الله تعالى والده وتاب على إخوته وهيأهم للنبوة ونبأهم. تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى إلى الجيرة الصالحة إلى رفقة الأخيار آبائه الأطهار إبراهيم وإسحق ويعقوب رفع يديه إلى ربه وقال: {رب قد آتيتني من1 الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليّ في الدنيا والآخرة توفني2 مسلماً وألحقني بالصالحين} واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلاً حتى وافاه الأجل فارتحل والتحق بآبائه وصالحي إخوانه فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح في الأرض والسماء، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- مشروعة دعاء الله تعالى والتوسل إليه بأسمائه وصفاته.
2- مشروعيه العزوف عن الدنيا والرغبة عنها عند حصولها والتمكن منها.
3- فضل الشوق إلى الله والحنين إلى رفقة الصالحين في الملكوت الأعلى.
4- مشروعية سؤال الموت إن لم يكن لضر أو ملل من العبادة، أو رغبة في الراحة لحديث "لا يسألن أحدكم3 الموت لضر نزل به" وهو صحيح. ولكن شوقاً إلى الله تعالى والالتحاق بالصالحين4، عزوفاً عن هذه الدار وشوقاً إلى الأخرى دار السلام.
__________
1 من: للتبعيض، إذ ملك مصر محدود، ولم يملك يوسف على غيره، ومن في قوله: {من تأويل الأحاديث} للجنس أولى مما تكون للتبعيض.
2 قال قتادة: لم يتمن الموت أحد نبي ولا غيره إلاّ يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعِّم، وجمع له الشمل اشتياقاً إلى لقاء ربه عز وجل، وردّ الجمهور هذا وقالوا: إنّما تمنى الموت على الإسلام وما ذكرته في التفسير أرجح وأوضح.
3 في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم احيني ما كانت الحياة خير لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي " رواه مسلم.
4 قيل: كان عمره يوم مات: مائة عام وسبع سنين، وخلف من الولد ثلاثة: افراثيم، ومنشا، ورحمة.(2/648)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)
شرح الكلمات:
ذلك: إشارة إلى ما قص تعالى على رسوله من قصة يوسف وإخوته.
من أنباء الغيب: أي أخبار الغيب.
وما كنت لديهم: أي لدى إخوة يوسف.
إذ أجمعوا أمرهم: أي اتفقوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب.
وهم يمكرون: أي يحتالون على إخراجه وإلقائه في الجب.
عليه من أجر: أي على القرآن وإبلاغه من ثواب أي مال.
إن هو إلا ذِكْرٌ: أي ما هو إلا ذكر أي موعظة يتعظ بها المؤمنون.
معنى الآيات:
بعد ما قص تعالى على رسوله بواسطة الوحي قصة يوسف وإخوته وهي من الغيب المحض إذ لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قومه من العرب يعرفون عن هذه الأحداث التاريخية شيئاً، لاسيما وأن بعض هذه الأنباء تم في ظلام الليل وبعضها في ظلام البئر وبعضها وراء الستور، وبعضها في طبقات السجون وبعضها في قصور الملوك وبعضها في الحضر وبعضها في البدو، وبعد تطاول الزمن وتقادم العصور. بمد أن قص ما قص قال لرسوله(2/649)
محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذلك من أنباء الغيب} 1 أي من أخبار الغيب {نوحيه إليك} أي نعلمك به بطريق الوحي {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} ويؤكد وحيه إليه بذلك فيقول، وما كنت لدى إخوة يوسف في الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه ليلقوه في غيابة الجب تخلصاً منه حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم وذهب بعطفه وحنانه دونهم. وقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} 2 يخبره تعالى أن الإيمان بك وبما جئت به من الوحي والتوحيد والبعث الآخر مثل هذا القصص كاف في التدليل على صحة نبوتك وعلى وجوب الإيمان بما جئت به وتدعو إليه ومع هذا فأكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم ما هم بمؤمنين، ولذلك عوامل من أبرزها أن الإيمان يتعارض مع ما ألفوا من الباطل والشر والفساد، لاسيما شهواتهم وأغراضهم الدنيوية ومن قبل ذلك أن من كتب الله شقاءه لا يؤمن بحال، ولذا فلا تحزن ولا تكرب، وقوله تعالى: {وما تسألهم عليه من أجر} 3 أي على هذا القرآن وإبلاغه إليهم من مال إذ لو كنت سائلهم أجراً على قراءتك عليهم وإبلاغك لهم لكان ذلك مانعاً من قبول ما تدعوهم إليه، ولكن ما دام ذلك يقدم لهم مجاناً فلا معنى لعدم إيمانهم إلا ما كتب الله من خسرانهم فهم عاملون للوصول إليه.
وقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي ما هذا القرآن وما يحمله من هدى ونور وقراءتك له إلا ذكرى أي موعظة يتعظ بها من يسمعها من أهل البصيرة والإيمان من العالمين ممن هيأهم الله تعالى للسعادة والكمال، وقوله تعالى: {وكأين من آية في4 السموات والأرض} أي وكثير من الآيات الدالة على الله وعلى وجوب عبادته وتوحيده فيها
__________
1 هذا الكلام تذييل للقصة بعد انتهائها. إتماماً للفائدة منها، والغيب ما غاب عن علم الناس، وأصل النسب مصدر غاب يغيب غيباً، فسمي به الشيء الغائب.
2 في الآية تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا آلمه عدم إيمان قريش بعد أن سألوه عن هذه القصة ليؤمنوا فلمّا قصها عليهم لم يؤمنوا فآلمه ذلك.
(من) صلة لتقوية النفي.
4 أصل: كأيّن: أي. فدخلت عليها كاف التشبيه، وبنيت معها فصار معناها (كم) قال القرطبي: قد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.(2/650)
في السموات كالشمس والقمر والكواكب والسحب والأمطار، والأرض كالجبال. والأنهار والأشجار والمخلوقات المختلفة يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون غير ملتفتين إليها ولا متفكرين فيها فلذا هم لا يؤمنون ولا يهتدون. وقوله تعالى في الآية الأخيرة (106) {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} 1 يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به وبما جاء به ما يؤمن أكثرهم بالله رباً خالقاً رازقاً إلا وهم مشركون به أصناماً وأوثاناً يعبدونها وهي حقيقة قائمة لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للكون لقال الله، ولكن هو به مشرك يعبد معه غيره وكذلك حال المشركين الذين أخبر تعالى عنهم، وكثير من أهل الجهل في هذه الأمة القرآنية يدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله وهم مؤمنون بالله وبما جاء به رسوله من التوحيد والبعث والجزاء والشرع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بأصدق برهان وأعظم حجة.
2- بيان حكم الله في الناس وهو أن أكثرهم لا يؤمنون فلا يحزن الداعي ولا يكرب.
3- دعوة الله ينبغي أن نقدم إلى الناس مجّاناً، وأجر الداعي على الله تعالى الذي يدعو إليه.
4- ذم الغفلة وعدم التفكر في الآيات الكونية.
5- بيان حقيقة ثابتة وهي أن غير أهل التوحيد وإن آمنوا بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً أكثرهم يشركون به غيره في بعض صفاته وعباداته.
أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في تلبية المشركين: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.(2/651)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109)
شرح الكلمات:
غاشية من عذاب الله: أي نقمة من نقمه تعالى تغشاهم1 أي تحوط بهم.
بغتة: فجأة وهم مقيمون على شركهم وكفرهم.
هذه سبيلي: أي دعوتي وطريقتي التي أنا عليها.
على بصيرة: أي على علم يقين مني.
وسبحان الله: أي تنزيهاً لله وتقديساً أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه.
من أهل القرى: من أهل المدن والأمصار لا من أهل البوادي.
للذين اتقوا: أي الله تعالى بأداء فرائضه وترك نواهيه.
أفلا تعقلون: أي أفلا يعقل هؤلاء المشركون هذا الذي يتلى عليهم ويبين لهم فيؤمنوا ويوحدوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان بالوحي الإلهي والتوحيد والبعث والجزاء وهي أركان الدين العظمى، فقال تعالى: فأمن هؤلاء المشركون والذين لا يؤمن {أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} والذين يمرون بالكثير من آيات الله وهم معرضون، أفأمن هؤلاء {أن تأتيهم غاشية من عذاب الله} أي عقوبة من عذاب تغشاهم وتجللهم بالعذاب الذي لا
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: مجلّلة، وهو معنى تعظيمهم، وتحوط بهم من كل جوانبهم بحيث لا ينجون منها.(2/652)
يطاق {أو تأتيهم الساعة} أي القيامة {بغتة} 1 أي فجأة {وهم لا يشعرون} بوقت مجيئها فتعظم البلية وتشتد عليهم الرزية، وكيف يأمنون وهل يوجد من يؤمنهم غير الله تعالى فما لهم إذا لا يؤمنون ولا يتقون حتى ينجوا مما يتوقع لهم؟ هذا ما دلت علمه الآية الأولى (107) أما الثانية فقد أمر الله تعالى رسوله أن يواصل دعوته دعوة الخير هو والمؤمنون معه فقال: {قل هذه سبيلي} أي قل أيها الرسول للناس هذه طريقتي في دعوتي إلى ربي بأن يؤمن به ويعبد وحده دون سواه. {أدعو إلى الله على بصيرة 2} أي على علم يقين بمن أدعو إليه وبما أدعو به وبالنتائج المترتبة على هذه الدعوة، {أنا ومن اتبعني} من المؤمنين كلنا ندعو إلى الله على بصيرة.
وقوله تعالى: {وسبحان الله} أي وقل سبحان الله أي تنزيهاً له عن دن يكون له شريك أو ولد، وقل كذلك معلناً براءتك من الشرك والمشركين {وما أنا من المشركين} . هذا ما دلت عليه الآية الثانية. أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يخبر رسوله بأنه ما أرسل من قبله من الرسل وهم كثر إلا رجالاً أي لا نساء ولا ملائكة {نوحي إليهم من أهل القرى3} أي الأمصار والمدن، وهذا إبطال لإنكارهم أن يكون الرسول رجلاً من الناس، وقوله تعالى. {أفلم يسيروا} أي هؤلاء المكذبون من قريش وغيرهم {في الأرض} للاعتبار {فينظروا} 4 كيف كان عاقبة من سبقهم من الأمم كعاد وثمود فإنا أهلكناهم ونجينا أهل الإيمان والتوحيد من بينهم مع رسلهم هذه النجاة ثمرة من ثمرات الإيمان والتقوى، {ولدار الآخرة خير5 للذين اتقوا} فإنها دار النعيم المقيم والسلامة من الآهات والعاهات والكبر والهرم والموت والفناء.
قوله تعالى في نهاية الآية {أفلا تعقلون} 6 يوبخ أولئك المشركين المصرين على
__________
1 {فلينظروا} إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم وما جاءوهم به من الهدى ودين الحق من أجل هدايتهم، وسعادتهم.
2 {ولدار الآخرة خير} مبتدأ وخبر، وهل الإضافة هنا كما هي في يوم الخميس وبارحة الأولى؟ خلاف ويُرجحَ أحدَ الرأيين فقول الشاعر:
ولو أقوت عليك ديار عبس
عرفت الذل عرفان اليقين
أي: عرفاناً يقينيا. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال، لأنّ الشيء يضاف إلى غيره ليعرّف به الأجود أن يقال: الصلاة الأولى.
3 قرىء: {أفلا يعقلون} ؟ بالياء والتاء في السبع.
4 منصوب على الحال، ومعناه إصابة من غير توقع {وهم لا يشعرون} : توكيد لمعنى بغتة. هذا كقوله تعالى {تأخذهم وهم يخصمون} .
5 أي: على يقين وحق كقولهم: فلان مستبصر بهذا الأمر.
6 قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم} ردٌ على القائلين {لولا أنزل عليه ملك} .(2/653)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
التكذيب والشرك على عدم تعقلهم وتفهمهم لما يتلى عليهم وما يسمعون من الآيات القرآنية وما يشاهدون من الآيات الكونية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من العقوبات المترتبة على الشرك والمعاصي.
2- تقرير عقيدة البعث الآخر.
3- تعين الدعوة إلى الله تعالى على كل مؤمن تابع للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- تعين العلم اليقيني للداعي إلى الله إذ هو البصيرة المذكورة في الآية.
5- وجوب توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
6- الرسالة من خصوصيات الرجال وليس في النساء رسولة1.
7- بيان ثمرات التوحيد والتقوى في الدنيا والآخرة.
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
شرح الكلمات:
استيأس الرسل: أي يئسوا من إيمان قومهم.
وظنوا أنهم قد كذبوا: أي ظن الأمم المرسل إليهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به
__________
1 حديث: "إن في النساء أربع نبيّات حواء وآسية وأم موسى ومريم" حديث ضعيف لا يصح، وهو معارض لهذه الآية وآيات أخرى.(2/654)
من النصر.
ولا يرد بأسنا: أي عذابنا الشديد.
عن القوم المجرمين: أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي وأجرموا على غيرهم بصرفهم عن الإيمان.
لقد كان في قصصهم: أي الرسل عليهم السلام.
ما كان حديثا يفترى: أي ما كان هذا القرآن حديثاً يختلق.
تصديق الذي بين يديه: أي ما قبله من الكتب الإلهية إذ نزل مصدقاً لها في الإيمان والتوحيد.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد بقوله تعالى: {وما أرسلنا} أي ما زال من أرسلنا مَنْ رسلنا يدعون إلينا ويواصلون دعوتهم ويتأخر نصرهم حتى يدب اليأس إلى قلوبهم1 ويظن أتباعهم أنهم قد أخلفوا ما وعدوا به من نصرهم وإهلاك أعدائهم {جاءهم} بعد وجود اليأس نصرنا2 {فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} . هذا ما جاء في الآية الأولى {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} وهم أهل الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {لقد كان في قصصهم3 عبرة لأولي الألباب} أي كان في قصص الرسل مع أممهم بذكر أخبارهم وتبيان أحوالهم من نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المكذبين عبرة4 يعتبر بها المؤمنون فيثبتون على إيمانهم ويواصلون تقواهم لربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه.
وأولوا الألباب هم أصحاب العقول، وقوله تعالى: {ما كان حديثاً يفترى،} أي لم يكن هذا القرآن العظيم بالحديث الذي في إمكان الإنسان أن يكذب ويختلق مثله بحال من
__________
1 أي: من إيمان قومهم، لأنّ ألله تعالى لم يعلمهم أنّ قومهم سيؤمنون حتى لا يصح منه ظن عدم إيمانهم.
2 المراد بالنصر: العذاب، فلما جاء العذاب بعد طول انتظار نجى الله تعالى رسله والمؤمنين، وأهلك أعداءه وأعداءهم الكافرين.
3 يدخل أوّلا قصة يوسف، وإخوته ثم بافي القصص.
4 فكرة وتذكرة وعظة.(2/655)
الأحوال ولكنه أي القرآن هو {تصديق الذي بين يديه} أي تقدم في النزول عليه كالتوراة والإنجيل فهو مصدق لهما في أصول الإيمان والتوحيد ولا يتنافى معهما وهذا أكبر دليل على أنه وحي إلهي مثلهما، وليس بالكلام المختلق كما يقول المبطلون، وقوله تعالى: {وتفصيل1 كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي كما هو مصدق لما بين يديه هو أيضاً يفصل كل شيء تحتاج إليه البشرية في دينها المزكي لأنفسها الموجب لها رحمة ربها ورضاه عنها وهدى ينير الطريق فيهدي من الضلالة ورحمة تنال المؤمنين به العاملين به المطبقين لشرائعه وأحكامه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في تأخر النصر على رسله وعباده المؤمنين زيادة في الإعداد والتمحيص ثم يأتي نصر الله فيعز أولياء الله ويذل أعداءه.
2- التنديد بالإجرام وهو الإفساد للعقائد والأخلاق والشرائع والأحكام.
3- بيان فضل القرآن وما فيه من الهدى والرحمة لمن طلب ذلك منه.
4- المؤمنون باعتبار أنهم أحياء هم الذين ينتفعون بهداية القرآن ورحمته.
__________
1 أي: مما يحتاج إليه البشر من الحلال والحرام، والشرائع والأحكام.(2/656)
سورة يوسف
...
في حب يوسف. وواصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فارتد بصيراً كما أخبر يوسف إخوته بمصر. وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذي أخبر تعالى به في قوله: {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون} أي أعلم من لطف الله وحسن تدبيره ورحمته وإفضاله مالا تعلمون. وهنا طلبوا من والدهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} .
أجَّلَ لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة. وتنفيذاً لأمر يوسف إخوته بأن يأتوه بأهلهم أجمعين تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر. وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه {فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه} أي ضمّهما إلى موكبه {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا {ورفع} يوسف {أبويه} أمه وأباه {على العرش} سرير الملك {وخروا له سجداً} تحية وتشريفاً1. وهنا قال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين. وقوله {وقد أحسن بي إذ أخرجني2 من السجن وجاء بكم من البدو3 من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} هذا ثناء على الله بنعمه وتذكير للحاضرين، بالحادثة والطاف الله تعالى فيها. ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من السجن. ويعني بقوله وجاء بكم من البدو أي من أرض كنعان. ونسب الإساءة التي كانت من إخوته إلى الشيطان تلطيفاً للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة {إن ربي4 لطيف لما يشاء انه هو العليم} أي بخلقه
__________
1 على عادة أهل ذلك الزمان، وهو سجود تحية لا عبادة.
2 أحسن بي وإليّ بممنى واحد أي قدم أي صنع إليّ معروفاً. بجلب خير أو دفع ضر.
3 أي: البادية، والبدو ضد الحضر، والاسم مشتق من البُدوّ الذي هو الظهور والنزغ عبارة عن إدخال الفساد في النفس، شبه بنزغ الراكب الدابة وهو يريدها تسرع.
4 اللطف: التدبير الملائم، واللطيف: صاحب اللّطف.(2/546)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
المجلد الثالث
سورة الرعد
مكية وآياتها ثلاث وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
شرح الكلمات:
المر: هذه الحروف المقطعة تكتب المر وتُقرأ ألف لاَمْ مِيْم را. والله أعلم بمراده بها.
بغير عمد ترونها: العمد جمع عمود أي مرئية لكم إذ الجملة نعت.(3/5)
ثم استوى على العرش1: استواء يليق به عز وجل.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللها بمواصلة دورانها لبقاء الحياة إلى أجلها.
هو الذي مد الأرض: أي بسطها للحياة فوقها.
رواسي: أي جبال ثوابت.
زوجين اثنين: أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والأصفر والأسود مثلا.
يغشى الليل النهار: أي يغطيه حتى لا يبقى له وجود بالضياء.
لآيات: أي دلالات على وحدانية الله تعالى.
قطع متجاورات: أي بقاع متلاصقات.
ونخيل صنوان: أي عدة نخلات في أصل واحد يجمعها، والصنو الواحد والجمع صنوان.
في الأكل: أي في الطعم هذا حلو وهذا مرّ وهذا حامض، وهذا لذيذ وهذا خلافه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {المرَ} الله أعلم بمراده به. وقوله {تلك آيات الكتاب} الإشارة إلى ما جاء من قصص سورة يوسف، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل فمن جملة آياتها ما قص الله تعالى على رسوله. وقوله: {والذي2 أنزل إليك من ربك} 3 وهو القرآن العظيم {الحق} أي هو الحق الثابت. وقوله {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي مع أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فإن أكثر الناس من قومك وغيرهم لا يؤمنون بأنه وحي الله وتنزيله فيعملوا به فيكملوا ويسعدوا. وقوله تعالى: {الله الذي رفع السموات والأرض بغير عمد4
__________
1 عقيدة السلف في هذه الصفة: وجوب الإيمان بها وإمرارها كما ذكرها تعالى بلا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، وكذا سائر صفاته عزّ وجلّ.
2 يصح أن تكون الواو عاطفة صفة على أخرى، أي: عطفت الذي على الكتاب فالموصول في محل جرّ نعت للكتاب، وهو نظير قول الشاعرة
إلى الملِك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
ويكون المعنى: تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك والحق: مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الحق. وما في التفسير واضح قال به مجاهد وقتاده.
3 قال مقاتل: نزلت هذه الآية رداً على المشركين القائلين: أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي بالقرآن من تلقاء نفسه.
4 في الآيات استدلال بقدرة الله وعلمه وحكمته على أن القرآن الكريم وحيه أوحاه إلى رسوله وتنزيله أنزله عليه ليس كما يدّعي المشركون.(3/6)
ترونها} : أي أن إلهكم الحق الذي يجب أن تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه الله الذي رفع السموات على الأرض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء من سنن. وقوله: {ثم استوى على العرش} أي خلق السموات والأرض ثم استوى على عرشه استواء يليق بذاته وجلاله يدبر أمر الملكوت وقوله: {وسخر الشمس والقمر} أي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيراً منتظماً إلى نهاية الحياة، وقوله {كل يجري} أي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في شهر كامل وهما يجريان هكذا إلى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله: {يدبر الأمر} أي يقضي ما يشاء في السموات والأرض ويدبر أمر مخلوقاته بالإماتة والإحياء والمنع والإعطاء كيف يشاء وحده لا شريك له في ذلك. وقوله: {يفصل الآيات} أي القرآنية بذكر القصص وضرب الأمثال وبيان الحلال والحرام كل ذلك ليهيئكم ويعدكم للإيمان بلقاء ربكم فتؤمنوا به وتعبدوا الله وتوحدوه في عبادته فتكملوا في أرواحكم وأخلاقكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} 1 أي بسطها {وجعل فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت {وأنهاراً} أي وأجرى فيها أنهاراً {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي نوعين وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون منه الأصفر والأسود، والتين منه الأبيض والأحمر وقوله: {يغشى الليل النهار} أي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا وتستريح أبدانكم من عناء النهار وقوله: {إن في ذلك} أي المذكور في هذه الآية الكريمة من مد الأرض وجعل الرواسي فيها وإجراء الأنهار، وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار، في كل هذا المذكور {لآيات} أي علامات ودلائل واضحات على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى الإيمان بوعده ووعيده، ولقائه وما أعد من نعيم لأوليائه وعذاب لأعدائه، وقوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} 2 أي بقاع من الأرض بعضها إلى جنب بعض متلاحقات هذه تربتها طيبة وهذه تربتها خبيثة ملح سبخة وفي الأرض أيضاً جنات أي بساتين من
__________
1 لمّا ذكر تعالى آياته الكونية في السماء ذكر آياته الكونية في الأرض استدلالاً بها على قدرته وعلمه وحكمنه الموجبة لتوحيده وعبادته دون سواه.
2 أي: وأخرى غير متجاورات فحدفت على حدّ قوله: {سرابيل تقيكم الحرّ} حيث حذف المقابل وهو: تقيكم البرد.(3/7)
أعناب وفيها زرع ونخيل {صنوان} 1 النخلتان والثلاث في أصل واحد، {وغير صنوان} كل نخلة قائمة على أصلها، وقوله: {تسقى} أي تلك الأعناب والزروع والنخيل {بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} 2 وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج، وقوله: {إن في ذلك} أي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلاف الطيب وعدمه وجنات الأعناب والنخيل وسقيها بماء واحد واختلاف طعومها وروائحها وفوائدها {لآيات} 3 علامات ودلائل باهرات على وجوب الإيمان بالله وتوحيده ولقائه، ولكن {لقوم يعقلون} أما الذين فقدوا عقولهم لاستيلاء المادة عليها واستحكام الشهوة فيها فإنهم لا يدركون ولا يفهمون شيئاً فكيف إذاً يرون دلائل وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدونه ويتقربون إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي الإلهي ونبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- تقرير عقيدة التوحيد وأنه لا إله إلا الله.
3- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.
4- فضيلة التفكر في الآيات الكونية.
5- فضيلة العقل للاهتداء به إلى معرفة الحق وإتباعه للإسعاد والإكمال.
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
__________
1 الصنو: المثل، ومنه الحديث: "عمَ الرجل صنو أبيه" ولا فرق بين التثنية والجمع في: (صنوان) إلاّ بكسر نون المثنى، وتنوين نون الجمع، فتقول: هذان صنوان وهؤلاء صنوان.
2 كالدقل والحلو والحامض، وبنو آدم كذلك الأصل واحد والخلاف قائم هذا مؤمن وهذا كافر، هذا صالح وهذا فاسد، كما قال الشاعر:
الناس كالنبت والنبت ألوان
منها شجر الصندل والكافور والبان
ومنها شجر ينضح طول الدهر قطران
3 في هذه الآيات دلائل الوحدانية وعظم الصمدية والإرشاد لمن ضل عن معرفته حيث نبّه تعالى بقوله: {متجاورات} ومع تجاورها قطعة عذبة وأخرى ملحة، قطعة طيّبة وأخرى خبيثة كما أنّ التربة واحدة، وتسقى بماء واحد وتختلف طعوم الثمار وألوانه وخصائصه ومنافعه فهذا لن يكون صادراً إلاّ عن ذي قدرة لا تُحدّ وعلم لا ينتهي وحكمة لا يخلو منها شيء، وهو الله تعالى، وأين الطبيعة العمياء الصماء التي لا علم لها ولا إرادة من الله خالق كل شيء العليم بكل شيء؟(3/8)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
شرح الكلمات:
وإن تعجب: أي يأخذك العجب من إنكارهم نبوتك والتوحيد.
فعجب: أي فأعجب منه إنكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح الأدلة وقوة الحجج.
لفي خلق جديد: أي نرجع كما كنا بشراً أحياء.
الأغلال في أعناقهم: أي موانع من الإيمان والاهتداء في الدنيا، وأغلال تشد بها أيديهم إلى أعناقهم في الآخر.
بالسيئة: أي بالعذاب.
قبل الحسنة: أي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب.
المثلات: أي العقوبات واحدها مَثُله التي قد أصابت المكذبين في الأمم الماضية.
لولا أنزل عليه: أي هلاَّ أنزل، ولولا أداة تحضيض كهلاَّ.(3/9)
آية من ربه: أي معجزة كعصا موسى وناقة صالح مثلاً.
ولكل قوم هاد: أي نبي يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه وحده ولا يشركون به غيره.
ما تحمل كل أنثى: أي من ذكر أو أنثى واحداً أو أكثر أبيض أو أسمر.
وما تغيض الأرحام: أي تنقص من دم الحيض، وما تزداد منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى الإيمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم القيامة للحساب والجزاء، فقوله تعالى في الآية الأولى (5) {وإن تعجب} 1 يا نبينا من عدم إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب أكبر هو عدم إيمانهم بالبعث الآخر، إذ قالوا في إنكار وتعجب: {أئذا متنا2 وكنا تراباً أئنا لفي خلق جديد} أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى؟ قال تعالى مشيراً إليهم مسجلاً الكفر عليهم ولازمه وهو العذاب {أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال3 في أعناقهم} وهي في الدنيا موانع الهداية كالتقليد الأعمى والكبر والمجاحدة والعناد، وفي الآخرة أغلال توضع في أعناقهم من حديد تشد بها أيديهم إلى أعناقهم، {وأولئك أصحاب النار} أي أهلها {هم فيها خالدون} أي ماكثون أبداً لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
وقوله تعالى في الآية الثانية (6) {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} يخبر تعالى رسوله مقرراً ما قال أولئك الكافرون بربهم ولقائه ونبي الله وما جاء به، ما قالوه استخفافاً واستعجالاً وهو طلبهم العذاب الدنيوي، إذ كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخوفهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فهم يطالبون به كقول بعضهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم،} قبل طلبهم الحسنة وهذا لجهلهم وكفرهم، وإلا لطالبوا بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة التي هي الدمار والعذاب.
__________
1 أصل التعجب: تغير النفس بما تخفي أسبابه، والمخاطب في هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون تابعون له.
2 مثل هذا الاستفهام وقع في تسع سور من القرآن في أحد عشر موضعاً ومن القرّاء من استفهم في الموضعين أئذا كنا تراباً ائنا لمبعوثون ومنهم من استفهم في موضع واحد، فمن استفهم في الأول والثاني قصد المبالغة في الإنكار فأتى به في الجملة الأولى وأعاده في الثانية تأكيداً له ومن أتى به مرّة واحدة لحصول المقصود به لأنّ كل جملة مرتبطة بالثانية فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى (أفادهُ الجمل) .
3 الأغلال: جمع غل وهو طوق من حديد تشدّ به اليد إلى العنق.(3/10)
وقوله تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات} 1 أي والحال أن العقوبات قد مضت في الأمم من قبلهم كعقوبة الله لعاد وثمود وأصحاب الأيكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعاداً لها واستخفافاً بها أين ذهبت عقولهم؟ وقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس2 على ظلمهم} وهو ظاهر مشاهد إذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم يغفر لأصحابه لما ترك على الأرض من دابة، وقوله: {وإن ربك لشديد العقاب} أي على من عصاه بعد أن أنذره وبين له ما يتقي فلم يتق ما يوجب له العذاب من الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (7) {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه} ! يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة: {لولا} أي هلا أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته، فيرد تعالى عليهم بقوله: {إنما أنت منذر} والمنذر المخوف من العذاب وليس لازماً أن تنزل معه الآيات، وعليه فلا تلتفت إلى ما يطالبون به من الآيات، واستمر على دعوتك فإن لكل قوم3 هادياً وأنت هادي هذه الأمة، وداعيها إلى ربها فادع واصبر.
وقوله تعالى في الآية الرابعة (8) {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} 4 أي من ذكر أو أنثى واحداً أو أثنين أبيض أو أسمر سعيداً أو شقياً، وقوله: {وما تغيض5 الأرحام وما تزداد} أي ويعلم ما تغيض الأرحام من دماء الحيض6 وما تزداد منها إذ غيضها ينقص من مدة الحمل وازديادها يزيد في مدة الحمل فقد تبلغ السنة أو أكثر، وقوله: {وكل شيء عنده بمقدار} أي وكل شيء في حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص في ذات ولا صفة
__________
1 المثلات: جمع مثلة، وهي العقوبة نحو: صدُقة وصدُقات، وتضم الميم وتسكن الثاء مثله كغرفة والجمع مُثل كقُرب وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالاً تمثل بها العقوبات.
2 قال ابن عباس رضي الله عنه هذه أرجى آية في كتاب الله، قال سعيد بن المسيّب، لمّا نزلت قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحداً عيشُه ولولا عقابه ووعيده وعذابه لا تكل كل أحد".
3 هادي كل امة رسولها الذي بعث فيها وخلفاء الأنبياء وحواريوهم هداة يهدون من بعدهم والله يهدي من يشاء.
4 قال القرطبي: من ذكر أو أنثى: صَبيحٌ أو قبيح صالح أو طالح. وقوله: {كل أنثى} يفيد عموم كل أنثى في الإنسان والحيوان، وهو كذلك.
5 العادة أن انحباس الحيض دال على العلوق أي: الحمل، وفيضان الدم دال على عدم الحمل، وتفسير الآية بهذا حسن، فالله تعالى يعلم ما تغيض الأرحام من الدم، لانشغال الرحم بالعلقة ثمّ بالجنين، وما تزداد من الدم حتى يفيض عنها، ويخرج، وهو دم من لا حمل لها. وما في التفسير وجه وهذا الوجه أوضح.
6 استدل بالآية من قال: الحامل لا تحيض وهو أبو حنيفة. والجمهور على أنها تحيض كما استدل بها كل من قال: الحمل تزيد مدته إلى أربع سنوات، وهو الجمهور، وخالف الظاهرية في ذلك.(3/11)
ولا حال، ولا زمان ولا مكان، وقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي كل ما غاب عن الخلق، وما لم يغب عنهم مما يشاهدونه أي العليم بكل شيء، وقوله: {الكبير المتعال} أي الذي لا أكبر منه وكل كبير أمامه صغير المتعال على خلقه المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو الله وهذه صفاته فهل يليق بعاقل أن ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر عليه أن يوحي بما شاء على من شاء من عباده؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر على من يشاء من عباده؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر على هذه قدرته وعمله ان يحي العباد بعد ان يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به؟ اللهم لا اذا فالمنكرون على الله ما دعاهم الى الايمان به لا يعتبرون عقلاء وان طاروا في السماء وغاصوا في الماء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-تقرير أصول العقيدة الثلاثة: التوحيد والنبوة البعث والجزاء الآخر.
2- صوارف الإيمان والتي هي كالأغلال ير التقليد الأعمى، والكبر والعناد.
3- عظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه.
4-تقرير عقيدة القضاء والقدر.
سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا(3/12)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
شرح الكلمات:
وسارب بالنهار: أي ظاهر في سربه أي طريقه.
له معقبات: أي ملائكة تتعقبه بالليل والنهار.
من أمر الله: أي بأمر الله تعالى وعن إذنه وأمره.
لا يغير ما بقوم: أي من عافية ونعمة إلى بلاء وعذاب.
ما بأنفسهم: من طهر وصفاء بالإيمان والطاعات إلى الذنوب والآثام.
وما لهم من دونه من وال: أي وليس لهم من دون الله من يلبي أمرهم فيدفع عنهم العذاب.
من خيفته: أي من الخوف منه وهيبته وجلاله.
وهو شديد المحال: أي القوة والمماحلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر جلال الله وعظيم قدرته وسعة علمه، قال تعالى في هذه الآية: {سواء منكم1 من أسر القول ومن جهر به} فالله يعلم السر والجهر وأخفى {ومن هو مستخف بالليل} يمشى في ظلامه ومن هو {سارب بالنهار} أي يمشي في سربه2 وطر يقه مكشوفاً معلوماً لله تعالى، وقوله تعالى: {له معقبات3 من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من
__________
1 هذه الآية كالنتيجة لما تقدم من الدلائل على علم الله وقدرته وحكمته الموجبة لألوهيته وفيها تعريض بالمشركين المتآمرين على قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أذيته، وسواء: بمعنى مستو، وهو اسم يكون بين شيئين كالسر هنا والجهر أي: مستوى عنده السر والجهر.
2 السَّرب: بفتح السين وسكون الراء: الطريق، والسارب: اسم فاعل من سرب إذا ذهب.
3 جمع معقبة وهو مأخوذ من العقب الذي هو مؤخر الرجل فكل من اتبع آخر فقد تعقبه فهو متعقِّب له، وعقبه يعقبه فهو عاقب له: إذا جاء بعده، والمعقبات هنا: الملائكة لحديت "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" إذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل وهكذا.(3/13)
أمر الله} جائز أن يعود الضمير في "له" على من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، فيكون المراد من المعقبات الحرس والجلاوزة الذين يحرسون السلطان من أمر الله تعالى في نظرهم، ولكن إذا أراده الله بسوء فلا مرد له وما له من دون الله من وال يتولى حمايته والدفاع عنه، وجائز أن يعود على الله تعالى ويكون المراد من المعقبات الملائكة الحفظة1 والكتبة للحسنات والسيئات ويكون معنى من أمر الله2 أي بأمره تعالى وإذنه، والمعنى صحيح في التوجيهين للآية وإلى الأول ذهب ابن جرير وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين، وقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي أنه تعالى لا يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في الشهوات والضرب في سبيل الضلالات، وقوله تعالى: {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} هذا إخبار منه تعالى بأنه إذا أراد بقوم أو فردٍ أو جماعة سوءاً ما أي ما يسوءهم من بلاء وعذاب فلا مرد له بحال من الأحوال بل لا بد وأن يمسهم، ولا يجدون من دون الله من وال يتولى صرف العذاب عنهم، أما من الله تعالى فإنهم إذا أنابوا إليه واستغفروه وتابوا إليه فإنه تعالى يكشف عنهم السوء ويصرف عنهم العذاب، وقوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفاً} من الصواعق من جهة وطمعاً في المطر من جهة أخرى {وينشىء السحاب الثقال} أي وهو الذي ينشئ3 أي يبدء السحاب الثقال الذي يحمل الأمطار {ويسبح الرعد بحمده} 4 أي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو ملك موكل بالسحاب يقول:
__________
1 الحفظة: جمع حافظ: ملائكة موكلون بالعبد يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجن، والشياطين، فإذا جاء أمر الله أي: قدره تخلّوا عنه والكتبة: جمع كاتب: ملك يكتب الحسنات وآخر يكتب السيئات.
2 ذكر القرطبي: أن العلماء رحمهم الله تعالى ذكروا أن الله سبحانه وتعالى جعل أوامره على وجهين. أحدهما: قضى وقوعه وحلوله بصاحبه فهذا لا يدفعه أحد، والثاني: قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة.
3 إنشاء السحاب: تكوينه من عدم بإثارة الأبخرة التي تتجمع سحاباً، والسحاب اسم جمع لسحابة، وسميت سحابة لأنها تسحب من مكان إلى مكان.
4 الباء للملابسة: أي يسبّح الله تسبيحاً ملابساً لحمده، والتسبيح، التنزيه.(3/14)
سبحان الله وبحمده، وقوله: {والملائكة1 من خيفته} 2 أي خيفة الله وهيبته وجلاله فهي لذلك تسبحه أي تنزهه عن الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها الله تعالى، وقوله تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله} 3 أي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته {وهو شديد المحال} 4 هذه الآية نزلت فعلاً في رجل5 بعث إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يدعوه إلى الإسلام فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من رسول الله؟ وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة أثناء كلامه فذهبت بقحف رأسه، ومعنى شديد المحال أي القوة والأخذ والبطش.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سعة علم الله تعالى.
2- الحرس والجلاوزة لمن يستخدمهم لحفظه من أمر الله تعالى لن يغنوا عنه من أمر الله شيئاً.
3- تقرير عقيدة أن لكل فرد ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون، ومنهم الحفظة للإنسان من الشياطين والجان.
4- بيان سنة أن النعم لا تزول إلا بالمعاصي.
5- استحباب قول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عند سماع الرعد لورود ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألفاظ مختلفة.
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ
__________
1 والملائكة تسبح أيضاً من خوف الله تعالى.
2 {من خيفته} من: تعليلية أي: لأجل الخوف منه تعالى.
3 {يجادلون} : المفعول محذوف تقديره: يجادلونك وأتباعك المؤمنين في شأن توحيد الله تعالى ولقائه ونبوة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(المحال) إن كان من الحول والميم زائدة فهو بمعنى شديد القوى، وإن كانت الميم أصلية فالمحال: بكسر الميم: فهو فِعال بمعنى الكيد، وفعله محل وتمحّل إذا تحيّل، إذ المجادلون كانوا يتحيلون في أسئلتهم، فأعلمهم الله أنه أقوى منهم، وأشد كيداً منهم.
5 قيل: نزلت في يهودي، وقيل: في أربد بن ربيعة، وعامر بن الطفيل، وقد هلك أربد بصاعقة نزلت به، وهلك عامر بغدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول.(3/15)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
شرح الكلمات:
له دعوة الحق: أي لله تعالى الدعوة1 الحق أي فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو.
ليبلغ فاه: أي الماء فمه.
إلا في ضلال: أي في ضياع لا حصول منه على طائل.
بالغدو والآصال: أي البُكُر جمع بكرة، والعشايا جمع عشية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد بالأدلة والبراهين، قال تعالى: {له دعوة الحق} أي لله سبحانه وتعالى الدعوة الحق وهي أنه الإله الحق الذي لا إله إلا هو، أما غيره فإطلاق لفظ الإله إطلاق باطل، فالأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله إطلاق لفظ إله عليه إطلاق باطل، والدعوة إلى عبادته باطلة، أما الدعوة الحق فإنها لله وحده.
وقوله تعالى: {والذين يدعون من دونه} أي من دون الله من سائر المعبودات {لا يستجيبون لهم بشيء} أي لا يجيبونهم بإعطائهم شيئاً مما يطلبون منهم {إلا كباسط
__________
1 أي: الدعوة الصدق لله تعالى لأنه هو الذي يستجيب ويعطي السؤال وأما دعوة الأصنام، فإنها دعوة كذب وباطل، فإطلاق الإله على الله إطلاق حق وصدق، وإطلاق إله على صنم أو مخلوق فهو إطلاق كذب وباطل.(3/16)
كفيه إلى الماء} 1 أي إلا كاستجابة2 من بسط يديه أي فتحهما ومدهما إلى الماء والماء في قعر البئر فلا كفاه تصل إلى الماء ولا الماء يصل إلى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى يهلك عطشاً، هذا مثل من يعبد غير الله تعالى بدعاء أو ذبح أو نذر أو خوف أو رجاء فهو محروم الاستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبة إلا النار والخسران وهو معنى قوله تعالى {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} 3 أي بطلان وخسران، وقوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات} أي الملائكة {والأرض} أي من مؤمن يسجد طوعاً، ومنافق أي يسجد كرها، 4 {وظلالهم} تسجد أيضاً {بالغدو} أوائل النهار، {والآصال} 5 أواخر النهار.
ومعنى الآية الكريمة: إذا لم يسجد الكافرون أي لم ينقادوا لعبادة الله وحده تعالى فإنَّ لله يسجد من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الجن والإنس المؤمنون يسجدون طائعين والكافرون يسجدون إذا أكرهوا على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين، وظلالهم تسجد في البكر والعشايا كما أنهم منقادون لقضاء الله تعالى وحكمه فيهم لا يستطيعون الخروج عنه بحال فهو الذي خلقهم وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع وركوع أظهر من هذا؟ وقوله تعالى: {قل من رب السماوات والأرض} أي من خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما؟ وأمر رسوله أن يسبقهم إلى الجواب {قل الله} إذ لا جواب لهم إلا هو، وبعد أن أقروا بأن الرب الحق هو الله، أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم موبخاً مقرعاً {أفاتخذتم من دونه أولياء6} ، أي شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملكوا لكم نفعاً أو يدفعون عنكم ضراً فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون، ومبالغة في البيان وإقامة للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلان الشرك والتنديد أمر رسوله أن يقول لهم: {هل يستوى الأعمى
__________
1 ضرب الله تعالى هذا المثل المائي لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد، قال الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها
من الودّ مثل القابض الماء باليد
2 هذا التفسير مروي عن علي رضي الله عنه.
3 الضلال: التلف والضياع، والجملة. بيان لخيبة المشركين في عبادة أصنامهم ودعائها وتقرير لخسرانهم.
4 وكافر يسجد بخضوعه لأحكام الله تعالى الجارية عليه ولا يقدر على ردّها من غِنى وفقر، وصحة ومرض وسعادة وشقاوة.
5 الآصال: جمع أصل: وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب. وجمع الجمع أصائل، قال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهلّه
وأقعد في أفيائه بالأصائل
6 الاستفهام للتوبيخ والتقرير.(3/17)
والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور1} ؟ والجواب قطعاً لا إذاً فكيف يستوى المؤمن والكافر، وكيف يستوي الهدى والضلال، فالمؤمن يعبد الله على بصيرة على علم أنه خالقه ورازقه يعلم سره ونجواه يجيبه إذا دعاه أرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه، والكافر المشرك يعبد مخلوقاً من مخلوقات الله لا تملك لنفسها فضلاً عن عابديها نفعاً ولا ضراً لا تسمع نداءً ولا تجيب دعاء، المؤمن يعبد الله بما شرع له من عبادات وبما طلب منه من طاعات وقربات، والكافر المشرك يعبد الباطل بهواه، ويسلك سبيل الغيّ في الحياة.
وقوله: {أم جعلوا2 لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} أي بل جعلوا لله شركاء فخلقت تلك الشركاء مخلوقات كخلق الله فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظناً منهم أنها خلقت كخلق الله؟ والجواب لا فإنها لم تخلق ولا تستطيع خلق ذبابة فضلاً عن غيرها إذاً فكيف تصح عبادتها وهي لم تخلق شيئاً، وقوله تعالى: {قل الله خالق كل3 شيء وهو الواحد القهار} أي قل أيها الرسول للمشركين عند اعترافهم بأن آلهتهم لم تخلق شيئاً قل لهم: الله خالق كل شيء وهو الواحد الذي لا شريك له ولا ند ولا مِثْلَ، القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار، هو المستحق للعبادة الواجب له الطاعة، الإيمان به هدى والكفر به ضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الحق لله وحده فهو المعبود بحق لا إله غيره ولا رب سواه.
2- حرمان المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم.
3- الخلق كلهم يسجدون لله طوعاً أو كرهاً إذ الكل خانع خاضع لحكم الله وتدبيره فيه.
__________
1 أم: للإضراب الانتقالي من قضية إلى أخرى واختيار العمى والبصر والنور والظلمات لبيان أنّ حال المؤمنين وحال الكافرين في تضاد فالمؤمنون مبصرون يمشون في النور، والكافرون عمي يمشون في الظلمات.
2 هذا من تمام الاحتجاج والاستفهام للإضراب الانتقالي، وهو للتهكم بالمشركين، فالمعنى: لو جعلوا لله شركاء يخلقون فخلقوا كما يخلق الله فتشابه الخلق عليهم لكانوا معذورين ولكنهم لم يخلقوا ولن يخلقوا.
3 في الآية رد على الملاحدة الشيوعيين الذين يكرون وجود الله جل جلاله ورد على القدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أفعالهم والله يقول: {والله خالق كل شيء} فلا يخرج شيء عن كونه مخلوقاً لله تعالى.(3/18)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
4- مشروعية السجود للقارئ والمستمع إذا بلغ هذه الآية {وظلالهم بالغدو والآصال} ويستحب أن يكون ظاهراً مستقبلاً القبلة، ويكبر عند الخفض والرفع ولا يسلم.
5- بطلان الشرك إذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل1.
6- وجوب العبادة لله تعالى.
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
شرح الكلمات:.
فسالت أودية بقدرها: أي بمقدار مائها الذي يجري فيها.
زبداً رابياً: أي غثاء عالياً إذ الزبد هو وَضَرُ غليان الماء أو جريانه في الأنهار.
ومما يوقدون عليه في النار: أي كالذهب والفضة والنحاس.
ابتغاء حلية أو متاع2.: أي طلباً لحلية من ذهب أو فضة أو متاع من الأواني.
زبد مثله: أي مثل زبد السيل.
فأما الزبد: أي زبد السبل أو زبد ما أوقد عليه النار.
__________
1 إذ الحقل لا يُجيز عبادة مخلوق مربوب لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره موتاً ولا حياة بل ولا ضراً ولا نفعاً والنقل حرّم الشرك بجميع أنواعه الأكبر والأصغر والخفي والجلي قال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} من الشرك والشركاء.
2 {ابتغاء} : مفعول لأجله، والحلية: ما يتحلى به، أي يتزيّن، والمتاع ما يتمتع به وينتفع.(3/19)
فيذهب جفاء1: أي باطلاً مرمياً به بعيداً إذ هو غثاء ووضر لا خير فيه.
فيمكث في الأرض: أي يبقى في الأرض زمناً ينتفع به الناس.
للذين استجابوا لربهم الحسنى: أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة.
لم يستجيبوا: أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه.
لافتدوا به: أي من العذاب.
سوء المهاد: وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه لا يغفر لهم منه شيء.
وبئس المهاد: أي الفراش الذي أعدوه لأنفسهم وهو جهنم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل، للحق في بقائه، والباطل في اضمحلاله وتلاشيه فقال: {أنزل} أي الله {من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها2} أي بحسب كبرها وصغرها لأن الوادي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، فاحتمل السيل أي حمل سيل الماء في الوادي زبداً رابياً أي غثاء ووضراً عالياً على سطح الماء، هذا مثل مائي، ومثل ناري قال فيه عز وجل: {ومما يوقدون عليه في النار3} أي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون {ابتغاء حلية} أي طلباً للحلية، {أو متاع} أي طلباً لمتاع يتمتع به كالأوانى إذ الصائغ أو الحداد يضع الذهب أو الفضة أو النحاس في البوتقة وينفخ عليها بالكير فيعلو ما كان فاسداً غير صالح على صورة الزبد4 وما كان صالحاً يبقى في البوتقة وهو الذي يصنع منه الحلية والمتاع، وقوله تعالى: {كذلك} أي المذكور من الأمور الأربعة مثلي الحق وهما الماء والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر {فأما الزبد فيذهب جفاء} أي باطلاً
__________
1 الجفاء: ما أجفاه الوادي أي: رمى به.
2 {أودية} جمع واد، والوادي اسم للماء السائل هنا إذ الوادي وهو أخدود بين مرتفعين لا يسيل وإنما يسيل الماء فيه، ومعنى: {بقدرها} : أي: بقدر ملئها.
3 هذا المثل الثاني والأول هو مثل الماء السائل في الوادي وما يحمل من زبد عالٍ.
4 هو معنى قوله تعالى: {زبد مثله} أي زبد ما يعلو الذهب والفضة والحديد كزبد ما يعلو ماء السيل.(3/20)
مرمياً به يرميه السيل إلى ساحل الوادي فيعلق بالأشجار والأحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته، وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع يبقى في بوتقة الصائغ1 والحداد وقوله تعالى: {كذلك يضرب الله الأمثال} أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلاشيه وإن علا وطغا في بعض الأوقات، {يضرب} أي بين الأمثال، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (17) وأما الآية الثانية (18) فقد أخبر تعالى بوعد له ووعيد أما وعده فلأهل طاعته بأن لهم الحسنى2 الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده، 3 فقال تعالى في وعده: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} وقال في وعيده: {والذين لم يستجيبوا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً} أي من مال ومتاع {ومثله معه} أيضاً لافتدوا به من العذاب الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد، ويعلن عن الوعيد فيقول: {أولئك} أي الأشقياء {لهم سوء الحساب} وهو أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر لهم منها شيء {ومأواهم جهنم} أي مقرهم ومكان إيوائهم {وبئس المهاد} أي الفراش جهنم لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- ثبات الحق، واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى.
3- بيان وعد الله للمستجيبين له بالإيمان والطاعة وهي الجنة.
4- بيان وعيد الله لمن يستجب له بالإيمان والطاعة.
__________
1 هذا مثل للحق والباطل إذا اجتمعا فإنه لإثبات للباطل ولا دوام له مثل الزبد مع الماء أو مع الحلية لا يبقى بل يذهب ويتلاشى ويضمحل والمراد من الحق والباطل: الإيمان والكفر، واليقين بذلك.
2 ومن الحسنى: النصر في الدنيا والتمكين فيها لأهل التوحيد.
3 وهو النار وبئس المهاد.(3/21)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
شرح الكلمات:
كمن هو أعمى: أي لا يرى الحق ولا يعلمه ولا يؤمن به.
أولوا الألباب: أي أصحاب العقول.
يصلون ما أمر الله به أن يوصل: أي من الإيمان والتوحيد والأرحام.
ويدرءون بالحسنة: أي يدفعون بالحلم الجهل، وبالصبر الأذى.
عقبى الدار: أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
جنات عدن: أي جنات إقامة دائمة.
معنى الآيات:
لقد تضمنت هذه الآيات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين: الأولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن عبد المطلب والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما(3/22)
لهما من جزاء في الدار الآخرة، مع ذكر صفات كل منهما، تلك الصفات المقتضية لجزائهما في الدار الآخرة قال تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} فيؤمن به بعد العلم ويستقيم على منهجه في عقيدته وعبادته ومعاملاته وسلوكه كله. هذه الشخصية الأولى {كمن هو أعمى1} لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يعمل بما أنزل إلى الرسول من الشرع..
والجواب قطعاً أنهما لا يستويان ولا يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب} أي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق والمفرقة بين المتضادّات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار. وقوله تعالى: {الذين يوفون} هذا مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر لهم ثماني صفات هي كالتالي: (1) الوفاء بالعهود وعدم نقضها: {الذين يوفون بعهد2 الله ولا ينقضون الميثاق} 3 إذ لا دين لمن لا عهد له. (2) وصل ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان والإسلام والإحسان والأرحام: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} . (3) خشية الله المقتضية لطاعته: {ويخشون ربهم} . (4) الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة: {ويخافون سوء الحساب} . (5) الصبر طلبا لمرضاة الله على الطاعات وعن المعاصي، وعلى البلاء: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} . (6) إقامة الصلاة وهي أداؤها في أوقاتها جماعة بكامل الشروط والأركان والسنن والآداب: {وأقاموا الصلاة} . (7) الإنفاق مما رزقهم الله في الزكاة والصدقات الواجبة والمندوبة: {وأنفقوا مما رزقناهم} . (8) دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة الجهل عليهم بحسنة العلم، وسيئة الأذى بحسنة4 الصبر.
وقوله تعالى: {أولئك لهم عقبى الدار} أي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله (جنات عدن} أي إقامة لا ظعن منها يدخلونها هم {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم}
__________
1 المراد من العمى هنا: عمى القلب لا عمى البصر، والجهل هو سبب العمى.
2 العهد هنا: اسم جنس إذ المراد الوفاء بكافة عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصي بها عباده.
3 الميثاق هنا: أيضاً اسم جنس يدخل فيه كل المواثيق أي: إذا عقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه، قال قتادة: ورد النهي عن نقض الميثاق في بضع وعشرين آية.
4 وسيئة المعصية بالتوبة منها. واللفظ العام الشامل هو أنهم يدفعون بالعمل الصالح كل عمل فاسد.(3/23)
والصلاح هنا الإيمان والعمل الصالح. وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} هذا عند دخولهم الجنة تدخل عليهم الملائكة تهنئهم بسلامة الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة: {سلام عليكم بما صبرتم} أي بسبب صبركم والإيمان والطاعة {فنعم عقبى الدار} 1. هذه تهنئة الملائكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة اللهم اجعلني منهم ووالدي وأهل بيتي والمسلمين أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المؤمن حيّ يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى لا يعلم ولا يعمل.
2- الاتعاظ بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم.
3- فضل هذه الصفات الثمانية المذكورة في هذه الآيات. أولها الوفاء بعهد الله وآخرها درء السيئة بالحسنة.
4- تفسير عقبى الدار2 وأنها الجنة.
5- بيان أن الملائكة تهنىء أهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم.
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ
__________
1 جائز أن يكون معنى عقبى الدار: الجنسة وجائز أن يكون عقبى الدار: دار الدنيا إذ عقباها الدار الآخرة وفيها الجنة، إذا كانوا في دار الدنيا يعملون الصالحات فورثهم الله الجنة فكانت عقبى الدنيا إذ عقبى الدار بمعنى عاقبتها.
2 أي: فعقبى دار الدنيا الجنة هذا كقوله والعاقبة للتقوى، وقوله {ولنعم دار المتقين} أي الجنة.(3/24)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
شرح الكلمات:
والذين ينقضون عهد الله: أي يحلونه ولا يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده.
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: أي من الإيمان والأرحام.
ويفسدون في الأرض.: أي بترك الصلاة ومنع الزكاة، وبارتكاب السيئات وترك الحسنات.
لهم اللعنة: أي البعد من رحمة الله تعالى.
ولهم سوء الدار: أي جهنم وبئس المهاد.
ويقدر: أي يضيق ويقتر.
إلا متاع: قدر يسير يمتع به زمناً ثم ينقضي.
طوبى لهم وحسن مآب: أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السلام.
معنى الآيات:.
قوله تعالى: {والذين ينقضون} الآيات، هذا هو الطرف المقابل أو الشخصية الثانية وهو من لم يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ذكر تعالى هنا صفاته الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن على شاكلته الصفات التالية:
(1) نقض العهد فلم يعبدوا الله ولم يوحدوه وهو العهد الذي أخذ عليهم في عالم الأرواح: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} .
(2) قطع ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان1 وصلة الأرحام: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} .
__________
1 أي بسائر الأنبياء فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كاليهود والنصارى.(3/25)
(3) الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي: {ويفسدون في الأرض1} ، بهذه الصفات استوجبوا هذا الجزاء، قال تعالى: {أولئك لهم اللعنة} أي البعد من الرحمة {ولهم سوء2 الدار} أي جهنم وبئس المهاد، وقوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضِّيق ويقتِّر على من يشاء ابتلاء هل يصبر أو يجزع، وقد يبسط الرزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، وقد يضيق على بعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، فلن يكون الغنى دالاً على رضى الله، ولا الفقر دالاً على سخطه تعالى على عباده، وقوله: {وفرحوا بالحياة الدنيا} أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وهم أهل الإيمان به وطاعته إلا متاع قليل كَكَفِّ التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفد، وقوله تعالى في الآية (27) : {ويقول الذين كفروا لولا أنزل3 عليه آية من ربه} فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين وهو مطالبة المشركين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون له آية كناقة صالح أو عصا موسى ليؤمنوا به وهم في ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب إلا الاستخفاف والعناد وإلا آيات القرآن أعظم من آية الناقة والعصا، فلذا قال تعالى لرسوله: {قل إن الله يضل من يشاء} إضلاله ولو رأى وشاهد ألوف الآيات {4ويهدي إليه من أناب} لو لم ير آية واحدة إلا أنه أناب إلى الله فهداه إليه وقبله وجعله من أهل ولايته، وقوله تعالى في الآية (28) {الذين5 آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} أولئك الذين أنابوا إليه تعالى إيماناً وتوحيداً فهداهم إليه صراطاًمستقيماً هؤلاء تطمئن قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر الله وذكر وعده وذكر صالحي عباده محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وقوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن
__________
1 أي بالشرك وارتكاب المعاصي.
2 أي سوء المنقلب وهو جهنم.. قال سعد ابن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلاّ هو أنهم الحرورية: بمعنى الخوارج.
3 المطالبون بالآيات المقترحون لها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من بينهم عبد الله بن أمية وأصحابه.
4 الضمير في قوله: {ويهدي إليه من أناب} : يعود على الحق أو الإسلام أو الله عز وجل. أي يهدي إلى جنته وطاعته من رجع إليه بقلبه والكل صالح ومراد.
5 الذين: في محل نصب لأنه مفعول يهدي، وتصح أن بكون بدلاً من قوله: {أناب} وذكر الله هو ذكره بألسنتهم وبقلوبهم وهو يشمل ذكر الوعد والوعيد وكمال الله كما يشمل قراءة كتابه وتلاوة آياته قال مجاهد: هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقاً هم ومن يأتي بعدهم يهج نهجهم في الإيمان والتقوى.(3/26)
القلوب} أي قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا وملاذها وقلوب المشركين تطمئن لذكر أصنامهم، وقوله تعالى: {الذين آمنوا1 وعملوا الصالحات طوبى2 لهم وحسن مآب} إخبار من الله تعالى بما أعد لأهل الإيمان والعمل الصالح وهو طوبى حال من الحسن الطيب يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو الجنة دار السلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الاتصاف بصفات أهل الشقاء وهي نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي.
2- بيان أن الغنى والفقر يتمان حسب علم الله تعالى امتحاناً وابتلاءً فلا يدلان على رضا الله ولا على سخطه.
3- حقارة الدنيا وضآلة ما فيها من المتاع.
- 4- فضل ذكر الله وسكون القلب إليه.
5- وعد الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب.
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
__________
1 الذين آمنوا، هذا مبتدأ، والخبر: طوبى لهم وحسن مآب يعطف عليه، وطوبى ورد أنها شجرة في الجنة، ففي البخاري: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".
2 {طوبى} مصدر طاب يطيب طيباً إذا أحسن وهي بوزن البشرى، والزّلفى قلبت ياؤها واواً لمناسبة الضمة قبلها أي: الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فهم في طيب حال.(3/27)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (32) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (33)
شرح الكلمات.:
كذلك أرسلناك: أي مثل ذلك الإرسال الذي أرسلنا به رسلنا أرسلناك.
لتتلو عليهم: أي لتقرأ عليهم القرآن تذكيراً وتعليماً ونذارة وبشارة.
وهم يكفرون بالرحمن: إذ قالوا وما الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة.
سيرت به الجبال: أي نقلت من أماكنها.
أو قطعت به الأرض: أي شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً.
أو كلم به الموتى: أي أحيوا وتكلموا.
أفلم ييأس: أي يعلم.
قارعة: أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم.
أو تحل قريباً من دارهم: أي القارعة أو الجيش الإسلامي.
فأمليت: أي أمهلت وأخرت مدة طويلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول العقائد: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الأخر ففي الآية الأولى من هذا السياق وهي توله تعالى {كذلك أرسلناك} فقرر نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(3/28)
بقوله كذلك أي الإرسال1 الذي أرسلنا من قبلك أرسلناك أنت إلى أمة قد خلت من قبلها أمم، وبين فائدة الإرسال فقال: {لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} وهو الرحمة والهدى والشفاء {وهم يكفرون بالرحمن} الرحمن2 الذي أرسلك لهم بالهدى ودين الحق لإكمالهم وإسعادهم يكفرون به، إذاً فقل أنت أيها الرسول هو ربي لا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى في الآية الثانية (31) {ولو أن قرآنا} الخ.. لا شك أن مشركي مكة كانوا طالبوه3 بما ذكر في هذه الآية إذ قالوا إن كنت رسولاً فادع لنا ربك فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع أرضنا للزراعة والحراثة وقطع أرضنا فأخرج لنا منها العيون والأنهار وأحي لنا فلاناً وفلاناً حتى نكلمهم ونسألهم عن صحة ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} أي لكان هذا القرآن، ولكن ليست الآيات4 هي التي تهدي بل لله الأمر جميعاً يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولما صرفهم الله تعالى عن الآيات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو أعطاهم إياها لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب الإبادة كالأمم السابقة، وكان من المؤمنين من يود الآيات الكونية ظناً منه أن المشركين لو شاهدوا آمنوا وانتهت المعركة الدائرة بين الشرك والتوحيد قال تعالى: {أفلم ييأس5 الذين آمنوا} أي يعلموا {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} بالآيات وبدونها فليترك الأمر له سبحانه وتعالى يفعل ما لشاء ويحكم ما يريد، وقوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا} أي من الشرك والمعاصي {قارعة} أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن وذلك كالجدب والمرض والقتل والأسر {أو تحل قريباً من دارهم} أي يحل الرسول بجيشه الإسلامي ليفتح مكة حتى يأتي وعد الله بنصرك أيها الرسول عليهم والآية
__________
1 هذا تشبيه في الإنعام أي: شبّه الإنعام على من أرسل إليهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن، والآية وإن لم تنزل بخصوص دعوى المشركين إلاّ أنها تحمل رداً عليهم في دعواهم الباطلة.
3 تقدّم أن من بين المطالبين أبا جهل، وعبد الله بن أمية المخزوميين إذ قالا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن سرّك أن نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن فاذهبها عنا.. الخ.
4 أي: فليس ما تطلبونه مما يكون بالقرآن، وإنّما يكون بأمر الله تعالى.
5 يئس ييأس بمعنى: علم يعلم لله النخع، والقرآن نزل بلغات العرب، وقيل: لغة هوازن قال شاعرهم:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم(3/29)
عامة فيمن بعد قريش ويكون الوعيد متناولاً أمم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل قرن مرة ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ولا يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش الإسلامي قريباً دارهم ليدخلوا في دين الله أو يهلكوا، {إن الله لا يخلف الميعاد} وقد أنجز ما وعد قريشاً، في الآية الأخيرة (32) يخبر تعالى رسوله مسلياً إياه عما يجد تعب وألم من صلف المشركين وعنادهم فيقول له: {ولقد استهزىء1 برسل من قبلك} أي كما استهزىء بك فصبروا فاصبر أنت، {فأمليت للذين كفروا} أي أمهلتهم وأنضرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم أبق منهم أحداً {فكيف2 كان عقاب} أي كان شديداً عاماً واقعاً موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك يا رسولنا إذا لم يتوبوا ويسلموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد.
2- لا توكل إلا على الله، ولا توبة لأحد إلا إليه.
3- عظمة القرآن الكر يم وبيان فضله.
4- إطلاق لفظ اليأس3 المراد به العلم.
5- توعد الرب تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا إلى يوم القيامة.
6 - الله جل جلاله يملي ويمهل ولكن لا يهمل بل يؤاخذ ويعاقب.
أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ
__________
1 أي: سُخر بهم أُزري عليهم، وذلك كما سخرت قوم نوح بنوح، وعاد بهود وثمود بصالح ومدين يشعيب.
2 الاستفهام للعجب.
3 في لغة النخع أو هوازن.(3/30)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ (34) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
شرح الكلمات:
أفمن هو قائم1 على كل نفس بما كسبت: أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت ويجازيها بعملها.
قل سموهم.: أي صِفُوهم له مَنْ هُم؟
أم تنبئونه بما لا يعلم: أي أتخبرونه بما لا يعلمه؟
بظاهر من القول: أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
أشق: أي أشد.
واق: أي مانع يمنعهم من العذاب.
مثل الجنة: أي صفتها التي نقصها عليك.
أكلها دائم وظلها: أي ما يؤكل فيها دائم لا يفنى وظلها دائم لا ينسخ.
معنى الآيات.
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى. {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسيت2} أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر ومجازيها كمن لا يحفظ ولا يرزق ولا يعلم ولا يجزي وهو الأصنام، إذاً فبطل تأليهها ولم يبق إلا الإله الحق الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، وقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} أي
__________
1 ليس القيام هنا ضد القعود بل هو التولّي لأمور الخلق بالحفظ والتدبير.
2 الجواب محذوف في الآية، وقد ذكر في التفسير.(3/31)
يعبدونهم معه {قل سموهم} 1 أي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من هم؟ {أم تنبئونه بما لا يعلم2 في الأرض} أي أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض؟ {أم بظاهر من القول} أي بل بظاهر3 من القول أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
وقوله تعالى: {بل زين للذين كفروا مكرهم} أي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك4 صدوا عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا إليه، {ومن يضلل الله فما له من هاد} وقوله تعالى: {لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر، {ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد من عذاب الدنيا مهما كان {وما لهم من الله من واق} 5 أي وليس لهم من دون الله من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه حتى لا يذوقوه، وقوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي لما ذكر عذاب الآخرة لأهل الكفر والفجور ذكر نعيم الآخرة لأهل الإيمان والتقوى، فقال: {مثل6 الجنة التي وعد المتقون} أي صفة الجنة ووصفها بقوله: {تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم7 وظلها} دائم كذلك فطعامها لا ينفد، وظلها لا يزول ولا ينسخ بشمس كظل الدنيا، وقوله: {تلك} أي الجنة {عقبى الذين اتقوا} أي ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه وأطاعوه في أمره ونهيه، {وعقبى8 الكافرين النار} والعقبى بمعنى العاقبة في الخير والشر.
__________
1 سموهم شركاء فإنهم ليس لهم حظ من ذلك إلاّ التسمية فيكون الأمر للإباحة كناية عن عدم المبالاة بادعائهم أنهم شركاء، وذكر هذا المعنى صاحب التحرير، وهو معنى جميل.
2 أم هي المنقطعة ودلّت على أنّ ما بعدها استفهام إنكاري توبيخي، وقوله، {بما لا يعلم في الأرض} وما لا يعلمه الله فليس بموجود إذ الله خالق كل شيء.
3 بل بظاهر من القول ليس بظاهر من الظهور بل هو بمعنى الزوال والبطلان وشاهده قول الشاعر، وتلك شكاة ظاهر عليك عارها. أي: باطل زائل.
4 إن بعض المشركين زيّن للمشركين عبادة الأصنام، ورغّبهم في عبادتها مكراً بهم فانخدعوا له، وحسبوه زيناً وذلك كعمرو بن لحيّ إذ هو أوّل من دعا إلى عبادة الأصنام في بلاد العرب.
5 واق، وقاض ووال: يوقف عليها بدون ياء، إلاّ إذا نودي نحو: يا قاضي يا والي فإنه يوقف عليه بالياء ومن: صلة لتقوية الكلام.
6 {مثل الجنة} : الخ: مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى عليكم: مثل الجنة، وقيل الخبر: تجري من تحتها الأنهار. والأوّل أولى.
7 في الآية ردّ على الجهمية القائلين بفناء نعيم الجنة.
8 أي: عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.(3/32)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد إذ الأصنام لا تحفظ ولا ترزق ولا تحاسب ولا تجزي، والله هو القائم على كل نفس فهو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة لا حقيقة لها إلا مجرد أسماء.
2- استمرار الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل.
3- ميزة القرآن الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس.
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
شرح الكلمات:
والذين آتيناهم الكتاب: أي كعبد الله بن سلام ومن آمن من اليهود.
يفرحون بما أنزل إليك: أي يسرون به لأنهم مؤمنون صادقون ولأنه موافق لما عندهم.
ومن الأحزاب: أي من اليهود والمشركين.
من ينكر بعضه: أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب.(3/33)
وكذلك أنزلناه حكماً عربياً: أي بلسان العرب لتحكم به بينهم.
لكل أجل كتاب: أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة.
يمحو الله ما يشاء: أي يمحو من الأحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو المنسوخ وما أبقاه هو المحكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، فقوله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب} كعبد الله بن1 سلام يفرحون بما أنزل إليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي وإثبات له، وقوله: {ومن الأحزاب} ككفار أهل الكتاب2 والمشركين {من ينكر بعضه} فاليهود أنكروا أغلب ما في القرآن من الأحكام ولم يصدقوا إلا بالقصص، والمشركون أنكروا "الرحمن" وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب عليه لعائن الله، وقوله تعالى: {قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به} أي أمرني ربي أن أعبده ولا أشرك به، إليه تعالى أدعو الناس أي إلى الإيمان به وإلى توحيده وطاعته، {وإليه مآب3} أي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير للتوحيد، وقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً4} أي وكهذا الإنزال للقرآن أنزلناه بلسان العرب لتحكم بينهم به، وفي هذا تقرير للوحي الإلهي والنبوة المحمدية، وقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم} بأن وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقاداتهم، وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل وإنما الخطاب من باب.. إياك أعني واسمعي يا جارة.. {مالك من الله من ولي ولا واق} أي ليس لك من دون الله من ولي يتولى أمر نصرك وحفظك، ولا واق يقيك عذاب الله إذا أراده بك لإتباعك أهل الباطل5 وتركك الحق وأهله، وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا
__________
1 اللفظ عام والمراد به الخصوص، ويدخل فيه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم يفرحون بنزول القرآن قاله قتادة. وهو كما قال فقد كانوا يفرحون بكل ما ينزل من وحي.
2 لفظ أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى معاً، لفظ البعض عام في القلة والكثرة ولذا فاليهود كالنصارى كالمشركين كالمجوس ينكرون من القرآن ما يتعارض مع معتقداتهم الباطلة ولا ينكرون ما لا يتعارض معها.
3 أي: أرجع في أموري كلها إليه دون غيره، وفي هذا معنى الاعتماد على الله والتوكل عليه في الأمر كله.
4 {حكماً عربياً} : حالان من أنزلناه، وقيل: المراد من {حكما} الحكمة كقوله: {وآتيناه الحكم صبيا} أي: الحكمة، فالقرآن يحوي الحكم المعبر عنها بالعربية وكونه من الحكم أولى لأنّه يحكم به في الأمور كلها.
5 في الآية إنذار وتحذير عظيمان لمن يترك أوامر الله تعالى أو يغشى محارمه موافقة لأهل الباطل طلباً لرضاهم أو خوفاً من غضبهم.(3/34)
رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} فلا معنى لما يقوله المبطلون1: لم يتخذ محمد أزواجاً ولم لكون له ذرية؟ وهو يقول أنه نبي الله ورسوله، فإن الرسل قبلك من نوح وإبراهيم إلى موسى وداوود وسليمان الكل كان لهم أزواج وذرية2، ولما قالوا {لولا أنزل عليه آية} رد الله تعالى عليهم بقوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} فالرسل كلهم مربوبون لله مقهورون لا يملكون مع الله شيئاً فهو المالك المتصرف إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وقوله: {لكل أجل كتاب} أي لكل وقت محدد يعطي الله تعالى فيه أو يمنع كتاب كتب فيه ذلك الأجل وعٌيِّن فلا فوضى ولا أُنُفَ3، وقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} ردّ على قولهم لم يثبت الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس ثم الكعبة وكالعدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام فأعلمهم أن الله تعالى ذو إرادة ومشيئة لا تخضعان لإرداة الناس ومشيئاتهم فهو تعالى يمحو ما يشاء من الشرائع والأحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع، {وعنده أم الكتاب4} أي الذي حوى كل المقادير فلا يدخله تبديل ولا تغيير كالموت والحياة والسعادة والشقاء، وفي الحديث: "رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه مسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي والنبوة.
2 تقرير عقيدة التوحيد.
3- تقرير أن القضاء والحكم في الإسلام مصدره الأول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن، ثم القياس المأذون فيه فإجماع الأمة لاستحالة اجتماعها على غير ما يحب الله
__________
1 قيل: إن اليهود هم الذين عابوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأزواج وعيروه بذلك فقالوا ما نرى لهدا الرجل همة إلاّ النساء والنكاح، ولو كان نبياًَّ لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعليه فالآية مدنية.
2 في الآية: الترغيب في النكاح والحض عليه، وهو كذلك فقد جاء في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" وفي الموطأ: "من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه".
3 أي: ولا بداء، والبداء: أن يبدو له الشيء بعد أن لم يكن يعلمه.
4 صح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سرّة أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه" فهذا الحديث يفسر قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} أي: ما يشاء، وقد تكلّم العلماء في هذا بشيء كثير وما أراه يوضح هذا هو أنّ الله تعالى لما كتب في اللوح المحفوظ كتب أنّ فلاناً يصل رحمه فيكون رزقه كذا سعة ويكون أجله كذا طولا، فصلة الرحم سبب في توسعة الرزق وطول العمر.(3/35)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
تعالى ويرضى به.
4- التحذير من اتباع أصحاب البدع والأهواء والمِلَلْ والنَّحَلْ الباطلة.
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
6- بيان النسخ في الأحكام بالكتاب والسنة.
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
شرح الكلمات:
نعدهم: أي من العذاب.
أو نتوفينك: أي قبل ذلك.
ننقصها من أطرافها: أي بلداً بعد بلد بالفتح ودخول الإسلام فيها وانتهاء الشرك منها.
لا معقب لحكمه: أي لا راد له بحيث لا يتعقب حكمه فيبطل.
ومن عنده علم الكتاب: من مؤمني اليهود والنصارى.
معنى الآيات:(3/36)
قوله تعالى: {وإما نرينك1 بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} أي إن أريتك بعض الذي نعد قومك من العذاب فذاك، وإن توفيتك قبل ذلك فليس عليك إلا البلاغ2 فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف نجزيهم بما كانوا يكسبون، فلا تأس أيها الرسول ولا تضق ذرعاً بما يمكرون، وقوله: {أو لم يروا} أي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون بالآيات على صدق نبوة نبينا {أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها3} أي نفتحها للإسلام بلداً بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة دعوته، وقوله: {والله يحكم ولا معقب لحكمه} أي والله جل جلاله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي ويمنع وينصر ويهزم، ولا معقب لحكمه أي ليسر هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم بظهور الإسلام وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على الله، وقوله: {وهو سريع الحساب} إذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق دون بطء ولا تراخ وقوله تعالى: {وقد مكر الذين من قبلهم} أي وقد مكرت أقوام قبل قريش وكفار مكة فكيف كان عاقبة مكرهم؟ إنها دمارهم أجمعين، أما يخشى رؤساء الكفر في مكة من عاقبة كهذه؟ وقوله: {فلله المكر جميعاً} أي إذاً فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له فلا يرهب ولا يلتفت إليه وقوله: {يعلم ما تكسب كل نفس} من خير وشر فأين مكر من لا يعلم من مكر من يعلم كل شيء فسوف يصل بالممكور به إلى حافة الهلاك وهو لا يشعر، أفلا يعي هذا كفار قريش فيكفوا عن مكرهم برسول الله ودعوته؟ وقوله تعالى: {وسيعلم الكفار لمن4 عقبى الدار} أي سيعلم المشركون خصوم التوحيد يوم القيامة لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتباعه أو لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر وأتباعهم، وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} أي يواجهونك بالإنكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك قل لهم يا رسولنا الله شهيد بيني
__________
1 {ما} زائدة لتقوية الكلام والأصل وإن نرينك.
2 {البلاغ} : التبليغ و {الحساب} : الجزاء والعقوبة.
3 فسّر بعضهم الأطراف بالأشراف، وقال: المراد موت العلماء، وهو تفسير بعيد جداً، وما في التفسير أقرب وأوضح إلى معنى الآية الكريمة، ورد قول من قال هو نقصان الأرض بقول أحدهم لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك أي: مكان قضاء حاجتك.
4 قرأ نافع {الكافر} : بالإفراد، وهو اسم جنس بمعنى الجمع، وقرأ الجمهور {الكفار} وقيل المراد بالكافر هنا. أبو جهل، والله أعلم، وفي الآية وعيد وتهديد للكفار مطلقاً.(3/37)
وبينكم وقد شهد لي بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلامه مثل {يسَ والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} وكفى بشهادة الله شهادة، {ومن عنده علم الكتاب} الأول التوراة والإنجيل وهم مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد1 الله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري وغيرهم2.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- انتصار الإسلام وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق.
2- أحكام الله تعالى لا ترد، ولا يجوز طلب الاستئناف على حكم من أحكام الله تعالى في كتابه أو في سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3- شهادة الله أعظم شهادة، فلا تطلب بعدها شهادة إذا كان الخصام بين مؤمنين.
4- فضل العالم على الجاهل، إذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من لا علم لهم من المشركين.(3/38)
سورة إبراهيم
مكية
وآياتها اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
__________
1 عبد الله بن سلام كان اسمه في الجاهلية: حصين فسمّاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله.(3/38)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
شرح الكلمات:
آلر: هذا أحد الحروف المقطعة تكتب آلر وتقرأ ألف لاَمْ رَا والتفويض فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك1.
كتاب: أي هذا كتاب عظيم.
أنزلناه إليك: يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من الظلمات: أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
العزيز الحميد: أي المحمود بآلائه.
عن سبيل الله: أي الإسلام.
عوجاً: أي معوجَّة.
بآياتنا: أي المعجزات التسع: العصا، اليد، الطوفان، الجراد، القمل،
__________
1 هذا مذهب السلف وهو: تفويض لهم معناها إلى الله تعالى منزلها ويعدونها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل. وهو أسلم من القول بالإجهاد الفكري.(3/39)
الضفادع، الدم، والطمس والسنين ونقص الثمرات.
وذكرهم بأيام الله: أي ببلائه ونعمائه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {آلر} الله أعلم بمراده وقوله: {كتاب أنزلناه} أي هذا كتاب عظم القدر أنزلناه إليك يا رسولنا لتخرج الناس1 من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم الشرعي، وذلك {بإذن ربهم} أي بتوفيقه ومعونته {إلى صراط العزيز الحميد} أي إلى طريق العزيز2 الغالب الحميد أي المحمود بآلائه وافضالاته على عباده وسائر مخلوقاته {الله3 الذي له ما في السموات وما في الأرض} خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا، هذا هو الله صاحب الصراط الموصل إلى الإسعاد والإكمال البشرى، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من عذاب شديد، الكافرون {الذين يستحبون الحياة الدنيا} 4 أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا ويتركون العمل للآخرة لعدم إيمانهم بها {ويصدون} أنفسهم وغيرهم أيضاً {عن سبيل الله} أي الإسلام {ويبغونها عوجاً} أي معوجة إنهم يريدون من الإسلام أن يوافقهم في أهوائهم وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى: {أولئك في ضلال بعيد} إنهم بهذا السلوك المتمثل في إيثار الدنيا على الآخرة والصد عن الإسلام، ومحاولة تسخير الإسلام لتحقيق أطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد لا يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى، وقوله تعالى في الآية (4) من هذا السياق {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} 5 أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة أن يبين لهم، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله
__________
1 لتخرج الناس: أي: بالقرآن العظيم الذي أنزلناه عليك.
2 الطريق هو الإسلام دين الله الذي لا يقل دينا غيره.
3 قرأ نافع برفع اسم الجلالة، وقرأ الجمهور بالجر، واستجب بعضهم الجر إذا وصل والرفع إذا وقف وهو حسن ومن وصل وقف على وما في الأرض.
4 قال ابن عباس وغيره: كل من آثر الدنيا وزهرتها واستحب البقاء في نعيمها على نعيم الآخرة وصد عن سبيل الله أي: صرف نفسه وغيره عن طاعة الله ورسوله فهو داخل في هذه الآية، وهي ذات وعيد شديد.
5 لا حجة لغير العرب في هذه الآية إذ كل من ترجم له الإسلام بلغته وجب عليه الدخول فيه والحمل بشرائعه ليكمل ويسعد، وقد استعمرت برطانيا نصف العالم فتكلم الناس بلغتها وتعاملوا بها وهي لغة دنيا لا غير. فالواجب على غير العربي أن يتعلم لغة الإسلام ما أمكنه ذلك.(3/40)
حسب سنته في الإضلال ويهدي من يشاء كذلك {وهو العزيز} الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده {الحكيم1} الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل إلا من رغب في الإضلال وتكلف له وأحبه وآثره، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى، وليس من حكمته تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه. ويحبه ويحب أهله، وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى} أي موسى نبي بني إسرائيل {بآياتنا} أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته والهادية إلى ما يدعو إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى {أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} 2 أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، {وذكرهم بأيام الله} 3 أي وقلنا له: ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه إذ أنجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى، وذلك ليحملهم على الشكر لله بطاعته وطاعة رسوله، وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} أي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات يستدل بها على إفضال الله وإنعامه الموجب للشكر، ولكن الذين يجدون تلك الدلالات في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر4 والشكر، وأما غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم، إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم وآلم وحم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله.
2- بيان أن الكفر ظلام والإيمان نور.
3- بيان الحكمة في إرسال الله تعالى الرسل بلغات أقوامهم.
__________
1 من مظاهر حكمته أنه ختم الرسالة برسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وواجب على البشرية كلها الإيمان به ويما جاء به ومن أبى دخل النار، فقد روى مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". فوحد بذلك البشرية توحيداً روحياً واجتماعياً وسياسياً لو أنها آمنت بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذت بهدايته لحصل لها من الكمال والإسعاد ما لم يخطر على بال.
2 أن: تفسيرية فسرت الإرسال لأنه فيه معنى القول.
3 التذكير إزالة نسيان شيء، ويكون بتعليم مجهول كان شأنه أن يعلم، ولما ضمّن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء أي: ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
4 الصبر مع البلاء، والشكر مع الرخاء، وخير الناس من إذا ابتلى صبر وإذا أعطي شكر ولا يكون كذلك إلاّ ذو علم وبصيرة.(3/41)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
4- تقرير أن الذي يخلق الهداية هو الله وأما العبد فليس له أكثر من الكسب.
5- فضيلة التذكير بالخير والشر ليشكر الله ويتقى.
6- فضيلة الصبر والشكر.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى: أي اذكر إذ قال موسى.
يسومونكم: يذيقونكم.
ويستحيون نساءكم: أي يستبقونهنَّ.(3/42)
بلاء من ربكم عظيم: أي ابتلاء واختبار، ويكون بالخير والشر.
وإذ تأذن ربكم: أي أعلم ربكم.
بالبينات: بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الآخر.
فردوا أيديهم في أفواههم: أي فرد الأمم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا.
مريب: موقع في الريبة.
معنى الآيات:
{وإذ قال موسى لقومه} أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل {اذكروا نعمة الله عليكم} أي لتشكروها بتوحيده وطاعته، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي إنجاؤهم من فرعون وملائه إذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد، فقال: {يسومونكم سوء العذاب} أي يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده، {ويذبحون أبناءكم} أي الأطفال المولودين، لأن الكهنة أو رجال السياسة قالوا لفرعون: لا يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني إسرائيل قامر بقتل المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو معنى قوله: {ويستحيون نساءكم} وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فهو بالنظر إلى كونه عذابا بلاء بالشر، وفي كونه نجاة منه، بلاء بالخير، وقوله تعالى: {وإذ تأذن1 ربكم} هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم مقسماً لكم {لئن شكرتم} 2 نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الأوامر واجتناب النواهي {لأزيدنكم} في الإنعام والإسعاد {ولئن كفرتم} فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي لأسلبنها منكم وأعذبكم بسلبها من أيديكم {إن عذابي
__________
1 أي: تكلم تكلماً علناً وهو يناجي موسى عليه السلام بجبل الطور وأذّن وتأذن أعلم، ومنه الأذان للصلاة، قال الشاعر:
فلم نشعر بضوء الصبح حتى
سمعنا في مجالسنا الأذينا
2 سئل بعض الصالحين عن الشكر لله تعالى فقال: ألاّ تتقوى بنعمه على معاصيه وحكي أن داود عليه السلام أنه قال: أي ربي كيف أشكرك وشكري لك نعمة متجددة منك عليّ؟ قال: "يا داود: الآن شكرتني"، وعيه فالشكر الاعتراف بالنعمة للمنعم ولا يصرفها في غير طاعته.(3/43)
لشديد} فاحذروه واخشوني فيه، وقوله تعالى: {وقال موسى} أي لبني إسرائيل {إن تكفروا أنتم} نعم الله فلم تشكروها بطاعته {ومن في الأرض جميعاً} وكفرها من في الأرض جميعاً {فإن الله لغني} عن سائر خلقه لا يفتقر إلى أحد منهم1 {حميد} أي محمود بنعمه على سائر خلفه، وقوله: {ألم يأتكم} هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم: {ألم يأتكم2 نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم} أي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم3 {إلا الله} {جاءتهم رسلهم بالبينات} أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا، وقوله: {فردوا أيديهم} أي ردت الأمم المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظاً على أنبيائهم وحنقاً، أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم رداً لدعوة الحق التي جاؤوا بها، وقالوا لهم: {إنا كفرنا بما أرسلتم به} أي بما جئتم به من الدين الإسلامي والدعوة إليه، {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} أي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى إليها، هذا وما زال السياق طويلاً وينتهي بقوله تعالى: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر.
2- وعد الله تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه.
3- كفر النعم سبب زوالها.
4- بيان غنى الله تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس إن شكروا شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم.
5- التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة.
__________
1 أي: لا يلحقه نقص بكفر الناس ولو كفروا أجمعون.
2 صالح لأن يكون من قول موسى عليه السلام، ومن قول الله تعالى تعليماً لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 ولا يعرف أنسابهم كذلك إلاّ الله وفي الحديث: " كذب النسابون إن الله يقول لا يعلمهم إلا الله" قاله لمّا زاد النسابون على معد بن عدنان، وقال: "لا ترفعوني فوق عدنان".(3/44)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
شرح الكلمات:
أفي الله شك: أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده، إذ الاستفهام إنكاري.
إلى أجل مسمى: أي إلى أجل الموت.
بسلطان مبين: بحجة ظاهرة تدل على صدقكم.(3/45)
يمن على من يشاء: أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك.
وقد هدانا سبلنا: أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه.
لنخرجنكم من أرضنا: أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا.
لمن خاف مقامي: أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب الجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح.....} فقوله تعالى: {قالت رسلهم} أي قالت الرسل إلى أولئك الأمم الكافرة {أفي الله شك1} ؟ أي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السموات2 والأرض، فخالق السموات والأرض وحده لا يعقل أن يكون له شريك في عبادته، انه لا إله إلا هو وقوله: {يدعوكم} إلى الإيمان والعمل الصالح الخالي من الشرك {ليغفر لكم من3 ذنوبكم} وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها أما مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم، وقوله: {قالوا} أي قالت الأمم الكافرة لرسلهم {إن أنتم إلا بشر مثلنا} أي4 ما أنتم إلا بشر مثلنا، {تريدون أن تصدونا} أي تصرفونا {عما كان يعبد آباؤنا} من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدَّعون أنها آلهة، وقولهم: {فأتونا بسلطان مبين} قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم أنكم رسل الله إلينا فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم} أي ما نحن إلا بشر مثلكم فمالا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن {ولكن الله يمن على من5 يشاء} أي إلا أن الله يمن على من يشاء بالنبوة
__________
1 الاستفهام إنكاري أي: لا شك في الله، أي في وجوده، وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له.
2 هذا الوصف الكامل لله وهو مقتضى وجوده وألوهيته عزّ وجل.
3 على ما في التفسير (من) للتبعيض، ويصح أن تكون زائدة، والمغفرة لكل الذنوب لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله من سائر الذنوب.
4 أي: في الهيئة تأكلون كما نأكل وتشربون كما نشرب، وتمرضون، وتصحون مثلنا ولستم ملائكة.
5 ومما منّ الله به عليهم، الحكمة والمعرفة والهداية إلى ما يوجب رضاه ومحبّته؟ وقيل: إنّ أعظم ما يمن به الله تعالى على عبده ذكره بأسمائه وصفاته.(3/46)
فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم لا من تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه، {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} أي بإرادته وقدرته فهو ذو الإرادة التي لا تحد والقدرة التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه {فليتوكل المؤمنون} فإنه يكفيهم كل ما يهمهم، ثم قالت الرسل وهي تعظ أقوامها بما تقدم: {وما لنا ألا نتوكل1 على الله وقد هدانا سبلنا} أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز {ولنصبرن على ما آذيتمونا} بألسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى لنا منكم، {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكلا عليه وحده دون سواه، وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} هذا إخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها: قالوا موعدين مهددين بالنفي والإبعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير آلهتهم: {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} أي ديننا الذي نحن عليه وهنا أوحى الله تعالى إلى رسله بما أخبر تعالى به: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة الهلاك وهي الظلم الذي هو الشرك والإفساد ليكون ذلك عظة للعالمين، وقوله تعالى: {ذلك} أي الإنجاء للمؤمنين والإهلاك للظالمين جزاءً2 {لمن خاف مقامي3} أي الوقوف بين يدي يوم القيامة {وخاف وعيد} على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات على غير توبة إلىَّ من كفره وشركه وظلمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الشك في وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده وذلك لكثرة
__________
1 وما: اسم استفهام مبتدأ، وما بعدها في موضع الحال، والتقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله؟ والاستفهام إنكاري.
2 وإسكان الصالحين الأرض بعد إهلاك الظالمين.
3 المقام: مصدر ميمي وقوله {مقامي} : أي قيامه بين يديّ للحساب، والوعيد هو عذاب النار، وقيل: مقامي: أي قيامي عليه، ومراقبتي له والمعنى إذاً خافني وراقبني، وهو معنى صحيح، والخوف من الله ومراقبته موجبة للصلاح المورث للأرض والدولة لقوله تعالى: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} .(3/47)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
الأدلة وقوة الحجج، وسطوع البراهين.
2- بيان ما كان أهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به عليهم.
3- وجوب التوكل على الله تعالى، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي إلا الله.
4- وجوب الصبر على الأذى في سبيل الله وانتظار الفرج بأخذ الظالمين.
5- عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن.
وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (20)
شرح الكلمات:
واستفتحوا: أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين.
وخاب: أي خسر وهلك.(3/48)
كل جبار عنيد: أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد.
من ماء صديد: أي هو ما يخرج سائلاً من أجواف أهل النار مختلطاً من قيح ودم وعرق.
يتجرعه ولا يكاد يسيغه: أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه ومراراته.
ويأتيه الموت من كل مكان: أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن لا يموت.
أعمالهم كرماد: أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد.
لا يقدرون مما كسبوا على شيء: أي لا يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل لأنها باطلة بالشرك.
وما ذلك على الله بعزيز: أي بصعب ممتنع عليه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث ما ذكر به موسى قومه من أنباء الأمم السابقة على بنى إسرائيل، قال تعالى في الإخبار عنهم: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى أن يفتح عليهم1 بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب الله لهم، {وخاب كل جبار عنيد1} أي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله، وقوله2: {من ورائه جهنم3} أي أمامه جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء
__________
1 كقولهم: {ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} قالها شعيب والمؤمنون معه، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو طالباً نصره وهزيمة أعدائه.
2 العنيد: المعاند للحق، والجبار: المتعاظم الشديد التكبر، وقيل هو من يجبر الناس على مراده، وهو وصف مذموم لغير الله تعالى.
3 لفظ وراء يطلق على ما كان خلفاً وما كان أماماً، لأنّ كل ما ووري أي: استتر فهو وراء. وقوله: {من ورائه جهنم} : صفة لجبار عنيد، والوراء مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، قال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
أي بعده.(3/49)
فتسقيه الزبانية {من ماء صديد1} أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق، {يتجرعه} أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته2 {ولا يكاد يسيغه} أي يدخله جوفه الملتهب عطشاً لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته، وقوله تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيا} وقال: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} ومن وراء ذلك العذاب الذي هو فيه {عذاب} أي لون آخر من العذاب {غليظ} أي شديد لا يطاق، وقوله تعالى: {مثل3 الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد4 اشتدت به الريح في يوم عاصف} أي من شديد هبوب الريح فيه {لا يقدرون مما كسبوا} أي من أعمال في الدنيا {على شيء} أي من الثواب والجزاء الحسن عليها، هذا مثل أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير الله مما كانوا يرجون نفعه، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به، مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح فيه.
وقوله تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد} أي ذلك الذي دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من الخاسرين.
وقوله تعالى: {ألم5 تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق} أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلق السموات والأرض بالحق أي من أجل الإنسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم
__________
1 الصديد: المهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه والتجرّع: تكلّف الجرع والجرع: بلع الماء.
2 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قوله تعالى {يسقى من ماء صديد يتجرّعه..} قال: "يقرّب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره.." الخ رواه الترمذي واستغربه.
3 المثل: الحال العجيبة أي حال أعمالهم كرماد.
4 الرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم، ضرب الله في هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف.
5 الرؤية هنا: رؤية القلب وهي العلمية.(3/50)
وصفه في هذا السياق لأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض عبثاً وباطلاً بل خلقهما وخلق ما فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه، وقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم} أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به {ويأت بخلق جديد1} غيركم يعبدونه ويوحدونه {وما ذلك على الله بعزيز} أي بممتنع ولا متعذر لأن الله على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إنجاز وعد الله لرسله في قوله: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} الآية.
2- خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم.
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته.
4- بطلان أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ لا ينتفعون بشيء منها.
5- عذاب أهل الكفر والشرك والظلم لازم لأنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذاباً أبدياً.
وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ
__________
1 أي: أفضل منكم وأطوع وما في التفسير أدل على المقصود.(3/51)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23)
شرح الكلمات:
وبرزوا لله جميعاً 1: أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة.
إنا كنا لكم تبعاً: أي تابعين لكم فيما تعقتدون وتعملون.
فهل أنتم مغنون عنا: أي دافعون عنا بعض العذاب.
ما لنا من محيص.: أي من ملجأ ومهرب أو منجا.
لما قضي الأمر: بإدخال أهل الجنة، الجنة وأهل النار النار.
ما أنا بمصرخكم: أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب.
تجري من تحتها الأنهار: أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد، قال تعالى: {وبرزوا لله جميعاً} أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها {فقال الضعفاء} أي الأتباع {للذين استكبروا} أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان {إنا كنا لكم تبعا2} أي أتباعاً في عقائدكم وما تدينون به، {فهل
__________
1 البروز: الظهور، وهو هنا الخروج من القبور والظهور خارجها للحشر حيث فصل القضاء، ومن هذا قولهم: امرأة برزة أي تظهر للناس.
2 {تبعاً} : يصح أن يكون مصدرا أي: ذوي. تبع، ويجوز أن يكون جمع تابع مثل: حرس وحارس، وخدم وخادم.(3/52)
أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} ؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تبعيتنا لكم فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم؟ {قالوا لو هدانا الله لهديناكم} 1 اعترفوا الآن أن الهداية بيد الله وأقروا بذلك، ولكنا ضللنا فأضللناكم {سواء علينا أجزعنا} اليوم {أم صبرنا مالنا من محيص} 2 أي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب، وهنا يقوم إبليس خطيبا فيهم3 بما أخبر تعالى عنه بقوله: {وقال الشيطان} أي إبليس عدو بنى آدم {لما قضي الأمر} بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار {إن الله وعدكم عد الحق4} بأن مم آمن وعمل صالحاً مبتعدا عن الشرك والمعاصي أدخله جنته وأكرمه في جواره، وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار وعذبه عذاب الهون في دار البوار {ووعدتكم} بأن وعد الله ووعيده ليس بحق ولا واقع {فأخلفتكم} فيما وعدتكم به، وكنت في ذلك كاذباً عليكم مغرراً بكم، {وما كان لي عليكم من سلطان} أي من قوة مادية أكرهتكم بها على اتباعي ولا معنوية ذات تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول دعوتي {إلا أن دعوتكم} أي لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} إذاً {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم} أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب {وما أنتم} أيضاً {بمصرخي5} ، أي بمغيثيَّ {إني كفرت بما أشركتمون من6 قبل} إذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان إذ هو الذي زين له ذلك ودعاه إليه، و {إن الظالمين لهم عذاب أليم} أي المشركين لهم عذاب أليم موجع، وقوله تعالى: {وأدخل7 الذين آمنوا} أي وأدخل الله الذين آمنوا أي صدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله {وعملوا الصالحات} وهي العبادات التي تَعَبَّدَ الله بها عباده فشرعها
__________
1 أي: لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه أو لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها.
2 المحيص: مصدر ميمي كالمغيث والمشيب من غاب وشاب، وكذلك حاص يحيص حيصاً عن كذا: هرب ونجا، ويجوز أن يكون المحيص هنا اسم مكان أي: ما لنا من مكان نلجأ إليه وننجو فيه.
3 أي: على منبر من نار.
4 {وعد الحق} : يعني البعث والجنة والنار، وثواب المطيع وعقاب العاصي. فصدقكم وعده، ووعدتكم ألا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب. فأخلفتكم.
(الصارخ) : والمستصرخ هو الذي يطلب النصر والمعاونة، المصرخ هو المغيث قال الشاعر:
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
وليس لكم عندي غَنَاء ولا نصر
6 {بما أشركتمونِ} : الميم مصدرية والتقدير كفرت بإشراككم إيّاي مع الله تعالى.
7 لمّا أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة وهو أسلوب الترغيب والترهيب الذي امتاز به القرآن الكريم لأته كتاب هداية وإصلاح.(3/53)
في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {جنات} 1 بساتين {تجري من تحتها الأنهار} أي من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {خالدين فيها} لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولاً، وقوله تعالى: {بإذن ربهم} 2 أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء فيها أبداً، وقوله: {تحيتهم فيها سلام} أي السلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيى بعضهم بعضا بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة الأبدية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن التقليد والتبعية لا تكون عذراً لصاحبها عند الله تعالى.
2- بيان أن الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير الله وزينها للناس.
3- تقرير لعلم الله بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في الآيات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يتخلف منه حرف واحد.
4- وعيد الظالمين بأليم العذاب.
5- العمل لا يدخل الجنة إلا بوصفه سبباً لا غير، وإلا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24)
__________
1 {جنات} : جمع جنة، وجنات: منصوب على نزع الخافض أي: في جنات لأنّ دخل كخرج لا يتعدى إلا بحرف الجر.
2 أي: بمشيئته وتيسيره.(3/54)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
شرح الكلمات:
كلمة طيبة: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كشجرة طيبة: هي النخلة.
كلمة خبيثة: هي كلمة الكفر.
كشجرة خبيثة: هي الحنظل.
اجتثت: أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها.
بالقول الثابت: هو لا إله إلا الله.
وفي الآخرة: أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألانه عنه حيث يسألانه عن ربه ودينه ونبيه.
بدلوا نعمة الله كفراً: أي بدلوا التوحيد والإسلام بالجحود والشرك.
دار البوار: أي جهنم.
وجعلوا لله أندادا: أي شركاء.(3/55)
معنى الآيات:
الآيات في تقرير التوحيد والبعث والجزاء، قوله تعالى: {ألم تر} أيها الرسول أي ألم تعلم {كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة} 1 هي كلمة الإيمان يقولها المؤمن {كشجرة طيبة} وهي النخلة2 {أصلها ثابت} في الأرض {وفرعها} عال {في السماء} ، {تؤتي أكلها} تعطي أكلها أي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسراً ومنصَّفاً ورطباً وتمراً وفي الصباح والمساء {بإذن ربها} أي بقدرته وتسخيره فكلمة الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله تثمر للعبد أعمالاً صالحة كل حين فهي في قلبه والأعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع إلى الله عز وجل، وقوله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب الأمثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله، وقوله: {ومثل كلمة خبيثة} هي كلمة الكفر في قلب الكافر {كشجرة خبيثة} هي الحنظل مُرَّة ولا خير فيها ولا أصل لها ثابت ولا فرع لها في السماء {اجتثت} أي اقتلعت واستؤصلت {من فوق الأرض مالها من قرار} أي لا ثبات لها ولا تثمر إلا ما فيها من مرارة وسوء طعم وعدم بركة وقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} هذا وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه يثبتهم على الإيمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الإيمان {وفي الآخرة} أي في القبر إذ هو عتبة الدار الآخرة عندما يسألهم3 الملكان عن الله وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الإيمان وأصله لا إله إلا الله محمد رسول الله والعمل الصالح الذي هو الإسلام وقوله تعالى: {ويضل الله الظالمين} مقابل هداية المؤمنين فلا يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا على الكفر فيهلكوا ويخسروا، وذلك
__________
1 الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي المؤمن، والشجرة المضروب بها المثل في النخلة، وفي الحديث الصحيح: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي؟ قال: هي النخلة" وورد: "مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك، دان جالسته نفعك، وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به".
2 وورد أكرموا عمتكم النخلة، ومن وجه شبهها بالمؤمن أنها برأسها تبقى وبقلبها تحيا وفي اللقاح ورائحة طلع ذكرها كرائحة المني، وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم التي خلق منها، فهي لذا عمة بني آدم.
3 روى النسائي عن البراء قال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} نزلت في عذاب القبر، يقال: من ربك فيقول ربي الله وديني دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/56)
لإصرارهم على الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم، وقوله تعالى: {ويفعل الله ما يشاء} تقرير لإرادته الحرة فهو عز وجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلاله رحمة وعدلاً.
وقوله تعالى: {ألم تر} أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول {إلى الذين بدلوا نعمة الله} إلتي هي الإسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم1 {دار البوار2} فهلك من هلك في بدر كافراً إلى جهنم، ودار البوار هي جهنم يصلونها أي يحترقون بحرها ولهيبها {وبئس القرار} أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه، وقوله تعالى: {وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله} أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً وهم كفار مكة لله أنداداً أي شركاء عبدوها وهي اللات والعُزَّى وهُبل ومَناة وغيرها من آلهتهم الباطلة، جعلوا هذه الأنداد ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى وجواره الكريم، وقوله تعالى: {قل تمتعوا} 3 أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا {فإن مصيركم} أي نهاية أمركم {إلى النار} حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك والكفر حتى متم على ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- المقارنة بين الإيمان والكفر، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من خير وشر.
__________
1 هذه الآية نزلت في قريش، وقيل: في هلكى بدر، وقيل: في متنصِّرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه، والظاهر أنها عامة في كل من كفر بالله ورسوله وحاد عن سبيلهما، وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين.
2 {البوار} : الهلاك.
3 الأمر للتهديد والوعيد، وفي اللفظ إشارة إلى قلّة ما في الدنيا من ملاذ مع سرعة زوالها ولزوم انقطاعها.(3/57)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
3- بشرى المؤمن بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمناً وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب منكراً ونكيراً على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له.
4- الأمر في قوله تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد.
قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
شرح الكلمات:
لا بيع فيه ولا خلال: هذا يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا صداقة.
الفلك: أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكَّر ويؤنث.
دائبين: جاريين في فلكهما لا يفتران أبداً حتى نهاية الحياة الدنيا.
لظلوم كفار: كثير الظلم لنفسه ولغيره، كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً {قل تمتعوا فإن(3/58)
مصيركم إلى النار} أمر رسوله أيضاً أن يقول للمؤمنين أن يقيموا الصلاة وينفقوا من أموالهم سراً وعلانية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرين فقال: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة1} أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها ويؤدوها في أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم وطهارة أرواحهم، {وينفقوا2} ويوالوا الإنفاق في كل الأحيان {سراً وعلانية} ، {من قبل أن يأتي يوم} وهو يوم القيامة {لا بيع فيه ولا خلال3} لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع، ولا خلة أي صداقة تنفعه ولا شفاعة إلا بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: {الله4 الذي خلق السماوات والأرض} أي انشأهما وابتدأ خلقهما {وأنزل من السماء ماء} هو ماء الأمطار {فأخرج به من الثمرات} والحبوب {رزقاً لكم} 5 تعيشون به وتتم حياتكم عليه {وسخر لكم الفلك} 6 أي السفن {لتجري في البحر بأمره} أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وتركبونها كذلك {وسخر لكم الأنهار} الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين7} لا يفتران أبداً في جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي لا تتم إلا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله {وسخر لكم الليل والنهار} الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا أرزاقكم {وآتاكم من كل ما سألتموه} 8 مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم، هذا هو الله المستحق لعبادتكم
__________
1 هي الصلوات الخمس: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
2 هي الزكاة ويدخل معها صدقة التطوع، إذ الكلّ انفاق، والسرية غالباً هي صدقة التطوع والعلانية هي الزكاة المفروضة.
3 {الخلال} جمع خلُة كقُلة وقلال، وهي المودة والصداقة والمنفي هنا هو آثارها بالنفع بالإرفاد والإسعاف بالثواب.
4 هذا استئناف واقع موقع الاستدلال على بطلان الشرك ووجوب التوحيد وما يترتب على ذلك من سعادة الموحدين وشقاء المشركين.
5 الرزق: القوت، وهو كل ما يقتات به من أنواع الحبوب والخضر والفواكه واللحوم.
6 التسخير هو التذليل والتطويع، وهو كناية عن كون الشيء قابلاً للتصرف فيه.
7 الدّؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية لا تختلف وفعله: دأب يدأب دؤوبا على الشر: إذا استمر عليه ولم يقطعه.
8 {من كل ما سألتموه} أي: من كل مسؤول سألتموه شيئاً فحذف مسؤول لدلالة الكلام عليه، والمقابل محذوف أي: ومن كل ما لم تسألوه، فإن هناك أشياء لم يسألها الإنسان، وأعطاه الله تعالى إيّاها، وهذا الحذف كقوله: {سرابيل تقيكم الحر..} وسرابيل تقيكم البرد: فحذف.(3/59)
رغبة فيه ورهبة منه، هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له وليس تلك الأصنام والأوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل والظلم والشر والفساد.
وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه لا يمكن للإنسان أن يعد نعم الله عليه ولا أن يحصيها عداً بحال من الأحوال، وقرر حقيقة في آخر هذه الموعظة والذكرى وهي أن الإنسان إذا حرم الإيمان والهداية الربانية {ظلوم} أي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمه، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار.
2- جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل.
3- التعريف بالله عز وجل إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى.
4- وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره.
5- وصف الإنسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ(3/60)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
شرح الكلمات:
هذا البلد آمنا: أي اجعل مكة بلداً آمناً يأمن كل من دخله.
واجنبني: بعِّدْني.
أن نعبد الأصنام: عن أن نعبد الأصنام.
أضللن كثيراً من الناس: أي بعبادتهم لها.
من تبعني فإنه مني: أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني.
من ذريتي: أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر.
بواد غير ذي زرع.: أي مكة إذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ.
تهوي إليهم: تَحِنُّ إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة.
على الكبر إسماعيل واسحق: أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعاً وتسعين سنه وولد له إسحق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة.
ولوالدي: هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك.
يوم يقوم الحساب: أي يوم يقوم الناس للحساب.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك،(3/61)
فقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم} أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى إليه بذلك ففسر هذا نبوة رسول الله ونزول الوحي إليه، وقوله: {رب اجعل هذا البلد آمنا} إي ذا أمن فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة.
وقوله: {واجنبني1 وبني أن نعبد الأصنام} فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى أجنبني أبعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد أولاده مشرك، وقوله: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} 2 تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها، وإضلال الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك، وقوله: {فمن تبعني} أي من أولادي {فإنه مني} أي على ملتي وديني، {ومن عصاني} فلم يتبعني على ملة الإسلام إن تعذبه فذاك وإن تغفر له ولم تعذبه {فإنك غفور3 رحيم} ، وقوله: {ربنا إني اسكنت من ذريتي} 4 أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل مع أمه هاجر {بواد غير ذي زرع} هو مكة إذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ وإلى آماد بعيدة وأزمنة عديدة {عند بيتك المحرم} قال هذا بإعلام من الله تعالى له أنه سيكون له بيت في هذا الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم القيامة لا يُصاد صيدها ولا يُختلي خلاها ولا تُسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال، وقوله: {ربنا ليقيموا الصلاة5 فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} هذا دعاء بأن ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله تعالى فيها بإقام الصلاة، فإن قلوب بعض الناس عندما تهفوا إلى مكة وتميل إلى الحج والعمرة تكون سبباً في نقل الأرزاق والخيرات إلى مكة، وقوله: {وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر، إذ النعم تقتضي
__________
1 أي: اجعلني جانباً عن عبادتها، وبنيه من صلبه وكانوا ثمانية: فما عبد منهم أحد صنماً قط. كان إبراهيم التميمي يقول: من يأمن البلاء بعد الخليل حتى يقول: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام.
2 نسب الإضلال إليهن وهن جمادات لا يفعلن شيئاً: لأنهن السبب في الإضلال.
3 فوّض الأمر لربه إن شاء غفر لمن عصاه رحمة، وإن شاء عذّبه. وقيل: قال إبراهيم هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك لأصحابه.
4 ذكر البخاري قصّة إسكان إبراهيم عليه السلام هاجر مكة، بالتفصيل فليرجع إليها ومن في قوله: {من ذريتي} للتبعيض إذ لم يسكن مكة إلا إسماعيل وباقي أولاده كانوا بالشام.
5 خص الصلاة بالذكر لأنها العبادة التي تشتمل على الذكر والشكر، وهي علّة الحياة وسرّ هذا الوجود والكلام في قوله {ليقيموا الصلاة} لام كي: التعليلية والفعل متعلق بأسكنت أي: أسكنتهم بمكة ليقيموا الصلاة فيها.(3/62)
شكراً، وقوله: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل إنما هو من باب إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار إلى ما عنده، وإلا فالله أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل شيء ولا يخفي1 عنه شيء في الأرض ولا في السماء.. وقوله: {الحمد الله الذي وهب لي على الكبر2 إسماعيل واسحق إن ربي لسميع الدعاء} أراد به حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه إسماعيل واسحق على كبر سنه، والإعلام بأن الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب إليه، وقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} أيضاً من يقيم الصلاة، لأن الصلاة هي علة الحياة كلها إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين، وأخيراً ألحَّ على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه3 وللمؤمنين يوم يقوم4 الناس للحساب وذلك يوم القيامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن.
2- الخوف من الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك.
3- علاقة الإيمان والتوحيد أولى من علاقة الرحم والنسب.
4- أهمية إقام الصلاة وأن من لم يرد أن يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على ترك الصلاة.
__________
1 قال ابن عباس في قوله تعالى: {إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} أي: من الوجد بإسماعيل وأمّه حيث أُسكنا بواد غير ذي زرع، والوجد: الحزن.
2 قيل: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له اسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
3 استغفر عليه السلام لوالديه قبل أن يتبين له عداوة أبيه آزر لله تعالى فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، كما تقدم في سورة التوبة، كما جاء فيها: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} فلذا لا يجوز الاستغفار لمن مات مشركاً، كما لا يجوز الصلاة عليه إذا مات إجماعاً.
4 نسبة القيام إلى الحساب كقولهم: قامت الحرب على ساق: يعنون اشتداد الأمر، وصعوبة الحال.(3/63)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
5- بيان استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام فيما سال ربه تعالى فيه.
6- وجوب حمد الله وشكره على ما ينعم به على عبده.
7- مشروعية الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات.
8- تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء.
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
شرح الكلمات:
عما يعمل الظالمون: أي المشركون من أهل مكة وغيرهم.
ليوم تشخص فيه الأبصار: أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال.
مهطعين مقنعي رؤوسهم: أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر، رافعي رؤوسهم.(3/64)
وأفئدتهم هواء: أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع.
نجب دعوتك.: أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل.
ما لكم من زوال: أي عن الدنيا إلى الآخرة.
وقد مكروا مكرهم: أي مكرت قريش بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه.
وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال: أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه لا قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه.
معنى الآيات:
في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل عذابه إنما يريد أن يؤخرهم {ليوم تشخص1 فيه الأبصار} أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال، {مهطعين2} أي مسرعين {مقنعي رؤوسهم3} أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم إلى المحشر، قال تعالى: {واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب} {لا يريد إليهم طرفهم4} أي لا تغمض أعينهم من الخوف {وأفئدتهم} أي قلوبهم {هواء} أي5
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون، وفعل الشخوص: شخص يشخص البصر: إذا سما وطمح من الخوف.
2 {مهطعين} اسم فاعل من أهطع يهطع إهطاعاً فهو مهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} أي: مسرعين، قال الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
والمهطع أيضاً من ينظر في ذل وخشوع.
3 {مقنعي} الإقناع: رفع الرأس ومنه الإقناع في الصلاة وهو مكروه وقد يطلق الإقناع أيضاً على تنكيس الرأس، يقال: أقنع رأسه: إذا طأطأه أو رفعه، واللفظ يحتمل الوجهين.
4 الطرف: العين، قال الشاعر:
وأغمض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي ماواها
يقال: طرف يطرف طرفاً إذا أطبق جفنه على الآخر، ولم يطرف: إذا فتح عينه ولم يغمضها.
5 هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول، والهواء: الخلاء.(3/65)
فارغة من الوعي والإدراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الآية (44) بإنذار الناس مخوفاً لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه، {يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا} أي أشركوا بربهم، وآذوا عباده المؤمنين {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} أي يطلبون الإنظار والإمهال {نجب دعوتك} أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك، فيقال لهم: توييخاً وتقريعاً وتكذيباً لهم: {أو لم تكونوا أقسمتم} أي حلفتم {من قبل ما لكم من زوال} أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا إلى الآخرة، {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالشرك والمعاصي {وتبين لكم} أي عرفتم {كيف فعلنا بهم} أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم، وقوله تعالى: {وقد مكروا مكرهم} أي وقد مكر كفار قريش برسول الله في حيث قرروا حبسه مغللاً في السجن حتى الموت أو قتله، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه {وعند الله مكرهم} أي علمه وما أرادوا به، وجزاؤهم عليه، وقوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال1} أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت، فإنه لا يحدث منه شيء، وفعلاً قد خابوا فيه أشد الخيبة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.
2- بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.
3- التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.
__________
1 قرىء: {لتزول} بفتح اللام الأولى وضم الآخرة لتزول، وإن مخففة من الثقيلة، واللام لام الابتداء، ومعنى الآية. استعظام مكرهم حتى لتكاد الجبال تزول منه، وما في التفسير من قراءة وتوجيه هو الذي رجّحه ابن جرير الطبري. هنا ذكر القرطبي بإسهاب قصّة النمرود الجبار الذي حاج إبراهيم عليه السلام، ولا طائل تحتها.(3/66)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
4 – تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52)
شرح الكلمات:
إن الله عزيز: أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال هن الأحوال.
ذو انتقام: أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله.
يوم تبدل الأرض: أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض.
وبرزوا لله: أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم.
مقرنين: أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.
في الأصفاد: الأصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره.
سرابيلهم: أي قمصهم التي يلبسونها من قطران.
هذا بلاغ: أي هذا القرآن بلاغ للناس.
أولوا الألباب: أصحاب العقول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين(3/67)
وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله1} إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت، إنه لابد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. {إن الله عزيز2} أي غالب لا يغلب غالب على أمره ما يريده لا بد واقع {ذو انتقام} شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه، واذكر {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات3} كذلك {وبرزوا} أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا {لله الواحد القهار} ، {وترى المجرمين يومئذ} يا رسولنا تراهم {مقرنين في الأصفاد} 4 مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم، هؤلاء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على أنفسهم أولاً ثم على غيرهم ثانياً سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه، الجميع قد أجرموا في حقهم، {سرابيلهم5} قمصانهم التي على أجسامهم {من قطران} وهو ما تدهن به الإبل: مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس إذْ قرئ من قِطرآن أي من نحاس أُحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة {وتغشى وجوههم النار} أي وتغطي وجوههم النار بلهبها، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة، فعل تعالى هذا بهم {ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب} فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها إلا كمن دخل
__________
1 {مخلف} مفعول ثان لحسب، ووعده: مجرور بالإضافة، ورسله: معمول لمخلف مؤخر، والأصل: مخلف رسله. وعده، وقدّم الوعد للاهتمام به.
2 جملة تعليلية للنهي عن حسبان خلف وعده تعالى.
3 الآية نصّ صريح في كون الأرض والسموات تتبدل في ذاتها وسائر صفاتها وتزول تماماً ويخلق الله تعالى أرضاً غير ذي وسماء غير هذه، وفي الحديثين الآتيين ما يقرر ذلك:
أ- حديث مسلم، وفيه: "إنّ يهوديا سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: في الظلمة دون الجسر".
ب- حديث ابن ماجه بإسناد مسلم قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط".
4 الأصفاد: جمع صفد بفتح كل من الصاد والفاء، وهو الغلّ والقيد يشد به ويربط الجاني قال الشاعر:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأُبنا بالملوك مصفدين
5 واحد السرابيل: سربال، وهو القميص، يقال: تسربل، إذا لبس السربال وكونها من قطران لشدّة حرارتها، واشتعال النار فيها.(3/68)
مع باب وخرج مع آخر، وأخيراً يقول تعالى: {هذا بلاغ للناس1 وليذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} أي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب الناس {ولينذروا به} أي بما فيه من العظات والعبر والعرض لألوان العذاب وصنوف الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد، {وليعلموا} أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين {أنما هو إله واحد} أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله، فلا يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق، وما عداه فباطل، {وليذكر أولوا الألباب} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب الله وعذابه، وليفوزوا برحمته ورضوانه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله وأوليائه.
2- بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم.
3- بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.
4- قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} هذه الآية صالحة لأن تكون عنواناً2 للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونه كاملاً مع وجازة اللفظ وجمال العبارة، والحمد لله أولاً وآخراً.
__________
1 {بلاغ} أي: تبليغ للناس يقوم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 قال هذا: العلامة الشيخ، البشير الإبراهيمي الجزائري، وظننا أنّه إلهام من الله تعالى له، د إذا بنا نعثر في كلام الأولين على من قاله، وسبق به وجائز أن يكون الشيخ ألهمه والآخر كذلك، وتوارد الخواطر معروف ولا مانع من النقل والسكوت على من نقل عنه، إذ العلم مشاع كالماء والهواء لا غنى لأحد عنهما، ولذا فلا بأس أن ينقل العلم ولا ينسب إلى قائله لكن لا ينسب إلى غير قائله، فتلك سرقة ممنوعة.(3/69)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
الجزء الرابع عشر
سورة الحجر
مكية
وآياتها تسع وتسعون
بسم الله الرحمن الرحيم
الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
شرح الكلمات:
آلر: الله أعلم بمراده بذلك، تُكتب آلر. ويقرأ: ألِفْ، لاَمْ، را.
تلك آيات الكتاب: الآيات المؤلفة مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات الكتاب أي القرآن.
يود: يحب ويرغب متمنياً أن لو كان من المسلمين.
ويتمتعوا: أي بالملذات الشهوات.
ويلههم الأمل: أي بطول العمر وبلوغ الأوطار وإدراك الرغائب الدنيوية.
إلا ولها كتاب معلوم: أي أجل محدود لإهلاكها.
ما تسبق من أمة أجلها: أي لا يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد.
معنى الآيات:
بما أن السورة مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث. قوله تعالى: {آلر} : الله أعلم بمراده به، ومن فوائد هذه الحروف المقطعة تنبيه السامع وشده بما يسمع من التلاوة، إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به، فكانت هذه الفواتح التي لم يألفوا مثلها في كلامهم تشدهم إلى سماع ما بعدها من القرآن. وقوله: {تلك آيات(3/70)
الكتاب} 1 من الجائز القول. الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر، آلم، طس، حمَ عَسَقَ. (تلك آيات الكتاب وقرآنٍ مبين} المبين: المبين للحق والباطل والهدى والضلال وقوله تعالى: {ربما2 يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} : يخبر تعالى أن يوماً سيأتي هو يوم القيامة عندما يرى الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنياً أن لو كان من3 المسلمين. وقد يُحدث الله تعالى ظروفاً في الدنيا وأموراً يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين. وقوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} أي اتركهم يا رسولنا، أي اترك الكافرين يأكلوا ما شاءوا من الأطعمة، ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات، ويلههم الأمل عن التفكير في عاقبة أمرهم. إذ همهم طولُ أعمارهم، وتحقيق أوطارهم، فسوف يعلمون إذا رُدّوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون أنهم كانوا في الدنيا مخطئين بإعراضهم عن الحق ودعوة الحق والدين الحق وقوله: {وما أهلكنا من4 قرية} أي من أهل قرية بعذاب الإبادة والاستئصال {إلا ولها كتاب} ، أي لها أجل مكتوب في كتابٍ محدد اليوم والساعة. وقوله: {.. ما تسبق من أمةٍ أجلها وما يستأخرون} أي بناءً على كتاب المقادير فإن أمة كتب الله هلاكها لا يمكن أن يتقدم هلاكها قبل ميقاته المحدد، ولا أن يستأخر عنه ولو ساعة. وفي هذا تهديدٌ وتخويف لأهل مكة وهم يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها كتابٌ وحدد لها أجل وهم لا يشعرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن الكريم مبينٌ لكل ما يحتاج إليه في إسعاد الإنسان وإكماله.
__________
1 لفظ الكتاب الذي هو القرآن أصبح علماً بالغلبة على القرآن العظيم الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمي بالكتاب لأنه مأمور بكتابته وحفظه فسمي بالكتاب قبل أن يكتب للأمر بذلك، والقرآن: اسم ثان للكتاب الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والكتاب مشتق من الكتب الذي هو الجمع، والقرآن من القرء الذي هو الجمع أيضاً فهو تجمع حروفه وكلماته.
2 ربّ: حرف جرٌ يدخل على الأسماء، وإن أريد إدخالها على الأفعال لحقت بها (ما) كما في الآية. وقرأ نافع {رُبَمَا} بالتخفيف، وشدّدها غيره في هذه الآية {ربما يودّ الذين كفروا..} الخ وأصل استعمالها في التقليل، وقد تستعمل في الكثير.
3 وقد ورد أنه لما يرى الكافرون وهم في النار أهل التوحيد يخرجون منها يودون لو كانوا موحدين، والكل وارد ولا مانع منه.
4 {من} : صلة لتقوية النفي وتأكيد الخبر.(3/71)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
2- إنذار الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للإسلام فإن يوماً سيأتي يتمنون فيه أن لو كانوا مسلمين.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر فما من شيء إلا وسبق به علم الله وكتبه عنده في كتاب المقادير الحياة كالموت، والربح كالخسارة، والسعادة كالشقاء، جميع ما كان وما هو كائنٌ وما سكون سبق به علم الله وكتب في اللوح المحفوظ.
وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (11)
شرح الكلمات:
نزل عليه الذكر.: أي القرآن الكريم.
لو ما تأتينا بالملائكة: أي هلا تأتينا بالملائكة تشهد لك أنك نبي الله.
وما كانوا إذاً منظرين: أي ممهلين، بل يأخذهم العذاب فور نزول الملائكة.
إنا نحن نزلنا الذكر: أي القرآن.
في شيع الأولين: أي في فرق وطوائف الأولين.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة {إنك لمجنون} أي غير عاقل وإلا لما ادعيت النبوة. وفي قولهم هذا استهزاء(3/72)
ظاهر بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله: {لوما تأتينا1 بالملائكة} لو ما هنا بمعنى هلا التحضيضيه أي هلا تأتينا بالملائكة نراهم عياناً يشهدون لك بأنك رسول الله {إن كنت من الصادقين} في دعواك النبوة والرسالة فأت بالملائكة تشهد لك. قال تعالى {ما ننزل2 الملائكة إلا بالحق} أي نزولاً ملتبساً بالحق. أي لا تنزل الملائكة إلا لإحقاق الحق وإبطال الباطل لا لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملائكة ولم يؤمنوا لنزل بهم العذاب فوراً {وما كانوا إذاً منظرين3} أي ممهلين بل يهلكون في الحال. وقوله تعالى في الآية (9) {إنا نحن نزلنا الذكر} أي القرآن {وإنا له لحافظون} أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لأنه حجتنا على4 خلقنا إلى يوم القيامة. أنزلنا الذكر هدى ورحمه وشفاء ونوراً. هم يريدون العذاب والله يريد الرحمة. مع أن القرآن نزلت به الملائكة، والملائكة إن نزلت ستعود إلى السماء ولم يبق ما يدل على الرسالة إلا القرآن ولكن القوم لا يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم بل سبقتهم طوائف وأمم أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى: {ولقد5 أرسلنا من قبلك في شيع6 الأولين} أي في فرقهم وأممهم {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به7 يستهزئون} لأن علة المرض واحدة إذاً فلا تيأس يا رسول الله ولا تحزن بل اصبر وانتظر وعد الله لك بالنصر فإن وعده حق: {كتب ألله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} .
__________
1 {لوما} كلولا وهلاّ: حرف تحضيض على الفعل نحو: لو ما أكرمت عمراً ولولا أكرمت زيداً وهلا كذلك، وتأتي مع الخبر فلا يراد بها التحضيض نحو: لو ما خوف الله لقلت فيك كذا وكذا، قال الشاعر:
لو ما الحياء ولوما الدين عبتكما
ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري
2 قرأ حفص: {ما ننزل الملائكة} وقرأ بعضهم {ما تنزّل} وقرأ ورش عن نافع {ما تُنَزَّل} بحذف إحدى التائين نخفيفاً، إذ الأصل: تتنزّل.
3 أصل: إذاً: إذ أن، ومعناها حينئذ أي: تنزّلت الملائكة بإهلاكهم لما كانوا حينئذ منظرين أي. ممهلين ساعة من الزمن.
4 قالت العلماء: لما وكل الله تعالى حفظ التوراة والإنجيل إلى أهل الكتاب في قوله {بما استحفظوا من كتاب الله} أضاعوه فزادوا فيه ونقصوا منه، ولمّا تولى الله تعالى حفظ القرآن، حفظه فلم يردْ فبه حرف ولم ينقص منه حرف.
5 {ولقد أرسلنا} الخ.. هذه الجملة إبطال لاستهزاء المشركين بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طريقة التمثيل بأشياعهم من الأمم السابقة.
6 الشِيعَ: جمع شيعة، وهي الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة، وفيه قوله تعالى {أو يلبسكم شيعا} أي: فرقاً كل فرقة تتألف مع أفرادها، وتحارب عن مبادئها وأفكارها وما هي عليه من دين وعادة.
7 تقديم الجار والمجرور (به) على فعل يستهزئون: لإفادة القصر للمبالغة أي: كأنهم لفساد قلوبهم لا شغل لهم إلا الاستهزاء برسول الله عز وجل.(3/73)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان يلقاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استهزاء وسخرية من المشركين.
2- مظهر من مظاهر رحمة الله بالإنسان، يطلب نزول العذاب والله ينزل الرحمة.
3- بيان حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع.
4- بيان سنة الله تعالى في الأمم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم ويدعوهم إلى جديد من الخير والهدى إلا وينكرون ويستهزئون.
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18)
شرح الكلمات:
كذلك نسلكه: أي التكذيب بالقرآن أو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد خلت سنة الأولين: أي مضت سنة الأمم السابقة.
فظلوا فيه يعرجون: أي يصعدون.
إنما سُكِّرت: أي سدت كما يُسَكَّرُ النهر أو الباب.
في السماء بروجا: أي كواكب ينزلها الشمس والقمر.
شيطان رجيم: أي مرجومٌ بالشهب.
شهاب مبين: كوكب يُرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يُخْبلُهُ أي يفسده.(3/74)
معنى الآيات:
ما زال السياق في المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملائكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها. قال تعالى: {كذلك نسلكه1} أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك، كما سلكناه حسب سنتنا في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه {في قلوب المجرمين} من قومك فلا يؤمنون بك ولا بالذكر الذي أنزل عليك. وقوله تعالى: {وقد خلت سنة الأولين2} أي مضت وهى تعذيب المكذبين للرسل المستهزئين بهم لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. وقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم3 باباً من السماء فظلوا} أي الملائكة أو المكذبون {فيه} أي في ذلك الباب {يعرجون} أي يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء {إنما سكرت أبصارنا} أي منعت من النظر الحقيقي فلم نر الملائكة ولم نرى السماء {بل نحن4 قوم مسحورون} فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقية لها، وقوله تعالى: {ولقد جعلنا5 في السماء بروجا} أي كواكب6 هي منازل للشمس والقمر ينزلان بها وعلى مقتضاها يعرف عدد السنين والحساب. وقوله: {زيناها} أي السماء بالنجوم {للناظرين} فيها من الناس. وقوله: {وحفظناها} أي السماء الدنيا {من كل شيطان رجيم} أي مرجوم ملعون. وقوله: {إلا من أسترق السمع} إلا مارد من الشياطين طلع إلى السماء لاستراق السمع من الملائكة لينزل بالخبر إلى وليه من الكهان من الناس {فاتبعه شهاب} من نار {مبين} أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما بإحراقه. هذه الآيات وهي قوله تعالى: {ولقد جعلنا
__________
1 عود الضمير في {نسلكه} على القرآن أولى إذ السياق تابع لقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك من شيع الأولين} أي: أرسل فيهم رسلاً وكانوا ينزل عليهم آياتنا ولم ينتفعوا لإعراضهم عنها فلا تعيها قلوبهم ولا تدركها فُهو مُهم، ولا يتأثرون بها لوجود حرائل حالت دون ذلك، وهي الكبر والحسد والعناد وكذلك المسلك الذي سلكناه في قلوب الأولين نسلكه اليوم في قلوب المجرمين فيدخل القرآن عند سماعه إلى قلوبهم ولا يلامسها ولا يباشرها فلا تتأثر به وذلك لحوائل منها الحسد والعناد والكبر، وتلك سنّة الله تعالى في أمثالهم، وأصل السلك: إدخال الشيء في آخر.
2 في الآية تعريض للمجرين بالهلاك.
3 هذه الآية كقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} .
4 أي: أضربوا عن القول الأوّل. وهو قولهم: إنّما سكّرت أبصارنا إلى قلولهم بل نحن قوم مسحورون. أي ما رأينا شيئاً ثم أقرّوا بأنهم رأوا ولكن ما رأوه إنما هو تخيلات المسحور لا غير.
5 هذا شروع في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيد والمقررة للبعث والجزاء.
6 هذا كقوله تعالى: {تبارك الذي جعل في الماء بروجاً} أي: كواكب.(3/75)
في السماء بروجاً} إلى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل، القصد منه إظهار قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لإرسال الرسول وإنزال الكتاب لهداية الناس إلى عبادة ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والآخرة، ولكن المكذبين لا يعلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
2- مطالبة المكذبين المجرمين بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا.
3- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت الآيات من مظاهر لذلك، بدءاً من قوله: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً1} إلى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم.
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ
__________
1 البروج: جمع برج وهو في الأصل البناء الكبير المحكم البناء الذي يظهر من بعيد قال تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} أي: قصور ظاهرة، ومنه: المرأة تتبرّج بزينتها: أي تظهرها، والمراد من البروج في الآية: كواكب ثابتة غير سيارة هي منازل الشمس والقمر، وسمى هذه البروج العرب بأسماء تخيلوا أشكالها في السماء وهي: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، ابتداء من فصل الربيع وانتهاء بفصل الشتاء.(3/76)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
شرح الكلمات:
والأرض مددناها: أي بسطناها.
وألقينا فيها رواسي: أي جبالا ثوابت لئلا تتحرك الأرض.
موزون: أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى.
معايش: جمع معيشة أي ما يعيش عليه الإنسان من الأغذية.
ومن لستم له برازقين: كالعبيد والإماء والبهائم.
وما ننزله إلا بقدر معلوم: أي المطر.
وأرسلنا الرياح لواقح: أي تلقح السحاب فيمتلىء ماءً كما تنقل مادة اللقاح من ذكر الشجر إلى أنثاه.
وما أنتم له بخارنين: أي لا تملكون خزائنه. فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون.
المستقدمين منكم والمستأخرين: أي من هلكوا من بني آدم إلى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم أحياء وممن لم يوجدوا بعد إلى يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات الإيمان به وعبادته وتوحيده والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه1. قوله تعالى: {والأرض2 مددناها} أي بسطناها {وألقينا فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت تثبت الأرض حتى لا
__________
1 وموجبة أيضاً للبعث الآخر والوحي الإلهي.
2 هنا انتقال من عرض آيات الله في السماء إلى آياته في الأرض.(3/77)
تتحرك أو تميد بأهلها فيهلكوا، {وأنبتنا فيها في كل شيء موزون1} أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى. وقوله: {وجعلنا لكم فيها معايش2} عليها تعيشون وهي أنواع الحبوب والثمار وغيرها، وقوله: {ومن لستم له برازقين3} بل الله تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والإماء والبهائم. وقوله: {وإن من شيء4 إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدرٍ معلوم} أي ما من شيء نافع للبشرية هي في حاجة إليه لقوام حياتها عليه إلا عند الله خزائنه، ومن ذلك الأمطار، لكن ينزله بقدرٍ معلوم حسب حاجة المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها، وهو كقوله: {بيده الخير وهو على كل شيء قدير} وكقوله: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما شاء الله إنه بعباده خبير بصير} وقوله: {وأرسلنا الرياح لواقح5} أي تلقح السحاب فتمتلىء ماء، {فأنزلنا من السماء ماءاً} بقدرتنا وتدبيرنا {فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه من تشاءون وتعطونه من تشاءون بل الله تعالى هو المالك لذلك، فينزله على أرض قوم ويمنعه آخرين وقوله: {إنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون، ولقد علمنا المستقدمين6 منكم} أي الذين ماتوا من لدن آدم {ولقد علمنا المستأخرين} ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون إلى يوم القيامة، الجميع عَلِمَهُم الله، وغيره لا يعلم فلذا استحق العبادة وغيره لا يستحقها. وقوله {وإن ربك} أيها الرسول {هو يحشرهم} أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم، وهذا متوقفٌ على القدرة والحكمة والعلم، والذي أحياهم ثم أماتهم قادرٌ على إحيائهم مرةً أخرى والذي عَلِمهُمْ قبل خلقهم وعلمهم بعد خلقهم
__________
1 قال: {موزون} : لأنّ الوزن يعرف به مقدار الشيء، والموزون من الكلام وغير الخالي من النقص والزيادة، والمراد أن ما أنبته الله تعالى في الأرض من سائر النباتات والمعادن من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يكال ويوزن.
2 واحد المعايش: معيشة، وهي المطاعم والمشارب والملابس والمراكب أيضاً، إذ كل هذا يدخل تحت العيش حتى قيل: المعايش: إنها التصرف في أسباب الرزق مدّة الحياة.
3 الرزق: بفتح الراء مصدر رزقه يرزقه رزقاً، والرّزق بكسر الراء فهو الاسم وهو القوت.
4 أي: نافع للناس لا مطلق الأشياء التي لا نفع للناس فيها.
5 في قوله: {وأرسلنا الرياح لواقح} استدلال بظاهرة كرة الهواء بين السماء والأرض بعد الاستدلال بالسماء والأرض، ولواقح حال من الرياح ولواقح صالح لأن يكون جمع لاقح، وهي الناقة الحبلى أو ملقح وهو الذي يجعل غير لاقحاً.
6 ويدخل في معنى الآية المستقدمين في الطاعة والخير، والمستأخرين في المعصية والشر كما يدخل أيضاً المستقدمين في صفوف الحرب والصلاة، والمستأخرين في ذلك، والآية دليل على فضل السبق في الخير وعلى فضل الصف الأول في القتال والصلاة، وفي الحديث الصحيح: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا".(3/78)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
قادرٌ على حشرهم والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه لا يخلقهم عبثاً بل خلقهم ليبلوهم ثم ليحاسبهم ويجزيهم إنه هو الحكيم العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلي:
أ- خلق الأرض ومدّها وإلقاء الجبال فيها. إرسال الرياح لواقح للسحب.
ب- إنبات النباتات بموازين دقيقة. إحياء المخلوقات ثم إماتتها.
ج- إنزال المطر بمقادير معينة. علمه تعالى بمن مات ومن سيموت.
2- تقرير التوحيد أن من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ هذا الكلام كلام الله أوحاه إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33)
شرح الكلمات:
ولقد خلقنا الإنسان: أي آدم عليه السلام.(3/79)
من صلصال من حمإ مسنون: أي طين يابس له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير.
من نار السموم:. نار لا دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري.
فإذا سويته: أي أتممت خلقه.
فقعوا له ساجدين: أي خِرّوا له ساجدين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته. قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} أي آدم {من صلصال} أي طين يابس يسمع له صوت صلصلة. {من حمإ مسنون1} أي طين أسود متغير الريح، هذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله: {والجان خلقناه من قبل} من قبل خلق آدم والجان هو2 أبو الجن خلقناه {من نار السموم} ونار السموم نار لا دخان لها تنفذ في مسام الجسم.. وقوله: {وإذ قال ربك} أي اذكر يا رسولنا إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادةٍ لآدم، إذ المعبود هو الآمر المطاع وهو الله تعالى. فسجدوا {إلا إبليس3 أبى} أي امتنع أن يكون مع الساجدين. وقوله: {قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين} أي أيُ شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من الملائكة؟ فأظهر اللعين سبب امتناعه وهو حسده لآدم واستكباره، فقال {لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من حماءٍ مسنون} وفي الآيات التالية جواب الله تعالى ورده عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين، والجان وهو لهب النار.
2- فضل السجود، إذ أمر تعالى به الملائكة فسجدوا أجمعون إلا إبليس.
__________
1 ترتيب طينة آدم التي خلق منها كما في الآية هكذا: تراب بلّ بالماء فصار طينا ثمّ ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنوناً أي: منغيّراً ثمّ يبس فصار صلصالا والمسنون: المتغير، بسب مكثه مدّة كسنة مثلا.
2 وفي صحيح مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجان: أبو الجن وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس، والجنّ يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر فآدم أبو الإنس، والجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين.(3/80)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
3- ذم الحسد وأنه شر الذنوب وأكثرها ضرراً.
4- ذم الكبر وأنه عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة.
5- فصل الطين على النار لأن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس.
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44)
شرح الكلمات:
قال فاخرج منها: أي من الجنة.
فإنك رجيم: أي مرجومٌ مطرودٌ ملعون.
إلى يوم الوقت المعلوم: أي وقت النفخة الأولى التي تموت فيها الخلائق كلها.
بما أغويتني: آي بسبب إغوائك لي أي إضلالك وإفسادك لي.
المخلصين: أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي لا يعمل فيهم.
هذا صراطٌ علي مستقيم: أي هذا طريقٌ مستقيم موصل اليَّ وعليَّ مراعاته وحفظه.
لها سبعة أبواب.: أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم، ثم لظى، ثم الحُطمة، ثم السعير، ثم سَقَر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.(3/81)
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فاخرج منها} هذا جوابٌ عن قول إبليس، {لم أكن لأسجد لبشر} . الآية إذاً فاخرج منها أي من الجنة {فإنك رجيم} أي مرجوم مطرود مبعد، {وإن عليك} لعنتي أي غضبي وإبعادي لك من السموات {إلى يوم الدين} أي إلى يوم القيامة وهو يوم الجزاء. فقال اللعين ما أخبر تعالى به عنه: {قال رب فانظرني} أي أمهلني لا تمتني {إلى يوم يبعثون1} فأجاب الرب تعالى بقوله: {فإنك من المنظرين} أي الممهلين {إلى يوم الوقت المعلوم2} وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم أحد وذلك عند النفخة الأولى. فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله: {قال رب بما أغويتني} أي بسبب إغوائك {لأزينن لهم في الأرض3} أي الكفر والشرك وكبائر الذنوب، و {لأغوينهم} أي لأضلنّهم {أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} فاستثنى اللعين من استخلصهم الله تعالى لطاعته وأكرمهم بولايته وهم الذين لا يَسْتَبِدُّ بهم غضبٌ ولا تتحكم فيهم شهوة ولا هوى. وقوله تعالى: {قال هذا صراط علي مستقيم} أي هذا طريق مستقيم إليَّ أرعاه وأحفظه وهو {إن عبادي4 ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين5} {وإن جهنم} لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين {لها سبعة أبواب} إذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة، وهو معنى قوله تعالى: {لكل باب منهم جزء مقسوم} أي نصيبٌ معين وطبقاتها هي: جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمان إبليس من التوبة لاستمرار غضب الله عليه إلى يوم القيامة.
2- استجاب الله لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز أن يستجيب الله دعاء الكافر لحكمة يريدها الله تعالى.
__________
1 أراد اللعين بسؤاله إلى يوم يبعثون ألاّ يموت، لأنّ يوم البعث لا موت فيه ولا بعده أيضاً.
2 قال ابن عباس: أراد به النفخة الأولى أي: حين تموت الخلائق.
3 التزيين: يشمل أمرين. الأول: تزيين المعاصي والثاني: شغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعات.
4 أي: ليس له سلطان على قلوبهم، وقال ابن عيينة، أي: في أن يلقيهم في ذنب.
5 الغاوين: الفاسدين بالشرك والمعاصي.(3/82)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
3- أي سلاح يغوي به إبليس بني آدم هو التزين للأشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحة يصيرها بوسواسه زينة حسنة حتى يأتيها الآدمي.
4- عصمة الرسل وحفظ الله للأولياء حتى لا يتلوثوا بأوضار الذنوب.
5- طريق الله مستقيم إلى الله تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا إلى الله سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر.
6- بيان أن لجهنم طبقات واحدة فوق أخرى ولكل طبقةٍ بابها فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة لا غير.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)
شرح الكلمات:
إن المتقين: أي الذين خافوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم من العبادات.(3/83)
ونزعنا ما في صدورهم من غل: أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء.
على سرر متقابلين: أي ينظر بعضهم إلى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا دارت بهم الأسرة فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
لا يمسهم فيها نصب: أي تعب.
العذاب الأليم: أي الموجع شديد الإيجاع.
ضيف إبراهيم: هم ملائكة نزلوا عليه وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم كان من بينهم جبريل وكانوا في صورة شباب من الناس.
إنا منكم وجلون: أي خائفون وذلك لمَّا رفضوا أن يأكلوا.
بغلام عليم.: أي بولد ذي علم كثير هو إسحق عليه السلام.
فبم تبشرون: أي تَعَجَّبَ من بشارتهم مع كبره بولد.
من القانطين: أي الآيسين.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء اتباع إبليس الغاوين، ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان فقال تعالى مخبراً عما أعد لهم من نعيم مقيم: {إن المتقين1} أي الله بترك الشرك والمعاصي {في جنات وعيون2} يقال لهم {ادخلوها3 بسلامٍ آمنين} أي حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع. وقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل4} أي لم يُبقِ الله تعالى في صدور أهل الجنة ما يبغصُ نعيمها، أو يكدر صفوها كحقدٍ أو حسدٍ أو عداوةٍ أو شحناء. وقوله: {إخواناً على سررٍ متقابلين} لما طهر صدورهم مما
__________
1 روي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية: {إنّ جهنم لموعدهم أجمعين} فرّ ثلاثة أيام من الخوف فجيء به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية: {إن جهنم..} الخ فوالذي بعثك بالحق لقد قطّعت قلبي فأنزل الله تعالى: {إنّ المتقين في جنات وعيون} .
2 هي الأنهار الأربعة: ماء، وخمر، ولبن، وعسل المذكورة في سورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 بسلامة من كل داء وآفة، وقيل: بتحية من الله تعالى آمنين من الموت والعذاب.
4 قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذُهب الله ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم.(3/84)
من شأنه أن ينغص أو يكدر،. أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضاً إخوانا يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه، وإذا أرادوا الانصراف إلى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا ينظر أحدهم إلى قفا أخيه. وقوله تعالى: {لا يمسهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين} فيه الإخبار بنعيمين: نعيم الراحة الأبدية إذ لا نصب ولا تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها إذ هم لا يخرجون منها أبداً. وفي هذا تقرير لمُعْتَقَدِ البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها. وقوله تعالى: {نبىء عبادي1 أني أنا الغفور الرحيم} أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم. رحيم بهم فلا يعذبهم. {وأن عذابي هو العذاب الأليم} ونبئهم أيضاً أن عذابي هو العذاب الأليم فليحذروا معصيتي بالشرك بي، أو مخالفة أوامري وغشيان محارمي. وقوله تعالى: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم2. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما} أي سلموا عليه فرد عليهم السلام وقدم لهم قِرَى الضيف وكان عجلاً حنيذاً، كما تقدم في هود وعرض عليهم الأكل فامتنعوا وهنا قال: {إنا منكم وجلون3} أي خائفون، وكانوا جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورةِ لشباب حسان. فلما أخبرهم بخوفه منهم، لأن العادة أن النازل على الإنسان إذا لم يأكل طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوءً. {قالوا لا توجل} أي لا تخف، {إنا نبشرك بغلامٍ عليم} أي بولدٍ ذي علم كثير. فرد إبراهيم قائلاً بما أخبر تعالى عنه بقوله: {قال أبشرتموني على أن مسني4 الكبر فبم5 تبشرون} أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أمر عجيب، فلما تعجب من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له: {بشرناك6 بالحق فلا تكن من القانطين7} أي
__________
1 شاهد هذه الآية قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد".
2 هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام. والضيف: لفظ يطلق على الواحد والاثنين والجماعة.
3 قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل المشوي ليأكلوا فلم يأكلوا.
4 أن: مصدرية، والتقدير: على من الكبر إياي وزوجتي.
5 الاستفهام للتعجب أو هو على حقيقة.
6 أي: بما لا خلف فيه، وأن الولد لا بدّ منه.
7 قراءة العامة: {القانطين} ، وقرىء القنطين بدون ألف، ويكون الفعل حينئذ من قنط يقنط كفرح يفرح فهو فرح، وعلى قراءة الجمهور فهو من باب فعل يفعل كضرب يضرب فهو ضارب.(3/85)
الآيسين. وهنا رد عليهم م قائلاً نافياً القنوط عنه لأن القنوط حرام. {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} أي الكافرون بقدرة الله ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نعيم الجنة، وأن نعيمها جسماني روحاني معاً دائم أبداً.
2- صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره.
3- وعد الله بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديّه.
4- وعيده لأهل معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم.
5- مشروعية الضيافة وأنها من خلال البر والكرم.
6- حرمة القنوط واليأس من رحمة الله تعالى.
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66)(3/86)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
شرح الكلمات:
قال فما خطبكم: أي ما شأنكم؟
إلى قوم مجرمين: هم قوم لوط علية السلام.
إنا لمنجوهم أجمعين: أي لإيمانهم وصالح أعمالهم.
الغابرين: أي الباقين في العذاب.
قوم منكرون: أي لا أعرفكم.
بما كانوا فيه يمترون: أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم.
حيث تؤمرون: أي إلى الشام حيث أمروا بالخروج إليه.
وقضينا إليه ذلك الأمر: أي فرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن ضيف إبراهيم، وها هو ذا قد سألهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله: {قال فما خطبكم1 أيها المرسلون} أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل الله تعالى إذ هم ملائكته {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين2} أي على أنفسهم، وعلى غيرهم وهم اللوطيون لعنهم الله. قوله تعالى: {إلا آل لوط} آل بيته والمؤمنين معه، {إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا} أي قضينا3 {إنها لمن الغابرين} أي الباقين في العذاب، أي قضى الله وحكم بإهلاكها في جملة من يهلك لأنها كافرة مثلهم. إلى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا إلى مدينة لوط عليه السلام قال تعالى {فلما جآء آل لوط المرسلون} أي انتهوا إليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليه السلام لهم {إنكم قوم منكرون} أي لا أعرفكم وأجابوه قائلين: نحن رسل ربك جئناك بما كان قومك فيه يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم، {وأتيناك بالحق} الثابت الذي لا شك فيه {وإنا لصادقون} فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين.
__________
1 الخطب: الأمر الخطير والشأن العظيم.
2 في الكلام إضمار جملة {لنُهلكهم} فلذا كان الاستثناء إلا آل لوط، وهم أتباعه وأهل بيته.
3 وكتبنا في كتاب المقادير.(3/87)
وعليه {فاسر بأهلك بقطع من الليل} أي أسر بهم في جزء من الليل، و {اتبع أدبارهم} أي امش وراءهم1 وهم أمامك {ولا يلتفت منكم أحد} بأن ينظر وراءه، أي حتى2 لا يرى ما يسوءه عند نزول العذاب بالمجرمين، وقوله {وامضوا حيث تؤمرون} أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب إلى الشام. وقوله تعالى: {وقضينا3 إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} 4 أي وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، أي أنهم مهلكون عن آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح حتى تُقلب بهم الأرض ويهلكوا عن آخرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالإجرام وبيان عقوبة المجرمين.
2- لا قيمة للنسب ولا للمصاهرة ولا عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والإجرام بين الأنساب والأقرباء فامرأة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليه السلام.
3- مشروعية المشي بالليل لقطع المسافات البعيدة.
4- مشروعية مشي المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة لتفقد أحوالهم، والإطلاع على من يتخلف منهم لأمر، وكذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.
5- كراهية الإشفاق على الظلمة الهالكين، لقوله: ولا يلتفت منكم أحد أي: بقلبه.
وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا
__________
1 لئلا يتخلّف منهم أحد فيهلك مع الهالكين.
2 أو نهوا عن الالتفات ليجدّوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح موعد هلاك القوم.
3 قضينا: قدرنا، وضمن معنى أوحينا فعدي بإلى، والقدير: وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه بما قضينا، وجملة: {أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} . مفسرة لذلك الأمر والإشارة للتهويل.
4 {مصبحين} أي: داخلين في الصباح، ومثله، مشرقين أي: داخلين في وقت الإشراق.(3/88)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79)
شرح الكلمات:
وجاء أهل المدينة يستبثسرون: أي مدينة سدُوم، أي فرحين بإتيانهم الفاحشة.
واتقوا الله ولا تخزون: أي لا تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي.
أولم ننهك عن العالمين: أي عن إجارتك لهم واستضافتك.
لفي سكرتهم يعمهون: أي غوايتهم، وشدة غُلّمتهم1 التي أزالت عقولهم، يترددون.
مشركين: أي وقت شروق الشمس.
من سجيل: أي طين طُبِخَ بالنار.
لآيات للمتوسمين: أي الناظرين المعتبرين.
لبسبيل مقيم: أي طريق قريش إلى الشام مقيم دائم ثابت.
أصحاب الأيكة: أي قوم شعيب عليه السلام، والأيكة غيضة شجر بقرب مدين.
وإنهما لبإمام مبين: أي قوم لوط، وأصحاب الأيكة لبطريق مبين واضح.
معنى الآيات:
مازال السياق مع لوط عليه السلام وضيفه من الملائكة من جهة، وقوم لوط من جهة
__________
1 الغُلْمة: شدّة الشهوة الجنسية.(3/89)
قال تعالى: {وجاء أهل المدينة} أي مدينة سدُوم وأهلها سكانها من اللوطيين، وقوله {يستبشرون} أي فرحين مسرورين لطمعهم في إتيان الفاحشة. فقال لهم لوط ما أخبر الله تعالى به: {قال إن هؤلاء} يشير إلى الملائكة {ضيفي فلا تفضحون} أي فيه أي بطلبكم إلى فاحشة، {واتقوا الله} أي خافوه {ولا تخزون} أي تهينوني وتذلوني. فأجابوا بما أخبر تعالى به عنهم: {قالوا أولم ننهك عن العالمين} أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من الناس أو تجيره، فأجابهم لوط عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه: {قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} أي هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما أمركم به أو أرشدكم إليه. وقوله تعالى: {لعمرك إنهم1 لفي سكرتهم يعمهون} أي وحياتك يا رسولنا، إنهم أي قوم لوط {لفي سكرتهم} غوايتهم التي أذهبت عقولهم فهبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوان، {يعمهون} أي حيارى يترددون. {فأخذتهم الصيحة مشرقين} أي صيحة جبريل عليه السلام مشرقين مع إشراق الشمس. وقوله تعالى {فجعلنا عاليها سالفها} أي جعلنا عالي المدن سافلها وهو قلبها ظهراً على بطن، {وأمطرنا عليهم} فوق ذلك {حجارة من سجيل} أي من طين مطبوخ بالنار. وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين2} أي إن في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها لآيات وعبر وعظات للمتوسمين أي الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الأشياء بسماتها وعلاماتها. وقوله تعالى: {وإنها لسبيل مقيم} أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة في أسفارهم إلى الشام. وقوله {إن في ذلك لآية للمؤمنين} أي لعبرة للمؤمنين فلا يقدمون على محارم الله، ولا يرتكبون معاصيه. وقوله تعالى: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} . هذه إشارة خاطفة إلى قصة شعيب عليه السلام مع قومه أصحاب الأيكة، والأيكة الفيضة من الشجر الملتف.. وكانت منازلهم
__________
1 هذا الإقسام بحياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشريفاً له، وأصل عمرك بضم العين وفتحت لكثرة الاستعمال، وجائز أن يكون القسم بحياة لوط أيضاً، وليس لأحد أن يجيز القسم بغير الله محتجاً بهذا القسم الإلهي فان لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، فقد أقسم بالشمس وضحاها، وأقسم بالسماء والليل وغيرها من مخلوقاته ولا اعتراض عليه وأما العباد فقد أعلن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حرمة الحلف بغير الله فقد قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه الترمذي.
2 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر المتوسمين بالمتفرسين إذ قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} " رواه الترمذي واستغربه، وقيل: للناظرين كما قال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبلية
بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
وأصل التوسم: النظر بتثبت وتفكر وعليه فما ورد في التوسم من النظر والتفرس كله متقارب المعنى.(3/90)
بها وكانوا مشركين وهو الظلم في قوله {وإن كان أصحاب الأيكة1 لظالمين} لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى، وقوله تعالى: {فانتقمنا منهم} أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظلة وسيأتي الحديث عنهم في سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم. وقوله: {وإنهما لبإمام مبين} الإمام الطريق لأن الناس يمشون فيه وهو أمامهم، ومبين واضح. والضمير في قوله وإنهما عائد على قوم لوط، وقوم شعيب وهم أصحاب الأيكة لا أصحاب مدين لأنه أرسل إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين، والطريق طريق قريش إلى الشام، والقصد من ذكر هذا وعظ قريش وتذكرهم، فهل يتعظون ويتذكرون؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إهلاك قوم لوط.
2- إنكار الفاحشة وأنها أقبح فاحشة تعرفها الإنسانية هي إتيان الذكور.
3- بيان دفاع لوط عليه السلام عن ضيفه حتى فداهم ببناته.
4- شرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أقسم الله تعالى بحياته في قوله {لعمرك} .
5- الحث على نظر التفكر والاعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري.
6- بيان نقمة الله تعالى من الظالمين للاعتبار والاتعاظ.
7- تقرير نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مثل هذه الأخبار لن تكون إلا عن وحي إلهي.
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84)
__________
1 جمع الأيكة وهي جماعة الشجر الأيك، أو سميت القرية بالأيكة باعتبار الأصل.(3/91)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
شرح الكلمات:
أصحاب الحجر: هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام.
وآتيناهم آياتنا: أي في الناقة وهي أعظم آية.
ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون: من بناء الحصون وجمع الأموال.
الصفح الجميل: أي أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه وهذا قبل الأمر بقتالهم.
سبعاً من المثاني: هي آيات سورة الفاتحة السبع.
أزاوجاً منهم: أي أصنافاً من الكفار.
واخفض جناحك: أي ألِن جانبك للمؤمنين.
معنى الآيات:
هذا شروع في موجز قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح، قال تعالى: {ولقد كذب أصحاب الحجر1 المرسلين} وفي هذا موعظة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت قبلهم أقوام. وقال تعالى {المرسلين} ولم يكذبوا إلا صالحاً باعتبار أن من كذب رسولا فقد كذب عامة الرسل، لأن دعوة الرسل واحدة وهي أن يعبد الله وحده بما شرع لإكمال الإنسان وإسعاده في
__________
1 لفظ الحجر يطلق على أمور عدّة منها العقل {لذي حجر} والحرام: {حجراً محجوراً} والفرس الانثى وحجر القميص، والفتح فيه أولى، وحجر إسماعيل إزاء الكعبة وديار ثمود: وهو المراد هنا.(3/92)
الحالتين. وقوله {وآتيناهم1 آياتنا فكانوا عنها معرضين} إن المراد من الآيات القائمة بالناقة منها أنها خرجت من صخرة، وأنها تشرب ماء البلد يوما، وأنها تقف أمام كل بيت ليحلب أهله منها ما شاءوا، وإعراضهم عنها، عدم إيمانهم وتوبتهم إلى الله تعالى بعد أن آتاهم ما طلبوا من الآيات. وقوله {وكانوا ينحتون2 من الجبال بيوتا} أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتاً داخل الجبال يسكنوها شتاء آمنين من أن تسقط عليهم لقوتها وست أن ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم، وقوله تعالى {فأخذتهم الصيحة مصبحين3} وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين، {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من المال والعتاد وبناء الحصون بل4 هلكوا ولم ينج منهم أحد إلا من آمن وعمل صالحاً فقد نجاه الله تعالى مع نبيه صالح عليه السلام. وقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي إلا من أجل أن أُذكر وأُشكر، فلذا من كفر بي فلم يذكرني وعصاني فلم يشكرني أهلكته. لأني لم أخلق عدا الخلق العظيم لهواً وباطلاً وعبثاً. وقوله: {وإن الساعة لآتية5} أي حتماً لا محالة وثم يُجزي كلٌ بما كسب فلا تحزن على قومك ولا تجزع منهم فإن جزاءهم لازم وآت لابد، فاصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى {فاصفح الصفح الجميل6} أي الذي لا جزع معه. وقوله {إن ربك هو الخلاق العليم} خلق كل شيء وعلم بما خلق فعلى كثرة المخلوقات يعلم نياتها، وأعمالها، وأحوالها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها وسيعيدها كما بدأها ويحاسبها ويجزيها بما كسبت. وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها الله تعالى
__________
1 المراد بالآيات: الناقة لأنها تشمل على عدّة آيات، وجائز أن يكون هناك آيات أخرى أعطيها صالح غير الناقة.
2 النحت: البري والنجر، يقال نحته ينحته نحتاً إذا براه، والنحاته: البراية كالنجارة والخشارة، والمنحت: آلة النحت، وقوله: {آمنين} أي: من أن تسقط عليهم أو تخرب فلا تصلح للسكن فيها.
3 {مصبحين} : حال من أخذتهم الصيحة أي: حال كونهم داخلين في الصباح وهو أوّل النهار، فالأيام الثلاثة التي قيل لهم: {تمتعوا فيها} هي الأربعاء والخميس والجمعة، وصبيحة السبت كان هلاكهم والعياذ بالله من حال الهالكين.
4 صحّ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم، وآمر بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز منه لأجل انه ماء سخط فلا يجوز الانتفاع به فراراً من سخط الله تعالى وقال: اعلفوه الإبل ففعلوا".
5 لآتية: جائية إذ الأيام تنصرم يوماً فيوماً إلى آخر يوم فالساعة الأخيرة لهذه الحياة آتية، وهي في طريقها.
6 هذا كان قبل الأمر بالجهاد إذ السورة مكية والجهاد فرض في المدينة فالآية منسوخة بمثل قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية من التوبة المدنية.(3/93)
في الوقت الذي حدده لها. وقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} أي أعطيناك سورة الفاتحة1 أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم لا يقادر قدره. إذاً {لا تمدن عينيك2} متطلعاً {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أي أصنافاً من رجالات قريش، فما آتيناك خير مما هم عليه من المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب. وقوله: {ولا تخزن عليهم} إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به، فإن أمرهم إلى الله تعالى، وأمره تعالى أن يلين جانبه لأصحابه المؤمنين فقال: {واخفض جناحك للمؤمنين} فحسبك ولاية الله لك فذر المكذبين أولي النعمة، وتعايش مع المؤمنين، ولين جانبك لهم، واعطف عليهم فإن الخير فيهم وليس في أولئك الأغنياء الأثرياء الكفرة الفجرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أراد الله هلاك أمة فإن قوتها المادية لا تغني عنها شيئاً.
2- لم يخلق الله الخلق عبثاً بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر، فمن عبده نجا، ومن أعرض عن ذكره وترك عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والآخرة أو في الآخرة وهو أشد وأخزى.
3- بيان أن الصفح الجميل هو الذي لا جزع معه.
4- بيان أن ممن أتي القرآن لم يؤت أحد مثلها من الخير قط.
5- فضل الفاتحة إذ هي السبع المثاني.
6- على الدعاة إلى الله أدت لا يلتفتوا إلى ما في أيدي الناس من مالٍ ومتاع، فإن ما آتاهم الله من الإيمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع.
7- استحباب لين الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم.
__________
1 كون الفاتحة هي السبع المثاني هو قول عليّ وأبي هريرة والحسن وغيرهم ويشهد له الحديث الصحيح: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني". روي عن ابن عباس أنه قال: هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معاً.
2 هذه الآية تدعو إلى الإعراض عن زخارف الدنيا وعدم الإقبال عليها، والاكتفاء فيها بما أحل الله عمّا حرّم وبما تيسّر عما تعسر، وفيها: أن من أعطاه الله القرآن وجب عليه أن يشعر بالغنى وعدم الفقر لحديث " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن" أي: لم يستغن به عن طلب غيره.(3/94)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
شرح الكلمات:
النذير المبين: البين النذارة
على المقتسمين: أي الذين قسموا كتاب الله فقالوا فيه شعر، وقالوا سحر، وقالوا كهانة.
جعلوا القرآن عضين: هم المقسمون للقرآن وجعلوا عضين جمع عضة وهي القطعة والجزء من الشيء.
فاصدع بما تؤمر: أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك.
يضيق صدرك بما يقولون: أي من الاستهزاء بك والتكذيب لك.
حتى يأتيك اليقين: أي الموت، أي إلى أن تتوفى وأنت تعبد ربك.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في إرشاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره تعالى(3/95)
بقوله: {وقل إني أنا النذير المبين1} أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم أن ينزل بكم عذاب الله إن أصررتم على الشرك والعناد والكفر، وقوله: {كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين2} انذركم عذاباً كالذي أنزله الله وينزله على المقتسمين الذين قسموا التوراة والإنجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى، والمقتسمين الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحاً فأنزل الله بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر وسحر وكهانة، المقتسمين الذين قسموا طرق مكة وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل الله كل من جاء يريد الإسلام وهؤلاء كلهم مقتسمون وحل بهم عذاب الله ونقمته. وقوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} 3 يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أنه ليسألنهم يوم القيامة عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا لا يهولنَّك أمرهم واصبر على أذاهم. وقوله {فاصدع4 بما تؤمر} أي أجهر بدعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما تؤمر ببيانه والدعوة إليه أو التنفير منه، {وأعرض عن المشركين} ولا تبال بهم، وقوله: {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون} والمراد بهؤلاء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله شرَّهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث كلهم ماتوا بآفات مختلفة في أمدٍ يسير، عليهم لعائن الله تعالى. وقوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} أي من الاستهزاء بك والسخرية، ومن المبالغة في الكفر والعناد فنرشدك إلى ما يخفف عنك الألم النفسي {فسبح بحمد ربك} أي قل سبحان الله وبحمده أي أكثر من هذا الذكر {وكن من الساجدين} أي المصلين إذ لا سجود إلا في الصلاة أو تلاوة القرآن5 إذاً فافزع عند الضيق إلى الصلاة
__________
1 في الكلام حذف، وهو لفظ عذابا. فحذت المفعول لدلالة لفظ النذير عليه أو لكون الكاف في قوله {كما أنزلنا} زائد ة ويصحّ التقدير هكذا:
أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين أي: من العذاب.
2 واحد: (عضين) عضة من عضيت الشيء تعضيه أي: فرقته وكل فرقة عضة، وقيل: أصلها عضوة، فسقطت الواو، ولذا جمعت على عضين كعزين، إذ واحدها عزوة، وذلك أنهم فرقوا كلام الله فجعلوا بعضه سحراً وبعضه شعراً و.. و..
3 وورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: في قوله تعالى: {فوربك لنسألنّهم..} إلى قوله {يعملون} قال: "عن قول لا إله إلا الله، إذ أبوا أن يقولوها فتمادوا في الكفر والشرّ والفساد ولو قالوا لما كان لهم سوى الخير والصلاح.
4 قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فترة من الزمن مستخفياً هو وأصحابه في دار الأرقم حتى نزلت فيه الآية: {فاصدع بما تؤمر} فخرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعلن الإسلام ودعا إليه جهرة.
5 قيل: إنّ هذه سجدة من سجدات القرآن، والجمهور على أنها ليست سجدة وإنما أرشد الله تعالى رسوله لتفريج همّه وتوسعة صدره مما يسمع ويقال له أمره بالتسبيح والصلاة وفعلا كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.(3/96)
فلذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع لله تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو الموت فإن القبر أول عتبة الآخرة وبموت الإنسان ودخوله في الدار الآخرة أصبح إيمانه يقيناً محضاً.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- حرمة الاختلاف في كتاب الله تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب.
2- مشروعية الجهر بالحق وبيانه لاسيما إذا لم يكن هناك اضطهاد.
3- فضل التسبيح بجملة: سبحان الله وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وهذا مروي في الصحيح1.
4- مشروعية صلاة الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلاة يفرج الله تعالى بها ما به أو يقضي حاجته إن شاء وهو العليم الحكيم.
__________
1 رواه مسلم.(3/97)
سورة النحل1
مكية
وآياتها مائة وثمان وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) وَالأَنْعَامَ
__________
1 وتسمّى أيضاً سورة النعم، لما عدد تعالى فيها من نعمه على عباده.(3/97)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7)
شرح الكلمات:
أتى أمر الله: أي دنا وقرب أمر لله بعذابكم أيها المشركون فلا تستعجلون.
ينزل الملائكة بالروح: أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل.
خلق الإنسان من نطفة: أي قطرة من المني.
دفء ومنافع: أي ما تستدفئون به، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب.
حين تريحون: أي حين تردونها من مراحها.
وحين تسرحون.: أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها.
إلا بشق الأنفس: أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.
معنى الآيات:
لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله: {أتى أمر1 الله} أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو أئتنا بعذاب أليم} ، جاءه بعد سُنيات قلائل فهلك ببدر صَبْراً، إلى جهنم، وعَذَابُ يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى: {فلا تستعجلوه} وقوله {سبحانه وتعالى عما يشركون} .
__________
1 من الجائز أن يراد بـ {أتى أمر الله} القيامة لقول الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} وقوله: {اقتربت الساعة} وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه".(3/98)
أي تنزه وتقدس عما يشركون به من الآلهة الباطلة إذ لا إله حق إلا هو. وقوله {ينزل الملائكة بالروح1 من أمره} أي بإرادته وإذنه {على من يشاء من عباده} . أي ينزل جبريل عليه السلام بالوحي على من يشاء من عباده2 وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} أي بأن انذروا3 أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذاباً لا طاقة لهم به، لأنه لا إله إلا الله، وكل الآلهة دونه باطلة. إذاً فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم. في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقرير التوحيد أيضاً وقوله تعالى في الآيات التالية: {خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشر ك فالذي خلق السموات والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما مُعِين له ولا مساعد حُقَّ أن يعبد، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق {تعالى عما يشركون} أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان. وقوله: {خلق الإنسان من نطفة} أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً حتى إذا رباه وأصبح رجلاً إذا هو خصم لله يجادل ويعاند4، ويقول من يحيي العظام وهي رميم. وقوله تعالى {والأنعام خلقها لكم فيها دفء5 ومنافع ومنها تأكلون} فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه. فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فينتفعون بأولادها. ومنها يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر
__________
1 بالروح، أي بالوحي بالنبوة نظيره قوله تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} .
2 أي: من الأنبياء ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمامهم وخاتمهم وقوله: {أن أنذروا} : تفسير لقوله: {ينزل الملائكة بالروح} .
3 أمر الله الأنبياء الذين أوحي إليهم بشرعه أن ينذروا المشركين عاقبة الشرك ويدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح بعد نبذ الشرك والعمل الفاسد.
4 هذا الإنسان الخصيم هو أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفيه نزل: {أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة..} الخ من سورة يس.
5 الدفء: الشيء الذي يدفىء الإنسان، والجمع: ادفاء، ويقال: دفىء دفاءة ككره كراهة.(3/99)
مخلوقاته وقوله: {ولكم فيها جمال} 1 أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح {وحين تسرحون} أي تخرجونها صباحاً من مراحها إلى مراعيها، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر. وقوله {وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق2 الأنفس} أي إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة. فالإبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلدٍ إلى بلد وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها الإنسان إلا بشق الأنفس وبذل الجهد والطاقة، لولا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل3 الأثقال. فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وقوله تعالى: {إن ربكم} أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره لرؤوف رحيم، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلولا لطف الله بالإنسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب.
2- تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب، كما تحيي الأجسام الأرواح.
3- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مِّنْهُ
__________
1 الجمال يكون في الصورة، وهو تناسب أجزائها، ويكون في الأخلاق بأن يكون المرء على صفات محمودة كالعدل والعلم والحكمة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد وجمال الأفعال يكون بملاءمتها لمصالح الخلق نافعة لهم غير ضارة بهم.
2 شق النفس: مشقتها، وغاية جهدها وعليه فالشق المشقة، والشق: الجانب من كل شيء.
3 في الآية دليل على جواز ركوب الإبل، والحمل عليها لكن لا تحمل أكثر مما تطيق فقد ضرب عمر حمالاً وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق. وكان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون يقول له: يا دمون لا تخاصمني عند ربك.(3/100)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
شرح الكلمات:
ويخلق ما لا تعلمون: من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.
وعلى الله قصد السبيل: أي تفضلاً منه وامتناناً ببيان السبيل القاصدة وهي الإسلام.
ومنها جائر: أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.
ومنه شجر: أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.
فيه تسيمون: ترعون مواشيكم.
مسخراتٍ بأمره: أي بإذنه وقدرته.
وما ذرأ لكم في الأرض: أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى: {والخيل1 والبغال والحمير} أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم
__________
1 قيل: واحد الخيل: خائل، وقيل: هو اسم جنس لا واحد له، وهذه الثلاثة: الخيل والبغال والحمير لم تدخل في لفظ الأنعام، ونصب: (والخيل) على تقدير: (وخلق الخيل) .(3/101)
إياها إذ قال: {لتركبوها وزينة1} أي ولأجل أن تكون زينةً لكم في حياتكم وقوله {ويخلق مالا تعلمون} أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفروه ولا يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه. وقوله {وعلى الله قصد السبيل2} ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد الموصل إلى رضاه وهو الإسلام، في حين إن ما عدا الإسلام من سائر الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين إلى كمال ولا إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى {وعلى الله قصد السبيل} وقوله {ولو شاء لهداكم أجمعين} أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه، إلا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلال. ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما جاء في الآيات التالية (10، 11، 12، 13، 14، 15) إذ قال تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب3} تشربون منه وتتطهرون، {ومنه} أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر4 لأن الشجرة والمراد به هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله {فيه تسيمون5} أي في ذلك النبات ترعون مواشيكم. يقال سام الماشية أي ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها. وقوله تعالى: {ينبت لكم به} أي بما أنزل من السماء من ماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء. وقوله {إن في ذلك} أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به
__________
1 أخذ مالك من قوله تعالى: {لتركبوها وزينة} : حرمة أكل لحوم الخيل ووافقه أبو حنيفة، وأجاز الجمهور أكلها لأنّ الآية لم تحرّم شيئاً وإنّما ذكرت فائدة من فوائدها وهي الركوب، ومن أدلة الجمهور: الحديث الصحيح من ذلك قول الصحابي نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن لنا في لحوم الخيل". وقال جابر رضي الله عنه: "كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وحديث مسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت: "فجزرنا فرسا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن بالمدينة وأكلناه".
2 أي: على الله بيان قصد السبيل، والسبيل هو الإسلام، أي: بيان شرائعه وأحكامه وحِكمه ومواعظه بواسطة كتبه ورسله. وقصد السبيل: استقامته كما أن جائر السبيل: هو الحائد عن الاستقامة.
3 الشراب: اسم لما يشرب وذكر للماء النازل من السماء فائدتين. الأولى: الشراب والثانية: إنبات النبات وهما نعمتان.
4 لفظ الشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليباً.
5 الإسامة: إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي يقال: سامت الماشية إذا رعت وأسامها: إذا رعاها.(3/102)
{لآية} أي علامةً واضحةً على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره. ولكن {لقوم يتفكرون} فيتعظون. أما اشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا يجدون آية ولا شبة آية في الكون كله وهم يعيشون فيه. وقوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} الليل للسكون الراحة، والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبداً إلى أن يأذن الله بانتهائهما وقوله: {والشمس والقمر} أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها، وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب، وقوله: {والنجوم مسخرات1 بأمره} كذلك ومن فوائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة وجمالاً للسماء التي هي سقف دارنا هذه.. وقوله {إن في ذلك} المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم {لآيات} عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده فيها، ولكن {لقومٍ يعقلون} أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك أسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا يعقلون، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى: {وما2 ذرأ لكم في الأرض} أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات {مختلفاً ألوانه} 3 وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره {إن في ذلك} الخلق العجيب {لآية} أي في دلالة واضحة على وجود الخالق عز وجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن {لقوم يذكرون} فيتعظون فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كون الخيل4 والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل
__________
1 {مسخرات} : أي: مذللاّت لمعرفة الأوقات ونضج الثمار، والاهتداء بالنجوم في الظلمات.
2 الذرء: الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ فليس الإنبات فقط.
3 المخلوقات قسمان: قسم منها مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار، وقسم غير مذلل ولا مسخر، وشاهد هذا: قول كعب الأحبار: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حماراً فقيل له وما هن؟ قال: أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ.
4 ما في الآية: {والخيل والبغال والحمير} ما يدلى على وجوب الزكاة فيها، وفي الحديث الصحيح: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" رواه مالك.(3/103)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين.
2- الإسلام هو السبيل التي بينها الله تعالى فضلاً منه ورحمة وما عداه فهي سبل جائرة عن العدل والحق.
3- فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ1 الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
شرح الكلمات.
حلية تلبسونها: هي اللؤلؤ والمرجان.
مواخر فيه: أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم.
__________
1 تسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه، وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره وهي نعمة إذ لو شاء الله لسلّط البحر على العباد لأغرقهم.(3/104)
من فضله: أي من فضل الله تعالى بالتجارة.
أن تميد بكم: أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.
لا تحصوها: أي عداً فتضبطوها فضلاً عن شكرها للمنعم بها عز وجل.
ما تسرون وما تعلنون: من المكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة، إذ الخطاب يتناولهم أولاً ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سرٍ وعلانية في أي أحد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى: {وهو الذي سخر لكم البحر} وهو كل ماء غمر كثير عذباً كان أو ملحاً وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه. وقوله {لتأكلوا منه لحماً1 طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم2. وقوله: {وترى الفلك مواخر فيه} أي وترى أيها الناظر إلى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية. وقوله: {ولتبتغوا} أي سخَّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وقوله {لعلكم تشكرون} أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها في مرضاته وقوله: {وألقى في الأرض رواسي3} أي ألقى في الأرض جبالاً ثوابت {أن تميد بكم} كي لا تميد بكم، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله: {وأنهاراً} أي وأجرى لكم أنهاراً في الأرض كالنيل والفرات
__________
1 قسّم مالك اللحم ثلاثة أقسام وهي: لحم ذوات الأربع، ولحم ذوات الريش، ولحم ذوات الماء، ومنع بيع الجنس الواحد بجنسه متفاضلا أو نسيئة.
2 الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة للأحاديث الثابتة وذلك منها حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله" ولذا جاز للقضاة وغيرهم أن ينقشوا أسماءهم على خواتمهم.
3 في هذه الآية دليل على استعمال الأسباب إذ كان الله قادراً على سكونها دون الجبال، ومع هذا أرساها، وسكنها بالجبال تعليما لعباده للأخذ بالأسباب، و {رواسي} جمع راس، على غير قياس، كفوارس، وعواذل جمع فارس وعاذل.(3/105)
وغيرهما {وسبلا} أي وشَّق لكم طرقاً {لعلكم تهتدون} إلى منازلكم في بلادكم وقوله {وعلامات} أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية، وقوله {وبالنجم} أي وبالنجوم1 {هم يهتدون} فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل إلا بالنجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم إلا بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية (17) {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدير؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان؟ فلذا وبخهم بقوله {أفلا تذكرون} فتذكرون فتعرفون أن عبادة الأصنام باطلة وأن عبادة الله حق فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب. وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} بعدما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلا عن شكرها، ولذا قال: {إن الله لغفور رحيم} ولولا أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم في شكر نعمه عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عز وجل وقوله تعالى: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذاً حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة إلى الإيمان والتوحيد فالآية إخطار لهم بأن الله عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار. فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان العلة في الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق لِيُشكر.
__________
1 وقد يراد بالنجم: الجدي خاصة لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس وقد سأله عن النجم فقال له: "هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم" وكون المراد بالنجم النجوم لقوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} .(3/106)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
2- إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر.
3- لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.
4- المقارنة بين الحي الخلاق العليم، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يَخلُق ليس كمن لا يَخلَق.
5- عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم الله تعالى بها.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25)
شرح الكلمات:
وهم يخلقون: أي يصورون من الحجارة وغيرها.
وما يشعرون أيان يبعثون: أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله.(3/107)
قلوبهم منكرة: أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء.
وهم مستكبرون: لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.
لا جرم: أي حقاً.
أساطير الأولين: أي أكاذيب الأولين.
ليحملوا أوزارهم: أي ذنوبهم يوم القيامة.
ألا ساء ما يزرون: أي بئس ما يحملون من الأوزار.
معنى الآيات:
في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى: {والذين يدعون من1 دون الله} أي تعبدونهم أيها المشركون {أموات غير أحياء} أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون، وقوله {وما يشعرون أيان يبعثون2} أي لا يعلمون3 متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة، وقوله {إلهكم إله واحد} هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له، وهو الله جل جلاله، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يُدبِّر ولا يحيى ولا يميت فتأليهه سفه وضلال، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنبيه آيات القرآن الكريم، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن
__________
1 قرأ عامة القراء {يدعون} بالتاء لأن ما قبله خطاب، وقرىء عن عاصم وحفص بالياء، وهي قراءة يعقوب أيضاً.
2 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار.
3 عبّر عنهم بصيغة من يعقل لأن المشركين يزعمون أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، وتقرّبهم إلى الله زلفى.(3/108)
قبول الحق والإذعان له. وقوله تعالى: {لا جرم1 أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين2} أي حقاً ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون.. ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم، وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين3} يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا: {أساطير الأولين4} أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله، قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم} أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وهم لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي: ان من دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء، وكذا من دعا إلى5 هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء. وقوله تعالى: {ألا ساء ما يزرون} أي قُبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الشرك وتقرير التوحيد.
2- التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.
__________
1 {لا جرم} : كلمة تحقيق ولا تكون إلا جواباً، يقال: فعلوا كذا وكذا فيجاب بكلمة لا جرم أنهم سيندمون.
2 أي: فهو لا يثيبهم ولا يثني عليهم خيراً، وفي الحديث الصحيح: "إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم". قالت العلماء: كل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر، وهو أصل العصيان كله.
3 قيل: إن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل: أساطير الأولين. والآية تشمله وغيره ممن قال ويقول هذه الكلمات الكاذبة الباطلة.
4 الأساطير: الأباطيل، والترهات، و {أساطير الأولين} : خبر والمبتدأ الذي أنزله أي: الذي أنزله أساطير الأوّلين.
5 وفي الصحيح شاهد هذا فقد روى مسلم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".(3/109)
3- التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له.
4- بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.
5- بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ(3/110)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (34)
شرح الكلمات:
من قبلهم: أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.
فأتى الله بنيانهم: أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه.
وخر عليهم السقف: أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.
كنتم تشاقون فيهم: أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها.
وقال الذين أوتوا العلم: أي الأنبياء والمؤمنون.
ظالمي أنفسهم: بالشرك والمعاصي.
فألقوا السلم: أي استسلموا وانقادوا.
فلبئس مثوى المتكبرين: مثوى المتكبرين: أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلاً.
وقيل للذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
للذين أحسنوا: أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوْا بها وفق مراد الله تعالى.
حسنة: أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.
ولنعم دار المتقين: أي الجنة دار السلام.
طيبيين: أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.
يقولون سلام عليكم: أي يقول لهم ملك الموت "عزرائيل " وأعوانه.
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة: أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.
أو يأتي أمر ربك: أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عز وجل.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.(3/111)
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على الله عز وجل ومكروا برسلهم، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه.. وقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة {فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون1} . وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيَّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى: {ثم يوم القيامة يخزيهم} أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله: {أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم2} أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون أوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى: {الذين تتوفاهم3 الملائكة ظالمي أنفسهم} بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله {فألقوا السلم} أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الاعتذار بالكذب وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} فترد عليهم الملائكة قائيلين: {بلى} أي كنتم تعملون السوء {إن الله عليم بما كنتم تعملون} ويقال لهم أيضاً {فادخلوا أبواب جهنم} أي أبواب طبقاتها {خالدين فيها فلبئس} جهنم {مثوى} أي مقاماً ومنزلاً {للمتكبرين} عن عبادة الله وحده. وقوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا} أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا رسوله كذلك: {ماذا أنزل ربكم} أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من
__________
1 أي: من حيث ظنوا أنهم في أمان، وقال ابن عباس يعني البعوضة التي أهلك الله تعالى بها النمرود الكنعاني.
2 قرىء {تشاقون} بفتح النون وبكسرها على الإضافة، كما قرأ شركائي ابن كشر: شركاي بفتح الياء وبدون همزة.
3 قيل: الآية نزلت في الذين تركوا الهجرة إلى المدينة وبقوا في مكة يزاولون أعمال الشرك خوفاً من المشركين، ومن بينهم الذين لمّا رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشرك.(3/112)
دعوة الإسلام فيقولون له: {خيراً} أي أنزل خيراً لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ المشركين يقولون أساطير الأولين كما تقدم في هذا السياق.
كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين، ذكر جزاء المحسنين. فقال: {للذين أحسنوا} أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس إلى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا {حسنة} وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة1، ولدار الآخرة خيرٌ لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {جنات2 عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون} هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى: {لهم فيها ما يشاءون} هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى: {كذلك يجزي الله المتقين} أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين3} أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي. وقوله: {يقولون} أي تقول لهم الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه {سلام عليكم} 4 تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. {ادخلوا الجنة} بأرواحهم اليوم
__________
1 مع الفتح والنصر والغنائم أيضاً إذ الكل حسنة عظيمة.
2 {جنات عدن} : بدل من قوله: (دار المتقين) .
3 طيّبين بإيمانهم وعملهم الصالح وبعدهم عن الشرك والمعاصي ووفاتهم أيضاً طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض به أرواح أهل الكفر والشرك والفساد.
4 قال ابن المبارك: إذا استقنعت نفس العبد المؤمن "أي: اجتمعت في فيه تريد الخروج" جاءه ملك الموت فقال له: السلام عليك وليَّ الله الله يقرأ عليك السلام، ثم قرأ هذه الآية: {الذين تتوفاهم الملائكة} الخ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام.(3/113)
وبأجسامهم غداً يوم القيامة. وقوله {بما كنتم تعملون} أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم بالإيمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عز وجل والرغبة والتوكل عليه. هذا ما تضمنته الآيات (31، 32) وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئاً إيمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الإيمان باليوم الآخر. {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} أي ما ينظرون بعد هذا إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم {أو يأتي أمر ربك} بإبادتهم واستئصالهم، إذ لم يبق ما ينتظرونه إلا أحد هذين الأمرين وكلاهما مر وشر لهم. وقوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فأهلكهم. {وما ظلمهم الله} تعالى في ذلك أبداً {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة {فأصابهم سيئات} أي جزاء سيئات {ما عملوا} من الكفر والظلم {وحاق بهم} أي نزل بهم وأحاط بهم {ما كانوا به يستهزئون} إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله سخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى.
من هداية الآيات:
1- سوء عاقبه المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.
2- بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.
3- فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.
4- بان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.
5- تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.
آ- إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله، فلا ينبغي أن يرى أحداً من أهل الدنيا خيراً منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.
7- سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم بموافقه الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.(3/114)
8- بشرى أهل الإيمان والتقوى عند الموت، وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.
9- إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمناً لها لغلائها، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.
10- ما ينتظر المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب، عاجلاً أو آجلاً فهو نازل بهم حتما مقضياً إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40)(3/115)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
شرح الكلمات:
وقال الذين أشركوا: هم كفار قريش ومشركوها.
ولا حرمنا من دونه من شيء: كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.
فهل على الرُّسل إلا البلاغ: أي ما على الرُّسل إلا البلاغ فالاستفهام للنفي.
واجتنبوا الطاغوت: أي عبادة الأصنام والأوثان.
حقت عليه الضلالة: أي وجبت في علم الله أزلا.
جهد أيمانهم: أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.
بلى وعداً عليه حقاً: أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعداً وأحقه حقاً. فهو كائن لا محالة.
يختلفون فيه: أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.
انهم كانوا كاذبين: أي في قولهم "لا نبعث بعد الموت".
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مُخْبراً عنهم {وقال الذين أشركوا} أي مع الله آلهةً أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعُزَّى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئاً فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعاً عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى، والأمران محتملان. والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلاً على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله، فدل ذلك قطعاً على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى في سورة الأنعام رداً على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى: {كذلك فعل الذين1
__________
1 الإشارة بذلك إلى الإشراك وتحريمهم أشياء من تلقاء أنفسهم أي: كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم ممن مكروا برسلهم وأهلكم الله جل جلاله.(3/116)
من قبلهم} من الأمم السابقة قالوا قول هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم الله بالعذاب. وقوله {فهل1 على الرسل2 إلا البلاغ المبين} أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا إلزامهم بالشرع وإنما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير.. فلذا كان في الجملة تسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (35) وقوله في الآية الثانية (36) {ولقد بعثنا3 في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها. كما أخبر عن وحدة الدعوة بين الرسل وهي لا إله إلا الله المفسره بعبادة الله تعالى وحده، واجتناب الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان إلى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق أوليائه من4 الناس من جهة أخرى.
وقوله تعالى: {فمنهم} أي من الأمم المرسل إليهم {من هدى الله} فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد، {ومنهم من حقت عليه الضلالة5} أزلاً في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلَّ ضلالاً لا أمل في هدايته. وقوله تعالى: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} أمرٌ لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمرٌ لهم أن يسيروا في الأرض جنوباً أو شمالاً فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال، ومدين ولوط وفرعون في الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمَّ عنه: {إن تحرص} يا رسولنا
__________
1 الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذا جاء الإسلام بعده أي: ما على الرسل إلا البلاغ، أي: ليس عليهم هداية الخلق إذ لا يملكون ذلك ولم يكلفوا به وإنما كلفوا بالبلاغ والبيان.
2 في الآية: {فهل على الرسل ... } تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليم وفيها أيضاً التحريض بإبلاغ المشركين.
3 هذا الكلام معطوف على قوله: {كذلك فعل الذين من قبلهم} متضمن بياناً لسنة الله تعالى في إرسال الرسل لإحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المؤمنين، وهلاك الكافرين المكذبين.
4 أولياء الشيطان: هم الكهان ودعاة الضلال الذين يصدّون عن سبيل الله بتزيين الباطل وتحسين الشرك والخرافة.
5 في هذا ردّ على القدرية نفاة القدر إذ معنى: {حقت} : وجبت له أزلا في كتاب المقادير.(3/117)
{على هداهم} أي هدايتهم إلى الحق {فإن الله لا يهدي من يضل1} فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع إلى ربك في غير حرص يضر بك وقوله {لا يهدي من يضل} أي لا يقدر أحد أن يهدي من أضله الله، لأن اضلال الله تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله. وقوله {وما لهم من ناصرين} أي وليس لأولئك الضلال الذين أضلهم الله حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسرانٍ وحرمان. وقوله تعالى في الآية (38) {وأقسموا بالله جهد2 أيمانهم لا يبعث الله من يموت} اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب القلوب المنكرة، ومعنى {أقسموا بالله جهد أيمانهم3} أي حلفوا أشد الإيمان إذ كانوا في الأمور التافهة يحلفون بآلهتهم وآبائهم. وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الإقسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله {بلى} أي تبعثون وعد الله حقاً فلا بد ناجز {ولكن أكثر الناس لا يعلمون4} فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى إلى بعض تلك العلل في قوله: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه} فلولا البعث الآخر ما عرف المُحق من المبطل في هذه الحياة والخلاف سائد ودائم بين الناس. هذا أولاً. وثانياً: {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين5} في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن الأمر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون: إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون، نقول له كن
__________
1 قرىء في السبع {يهدي} بضم الياء مبنياً للمجهول وقرىء: {يهدي} بفتح الياء مبنياً للمعلوم وقراءة لا يهدي هي التي فسر بها في التفسير. وقراءة يهدي، أي: أن الله إذا كتب على عبد شقاء لا يهديه للخلاص منه.
2 روي أن رجلاً من المسلمين كان له دَين على مشرك فقاضاه منه وقال في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت، أنه لكذا وكذا فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية.
3 ذكر القرطبي عن قتادة أن رجلاً قال لابن عباس: إنّ ناسا يزعمون أنّ علياً مبعوث بعد الموت قبل الساعة يتأوّلون هذه الآية فقال ابن عباس: كذب أولئك إنما هذه الآية عامة للناس فلو كان عليَّ مبعوثاً قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
4 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك".
5 أي: في نفيهم البعث وإقسامهم على عدم وقوعه، وفي إنكارهم التوحيد والنبوّة أيضاً.(3/118)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
فيكون فوراً، والبعث الآخر من ذلك. هذا ما دل عليه قوله في الآية (40) {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون1} ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن الله تعالى إذا أراد شيئاً علمه أولاً ثم قال له كن فهو يكون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.
2- تفسير لا إله إلا الله.
3- التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.
4- بيان بعض الحكم في البعث الآخر.
5- لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده، لأنه يوجد بكلمة التكوين فقط.
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا في الله: أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرةً لدينه وإقامته بين الناس.
__________
1 قال أهل العلم في الآية دليل على عدم خلق القرآن إذ لو كان مخلوقاً لكان قوله: {كن} مخلوقاً، ولا يحتاج إلى قول ثانٍ، والثاني يحتاج إلى ثالث وتسلسل وهذا محال وفيها دليل على أن الله مريد لجميع الحوادث خيرها وشرها نافعها وضارها، والدليل أن من رأى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين إما لكونه جاهلاً لا يدري وإما لكونه مغلوياً لا يطيق وهذا محال في حقه سبحانه وتعالى وبذلك تأكد أن الله مريد لكل ما يجري من أحداث في الملكوت وحكمته لا يخلو منها شيء.(3/119)
لنبوئنهم في الدنيا حسنة: أي لننزلنهم داراً حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية.
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون: أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم.
فاسألوا أهل الذكر: أي أيها الشاكوّن فيما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشراً مثله.
بالبينات والزبر: أي أرسلناهم بشراً بالبينات والزبر1 لهداية الناس.
وأنزلنا إليك الذكر: أي القرآن.
لتبين للناس ما نزل إليهم: علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل، البيان.
معنى الآيات:
إنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعاً على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل {والذين هاجروا2 في الله} أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه {من بعد ما ظلموا} أي من قبل المشركين {لنبوئنهم} أي لننزلهم ولنسكننهم {في الدنيا حسنة} وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقاً حسناً هذا بالنسبة لمن نزلت3 فيهم الآية، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرا وسعة} أي في العيش والرزق {ولأجر الآخرة} المعد لمن هاجر في سيبل
__________
1 {الزّبر} : الكتب.
2 أي: تركوا الوطن، والأهل، والقرابة كما تركوا السيئات. ومعنى: في الله أي: لأجل الله إذ بدار الكفر لا يتمكنون من عباده الله تعالى فإذا هاجروا تمكنوا فكانت هجرتهم إذا لله أي لعبادته التي خلقهم من أجلها.
3 قيل: نزلت الآية في صهيب وبلال وعمار، وخبّاب إذ عذّبهم المشركون أشد العذاب حتى هاجروا، ويدخل في هذا أيضاً أبو جندل وغيره.(3/120)
الله {أكبر لو كانوا يعلمون1} . هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله: {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} 2 بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لأنهم صبروا أولاً على الأذى في مكة ثم لما أذن لهم بالهجرة هاجروا متوكلين على الله تعالى مفوضين أمورهم إليه، واثقين في وعده. هذا ما دلت عليه الآيتان (41) ، (42) . وأما الآية الثالثة (43) والرابعة من هذا السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين كيف يرسل الله محمداً رسولاً وهو بشر مثلنا لم لا يرسل ملكاً.. وهو ما أخبر الله تعالى في قوله {وما أرسلنا من قبلك} أي من الرسل {إلا رجالاً} لا ملائكة {نوحي إليهم} بأمرنا وقوله: {فاسألوا} أيها المشركون المنكرون أن يكون الرسول بشراً، اسألوا أهل الذكر وهو الكتاب3 الأول أي أسألوا علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى هل كان الله تعالى يرسل الرسل من غير البشر {إن كنتم لا تعمون} فإنهم يخبرونكم وما موسى ولا عيسى إلا بشر، وقوله: {بالبينات والزبر} أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر بالبينات أي الحجج والدلائل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا. والزبر أي الكتب. ثم يقول تعالى لرسوله: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} وفي هذا تقريرٌ لنبوته وقوله: {ولعلهم يتفكرون} فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا. ويتوبوا إلى ربهم فينجوا ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى.
2- وجوب سؤال أهل العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم.
3- السنة لا غنى عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه.
__________
1 هذا صالح لكلّ من المؤمنين ومعذبيهم، غير أنه في المؤمنين أظهر إذ كان عمر رضي الله عنه إذا أعطى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما ادخر لكم في الآخرة أكثر ثم يتلو هذه الآية: {ولأجر الآخرة خير لو كانوا يعلمون} .
2 قال العلماء: خيارُ المؤمنين من إذا نابه أمر صبر وإذا عجز عن أمر توكل وهو المراد من قوله تعالى: {الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون} .
3 يدخل في أهل الذكر أهل القرآن، وهم علماء هذه الأمّة، وبهذا أمر الله تعالى غير العالمين أن يسألوا أهل العلم، وأمر العالمين أن يعلموا ويبيّنوا ومن كتم منهم عُذِّب.(3/121)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
شرح الكلمات:
مكروا السيئات: أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها.
في تقلبهم: أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها.
على تخوف: أي تنقص.
يتفيئوا ظلاله:. أي تتميل من جهةٍ إلى جهة.
سجداً لله: أي خضعاً لله كما أراد منهم.
داخرون: أي صاغرون ذليلون.
من فوقهم: من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتاً وسلطاناً وقهراً.
ها يؤمرون: أي ما يأمرهم ربهم تعالى به.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تخويف المشركين وتُذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء. قال تعالى: {أفأمن الذين مكروا1} المكرات
__________
1 هذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام.(3/122)
{السيئات} من محاولة قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب بعضهم، أفأمنوا {أن يخسف الله بهم الأرض} من تحتهم فيقرون في أعمالها، {أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون1} ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم أو قحط يذهب بما لهم. وقوله تعالى: {أو يأخذهم في تقلبهم} أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين آيبين من بلدٍ إلى بلد. {فما هم بمعجزين} 2 له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم. وقوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف} أي3 تنقص4 بأن يهلكهم واحداً بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى منهم أحداً، وقد أخذ منهم ببدرٍ من أخذ وفي أحد. وقوله تعالى: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} تذكير لهم برأفته ورحمته إذ لولا هما لأنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبةٍ أو إمهال لرجوع إلى الحق، وقوله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء5} من شجرٍ وجبل وإنسانٍ وحيوان {يتفيؤا ظلاله} بالصباح والمساء {عن اليمين والشمائل} " جمع شمال" {سجداً لله} خضعاً بظلالهم {وهم داخرون6} أي صاغرون ذليلون. أما يكفيهم ذلك دلالة على خضوعهم لله وذلتهم بين يديه، فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته. وقوله تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} أي ولله لا لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما يريده الله تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره من دابةٍ أي من كل ما يدب من كائن على هذه الأرض {والملائكة} 7
__________
1 وقد تمّ لهم وذاقوا مُرَّاً يوم بدر بقتل صناديدهم وأسرهم.
2 أي: بسابقين الله ولا فائتيه.
3 التخوف: مصدر لفعل تخوّف إذا حاف، ومصدر لتخوّف المتعدي الذي بمعنى تنقص، وهو لغة هذيل، فللآية معنيان. الأول: أن يكون المعنى: يأخذهم العذاب وهم في حالة توقع بنزول العذاب لوجود أماراته كالرعد والبرق مثلا. والثاني: أن يكون المعنى بأن يأخذهم وهم في حالة تنقص بأن يأخذ القرية فتخاف القرية الأخرى وهو واضح المعنى في التفسير.
4 ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير التخوّف: بأن يعاقب أو يتجاوز، ويشهد له الجملة التعليلية وهي {فإنّ ربكم لرؤوف رحيم} فهو لا يعاجل بالعقوبة.
5 أي: من أي جسم قائم له ظل كشجرة أو جبل ومعنى تفيء الظلال: ميلانه من جانب إلى جانب ومنه سمي الظل بالعشي فيء: لأنه فاء من المشرق إلى المغرب أي. رجع، والفيء: الغنائم التي ترجع إلى المسلمين من الكافرين لأنّهم أحق بها فرجعت إليهم.
6 أي: خاضعون، والدخور: الصغار والذل يقال: دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال ذو الرمّة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس
ومنجحر في غير أرضك في حجر
والشاهد في قوله داخر أي خاضع ذليل والمخيس بناء من مدر يسجن فيه
7 قيل: المراد بالملائكة: ملائكة الأرض، وخضهم بالذكر وهم داخلون في عموم ما في السموات وما في الأرض لشرف منزلتهم عند ربّهم جلّ جلاله، والملائكة يطيرون ولا يَدِبّون، فلذا أخرجوا أيضاً بالذكر.(3/123)
على شرفهم يسجدون {وهم لا يستكبرون} عن عبادة ربهم {ويخافون ربهم من فوقهم} إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته. {ويفعلون ما يؤمرون} فلا يعصون ربهم ما أمرهم. إذا كان هذا حال الملائكة فما بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر سائر المخلوقات، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الأمن من مكر الله.
2- كل شيء ساجد لله، أي خاضع لما يريده منهم، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب.
3- فضل السجود الطوعي الاختياري.
4- مشروعية السجود عند هذه الآية: إذا قرأ القارىء أو المستمع: {ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} ، عليه أن يسجد إن كان متطهراً إلى القبلة إن أمكن ويسبح في السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ1 إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ
__________
1 جائز أن يكون سكّان شرق الجزيرة من العرب قد انتقلت إليهم عقيدة المجوس المبنية على إله الخير وهو يزدان وإله الشر الذي هو أهرمُنْ وذلك لمجاورتهم لحكومة المجوس الممتدة إلى العراق، ويكون النهي في الآية موجهاً إليهم.(3/124)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
شرح الكلمات:
لا تتخذوا إلهين: أي تعبدونهما إذ ليس لكم إلا إله واحد.
وله ما في السموات والأرض: أي خلقاً وملكاً، إذاً فما تعبدونه مع الله هو لله ولم يأذن بعبادته.
وله الدين واصباً: أي خالصاً دائماً واجباً.
فإليه تجأرون: أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه.
فتمتعوا فسوف تعلمون: تهديدٌ على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء الله تعالى.
ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً: أي يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام.
عما كنتم تفترون: أي تختلقون بالكذب وتفترون على الله عز وجل.
معنى الآيات:
بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلان الشرك أخبرهم أن الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم: أيها الناس {لا تتخذوا إلهين اثنين} فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا إلهاً واحداً وهو الله إذ ليس من إله إلا هو فكيف تتخذون إلهين والحال انه {إله واحد} لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك، ومن عداه من مخلوقاته كيف تُسوَّى به وتُعبَد معه؟ وقوله تعالى: {فإياي فارهبون1} أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء، وليس لغيري شيء فأنا المحيي المميت، الضار النافع، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من لا يستحق أن يُرهب لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر. وقوله تعالى: {وله ما في السموات والأرض} 2 برهان على بطلان رهبة غيره أو
__________
1 الرهبة: الخوف، فمعنى {فارهبون} : خافوني ولا تخافوا سواي، وتقديم المفعول: {فإيايّ} مؤذن بحصر الرهبة في الله تعالى ونفيها عمَّن سواه.
2 في الآية تقرير وحدانية الله تعالى إذ ما في السموات له، وما في الأرض له فهو إذاً إله واحد وبطل التعدد الذي يراه المجوس.(3/125)
الرغبة في سواه ما دام له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً. وقوله {وله الدين واصباً} 1 أي العبادة والطاعة دائماً ثابتاً واجباً، ألا لله الدين الخالص. وقوله تعالى: {أفغير الله تتقون} يوبخهم على خوف سواه وهو الذي يجب أن يرهب ويخاف لأنه الملك الحق القادر على إعطاء النعم وسلبها، فكيف يُتقى من لا يملك ضراً ولا نفعاً ويُعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وقوله: {وما بكم من نعمةٍ فمن الله} 2 يخبرهم تعالى بالواقع الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم من نعمة جلت أو صغرت من صحةٍ أو مالٍ أو ولد فهي من الله تعالى خالقهم وواهبهم حياتهم، وليست من أحدٍ غيره، ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو أنهم إذا مسهم الضر من فقرٍ أو مرض أو تغير حال كخوف غرقٍ في البحر فإنهم يرفعون أصواتهم إلى أعلاها مستغيثين بالله سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عز وجل: {ثم إذا مسكم الضر فإليه} دون غيره {تجأرون} برفع أصواتكم بالدعاء والاستغاثة به سبحانه وتعالى وقوله. {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ} كبير {منكم بربهم يشركون} فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين الله الذي كشف ضرهم وأنجاهم من هلكتهم.
وقوله: {ليكفروا بما آتيناهم} 3 أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعمٍ وما أنجاهم من محن. أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم ينسى له ذلك كله، ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذاً {فتمتعوا4} أيها الكافرون {فسوف تعلمون} عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره. وقوله تعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصنيباً مما رزقناهم} وهذا ذكرٌ لعيب آخر من عيوبهم وباطلٍ من باطلهم أنهم يجعلون لأوثانهم التي لا يعلمون عنها شيئاً من نفعٍ أو ضر أو اعطاء أو منع أو إماتة أو إحياء يجعلونها لها طاعةً للشيطان نصيباً وحظاً من أموالهم
__________
1 لفظ الدّين هنا: صالح لأن يكون الطاعة يقال: دان فلان للملك: أطاعه وصالح لأن يكون الجزاء كقوله: {مالك يوم الدين} وصالح لأن يكون الديانة والكل لله. لا شريك له، فالطاعة واجبة له والجزاء هو الذي يملكه والديانة هو شارعها فهي له دون سواه.
2 فيه إشارة إلى بطلان إله الخير الذي يدين له المجوس الذين يقولون الخير من إله الخير، والشر من إله الشر.
3 وجائز أن تكون اللام: لام كي التعليلية.
4 الأمر للتهديد.(3/126)
يتقربون به إليها فسيبوا لها السوائب، وبحروا لها البحائر من الأنعام، وجعلوا لها من الحرث والغرس كذلك كما جاء ذلك في سورة الأنعام والمائدة قبلها: وقوله تعالى: {تالله لتسئلن1 عما كنتم تفترون} أقسم الجبار لهم تهديداً لهم وتوعداً أنهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون أي من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بعبادة الله تعالى وحده. 2- وجوب الرهبة من الله دون سواه.
3- وجوب الدين لله إذ هو الإله الحق دون غيره.
4- كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من الله سبحانه وتعالى.
5- تهديد المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم.
6- التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والإعطاء والمنع.
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ
__________
1 هذا سؤال توبيخ ويتم في عرصات القيامة أو في النار.(3/127)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62)
شرح الكلمات:
ويجعلون لله البنات: إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولهم ما يشتهون: أي الذكور من الأولاد.
ظل وجهه مسوداً: أي متغيراً بالسواد لما عليه من كرب.
وهو كظيم: أي ممتلىء بالغم.
أم يدسه في التراب: أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأُد.
مثل السوء: أي الصفة القبيحة.
ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله.
أن لهم الحسنى: أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.
وأنهم مفرطون: أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقاداتهم وسلوكهم فقال تعالى: {ويجعلون1 لله البنات- سبحانه- ولهم ما يشتهون2} وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى الله تعالى البنات، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم، حتى إذا بشر أحدهم بأنثى بأن أُخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملاً في غم وكرب {وجهه مسوداً وهو كظيم} 3 ممتلىء بالغم والهم. {يتوارى} أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفاً من المعرة، وذلك {من سوء ما بشر به} وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبَشرَّ به: إما أن يمسكه. أن يبقيه في بيته بين
__________
1 هذه الآية نزلت في خزاعة وكنانة إذ زعموا أنّ الملائكة بنات الله، وكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات.
(ما) موصولة، وهو وصلته مبتدأ في محل رفع، والخبر متعلّق الجار والمجرور أي: ثابت لهم.
3 الكظيم: مشتق من الكظامة وهو شدّ فم القربة، إذا الكظيم هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلّم من الغمّ.(3/128)
أولاده {على هون} أي مذلة وهوان، وإما أن {يدسه في التراب} 1 أي يدفنه حياً وهو الوأد المعروف عندهم. قال تعالى مندداً بهذا الإجرام: {ألا ساء ما يحكمون} في حكمهم هذا من جهة نسبة البنات لله وتبرّئهم منها، ومن جهة وأْد البنات2 أو إذلالهن، قبح حكمهم الجاهلي هذا من حكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (57) وهي قوله: {ويجعلون لله البنات} حيث قالوا الملائكة بنات الله {سبحانه} أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصاحبة فلا ينبغي أن يكون له ولد ذكراً كان أو أنثى لأنه رب كل شيء ومليكه فما الحاجة إلى الولد إذاً؟ والآية الثانية (58) وهي قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى3 ظل وجهه مسوداً} أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم {وهو كظيم} أي ممتلىء بالغم والهم، {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} أي من البنت {أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} وقوله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} يخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم منكروا البعث الآخر لهم المثل السوء4 أي الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لأنهم لا يعملون خيراً ولا يتركون شراً، لعدم إيمانهم بالحساب والجزاء فهؤلاء لهم الصفة السوأى في كل شيء، {ولله المثل5 الأعلى} أي الصفة الحسنى وهو أنه لا إله إلا الله منزه عن النقائص رب كل شيء ومالكه، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا شريك له ولا ند له ولا ولد وقوله: {وهو العزيز الحكيم} ثناء على نفسه بأعظم وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده، وحكمه وقضائه لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقوله تعالى في الآية (61) {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليهما6} أي على الأرض
__________
1 دسّها: إخفاؤها في التراب عن الناس حتى لا تعرف، وفي الحديث: "من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كنّ له سترا من االنار يوم القيامة".
2 كانت مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن وكان صعصع بن ناجية عمّ الفرزدق إذا أحسّ بشيء من ذلك وجّه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك، قال الفرزدق يفتخر:
وعمّىٍ الذي منع الوائدات
فأحيى الوئيد فلم يوأد
3 تكرّر شرح هذه الآية في التفسير سهواً وهو غير ضار.
4 أي: صفة السوء من الجهل والكفر.
5 إن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه عزّ وجلّ وقد قال {فلا تضربوا لله الأمثال} فالجواب: إنّ قوله: {فلا تضربوا لله الأمثال} معناه الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص أي: لا تضربوا له مثلا يقتضي نقصاً وتشبيها بالخلق والمثل الأعلى هو وصفه تعالى بما لا شبيه له ولا نظير.
6 قال ابن مسعود رضي الله عنه وقرأ هذه الآية: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فماتت الدّواب ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال {ويعفو من كثير} .(3/129)
{من دابةٍ} أي نسمة تدب على الأرض من إنسانٍ أو حيوان فهذه علة عدم مؤاخذة الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الإهمال تابع لحكم عالية أشار إلى ذلك بقوله: {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد، وقد يكون نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه أخرى ثم يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عز وجل بظلام للعبيد.
وآخر آية في هذا السياق (62) تضمنت التنديد بسوء حال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم بالله وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه، ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي الجنة يوم القيامة. فرد تعالى على هذا الافتراء والهُراء السخيف بقوله: {لا جرم} أي حقاً وصدقاً ولا محالة {أن لهم النار} بدل الجنة {وأنهم مفرطون1} إليها مقدمون متروكون فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية في قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرَطون} 2 وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقاً مفرِطون في الشر والفساد والكفر والضلال والانحطاط إلى أبعد حد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الحال الاجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار.
2- بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا إليه الولد والشريك.
3- بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمناً في الظلم والشر والفساد.
4- بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم.
__________
1 أفرط يفرط: إذا تقدّم لطلب الماء فهو مفرط وهم مفرطون، وعليه فقوله تعالى: {مُفرِطون} معناه يتقدّمون غيرهم إلى النار وهي قراءة ورش عن نافع وقرأ حفص مُفرَطون باسم المفعول ومعناه متروكون في النار منسيون فيها.
2 مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.(3/130)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
شرح الكلمات:
تالله: أي والله.
أرسلنا إلى أمم من قبلك: أي رسلاً.
فزين لهم الشيطان أعمالهم: فكذبوا لذلك الرسل.
فهو وليهم اليوم: أي الشيطان هو وليهم اليوم أي في الدنيا.
إن في ذلك لآية: أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر.
لآية لقومٍ يسمعون: أي سماع تدبر وتفهم.
لعبرةً: أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لأن العبرة من العبور.
من بين فرثٍ: أي ثَفَل الكِرْش، أي الرَّوْث الموجود في الكرش.
لبناً خالصاً: أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم، لا لونه ولا رائحته ولا طعمه.
معنى الآيات:
يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا {لقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قبلك} كانوا مشركين كافرين كأمتك {فزين لهم الشيطان أعمالهم} فقاوموا رسلنا(3/131)
وحاربوهم وأصروا على الشرك والكفر فتولاهم الشيطان، لذلك {فهو وليهم اليوم1} ! أي في الدنيا {ولهم} في الآخرة {عذابٌ أليم} ، والسياق الكريم في تسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذا قال تعالى في الآية الثانية: {وما أنزلنا علمك الكتاب} أي لإرهاقك وتعذيبك ولكن لأجل أن تبين للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلال. كما أنزلنا الكتاب هدىً يهتدى به المؤمنون إلى سبل سعادتهم ونجاحهم، ورحمةٌ تحصل لهم بالعمل به عقيدةً وعبادةً وخلقاً وأدباً وحكماً، فيعيشون متراحمين تسودهم الأخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسلام.
بعد هذه التسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد السياق إلى الدعوة إلى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى: {تالله لقد أرسلنا} الآية فقال تعالى: {والله أنزل من2 السماء ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها} الماء هو ماء المطر وحياة الأرض بالنبات والزرع بعدما كانت ميتة لا نبات فيها وقوله {إن في ذلك} المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها {لآية} واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته، وعلمه ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى. وقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام3 لعبرةً} 4 أي حالاً تعبرون بها عن الجهل إلى العلم.. من الجهل بقدرة الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا. وبين وجه العبرة العظيمة فقال: {نسقيكم مما في بطونه5} أي بطون المذكور من الأنعام {من6 بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها.. اللبن يقع بين الفرث والدم
__________
1 الشيطان الذي ريّن للذين كفروا أعمالهم حتى ضلوا وهلكوا هو وليّ الذين كفروا اليوم يزيّن لهم أعمالهم ليضلّهم فيهلكوا كما هلك من قبلهم، وفي الآية تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 كون المسند فعلاً وهو: أنزل من السماء ماء أفاد التخصيص أي: الله وحده الذي أنزل من السماء ماء والمراد من السماء: السحاب.
3 هناك مناسبة ظاهرة بين الآيتين وهي: كما أنّ الأرض تحيى بماء السماء كذلك الإنسان يحيى بالألبان.
4 اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز والعبر: ما يتعظ به ويعتبر.
5 البطون: جمع بطن وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كلَّه من معدة وكبد وأمعاء.
6 {من} زائدة لتوكيد التوسط أي: يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم وموقع: {من بين فرث ودم} موقع الصفة والموصوف: لبناً وقدّمت للاهتمام بها.
6 مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.(3/132)
فينتقل الدم إلى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان، واللبن يساق إلى الضرع، والفرث يبقى أسفل الكرش، ويخرج اللبن خالصاً من شائبة الدم وشائبة الفرث فلا يرى ذلك في لون اللبن ولا يشم في رائحته ولا يوجد في طعمه بدليل أنه سائغ للشاربين، فلا يغص به شارب ولا يشرق به، حقاً! انها عبرة من أجل العبر تنقل صاحبها إلى نور العلم والمعرفة بالله في جلاله وكماله، فتورثه محبة الله وتدفعه إلى طاعته والتقرب إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ان الله يقسم بنفسه وبما شاء من1 خلقه.
2- بيان أن الله أرسل رسلاً إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها.
3- تقرير النبوة وتسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جراء ما يلقاه من المشركين.
4- بيان مهمة رسول الله وأنها بيان ما أنزل الله تعالى لعباده من وحيه في كتابه.
5- بيان كون القرآن الكريم هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به.
6- دليل البعث والحياة الثانية إحياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم.
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
__________
1 نحو: {والفجر} ، {والتين} وما إلى ذلك إلاّ أنّ بعض أهل العلم كمالك يرون أنّ المقسم به محذوف تقديره: وربّ الفجر، وربّ التين وهكذا.(3/133)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
شرح الكلمات:
ومن ثمرات النخيل والأعناب: أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون1 منه سكراً أي خمرا ورزقاً حسناً أي والتمر والزبيب والخل والدبس الرزق الحسن.
وأوحى ربك إلى النحل: أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى.
ومما يعرشون: أي يبنون لها.
سبل ربك ذللاً: أي طرق ربك مذللةً فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين عنها.
شراب: أي عسل.
فيه شفاء للناس: أي من الأمراض إن شرب بنية الشفاء، أش بضميمته إلى عقار آخر.
إلى أرذل العمر: أي أخَسَّه من الهرم والخرف، والخرف فساد العقل.
معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة النبوة والبعث الآخر. قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً} ورزقاً حسناً أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه سكراً أي شراباً مسكراً. وهذا كان قبل تحريم2 الخمر {ورزقاً حسناً} وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله {ان في ذلك لآية لقوم يعقلون} أي أن فيما ذكرنا لكم لآية أي دلالة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقومٍ يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات، فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة.. وقوله: {وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون} هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن، ما أحل من ثمرتيهما، وليست الخمر مقصورة على العنب والتمر فقد خطب عمر وقال: "أيّها الناس إن الله قد حرّم الخمر وهي من خمسة، من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير". والإجماع على أنّ كل مسِكر حرام.
2 إن قيل: هذا خبر، والنسخ لا يكون في الأخبار؟ فالجواب: إن تضمّن الخبر حكماً شرعياً جاز نسخه، ومن أدلة ذلك هذا الخبر ونسخه.(3/134)
النحل كيف تلد العسل وتقدمه للإنسان فيه دواء من كل داء. فقوله {وأوحى ربك} أيها الرسول {إلى النحل1} بأن ألهمها {أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر} أيضاً بيوتاً، {ومما يعرشون2} أي ومما يعرش الناس لَكِ أي يبنون لك، اتخذي من ذلك بيوتاً لَكِ إذ النحلة تتخذ لها بيتاً داخل العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله تعالى: {ثم كلي من كل الثمرات} أي ألهمها أن تأكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من الأشجار والنباتات أي من أزهارها ونوارها وقوله لها {فاسلكي سبل ربك ذللاً} 3 بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق فتنتقل من مكان إلى آخر تطلب غذاءها ثم تعود إلى بيوتها لا تعجز ولا تضل وذلك بتذليل الله تعالى وتسخيره لها تلك الطرق فلا تجد فيها وعورة ولا تنساها فتخطئها. وقوله تعالى {يخرج من4 بطونها} أي بطون النحل {شراب} أي عسل يشرب {مختلف5 ألوانه} ما بين أبيض وأحمر وأسود، أو أبيض مشرب بحمرة أو يضرب إلى صفرة. وقوله تعالى: {فيه شفاء للناس} أي من الأدواء، هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون بعض جائز هذا حتى يضم إليه بعض الأدوية أو العقاير الأخرى، أمّا مع النية أي أن يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء وبدون ضميمة أي شيء آخر له. وفي حديث الصحيح وخلاصته أن رجلاً شكا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استطلاق بطن أخيه أي مشْي بطنه عليه فقال له اسقه العسل، فسقاه فعاد فقال ما أراه زاده إلا استطلاقا فعاد فقالت مثل ما قال أولاً ثلاث مرات وفي الرابعة أو الثالثة قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط من عقال. وقوله تعالى: {إن في ذلك} أي المذكور من إلهام الله تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدلالة واضحة على
__________
1 قيل: سمي النحل نحلا: لأن الله تعالى نحله العسل الذي خرج منه.
2 بيوت النحل في ثلاثة، في الجبال وكواها، ومتجوّف الأشجار، وما يعرش لها من الأجباح والخلايا والحيطان، وعرش يعرش: إذا بنى عريشا من الأغصان والخشب، ومن عجيب ما ألهم الله النحل أنه يجعل بيوته مسدسة الشكل.
3 اللّفظ صالح لأن يكون لفظ ذللا المراد به النحلة نفسها وذلل جمع ذلول وهي المنقادة المطيعة المسخرة، وصالح أن يكون المراد به الطرق التي تسلكها النحلة كما في التفسير.
4 روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة.
5 بحسب تنويع الغذاء كما أن الطعم يختلف باختلاف المراعي ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله عنها جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير والعرفط شجر الطلح له صمغ كريه الرائحة.(3/135)
علم الله وقدرته ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في الأشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون إلى المطلوب منهم وهو أن يذكروا فيتعظوا فيتوبوا إلى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في الآية الأخرى (70) {والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً} هذه آية أخرى أجل وأعظم في الدلالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته، وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة بالإيمان بالبعت الآخر فخلق الله تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن لا يحصى لنا عد، ثم إماتته لنا موتاً حقيقياً بقبض أرواحنا ولا يستطيع أحد أن لا يموت ولا يتوفى أبداً ثم من مظاهر الحكمة أن يتوفانا من أجال مختلفة اقتضتها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة إلى نهايتها. فمن الناس من يموت طفلاً ومنهم من يموت شاباً، وكلها حسب حكمة الابتلاء والتربية الإلهية، وآية أخرى أن منا من يرد إلى أرذل عمره، أي أردأه وأخسَّه فيهرم ويخرف فيفقد ما كان له من قوة بدنٍ وعقل ولا يستطيع أحد أن يخلصه من ذلك إلا الله، مظهر قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء الله أن يرد الناس كلهم إلى أرذل العمر ولو في قرنٍ أو قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يومئذ؟ وقوله: {إن الله عليم قدير} تقرير لعلمه وقدرته، إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا ووفاتنا ورد بعضنا إلى أرذل العمر إلا بقدرة قادر وعلم عالم وهو الله العليم القدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا الله على نعمه.
2- بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه.
3- فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر.
4- تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين، إذ من خلق وأماتَ لا يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت.
وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي(3/136)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (74)
شرح الكلمات
فضل بعضكم على بعض في الرزق: أي فمنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك.
برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم: أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من العبيد.
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا: إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال.
وحفدة: أي خدماً من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن.
أفبالبالطل يؤمنون: أي بعبادة الأصنام يؤمنون.
رزقاً من السموات والأرض: أي بإنزال المطر من السماء، وإنبات النبات من الأرض.
معنى الآيات:
مازال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد. فقوله تعالى: {والله فضل(3/137)
بعضكم على1 بعضٍ في الرزق} فمنكم من أغناه ومنكم من أفقره أيها الناس، 2 وقد يكون لأحدكم أيها الأغنياء عبيد مملوكين له، لم لا يرضى أن يشرك عبيده في أمواله حتى يكونوا فيها سواء لا فضل لأحدهما على الآخر؟ والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أُسوِّي مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء؟ هذا لا يعقل أبداً! إذاً كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة ربكم وهي مملوكة له تعالى إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم؟ فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون؟ وقوله تعالى {أفبنعمة الله يجحدون} ؟ حقاً إنهم جحدوا نعمة العقل أولاً فلم يعترفوا بها فلذا لم يفكروا بعقولهم، ثم جحدوا نعمة الله عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره وشكره وعبدوا غيره من أصنام وأوثان لا تملك ولا تضر ولا تنفع. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (71) أما الآية الثانية فيقول تعالى فيها مقرراً إنعامه تعالى على المشركين بعد توبيخهم على إهمال عقولهم في الآية الأولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول: {والله} أي وحده {جعل لكم من3 أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات} أي جعل لكم من أنفسكم4 أزواجاً أي بشريَّات من جنسكم تسكنون إليهن وتتفاهمون معهن وتتعاونون بحكم الجنسية الآدمية وهي نعمة عظمى، وجعل لكم من أولئك الأزواج بنين بطريق التناسل والولادة وحفدة أيضاً والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد ولدك وختنك أي صهرك، وخادمك إذ الكل يحفدون لك أي يسارعون في خدمتك بتسخير الله تعالى لك، وثالثاً {ورزقكم من الطيبات} أي حلال الطعام والشراب على اختلافه وتنوع مذاقه وطعمه ولذته. هذا هو الله الذي تُدعون إلى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون بالباطل وهي الأصنام
__________
1 هذا استدلال على قدرة الله وتدبيره وقهره لعباده إذ فضل بعضهم على بعض في الرزق تفضيلا عجيباً هذا غني، وهذا فقير، هذا موسر، وهذا معسر فقد يفتقر الذكي القوي ويستغني البليد الضعيف كما قيل:
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق
والآية متضمنة مثلا ضربه لعبادة الأصنام، ونظير هذه المُثل في سورة الروم في قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم..} الخ.
2 يريد أن أغنياءهم لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه فكيف يرضون لله مالا يرضونه لأنفسهم كما في قوله: {ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون} أي: البنون.
3 أي: من نوعكم، ومِنْ للابتداء ومِنْ في قوله تعالى: {وجعل لكم من أزواجكم} للتبعيض.
4 الأزواج: جمع زوج وهو ما يُكوّن مع آخر اثنين.(3/138)
وعبادتها، وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى: {أفبالباطل1 يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون} ؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عز وجل هو عين كفرانهم بنعمة الله تعالى. وقوله {ويعبدون من دون الله} أي أصناماً لا تملك لهم {رزقاً من السماء} بإنزال المطر، {والأرض} بإنبات الزروع والثمار شيئاً ولو قَلَّ ولا يستطيعون شيئاً من ذلك لعجزهم القائم بهم لأنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم على خطأهم مالا يقادر قدره. وقوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال إن2 الله3 يعلم وأنتم لا تعلمون} أي ينهاهم تعالى عن ضرب الأمثال لله باتخاذ الأصنام آلهة بإطلاق لفظ إله عليها، والله لا مثل له، وباعتقاد أنها شافعة لهم عند الله وأنها تقربهم إليه تعالى، وأنها واسطة بمثابة الوزير للأمير إلى غير ذلك، فنهاهم عن ضرب هذه الأمثال لله تعالى لأنه عز وجل يعلم أنه لا مثل له ولا مثال، بل هو الله الذي لا إله إلا هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير، وهم لا يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في ظلمات الشرك وأودية الضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى: {والله فضل بعضكم على بعضٍ في الرزق} .
2- وجوب شكر الله تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له.
3- قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها.
4- التنديد بمن يضربون لله الأمثال وهم لا يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيهاً لله تعالى بعباده فهم يتوسطون بالأولياء والأنبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى الله تعالى يستجيب لهم، ولا يستجيب لغيرهم.
__________
1 الباطل: ضد الحق لأنّ مالا يخلق لا يعبد، فإن عُبد فقد عبد بالباطل، والجملة تحمل توبيخاً كبيراً للمشركين.
2 الأمثال: جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل كشبه بمعنى مشابه، ومعنى. ضربهم الأمثال لله تعالى: هو أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبّهوها بالخالق عز وجل حيث عبدوها بالنذر لها وبالذبح والدعاء والإقسام بها والعكوف حولها.
3 جملة: {إنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون} تعليلية لنهيهم عن ضرب الأمثال لله تعالى. فنهيه تعالى لهم عن ضرب الأمثال لعلمه عزّ وجلّ أنه لا مثل له، وأن ما يضربونه له باطل، وهو تعالى منزّه عنه.(3/139)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
شرح الكلمات:
ضرب الله مثلاً: أي هو عبداً مملوكاً الخ..
عبداً مملوكاً: أي ليس بحُرٍ بل هو عبد مملوك لغيره.
هل يستوون: أي العبيد العجزة والحُر المتصرف، والجواب: لا يستوون قطعاً.
وضرب الله مثلاً: أي هو رجلين الخ..
أبكم: أي ولد أخرس وأصم لا يسمع.
لا يقدر على شيء: أي لا يَفهَمْ ولا يُفهِمْ غيره.
ولله غيب السموات والأرض: أي ما غاب فيهما.
وما أمر الساعة: أي أمر قيامها، وذلك بإماتة الأحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور الأكوان كلها.(3/140)
الأفئدة: أي القلوب.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير.. فالأول قال فيه: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً} أي غير حر من أحرار الناس، {لا يقدر على شيء} إذ هو مملوك لاحق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه1، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء، هذا طرف المثل، والثاني {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} صالحاً واسعاً {فهو ينفق منه سراً وجهراً} ليلاً ونهاراً لأنه حر التصرف بوصفه مالكاًَ {هل يستوون2} ؟ الجواب لا يستويان.. إذاً {الحمد لله بل أكثرهم3 لا يعلمون} والمثل مضروب للمؤمن والكافر، فالكافر أسير للأصنام عبدٌ لها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة، والجزاء فيها، وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاعة الله فينفق في سبيل الله سراً وجهراً يبتغي الآخرة والمثوبة من الله، ذا علمٍ وإرادة، لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله: {وضرب الله مثلاً رجلين} هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية (76) فقال تعالى فيه {وضرب الله مثلاً} هو {رجلين أحدهما4 أبكم} ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع {لا يقدر على شيء} فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يُفهم غيره لأنه أبكم، {وهو كلٌّ على5 مولاه} أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله: {أينما يوجهه لا يأت بخير} أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء
__________
1 هذه الآية منزع الفقهاء في ملكية العبد وعدمها، فذهب مالك إلى أنّ العبد يملك بإذن سيده، وهو ناقص الملك، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: العبد لا يملك شيئاً، وقالوا: الرّق ينافي الملك، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أعتق عبداً وله مال" شاهد لمن قال يملك ملكاً ناقصا.
2 لم يقل يستويان لأنّ مَنْ صالحة للواحد والجماعة.
3 لا يعلمون أن الله هو المستحق للحمد دون آلهتهم لأن الله تعالى هو المنعم بالخلق والرزق، والأصنام لا تخلق ولا ترزق فلذا الحمد له وحده.
4 هذا مثل آخر ضربه تعالى لنفسه وللمؤمن. قاله قتادة وغيره.
5 أي: ثقل على وليّه وقرابته ووبال على صاحبه وابن عمّه.(3/141)
لا يأتي بخير، وقد يأتي بشر، أمَّا النفع والخير فلا يحصل منه شيء.
وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها، ولا تُفهم عابديها شيئاً وهي محتاجة إليهم في صُنْعِها ووضعها وحملها وحمايتها. وقوله تعالى {هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم} وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل شيء، وهو قائم على كلى شيء، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين، فالجواب، لا يستويان بحال، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير، القوي، القدير، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم، أمر يحمل على العجب، ولكن لا عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم. وقوله تعالى في الآية (77) {ولله غيب السموات1 والأرض} وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حُكم عليه بالشقاوة، ومن يهتدي ومن لا يهتدي، والجزاء آت بإتيان الساعة {وما أمر الساعة2} أي إتيانها {إلا كلمح3 البصر أو هو أقرب} 4 إذ لا يتوقف أمرها إلا على كلمة {كن} فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها، وتأتي الحياة الأخرى وقد تبدلت صور الأشياء كلها {إن الله على كل شيء قدير} ومن ذلك قيام القيامة، ومجيء الساعة. وقوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا5 تعلمون6 شيئاً} حقيقة لا تُنكر، الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشراً ثم أذن بإخراجنا، فأخرجنا، وخرجنا لا نعلم شيئاً قط، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي، فهل للأصنام شيء من ذلك، والجواب لا، لا وثانياً جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار والأفئدة نعمة أخرى، إذ لولا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذٍ، إذْ العدم خيرٌ منها. وقوله:
__________
1 {ولله غيب السموات والأرض} : اللام لام الملك، والغيب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي: الأشياء الغائبة، والغيب ما غاب عن أعين الناس.
2 الساعة: هي الوفت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة.
3 اللّمح: النظر بسرعة يقال لمحه لمحاً ولمحاناً.
4 ليس (أو) للشك وإنما هي بمعنى بل الانتقالية من شيء إلى آخر كقوله {فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} أي: بل يزيدون.
5 البطون: جمع بطن وهو ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
6 الشكر: الاعتراف بالنعمة لله وحمده عليها وصرفها فيما يرضيه تعالى.(3/142)
{لعلكم تشكرون} كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من خير.. إنه إعداد للسعادة في الدارين. فهل من متذكر يا عباد الله؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالماً.
2- بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.
أ- بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عَبَدتِها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها. ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه، ورعايتهم، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ(3/143)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
شرح الكلمات:
مسخراتٍ في جو السماء: أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.
ما يمسكهن: أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه.
من بيوتكم سكنا: أي مكاناً تسكنون فيه وتخلدون للراحة.
من جلود الأنعام بيوتاً: أي خياماً وقباباً.
يوم ظعنكم: أي ارتحالكم في أسفاركم.
أثاثاً ومتاعاً إلي حين: كبُسط وأكسية تبلى وتتمزق وتُرمى.
ظلالاً ومن الجبال أكناناً: أي ما تستظلون به من حر الشمس، وما تسكنون به في غيران الجبال.
وسرابيل: أي قمصاناً تقيكم الحر والبرد.
وسرابيل تقيكم بأسكم: أي دروعاً تقيكم الضرب والطعان في الحرب.
لعلكم تسلمون: أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى: {ألم1 يروا إلى الطير مسخرات2 في جو السماء ما يمسكهن3 إلا الله} فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده، وفي طيرانه في جو4 السماء، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآياتٍ عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته
__________
1 قرىء بالتاء: {ألم تروا} وقرىء بالياء وهي قراءة الأكثر.
2 {مسخرات} : أي: مذللات لأمر الله تعالى، ومذللات لمنافعكم أيضاً.
3 {ما يمسكهن} أي: في جال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله عزّ وجلّ.
4 {جو السماء} هو الفضاء الذي بين السماء والأرض، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء فيما يخال الناظر.(3/144)
والتقرب إليه وطاعته بعبادته وحده، كما تدل على بطلان تأليه غيره وعبادة سواه، وكون الآيات لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم أموات القلوب فلا إدراك ولا فهم لهم، فلم يكن لهم في ذلك آية.. وقوله: {والله جعل1 لكم من بيوتكم سكناً} أي موضع سكونٍ وراحة، {وجعل لكم2 من جلود الأنعام} الإبل والبقر والغنم {بيوتاً} أي خياماً وقباباً {تستخفونها} أي تجدونها خفيفة المحمل {يوم ظعنكم} أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم {ويوم إقامتكم} في مكان واحد كذلك. وقوله: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} أي جعل لكم منه {أثاثاً} كالبسط الفرش والأكسية (متاعاً) أي تتمتعون بها إلى حين بلاها وتمزقها3 وقوله: {والله جعل لكم مما خلق} من أشياء كثيرة {ظلالاً} تستظلون بها من حر الشمس {وجعل لكم من الجبال أكناناً} 4 تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران وكهوف في الجبال {وجعل لكم سرابيل} قمصان {تقيكم الحر} والبرد {وسرابيل} هي الدروع {تقيكم بأسكم} في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح. أليس الذي جعل لكم هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم، وهكذا {يتم نعتمه عليكم} فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه لِيُعِدّكم للإسلام فتسلموا. وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله {فإن تولوا} أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف إذ ليس عليك هداهم {فإنما عليك البلاغ المبين} وقد بلغت وبينت. فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية. وقوله: {يعرفون نعمت الله} أي نعمة الله عليهم كما ذكرناهم بها {ثم ينكرونها} فيعبدون غير المُنعم بها {وأكثرهم الكافرون} أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت به.
__________
1 {جعل} : بمعنى أوجد وهذا شروع في تعداد النعم التي أنعم بها الخالق عزّ وجلّ على العباد، والسكن: مصدر والمنة في كونه تعالى جعل الإنسان يسكن ويتحرك ولو شاء لجعله متحركاً دائماً كالأفلاك في السماء أو جعله كالأرض ساكناً أبداً.
2 بعد أن ذكر تعالى السكن في الدور ذكر السكن في البيوت المتنقلة وهي الخيام والقباب.
3 في الآية دليل على حليذة جلود الميتة ولكن بعد دبغها لحديث: "أيّما إهاب دبغ فقد طهر".
4 الأكنان: جمع كن وهو: ما يكن عن الحرّ والريح والبرد وهو الغار في الجبل.(3/145)
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئاً من الآيات ولا يبصرون.
2- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئاً منها وأكثرهم الكافرون.
3- مهمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)(3/146)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
شرح الكلمات:
ويوم نبعث: أي اذكر يوم نبعث.
شهيداً: هو نبيها.
لا يؤذن للذين كفروا: أي بالاعتذار فيعتذرون.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي الله عنهم.
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم: أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين.
فألقوا إليهم القول: أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.
وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم: أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ومعنى ضل غاب.
عذاباً فوق العذاب: أنه عقارب وحيات كالنِّخل الطوال والبغال الموكفة.
ونزلنا عليك الكتاب: أي القرآن.
تبياناً لكل شيء: أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب.
معنى الآيات:
انحصر السياق! لكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى: {يوم نبعث1} أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث {من كل أمة} من الأمم {شهيداً} هو نبيها الذي نبىء فيها وأرسل إليها {ثم لا يؤذن للذين كفروا} أي بالاعتذار فيعتذرون {ولا هم يستعتبون2} أي لا يطلب منهم العتبى3 أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر هذا لقومك، علهم يذكرون فيتعظون، فيتوبون، فينجون
__________
1 نظير هذه الآية آية النساء: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد..} الآية.
2 أي: لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأنّ الآخرة ليست دار تكليف ولا يمكنون من الرجوع إلى الدنيا فيتوبون.
3 العتبى: الرضا، والفعل: عتب يعتب عليه إذا وجد عليه في نفسه وأعتبه: إذا أزال الموجدة ورجع إلى مسرّته وفي الحديث: " لك العتبى حتى ترضى" والعتبى: رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب وهو المراد في الحديث.(3/147)
ويسعدون. وقوله في الآية الثانية (85) {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} أي يوم1 القيامة {فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون} أي يمهلون. اذكر هذا أيضاً تذكيراً وتعليماً، واذكر لهم {إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين {ربنا} أي يا ربنا {هؤلاء2 شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} أي نعبدهم بدعائهم والاستغاثة بهم، {فألقوا إليهم القول} فوراً {إنكم لكاذبون} . {وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم} أي الاستسلام فذلوا لحكمه {وضل عنهم ما كانوا يفترون} في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم، وأنهم وسيلتهم إلى الله كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء. وقوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه والحمل عليه أحياناً بالترهيب والترغيب {زدناهم عذاباً فوق العذاب} الذي استوجبوه بكفرهم. ورد أن هذه الزيادة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم، وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب، وقوله تعالى: {ويوم نبعث} أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث {في كل أمةٍ شهيداً} أي يوم القيامة {عليهم من أنفسهم3 وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} أي على من أرسلت إليهم من أمتك. فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر. وعلى أهل التوحيد بالتوحيد، وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة.. وقوله تعالى في خطاب رسوله مقرراً نبوته والوحي إليه {ونزلنا عليك الكتاب} أي القرآن {تبياناً4 لكل شيء} الأمة في حاجة إلى معرفته من الحلال والحرام والأحكام والأدلة {وهدى} من كل ضلال {ورحمة} خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون
__________
1 أي: عذاب جهنم بالدخول فيها.
2 أي: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك لأنّ الله تعالى يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار، روى مسلم: "من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت.." الحديث، وفي الترمذي: " فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون".
3 الشهداء: هم الأنبياء والعلماء، فالنبي يشهد على أمته والعالم يشهد على من أمره ونهاه ودلّ هذا على أنه لم تخل فترة من وجود داع إلى الله تقوم به الحجة لله تعالى فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل "يبعث امة وحده". ومثل زيد قس وورقة وسطيح.
4 التبيان: مصدر دال على المبالغة في المصدرية وأريد به هنا اسم الفاعل أي: المبيِّن لكل شيء.(3/148)
رحمة عامة بينهم {وبشرى للمسلمين1} أي المنقادين لله في أمره ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار. وبعد إنزالنا عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على أمتك أعظم شهادة وأكثرها أثراً على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.
2- براءة الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم.
3- زيادة العذاب لمن دعا إلى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.
4- لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين.
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
__________
1 خُصّ المسلمون دون غيرهم لأنّ غيرهم أعرضوا عنه فحرموا الهدى والرحمة والبشرى في الدارين.(3/149)
بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
شرح الكلمات:
العدل: الإنصاف ومنه التوحيد.
الإحسان: أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
وإيتاء ذوي القربى: أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
عن الفحشاء: الزنا.
يعظكم: أي يأمركم وينهاكم.
تذكرون: أي تتعظون.
توكيدها: أي تغليظها.
نقضت غزلها: أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
من بعد قوة: أي أحكام له وبرم.
أنكاثاً: جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
كالتي نقضت غزلها: هي حمقاء مكة وتدعى رَيْطَة بنت سعد بن تيم القرشية.
دخلاً بينكم: الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.
أربى من أمة: أي أكثر منها عددا ًوقوة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل1} أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم
__________
1 ورد في فضل هذه الآية أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: ما أسلمت ابتداء إلاّ حياءٌ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أخاه من الرضاعة حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعِد فأعدت فقال: والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإن أصله لمورق وأعلاه لمثمر وما هو بقول بشر.(3/150)
وتترك عبادة غيره لأن غيره لم يخلّق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله، {والإحسان1} وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجودة والاجتناب خوفاً من الله حياء منه، وقوله {وإيتاء ذي القربى} أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل {والمنكر} وهو كل ما أنكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة، وينهى عن البغي2 وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها، وقوله {لعلكم تذكرون} أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية: {أن الله يأمر بالعدل3 والإحسان4} إلى {تذكرون} هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك فما من خيرٍ إلا وأمرت به ولا من شرٍ إلا ونهت عنه. وقوله تعالى {وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم} أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع إماماً أو عاهد أحداً على شيء أن يفي له بالعهد ولا ينقض. "إذ لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" كما في الحديث الشريف.. وقوله تعالى {ولا تنقضوا5 الإيمان بعد توكيدها} الإيمان جمع يمين وهو الحلف بالله وتوكيدها تغليظها بالألفاظ الزائدة {وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} أي وكيلا، أي أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلا، فهذه الآية حرمت نقض الإيمان وهو نكثها وعدم الالتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية6. وقوله
__________
1 الإحسان مصدر أحسن إحساناً وهو متعدّ بنفسه نحو: أحسنت كذا إذا أتقنته وحسّنته وجوّدته، ومتعدّ بحرف الجرّ نحو: أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينفعه أو دفعت عنه ما يضرّه، وكلا المعنيين مراد في الآية وما في حديث جبريل يتناول الأول لأن من راقب الله تعالى أتقن عمله وحسنه.
2 ورد في البغي: لا ذنب أسرع عقوبة من البغي، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، والباغي مصروع وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر في قوله: {ومن عاقب بمثل ما عوقب ثمّ بغى عليه لينصرنه الله} .
3 قال ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية: أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشرّ يجتنب.
4 روي أن جماعة رفعت شكوى بعاملها إلى أبي جعفر المنصور فحاجّها العامل فغلبها حيث لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جور في شيء، فقام فتى منهم وقال يا أمير المؤمنين: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وإنّه عدل ولم يحسن فعجب أبو جعفر المنصور من إصابته، وعزل العامل.
5 هذا في الإيمان المؤكد بها الحلف في الجاهلية لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث مسلم "لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة وأبطل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلف في الإسلام، لأن الإسلام جاء بنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم كما هو مبين في شريعته.
6 أمّا إذا حلف العبد يميناً فرأى غيرها خيراً منها فإنه ينقض يمينه ويكفر كفّارة يمين لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني".(3/151)
تعالى {إن الله يعلم1 ما تفعلون} فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها. وقول تعالى {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها} ، وهى امرأة بمكة حمقاء2 تغزل ثم تنكث3 غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} أي إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي جماعة أكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع. وقوله تعالى: {إنما يبلوكم الله به} أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الإيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولا تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة، {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.. وقوله تعالى {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} على التوحيد والهداية لفعل.. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى: {لتسألن} أي4 سؤال توبيخ وتأنيب {عما كنتم تعملون} من سوء وباطل، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان..} الآية (90) .
2- وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
__________
1 هذه الجملة ذكرت علّة لتحريم نقض العهد فهي تحمل وعيداً شديداً وتهديداً كبيراً لمن ينقض العهد.
2 يقال لها ريطة بنت عمر وكانت تغزل طول النهار، وفي المساء إذا غضبت لحمقها تحلّ ما أبرمته من غزلها، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا كهذه الحمقاء فيحلون ما يبرمون من عقود وعهود.
3 النكث والجمع أنكاث: وهو النقض والحل بعد الإبرام.
4 اللام دالة على قسم محذوف نحو: {والله لتسألن} .(3/152)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
3- تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
4- لحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
5- وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.
6- حرمة نقض الإيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
7- من بايع أميراً أو عاهد أحداً يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً.
وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)
شرح الكلمات:
دخلاً بينكم: أي لأجل الإفساد والخديعة.
وتذوقوا السوء: أي العذاب.
ما عندكم ينفد: يفنى وينتهي.
وهو مؤمن: أي والحال أنه عندما عمل صالحاً كان مؤمناً، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل.
حياة طيبة: في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة.
بأحسن ما كانوا يعملون: أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها.(3/153)
معنى الآيات:
ما زال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال تعالى لهم {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً} أي خديعة {بينكم} لتتوصلوا بالإيمان إلى غرضٍ دنيوي سافل، {فتزل قدم1 بعد ثبوتها} بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع، يحلف بالله بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث، وتتحملون وزر ذلك، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله: {ولا تشتروا2 بعهد الله ثمناً قليلاً} وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعاً، لأن ما عندكُمْ من مالٍ أو متاعٍ ينفد أي يفنى، {وما عند الله باق} لا نفاذ له، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، وقوله تعالى: {ولنجزين الذين صبروا} على عهودهم {أجرهم} على صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى لمن يصبر على إيمانه وإسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ووعدٌ ثان في قوله: {من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه3 حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام4 وشراب ورضا، هذا في
__________
1 هذه الجملة دلت على المبالغة في النهي اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة، إذ مَنْ وقع في ورطة يقال: زلت قدمه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرٌ.
2 نهى تعالى المؤمنين عن الرُّشا وأخذ الأموال على نقض العهد أي: لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. روي أن امرؤ القيس بن عابس الكندي اختصم مع ابن أسوع في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلمّا سمع هذه الآية نكل وقرأ لخصمه بالأرض.
3 اختلف في معنى الحياة الطيبة فقال بعضهم: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة وقيل: التوفيق إلى الطاعة الموجبة لرضوان الله تعالى، وقيل: هي حلاوة الطاعة، وقيل هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله.
4 روى مسلم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه".(3/154)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
الدنيا وفي الآخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع، من الصلاة كأفضل صلاة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك برٌ رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الإيمان طريقاً إلى الغش والخديعة والإفساد.
2- ما عند الله خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.
3- عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلاً وتركاً.
4- وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحاً من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
شرح الكلمات:
فإذا قرأت القرآن: أي أردت أن تقرأ القرآن.
فاستعذ بالله من الشيطان: أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك منه وسواسه.
إنه ليس له سلطان: أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم، ما داموا(3/155)
متوكلين على الله.
وإذا بدلنا آية مكان آية: أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.
قل نزله روح القدس: أي جبريل عليه السلام.
ليثبت الذين آمنوا: أي على إيمانهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم، فقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي إذا كنت قارئاً عازماً على القراءة فقل أعوذ بالله1 من الشيطان الرجيم، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك2، وقوله: {إنه ليس له} أي للشيطان {سلطان} يعني تسلط وغلبة وقهر {على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} وهذه بشرى خير للمؤمنين {إنما سلطانه على الذين يتولونه} 3 بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل4، {والذين هم به5 مشركون} . هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم. وقوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} أي نسخنا حكماً بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي {إنما أنت} يا محمد {مفترٍ} تقول بالكذب والخرص، أي يقول اليوم شيئاً ويقول غداً خلافه. وقوله تعالى: {والله أعلم بما ينزل} فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين. وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له {قل نزله روح القُدس6 من ربك بالحق} فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا بتغير، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم.
__________
1 هذه كآية الوضوء: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا..} أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير وضوء فاغسلوا وجوهكم أي: توضؤوا.
2 لقد صحت الأحاديث الكثيرة في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوّذ في صلاته قبل القراءة روي أن بعض السلف كان يتعوّذ بعد القراءة أخذاً بهذه الآية.
3 فائدة الاستعاذة قبل القراءة أن يحفظ المرء من أن يلبس عليه إبليس قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبرّ.
4 قيل في قوله تعالى: {إنه ليس له سلطان} : أي أنه لا يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.
5 الضمير في {به} عائد إلى الشيطان ويصح عوده على الله تعالى.
6 روح القدس: جبريل عليه السلام: "فقد نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ما عدا الفاتحة فقد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قط" رواه مسلم.(3/156)
فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيماناً فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين، وهو أي القرآن هدىً من كل ضلالة. وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
2- بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.
3- بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.
4- بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.
5- بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ(3/157)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ (109)
شرح الكلمات:
بشر: يعنون قيناً (حداداً) نصرانياً في مكة.
لسان الذي يلحدون إليه: أي يميلون إليه.
وهذا لسان عربي: أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.
إلا من أكره: أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.
ولكن من شرح بالكفر صدرا: أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.
وأولئك هم الغافلون: أي عما يراد بهم.
لا جرم: أي حقاً.
هم الخاسرون: أي لمصيرهم1 إلى النار خالدين فيها أبداً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراء فقال تعالى: {ولقد نعلم2 أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} أي يعلم محمداً بشر أي إنسان من الناس، لا أنه وحي يتلقاه من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها {لسان الذي يلحدون إليه} أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه {أعجمي3} لأنه عبد رومي، {وهذا} أي القرآن {لسان عربي مبين} ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف
__________
1 أي: لكون مصيرهم إلى النار وأيّ خسران أعظم من خسران من دخل النار فخسر نفسه وأهله قال تعالى فيه: {ألا ذلك هو الخسران المبين} .
2 اختلف في تعيين هذا الرجل فقيل: اسمه جبر ويكنى بأبي فكيهة، وقيل: اسمه عايش، وقيل: اسمه يعيش وكان روميًّا وكان صيقليا يشحذ السيوف ويحليها وكان يجلس إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحياناً فقالوا قولتهم هذه.
3 العجمة: الإخفاء وضد البيان ورجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصح ولا يبين ومنه عجب الذنب لاستتاره والعجماء البهيمة والأعجمى من لا يتكلم العربية.(3/158)
يتفق هذا مع ما يقولون انهم يكذبون لا غير، وقوله تعالى {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله} وهي نورٌ وهدى وحججٌ قواطع، وبرهان ساطع {لا يهديهم الله} إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله {ولهم عذاب أليم} أي جزاء كفرهم بآيات الله. وقوله {إنما يفتري1 الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلاً الكافر بآيات الله لأنه لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه، فلذا لا يمنعه شيء عن الكذب، أما المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو لا يكذب أبداً، وبذا تعين أن النبي لم يفتر الكذب وإنما يفترى الكذب أولئك المكذبون بآيات لله وهم حقاً الكاذبون. وقوله تعالى: {من كفر2 بالله من بعد إيمانه إلا من أكره} 3 على التلفظ بالكفر {وقلبه مطمئن بالإيمان} لا يخامره شك ولا يجد اضطراباً ولا قلقاً فقال كلمة الكفر لفظاً فقط، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه علي كلمة الكفر فأذن له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي {من شرح بالكفر صدراً} أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام. وقوله تعالى: {وإن الله لا يهدي القوم الكافرين} هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه. وقوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون {وسمعهم} فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى
__________
1 هذا جواب وصفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكذب فأعلم تعالى أنّ الذي يفتري الكذب هو الكافر بآيات الله الكاذب الذي لا يعرف الصدق أبداً.
2 قوله: {من كفر بالله بعد إيمانه} : عائد إلى قوله: {إنما يفتري الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله} . وقوله: {إلاّ من أكره} : نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير لأنه قارب أن يقول بعض ما طلبوه منه فرفع تعالى عنه الحرج وقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أعطهم يا عمار" وهو تحت العذاب وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" واستثنى أهل العلم من أكره على قتل مؤمن أنه لا يقتله، وليكن المقتول ولا يقتل فلا يفد نفسه بأخيه حتى مجرد الضرب لا يضربه.
3 أهل العلم على أن المكره على الطلاق وعلى الحلف وعلى الحنث أنه لا شيء فيه.(3/159)
الله تعالى {وأبصارهم} فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون، وما حصل لهم من هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا، والعناد، والمكابرة، والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها. وقوله {وأولئك هم الغافلون} أي عمَّا خلقوا له، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذابٍ أليم. وقوله تعالى {لا جرم} أي حقاً {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} المغبونون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمةٍ توجه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون.
3- المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً.
4- الرخصة1 في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.
5- إيثار الدنيا على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ
__________
1 وكذلك الرخصة في العتاق والطلاق والنكاح والحلف والحنث ما دام مكرهاً فلا يلزمه شيء لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" الحديث، وكذا من أكره على تسليم زوجته فلا شيء عليه إذ أكره إبراهيم على ذلك وعصمه الله تعالى ومن صبر على ما أكره به من الضرب والتعذيب فله ذلك فقد صبر عبد الله بن حذافة السهمي على ألوان من التعذيب والتهديد على يد ملك الروم حيث أسر مع جمع من المسلمين فعذب ما شاء الله أن يعذّب ثم أطلق الأسرى، وقبّل عمر رضي الله عنه رأسه إكراماً له واعترافاً بفضله لأنّ ملك الروم أخذ ما أكرهه عليه تقبيل رأسه فقبّله.(3/160)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
شرح الكلمات،:
هاجروا: أي إلى المدينة.
من بعدما فتنوا: أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين.
إن ربك من بعدها: أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.
لغفور رحيم: أي غفورٌ لهم رحيم بهم.
يوم تأتي: أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها.
مثلاً قرية: هي مكة.
رزقها رغداً: أي واسعاً.
فكفرت بأنعم الله: أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.
فأذاقها الله لباس الجوع: أي بسبب قحطٍ أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.
والخوف: حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.
معنى الآيات:
بعدما ذكر الله تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبراً عن بعض المؤمنين، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا(3/161)
وصبروا فأخبر الله تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ووحمته، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى {ثم إن 1ربك} أيها الرسول {للذين هاجروا2 من بعدما فتنوا} أي عُذِّبوا {ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من3 بعدها لغفورٌ رحيم} أي غفورٌ لهم رحيمٌ بهم.
وقوله تعالى: {يوم4 تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} أي اذكر ذلك واعظاً به المؤمنين أي تخاصم طالبةً النجاة لنفسها {وتوفى كل نفسٍ ما عملت} أي من خير أو شر {وهم لا يظلمون} لأن الله عدلٌ لا يجور في الحكم ولا يظلم. وقوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية5} أي مكة {كانت آمنة} من غارات الأعداء {مطمئنة} لا ينتابها فزعٌ ولا خوف، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه، {يأتيها رزقها رغداً} أي واسعاً {من كل6 مكان} حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء {فكفرت بأنعم الله} وهي تكذيبها برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنكارها للتوحيد، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام { (فأذاقها الله لباس الجوع} فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجِيفْ والعهن، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها، وقوله تعالى {بما كانوا يصنعون7} أي جزاهم لله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى: {ولقد جاءهم رسولٌ منهم} هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فكذبوه} أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته {فأخذهم العذاب} عذاب الجوع والخوف والحال أنهم {ظالمون} أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها
__________
1 لمّا كانت الهجرة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن الله تعالى اسمه مع اسم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: { (ثم إن ربك} أي بمغفرته ورحمته للذين هاجروا.
2 هاجروا أولا إلى الحبشة ثم إلى المدينة النبوية.
3 أي: من بعد الحال التي كانت أيام تعذيبهم وفتنتهم على يد المشركين.
4 جائز أن يكون الظرف متعلقاً بقوله: {لغفور رحيم} وجائز أن يكون معمولاً لفعل محذوف تقديره: اذكر ومعنى تجادل: تخاصم وتحاج عن نفسها وفي الحديث: "أن كل نفس يوم القيامة تقول: نفسي نفسي" لشدة الهول.
5 هي مكة وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا على أهلها فقال: "اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام.
6 من البرّ والبحر، هذا كقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} .
7 وقيل: إنّ القرية هذه هي المدينة قالت هذا حفصة وعائشة زوجتا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك لما قتل عثمان واشتد البلاء بأهل المدينة وعموم الآية ظاهر، وكونها مكة أظهر.(3/162)
بكفرهم إلى عذاب الجوع والخوف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الهجرة والجهاد والصبر، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا.،
2- وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثوابٍ وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
3- استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم.
4- كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها.
5- تكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ما جاء به، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب.
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)(3/163)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
شرح الكلمات:
فكلوا: أي أيها الناس.
حلالاً طيباً: أي غير حرام ولا مستقذر.
واشكروا نعمة الله عليكم: أي بعبادته وحده وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.
إن كنتم إياه تعبدون: أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم.
الميتة: أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.
والدم: أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.
وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
غير باغٍ ولا عاد: أي غير باغ على أحد، ولا عادٍ أي متجاوز حد الضرورة.
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذباً على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.
وعلى الذين هادوا: أي اليهود.
حرمنا ما قصصنا عليك من قبل: أي في سورة الأنعام.
معنى الآيات:
امتن الله عز وجل على عباده، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه، وقوله تعالى: {إنما حرم1 عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذباً. وقوله {فمن اضطر} منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان {غير باغ} على أحد ولا معتدٍ ما أحل له إلى ما حرم عليه
__________
1 هذه الجملة بيان لمضمون جملة: {فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً} لتمييز الطيبّ من الخبيث وذكر تعالى هنا أربع محرمات وهي عشر جاءت في سورة المائدة إلا أنّ هذه الأربعة هي الأصول وما دونها تابع لها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فالخمسة الأولى تابعة للميتة والسادسة تابعة لما أهل به لغير الله.(3/164)
فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ولا إثم عليه {فإن الله غفور رحيم} فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الأكل دفعاً للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه.
وقوله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب1 هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يسموا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك إلى الافتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبداً لقوله {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل} 2 وإن تمتعوا قليلاً في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جداً ولا يعتبر صاحبه مفلحاً ولا فائزاً. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يخاطب الله تعالى رسوله فيقول: كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام. إذ قال تعالى {وعلى الذين3 هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} . وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- يجب مقابلة النعيم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.
__________
1 {الكذب} منصوب على المفعولية المطلقة أي: مطلق الكذب.
2 جملة: {متاع قليل} جملة بيانية في جواب قول من قال: كيف لا يفلحون وهم يمتعون بالطعام والشراب والنساء والأموال؟ فأجيب بأن هذا متاع قليل جداً بالنظر إلى ما في الآخرة.
3 تقديم الجار والمجرور: {وعلى الذين هادوا حرمنا} للاهتمام وللإشارة إلى أنّ ذلك التحريم كان انتقاماً منهم ولم يكن شرعاً لإكمالهم وإسعادهم.(3/165)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
2- بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.
3- بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.
4- حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.
5- حرمة الكذب على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزيء قليل لا قيمة له.. هذا إن أفلح.
6- قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
شرح الكلمات:
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة: أي ثم إن ربك غفورٌ رحيمٌ للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا.
من بعدها: أي من بعد الجهالة والتوبة.(3/166)
إن إبراهيم كان أمة: أي إماماً جامعاً لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك.
لله حنيفاً: أي مطيعاً لله حنيفاً: مائلاً إلى الدين القيم الذي هو الإسلام.
اجتباه: أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.
وآتيناه في الدنيا حسنة: هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه: أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.
معنى الآيات:
بعدما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال: {ثم إن ربك} أي بالمغفرة والرحمة {للذين عملوا السوء بجهالةٍ1} فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه {ثم تابوا من بعد ذلك} فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات {وأصلحوا} ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم {إن ربك من بعدها} من بعد هذه التوبة2 والأوبة الصحيحة {لغفور رحيم} بهم فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى: {إن إبراهيم3 كان أمة4 قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين. شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع5 ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} إنه لما كان من شبه المشركين أنهم على دين أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه
__________
1 الجهالة: انتفاء العلم بما يجب أن يعلم، والمراد بجهالتهم: جهالتهم بأدلة الشرع المحرّمة للشرك والكفر والفساد، والموجبة للتوحيد وطاعة الله ورسوله. والباء: في {بجهالة} : للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير عملوا.
2 وجائز أن يعود الضمير على الجهالة أيضاً كما جائز أن يعود على التوبة.
3 {إنّ إبراهيم} ؛ هذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لغرض التنويه بدين الإسلام الذي هو دين إبراهيم من قبل.
4 الأمّة: الجامع للخير، والقانت: المطيع لله تعالى، والحنيف: المائل إلى الحق المجانب للباطل.
5 في الآية الدليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ولا تبعة على الفاضل أي: لا غضاضة عليه ولا مساس بمقامه.(3/167)
السلام، ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحي والدين الحق ذكر تعالى جملةً من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك. فقال تعالى {إن إبراهيم كان1 أمة} أي إماماً صالحاً جامعاً لخصال الخير، يقتدي به كل راغب في الخير. هذا أولاً وثانياً أنه كان قانتاً أي مطيعاً لربه فلا يعصي له أمراً ولا نهياً ثالثاً لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو بريء من الشرك وأهله، ورابعاً كان شاكراً لأنعم الله تعالى عليه أي صارفاً نعم الله عليه فيما يرضي الله، خامساً اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنة أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان. فخالّه الله أي بادله خلة بخلّة فكان خليل الرحمن. سادساً وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو الإسلام، سابعاً وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل. ثامناً وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها. تاسعاً مع جلالة قدر النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا، النصارى؟ لا! المسلمون الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.
وقوله تعالى: {إنما جعل السبت2 على الذين اختلفوا فيه} فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم،
__________
1 قال مالك: بلغني أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: يرحم الله معاذً كان امّة قانتاً فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنّما ذكر الله عزّ وجلّ بهذا إبراهيم عليه السلام فقال عبد الله: "إن الأمة الذي يعلم الناس الخير وإن القانت: هو المطيع".
2 أي: لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه، إذ كان. دين إبراهيم سمحاً لا تغليظ فيه والسبت تغليظ على اليهود في ترك الأعمال وترك التبسّط في المعاش بسبب اختلافهم فيه أي: اختلفوا في يوم الجمعة بعدما أمروا بتعظيمه فأبت اليهود إلا السبت بدعوى أن الله فرغ من الخلق فيه. واختار النصارى الأحد: لأن الله ابتدأ الخلق فيه، وهدى الله أمّة الإسلام ليوم الجمعة الذي اختلفوا فيه ففي البخاري يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له (يوم الجمعة".(3/168)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
وإنما سببه أن الله تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في ذلك وآثروا السبت عناداً ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت. وقوله {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءاً على تمردهم على أنبيائهم واختلافهم عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عَظُم أو صغُر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح المفاسد.
2- تقرير التوحيد والإعلان عن شان إبراهيم عليه السلام وييان كمالاته وإنعام الله عليه.
3- بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم.
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)
شرح الكلمات:
إلى سبيل ربك: أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله.
بالحكمة: أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق.
والموعظة الحسنة: هي مواعظ القرآن، والقول الرقيق الحسن.(3/169)
وجادلهم بالتي هي أحسن: أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها.
لهو خيرٌ للصابرين: أي خيرٌ من الانتقام عاقبةً.
ولا تك في ضيق مما يمكرون: أي لا تهتم بمكرهم، ولا يضيق صدرك به.
مع الذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
والذين هم محسنون: أي في طاعة الله، ومعصيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا.
معنى الآيات:
يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفاً وتكليفاً: {ادع إلى سبيل ربك1} أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس، وليكن دعاؤك {بالحكمة} التي هي القرآن الكريم الحكيم {والموعظة الحسنة} وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله، وترغيبه وترهيبه، {وجادلهم بالتي هي أحسن} أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه، وقوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} من الناس {وهو أعلم بالمهتدين} وسيجزيهم المهتدي بهداه، والضال بضلاله، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلاً. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك، والأمر ليس إليك. بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وقوله تعالى {وإن عاقبتم2 فعاتبوا بمثل ما عوقبتم به} لا أكثر، {ولئن صبرتم} وتركتم المعاقبة {لهو} أي صبركم {خيرٌ} لكم من المعاقبة على الذنب والجناية، وقوله تعالى: {واصبر} على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معاً، وقوله: {وما صبرك إلا بالله} أي إلا بتوفيقه وعونه، فكن مع ربك
__________
1 قال القرطبي: هذه الآية نزلت بمكة في وقت مهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين لله وشرعه بتلّطف ولين دون مخاشنة وعنف، وهكذا ينبغي أن يدعو المسلمون إلى يوم القيامة.
2 جمهور المفسرين على أن هذه الآية: {وإن عاقبتم فعاقبوا ... } الخ نزلت بالمدينة في شأن قتل حمزة والتمثيل به رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد ذكر ذلك البخاري وغيره وفي الآية دليل على وجوب المماثلة في القصاص ويحرم عدمها. وفي الآية دليل لمن قال بجواز أخذ مال من أخذ مال غيره إذا لم يتمكن منه بعلمه ورضاه على شرط أن لا يأخذ أكثر مما أخذ.(3/170)
تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر. وقوله تعالى: {ولا تحزن عليهم} أي على عدم اهتدائهم إلى الحق والأخذ به والسير في طريقه الذي هو الإسلام {ولا تك في ضيق1} نفسي يؤلمك {مما يمكرون} بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت منهم. وقوله: {إن الله مع الذين2 اتقوا والذين هم محسنون} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عز وجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه، ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون في طاعة ربهم إخلاصاً في النية والقصد، وأداءً على نحوه، شرع الله وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الدعوة إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائى، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.
2- بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خالياً من العنف والغلظة والشدة، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.
3- جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء، وتركها صبراً واحتساباً أفضل.
! - معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان، وهي معية نصرٍ وتأييد وتسديد.
__________
1 الضيق والضَيق: بالكسر والفتح، يقال: في صدره ضيق وضِيق بالكسر والفتح، وقيل: الضيق بالفتح في الصدر، والضيق بالكسر في الدار والثوب ونحوهما.
2 قيل: لهرم بن حبان عند موته: أوصنا فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل: {ادع إلى سبيل ربك..} إلى {محسنون} .(3/171)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
الجزء الخامس عشر
سورة الإسراء
مكية
وآياتها عشر ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
شرح الكلمات:
سبحان: أي تنزه وتقدس عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وهو الله جل جلاله.
بعبده: أي بعبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من المسجد الحرام: أي الذي بمكة.
إلى المسجد الأقصى: أي الذي بيت المقدس.
من آياتنا: أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت الأعلى.
معنى الآية الكريمة:
نزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين، فقال: {سبحان1 الذي أسرى بعبده2} أي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني {ليلاً من المسجد الحرام} أي بالليل من المسجد الحرام بمكة إذ أخرج من بيت أم هانىء
__________
1 روي أنّ طلحة بن عبيد الله الفيّاض أحد العشر المبشرين بالجنة سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن معنى سبحان الله فقال: "تنزيه الله عن كل سوء" وأسرى: فيها لغتان: أسرى وسرى فصيحتان، وجمع اللغتين في بيت واحد هو:
حيّ النضيرة ربُة الخدر
أسرت إليَّ ولم تكن تسري
وقيل: أسرى من أوّل الليل، وسرى من آخره، والإسراء، والسُّرى: سير الليل.
2 قالت العلماء: لو كان هناك اسم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرف من اسم عبد لسمّاه به في هذه الحال العليّة، وفي معناه قال الشاعر:
يا قوم قلبي عند زهراء
يعرفه السامع والرائي
لا تدعُني إلاّ بياعبدها
فإنه أشرف أسمائي(3/172)
وغسل قلبه بماء زمزم وحشي إيماناً وحكمة، ثم أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بيت المقدس، وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جمع الله تعالى له الأنبياء في المسجد الأقصى وصلى بهم إماماً فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم ثم عرج به إلى السماء سماء بعد سماء يجد في كل سماء مقربيها إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به إلى أن انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وقوله تعالى: {الذي باركنا حوله} أي حول المسجد الأقصى1 معنى حوله خارجه وذلك بالأشجار والأنهار والثمار أما داخله فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه أي أجرها إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجراً ومثوبة وقوله تعالى {لنريه من آياتنا} تعليل للإسراء والمعراج وهو أنه تعالى أسرى بعبده وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى، وليكون ما علمه من طريق الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة. وقوله تعالى {إنه هو السميع البصير} يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فاقتضت حكمته هذا الاسراء العجب ليزداد الذين آمنوا إيماناً وليرتاب المرتابون ويزدادون كفراً وعناداً.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالروح والجسد2 معاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى السماوات العلى، إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وأوحى إليه تعالى ما أوحى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
2- شرف المساجد الثلاثة: الحرام، ومسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمسجد الأقصى أما المسجدان الحرام والأقصى فقد ذكرا بالنص وأما مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ذكر بالإشارة3 والإيماء إذ قول الأقصى يقتضي قصياً، فالقصي هو المسجد النبوي والأقصى هو مسجد بيت المقدس.
3- بيان الحكمة في الاسراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه
من طريق الوحي فأصبح الغيب لدى رسول الله شهادة.
__________
1 المسجد الحرام: أول مسجد بني في الأرض، ويليه المسجد الأقصى والزمن بينهما أربعون سنة، والمسجد النبوي بني بعدهما بقرون طويلة، فهذه الثلاثة أشرف المساجد على الإطلاق وعليه فمن نذر صلاة فيها وجب عليه الوفاء بالصلاة فيها، ومن نذر الصلاة في مسجدٍ غيرها جاز أن يصلي في أي مسجد آخر.
2 لا قيمة للقول بأن الإسراء كان بالروح فقط إذ لو كان بالروح لكان من المنام، ولما قال تعالى: {أسرى بعده ليلاً} ولما قالت أم هانىء: لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولا فضّل أبو بكر بقلب الصديق ولا ما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، ولما ارتد أفراد عن الإسلام بتشنيع قريش، وأما إطلاق لفظ الرؤيا على المنام خاصة فليس بذاك إذ قد يطلق لفظ الرؤيا على الرؤية في اليقظة، وأعظم دليل في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المتهى} أي: رأي الرسول جبريل مرّة أخرى في الجنة في السماء ليلة الإسراء والمعراج كما رآه أول مرّة في جياد بمكة.
3 حدثنا شيخنا الطيب العقبى خريج المسجد النبوي الشريف: أنّه ألقى كلمة في الروضة بالمسجد النبوي ففتح الله تعالى عليه فذكر أنّ المسجد النبوي أشير إليه في آية الإسراء فهو إذاً مذكور في القرآن بالإيماء كما ذكرت في التفسير.(3/173)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
شرح الكلمات:
وآتينا موسى الكتاب: أي التوراة.
وجعلناه هدى: أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هادياً لبني إسرائيل.
وكيلا: أي حفيظاً أو شريكاً.
من حملنا: أي في السفينة.
وقضينا: أي أعلمناهم قضاء نافيهم.
في الكتاب: أي التوراة.
علواً كبيراً: أي بغياً عظيماً.
أولاهما: أي أولى المرتين.
فجاسوا خلال: أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون.
وعداً مفعولا: أي منجزاً لم يتخلف.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه هو الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأنه هو الذي آتى موسى الكتاب أي التوراة فهو تعالى المتفضل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أمته بالإسراء به والمعراج(3/174)
وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبياناً لبني إسرائيل فهو متفضل أيضاً على بني إسرائيل فله الحمد وله المنة.
وقوله: {جعلناه} أي الكتاب {هدى} أي بياناً لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والإسعاد وقوله: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا} أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل ألا يتخذوا من غيري حفيظاً لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم وولي نعمتهم. وقوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح} أي يا ذرية1 من حملنا مع نوح اشكروني كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها، إنه أي نوحاً {كان عبداً2 شكوراً} فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا طاعتي ولا تشركوا بي سِوَايَ وقوله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل فى الكتاب لتفسدون في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً} يخبر تعالى بأنه أعلم بني اسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب، ويعلون في الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس {علواً كبيراً} أي عظيماً. ولابد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد أولهما} أي وقت المرة الأولى {بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس3 شديد} أي قوة وبطش في الحرب شديد، وتم هذا لما أفسدوا وظلموا بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم "أرميا" عليه السلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله: {فجاسوا4 خلال الديار} ذاهبين جائين قتلاً وفتكاً وإفساداً نقمة الله على بني إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم.
وقوله تعالى: {وكان وعداً مفعولا} أي ما حصل لهم في المرة الأولى5 من الخراب والدمار ومن
__________
1 قرىء ذَرية بفتح الذال، وقرىء ذرية بكسر الذال أيضاً فهي إذا مثلثة واللفظ مشتق من الذرء، الذي هو الخلق، فيقال: ذرأ يذرأ ذرأ: إذا خلق وفي الآية تذكير بني إسرائيل بواجب الشكر أي أشكروا كما شكر نوح، وفيها تعريض لهم بأنهم إذا لم يشكروا يؤخذوا كما أخذ قوم نوح.
2 أثنى تعالى على عبده نوح بكثرة الشكر لأنّ شكور: من صيغ المبالغة معناه كثيرالشكر روي أنه كان إذا أكل قال الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء لأجاعني، د إذا شرب قال: الحمد لله الذي أرواني ولوشاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني.
3 قال: {عباداً لنا} ولم يقل: عبادي لأنهم أهل كفر وشرك وفسق فلم يشرفهم بالإضافة إليه ووصفهم بأنهم من ملكه فسخرّهم لتأديب عباده الذين فسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته.
4 الجوس: وهو مصدر جاس يجوس جوساً معناه: التخلل في البلاد وطرقها ذهاباً وإياباً لتتبع ما فيها، والمراد به تتبع المقاتلة لقتالهم.
5 في هذه الآيات ذكر مجمل لتاريخٍ بني إسرائيل بدءاً من دولة يوشع بن نون بعد فتحه لبلاد القدس، وطرد العمالقة منها، وإقامة دولة فيها لأوّل مرة وختاماً بطردهم على أيدي الرومان وذلك سنة مائة وخمس وثلاثين بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وقسمت الآيات هذا التاريخ قسمين معبرة عنه بالمرتين: الأولى بدءاً من دولة يوشع بن نون واستمرت إلى أن عاثوا في الأرض وفسدوا فيها بالفسق والفجور فسلط عليه البابليين فأسقطوا دولتهم، ومزّقوا ملكهم واستمروا مشتتين إلى أن ملّكوا طالوت وقاتلوا معه على عهد نبي الله حزقيل فهزموا جالوت البابلي، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً} إذ تكونت لهم دولة عظيمة على عهد كل من طالوت وداود وسليمان واستمرّت حتي فسقوا وفجروا فاستحقوا العذاب فسلّط الله عليهم بختنصر البابلي أيضاً فأحرق هيكل سليمان، ودمّر أورشليم فتركها خراباً ودماراً، وهذه هي المرة الآخرة ثم أنجز لهم الله تعالى ما وعدهم بقوله: {عسى ربكم أن يرحمكم} فاجتمعوا وصلحوا وعاد لهم ملكهم فترة من الزمن، وعادوا إلى الفسق والعصيان فعاد الله تعالى عليهم فسلّط عليهم الرومان سنة 135 بعد الميلاد فاحتلوا بلادهم وشرّدوهم في الأرض.(3/175)